Saturday, July 20, 2019

09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية 

قد ذكر السرّ في إسناد الحكمة إلى الكلمة . " أضاف رضي الله عنه حكمة النور إلى الكلمة اليوسفية لظهور السلطنة النورية العلمية المتعلَّقة بكشف الصور الخيالية والمثالية .
وهو علم التعبير على الوجه الأكمل في يوسف عليه السّلام فكان يشهد الحقّ عند وقوع تعبيره ، كما قال " قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " فأشار إلى حقيقة ما رأى ، وأضاف إلى ربّه الذي أعطاه هذا الكشف والشهود ."
قال رضي الله عنه : ( هذه الحكمة النورية انبساط نورها على عالم الخيال ، وهو أوّل مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية).
يعني : أنّ نورية هذه الحكمة - من حيث كشفها معاني ما يظهر في عالم الخيال - للأولياء والأنبياء ، فيعلمون بها مراد الحق من تشخيص تلك المعاني وتجسيدها ضربا للمثل لهم .
قال رضي الله عنه : ( تقول عائشة رضي الله عنها : أوّل ما بدىء به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلَّا خرجت مثل فلق الصبح .
تقول : لا خفاء بها . وإلى هنا بلغ علمها لا غير . وكانت المدّة له في ذلك ستّة أشهر ، ثم جاءه الملك . وما علمت أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال : " الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا " وكلّ ما يرى في حال يقظته ، فهو من ذلك القبيل ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان عالما بأنّ كلّ أمر ظهر من الغيب سواء كان ظهوره حسّا أو خيالا أو في عالم المثال .
فإنّ ذلك وحي تعريف وإعلام من الله له عليه السّلام  بما أراد الله أن يكوّنه ، وأنّه تمثيل وتشخيص للمعاني والحقائق التكوينيّة التي تعلَّقت الإرادة الإلهية بتعريفه وتعليمه صلى الله عليه وسلم بها .
وذلك لأنّ العوالم في مشرب التحقيق خمسة وكلَّها حضرات إشهاد الحق وشهوده ، والأنزل منها أمثلة وصور للأعلى والأشرف الأفضل . فالأعلى عالم الغيب ، والأدنى الشهادة.
فكل ما يتراءى ويظهر في الحسّ مثال وصورة لهيئات غيبية معنوية ، هي المعاني المعنيّة المعيّنة من تلك الصورة ، ولكنّ العلم بتلك الصورة وكشف أسرارها ومعانيها هو الكشف المعنوي الحقيقي ، فمن أوتيهما في كل ما يرى ويسمع ويدرك " فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً " .
وتحقّق بكمال الكشف والشهود في الوجود قبيلا ودبيرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الأنبياء بذلك ، وذلك بتصريحه :
"إنّ الناس نيام " في عالم الحس ، وأنّ كلّ ما يجري عليهم وبهم وفيهم صور وأمثلة لمعان عناها الله بحسب العلم بحقائقها ، وإلَّا فهو غافل ، وعن حقيقة الأمر عاطل.
ومبلغ علم عائشة من كلّ ذلك أنّ كشفه صلى الله عليه وسلم مبدؤه الرؤيا الصادقة ، وآخره ظهور الملك له ، وما علمت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يشهد الحق في كلّ ما يرى ويدرك ، بل لا يغيب عن شهود الحق.
كما قال عليه السّلام اللهمّ إنّي أسألك لذّة النظر إلى وجهك ، فصرّح بشهوده وجهه تعالى وأنّه في شهوده ، فادّعى اللذّة بما يشهد لفنائه وحيرته الكبرى ، فسأل اللذّة بما يشهد ، وهي زيادة على مرتبة الشهود ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( وإن اختلفت الأحوال ، فمضى قولها ستّة أشهر بل عمره كلَّه في الدنيا بتلك المثابة ، إنّما هو منام في منام ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ الناس في حالة يقظة في جميع أحوالهم في كشف وضرب مثال يضربه الله لهم بالأفعال والأحوال والأقوال التي تجري عليهم ومنهم وهم عنها غافلون " وَكَأَيِّنْ من آيَةٍ في السَّماواتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ " ، " وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ " جعلنا الله وإيّاك من أهل الحضور ، وكشف عن وجهه لنا بحقيقة النور ، في كلّ الأمور .
قال رضي الله عنه : ( وكلّ ما ورد من هذا القبيل ، فهو المسمّى عالم الخيال ولهذا يعبّر ، أي الأمر - الذي هو في نفسه على صورة كذا - ظهر في صورة غيرها ، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه ، إن أصاب ، كظهور العلم في صورة اللبن ، فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم ، فتأوّل ، أي قال : مؤوّل " هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم ) .
قال العبد : سرّ ذلك أنّ اللبن أوّل غذاء فطريّ يغذّى به المولود الجسماني ، والعلم الفطريّ أوّل غذاء يتغذّى به الروح ، لهذا كانت الصورة اللبنية مظهر العلم في عالم المثال وما دونه من حضرات الصور والشخصيات ، لثبوت هذه النسبة الصحيحة بينهما .
قال رضي الله عنه : ( ثم إنّه عليه السّلام كان إذا أوحي إليه ، أخذ عن المحسوسات المعتادة ، فسجّي وغاب عن الحاضرين عنده ، فإذا سرّي عنه ردّ ، فما أدركه إلَّا في حضرة الخيال إلَّا أنّه لا يسمّى نائما ) أي ما يغفل مثل غفلة النائم ، لأنّه كان ينام عينه ولا ينام قلبه .
قال رضي الله عنه : ( وكذلك إذا تمثّل له الملك رجلا ، فذلك من حضرة الخيال ، فإنّه ليس برجل ، إنّما هو ملك فدخل في صورة إنسان ، فعبر الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية ، فقال : هذا جبرئيل ، أتاكم يعلَّمكم دينكم ، وقد قال لهم :" ردّوا عليّ " الرجل فسمّاه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها) .
ثم قال رضي الله عنه : (هذا جبرئيل فاعتبر الصورة التي مآل  هذا الرجل المتخيّل إليها ، وهو صادق في المقالتين ، صدق للعين في العين الحسيّة ، وصدق في أنّ هذا جبرئيل ، فإنّه جبرئيل بلا شكّ ) كلّ هذا ظاهر بيّن .

