Friday, July 19, 2019

02 -  فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

02 -  فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي


كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

بسكون الفاء وهي علوم الوهبية الملقاة في قلب هذا النبي عليه السلام (في كلمة شيثية) وهو لغة العبري هبة الله تعالى (اعلم ان العطايا والمنح الظاهرة) الموجودة (في الكون) أي في العالم (على أيدي العياد) كالعلم الحاصل للأنبياء والأولياء على يدي خاتم الرسل وختم الأولياء.
(وعلى غير ايديهم) كالعلم الحاصل لخاتم الرسل و خاتم الأولياء فإنه من الذات كما سيذكر وكيف كان .
وهي (على قسمين) قسم (منها ما يكون عطايا ذاتية) أي يكون منشأها التجلي الذاتي من غير اعتبار الصفة وإن كان لا يخلو عن الصفات .
(وعطايا اسمائية) أي يكون منشأها التجلي الصفاتي (ويتميز) كل منهما عن الآخر (عند أهل الأذواق) عند وصول العطايا إليه.
فيه إشارة إلى أن الفرق بينهما لطیف و دقیق بحيث لا يتميز إلا عند أهل الأذواق .
ولما بين العطايا من جانب المعطي شرع إلى بيان باعثها من طرف المعطى له وهو السؤال إذ بهما يتحقق العطايا.
فقال (كما أن منها) أي كما أن بعض العطايا (ما) الذي (يكون) يحصل بإعطاء الله تعالى (عن سؤال) أي عن سؤال العبد لفظا ربه ذلك العطايا .
وكان ذلك السؤال (في) حق عطاء (معین) بفتح الياء وإن شئت قلت عن سؤال معين بحذف في يدل عليه قوله : (وعن سؤال غير معين) فتعيين السؤال وعدم تعيينه يوجب تعيين العطاء وعدم تعيينه.
(ومنها ما لا يكون عن سؤال) بل يكون بدون سؤال لفظي سواء (كانت الأعطية ذاتية أو اسمائية) وسواء كانت على أيدي العباد و معنى غير أيديهم يعني أن القسمة من جانب المعطي لا يمنع القسمة من طرف القابل.
(فالمعين) بفتح الباء أي فالسؤال المعين (كمن يقول : يا رب أعطني كذا) .
كقولك : أعطني ولدا صالحا أو رزقا طيبا ولم يذكر أجزاء ذاته .
و كدعاء الرسول عليه السلام: "اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي سمعي نورا" الحديث فيذكر أجزاء ذاته على التعيين فقوله : أعطني كذا كناية عنهما جميعا (فیعین) هذا السائل أمرا (ما) من الأعطية (لا يخطر له) أي للسائل (سواه) أي غير ذلك الأمر.
(وغير المعين) أي السؤال العالم الشامل لجميع أنواع الأعطية وأفرادها التي فيه مصلحة السائل (كمن بقول: يا رب أعطني ما تعلم) أي العطاء الذي حصل (فيه مصلحتي) أي حاجتي (من غیر تعین العطاء لكل جزء ذاتي) للسائل سواء لم يذكر أجزاء ذاته (من لطيف) روحاني (وكثيف) جسماني .
كما قال العالم بين لطيف وكثيف أي مركب منهما كالمثال المذكور أو يذكر لكن لا على وجه التعيين بل على وجه كلي شامل لجميع أجزاء ذاته من اللطافة والكثافة.
كمن يقول: أعطني لكل جزء ذاتي من لطيف وكثيف باضافة جزء إلى الذات المضافة إلى ياء المتكلم أو بزيادة من وعلى هذا التقدير فالباء متكلم مضاف إليه ولم يذكر المصنف هذا القسم صريحا .
بل ادرج في قوله : أعطني ما فيه مصلحتي وجعله شاملا لهذا القسم لكون كل منهما غير معين وأشار إليه ثانية بقوله من غير تعيين لكل جزء ذاتي من لطيف وكثيف وإلا فالمناسب أن يقول بعد قوله : أعطني ما فيه مصلحني فلا يعين أمرأ ما .
كما قال بعد قوله : أعطني كذا فيعين أمرا ما من غير تعيين متعلق بيقول فتم السؤال الغير المعين بقوله : أي أعطني ما فيه مصلحتي .
كما تم المعين بقوله : أعطني كذا فحينئذ لا يصلح تعلق قوله : لكل جزء ذاتي بأعطني بل يتعلق بقوله : من غير تعيين
فقوله : ذاتي بتشديد الياء صفة لكل جزء سواء كان بزيادة من كما وقع في بعض النسخ أو بدونه وأما في المثال الذي أوردناه.
فكما قلناه فقوله : من غير تعيين لكل جزء ذاتى من لطيف وكثيف ليس من تتمة السؤال بل بيان للغير المعين الذي هو المثال المذكور كما أن قوله فيعين أمر ما ولا يخطر له سواه بيان للمعين.
ولما فرغ عن بيان السؤال شرع في بيان مراتب السائلين فقال : (والسائلون) بلسان القال (صنفان صنف بعثه على السؤال) أي سبب طلبه العطایا قبل حلول أوانه (الاستعجال الطبيعي) أي الخلفي (فإن الإنسان خلق عجولا) وهو داخل تحت حكومة طبعه ومحجوب بأمر طبيعية وليس على علم بشيء على ما هو عليه.
(والصنف الآخر) مبتدأ (بعثه على السؤال) جواب (لما علم) وهو مع جوابه خبر المبتدأ (أن ثمة) أي في مقام العطاء (امورا) عطايا حاصلة (عند الله) تعالى (قد سبق العلم) أي علم الله تعالى (بانها لا تنال) أي لا ينال العبد إليها (إلا بعد سؤال) العبد من الله تعالى (فيقول) أي فيتفكر في قلبه.
(فلعل ما نسأله سبحانه يكون من هذا القبيل) فبعثه هذا العلم على سؤاله فأضمر فاعل بعثه وهو العلم لدلالة المقام عليه (فسؤاله) هذا (احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان) لئلا يفوت الأمر وهو العطاء لفوات شرطه وهو السؤال.
(وهو) أي هذا السائل وإن كان يعلم هذا لكن (لا يعلم ما في علم الله) تعالى ولكن لعل أن ما يسأله من قبيل ما عين له في علم الله.
(ولا ما يعطيه استعداده في القبول) أي لا يعلم قبول استعداده ولكن يساله لعله يقبل (لأنه) أي الشان (من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد) أي معين (على استعداد الشخص في ذلك الزمان) فإن ذلك أي العلم بما في علم الله تعالى والوقوف على الاستعداد في كل زمان لا يكون إلا للكمل.
فقوله : لأنه تعليل لهما (و) هو وإن كان لا يعلم هذا لكنه يعلم في ذلك الزمان أنه (لولا ما أعطاه الاستعداد للسؤال ما سأل) ولكن لا يعلم ما أعطاه الحق في الزمان الذي يكون فيه ولا يعلم في ذلك الزمان ما يقبل استعداده لعدم حضوره .
فبهذا القدر من العلم بالاستعداد يكون من أهل الحضور والمراقبة حتى خلص عن قيد سؤال الاحتياط وهو من أهل الطلب لأن همته متعلقة في حصول مطلوبه لا في امتثال أوامر سيده.
فليس له نصيب في معرفة الاستعداد الأعلى الإجمال (فغاية أهل الحضور) في نهاية علمهم في الاستعداد (الذين لا يعلمون) استعدادهم (مثل هذا) أي في كل فرد وكان عطاؤهم من سؤال وإنما فيدنا به فإن أهل الحضور الذي كان عطاؤهم لا عن سؤال.
يذكر أحوالهم و مراتبهم في القسم الثاني (أن يعلموه) أي استعدادهم (في الزمان الذي يكونون فيه) ويعلمون أيضا في ذلك الزمان قبول استعدادهم (فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان) الذي يكونون فيه (وإنهم) لحضورهم يعلمون (ما قبلوه) أي لم يقبلوا ذلك الأمر الواصل إليهم.
(إلا بالاستعداد) الجزئي الخاص بذلك الزمان (وهم) أي أهل الحضور الذين وصفناهم بقولنا أن يعلموه.
(صنفان صنف يعلمون من قبولهم) ذلك الأمر (استعدادهم) أي قابلية ذواتهم واستحقاق أو هم بذاك الأمر (وصنف يعلمون من استعدادهم ما) أي الذي (يقبلونه وهذا) أي الصنف الذين يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه (أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف) أي من الصنف الذين يعلمون من قبولهم استعدادهم ففي بمعنی من (ومن هذا الصنف) أي ومن الصنف الثاني من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان وإنما بسال امتثالا لأمر الله .
