Saturday, July 20, 2019

08 - فصّ حكمة روحية في كلمة يعقوبية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

08 - فصّ حكمة روحية في كلمة يعقوبية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

08 - فصّ حكمة روحية في كلمة يعقوبية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

وقد ذكرنا المناسبة بين الحكمة الروحية والكلمة اليعقوبية في شرح فهرس الحكم فليطلب من هناك . " "قال رضي الله عنه : حكمة روحية في كلمة يعقوبية . قال العبد : " وحكمة إضافة هذه الحكمة إلى الروحية لأنّ الغالب على ذوق يعقوب عليه السّلام كان علم الأنفاس والأرواح ، حتى ظهر في وصاياه وإخباراته ، مثل قوله : "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ""
ووصيّى بنيه فقال : " لا تَيْأَسُوا من رَوْحِ الله إِنَّه ُ لا يَيْأَسُ من رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ " وذوق أهل الأنفاس عزيز المثال ، قد جعل الله لهم التجلَّي والعلم في الشمّ .
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " إنّي لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ".
قيل : إنّه عليه السّلام ، كنى بذلك عن الإبصار وهم صور القوى الروحانية التي نضرتهم على صور القوى الطبيعية ، واليمن أيضا من اليمين ، وهو إشارة إلى الروحية وعالم القدس ."
قال رضي الله عنه: ) الدين دينان : دين عند الله وعند من عرفه الحق تعالى ومن عرفه من عرف الحق تعالى . ودين عند الخلق وقد اعتبره الحق ، فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتب العليّة على دين الخلق ، فقال تعالى : "وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيه ِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "أي منقادون إليه
قال رضي الله عنه :  ( وجاء الدين بالألف واللام لتعريف العهد ، فهو دين معلوم معروف ، وهو قوله تعالى: " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ " ، وهو الانقياد ، فالدين عبارة عن انقيادك " .
قال العبد : اعتبر اشتقاق الدين من ثلاثة أوجه كلَّها موجود فيه :
الأوّل : هو الانقياد ، يقال : دان له ، أي انقاد لأمره وخضع له ، فالدين هو الانقياد الكلَّي ظاهرا وباطنا ، أمّا ظاهرا فبإتيان ما أمر الله في كتابه وعلى لسان رسوله ، وأمّا باطنا فبتصديق أنبائه وأخباره والإيمان بها من غير توقّف فيه ، ولا ريب ولا ريث ،.
كما قال :"  فَلا وَرَبِّكَ  لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً " وهذا حقيقة انقياد الباطن أن لا يبقى في النفس حرج ممّا قضى الله ورسوله ، ويسلَّم له في أخباره وأحكامه تسليما كلَّيا حقيقيا ، ويطلق الدين على الأمر الكلَّي الذي ينقاد إليه أهل الدين كلَّهم وهو الشرع الموضوع لذلك .
و الاعتباران الآخران فسيأتيانك في مواضعهما .
قال رضي الله عنه : ( والذي من عند الله فهو الشرع الذي انقدت أنت إليه ، فالدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه الله تعالى ، فمن اتّصف بالانقياد لما شرعه الله ، فذلك الذي قام بالدين وأقامه أي أنشأه كما يقيم الصلاة ، فالعبد هو المنشئ للدين ، والحق هو الواضع للأحكام ، والانقياد عين فعلك ، فما سعدت إلَّا بما كان منك ، فكما أثبت السعادة لك ما كان إلَّا فعلك ، كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية إلَّا أفعاله وهي أنت وهي المحدثات ، فبآثاره سمّي إلها ، وبآثارك سمّيت سعيدا .
فأنزلك الله منزلته إذا أقمت الدين وانقدت لما شرعه لك ، وسأبسط لك إن شاء الله تعالى ما تقع به الفائدة بعد أن نبيّن الدين الذي عند الخلق ، الذي اعتبره الله ) .
قال العبد : لا شكّ أنّ الانقياد لأمر الله هو فعلك ، وسعادتك في الانقياد لأوامره ونواهيه ، والشقاوة في عدم انقيادك لذلك ، لأنّك إذا انقدت لأمره فقد أطعته ، وإذا أطعته فيما أمرك ونهاك ، كذلك أطاعك في إجابة سؤالك ، فما أجابك إلَّا بما أجبت له ، فما أسعدك إلَّا فعلك ، كما هو في الأصل ، فإنّ أفعال الله وهي المحدثات أثبتت له الأسماء الحسنى ، لأنّ المحدثات مخلوقات لله فأثبتت له الاسم " الخالق " وكذلك " الرازق " و " الربّ " و " الإله " .
قال رضي الله عنه : " فالدين كلَّه لله " .
يعني رضي الله عنه : سواء انقدت إلى ما شرعه الله للانقياد به أو وضعه واضعوا النواميس من الخلق ، فليس الانقياد إلَّا له لا ربّ غيره .
قال رضي الله عنه : « وكلَّه منك » أي الانقياد « لا منه إلَّا بحكم الأصالة » أي إنّما نقاد إليه ، لكون المنقاد إليه بالأصالة مأمورا به من عند الله أو مأمورا به من عند الخلق لله ".
قال الله تعالى : "وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها " وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامّة من عند الله بالشريعة  الخاصّة المعلومة في العرف.
فلمّا وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهيّ في المقصود بالوضع الإلهي المشروع ، اعتبرها الله تعالى اعتبار ما شرعه من عنده وما كتبها الله تعالى عليهم ، ولمّا فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون .
جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوا يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي  فقال : " فَما رَعَوْها " هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم " حَقَّ رِعايَتِها ". " إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ الله ".
وكذلك اعتقدوا " فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا" بها " مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ " أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة "فاسِقُونَ " أي خارجون عن الانقياد إليها  والقيام بحقّها .
لمّا وافقت المصلحة فيها حكم الله من حيث إنّ الله إنّما وضع من الشرع ما وضع للانقياد الكلَّي لأمر الله تعالى ، وهذا كان المراد أيضا كذلك من وضع النواميس الحكمية فاعتبرها الله اعتبار ما شرعه هو لعبيده من عنده ، فمن انقاد إلى الله فيها ، فقد انقاد لله .