وقال رضي الله عنه : ( وقال يوسف عليه السّلام : “ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ " ، فرأى إخوانه في صور الكواكب ، ورأى أباه وخالته في صورة الشمس والقمر) .
قال العبد : إنّما رآهم كذلك ، لمناسبة موجبة لتجسّدها في هذه الصورة ، وذلك لأنّ الشمس والقمر أصلان كالأبوين بالنسبة إلى أنوار الكواكب ، فهم لا ظهور لهم في حضورهما للرائي ، كما أنّ النجوم لا تظهر في نور النيّرين ، ويغمرانها في الحضور بنورهما ويغمرانها به كذلك في البعد والسفور .
قال رضي الله عنه : ( هذا من جهة يوسف ، ولو كان من جهة المرئيّ لكان ظهور إخوته في صور الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم ، فلمّا لم يكن لهم علم بما رآه يوسف ، كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله ، وعلم ذلك يعقوب عليه السّلام حين قصّها عليه ).
فقال رضي الله عنه: ( "يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً " ، ثمّ برّأ أبناءه عن ذلك الكيد  وألحقه بالشيطان ، وليس إلَّا عين الكيد ).
فقال رضي الله عنه: (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ " أي ظاهر العداوة  .)
قال العبد : هذا من علم يعقوب ويوسف عليهما السّلام وأرباب علم التعبير ، إنّ ما صوّر النيّرين والكواكب إلى أبويه وإخوته لما ذكرنا من المناسبة ، والذي فوق هذا من الكشف أنّ الأب والأمّ صورتا الروح والطبيعة تولَّدت بينهما صورة الإنسان العنصرية ، والكواكب صور الحقائق والقوى روحانيّها وطبيعيّها وإلهيّها ويوسف عليه السّلام صورة أحدية جمع الجمال والكمال العلمي والعملي الخصيصين بصورة الإنسان التي هي صورة الحق أو على صورته .
وسجودهم له إشارة من الحق إلى أنّ قواه الطبيعية والروحانية والروح والطبيعة داخلة في حكم الصور الإلهية الإنسانية المخلوقة على أحسن تقويم ، ومنفعلة ومسخّرة لها ، لأنّ الإنسان وإن تولَّد من حيث صورته الجسمانية من الروح والطبيعة أوّلا وتولَّدت معه وقبله وبعده من أبوي روحه وطبيعته قوى وخصائص ، ولكنّ الكلّ تحت حيطة فلك الصورة ، وليس إلَّا لأهل الكشف المعنوي ، والحمد لله .
قال رضي الله عنه : ( ثم قال يوسف عليه السّلام عند ذلك في آخر الأمر : "هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " أي أظهرها في الحسّ بعد ما كانت في صورة الخيال ).
أي حقيقة الصور المتخيّلة أن تظهر في الحسّ على صورها الأصلية الفعلية الحقيقية .
قال رضي الله عنه( فقال له النبي عليه السّلام: " الناس نيام " فكان قول يوسف " قد جعلها ربّى حقّا " بمنزلة من رأى في نومه أنّه استيقظ  من رؤيا رآها ، ثم عبّرها ، ولم يعلم أنّه في النوم عينه ما برح.
فإذا استيقظ يقول : رأيت كذا ، ورأيت كأنّي استيقظت ، وأوّلتها بكذا ، هذا مثل ذلك .
فانظر كم بين إدراك محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وإدراك يوسف عليه السّلام في آخر أمره حين قال : “ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " ، معناه حسّا أي محسوسا ، وما كان إلَّا محسوسا ، فإنّ الخيال لا يعطي أبدا إلَّا المحسوسات ليس له غير ذلك ) .
يعني رضي الله عنه : أنّه لا يظهر في الخيال إلَّا الصور المحسوسة المرئيّة قبل ذلك ، لتقييد مرتبة عالم الخيال بالقوّة المتخيّلة ، فإنّه المثال المقيّد ، وأمّا عالم المثال المطلق فهو محلّ تجسّد الأرواح والأنوار والمعاني والصور ، فهذا وسع العوالم ، كما مرّ بيانه .
قال رضي الله عنه : ( فانظر ما أشرف علم ورثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ).
قال رضي الله عنه : ( وسأبسط القول في هذه الحضرة بلسان يوسف المحمديّ ما تقف عليه إن شاء الله تعالى )
فيقول  رضي الله عنه : (اعلم أنّ المقول عليه " سوى الحق " أو مسمّى " العالم " هو بالنسبة إلى الحق كالظلّ للشخص ، فهو ظلّ الله) .