في قوله: " ادعوني أستجب لكم " فهو (العبد المحض) التام في العبودية .
(وليس لهذا الداعي همة متعلقة فيما بسأل فيه من معين أو غير معين) حتى يسأل للاستعجال وللإمكان (وإنما همته) بسؤاله لفظة (في امتثال أوامر سیده).
و هيهات بين السائل للإمكان وبينه في رتبة العلم.
(فإذا اقتضى الحال) أي التجلي الإلهي الحاكم عليه في ذلك وقت (السؤال) اللفظي (سأل) أي طلب المأمور به (عبودية) لا لغرض من أغراضه النفسية .
وإذا اقتضى الحال (التفويض) أمره إلى الله فوض (و) إن اقتضى الحال (السكوت) عن طلب ما يحتاج إليه (سكت فقد ابتلى أيوب وغيره وما سئلوا رفع ما ابتلاهم الله به) مع شدة احتياجهم في ذلك الزمان رفع ما ابتلاهم الله تعالی به لاقتضاء حالهم السكون في ذلك الزمان .
(ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا) من الله (رفع ذلك) فيما ابتلي نسألوا امتثالا لأمر الله (فرفعه الله تعالى عنهم) أي أجاب الله عنهم سؤالهم .
فكانوا داخلين تحت حكومة الحال في الوقت وتابعون إليه في السؤال وعدمه .
فكان سكوتهم وسؤالهم لفظة امتثالا لأمر الله لعلمهم بالحال وبما يقتضيه من أمر الله منهم .
فهم سائلون بالسؤال اللفظي وقتا وغير سائلين وقتا .
فدل ذلك على أن أيوب ومن كان على حاله من هذا الصنف من أهل الحضور لا من الصنف الذي سيذكر .
وأما دعاء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بقوله: "اللهم اجعل لي في قلبي نورا" الحديث وهو من دخول جميع العوالم فلا اختصاص له بصنف دون صنف.
كما قال : "أفلا أكون عبدا شكورا" (والتعجيل بالمسؤول فيه والابطاء) سواء سال استعجالا أو احتياطا أو امتثالا وسواء كان سؤالا معينا أو غير معين للقدر
(المعين له عند الله) أي لأجل تقدير الله بالمسؤول فيه بوقت معين من الأوقات. الأمور مرهونة بأوقاتها : (فإذا وافق السؤال الوقت) المعين للمسؤول فيه (أسرع بالإجابة) أي وقع مسؤول فيه في الحال.
(وإذا تأخر الوقت إما في الدنيا وإما في الآخرة تأخرت الإجابة أي المسؤول فيه إلى) وقت معين (لا) تأخرت (الإجابة التي هي لبيك من الله) إذا دعا العبد ربه شيئا فقال الله تعالی: لبيك يا عبدي فإن هذه الإجابة تقع في الحال قوله : (فافهم هذا) إشارة إلى أن من دعي من الله شيئا
فقال الله : لبيك يدل على قبول مراده من الله وأن عدم مسألته الآن لعدم حصول وقته.
(وأما القسم الثاني وهو قولنا ومنها ما لا يكون عن سؤال (فإنما أريد بالسؤال اللفظة به) أي التلفظ به (فإنه) أي الشأن (في نفس الأمر) أي في الواقع (لا بد) لكل وارد (من) وجود (سؤال إما باللفظ) كما بين.
(او بالحال أو بالاستعداد كما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ وأما في المعنى فلا بد أن يقيده) أي الحمد (الحال فالذي يبعثك على حمد الله هو المفيد لك باسم فعل) كحمدك على الله بالوهاب والرزاق ( أو باسم تنزیه) مثل سبوح قدوس. فإن قلت قد ثبت من قبل أن معرفة الاستعداد حاصل لصاحبه وقوله : (والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه) ينافي ذلك قلت: إن الشعور يستعمل في المحسوس المشاهد من غير توقف علمه على شيء آخر والاستعداد ليس كذلك بل توقف على الاطلاع بالأعيان الثابتة في علم الله تعالی فمعنى قوله : لا يشعر به صاحبه لا يعلمه بالشعور وإن كان يعلم بوجه آخر الشعور نوع من أنواع العلم وهو العلم بالحس فإن الشعور يتعلق بأجل المعلومات والاستعداد من أغمض المعلومات وأخفاها فلا يمكن تعلق العلم من حيث الشعور إليه بخلاف الحال فإنه أجل المعلومات لذلك قال : (ويشعر بالحال) أي وصاحب الحال يشعر بحاله (لأنه) أي صاحب الحال (یعلم الباعث) على السؤال بالحال بالبداهة وليس ذلك الباعث إلا (وهو الحال فإذا كان لا يشعر العبد استعداده (فالاستعداد) أي فسؤال الاستعداد (أخفى سؤال) لا يطلع عليه إلا من اطلع بعالم الأسماء والأعيان الثابتة.
فإن السؤال بلسان الاستعداد ما هو إلا سؤال الأسماء ظهور كمالاتها وسؤال الأعيان وجوداتها فكان هنا صنف من أهل الحضور لا يسألون باللفظ .
ويرجع قوله : (وإنما يمنع هؤلاء من السؤال) أي المذكور حكما لأنه لما قال : ومنها ما لا يكون عن سؤال فقد ذكر حكمة غير السائلين وإنما منع غير السائلين عن السؤال اللفظي (وعلمهم بأن الله فيهم) أي في حقهم (سابقة قضاء) أي حكمة سابقة عليهم في علمه الأزلي.
فلا بد أن يصل إليهم هذا الحكم السابق عليهم فهم بذلك قد خلصوا عن قيد الطلب والامتثال وحجابه (فهم قد هيئوا محلهم) أي اشتغلوا بتطهير قلوبهم عن التعلقات بالأمور الدينية (لقبول ما برد منه) حتى يبقى الوارد على ما كان عليه من الطهارة (وقد غابوا) بذلك عن (نفوسهم وأغراضهم) .
فكيف عن السؤال والطلب ولا سبيل عليهم حكومة الحال وهم صنف واحد ينقسم إلى صنفين واقفين على سر القدر .
وهو ما سيذكره المصنف وغير الواقفين عليه ولم يذكره المصنف لوضوحه غاية الإيضاح ببيان الواقفين .
وتقسيمه إلى قسمين و ما منع كلا منهم عن السؤال إلا علمهم الخاص بهم لكنهم لما اتحدوا في حد المنع الكلي .
وهو العلم بالقضاء السابق عليهم وكان بعضهم فوق بعض درجات من العلم لم يفرد بالمنع واقتصر على بيان مراتبهم في رتبة العلم بالله فقال : (ومن هؤلاء) أي من العلماء بالقضاء السابق عليهم أو من الصنف الذي منعهم علمهم هذا عن السؤال أر من عباد الله الذين من هذا الصنف (من) أي العبد الذي (يعلم أن علم الله به) .
أي بذلك العبد (في جميع أحواله) ظرف للعلم أي في إضافة جميع الأحوال اللازمة لوجوده الخارجي (هو ما) أي علم الله بوجوده في اتصافه بجميع أحواله هو العلم الذي كان ذلك العبد (عليه) أي على ذلك العلم.
(في حال ثبوت عينه قبل وجودها) أي قبل وجود العين أو قبل وجود الأحوال (ويعلم أن الحق لا يعطيه) أي العبد من الواردات (إلا ما أعطاه عينه) أي أعطى عين العبد الحق (من العلم به) أي بالعبد .
(وهو ما) أي الذي أعطاه العبد (كان) العبد (عليه) أي على ذلك العلم (في حال ثبوته) قبل وجوده
(فيعلم علم الله به من أين حصل) أي يعلم أن علم الله به سواء كان بعد الوجود أو قبله يحمل للحق من العبد ويعلم أن العلم الذي كان عليه العبد بعد الوجود هو عين العلم الذي كان عليه في حال ثبوته ووجوده وجميع أحواله فعلى كل حال العلم تابع لعين العبد (وما ثمة).
أي في صنف العالمين بالقضاء السابق (صنف من أهل الله أعلى واكشف من هذا الصنف) المعين بالعلم المذكور (فهم واقفون على سر القدر) دون غيرهم فإن غيرهم من أهل الله يعلم القضاء بأنه حكم الله والقدر بأنه تقدير ذلك الحكم ويعلم أن التقدير تابع الحكم والحكم تابع للعلم وهذا هو علم القدر والقضاء ولا يعلم أن علم الله تابع لعین العبد وهو سر القدر.