قال رضي الله عنه : ( ومن لم ينقد إليها لم ينقد إليه مشرّعه ) أي بالأصالة من حيث عبيده الذين وضعوها « لما يرضيه ، لكن الأمر يقتضي الانقياد .

قال رضي الله عنه : (وبيانه أنّ المكلَّف إمّا منقاد بالموافقة وإمّا مخالف ، فالموافق المطيع لا كلام فيه ، لبيانه . وأمّا المخالف فإنّه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله أحد أمرين :
إمّا التجاوز والعفو ، وإمّا الأخذ على ذلك.
ولا بدّ من أحدهما فإنّ الأمر حق في نفسه ، فعلى كل حال صحّ انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما هو عليه من الحال ، فالحال هو المؤثّر  .
يعني رضي الله عنه : أنّ العبد بحاله سواء كان موافقا أو مخالفا فإنّه يستدعي انقياد الحق له بالثواب أو بالعقاب لا بدّ من ذلك .
قال رضي الله عنه : ( فمن هنا كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسرّ أو بما لا يسرّ ، فبما يسرّ " رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ُ " هذا جزاء يعني بما يسرّ " وَمن يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْه ُ عَذاباً كَبِيراً " هذا جزاء بما لا يسرّ ، " وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ " هذا جزاء ، فصحّ أنّ الدين هو الجزاء .)

قال رضي الله عنه : (وكما أنّ الدين هو الإسلام ، والإسلام عين الانقياد ، فقد انقاد إلى ما يسّر وإلى ما لا يسرّ وهو الجزاء وهذا لسان الظاهر في هذا الباب ، وهو ظاهر . وأمّا سرّه وباطنه فإنّه تجلّ في مرآة وجود الحق ، فلا يعود على الممكنات من الحق إلَّا ما أعطته ذواتهم في أحوالها ، فإنّ لهم في كل حال صورة ، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم ، فيختلف التجلَّي لاختلاف الحال ، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون ، فما أعطاه الخير سواه ، وما أعطاه ضدّ الخير غيره ، بل هو منعم ذاته ومعذّبها ، فلا يذمّنّ إلَّا نفسه ، ولا يحمدنّ إلَّا نفسه ، " فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " في علمه بهم ، إذ العلم يتبع المعلوم ) .

قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أنّ انقياد الحق وهو الدين بما يسر وبما لا يسرّ إنّما هو تجلّ للاسم « الديّان » استجلبه واستدعاه العبد الدّين أو غير الدّين بموجب حاله الذي هو عليه .
وذلك لأنّ الدّيان تعالى لمّا شرع له ما يصلح له ويصلحه من حضرة اسمه « المكلَّف » و « المشرّع » و « الهادي » و « المرشد » وأخواتهم ، توجّه على العبد القيام بما شرع ، وإقامة الدين بالانقياد إليه ، واستتبع التجلَّي الشرعيّ الوضعيّ بموجب أحوال المتجلَّي له وهو العبد أحد أمرين :
الثواب إن انقاد لأمر الله بما يسرّه ،
أو العقاب بما لا يسرّ إن انقاد للشيطان بمخالفة سلطان الاسم المكلَّف المشرّع الديّان ، وهو تجل يستدعيه العبد بحاله .
فإن كان حاله الموافقة في الانقياد إلى الله ، تعيّن التجلَّي في مرآة وجود العبد بانقياد المكلَّف المشرّع وهو الله بحسن الجزاء .
وإن كان حاله المخالفة ، تعيّن التجلَّي بصورة المخالفة عليه ، فلم يحكم عليه الله إذن بما لا يسرّه وبما لا يوافقه .
بل هو الذي حكم على نفسه بذلك أزلا في تعيّن صورة معلوميّته وعينه الثابتة في حضره العلم الأزلي بذلك ، فتوجّه التجلَّي من الحق عليه بموجب ما استدعاه واقتضاه ، فللَّه الحجة البالغة على عبيده .
فلا يحمدوا إلَّا الله المظهر ما في حقائقهم الأزلية الغيبية بإفاضة الوجود على ذلك ، وكذلك لا يذمّوا إلَّا أعيانهم التي اقتضت أحوالها التجلَّي بما لا يسرّه أو يضرّه ، فافهم .


قال رضي الله عنه : « ثم السرّ الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أنّ الممكنات على أصلها من العدم ، وليس وجود إلَّا وجود الحق بصور أحوال ما هو عليه الممكنات في حقائقها وأعيانها ، فقد علمت من يلتذّ ومن يتألَّم ، وما يعقب كلّ حال من الأحوال ، وبه سمّي عقوبة وعقابا ، وهو سائغ في الخير والشرّ .
غير أنّ العرف سمّاه في الخير ثوابا وفي الشرّ عقابا ، وبهذا سمّي أو شرح الدين بالعادة ، لأنّه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله ، فالدين العادة ، قال الشاعر : كدينك من أمّ الحويرث قبلها ، أي عادتك

قال العبد : تحقّق في السرّ الأوّل أنّ التجلَّي بما يسرّ وبما لا يسرّ على العبد بموجب أحوال عينه الثابتة ، وفي هذا السرّ - الذي فوق السرّ الأوّل - أنّ العبد هو الوجود الحق المتعيّن بموجب عينه الثابتة وصورة معلوميته الأزلية وحقيقته الأصلية ولم يوجد العين الثابتة في عينها ، بل هي على استهلاكها الأزلي الأصلي في الحق .
كما كان الله ولا شيء معه ، فهو الآن على ما عليه كان ، فتعيّن كلّ وجود - بموجب أحوال كل عين عين من مطلق التجلَّي الوجودي - بصورة حالة عليها حقيقة العين ، فاستدعت الصورة والحالة الظاهرة من العين في وجود الحق تجلَّيا آخر بما يسرّ وبما لا يسرّ وينفع أو يضرّ وهي حالة استتبعتها الحالة الأولى وأعقبتها .
فتألَّم أو تنعّم أو تعذّب والتذّ بها الوجود الحق المتعيّن في خصوصية هذه العين الثابتة التي هي شأن من شؤون الحق أيضا ، والعبد صورة ذلك الشأن في الوجود العينيّ الحقّ أو الوجود الحق بصورة العين ، فما تألَّم وما تنعّم دينا ولا آخرة إلَّا الحق المتعيّن بك وفيك بحسبك ، ولا حسب للحق إلَّا أنت ، وبحسبك يظهر لك أو عليك ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله وهذا ليس ثمّ ، فإنّ العادة تكرار لكنّ العادة حقيقة معقولة واحدة والتشابه في الصور موجود ، فنحن نعلم أنّ زيدا عين عمرو في الإنسانيّة وما عادت الإنسانية ، إذ لو عادت لتكثّرت وهي حقيقة واحدة والواحد لا يتكثّر في نفسه ، ونعلم أنّ زيدا ليس عين عمرو في الشخصية ، فشخص زيد ليس شخص عمرو مع تحقيق وجود الشخصية في الاثنين  .
فنقول في الحسّ : عادت ، لهذا الشبه ، ونقول في الحكم الصحيح : لم تعد ، فما ثمّ عادة بوجه ، وثمّ عادة بوجه ، كما أنّ ثمّ جزاء بوجه وما ثمّ جزاء بوجه ، فإنّ الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن . وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن ، أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي ، لا أنّهم جهلوها ، فإنّها من سرّ القدر المتحكَّم على الخلائق )  .