قال العبد : قوله " المقول عليه سوى الحق " يعني على ما يقال كذلك عرفا وفي المعهود عند الجمهور ، فإنّ الحقيقة تأبى أن يكون لسوى الحق وغيره وجود ، ولو سمّي ما سمّي "سوى " على مقتضى التحقيق والكشف والنظر الدقيق .
لقيل فيه : صور أسماء الحق ، وأشخاص تعيّناتها بالوجود الواحد الحق ، وتنوّعات ظهوره وتجلَّياته ، فإنّه ما في الوجود إلَّا هو وأسماؤه لا غير .
فإن اعتبرنا هويته الذاتية فواحد ، وإن اعتبرنا أسماءه ونسب شؤونه الذاتية ، فكثرة ظاهرة في عين واحدة ، وهذه العين الواحدة الظاهرة كثيرة هي نور ممتدّ إلى مجال كثيرة مختلفة هي مجالي جولانه وجليّاته ومحالّ ظهوره وتبيانه .
والظلّ الممتدّ من النور نور بيد أنّ الممتدّ هو منه مطلق بالنسبة والممتدّ مقيّد بحسب القوابل المقيّدة له ، والتقيّد والإطلاق نسبتان معقولتان ليس لهما إلَّا في التعقّل ظهور وتحقّق ، وهو ظلّ لحقيقة النور الواحد الأحد الذي ليس إلَّا هو .
فلمّا ظهر النور الواحد بحسب خصوصيات القوابل متكثّرة متعدّدة ، ظهرت المغايرة والممايزة ، فكل واحد واحد منها غير الآخر وسواه في رأي العين والتعقّل .
والوجود الواحد الحق وهو النور عين الكلّ ، فإنّها وجودات متعيّنة في قوابل متعدّدة ومراتب كثيرة ، كثيرة ومتعدّدة ، فإن نظرت الحقيقة .
قلت :هو الواحد الموجود في الكلّ وحده سوى أنّه في الوهم سمّي بـ " السوي" فـ العالم من حيث وجوده ظلّ الله وهو نور مقيّد ممتدّ من النور المطلق متّصل به من غير انفصال ولا انتقال ، فإنّ لله نورا على نور .
والعالم عالمان : عالم أمر ، وعالم خلق .
فعالم الأمر علوي سما على عالم الخلق .
وعالم الخلق سفلي سفل عن العالم السماوي العلوي .
والله نور السماوات العلويات الروحانيات النورانيات والأرضين السفليات الجسمانيات ، ولولا نور الوجود الممتدّ منه ، لما ظهر من العالمين ولا وجد من الكونين شيء ، ولا تظاهر وأظلّ ظلّ ، ولا فاء فيء.
فهو نور السماوات والأرضين ، يهدي بنوره المقيّد وهو الظلّ الممتدّ منه لنوره المطلق من يشاء ، ويضرب الله الأمثال للناس ، وهم الكمل الأمثال الإلهيون الذين يشاء أن يهديهم إلى نوره الذاتي المطلق ، لأنّه تعالى علم من مقتضى خصوصيات استعداداتهم الأزلية أزلا قبل الإيجاد أنّ لهم صلاحية ذلك " وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ".
قال رضي الله عنه : ( فهو عين نسبة الوجود إلى العالم ) .
الضمير يعود إلى العالم ، فإنّ الوجود من حيث ما يسمّيه عالما يسمّى " سوى الحق" وإلَّا فالوجود واحد .
وهو من حيث نسبته إلى الحق عينه لا غير ، ولا يصحّ من هذه الحيثية أن يقال : هو سواه ، فإنّ قوله رضي الله عنه : (لأنّ الظلّ موجود بلا شكّ في الحسّ ، ولكن إذا كان ثمّ من يظهر فيه ذلك الظلّ حتى لو قدّرت عدم من يظهر فيه ذلك الظلّ ، كان الظلّ معقولا غير موجود في الحسّ ، بل يكون في القوّة في ذات الشخص المنسوب إليه الظلّ .)
تعليل لقوله : " مسمّى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظلّ " فكما أنّ الظلّ موجود في الحسّ عند وجود الشخص ، فكذلك العالم ، إذ ما يسمّى " سوى الحق " موجود بوجود الحق وهو مع قطع النظر عن الحق غير موجود في عينه .
إذ لا وجود له من ذاته ، كما لا وجود للظلّ بلا وجود الشخص ، ثم العدم بالنسبة إلى الممكن - على ما عرف وعرّف عرفا حكميّا رسميا أولى ، فهو به أولى .
فقد كان معدوما لعينه ، فكما أنّ الظلّ غير موجود مع فرض عدم الشخص الذي يمتدّ منه الظلّ ، فكذلك العالم مع قطع النظر عن النور الوجودي الممتدّ من الحق ، ولو قدّرنا عدم إفاضة الوجود الحق المطلق لنوره المنبسط على أعيان العالم ، ما وجد العالم أصلا ، وكان الحق إذ ذاك في تجلَّي عزّه وغناه عن العالمين في مقام “ كان الله وما كان معه شيء " .

قال رضي الله عنه : ( فمحلّ ظهور هذا الظلّ الإلهي المسمّى بالعالم هو أعيان الممكنات ، عليها امتدّ هذا الظلّ ، فتدرك من هذا الظلّ بحسب ما امتدّ عليه من وجود هذه الذات ، ولكن باسمه النور وقع الإدراك ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّه لا يدرك من الوجود الحق المطلق إلَّا بحسب ما امتدّ عليه فيضه الوجودي وتجلَّيه الجوديّ .
فحقيقة الوجود لا تدرك في إطلاقه ، ولكن من حيث تعيّنه في هذه الأعيان الممكنة أي القابلة والممكنة للوجود على الظهور بحسبها ،ومع قطع النظر عن تعيّنه في خصوصيات حقائقها ، فلا تدرك حقيقة الوجود ، إذ هو الحق عينه .