فعلم سر القدر أن يعلم أن علم الله به من أين حصل فلا يلزم من العلم بالقدر والعلم بسر القدر بخلاف سر القدر (وهم) أي الواقفون على سير القدر أو العلماء بأن علم الله به من أين حصل على قسمين منهم):
أي بعض منهم خبر مقدم (من يعلم ذلك) مبتدأ أي سر القدر أو العلم المذكور (مجملا ومنهم من يعلمه).
أي يعلم علم الله به او سر القدر (مفصلا والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا فإنه).
أي فإن الذي يعلم سر القدر مفصلا (يعلم ما في علم الله فيه) أي في حقه .
وذلك العلم يحصل له (إما بإعلام الله إياه بما) أي بسبب الذي (أعطاه عينه من العلم به وأما بان يكشف به) أي للعبد (عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى) وهذا هو العلم التفصيلي.
(وهو) أي كشف العلم عن العين الثابتة أو بالإعلام (أعلى) من العلم بالإجمال (فإنه) أي فإن الذي يعلم نفسه بالانكشاف عن عينه الثابتة أو بالإعلام (يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد) وهو العين الثابتة المعلومة.
ولما بين اتحاد علمي الحق والخلق أراد أن يبين الفرق بينهما وإن هذه المساواة من أي جهة كانت فقال : (إلا أنه) أي العلم من جهة العبد عناية من الله تعالى (سبقت له هي) أي العناية .
(من جملة أحوال عينه الثابتة يعرفها) أي العناية (صاحب هذا الكشف إذا) أي وقت (أطلعه الله تعالى على ذلك) أي على أحوال عينه (فإنه) إثبات لقوله : إلا أنه من جهة العبد عناية أي الشأن (ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله) أي وفت اطلاع الله إياه (علی أحوال عينه الثابتة) وهي الوجود العلمي (التي يقطع صورة الوجود) أي صورة الوجود الخارجي (عليها) أي على عينه الثابتة
(أن يطلع) ذلك المخلوق (في هذه الحال) أي حال اطلاعه على أحوال عينه المعروضة لوجوده الخارجي (على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها) أي في حال ثبوتها في علم الله تعالى قبل وقوع صورة الموجود عليها، يعني أن يطلع بعين اطلاع الحق.
(لأنها) أي اطلاع الحق تأنيث الضمير باعتبار وقوع الاطلاع على الأعيان الثابتة لذلك جمع (نسب ذاتية لا صورة لها) في الخارج إذ لم يكن موجودة فيه بخلاف العبد فإنه مخلوق على الصورة (فليس في وسع المخلوق) على الصورة أن يطلع على ما لا صورة له ويجوز أن يعود إلى الأعيان الثابتة باعتبار كونها في حال عدمها إلا أن الأنسب حينئذ أن يقول على أن يطلع على هذه الأعيان بدون قوله على اطلاع الحق ولا بد من ذكره إثبات للمساواة فلما لم يطلع العبد على ما ليس في وسعه قال : (فبهذا القدر) من المساواة : (نقول إن العناية الإلهية قد سبقت لهذا العبد بهذه المساواة) مع الحق (في إفادة) العين الثابتة (العلم) بالحق والعبد
(ومن هنا) أي ومن إفادة العين العلم للحق (يقول الله تعالى "حتى نعلم" وهي كلمة محققة المعنى) وذلك المعنی كون ما قبل حتى سببا لما بعدها .
فاختبر تعالى عباده بالتكاليف الشاقة ليعلم الصابرين على هذه التكاليف (ما هي) أي ليس حتى (كما) أي مثل الذي (يتوهمه من ليس له هذا المشرب) وهو المشرب الصوفي المحقق المنزه في مقام التنزيه .
وهو غناؤه تعالى عن العالمين وهو قوله تعالى: "والله الغنى وأنتم الفقراء" 38 سورة محمد.
وغير ذلك من الآيات الدالة على التقديس والمشبه في مقام التشبيه وهو ظهوره تعالى بصفات المحدثات .
وهو قوله تعالى: " حتى نعلم"31 سورة محمد. وقوله : " لنعلم من يتبع الرسول" 143 سورة البقرة .  وقوله : "مرضت فلم تعدني" وغير ذلك من التشبيهات .
وأما من لم يكن له هذا المشرب فمنزه فقط من كان الوجوه عن الحدوث والنقصان (وغاية المنزه إذا نزه أن يجعل ذلك الحدوث) الحاصل من المعلوم الحادث (في العلم للتعلق) لا للعلم .
(وهو) أي جعل الحدوث للتعلق لا للعلم (أعلى وجه بكون للمتكلم بعقله) أي بنظره الفكري كما كان للمتكلم بمشاهدته ووجد أنه (في هذه المسالة) أي في مسألة علم الله بالأشياء فيجعله الحدوث للتعلق .
اتصل بأهل الله من هذا الوجه في هذه المسألة (لولا أنه) أي لولا أن المتكلم بعقله (أثبت العلم زائدا على الذات فجعل التعلق له) أي للعالم (لا للذات) لم ينفصل عن المحقق من أهل الله حذف جواب لولا وهو قولنا لم ينفصل بقرينة قوله :
(وبهذا) أي و بإثبات العلم زائدا على الذات (انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود) أي صاحب الوجدان.
(ثم نرجع إلى) تفصيل (الأعطيات) التي ذكرت أولا إجمالا (لنقول إن الأعطيات إما ذاتية أو اسمائية فاما المنح والهبات والعطايا الذائية) الظاهرة في الوجود الخارجي (فلا تكون أبدا إلا عن نجلي إلهي) أي عن التجلي الذي يحصل من حضرة الاسم الجامع من حيث الاسم الظاهر .
فالمراد به تجلي الفيض المقدس لا الأقدس يدل عليه قوله : (والتجلي من الذات لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد المتجلي له) فإن التجلي بصورة استعداد المتجلي له لا يكون إلا في الفيض المقدس.
فإذا كان المتجلي له قابة لتجلي الذات من حضرة الاسم الجامع تجلي الذات من حضرة الجامعة.
فذلك هو المسمى بالتجلي الإلهي الحاصل عنه العطايا الذاتية .
وهو قوله : فلا يكون أبدا إلا عن تجلي إلهي وإذا كان قابلا لتجلي الذات من حضرة من حضرات الأسماء .
تجلي عن تلك الحضرة فذلك هو المسمى بـ التجلي الصفاتي والأسمائي التي يحصل منه العطايا الأسمائية.
(غير ذلك لا يكون) تأكيد (فإذن المنجلي له ما رأی سوی صورته في مرآة الحق) أي فعلی تقدیر كون التجلي بصورة استعداد المتجلي له ما رأى المتجلي له في أي تجلي كان إلا صورة نفسه في وجه مرآتية الحق له في رؤية صورة نفسه فإضافة المرآة إلى الحق بيانية لذلك قال: (وما رأى الحق) ولم يقل وما رأی مرآة الحق (ولا يمكن أن يراه) لاختفائه واستتاره بصورة استعداد الرائي فاحتجب نظر الرائي عن الحق بصورة نفسه.
(مع علمه أنه ما رأی صورته إلا فيه) لعلمه أن صورته لا يقوم بذاته بل يقوم بذات الحق فكان عالما بالحق برؤية صورته فيه فلا يحجب صورته عن علمه بالحق كما يحجب عن رؤية الحق .
(كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصور فيها لا تراها) لمنع رؤية الصورة عن رؤية المرآة (من علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها) وذلك ظاهر.
(فابرز الله) أي أظهر الله (ذلك) الموجود المشاهد (مثالا نصبه) أي أقامه حجة (لتجليه الذاتي ليعلم المتجلي له أنه ما رآه ) أي الحق كما لم ير المرأة إذ كل ما في الشهادة دليل على ما في الغيب (وما ثمة) أي وليس في عالم الشهادة مثال أقرب ولا أشبه مثالا (بالرؤية والتجلي من هذا) المثال (واجهد في نفسك) بكليتك (عندما نرى) .
أي عند رؤيتك (الصورة في المرأة أن نرى جرم المرأة لا تراه أبدا البتة حتى أن بعض من أدرك مثل هذا) أي أدرك عدم رؤية المرايا (في صور المرايا ذهب إلى أن الصورة المرئية) حاصلة (بين بصر الرائي وبين المرآة) لا في المرآة.
لذلك حاجبة عن رؤية المرآة فقد أصاب هذا البعض في إدراك عدم رؤية المرآة عند رؤية الصورة لكن أخطأ فيما ذهب إليه.