قال العبد : يريد أنّ الدين يأخذ وجوهه ومعانيه ، لمّا كان عادة ، ظهر أن قد عادت على العبد حالته الغيبية الأزلية ، فإنّ تعيّن التجلَّي من الدّيان بحسب حال عينه الثابتة ، فما عاد عليه إلَّا مقتضى حاله ، ولكنّ التحقيق يقتضي أن لا تعود الحالة .
فإنّ الحالة المقتضية لهذا التجلَّي لم تعد ولم تتكرّر بل تعيّن التجلَّي بصورتها لا غير ، فلا تكرار في التجلَّي ولا في الحالة .
فما عاد وما تجدد إلَّا التعيّن في التجلَّي ، وكلّ تعيّن مثل التعيّن الآخر لا عينه ، فلا عادة أصلا ، إذ لا تكرار لا في الحال ولا في الوجود المتعيّن بالحالة ولا في التعيّن ، ولكن تعيّن وتشبّه بشبه يشبه الشبه في العيون تكرارا وعادة إلى عين واحدة ، وليس لذلك حقيقة ، إن حقّقت النظر ودقّقت الفكر ، فحقّق ودقّق يتحقّق السرّ على ما هو عليه الأمر.
كما قلنا : شعر :
ولا أقول بتكرار الوجود ولا  ..... عود التجلَّي فما في الأصل تكرار
فالبحر بحر على ما كان في قدم  ..... إنّ الحوادث أمواج وأنهار
لا تحجبنّك أشكال يشاكلها .....    عمّن يشكَّل فيها فهي أستار
وذلك لأنّ الحقيقة إذا ظهرت ظهورات غير متناهية ، وتعيّنت على صور متماثلة ومتشابهة متشاكلة ، لم تكن عائدة ولا متكرّرة ، ولكنّ الظهورات والتعيّنات أمثال متماثلات على من تشكَّل وتعيّن فيها وظهر بها ، فما عاد شيء ولا تكرّر ، فحقّق النظر ، والتعيّنات عادت بالأمثال لا بأعيانها ، فافهم .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما ثم عادة بوجه وثم عادة بوجه، كما أن ثم جزاء بوجه وما ثم جزاء بوجه فإن الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن.
وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن، أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي لا أنهم جهلوها فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق.
قال الشيخ رضي الله عنه : « واعلم : أنّه كما يقال في الطبيب : إنّه خادم الطبيعة ، كذلك يقال في الرسل والورثة : إنّهم خادمو الأمر الإلهي في العموم وهم في نفس الأمر خادموا أحوال الممكنات ، وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم ، فانظر ما أعجب هذه !
إلَّا أنّ الخادم المطلوب هنا إنّما هو واقف عند مرسوم مخدومه إمّا بالحال أو بالقول لأنّ الطبيب إنّما يصحّ أن يقال فيه : خادم الطبيعة لو مشى بحكم المساعدة لها ، فإنّ الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصّا ، به سمّي مريضا .
فلو ساعدها الطبيب خدمة ، لزاد في كمّيّة المرض بها أيضا ، وإنّما يردعها طلبا للصحّة ، والصحّة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج ، فإذن ليس الطبيب بخادم الطبيعة » يعني مطلقها في جميع الأحوال « وإنّما هو خادم لها من حيث إنّه لا يصلح جسم المريض ولا يغيّر ذلك المزاج إلَّا بالطبيعة أيضا ، ففي حقّها يسعى من وجه خاصّ غير عامّ ، لأنّ العموم لا يصحّ في مثل هذه المسألة ، فالطبيب خادم لا خادم ، أعني للطبيعة " .