قال رضي الله عنه : ( وامتدّ هذا الظلّ على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول ، ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير إلى ما فيها من الخفاء ، لبعد المناسبة بينها وبين أشخاص من هي ظلَّة له ).
يشير رضي الله عنه : إلى ما فيها من النور ، لأنّ نور الوجود ، الممتدّ على أعيان الممكنات يباين وينافي ظلمة عدميات الأعيان ، لأنّ نورية الأعيان ، بالحق ، وهي في أنفسها عدمية مظلمة ، فبينهما غاية البعد من عدم المناسبة.
ولا بعد أبعد من البعد الذي بين الوجود والعدم ، ولبعد المناسبة جهل من حيث ذلك الوجه المنافي ، فتجلَّى للأعيان وعليها وبحسبها ، وكانت هي ظلمة العدم والغيب المشيرين إلى السواد الظاهر على الظلال ، وذلك لأنّ الأعيان أبدا غيب ولم تظهر ولم تدخل في الوجود ، بل هي في العلم الذاتي معيّنة الأعيان ، تعدّديّتها من حيث هي هي .
الذي يتراءى إنّما هي تأثيرات خصوصياتها في مرآة نور الوجود الممتدّ عليها ، فامتدّ على نور الوجود من أشخاص الأعيان الغيبية ظلّ غيبيّ يضرب إلى السواد بالتعيين والتقييد .
وامتدّ من النور المطلق ظلّ نوري ، فاختلط الظلَّان ، فظهر سواد عينيّة الأعيان ، وبطن نور الوجود فظهر الظلّ المطلق النوري مقيّدا مظلما .
فأهل الحجاب هم أهل الظلمات ، لا يرون ولا يشهدون إلَّا العالم ، والحق عند أفاضلهم وأمثالهم معقول أو متوهّم ، لا مشهود موجود في شهودهم ونظرهم ، وتراهم ينظرون إلى الحق الظاهر وهم لا يبصرون .ربّ امرئ نحو الحقيقة ناظر برزت له فيرى ويجهل ما يرى.
وأهل الحق لا يشهدون إلَّا الوجود الحق الواحد الأحد الصمد في صور شؤونه العينيّة ، فمتعلَّق نظرهم نور الحق ، في سواد غيب الخلق ، فافهم .
قال رضي الله عنه : (وإن كان الشخص أبيض ، فإنّه أي الظلّ  بهذه المثابة ، ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وإن كانت في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونيّة ، وليس ثمّ علَّة إلَّا البعد .)
يعني رضي الله عنه : أنّ الوجود الظاهر في العالم وإن كان نورا في حقيقته ، ولكنّه ظهر بحسب المظهر غير نيّر .
قال رضي الله عنه : ( كرزقة السماء) لأنّ السماء زرقاء في عينها ، ولكنّ البعد يقضي أن تظهر كذلك في بصر الناظر .

قال رضي الله عنه: (فهذا ما أنتجه البعد في الحسّ في الأجسام غير النيّرة ) . يعني الجبال .
قال رضي الله عنه: ( وكذلك أعيان الممكنات ليست نيّرة ، لأنّها معدومة وإن اتّصفت بالثبوت ، ولكنّها لم تتّصف بالوجود ) .
يعني : أنّ الأعيان الثابتة ثبوتها في العلم الذاتي العالم بها ، لا لأعيانها .
قال رضي الله عنه : ( إذ الوجود نور ، غير أنّ الأجسام النيّرة تعطى في الحسّ صغرا ، فهذا تأثير آخر للبعد ، فلا يدركها الحسّ إلَّا صغيرة الحجم وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر.
أي أكبر وأكثر كمّيّات كما نعلم بالدليل أنّ الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستّين وربعا وثمن مرّة وهي في العين على قدر جرم الترس ، فهذا أثر للبعد أيضا ) .
قال العبد : ظهور الكبير صغيرا بسبب البعد ضرب مثل لظهور نور الوجود المطلق مقيّدا بحسب القابل ، لبعد المناسبة بين الإطلاق والتقييد .
قال رضي الله عنه : ( فما نعلم من العالم إلَّا بقدر ما نعلم من الظلال ) .
يعني : لا نعلم غيوب أعيان الماهيات وهويّاتها ، وإنّما نعلم منها ما ظهر في نور الوجود من آثار خصوصيّاتها ، فما هي إلَّا أمثلة أعيان الحقائق وظلالها ، لا أعيانها .

قال رضي الله عنه : (ويجهل من الحق بقدر ما يجهل من الشخص الذي كان عنه ذلك الظل) .
أي المدرك هو الشكل والصورة والهيئة والمثال ، وحقيقة النور الوجودي المتشكَّل في كل شكل ، والمتصوّر في كل صورة ، والمتمثل في كل مثال وهيئة لا تعلم ولا تدرك من حيث عينها ، بل من حيث تشكَّلها ، فالعلم بها من حيث هي هي جهل بها ، لأنّها بحقيقتها تقتضي أن تجهل ولا تعلم ولا تتعيّن .
قال رضي الله عنه : ( فمن حيث هو ظلّ له يعلم ) .
يعني رضي الله عنه : إن علمت ، فما تعلم إلَّا من كونها ذات ظلّ وهو كونه إلها ربّا ، لا من حيث هي مطلقة .
قال رضي الله عنه : ( ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظلّ الذي من صورة شخص من امتدّ عنه ، يجهل من الحق) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ صورة الإطلاق الذاتي واللاتعيّن واللا تناهي - التي هي صورة الحق الذي امتدّ عنه هذا الوجود غير مشهودة ولا مدركة في الوجود الممتدّ إلى الممكنات ، لكون النور الممتدّ الظلَّي مقيّدا بحسب من امتدّ عليه ،وكذلك يجهل من الوجود الممتدّ أيضا بحسب ذلك.

وهو ما يشير إليه الشيخ رضي الله عنه : إنّ وراء كل متعيّن من الوجود ما لم يتعيّن ، فمهما لم تصل معرفة العارف من كل شيء إلى ما وراءه من اللاتعيّن والإطلاق ، فلم يعرفه ولم يدركه ، وقد أشار إليه هذا الختم رضي الله عنه بقوله ، شعر :
ولست أدرك من شيء حقيقته  ...... وكيف أدركه وأنتم فيه ؟!
قال رضي الله عنه : (فلذلك نقول : إنّ الحق معلوم لنا من وجه ، مجهول لنا من وجه آخر.)
فلا نعلم إطلاق المطلق بالمقيّد إلَّا مثل ما يعلم الضدّ بالضدّ ، يعني مجملا أنّه