لأنه لم يدرك أنه مثال لتجليه الذاتي (وهذا) أي المذكور (أعظم ما قدر) على البناء للمفعول أو للمعلوم (عليه) أي على العبد (من العلم والأمر كما قلناه وذهبنا إليه) في التجلي الذاتي والمرآة لا كما زعم البعض (وقد بينا هذا تفصيلا في الفتوحات المكية) فليطلب ثمة (وإذا ذقت هذا) المذكور (ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في ان ترقي في أعلى من هذا الدرج فما هو ثمة) .
أي فليس في هذا الدرج الذي هو الوجود المحض مقام موجود غير هذا المقام (أصلا) قطعا (وما بعده إلا لعدم المحض) إذ ما يكون وراء الوجود المحض إلا العدم المحض.
(فهو مرآتك في رؤيتك نفسك) عند تجليه لك بصورة استعدادك (وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها وليست) الصورة المرئية في الحق وهي أنت (سوى عينه) بل هي عين الحق .
وبه امتاز عن المرآة في المشاهدة فإن مرآة الحسي غير الصور المرئية فيها (فاختلط الأمر) أي اختلط أمر المرئي وهو الصورة والمرآة وهو الحق في عين الناظر بسبب مشاهدته أن نفسه عین الحق إذ لا اختلاط في الواقع.
(وأبهم) أي وأشكل على التمييز بينهما ولهذا اختلف أهل التجلي الذاتي بأن كان بعضه فوق بعض في رتب العلم بالله (فمنا) أي فمن أهل التجلي (من جهل في علمه) بأمر المرئي أو علم نفسه ولم يعلم أنه عبد أو حق.
ولم يحكم على المرئي حكمة من العبودية أو الربوبية نعجز في علمه (فقال العجز عن درك الإدراك إدراك) فالتقاعد والعجز عن درك ما يعجز عن إدراكه غاية الإدراك .
فالعجز أعلى المقام في حق هذا المشرب لا في الواقع فهو عالم وجاهل من أن الرؤية تعطي العلم لكنه لم يعلم أي شيء هو.
(ومنا من علم) الأمر على ما هو عليه فعلم أن نفسه عین الحق من وجه وغيره من وجه . فميز بينهما في كل مقام (فلم يقل بمثل هذا) أي بمثل ما قال من جهال في علمه.
(وهو) أي عدم قول من علم (أعلى القول) أي قوله من عجز في علمه (بل أعطاه العلم السكوت) أي بل أعطى علم من علم السكوت (كما اعطاء العجز)، أي كما أعطى علم من جهل العجز.
والعلم الذي أعطى السكوت أعلى مرتبة من العلم الذي أعطى العجز .
فكيف لم يكن السكوت أعلى من القول (وهذا) أي الذي أعطى علمه السكوت ولم يظهر العجز (هو أعلى عالم بالله) من الصنف الآخر.
(وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء) أي لا يتأتى علم العطايا الذاتية الذي أعطى السكوت لا حد من الله بالذات إلا لخاتم الرسل من حيث رسوليته وخاتم الأولياء من حيث ولايته .
والمراد بخاتم الأولياء ههنا خاتم الولاية المحمدية يدل عليه قوله من بعد وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا فقد ذكر في الفتوحات أنه رأى هذه الرؤيا فعبرها بانختام الولاية فذكر منامه للمشايخ الذين كان في عصرهم ولم يقل من الرأي فأولوه بما عبر به .
والظاهر أن المراد بخاتم الأولياء نفسه رضي الله عنه ومن قال : المراد بخاتم الأولياء عيسى عليه السلام اختلط عليه الأمر.
فإن عيسى عليه السلام خاتم الولاية العامة والولاية الخاصة المحمدية غير الولاية العامة وكذا ختمهما .
فعیسی علیه السلام، وإن كان رسولا وخاتما للولاية العامة لكنه يأخذ العلم من مشكاة ختم الولاية كسائر الأنبياء والرسل (وما يراه أحد من الأنبياء والرسل من حيث نبوتهم ورسالتهم (إلا من مشكاة الرسول الخاتم ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم حتى أن الرسل) من كونهم أولياء (لا يرونه) أي لا يأخذون هذا العلم (متى رأوه) أي متى أخذوه (إلا من مشكاة) أي من مرتبة (خاتم الأولياء) وإنما لم يروا الرسل هذا العلم إلا من مشكاة خاتم الأولياء.
(فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته) لا الرسالة والنبوة بمعنى الإخبار عن الحقائق الإلهية فإنهما لا تنقطعان (تنقطعان) لكونهما من الصفات البشرية وهما ظاهر الولاية والظاهر لا يرى ما يراه من كونه باطنا إلا من مشكاة الباطن (والولاية لا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعة في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك) .
أي كون خاتم الأولياء تابعا لما جاء به الرسول الختم (لا يقدح في مقامه) أي لا يمنع متبوعيته لخاتم الرسل فيما ذكرناه (ولا يناقض) كونه تابعا (ما ذهبنا إليه) من أنه متبوع في ذلك العلم الخاص .
(فإنه) أي خاتم الأولياء (من وجه) أي من حيث إنه تابع لخاتم الرسل (يكون أنزل) أي تحت خاتم الرسل في هذه المرتبة.
(كما أنه من وجه) أي من حيث إنه متبوع له (يكون أعلى) أي فوقه فيما ذكرنا فلا يناقض ولا ينبغي أن يتوهم أفضلية خاتم الأولياء على خاتم الرسل وغيره في ذلك الوجه الخاص.
وهو كونه متبوعا لخاتم الرسل في رتبة علم التجلي الذاتي لأن قوله من وجه يكون أعلى لا يدل إلا على تقدمه في ذلك العلم ولا يلزم منه الأفضلية في تلك المرتبة.
فإن أفضلية الممكن وشرفه ليست بالتقدم والمتبوعية سواء كان في رتب العلم بالله أو في غيره ولا في حد ذاته وإنما كانت أفضليته بتكريم الله تعالى إياه وتشريفه.
كقوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم " 70 سورة الإسراء. أي جعلناه مكرما فكان مكرما من عند الله لا من عند نفسه ومرتبته .
و كقوله : "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض" 253 سورة البقرة . فكان فضل بعض على بعض بتفضيل الله تعالى ."وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)" سورة النساء.
كما قال الشيخ رضي الله عنه فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفة وما ورد النصوص على أفضلية الأنبياء وسيادتهم عند الله على الأولياء إلا على الإطلاق وفي كل مرتبة .
فما كان الممكن شريعة و فاضلا إلا بالنص الإلهي لا بالمتبوعية في رتب العلم.
ألا ترى أن علم الله تابع للعموم والمعلوم أنت وأحوالك وهل يلزم من التقدم في تلك المرتبة أفضليتك من هذا الوجه .
فإن الله محيط من ورائهم من وجوداتهم وأحوالهم من الظواهر والبواطن وليست ذات المعلوم وماهيته أمرا مستقلا في نفسه حتى يكون الواجب الوجود لذاته بل هو أثر حاصل من تجليات أسمائه وصور علمه فلا جعل في نفس الماهية.
فإن الله تعالى موجب لأسمائه وصفاته ومقتضياتهما ومختار في إعطاء الوجود إلى الماهية فالجعل لا يكون إلا بعد مرتبة الصفات والأسماء ومقتضياتهما فذات المعلوم.
تجميع أحواله من المتبوعية وغيرها كل ذلك من إعطاء الله تعالى وإنما يثبت أفضليته من حيث هو متبوع على التابع إذا لم يكن متبوعية ذلك المتبوع من التابع، فكان التابع من حيث إنه تابع أفضل من المتبوع من حيث إنه متبوع لكون المتبوعية له من إعطاء التابع..
فكان الله أعلى وأشرف على معلوماته من كل الوجوه .
فكذلك ختم الرسل لكونه جامعا لجميع المراتب التي كانت في حق المخلوق فهو محیط بجميع المراتب الإمكانية وتابعيه ختم الرسل بختم الأولياء تابعية صاحب القوى قواه في أخذ مراداته .
وكذلك صاحب الأسباب تابع لأسبابه لتحصيل بعض أفعاله فكان خاتم الأولياء مرتبة من مراتب ختم الرسل .
وهو معنى قوله وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل وهو معنى قوله : فما يلزم الكامل وبه أخذ من خزينة الحق هذا العلم كما أخذه عن جبرائيل عليه السلام علم الشرائع وهو "خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم" مفضل على جبرائيل بالنص الإلهي .