قال العبد : يشير رضي الله عنه أنّ الرسل والأنبياء والورثة أطبّاء الأرواح والأنفس عن الأمراض والأسقام النفسانية ، كما أنّ الطبيب يعالج بما يبرئ من الأسقام الجسمانية ، فكما أنّه يقال في الطبيب : إنّه خادم الطبيعة كذلك يقال في الأنبياء والورثة : إنّهم خادمو الأمر الإلهي في العموم .
ثمّ التحقيق يقضي أنّ الطبيب ليس خادما للطبيعة في عموم أحوال الطبيعة .
فإنّ الطبيعة قد تضعف وتتغيّر ، فتعطي في المريض مزاجا خاصّا ، به تزول صحّة الجسم ، فلا يجب على الطبيب من كونه خادما للطبيعة أن يساعدها فيما يضعّفها ويغيّرها ، بل بما يقوّيها ويصلحها .
فتقوى بذلك على دفع المزاج الذي يخالف المزاج الصحّي ، فإذن هو خادم للطبيعة من وجه خاصّ لا خادم لها بموجب ما هي عليه في الحال والوقت الحاضر.
كذلك النبيّ المشرّع الرسول ، والشيخ والمرشد المسلك للوصول خادمون للأمر الإلهي في الأمّة والأتباع من حيث ما يصلحها لا من حيث ما يساعدها بموجب الحال ، فإنّ الأمر الإلهي أعطى فيهم بموجب قابلياتهم أحوالا تعقّب أحوالا أخر تؤدّي إلى إفسادها .
فلا يجب على الرسول الهادي والوارث المرشد أن يساعد الأمر الحالي المتحكَّم على نفوس الأمّة ، بل يساعد الأمر الإلهي المؤدّي إلى إصلاحهم لا غير ، فهم خادمو أحوال الممكنات لا خادمون لها مطلقا ، بل من جهة ما يصحّ ويصلح لا غير ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( كذلك الرسل والورثة في خدمة الحق ، وأمر الحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلَّفين ، فيجري الأمر في العبد بحسب ما يقتضيه الحق وبحسب ما يقتضي به علم الحق ، ويتعلَّق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته ، فما ظهر إلَّا بصورته).
يعني بصورة العبد في عينه الثابتة أزلا « فالرسول أو الوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة لا خادم الإرادة ، فهو يردّ عليه ، طلبا لسعادة المكلَّف ، فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح ، وما نصح إلَّا بها ، أعني بالإرادة »
يعني تعلَّقت إرادة الحق بأن ينصح النبيّ أو الوارث « فالرسول أو الوارث طبيب أخراويّ للنفوس ، منقاد لأمر الله حين أمره فينظر في أمر الله ، وينظر في إرادته تعالى فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ، فلا يكون إلَّا ما يريد ، ولهذا كان الأمر ، فأراد الأمر ، فوقع ، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور ، فلم يقع من المأمور ، فسمّي مخالفة ومعصية ، فالرسول مبلَّغ ".


يعني رضي الله عنه : إنّما يقع الأمر من الرسول والوارث ، لما أراد الله منهما وقوع الأمر فوقع . وإنّما لم يقع الامتثال من المأمور به ، لعدم اقتران الإرادة بالأمر بوقوعه منه.
وإنّما لم تتعلَّق الإرادة بالأمر بوقوع المأمور به من المأمور ، لتعلَّق العلم بعدم وقوعه من المأمور فلم يقع وإنّما وقع الأمر من الآمر بما لا يقع ، لتعلَّق إرادة الحق بوقوع الأمر ، لتعلَّق علم الحق وأمر الحق بمقتضى عينه الثابتة أنّه يقع الأمر منه بما لا يوجد له عين من العاصي والمخالف ، فتتركَّب عليه الحجّة الإلهية ، فيتوجّه عليه العقاب ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " ولهذا قال شيّبتني سورة هود وأخواتها ، لما تحوي عليه من قوله : " فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ " ، فشيّبته "كَما أُمِرْتَ " ، فإنّه لا يدري هل أمر بما يوافق الإرادة ، فيقع ، أو بما يخالف الإرادة ، فلا يقع ، ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلَّا بعد وقوع المراد إلَّا من كشف الله عن بصيرته .
فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه ، فيحكم عند ذلك بما يراه ، وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات لا يكون مستصحبا .
" قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً من الرُّسُلِ ". " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ " ، فصرّح بالحجاب ، وليس المقصود إلَّا أن يطَّلع في أمر خاصّ لا غير " .
قال العبد : اعلم : أنّ الأمر الإلهي الذي يرد من الرسول والوارث إن وافق الإرادة المخصّصة بتعيين الفعل بموجب العلم ، وقع . 
وإن لم يوافق ، فلا يقع ، وقد وقعت الإرادة أن يقع الأمر منهما ، فيجب عليهما الوقوف عند ذلك ، فلو توقّعا وقوع ما جاءا به ، وأمرا بما أمرا بالأمر به بموجب الإرادة تعبا ، وليس عليهما إلَّا البلاغ لا غير ، ولكن لا يكون إلَّا كما وقع .
ولله الحجّة البالغة .

.


واتساب

No comments:

Post a Comment