مناف له ، والنقيض بالنقيض كذلك لا غير ، وليس هو علم تحقيق وذوق ، بل علم استدلال على وجوده أو عدمه لا غير .
قال رضي الله عنه : (" أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ") أي تجلَّى بالنور الوجودي والفيض النفسي الجوديّ .
قال رضي الله عنه : (" وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَه ُ ساكِناً " ، أي يكون فيه بالقوّة. )
قال رضي الله عنه : (يقول "ما كان الحق ليتجلَّى للممكنات ، حتى يظهر الظلّ ، فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود ).
يعني رضي الله عنه : تجلَّى بالوجود الممتدّ على أعيان الممكنات ، فوجد من العالم بذلك الظلّ ، وعلم من حقيقة الوجود بقدر ذلك ، وإن لم يرد ذلك وشاء أن لا يمتدّ .
فيكون الظاهر الممتدّ فيه بالقوّة كما لم يمتدّ ولم يظهر ، كان كما كان ، ولم يكن معه شيء ، ولم يظهر ظلّ ولا فيء ، فبقي ما ظهر كما لم يظهر مغيّبا .
وانطلق المقيّد عن قيوده مسبّبا ، فإنّ الأمر غيب وشهادة ، فما خرج من الغيب شهدت به الشهادة وما نقص من الشهادة أخذه الغيب ، فسمّي عدما ووجودا بالنسبة والإضافة .
فإنّ العدم الحقيقي لا يعقل بالعقل ، فلا كلام فيه أصلا ، فإن لم يظهر ما ظهر من الغيب ، لكان كالظلّ الساكن في الشخص قبل الامتداد وبعد الفيء ، فافهم .

قال رضي الله عنه : (" ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْه ِ دَلِيلًا " وهو اسمه النور الذي قلناه ، ويشهد لها الحسّ ، فإنّ الظلال لا يكون لها عين بعدم النور ) .
قال العبد : ثم جعلنا الشمس عليه دليلا بعد امتداده ، فإنّ التجلَّي النوري الوجودي المتدلَّي من شمس الألوهيّة هو الذي يظهر الظلال المعقولة في الأشخاص الموجودة بالقوّة في ذوات الظلّ ، إذ الألوهة تظهر عين المألوه .
قال رضي الله عنه : (" ثُمَّ قَبَضْناه ُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً " وإنّما قبضه الله لأنّه ظلَّه فمنه ظهر وإليه يرجع).
يشير إلى أنّ الوجود المشترك وهو الفيض الوجودي بعد انبساطه على أعيان الممكنات في أرض الإمكان ، وظهور ما ظهر فيه من أمثلة أشخاص الأعيان في العيان.
وتعيّنه بخصوصيات حقائق الممكنات والأكوان يتقلَّص وينسلخ عنها النور والتجلَّي ، بسرّ التولَّي بعد التدلَّي ،وحقيقة التجلَّي بعد التجلَّي.
والتخلَّي والتملَّي إلى أصل منبعه ومركز منبعثه ومهيعه ، وفي المشهد الحق لا استقرار للتجلَّي ، كما قرأ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام "والشّمس تجرى لا مستقرّ لها " ، فإنّه بطون وظهور ، وكمون وسفور ، وتجلّ وتخلّ معقّب بتجلّ وتخلّ ، متواصل متوال غير مخلّ ، فإنّ الله دائم التجلَّي مع الآنات ، والقوابل دائمة القبول ، بأحد وجهيه راجع إلى الغيب من الوجه الآخر الذي يلي العدم .
قال رضي الله عنه : ( "وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " ، فهو هو لا غير).
لأنّ النور المنبعث من منبع النور نور أبدا ليس غيره وقد دار معه وجودا وعدما كدوران نور الشمس المنبسط عند إشراقها على ما أشرقت عليه ، الدائر كما دارت ، والغائب عنّا بغيبوبتها أبدا .
قال رضي الله عنه : ( فكلّ ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات ) .
يعني رضي الله عنه : متجلَّيا يجلَّي خصوصيات الأعيان وأوصافها ونعوتها ، إذ هو مرآة آثارها ، ومجلى جليّات تجلَّياتها ، وجليات جليّاتها بأنوارها .
قال رضي الله عنه : ( فمن حيث هوية الحق هو وجوده ، ومن حيث اختلاف الصور هو أعيان الممكنات ) .
يريد أنّ العالم الذي هو في دقيق التحقيق ظلّ أحديّ جمعي ممدود ذو وجهين :
وجه إلى الوجود الواحد الحق ومنه وهو وجود العالم .
ووجه إلى الإمكان والكيان ، وكثرة الأعيان والأكوان والألوان في العيان ، وهو ظلّ أشخاص الأعيان ، الثابتة في العلم الذاتي النابتة في أرض الحقيقة بموجب أتمّ الشهود وأعمّ الأعيان .
قال رضي الله عنه : ( فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظلّ ، كذلك لا يزول باختلاف الصور  اسم " العالم " و " السوي " ، فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق ، لأنّه الواحد الأحد ، ومن حيث كثرة الصور هو العالم )، لأنّه المعدود والعدد  .
يعني رضي الله عنه : إن وجدت الأعيان على مشهد من يرى ذلك إنّما وجدت بالوجود الواحد الأحد المستفاد من الحق المطلق المشترك بين الكلّ .
فهو الحق الواحد الأحد وهو النور الظلَّي الممتدّ ، أو الظلّ النوري المشتدّ المعتدّ ، أمّا تسمية من يسمّيه “ سوى » فمن حيث نقوش الكثرة ، فإنّ كل واحد واحد منها غير الآخر وسواه ، وهي أغيار بعضها للبعض .