والنص على إطلاقه فلزم أنه مفضل عليه من كل الوجوه . فثبت بالنص أن خاتم الرسل مفضل على خاتم الأولياء في ذلك الوجه لعموم النص على جميع الوجوه فخاتم الأولياء خادم لختم الرسل لأخذه هذا العلم عن المعدن .
فكان المراد من قوله من وجه يكون أعلى بيان لزيادة مرتبة خاتم الأولياء من الوجه المذكور ولا يلزم منه الأفضلية من هذا الوجه عند الله إذ الزائد قد يكون أدنى من الإنزال لتوسط الإنزال .
فأنزلية ختم الرسل منه من جملة كمالاته ليست بمعنى الدناءة وقد نزل القرآن وحمد على تنزيله ولو دليتم بحبل لهبط على الله .
فنزول الشريف اللطيف عين كماله ، ولما بين مرتبة خاتم الأولياء أورد الدليل الشرعي على ما ذهب إليه تسهيلا لفهم الطالبين .
فظهر أن المقصود بيان تقدم مرتبة خاتم الأولياء من وجه فقال : (وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه) من أن الشيء الواحد أنزل من وجه وأعلى من وجه (في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم) كما ذكر قصته في كتب التفاسير (و) قد ظهر (في تأبير النخل) كما ذكر حديثه في كتب الأحاديث والفضل ههنا بمعنى الزيادة في هذه المسألة لا بمعنى المفضل والمكرم عند الله.
(فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة) فإن الرسول لم يتقدم فيهما على أصحابه فقال :" أنتم أعلم بأمور دنياكم " لكن هذا التقديم ليس من الأمور التي تثبت بها الفضيلة المعتبرة عند أهل الله لكونه في الأمور الدنية الخسيسة.
فهم وإن كانوا يتقدمون في هذه المرتبة الدنية لكنهم تابعون للرسول في المرتبة الشريفة وهي مرتبة العلم بالله .
فتأخير الرسول في الأمور الدنية عين كماله لأن هذا العلم الذي أخذه الرسول منهم يمد لهم من روحه .
فخاتم الأولياء وإن كان له التقدم في هذا الوجه من رتب العلم بالله لكنه تابع لختم الرسل في رتبة من رتب العلم بالله وهو علم الشريعة الشريفة على كل مرتبة من رتب العلم بالله .
و علی علم خاتم الأولياء الذي أخذه عن الرسول لذلك سمي بالشرع المطهر .
ألا ترى كيف أبي موسى الخضر في العلم اللدني فقال : "قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)" سورة الكهف.
ولم يلزم من أعلمية الخضر من موسى في هذا الوجه أفضليته على موسى لأن الخضر تابع في الحكم بما جاء به موسى من علم التشريع.
وهذا العلم أفضل وأعلى من العلم اللدني (وإنما نظر الرجال) الذي يعلمون الأمور على ما هي عليه ويميزون المراتب (إلى التقدم في رتب العلم بالله هنالك مطلبهم وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها) .
ولما كانت هذه المسألة أعلى المسائل الإلهية وأنفعها أوصى لاهتمامها فقال : (فتحقق ما ذكرناه) فإن الأمر في نفسه على ما بيناه لك (ولما مثل النبي عليه الصلاة والسلام النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل) الحائط (سوی موضع لبنة واحدة) قوله (فكان عليه السلام تلك اللبنة) جواب لما أي كان نفسه في رؤياه تنطبع بتلك اللبنة التي ينتمي الحائط عنها ويكمل بها.
(غير أنه لا يراها) أي تلك الرؤيا (إلا كما قال لبنة واحدة) أي تمثيله عين رؤياه في حق نفسه.
(وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا) دليلا له على ختميته في الولاية .
(فیری ما مثله به) أي بالحائط (رسول الله فیری في الحائط موضع لبنتين واللبن من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما لبنة فضة ولبنة ذهب)
قوله: (فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تلك اللبنتين) جواب إما (فيكون خاتم الولاية تلك اللبنتين فيكمل الحائط) بهما كما يكمل بلبنة واحدة في رؤیا ختم الرسل لوجوب التطابق بينهما وهذه الرؤيا مختصة لخاتم الولاية المحمدية لاشتراكه في المشكاتية والختمية.
وإما خاتم الولاية العامة فاشتراكه في الختمية دون المشكاتية فلم يلزم هذه الرؤيا له (والسبب الموجب لكونه) أي لكون خاتم الأولياء (يراها لبتين أنه) أي خاتم الأولياء (تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر) لأن ولاية الولي لا تحصل ولا تتم إلا بتبعيته للرسل.
(وهو) أي كون خاتم الأولياء تابعا (موضع اللبنة الفضية وهو) أي موضع هذه اللبنة (ظاهره) أي ظاهر خاتم الأولياء (وما يتبعه فيه من الأحكام) يعني صورة اتباعه لخاتم الرسل في الأحكام الشرعية .
فكان الحائط في حق ختم الرسل حائط النبوة واللبنة الفضية لبنته ولذلك مثلها به وأما في حق خاتم الأولياء فحائط الولاية فكانت اللبنة الفضية جزءا من حائط الولاية في حق هذا الرائي كاللبنة الذهبية .
فخاتم الرسل هو الذي لا يوجد بعده نبي مشرع فلا يمنع وجود عیسی بعده ختميته لأنه نبي متبع لما جاء به خاتم الرسل .
وكذلك خاتم الأولياء بالولاية الخاصة هو الذي لا يبقى بعده ولي في قلب خاتم الرسل ولا وارث بعده للولاية المحمدية .
ولا يمنع أيضا ختميه وجود الأولياء الوارثين لسائر الأنبياء بعده.
(كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه) أي كما أن خاتم الأولياء متبع لختم الرسل بالصورة الظاهرة فيما أخذه عن الله في السر فيرى صورة أخذه وصورة اتباعه فيما أخذه.
فقوله بالصورة يتعلق بمتبع وإنما وجب الرؤية هكذا (لأنه) أي لأن خاتم الأولياء (يري الأمر) أي يرى جميع الأمور (على ما هو عليه ولا بد أن يراه) أي أن يرى أمر نفسه (هكذا) أي على ما هو عليه من أخذ واتباع ومشكاتية وختمية وغير ذلك من الأمور التي كانت في حق نفسه.
(وهو) أي أخذه هذا العلم عن الله (موضع اللبنة الذهبية في الباطن) وإنما أخذ هذا العلم عن الله (فإنه) أي لأن خاتم الأولياء (أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي) الحق ما أخذه الملك من هذا المعدن (به) أي بواسطة الملك (إلى الرسول) فهذا المعدن ليس إلا هو الحق فإن كان معدن العلمين واحدا فما كان علم الباطن إلا وجها خاصا من وجوه الشريعة.
وهو الذي لا يعلم إلا عن الكشف الإلهي الذي لا يحصل إلا بعد تحصيل الولاية فهما متحدان في المآل.
لذلك يسمى علم التأويل بل هو أصل علم الشريعة وروحه ولا مخالفة بينهما إلا عند أهل الحجاب (فإن فهمت ما أشرت به) من الختم والمشكاة وغير ذلك.
فخذ واعمل به (فقد حصل لك العلم النافع) الذي تفتح منه علوم كثيرة نافعة لك في الدنيا والآخرة ، إذ هو العلم الكلي الذي هو أجل العلوم (فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد ياخذ) النبوة (إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تاخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود) في جميع العوالم (وهو) أي معنى وجوده بحقيقته معنى (قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث .
وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيل شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله يسمى بالولي الحميد فخاتم الرسل من حيث ولابته نسبته مع الختم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه) وإنما كانت نسبته معه كذلك (فإنه) أي لأن خاتم الرسل (الولي الرسول النبي وخاتم الأولياء الولي الوارث الأخذ عن الأصل المشاهد للمراتب) فكانت ولايته مقدمة على ولاية ختم الرسل كما تقدمت على ولاية سائر الأنبياء.


ولما توهم من ظاهر كلامه أفضلية ختم الولاية على ختم النبوة دفع هذا التوهم بقوله (وهو) أي خاتم الأولياء (حسنة) أي أعلى مرتبة (من حسنات خاتم الرسل محمد) عليه السلام أي من مراتبه العالية، فكانت ختمیته ومشكاتيته من ختم الرسل لأن العلم الذي يأخذ عن الله تعالى في السر ويعطى ختم الرسل لا يأخذ إلا بولاية منشعبة من ولاية ختم الرسل .
وفي التحقيق يأخذ عن الله بسببه ويعطى إليه بسببه فكان تقدمه في هذا الوجه تقدم الجزء على الكل فلا فضل على ختم الرسل بأي وجه كان كما قلنا لك من قبل (مقدم الجماعة) أي جماعة الأنبياء والأولياء كلها (وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة) يوم القيامة.
(فعین) محمد عليه السلام وهو تقدمه على جميع أولاد آدم باعتبار وجوده الشخصي (حالا خاصا) وهو الفتح (ما عمم) إذ التعميم لا يكون إلا بحقيقة الكلية فلا يلزم منه تقدمه في جميع الأمور (وفي هذا الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين ففاز محمد عليه السلام بالسيادة في هذا المقام الخاص).
وهو معظم الأمور مع أنه لا يلزم منه فضل محمد على الرحمن لأن فوزه بهذه السيادة لا يكون إلا من الرحمن .
وإنما يلزم ذلك أن لو كان ذلك الحال حاصلا له من غير احتياج إلى الرحمن وهو ممتنع (فمن فهم المراتب والمقامات) على ما هي عليه (لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام).
لما فرغ عن بيان العطايا الذاتية شرع في بيان العطايا الأسمائية
فقال : (وأما المنح الأسمائية) فعلى أنواع حذف الجواب للعلم به وفي بعض النسخ (فاعلم) فحينئذ يكون الجواب فاعلم (أن منح الله تعالی) أي اعتبار الذات بجمعية الأسماء فكانت العطايا الحاصلة كلها اسمائية وفى العطايا الذاتية اعتبارها بحسب نفسه فكانت العطايا الحاصلة منه كلها ذاتية إلهية .
(خلقه رحمة منه بهم وهي) أي الرحمة أو المنح (كلها) أي أنواعها وأصنافها (من الأسماء) لكونها من حضرة من الحضرات الإلهية الجامعة بجميع الأسماء والصفات.
(فأما رحمة خالصة كالطيب من الرزق اللذيذ في الدنيا الخالص يوم القيامة ويعطي ذلك العطاء اسم الرحمن فهو عطاء رحماني وأما رحمة ممتزجة بنقمة كشرب الدواء الكريه الذي تعقب شربه الراحة) ويعطي ذلك اسم الله على يد الرحمن من حيث جامعيته للصفات المتقابلة لذلك كان العطاء الحاصل منه رحمة ممتزجة (وهو عطاء إلهي) وإنما كانت منح الله تعالی كلها من الأسماء.
(فإن العطايا الإلهية) أي العطايا الحاصلة من حضرة الاسم الجامع (لا يمكن إطلاق عطائه منه) أي لا يمكن حصول العطاء من هذا الاسم الأعظم (من غير أن يكون على يد سادن) أي خادم (من سدنة الأسماء).
فإذا لم يكن عطاء اسم الله للعبد إلا على يد اسم من أسماء الله تعالى (فتارة يعطي الله العطاء العبد على يد الرحمن فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت) أي وقت العطاء ولو غير خالص في المال فهذا هو عطاء ممتزج ورحمة ممتزجة وعطاء إلهي حاصل مع الله تعالى على يد الرحمن .
لكن لا يسمى رحمانية بل يسمى مثل هذا القسم إلهية وفيه إشارة إلى أن يد الرحمن لها مدخل في جميع العطايا التي تحصل على أيادي الأسماء فرحمة الله واسعة على كل شيء (او لا ينيل الغرض) أي أو يخلص العطاء من الشوب الذي لا ينال به الطبع غرضه .
(وما أشبه) ذلك الشوب في عدم ملائمة الطبع أو عدم نیل الغرض (فتارة يعطي الله العبد على يد الواسع فيعم) هذا العطاء جميع أحوال العبد وأوقاته وينال العبد بذلك العطاء غرضه في كل وقت يريد (أو على يد الحكيم فينظر في الأصلح في الوقت) فيعطي ما هو الأصلح للعبد في ذلك الوقت.
(أو على يد الواهب فيعطي لبنعم) من أنعم أي إظهار الأنعام و كرمه (ولا يكون مع الواهب تكليف المعطى له بعوض على ذلك) العطاء (من شكر أو عمل أو على يد الجبار فينظر في المواطن وما يستحقه) من القهر .
والجبار ههنا بمعنى القهار بمقابلة قوله : (او على يد الغفار) أو بمعنى يجبر الكسر (فينظر في المحل وما هو عليه) من الأحوال (فإن كان على حال يستحق العقوبة فيستره عنها أو على حال لا يستحق العقوبة فيستره على حال يستحق العفوية فيسمى معصومة به ومحفوظة وغير ذلك مما يشاكل هذا النوع)
كله من العطايا الأسمائية (والمعطي) الحقيقي (هو الله) لكن (من حيث ما) أي من حيث الاسم الذي (هو خازن لما عنده) أي لما حصل عند هذا الاسم (من خزائنه) أي من خزائن الله .
ولما كان الأمر هكذا (فما يخرجه) أي فما يخرج الحق من الخزينة أمرا للمعطى له (إلا بقدر معلوم) أي بمقدار ما قدر للمعطى له في علمه الأزلي بلا زيادة ونقصان فمن شاهد هذا فقد خلص عن تعب الطلب وكان هذا الإخراج (على يد اسم خاص بذلك الأمر) المخرج من الخزينة المخصوصة (فأعطى كل شيء خلقه على يد الاسم العدل وأخواته) فمن فهم هذا برأ عن اضطراب الاعتراض .
فإن العدل ناظر إلى ما اقتضاه عين المخلوق فخلق كل شيء بحسب اقتضاء عينه وعين الشيء ليس بمجعول وكذا الاقتضاء صفة ذاتية لازمة له .
(وأسماء الله تعالى وإن كانت لا تتناهي لأنها تعلم بما يكون عنها) أي بآثارها( وما يكون عنها غير متناهية)
فكانت أسماء الله تعالى بهذا الاعتبار غير متناهية (وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمهات الأسماء أو حضرات الأسماء) فكانت أسماء الله تعالى دائرة بين التناهي وعدم التناهي.
(وعلى الحقيقة) أي وكان في التحقيق (فما ثمة) أي فما في مقام الأسماء المتكثرة (إلا حقيقة واحدة) وهي الذات الإلهية (تقبل جميع هذه النسب والإضافات التي يكنى عنها بالأسماء الإلهية) مع كونها باقية على وحدتها الحقيقية (والحقيقة) الواحدة التي تقبل جميع النسب .
وتفسير البعض بقوله أي التحقيق يقتضي أن يكون لكل اسم حقيقة مميزة له خطأ لأنها نكرة معادة معرفة فهي عين الأول (تعطي أن يكون لكل اسم مظهر إلى ما لا يتناهی) أي له مظاهر غير متناهية (حقيقة يتميز بها عن اسم آخر) أي يتميز الاسم بتلك الحقيقة من غيره من الأسماء.
(وتلك الحقيقة التي بها يتميز هي) مبتدأ ثان (الاسم) خبره (عينه) بدل من الاسم أي هي عين الاسم إذ حقيقة الشيء عين ذلك الشيء فامتیازه بتعين غير زائد على نفسه أو الاسم مبتدأ ثالث عينه خبر أي الاسم عين هذا الحقيقة ذكر الضمير باعتبار الاسم فاندفع توهم المغايرة من قوله تعطي لكل اسم حقيقة يتميز بها (لا ما يقع فيه الاشتراك) أي تلك الحقيقة ليست هي عين الحقيقة المشتركة التي هي الذات الإلهية المشتركة بين الأسماء وليس معنى الاشتراك اشتراك الجزئيات في الكلي ولا اشتراك الصور في المرايا في ذوي الصورة ولا اشتراك الأوصان في ذاتك وإنما مسنى الاشتراك توجه الواحد الحقيقي إلى جهة خاصة لكمال خاص بتلك الجهة مع بقاء الحضرة الواحدة على وحدته بحيث لا يمنع كل من التوجه التوجه الآخر فما كانت الأسماء والصفات إلا التوجهات الأولية الذاتية الإيجابية ، وما بعدها كلها توجهات ثانية اسمائية إختبارية فكانت الأسماء كلها مشتركة في دلالتها على الذات ومميزة بحقيقتها المختصة التي هي عينها وهذا لا يعرف إلا بالذوق، ولصعوبة هذا المقام أورد دليلا مشاهدا بالحس تسهيلا للطالبين.