قال رضي الله عنه : ( فتفطَّن وتحقّق ما أوضحت لك ، وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك ، فالعالم متوهّم ، ما له وجود حقيقي ، وهذا معنى الخيال ، أي خيّل لك أنّه أمر زائد قائم بنفسه ، خارج عن الحق وليس كذلك في نفس الأمر ، ألا تراه في الحسّ متّصلا بالشخص الذي امتدّ عنه يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتّصال ، لأنّه يستحيل عليه الانفكاك عن الحق "عن ذاته") .
كما يستحيل على النور المنبسط من عين الشمس على أعيان العالم الانفكاك عنها وكاستحالة انفكاك الظلّ عمّن امتدّ عنه .
قال رضي الله عنه : ( فاعرف عينك ومن أنت ؟ وما هويّتك ؟ وما نسبتك إلى الحق ؟ وبما أنت حق ؟ وبما أنت عالم وسوى وغير ؟ وما شاكل هذه الألفاظ ، وفي هذا يتفاضل العلماء ، فعالم وأعلم ) .
يشير رضي الله عنه : إلى كليات أذواق علماء العالم على اختلاف مشاهدهم ومشاربهم :
فإن كان شهودك الوجود الحق ظهر في عينك الثابتة بمقتضى خصوصها ، فأنت حق .
وإن كان مشهدك الكثرة والتجدّد والتحدّد والتعيّن والاختلاف والتميّز والتبيّن ، فأنت عالم وخلق وسوى .
وإن كان مشهدك أنّك ذو وجهين وظاهر باعتبارين ، فأنت حق من وجه ، خلق من وجه ، فأنت بهويتك وعينك حق واحد أحد ، وبصورتك وأنانيّتك خلق أو ظاهر أو مظهر أو شهادة للحق .
وإن كان مشهدك الكثرة والاختلاف ورأيت أنّ هذه الكثرة من عين الوحدة ، وفيها نسبها وإضافاتها ، فأنت من أهل الله .
وإن كان مشهدك حجابيّات الكثرة وصنميّات الأشياء ، ولا ترى غير العالم فأنت من أهل الحجاب .
وإن رأيت حقّا بلا خلق ، فأنت صاحب شهود حاليّ .
وإن رأيت حقّا في خلق وهو غيره ، فأنت قائل بالحلول أو قائل بالاتّحاد .
وإن رأيت خلقا في حق مع أحدية العين ، فأنت على الشهود الحقيقي .
وإن شهدت حقا في خلق وخلقا في حق من وجهين وباعتبارين مع أحدية العين ، فأنت كامل الشهود ، فاشكر الله تعالى على ما هداك وأولاك وولَّاك .
قال رضي الله عنه : ( فالحق بالنسبة إلى ظلّ خاصّ صغير وكبير وصاف وأصفى كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر إلى الزجاج يتلوّن بلونه ، وفي نفس الأمر لا لون له ، ولكن هذا تراه ضرب مثال لحقيقتك بربّك ) .
يعني رضي الله عنه : ظهور الحق في حقيقة ظاهرة ظهور ظاهر صاف ، كظهور النور في الزجاج الصافي الذي لا لون له ، وفي الملوّن ملوّن ، كذلك في الكدر كدر.
فإنّ لون الماء لون إنائه ، فمن كان في حقيقته لا لون له على التعيّن ، ظهور النور فيه كما هو في ذاته ، خارجا عن المرآة ، كما قلنا : أنا الآن من ماء إناء بلا لون .

قال رضي الله عنه : ( فإن قلت : النور أخضر لخضرة الزجاج ، صدقت وشاهدك الحسّ . وإن قلت : ليس بأخضر ولا ذي لون كما أعطاه لك الدليل صدقت وشاهدك النظر العقلي الصحيح . فهذا نور ممتدّ عن ظلّ هو عين الزجاج ، فهو ظلّ نوري لصفائه ) .
يعني : ظهور الوجود الحق في عالم الأمر والعقول والنفوس ظهور نوري ، فهي أنوار ظلاليّة أو ظلال نورية فإنّ الاعتبارين فيها سائغان بحسب ذوقك غير متحيّزة ولا جسمانية .
ولكن لها صبغة من صبغ الجسمانيات ، وظهوره في الزجاج غير الملوّن كظهور نور الوجود في أعيان الأرواح والعقول ، فافهم . أو كظهور التجلَّي في قابلية العارف والمحقّق .
قال رضي الله عنه : ( كذلك المتحقّق منّا بالحق تظهر لصفائه صورة الحق فيه أكثر ممّا تظهر في غيره ، فمنّا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشارع الذي يخبر عن الحق ، ومع هذا عين الظلّ موجود ) .
يعني : أنّك موجود ، وظهور الحق فيك بحسبك مشهود .
قال رضي الله عنه : ( فإن الضمير من " سمعه " وغيره يعود عليه ، وغيره من العبيد ليس كذلك ، ونسبة هذا العبد إلى وجود الحق أقرب من نسبة غيره من العبيد) .
قال العبد : فكذلك صاحب الفرائض الذي يسمع به الحق ويبصر به ويأخذ ويعطي فهو سمع الحق وبصره وعينه ، وكذلك الذي يجمع بين القربين ، والذي في مقام التشكيك ، والذي في مقام التمحّض على ما تقرّر وتحرّر ، فتذكَّر وتأمّل وتدبّر تعرف مقامات رجال الله وأولياء الله وأهله ، لا أولياء الأوامر والنواهي الإلهيّة ، إن شاء الله تعالى .

قال رضي الله عنه : (وإذا عرفت ما قرّرناه ، فاعلم : أنّك خيال ) . وإذا كان الأمر على ما قررناه فاعلم أنك خيال.
يعني : من حيث تصوّرك وحجابيّتك وصنميّتك الطاغوتية على ما في وهمك منك وزعمك ، لا على ما أنت عليه عند الحق والمحقّقين .
قال رضي الله عنه : ( وجميع ما تدركه ممّا تقول فيه " سوى " كلَّه خيال في خيال ) .
يعني رضي الله عنه : أنّك ما تدرك على ما تعوّدت وعرفت في زعمك إلَّا غير الحق وهو خيال ، فإنّه ما ثمّ إلَّا الحق ، فالذي يجزم أنّه الموجود خيال ، والذي توهّمت أنّك وجود غير الحق ، مستقلّ في الوجود ، فاعل مختار خيال في خيال ، وكل ما تقول وتفعل خيال .
والوجه الآخر الأعلى هو أنّ الوجود الحق  كما علمت إن شاء الله - مجلى ومرآة لظهور صور الأعيان الثابتة ، والظاهر في المرآة مثال وهو خيال بلا شكّ ، إذ لا حقيقة له خارج المرآة ولا وجود له في عينه ، فهو مخيّل ممثّل أو نسبة ، لا وجود له في عينه ، ولكن من حيث الأمر الظاهر فيه المتمثّل المتخيّل ، له وجود محقّق .

فإنّ الخيال صورة محسوسة في مخيّلة كل متخيّل وحسّه المشترك ، فإن اعتبرناه صورة خيالية فقطَّ ، فلا وجود له خارج الخيال ، وإن اعتبرنا الأمر الذي تصوّر وتشكَّل فيه متخيّلا أو متمثّلا من روح أو معنى أو حقيقة أو اسم ، فهو محقّق ، فتحقّق ذلك ولا تغفل .
قال رضي الله عنه : ( والوجود الحق إنّما هو الله خاصّة من حيث ذاته وعينه فكلّ من الظاهر والمظهر على الشهودين خيال ، فما في الوجود خيال في خيال .).
قال رضي الله عنه : ( لا من حيث أسمائه ، لأنّ أسماءه لها مدلولان : المدلول الواحد عينه وهو عين المسمّى ، والمدلول الآخر ما يدلّ عليه ممّا ينفصل به الاسم عن هذا الاسم الأخير ويتميّز ، فأين " الغفور " من " الظاهر "و "الظاهر " من " الباطن " ؟ وأين " الأوّل " من " الآخر " ؟ فقد بان لك بما هو كلّ اسم عين الاسم الآخر ، وبما هو غيره ، فبما هو عينه هو الحق ، وبما هو غيره هو الحق المتخيّل الذي كنّا بصدده) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّه لا موجود في الحقيقة إلَّا الحق ، والمتحقّق معنى آخر غيره هو الحق المتخيّل الذي نسمّيه " سوى " و " إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ الله بِها من سُلْطانٍ " وإن هي إلَّا نقوش وعلامات .

قال رضي الله عنه : (  فسبحان من لم يكن عليه دليل إلَّا نفسه  ولا يثبت كونه إلَّا بعيّنه ، فما في الكون إلَّا ما دلَّت عليه الأحدية ،وما في الخيال إلَّا ما دلَّت عليه الكثرة. فمن وقف مع الكثرة ، كان مع العالم أو مع الأسماء الإلهية وأسماء العالم.
ومن وقف مع الأحدية ، كان مع الحق من حيث ذاته الغنيّة عن العالمين ، لا من حيث صورته ، وإذا كانت غنية عن العالمين . فهو عين غناها عن نسبة الأسماء لها ، لأنّ الأسماء لها كما تدلّ عليها تدلّ على مسمّيات أخر يحقّق ذلك أثرها).

يعني رضي الله عنه : أنّ الواقف من الناظرين في العالم مع الكثرة إنّما يقف مع تعقّلات يتعقّلها في هذا النور الواحد الحقيقي الذي لا كثرة فيه على الحقيقة .
بل من حيث التعقّل ، فليس واقفا إلَّا مع أسماء وضعها على هذا النور الواحد ، بحسب تعقّلات يتعقّلها أسماء ، فيتعقّل من الظهور بعد البطون بالنسبة إليه تجدّدا وتغيّرا وحدوثا .
فيقول : هذا متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث ، فيتعقّل أنّ له محدثا ، ثم يتعقّل أنّ المحدث - اسم فاعل - يجب أن لا يكون حادثا ، ويتعقّل كثرة غير متناهية في الحادثات المتجدّدات ، فيضع بحسب ذلك لها أسماء ويضع لمحدثها أسماء يزعم أنّ فيها كمالات ، وفي أضدادها ونقائضها نقائص ، فهو هكذا دائما مع الأسماء .
والواقف مع أحدية العين يرى أنّ هذه الكثرة المتخيّلة والمتعقّلة إنّما هي في عين واحدة ، ليس لغيرها تحقّق في نفسه ، ويرى أنّ التجدّد والحدوث والظهور والبطون والكثرة والوحدة نسب متعقّلة ، ما لها تحقّق في أعيانها ، فهو مع الحق والواحد الأحد ، فافهم .
قال رضي الله عنه : (" قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ " من حيث عينه " الله الصَّمَدُ " ، من حيث إسنادنا إليه ، " لَمْ يَلِدْ " من حيث هويّته ونحن ، “ وَلَمْ يُولَدْ " كذلك ، " وَلَمْ يَكُنْ لَه ُ كُفُواً أَحَدٌ " كذلك ).
لأنّه محيط بالكلّ ، ولا غير له فما له كفو .
قال رضي الله عنه : (فهذا نعته ، فأفرد ذاته بقوله : “ الله أحد " وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا ، فنحن نلد ونولد ونحن نستند إليه ، ونحن أكفاء بعضنا لبعض ، وهذا الواحد منزّه عن هذه النعوت ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ الواحد الذي لا يكون معه غيره يتعالى ويتنزّه عمّا لا تقتضيه ذاته ، فإنّ مقتضى ذاته أن لا يكون إلَّا هو ولا يكون معه غيره أصلا ورأسا ، فانتفت عنه هذه النسب كلَّها .
لأنّها لا تعقل إلَّا في كثرة ، ونحن الكثيرون ، فصحّت نسبتها إلينا ، ولم تصحّ نسبتها إلى الواحد الأحديّ الذات الذي ليس إلَّا هو ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان .


قال رضي الله عنه : (فهو غنيّ عنها أي عن هذه النسب ، كما هو غنيّ عنّا وما للحق نسب إلَّا هذه السورة سورة الإخلاص وفي ذلك نزلت ، فأحدية الله - من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة ) .
يعني رضي الله عنه : واحد تتعقّل فيه كثرة نسبيّة ، لأنّ المسمّى بهذه الأسماء الكثيرة واحد ، والكثرة نسب تتعقّلها فيه .
قال رضي الله عنه : ( وأحدية الله من حيث الغنى عنّا وعن الأسماء الإلهية أحدية العين ، وكلاهما يطلق عليه اسم الأحد فاعلم ذلك ) .
يعني : ليس ذلك باعتبار تعقّل الكثرة فيه وعدم تعقّلها ، فاعلم ذلك .