فقال : (كما أن الأعطيات تتميز كل أعطية) أي كل واحدة منها عن غيرها بشخصيتها وإن كانت العطايا (عن أصل واحد) وهو الذات الإلهية .
(فمعلوم أن هذه) العطايا (الأخرى بسبب ذلك) أي وما سبب تميز العطايا (إلا تميز الأسماء) وهو استدلال من الأثر وهو تميز العطايا إلى المؤثر وهو تميز الأسماء إذ عند المحققين ما من موجود في الشهادة إلا وهو مصورة ما في الغيب ودليله هذا دليل على تميز العطايا وأما الدليل على تميز الأسماء.
فهو قوله : (فما في الحضرة الإلهية) أي حضرة جمعية الأسماء (لاتساعها شيء يتكرر أصلا) والتكرار إنما يكون بضيق المقام وقال تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء"107 سورة الأعراف.
فإذا ثبت تميز كل شيء من الأشياء ثبت تمیز الأسماء (هذا) إشارة إلى كل ما ذكر في العطايا الأسمائية (هو الحي الذي يعول عليه) عند أهل الحقيقة (وهذا العلم) أي علم العطايا الأسمائي (كل علم شيث) عليه السلام (وروحه هو الممد لكل من يتكلم في مثل هذا) العلم (من الأرواح ما عدا روح الختم) أي روح ختم الرسل (فإنه لا يأتيه المادة) أي لا يأتي إليه مدد هذا العلم (إلا من الله تعالى لا من روح من الأرواح بل من روحه يكون المادة لجميع الأرواح)
فتقدم ختم الرسل على ختم الأولياء وعلى شيث في هذا العلم .
وكذلك شيث تقدم على جميع الأرواح وعلى روح خانم الأولياء لكونه بیده مفتاح الخزائن الأسمائية كما أن بيده مفتاح الخزائن الذاتية .
(وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه) أي وإن كان لا يعلم ذلك الإمداد من روحه لجميع الأرواح (في زمان تركيب جسده العنصرية لاحتجابه عن علم هذا بسبب وجوده بالجسد العنصري.
(فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك) أي بكون المادة لجميع الأرواح من روحه (كله بعينه) تأكيد والضمير لكل أي عالم بكل واحد من الأرواح بشخصه وبتعينه والاستمداد الخاص به وإمداد روحه لكل واحد منهم ما يناسبه استعداداتهم وأحوالهم بحيث لا يفوته عن علم ذلك شيء.
(من حيث ما هو جاهل به) أي كما أنه من حيث الذي جهل به (من جهة تركيبه العنصري) بيان من حيث ما (فهو العالم الجاهل) لكن جهله عين كماله كما بين في موضعه (فيقبل الاتصاف بالأضداد) بالاعتبارين.
(كما يقبل الأصل الاتصاف بذلك) أي بالأضداد لكنه باعتبار واحد كما بين في موضعه (كالجليل والجميل و كالظاهر والباطن والأول والآخر وهو عينه وليس غيره) أي خاتم الرسل من حيث حقیقته عین الحق وإن كان من حيث جسده العنصري غيره .
و معنی عینیته من حيث الحقيقة كونه على صفته لا غير (فيعلم) من حيث كونه عمن أصله (لا يعلم) من حيث كونه غبره ومن أجل هذين الوجهين ينسب إليه ما ما ينسب الى الأصل غير الوجوب الذاتي وما لا ينسب إليه وكذا قوله : ( و يدري لا يدري ويشهد لا يشهد) والمراد من انصاف هذا الكامل بالأضداد انصافه بالصفات اللائقة لحضرة الإمكان من النقصان والكمال .
لذلك قال فهو العالم الجاهل فيعلم لا يعلم والمراد من اتصاف الأصل اتصافه بالصفات الكاملة اللائقة لحضرة الوجوب .
لذلك قال كالجميل والجليل فمن قال كما أن أصله بعلم في مرتبة الإلهية ولا يعلم في مرتبة ظهوره في صورة الجاهلين مع أنه سوء أدب مع الله فقد أخطأ في فهم المراد من المقام.
ولما فرغ من أحوال ختم الرسل رجع إلى شيث فقال : (وبهذا العلم) أي بسبب علمه العطايا الأسمائية (سمي شیث لأن معناه) أي معنى شيث (هبة الله) فإذا كان هذا العلم مختصا بشيث عليه السلام
(فبيد، مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها) فلا يأخذ أحد ما عدا روح الخاتم من هذه الخزائن شيئا إلا بشيث و إنما كان مفتاح العطايا بيده (فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه) .
فكان عليه السلام أول مظهر للفتوحات الاسمائية لآدم وأول سببه فتح الله به عطاياه فكان مفتاح العطايا بيده (وما وهبه) لآدم (إلا منه) أي إلا وهبه من نفس آدم.
وإنما كان ما وهبه إلا منه (لأن الولد سر أبيه) ليس أمرا خارجة عن وجود أبيه (فمنه خرج) في صورة النطفة (وإليه عاد) بصیرورته على صورة أبيه فالهبة عبارة عن الإخراج والإعادة .
فإذا كان الولد سر (فما أتاه) أي فما أتي الولد أباه (غريب) أي على غير صورة أبيه بل أتي على صورة أبيه لذلك أحبه .
وإذا لم يأت على صورته استكره ونفر منه وليس له ولد ولا بد لسر الشيء بأن يعود إلى ذلك الشيء .
أو فما أتاه عن خارج نفسه قعوده إليه منه (لمن عقل عن الله) أي لمن كان على بصيرة من ربه و علم الأشياء على ما هي عليه (وكل عطاء في الكون على هذا المجرى) أي وكل ما وهب الله للعباد من العطايا ليس إلا منهم وإليهم وإذا كان عطاء الحق على هذا.
(فما في أحد من الله شيء) من العطايا إلا منه وإليه حتى الوجود منه وإليه بأمر الله وهو قول كن (وما في أحد من سوى نفسه شيء) فكان العطاء الذي خرج من نفسه وعاد إليه عين نفسه لا غير .
(وإن تنوعت عليه الصور وما كل أحد يعرف هذا) أي ما قلناه (وإن الأمر على ذلك) أي وما يعرف أن أمر العطاء على ما بيناه في نفس الأمر فقوله يعرف هذا يتعلق بالمذكور.
وقوله : وإن الأمر على ذلك يتعلق بمطابقتة في نفس الأمر الأول مرتبة التصور الثاني التصديق (إلا آحاد من أهل الله) وهم الذين تحققوا بالتجليات الأسمائية ووقفوا بأسرار الأسماء والصفات.
(فإذا رأيت من يعرف ذلك فاعتمد عليه) فإنه من كبار الأولياء يرشدك إلى مقصودك (فذلك) العلم (عين صفاء خلاصة) وهي العلوم العالية الصافية الخالصة عن شرب كدورات النفسانية .
وكيف لم يعتمد من يعرف بمثل هذا العلم (خاصة الخاصة) الخاصة أهل التجلي الصفاتي وخاصة الخاصة أهل التجني الذاتي.
(من عموم أهل الله) أي من جمهور أهل الله فإذا لم يكن في أحد من الله شيء ولا في أحد من سوى نفسه شيء (فای صاحب كشف شاهد صورة تلقى إليه) قوله : (ما لم يكن عنده) مفعول تلقی (من المعارف) بیان لما .
(وتمنحه) أي ويوهب تلك الصورة (ما لم يكن قبل ذلك في يده) فجملة تمنحه عطف على حملة تلقى إليه للإيضاح (فتلك الصورة) الملقية إليه (عينه) أي عين الملقى إليه (لا غيره فمن شجرة نفسه) أي وإذا كانت تلك الصورة عينه كانت من شجرة نفسه.
(جني ثمرة غرسه) يعني غرس شجرة نفسه وثمرتها وما تلقى إليه أي من المعارف كل ذلك مستندة إلى العبد وما استند إلى الله إلا الإعطاء خاصة على أيدي الأسماء.
بطلب العبد فكان فصوص الحكم من ثمرة غرسه قدس سره تلقى إليه على يد رسول الله عليه السلام .
فالرسول ليس من ثمرة غرسه ولا هو عينه بل هو خاتم الرسل فلا يكون العبد مفيضا على نفسه بل يحتاج إلى فياض آخر غيره .
وإن كانت هذه الثمرة في غرسه ومن قال في هذا المقام العبد هو المفيض على نفسه لا غير فقد أخطأ.
ولما فرغ عن الكلام في المعاني الغيبية شرع في الصورة الظاهرة إيضاحا وتسهيلا للطالبين.