قال رضي الله عنه : (فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفيّئة عن اليمين والشمال ، إلَّا دلائل لك عليك وعليه ، لتعرف من أنت ؟ وما نسبتك إليه ؟ وما نسبته إليك ؟ ) .
يشير رضي الله عنه إلى : أنّ التعيّنات الوجودية التي هي نحن كالظلال الممتدّة من الأشخاص تزيد وتنقص ، تزيد بالامتداد عنها فسمّيت ظلالا وتنقص بالتقلَّص إليها ، فتسمّى أفياء من " فاء " إذا رجع .
قال الله -تعالى : " فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ الله " ومنه سمّي الغنيمة فيئا ، لأنّها ترجع وتفيء إلى المغتنم الساعي فيها ، فنحن - أعني التعيّنات الوجودية الحقّة في العالمين - لنا دلالتان بالنسبة إلينا يستدلّ بهما عليهما :
إحداهما : دلالتنا على عين واحدة تجمعنا نحن لنا وفيها وبها ،ولا استقلال لنا في تحقّقنا دونها.
والدلالة الثانية : دلالاتنا علينا من حيث الكثرة التي ظهرنا بها بحسب خصوصيات أعياننا .
وكذلك الظلال يستدلّ بها على ذوات الظلال التي منها امتدّت ، ويستدلّ بها أيضا
عليها أن لا استقلال ولا تحقّق لها دون تلك الأشخاص التي هي ظلالها .

قال رضي الله عنه : ( حتى تعلم من أين أو من أيّ حقيقة إلهية اتّصف ما سوى الله بالفقر الكلَّي إلى الله ، وبالفقر النسبي بافتقار بعضنا إلى بعض ؟
وحتى تعلم من أين أو من أيّ حقيقة اتّصف الحق بالغنى عن الناس والغنى عن العالمين ، واتّصف العالم بالغنى ، أي بغنى بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به ؟ فإنّ العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شكّ افتقارا ذاتيّا ، وأعظم الأسباب له سببيّة الحق) .
قال العبد : العالم بمألوهيته ومربوبيته ومخلوقيته وعدميته مفتقر إلى الموجد الله الربّ الخالق ، والله من حيث وجوده المطلق غنيّ عن الربوبية والمربوب والخالقية والمخلوق ، لأنّ العالم من حيث مجموعه وكلَّيته يفتقر إلى الموجد الخالق بالذات .
إذ لا وجود له من نفسه ، وكذلك يفتقر إلى أجزائه وأبعاضه التي بها تتحقّق كليته ومجموعه ، وكذلك الكلّ من حيث كلّ جزء جزء من العالم مفتقر إلى الحق في الوجود ، ويفتقر كل جزء جزء كذلك في وجوده إليه افتقارا ذاتيا حقيقيا ويفتقر إلى بعضه في تحقّق نسبة بعضه إلى البعض .
فانتشت النسب الافتقارية الكثيرة بالوجود الواحد إليه في الكلّ للبعض من البعض ، وإلى الكلّ وللكلّ إلى الكلّ ، ومع قطع النظر عن النسب فذواتنا وهي عين وجوداتنا قائمة بالذات المطلقة الواحدة في حقيقتها ، إذ لا حقيقة لغيرها ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ولا سببيّة للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهيّة ) .
يعني رضي الله عنه : لا افتقار إلى سبب إلَّا في الإيجاد كالخالقية والرازقية وما شاكلهما ، وذوات الحقائق صور التعينات الذاتية الشؤونيّة ، فلا افتقار من حيث الذات العينية ، فإنّها عين العين الغنيّة بالغيبيّة ، فالافتقار بين النسب وهي الأسماء التي نحن صورها .
قال رضي الله عنه : (والأسماء الإلهية كلّ اسم يفتقر العالم إليه من عالم مثله ، أو عين الحق ، فهو الله لا غير ).
يعني : كافتقار الابن إلى الأب في وجوده ، والفرع إلى الأصل ، فهو الله لا غير ، إذ لا مفتقر ، فافهم .

قال رضي الله عنه : ( ولذلك قال الله تعالى “ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "  ومعلوم أنّ لنا افتقارا من بعضنا إلى البعض ، فأسماؤنا أسماء الله - تعالى - إذ إليه الافتقار بلا شكّ وأعياننا في نفس الأمر ظلَّه لا غيره ، فهو هويّتنا لا هويّتنا ، وقد مهّدنا لك السبيل ، فانظر ) .
قال العبد : يشير إلى أنّ الافتقار لمّا كان لنا ذاتيا ، لكوننا غير موجودين من حيث حقائقنا وأعياننا ، فما لنا وجود من أنفسنا .
وكذلك لنا افتقار إلى الوجودية الثبوتيّة من ذاته ، فعمّنا الافتقار إلى الله في الوجود وفي ظهور بعضنا للبعض ، ووصول آثار بعضنا إلى البعض به.
وكان الغنى في كل ذلك للذات المطلقة الواجبة الوجود بالذات ، فهو المفتقر إليه مطلقا في جميع أقسام الافتقار ، سواء كان افتقارا كلَّيا أو نسبيّا .
فالافتقار إلى هذا الغنيّ بالذات المغني بالأسماء الإلهية ، ولمّا كان الافتقار منّا إلى أسمائه ، ونرى افتقار بعضنا إلى البعض من وجه بالسببية والمسبّبية .
فنحن إذا صور أسماء الحق ، فعين افتقارنا إلينا هو عين افتقارنا إلى الحق ، فهو الغنيّ ونحن الفقراء ، فاعلم ما أشرنا إليه ، إن شاء الله الموفّق.

.
واتساب

No comments:

Post a Comment