فقال (كالصورة الظاهرة) أي مثال الصورة الملقية إلى صاحب الكشف في العينية هو الصورة الظاهرة (منه في مقابلة الجسم المقبل ليس غیره) أي كما أن هذه الصورة ليست غيره بل عينه كذلك هذه الصورة المعنوية ليس غیره (إلا) استثناء عن قوله فتلك الصورة عينه لا غيره لبيان وجه المغايرة (إن المحل أو الحضرة) وهي حضرة الخيال (التي رأى فيها صورة نفسه تلقى إليه) أي تلقي تلك الحضرة تلك الصورة إلى الرائي (تتقلب من وجه) وذلك التقلب (لحقيقة تلك الحضرة) أي لأجل اقتضاء حقيقة تلك الحضرة .
وذلك لا ينافي عينيتها بحسب الحقيقة فشبه أيضا هذه المعاني المثالية بالظاهر للإيضاح وتطبيق الظاهر بالباطن حتى يعلم منه أن العلم الظاهر وهو علم الشريعة وعلم الباطن وهو علم الحقيقة شيء واحد وحقيقة واحدة لا مغايرة بينهما.
إلا بتقلب من وجه الحقيقة المحل وهي قلوب المؤمنين لتفاوت درجات عقولهم فكلم الناس على قدر عقولهم فالمغايرة حاصلة لمرآة قلوبهم.
فقال : (كما يظهر الكبير في المرآة الصغير صغيرة و) بظهر غير المستطيل (في المستطيلة مستطيلا) و يظهر غير المتحرك (في) المرآة (المتحركة متحركا) كالماء الجاري.
(وقد تعطيه انتكاس) أي انعكاس (صورته من حضرة خاصة) كالماء فإن من نظر إليه وجد صورته منتكسة (وقد تعطيه عين ما يظهر منها) أي من عين الرائي بدون انتكاس (فيقابل اليمين منها) أي من الصورة (اليمين من الرائي) كالمرآة.
(وقد يقابل اليمين اليسار وهو) أي كون اليمين مقابلا لليسار (الغالب في المرايا بمنزلة العادة في العموم وبخرق العادة يقابل اليمين اليمين) يعني أن اعتبرت صورتك في المرآة الإنسان المقابل وجهه وجهك كان يمينك مقابلا لیسار صورتك فكان هذا التقابل بمنزلة العادة إذ تقابل الصور الإنسانية يجري على ذلك عادة .
وإذا اعتبرت أن ما يقابل يمينك من صورتك هو ما حصل عن يمينك فقد تقابل يمينك ليمين صورتك فكان هذا التقابل بخرق العادة (ويظهر الانتكاس) أي وبخرق العادة يظهر الانتكاس إذ العادة في المقابلة الظهور على قدمه هذا كله ظاهر لمن نظر في المرآة .
(هذا كله) أي الاختلاف المذكور بين الرائي والمرئي في حقيقة الحضرة أي تنوع الصورة على الرائي (من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلي فيها التي أنزلناها منزلة المرائي) و نسبنا هذه الأعطيات إلى المرايا وعلى الحقيقة كلها من حقيقة الحضرة المتجلي فيها .
فإذا ثبت أن الصور المتنوعة على الرائي في الحضرات عين الرائي والكثرات تنشأ من الحضرات (فمن عرف استعداده عرفه قبوله) أي عرف ما يقبل استعداده في كل زمان وفي كل حضرة (وما كل من عرف قبوله) أي ما يقبله استعداده (يعرف استعداده إلا بعد القبول) أي لولا الاستعداد ما قبل.
(وإن كان يعرفه مجملا) لأن العلم بعد القبول علم من الأثر إلى المؤثر وهو علم إجمالي .
فإذا كان كل ما حصل للممكن منه إليه ما فعل الحق بالممكن شيئا إلا بحسب اقتضاء ذاته وبحسب قابليته فمشيئته تعالى تابعة لأحوال الممكن .
فما يشاء تعذيب من يستحق التنعيم ولا كفر من يستحق الإيمان فلا جبر أصلا من الله لا صرفا ولا متوسطا.
فإن كان وذلك أيضا منه وإليه ونسبة جبر المتوسط إلى الله مجرد اصطلاح ممن عجز عن إدراك الأشياء على ما هي عليه .
وإلا فلا أصغر من الفتيل ولا يظلمون فتية بسبب الظلم من الله عن أصله ولكن الناس أنفسهم يظلمون فلا يلومون إلا أنفسهم فما شاء الله ما يناقض حكمته (إلا) استثناء منقطع (إن بعض أهل النظر من اصحاب العقول الضعيفة برون أن الله لما ثبت عندهم أنه فعال لما يشاء) أي فعال لمقتضي مشيئته لا لحكمة (جوزوا على الله ما يناقض الحكمة) (و) جوزوا ما يناقض (ما هو الأمر عليه في نفسه) لما لزمهم ذلك فجوزوا تعذيب من يستحق التنعيم تعالى الله عن ذلك.
(ولهذا) أي ولاجل أن عندهم أن الله فعال مطلقا كيف يشاء (عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان) لئلا يلزمهم جواز ما لا يليق إلى الله على تقدير ثبوت الإمكان فلم يجوز هذا البعض على الله ما جوز ذلك البعض لعدم لزوم ذلك على تقدير نفي الإمكان في زعمهم.
(وإثبات الوجوب بالذات وبالنير) وما عرفوا الإمكان والوجوب بالغير فإنه بعينه الإمكان (والمحقق بثبت الإمكان ويعرف حضرته و) يثبت (الممكن) ويعرف (ما هو الممكن) في حقيقته (ومن أين هو ممكن) أي ويعرف من أي سبب يكون متصفا بصفة الإمكان.
(و) يعرف (هو) أي الممكن (بعينه واجب بالغير) إلا أن الإمكان وصف له قبل الوجود وبعده والوجوب بالغير وصف بعد الوجود لا قبله.
(و) يعرف (من أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى ذلك) الغير (له) أي للممكن (الوجوب) فما وقع اسم الغير إلا لاحتياجه إلى الواجب بالذات (ولا بعلم هذا التفضيل إلا العلماء بالله خاصة) تأكيد لقوله و المحقق يثبت الإمكان.
(وعلى قدم شيث) أي أوردت هذه المسألة على آخر قصة (يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني وهو حامل أسراره) من العطايا الأسمائية (وليس بولد بعده ولد في هذا النوع فهو خاتم الأولاد) الذكور .
كما أن شيث أول أولاد الذكور (وتولد معه أخت له) وهي خاتمة الأولاد الأنثي كما أن أخت شیث أول الأنثي (فتخرج قبله ويخرج بعدها) لابتداء الدورة على عكسها (يكون رأسه عند رجليها) لكون الأحكام في ذلك الزمان (لا استراحة) للطبيعة (ويكون مولده بالصين) لكونه أصعب الأمكنة .
فمولده فيه إشارة إلى أن في ذلك الزمان لا استراحة في وجه الأرض للمؤمنين (ولغته لغة بلده ويسري العقم في الرجال والنساء فيكثر النكاح من غير ولادة ويدعوهم) أي أهل بلده (إلى الله) أي إلى معرفة الله تعالى وهي العلم بالتجليات الأسمائية بالطريق الخاص من مرئية ختم الرسل .
كطریق مشايخنا رحمهم الله (فلا يجاب) دعوته لانقطاع الفيض الروحاني فيختم به الأسرار الشيثية فلا يطلب تحميل هذا العلم مؤمنو زمانه ولا يجيبون دعوته مع أنه لا يضر إيمانهم لأنهم وإن كانوا لا يجيبون لكنهم لا يردونه ولا ينكرونه لكون دعوته مطابقة لدينهم .
كما أن المؤمنين في زماننا الذين لم يجيبوا دعوة مشايخنا لا يضرهم يدل عليه قوله (فإذا قبضه الله وقبض مؤمني زمانه بقي من بقي مثل البهائم لا يحلون حلالا ولا يحزمون حراما ينصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع وعليهم تقوم الساعة) .
هذا الولد هو الولي الذي لا يستجاب دعوته يكون بعد ختم الولاية العامة وهو عيسى عليه السلام فمعنى قوله : لا ولي بعده أي الولي الذي يستجاب دعوته ويؤثر ولايته وينتفع الناس بكمالاته ومعارفه فلا ينافي ختميته ختم الرسل وجود عیسی بعده مع أنه نبي مرسل بعدم إحكام نبوته.
ومن قال: إن هذا الولد هو عيسى عليه السلام فقد أخطأ في الظاهر والباطن.
.

التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment