Saturday, July 20, 2019

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

قال رضي الله عنه : (  ومن ذلك فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية ) .
قد ذكرنا حكمة استناد كلّ حكمة من هذه الحكم إلى الكلمة التي نسبت إليها ، فلا نعيدها إلَّا في مواضع مسيس الحاجة إليها .
وأمّا « الحكمة » فقد قال فيها الشيخ رضي الله عنه :
( اعلم : أنّ العطايا والمنح الظاهرة في الكون على أيدي العباد وعلى غير أيديهم على قسمين : ومنها عطايا ذاتية وعطايا أسمائية ، وتتميّز عند أهل الأذواق ) .
قال العبد : الهبات والعطايا الإلهية سواء كان وصولها إلى العباد على أيدي العباد بواسطتهم أو لا بواسطة فهي إمّا ذاتية أعني ذوات الألوهية ، وهي تجليات اختصاصية من الله ، أحدية جمع جميع الأسماء الإلهية.
خصيصة بالكمّل المقرّبين وندّر الأفراد الكاملين إذ الذات من حيث هي هي لا تعطي عطاء ولا تتجلَّى تجلَّيا ، لا ذاتية ولا أسمائية من حيث حضرة حضرة بحسب قبول المتجلَّى له وخصوص قابليته ومقامه ، وهذه العطايا والتجلَّيات والأذواق والعلوم والأحوال والأخلاق متميّزة عند أهلها الذين هم أهلها يعرفونها ذوقا وكشفا .
قال رضي الله عنه : ( كما أنّ منها ما يكون عن سؤال معيّن وعن سؤال غير معيّن . ومنها ما لا يكون عن سؤال ، سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية ) .
يعني رضي الله عنه :
أنّ هذه الأعطيات والمنح سواء كانت ذاتية أو أسمائية فإمّا أن تكون عن سؤال سائل ، أو لا عن سؤاله ، فإنّها قد تصل إلى العبد بلا سؤال لفظي ، وقد يكون بسؤال لفظي .
قال رضي الله عنه : ( فالمعيّن كمن يقول : يا ربّ أعطني كذا ، فيعيّن أمرا ما لا يخطر له سواه ) . يعني حال التلفّظ بالسؤال .
( وغير المعيّن ) بكسر الياء اسم فاعل ( كمن يقول : يا ربّ أعطني ما تعلم فيه مصلحتي من غير تعيين لكل جزء من ذاتي ، لطيف وكثيف ) .يعني ما يناسبه ويلائمه .
قال رضي الله عنه : ( والسائلون صنفان : صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي ، فإنّ الإنسان خلق عجولا . والصنف الآخر بعثه على السؤال لما علم أنّ ثمّ أمورا عند الله قد سبق العلم بأنّها لا تنال إلَّا بعد السؤال ، فيقول : فلعلّ ما يسأله يكون من هذا القبيل فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان ، وهو لا يعلم ما في علم الله ، ولا ما يعطيه استعداده في القبول ،لأنّه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد على استعداد الشخص في ذلك الزمان).
قال العبد : السائلون للعطايا الإلهية سواء كانت ذاتية أو أسمائية ، أو كانوا معيّنين لسؤالاتهم أو غير معيّنين كما ذكر الأمثلة إمّا أن يكونوا غير عالمين بما في علم الله وتقديره من وقوع المسؤول وعدم وقوعه ، وبما هم مستعدّون له في كل زمان فرد من الأزمنة وفي كل آن من الآنات ، أو عالمين بذلك وبما يعطيه استعدادهم .
فغير العالمين إمّا أن يكون الباعث لهم على الطلب والسؤال الاستعجال الطبيعيّ أو الاستعداد الحاليّ أو الاحتياط ، مع مجمل العلم بأنّ من الأعطيات الإلهية ما سبق علم الله وقدره أن لا ينال إلَّا بالدعاء إمّا بالنسبة إلى هذا السائل أو بالنسبة إليها في كل سائل .
فإن كان الاستعجال الطبيعيّ ، فهو إمّا أن يوافقه الاستعداد الحالي أو لم يوافق ذلك ، فإن وافق ، فلا بدّ من وقوع المسؤول ،وإن لم يوافق ،فقد لا يقع في الحال.
وإن كان الباعث الاستعداد الحاليّ والحال الاستعدادي ، فإنّ المسؤول يقع وينال ، سواء تلفّظ بالسؤال أو لا ، فإنّ السنّة الاستعدادات في السؤال لا تتأخّر عنها الإجابة .
وإن كان الباعث على الطلب والتلفّظ بالسؤال هو العلم بأنّ من المسؤولات والمطالب ما لا يدرك ولا يعطى إلَّا بعد السؤال ، فهو يسأل ويطلب احتياطا ، فقد يقع عين المسؤول إن كان الاستعداد تامّا ، وإن لم يوافق السؤال الاستعداد .
فيلبّي الله له في حال السؤال ، وتتأخّر الإجابة في عين المسؤول ، فإنّ التقدير عدم علم السائل بما في التقدير والاستعداد ، لكنّ الإمكان باق ، فيمكن بالنظر إلى السائل ومبلغ علمه أن يقع ، ويمكن أن لا يقع .
وباقتران الاستعداد للسؤال لا يبقى تأخّر ولا إمكان ، بل يجب وقوع عين المسؤول .
والوقوف في كل آن من الزمان على استعداد الشخص لا يكون إلَّا للكمّل والندّر من الأفراد فليس لكلّ أحد إدراك استعداده في كل آن ، حتى يسأل ما يستعدّ له في الحال ، فيقع .
وقد يكون على حال مستعدّ في زعمه لأمور فيسألها ولا يعلم حقيقة ، بل على وجه الإمكان ، فقد يقع وقد لا يقع ، كما ذكرنا ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ولولا ما أعطاه الاستعداد السؤال ما سأل ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ السؤال يدلّ على مطلق استعداد للسائل كامن فيه هو الباعث ، فلو اقترن الحال بالاستعداد ، لظهر ، وعدم الاقتران يوجب التأخّر إلى وقت الاقتران .
قال رضي الله عنه : (فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا) أي لا يعلمون بعلم الله وباستعداد السائل للمسئول.
( أن يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه ، فإنّهم بحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان وأنّهم ما قبلوه إلَّا بالاستعداد
. وهم صنفان : صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم ، وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه ، هذا أتمّ ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف ) .
قال العبد : من السائلين الذين لا علم لهم بالاستعداد إذ كانوا أهل حضور ومراقبة ، فغايتهم إذا بالغوا في المراقبة واستكملوا مراتب الحضور أن يعلموا في كل آن من الزمان أحوالهم وما يعطيهم الحق من الواردات والتجلَّيات والعلوم والأخلاق ، فإذا تجدّد لهم حال ، وتحقّقوا الحقيقة أخلق إلهي أو أمر كونيّ ؟ أو ورد عليهم وارد ، علموا ذلك ، وعلموا مجملا أنّهم ما قبلوها إلَّا بالاستعداد .
وأهل الحضور والمراقبة على صنفين أيضا : صنف لم يكشفوا عن عالم المعاني والأعيان الثابتة ، فهم لا يعلمون استعداداتهم على التفصيل ، بل يعلمونها مجملا من أحوالهم ووارداتهم ، وصنف اقترن بحضورهم ومراقبتهم الكشف عن عوالم الغيب والحضرات العالية ، فعلموا أعيانهم الثابتة في العلم الأزلي الإلهي القائم بذات الحق ، فعلموا استعداداتهم من خصوصياتهم وقابلياتهم الأصلية الأزلية على وجه الإجمال ، ثم بتعيّن الحال يعلمون اقتران ألسنة استعداداتهم بالحضور والسؤال في الحال ، فيقع ما يسألون في الحال أو بعد تأخّر ، والصنف الثاني أكشف من الأوّل .
قال رضي الله عنه : ( ومن هذا الصنف ) أي الذين لا يعلمون حال السؤال استعدادهم ولا علم الحق فيهم ( من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان ، وإنّما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله  " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم" ، فهو العبد المحض .
وليس لهذا الداعي همّة متعلَّقة فيما يسأل فيه من معيّن أو غير معيّن ، وإنّما همّته في امتثال أوامر سيّده ، فإذا اقتضى الحال السؤال ، سأل عبودية ، وإذا اقتضى التفويض والسكوت ، سكت .
فقد ابتلي أيّوب عليه السّلام وغيره وما سألوا رفع ما ابتلاهم الله به ، ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا رفع ذلك ، فرفعه الله عنهم ) .
قال العبد : هؤلاء عبيد الله الصدّيقون لا يسألون إذا سألوا معيّنا أو غيره استعجالا طبيعيا ، ولا احتياطا رغبة فيما رغبوا به أعني أهل الاحتياط أن يعطيهم الله ذلك لعلمهم بأن لا ينال ذلك إلَّا بالسؤال .
بل سؤالهم امتثال لأمر الله إيّاهم في قوله : "ادْعُونِي " ، حتى أنّ همّتهم غير متعلَّقة بالاستجابة إلَّا إذا كان مراد الله إجابتهم والسؤال .
لكنّهم يدعون الله لمّا أمرهم أن يدعوه لا غير ، فإن أجاب يلقوه بالشكر وبما يجب أن يتلقّوه به ، وإن لم يجبهم علموا أنّ المراد هو الدعاء .
فإن حصلت الإجابة ، علموا بالحال استعدادهم ، وإن لم يجابوا علموا تأخّر لسان الاستعداد إلى وقت آخر ، فأخّروا السؤال إلى ذلك الوقت وقدمّوه كذلك لوقته في الحال الحاضر.
وإن كان القسم الثاني من أهل الاستعداد والعلم به والعلم بالحال من استعداده قد يسأل الله مع علمه باستعداده لما هو أهل له في كل حال امتثالا مع علمه بوقوع المسؤول واقتران الاستعداد الحالي للسؤال .
ولكن لا يقصد الإجابة ، ولا يعلَّق همّته بالوقوع ، بل همّته امتثال أوامر الله ونواهيه ، فهو العبد المحض وهذا الصنف أكمل ممّن تقدّمه ، فافهم .
وإذا اقتضى الحال السؤال ، وأحسّ أنّ المراد الإلهي هو الدعاء والسؤال ، دعا وسأل عبودية ورقّا وامتثالا ، وإن عرف من استعداده الحالي أنّ الابتلاء تمحيص وتكميل ورضوان من الله ، صبر وفوّض إلى الله وسكت عالما بأنّ الله لا يبقى عليه حكم حضرة القهر والجلال دائما .
بل لا بدّ من اضمحلال آثار القهر العرضي في اللطف والرحمة الذاتيين من قوله : « سبقت رحمتي غضبي » فيمن يغضب عليه ، ولا سيّما في حق من سبقت رحمة الله به أزلا بكمال القيام في حقّه ، مثل أيّوب عليه السّلام صبر ولم يسأل رفع الضير عنه ابتداء ، لعلمه بالحال والاستعداد الحالي.
وكذلك كلّ محنة وابتلاء يبتلي به الله عباده ليس من باب القهر المحض فإنّها رحمة خاصّة ونعمة في صورة محنة ونقمة ، لا يرغب فيها إلَّا العلماء بمراد الله وعلمه والمطَّلعون على سرّ القدر .
فإذا علموا وصول أوان انفصال الضرّاء والبأساء ، وحصول زمان اتّصال الرخاء والسرّاء ، دعووا الله تعالى ، فرفع عنهم الضرّ ، وبدّل لهم باليسر العسر .
تبرّيا عن توهّم المقاومة والمقاواة للقهر الإلهي في عدم السؤال والمداواة ، فكانوا في حالتي السؤال وعدم السؤال عباد الله الأدباء الناظرين إلى أمر الله وحكمه بموجب إرادته وعلمه .
قال الشيخ رضي الله عنه : " والتعجيل بالمسؤول فيه والإبطاء للقدر المعيّن له عند الله ، فإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة ، وإذا تأخّر الوقت إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة ، تأخّرت الإجابة أي المسؤول فيه ، لا الإجابة التي هي لبّيك من الله .فافهم هذا » .
قال العبد : اعلم : أنّ كل سؤال يسأله العبد من الله فلا بدّ وأن يجيبه فيه لا محالة وقد أوجب على نفسه الإجابة بقوله : “ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ “ وأنّه لا أوفى من الله بعهده ووعده ، فإذا دعاه العبد ، أجابه في الحال بلبّيك ، وذلك في مقابلة ما يلبّى العبد إذا دعاه .
ولكنّ الله تعالى إذا علم من العبد تأخّر ظهور الاستعداد الحالي عن حصول المسؤول ، بادره الله في الحال بما يعينه على كمال القابلية والاستعداد ، وبعده لقبول تجلَّي الإجابة في عين المسؤول وذلك لعدم موافقة الاستعداد وقت السؤال .
فإذا جاء الوقت المقدّر لحصول عين المسؤول ، ووافقه السؤال ، أجيب في الحال ، فالإجابة إذن من أوّل وقت السؤال أيّ سؤال كان ، ومن أيّ سائل كان واجبة الوقوع من الله ، ولكن ظهور حكمها عند السائل بقدر استعداده وقابليّته ، وأوان ظهور حكم الإجابة إنّما هو في إعداده وإمداده تكميل استعداده لظهور المسؤول المأمول .  
وإذا علم الله من العبد كمال الاستعداد في السؤال بلسانه الحالي والذاتي والاستعدادي قبل سؤاله بلسانه الشخصي ، بعثه على السؤال ، وأجابه في الحال ، فمن لم يعثر على هذا السرّ ظنّ أنّ سؤال بعض العبيد لا تتأخّر عنه الإجابة والبعض غير مجاب.
وليس الأمر كما ظنّ ، بل كان دعاء كلّ داع يدعو الله في شيء فإنّه مجاب ، ولكنّ الأمر كما أمر الله تعالى " وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله " 38 سورة الرعد .
وهو الكمال الثاني والقابلية والاستعداد ، " فَإِذا جاءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ " 78 سورة غافر.
قال الشيخ رضي الله عنه : « وأمّا القسم الثاني وهو قولنا : « ومنها ما لا يكون عن سؤال » فالذي لا يكون عن سؤال فإنّما أريد بالسؤال التلفّظ به ، فإنّه في نفس الأمر لا بدّ من سؤال إمّا باللفظ أو بالحال أو بالاستعداد ، كما أنّه لا يصحّ حمد مطلق قطَّ إلَّا في اللفظ ، وأمّا في المعنى فلا بدّ أن يقيّده الحال ، فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيّد لك باسم فعل أو باسم تنزيه . والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه ، ويشعر بالحال لأنّه يعلم الباعث وهو الحال " .
يريد : أنّ عطاء الله لمّا كان فيضا ذاتيا دائميا لا انقطاع له ، ولكن حصوله لأحد ووصوله بالحال من يد أحد إذ وغير ذلك إنّما هو بسؤال لسان الاستعداد .
أو بلسان الحال وإن لم يسأل يعني لفظا لأنّ السؤال بلسان الاستعداد.
والحال والمرتبة والذات غير دائم الوقوع ، ولهذا تتأخّر الإجابة ، فإذا وافق لسان القول لسان الاستعداد ، سرعت الإجابة ، ولذلك تحصل الأعطيات والمسؤولات بلا سؤال لفظي ، فيظنّ أنّه ليس عن سؤال أصلا ، وليس ذلك كذلك ، فتذكَّر .
فالسؤال الذاتي هو أنّ الذوات في ذاتياتها سائلة من الله ، وقابلة منه قيامها بذاته وبقاؤها منه .
وأمّا سؤالات ألسنة الاستعدادات فكالذي تتكامل أهليّته وقابليّته لحصول أمر من الله وفيض ، فإنّ ذلك لا يتأخّر أصلا .
وسؤال المرتبة كالنبوّة تسأل من الله بما به وفيه قيامها وقوامها من النبيّ الذي بوجوده دوامها .
وأمّا سؤال لسان الحال فكالجائع يطلب بجوعه الشبع والعطشان يطلب بعطشه الريّ .
وكما أنّ الحمد المطلق غير واقع لتقييد حال الحامد ووصفه ومقامه له حال الحمد
وإن أطلق لفظا ، فكذلك العطاء بلا سؤال غير واقع ، فإن لم يكن سؤال لفظي ، ووقعت الإجابة ، ووصلت الصلات والهبات ، وشملت الرحمة والبركة ، فاعلم أنّ الألسنة المذكورة هي التي استدعتها واقتضتها .
ولكنّ الاستعداد لا يشعر به صاحبه ، لغموضه ، ويشعر بالحال ، لكون الحال باعثا له على الطلب والسؤال ، فيعلم أنّ لسان حاله هو الباعث له على السؤال باللسان ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " والاستعداد أخفى سؤال " .
يعني رضي الله عنه : لهذا لا يشعر به صاحبه ، لخفائه وكونه موقوفا على علم القدر المعلوم لأهل الكشف من العلم الإلهي القائم بالحق ، وهو أصعب العلوم وأعزّها منالا ، وأعلاها مثالا ، وأنفعها مآلا ، وأرفعها مقاما وحالا .
قال رضي الله عنه : " وإنّما يمنع هؤلاء " يعني الذين لا يسألون :" عن السؤال علمهم بأنّ لله فيهم سابقة قضاء ، فهم قد هيّأوا محلَّهم لقبول ما يرد منه ، وقد غابوا عن نفوسهم وأغراضهم " .
يعني : أوجب عليهم علمهم وتحقّقهم بأنّه لا بدّ من وقوع ما قدّر الله لهم وعليهم بلا تخلَّف بموجب علمه .
قال رضي الله عنه : « ومن هؤلاء من يعلم أنّ علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها ، ويعلم أنّ الحق لا يعطيه إلَّا ما أعطاه عينه من العلم به وهو ما كان عليه في حال ثبوته ، فيعلم علم الله به من أين حصل ، وما ثمّ صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف ، فهم الواقفون على سرّ القدر " .
قال العبد أيّده الله به : ومن العلماء بسابق علم الله وقضائه وقدره بجميع ما يجري عليهم صنف هم أكشفهم شهودا وأكملهم علما ووجودا بأنّ جميع أحواله وأفعاله وما يصل إليه من العطايا والمواهب الإلهية.
إنّما يكون بحسب ما أعطته عينه الثابتة التي هي عبارة عن صور معلوميّته لله تعالى أزلا قبل وجوده العيني ،وأنّ العلم الإلهي إنّما تعلَّق بالمعلوم بحسب المعلوم.
ولا تأثير للعلم في المعلوم بما ليس فيه إذ العلم عبارة عن تعيّن العلم في نفس العالم على ما هو عليه ، وكشف العالم للمعلوم كشفا إحاطيا يميّزه عن معلوم آخر بخصوصياته ، فليس للحقيقة العلمية إلَّا الكشف والتمييز على وجه الإحاطة بالمعلوم.
والمعلوم هو يعطي بكونه معلوما صورة تعيّنية ارتساميّة في نفس العالم هي صورة معلوميّته لله تعالى أزلا ، وهي أزليّة أبدية قائمة بقيام العلم الذاتي بالذات الديموميّة القيّوميّة وعلى هذا لا تحكم المشيّة الإلهية بقضاء وقدر على موجود إلَّا بموجب ما سبق به العلم الأزلي .
ولم يتعلَّق العلم الأزلي بكل معلوم إلَّا بحسب ما أعطى المعلوم من عينه الثابتة ، فإنّ لكلّ معلوم قدرا تقدّر وتعيّن وتميّز به في خصوصيته عن معلوم آخر ، ولم يتعيّن المعلوم في حضرة العلم الذاتي الإلهي إلَّا بقدره عند الله وقدره الذي يخصّص به .
ومن حصّل هذا الكشف ، علم المأخذ والمعدن الذي لعلم الله بالمعلوم ، فافهم ، فهذا أعلى الكشوف والعلوم والشهود ، وأهله هم الواقفون على سرّ القدر ، جعلنا الله وإيّاك منهم ، إنّه عليم قدير .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وهم على قسمين : منهم من يعلم ذلك مجملا ، ومنهم من يعلمه مفصّلا ، والذي يعلمه مفصّلا أعلى وأتمّ من الذي يعلمه مجملا ، فإنّه يعلم ما في علم الله فيه أنّ علم الله به وبأحواله الظاهرة والباطنة بحسبه فيه ، ولكنّ علمه جملي لا تفصيلي ، وكلَّي لا تعيّني ، فلا يعلم تفاصيل أحواله الوجودية قبل وقوعها على التفصيل".
والتفصيل على هذا الصنف لمن يعلم تفاصيل أحواله الوجودية ظاهرها وباطنها ، كما رويت عن سيدي وسندي وقدوتي إلى الله ، الشيخ الكامل المكمّل ، أكمل ورثة المحمديين ، صدر الحق والدين ، محيي الإسلام والمسلمين ، أبي المعالي ، محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف رضي الله عنه وكان يتكلَّم معي في هذا المقام من سرّ القدر ، أنّ شيخنا الأكمل ، خاتم الولاية الخاصّة المحمدية ، قال له : « لمّا وصلت إلى بحر الروم من بلاد أندلس ، عزمت على نفسي أن لا أركب البحر إلَّا بعد أن أشهد
تفاصيل أحوالي الظاهرة والباطنة الوجودية ممّا قدّر الله عليّ ولي ومنّي إلى آخر عمري » .
قال رضي الله عنه : « فتوجّهت إلى الله في ذلك بحضور تامّ وشهود عامّ ومراقبة كاملة ، فأشهدني الله جميع أحوالي ممّا يجري ظاهرا وباطنا إلى آخر عمري ، حتى صحبة أبيك « إسحاق بن محمد » وصحبتك وأحوالك وعلومك وأذواقك ومقاماتك وتجلياتك ومكاشفاتك وجميع حظوظك من الله ، ثم ركبت البحر على بصيرة ويقين ، فكان  ما كان ويكون من غير إخلال ولا اختلال " .
وكيفيّة هذا الكشف أنّ المكاشف يتحقّق بعينه الثابتة الأزلية ، ويشهدها كشفا ، ويشهد أحوالها في المواطن والمراتب الوجودية والأطوار الشهودية مع أعيان ماهيّاتها ولوازمها ولوازم لوازمها وعوارضها ولواحقها ولواحق اللواحق ، دنيا وآخرة وعند الله ، فيعلم من عينه الثابتة التي هي ماخذ العلم الإلهي من حيث إنّها فيه سبحانه عينه وليست غيره ، فيعلم ما في علم الله في الكوائن والحوادث في حقّه وفي حق غيره . وهذا النوع من علم سرّ القدر وكشفه أكمل وأتمّ وأكشف وأعمّ جعلنا الله وإيّاك من عبيده الاختصاصيّين ، إنّه أرحم الراحمين .
قال رضي الله عنه : « إمّا بإعلام الله تعالى إيّاه بما أعطاه عينه من العلم به ، وإمّا بأن يكشف له عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى ، وهو أعلى ، فإنّه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به ، لأنّ الأخذ من معدن واحد " .
قال العبد : لمّا قرّر رضي الله عنه مراتب حصول العلم بالأعيان الثابتة وسرّ القدر ، وبأحوال عينه الثابتة ، احتمل أن يكون حصول هذا العلم لهذا الصنف الأكشف الأعلم ، بإعلام الله وإلهامه إيّاهم ، واحتمل أيضا أن يكون طريق حصول ذلك من عين الطريق والمأخذ الذي تعلَّق العلم الإلهي بذلك ، وذلك لأنّ الله يلقي إلى أسرار ربّة عبيده المصطفين ما شاء من العلوم والحقائق ، فيحصل الاطَّلاع على سرّ القدر ، وأحوال العين الثابتة من جملة ذلك .
وأعلى من هذا أن يكشف الله تعالى بعنايته الكاملة الذاتية لهذا العبد عن حضرة العلم وعالم المعاني ، فيشاهد الأعيان الثابتة ثابتة في عين الذات الغيبيّة والحقيقة المطلقة الكلَّية ، وثابتة في أرض المظهريات المحقّقة العلَّية ، ثبوتا أحديا علميّا وتعيّنا ذاتيّا غيبيا ، وإذا شاهد عينه الثابتة وأحوالها حواليها في أطوار الوجود وأقطار الشهود إلى ما لا يتناهى ، كان أخذ العلم بعينه الثابتة من المعدن الذي أحاط فيه به العلم الذاتي ، وهذا أكمل شهود في هذا المقام ، جعلنا الله وإيّاكم من أهله .
قال رضي الله عنه : « إلَّا أنّه من جهة العبد عناية من الله سبقت له ، هي من جملة أحوال عينه  يعرفها صاحب هذا الكشف ، إذا أطلعه الله على ذلك ، أي على أحوال عينه الثابتة ، فإنّه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على ذلك أي على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطَّلع في هذا الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها ، لأنّها نسب ذاتية لا صورة لها ، فبهذا القدر نقول : إنّ العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم " .
قال العبد أيّده الله به : لمّا بيّن رضي الله عنه أنّ هذا العبد الأكشف الأكمل الذي حصل علمه بنفسه وبعينه الثابتة بمنزلة المساواة لعلم الله بعينه الثابتة وأحوالها كذلك ، إنّما حصل عناية إلهية بهذا العبد وصدق قدم في علم قدم ، وهذه العناية الإلهية به أيضا من جملة أحوال عينه الثابتة التي اقتضتها بخصوص استعدادها وقابليتها الخاصّة أن يعلم ذلك كذلك .
فإنّ تعلَّق العناية إنّما يكون بحسب تعلَّق الإرادة الإلهية والمشيّة الربّانيّة ، والعناية إرادة حبّيّة بالمعتنى به لتكميله وتوصيله ، ثم تعلَّق المشيّة والإرادة أيضا بموجب تعلق العلم بعينه الثابتة له أزلا وأبدا ، فالخصوصيّات العينية والقابليات الذاتية هي أصل العناية الأزلية وهي قدم الصدق .
وقوله رضي الله عنه : « فإنّه ليس في وسع المخلوق » تعقيب لكلامه الأوّل : « إمّا بإعلام الله . . . وإمّا بأن يكشف »
يعني : لا يجمع لأحد بين الاطَّلاع على الأعيان الثابتة وأحوالها وبين الاطَّلاع على اطلاع الله بعلمه على هذه الأعيان ، لأنّه تعلَّق الشهود بأمرين في حالة واحدة و"ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ من قَلْبَيْنِ في جَوْفِه".
ولأنّ هذه الأعيان نسب ذاتية ، فهي بالنسبة إليها معدومة الأعيان وإن كانت ثابتة للحق ، فلا صورة لها في أعيانها فما هي فيه ، بل هي فيه هو كما قلنا نحن فيه هو ، فاعرفنا به وهو فينا نحن ، فافهم ما نقول .
وهوية الوجود الواحد في أعيان القوابل وإن كانت بحسبها متعدّدة ، فهي أيضا في الهوية الواحدة الوجودية الذاتية كذلك بحسبها أحدية .
فلمّا كانت هذه النسب في العلم الإلهي ثابتة للذات بأنّها شؤونه وأحواله الذاتية ومن حسبها "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ".
لم يكن للممكن أن يطَّلع على اطلاع الحق على هذه النسب الكلية الذاتية التي هي مفاتيح الغيب حال عدميّتها في أعيانها تحت قهر الأحدية الذاتية ، فإنّ هذا الاطلاع أحديّ لم يظهر بعد للمشاهد ، والمشاهدة والمشاهد الثابتة عين وجوديّ ، فإنّه إنّما يتأتّى للمكاشف أن يطَّلع عليها من حيث إنّها ثابتة في العلم وجودا علميا ، وحينئذ يتمكَّن المشاهد من شهودها .
قال رضي الله عنه : « ومن هاهنا يقول الله : " حَتَّى نَعْلَمَ " . وهي كلمة محقّقة المعنى ، ما هي كما يتوهّمه من ليس له هذا المشرب " .
قال العبد : هو يشير رضي الله عنه إلى توقّف تحقّق النسبة العلميّة من كونها كذلك على حقائق المعلومات وتحقّقها بأعيانها في الوجود ، لأنّ العلم المضاف إلى الحق من حيث الجمعية الإلهية إنّما يتحقّق بتحقّق العلم بجميع الحقائق العينية والشؤون الغيبية .
فإنّ للحق ظهورا في كلّ شأن شأن ، فالعلم المضاف إلى الحق من حيث ذلك الظهور بذلك الشأن لا يكون إلَّا بعد تحقّق الشأن بعينه في الوجود ، بخلاف العلم الذاتي الإلهي .
فإنّ توقّف العلم على المعلومات ليس من حيث أحديّة الذات ، فإنّ الأحدية الذاتية تقهر الكثرة النسبية العلمية والوجودية العينية ، فلا تظهر لها أعيان أصلا .
والعلم والعالم والمعلوم في أحدية الذات أحدية ، وكذلك في الوجود واحد وحدة حقيقة  غير زائدة على ذاتية الذات ، ولكن توقّف تحقّق العلم على المعلوم من حيث إنّ العلم نسبة متعلَّقة بالنسب المعلومية المظهرية من حيث هذه الشؤون والحقائق الأسمائيّة التي تحقّقها بحقائق هذه الشؤون.
فقوله : " حَتَّى نَعْلَمَ " إشارة إلى توقّف العلم المضاف إلى الحق من حيث أسمائه الحسنى وشئونه ونسبه الذاتية العليا بأحوالها وأحكامها وآثارها وتعلَّقاتها ونسبها وإضافاتها ولوازمها وعوارضها ولواحقها ولواحق اللواحق .
من حيث المرتبة والمحلّ والمقام والموطن والحال في الوجود العيني والشهود العياني الكوني ، فهو إذن كلمة محقّقة المعنى ليست كما يتأوّلها بالوهم أهل التنزيه الوهمي .
فإنّ الحق لا يستحقّ من الحق ولا يتنزّه عن مقتضيات ذاته ، ومقتضاها من حيث هذه النسب الذاتية أن لا يظهر كلّ منها إلَّا بكلّ منها في كل منها ، فتوقّف تحقّق الحقيقة العلمية على حقيقة المعلوم كذلك كتوقّفه على حقيقة الوجود ، فالتوقّف إذن بين النسب بعضها على البعض .
وذلك غير قادح في الغنى الذاتي ، ووجوب الوجود للذات بالذات ، وكون هذه النسب أعني العالميّة والمعلومية والعلم كلَّها ذاتية ، فافهم إن شاء الله تعالى .
فإنّ العلم والمعلوم والعالم في أحدية الذات عينها لا غيرها ، والمعلومية كالعالميّة والمظهرية كالظاهرية نسب ذاتية للذات كسائر النسب الذاتية الوجوبية التي العلم من جملتها .
فتوقّف العلم على المعلوم إنّما هو من حيث هذه النسبة العلمية من وجه يغاير ذاتية الذات بالخصوصية وفي التعقّل ، ثم التغاير والتمايز بين الحقائق بالخصوصيات وفي تعقّل المتعقّل لها منّا لا يوجب الكثرة والتعدّد والتوقّف والتجدّد والتغيّر ، في الذات الواحدة التي هي عينها ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وغاية المنزّه » أي بوهمه « أن يجعل ذلك الحدوث في العلم المتعلَّق ، وهو أعلى وجه  للمتكلَّم بعقله في هذه المسألة ، لولا أنّه أثبت العلم زائدا على الذات ، فجعل التعلَّق له لا للذات وبهذا انفصل عن المحقّق من أهل الله صاحب الكشف والوجود " .
قال العبد : اعلم : أنّه غاية أهل التنزيه الوهمي أن ينسبوا الحدوث في قوله تعالى :
" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ ". إلى التعلَّق العلمي ، فتكون الكثرة والحدوث والتوقّف والتغيّر والتجدّد في التعلَّق ،لا في حقيقة العلم التي هي عين الذات.
ولا يرتفع الإشكال بذلك أيضا ، لكون العلم هو المتعلَّق بذلك التعلَّق الحادث ، ولكون التعلَّق من وجه عين المتعلَّق ، ولا سيّما وقد أثبت العلم زائدا على الذات ولا مخلص له في هذا النظر إلَّا أن يعلم أنّ الحدوث والكثرة في المعلوم المتكثّر المتجدّد المتغيّر الحادث ، والتجدّد في التعيّن والمتعلَّق به من حيث هو كذلك .
أمّا من حيث العلم الذي هو عين العالم الأزلي فتعلَّق وحدانيّ ، لكون ارتباط النسب المتوقّفة التحقّق على الطرفين في كل واحد منهما بحسبه ، فالكثرة والتغيّر والتجدّد في التعلَّق العلمي الوحداني من حيث ما يرتبط به وهو المعلوم المتكثّر المتغيّر المتجدّد ، والوحدة في التعلَّق أيضا من حيث العلم الذاتي الوحداني كهو ، فافهم .
وثمّ نظر آخر وهو أنّ العلم ، له اعتباران :
أحدهما من جهة الحق ، وبهذا الاعتبار هو عين الذات كما تقرّر آنفا .
والثاني من حيث إنّه نسبة متميّزة عن ذاتيّة الذات بخصوصيتها وعن غيرها من النسب ، وهذه النسبة حقيقة كلَّية أحدية التعلَّق بالمعلومات من شأنه تميّز المعلومات بعضها عن البعض وكشف حقائقها وحقائق أحوالها على سبيل الإحاطة ، فهي من حيث كونها نسبة كليّة لا تحقّق لها إلَّا بين عالم ومعلوم ، فتكون متوقّفة التعيّن على المعلومات .
وتعيّن المعلومات في عرصة العلم من حيث هذا الوجه يكون بحسب المعلومات ، ومن حيث إنّ العلم عين الذات يكون تعيّن المعلومات فيه بحسب العلم كذلك أحدية  ، فافهم .
ولمّا كان المعلوم نسبة والعلم أيضا نسبة ، لم يقدح توقّف النسبة على النسبة من كونها كذلك في العلم الأحدي الذاتي الذي هو عين الذات ، فافهم .
ثم اعلم : أنّ الحضرة العلمية تشتمل على حضرات كلَّية كثيرة وهي : حضرة العلم ، وحضرة المعرفة ، وحضرة الحكمة ، وحضرة الخبرة ، وحضرة التقدير .
فالعلم كما مرّ هو الكشف الإحاطي التمييزي للمعلومات على ما هي عليه من كل وجه للوازمها ولوازم لوازمها .
والمعرفة هي العلم بحقائق المعلومات من حيث حقائقها مجرّدة عن خلقيّاتها وعن اللوازم ولوازم اللوازم وترتّبها في مراتبها لا غير .
والحكمة عبارة عن العلم بالمراتب والحقائق المترتّبة فيها وبالترتيب الواقع بين حقائقها ،أي حقائق المعلومات واللوازم والعوارض واللواحق وبالمواطن والأحوال.
وحضرة الخبرة هي حضرة العلم بظهور آثار الحقائق وأحكامها بموجب الترتيب الحقيقي المذكور بأسبابه وعلله .
وحضرة التقدير هي حضرة العلم بتعيّن أقدار الحقائق وخصوصياتها في العلم بحسبها وعلى أقدارها ، فالتقدير من المقدّر القديم بحسب قدر المقدور وقدره في العلم ، ومن كوشف له بهذه الحضرات كلَّها وأحاط بحقائقها بما به الامتياز وبما به الاشتراك ، كان أكشف المكاشفين ، جعلنا الله وإيّاك منهم ، إنّه قدير .
قال رضي الله عنه : " ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول : إنّ الأعطيات إمّا ذاتية أو أسمائية . وأمّا المنح والهبات والعطايا الذاتيّة فلا تكون أبدا إلَّا عن تجلّ إلهي . والتجلَّي من الذات لا يكون أبدا إلَّا بصورة استعداد المتجلَّي له ، وغير ذلك لا يكون " .
قال العبد أيّده الله به : إنّ العطايا والمنح والهبات سواء كانت معاني وحقائق وعلوما ومشاهدات وتجلَّيات إلهيّة كانت أو ربانية أو روحية أو عقلية أو نفسية أو طبيعية أو عنصرية أو مثالية على اختلاف طبقاتها ودرجاتها فإنّها إمّا ذاتية أو أسمائية ، ونعني بالذاتية بحت الوجود ومحض الوجود والجود ، وبالأسمائية ما تكون مخصوصة بصورة حضرة من الحضرات الإلهية .
ثم الأسمائية لا تكون إلَّا بحجاب وهو حجابيّة التعيّن الاسمي بما به يمتاز عن الآخر ويغايره لا غير .
وأمّا الذاتية فإنّها لا تكون إلَّا عن تجلّ إلهي .
ولا تكون أبدا عن الذات الأحدية ، لما عرفت أن لا حكم ولا رسم ولا تجلَّي ولا غير ذلك في الأحدية الذاتية ، فيكون تعيّن التجلَّي الذاتي من حضرة الألوهية ، فيضاف التجلَّي لهذا السرّ إلى ذات الألوهة ، لا إلى مطلق الذات ، فافهم هذا الفرق ، حتى لا يشتبه عليك الحقائق .
ثم إنّ هذه العطايا والمنح الحاصلة بالتجلَّي لا تتعيّن أبدا إلَّا بصورة استعداد المتجلَّي له لأنّ الاستعدادات والقابليّات في الأعيان هي المستدعية للتجلَّيات الذاتية والأسمائية ، والمتجلَّي ، له صورة علمية أزلية على هيئة معنوية مخصوصة بتخصّص التجلَّي الوجودي وبتخصّص الفيض الجودي بموجب ما تعيّن وتخصّص في النور العلمي الأزلي الشهودي بحسب خصوص المتجلَّى له ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " فإذن المتجلَّى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق ، وما رأى الحقّ ، ولا يمكن أن يراه مع علمه أنّه ما رأى صورته إلَّا فيه كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصورة فيها لا تراها مع علمك أنّك ما رأيت الصورة أو صورتك إلَّا فيها ، فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجلَّيه الذاتيّ ليعلم المتجلَّى له أنّه ما رآه ، وما ثمّ مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلَّي من هذا .
وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة ، لا تراه أبدا البتّة " .
قال العبد أيّده الله به : اعلم : أنّ أهل التجلَّيات من أصحاب النبوّات وأرباب الولايات إنّما ترد عليهم بحسب استعداداتهم وخصوصية قابلياتهم الوجودية ، وكذلك استعداداتهم في عرصة الوجود العيني إنّما تكون بموجب استعداداتهم الغيبيّة غير المجعولة في حضرة العلم الذاتي .
وقد أسلفنا لك من قبل أنّ صورة معلوميّة كلّ أحد لله تعالى أزلا قبل وجوده العيني هي حقيقته وعينه الثابتة وأنّها من حيث هي كذلك ليست أمورا وجودية مغايرة للعلم مغايرة حقيقية ، ولا زائدة على ذات العالم زيادة توجب الكثرة في وحدته العلمية .
بل هي صورة نسبه ومتعلَّقاته المظهرية وأحواله الغيبيّة وشئونه العينية ، إذ لا معيّة لغيره معه أزلا وأبدا دائما وسرمدا « كان الله ولم يكن معه شيء » وهو الآن على ما هو عليه كان .
والعلم الذاتي أوجب تعيّن المعلومات في حضرة العلم على ما هي عليها ، فهي إذن نسبة ونسب نسبة : كالعلم والعالمية والمعلومية ، والربوبية والمربوبية ، والظاهرية والمظهرية ، والظهور والبطون ، والقيد والإطلاق ، والتعيّن واللا تعين وغير ذلك .
جميع هذه الحقائق نسبه وأحواله النفسيّة ولا توجب كثرة في عين الأحدية ، كما لا توجب النصفيّة والثلثية والربعيّة والخمسية وغيرها من النسب كثرة قادحة في وحدة الواحد .
وإنّما الكثرة في عرصة العلم والتعقّل عندنا لا غير ، فمهما حصل تجلَّي المتجلَّي له في حضرة الوجود العيني ، فإنّما يحصل على صورة استعداد العين الثابتة الأزلية التي لهذا المتجلَّى له أزلا لتعيّن التجلَّي من الشأن الذاتي الذي هو عينه .
وذلك استعداد ذاتي لهذا القابل الأزلي ، غير مجعول ، لأنّ الفرض قبل الإيجاد وقبل الوجود في حضرة الغيب ، فالتجلَّي الغيبي يتعيّن في الذات في غيب قابلية المتجلَّى له أزلا أوّلا بحسب صورة ذلك الاستعداد الغيبيّ غير المجعول .
ثم يظهر في كل وقت وحال للمتجلَّى له في عرصة الوجود العيني على تلك الصورة التي هي صورة الحق في عينه العينّية أو صورة عينه الغيبية في الحق كيف قلت فإنّك في الكلّ مرآته من وجه وباعتبار .
وهو مرآة الكلّ من وجه وباعتبار ، فمهما تجلَّى لك فما رأيت في تجلَّي الحقّ لك إلَّا صورتك الغيبيّة الأزلية إن كان تجلّ ذاتي أو صورة نسبية ذاتية من النسب ، فما رأيت الله من كونه عين الكلّ ظاهرا بصورة الجمع والإطلاق الذاتي أبدا ، وإذا لم تره كذلك ، فما رأيته ، وما دمت أنت أنت ، ولم تكن عين الكلّ.
فلن ترى الحق الذي هو عين الكلّ المطلق عن قيد التعيّن في الكلّ وبالكلّ ، وعن الجمع بين القيد والإطلاق ، فكيف أنت تعلم أنّك متعيّن بصورتك الأزلية الأصلية العلمية في عين صورتك العينية الفصليّة الوصلية الأبدية في مرآتية الوجود الحق والحقّ المطلق ، فكما أنّ الرائي صورته أو صورة غيره في المرآة لا يرى سوى صورة الناظر .
ولا يمكن أن يرى جرم المرآة حال استغراق الشهود والرؤية بالصورة المثالية المرئيّة ، إذ الشهود التعيّني والإبصار الشخصي التشخّصي لا يسع في كل وقت واحد معيّن إلَّا مشهودا واحدا معيّنا كذلك وصورة واحدة شخصية ، مع علمه بأنّ تعيّن الصورة المشهودة وحصول الرؤية وتعلَّق الشهود بما ليس إلَّا في المرآة ، ولهذا تكسب الصورة صفتها ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « حتى أنّ بعض من أدرك مثل هذا في صور المرئيّ ذهب إلى أنّ الصور المرئيّة بين بصر الرائي وبين المرآة . هذا أعظم ما قدر عليه من العلم . والأمر كما قلناه وذهبنا إليه . وقد بيّنّا هذا في الفتوحات المكَّية .
وإذا ذقت هذا ، ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في وسع المخلوق . فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج ،فما هو ثمّ أصلا وما بعده إلَّا العدم المحض".
بيان الأقوال في الإبصار
قال العبد : اختلفت الأقوال في كيفيّة تعلَّق الرؤية بالصورة المرئيّة في المرآة :
فمن قائل : إنّ مثال الصورة منطبع في المرآة ، ويتعلَّق به الشهود والرؤية في المرآة .
ومن قائل : إنّ الجسم الصقيل الصلب يوجب انعكاس النظر إلى ما يحاذي المرآة ، فيدركه البصر خارجا عن المرآة .
وقيل له : لو كان ذلك كذلك ، لما أدرك اليمين شمالا ، ولا الصورة على شكل المرآة ، بل أدركها كما هي خارجة عن المرآة .
وأجيب عن هذا : أنّ انعكاس النظر والقوّة الباصرة عن الجسم الصلب الصقيل يوجب ذلك في مرآة البصر ، لأنّه انعكس بحسب المرآة فأدّى الصورة منصبغة بموجب محلّ انعكاس النظر أوّلا .
وقال بعضهم : الصورة غير منطبعة في المرآة ، ولكنّها بين بصر الرائي وبين المرئيّ .
وذلك مبلغه من العلم .
وقيل : إنّ الصورة مدركة بعد انعكاس النظر عن الجسم الصقيل في عالم المثال .
والحق أنّ الصورة لو لم تكن منطبعة في المرآة ، لما تكيّفت بكيفيّتها من الاستدارة والاستطالة ، ولم تنعكس أيضا على قول القائلين بالانعكاس كذلك أيضا  فإنّها إن انعكست إنّما تنعكس بعد الانطباع .
وفي هذا الموضع مباحث شريفة :
منها : أنّ مرآتية الباصرة إن لم تنطبع فيها الصورة المثالية ، لما حصل الإدراك ، فإن كان حصولها في المرآتيّة البصرية بعد انعكاسها في سطح المرآة في الخارج ، لكان اليمين يمينا واليسار يسارا ، لأنّها صورة مثال المثال قد انعكس مساويا للأصل ومشاكلا له في الأصل في صورة مرئيّة في المرآة ، وليس ذلك كذلك .
فالإدراك إذن تعلَّق بالصورة في المرآة منعكسة ، أو انعكست مرآة الباصرة إلى الصورة الخارجة من هذا الجسم الصلب الصقيل على هيئة السطح ، فانعكست أمثلة الصور في مرآة الباصرة ، فأدركته المدركة منعكسة .
كذلك مثل انعكاسها في المرآة الخارجة ، فكان يمينها يسارا للصورة الأصلية ، والأعلى أسفل في بعض الأوضاع ، لتخالف الجهات في مطامح النظر ، فتدركها القوّة الباصرة بنورها الذاتي ومعاونة نور الضوء الخارج فيها بحسبها ، بل بحسب تعيّنها في المرآة ، فافهم .
وإذا تحقّقت بهذه الأصول في الشاهد ، فاعلم : أنّ تعيّن الحق لك في مرآة عينك الثابتة إنّما يكون كذلك بحسبها وبموجب خصوصيتها وصورة استعدادها ، فما ترى الحق في تجلَّيه الذاتي لك إلَّا بصورة عينك الثابتة ، فعينك في رؤيتك للحق المتجلَّي لك مثل باصرة عينك في رؤيتك لصورتك في المرآة ، فلا ترى الحق فيك إلَّا بحسب خصوصيّة عينك الثابتة ولكن في مرآة الوجود الحق وهو مثل للنور الخارجي من وجه .


وهذا أعلى درجات الكشوف والشهود بالنسبة إلى مثلك إلَّا أن يكون عينك عين الأعيان الثابتة كلَّها لا خصوصية لها توجب حصر الصورة في كيفية خاصّة ، بل خصوصية أحدية جمعية برزخية كمالية ، فتعيّن الحق لك حينئذ مثل تعيّنه في عينه ، بل عين تعيّنه لنفسه ، بل أنت عينه ، فافهم .
ودون هذين الشهودين ، شهودك للحق في ملابس الصور الوجودية ، نوريّها ومثاليّها وروحانيّها ، عقليّها ونفسيّها وطبيعيّها وعنصريّها وخياليّها وذهنيّها وبرزخيّها وحشريّها وجنانيّها وغير ذلك فكلّ ذلك بحسب تجلَّيه من عينك لا من عين غيرك .
فأعلى درجات شهودك الحق هو بعد تحقّقك بعينك الثابتة فإذا اتّحدت أنت بعينك الثابتة فكنت أنت عينك من غير امتياز تعيّنيّ ، رأيت الحق كما يرى نفسه فيك ، ورأيت عينك صورة للحق في الحق ، فافهم ، وما أظنّك تفهم ، إلَّا أن تلهم وتعلم بعلم ما لم تكن تعلم ، وما ثمّ أعلى من هذا في حقّك فلا تطمع ولا تتعب .
وما بعد الحقّ ومرآته ومظهره الذاتيّ وهو عينك الثابتة التي هي صورة معلوميّتك للحق أزلا إلَّا العدم ، لأنّك من حيث عينك الثابتة وصورة معلوميّتك موجود أزلا وأبدا ، وأنت من حيث إمكانك ووجودك العيني معدوم العين أزلا .
قال رضي الله عنه : « فهو مرآتك في رؤيتك نفسك ، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها ، وليست سوى عينه ، فاختلط الأمر وانبهم ، فمنّا من جهل في علمه
وقال: العجز عن درك الإدراك إدراك " .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ هويّة الوجود الواحد الحق مرآة لظهور الإنيّات الوجودية العينية فيها ، وبها ظهرت الحقائق الكيانية ، ولولا تجلَّي الوجود الحق ، لما رأيت صورتك العلمية الأزلية الغيبيّة ، فإنّك إنّما ظهرت في نور الوجود الحق بصورتك العينية الوجودية على مثال صورتك العلمية الأزلية الغيبيّة ، فالوجود الحق مرآة لإنّيّتك العينية ، والعلم الحق مرآة لصورة عينك الغيبية الذاتية المعنوية ، وهويّتك الأزلية في شهودك نفسك وعينك .
وكذلك أنت مرآة للحق في تجلَّيه الوجودي ورؤيته وشهوده بصور أسمائه ونسبه الذاتية وصفاته الربانية ، وليست هذه النسب إلَّا عينه لا غيره ، لكونها غير زائدة عليها ولا موجبة للكثرة ، وليست قادحة في وحدة وجوده العيني كما ذكرنا .
فلمّا كان ظاهر الحق وهو أنت مجلى ومرآة لباطنه من وجه ، وفي شهوده ووجوده أيضا مرآة لظهور نسبه الغيبيّة التي هي فيها عينه من وجه آخر ، وكذلك أيضا هذه النسب مراء ومجال لتعيّنات الوجود الواحد ، فصدق على كل واحد من الحق والخلق أنّه مظهر وظاهر وشهادة .
 فاختلط الأمر واشتبه على الناظر ، وخفي الشهود ، ودقّ الكشف ، وجلّ الأمر عن الضبط والإحاطة والحصر ، وعزّ التجلَّي ، فاقتضى في بعض المشاهد والمشارب الحيرة والعجز والهيمان ، فأقرّ صاحبه بالعجز ، واعترف بالجهل .
 بمعنى أنّ العلم بما لا يعلم أنّه لا يعلم علم ، والعلم بعدم إحاطة العلم بما لا يحاط به علما علم حقيقي به كذلك ، فالعلم بما لا يعلم وهو الجهل بما من شأنه أنّه لا يحيط به العلم غاية العلم به ، وعدم الانحياز إلى جهة معيّنة فيما لا ينحصر فيها هو حقيقة حيرة الكمّل ، والتقاعد والعجز عن إدراك ما يعجز عن إدراكه هو غاية الإدراك .
كما قال أبو بكر رضي الله عنه : والعجز عن درك الإدراك إدراك ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « ومنّا من علم ولم يقل مثل هذا وهو أعلى القول ، بل أعطاه العلم السكوت ، ما أعطاه العجز وهذا هو أعلى عالم بالله ، وليس هذا العلم إلَّا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلَّا من مشكاة الرسول الخاتم وما يراه أحد من الأولياء إلَّا من مشكاة الوليّ الخاتم " .
قال العبد أيّده الله به : المتحقّق بهذا الشهود في هذا المقام من لا يكون عينه الثابتة وصورة معلوميّته لله أزلا مخصوصة بخصوصية جزوية ، بل تكون محيطة كلَّية في مظهريته إحاطة أحدية جمعيّة تجمع في مظهرية عينه الغيبيّة حقائق المظهريات كلَّها .
فإنّها عين الأعيان وحقيقة الحقائق ، فالتجلَّي الذاتي له وفي قابليته يكون تجلَّيا أحديا جمعيا كماليا بحسب عينه وقابليته الأحدية الجمعية المطلقة ، فيشهد في هذا التجلَّي بظاهره ظاهر الحق وباطنه ، وبباطنه باطن الحق وظاهره ، وبأحدية جمعه القطبي وخصوصه الكمالي الحقّي ، يجمع بين جمعيّتي الظاهر والباطن .
ويشهده الحق أيضا كذلك في عين شهوده إيّاه ، كذلك عينه بعينه شهودا أحديا جمعيا مطلقا عن التعين والحصر في عين واحدة ، فيعطيه التجلَّي في هذا المقام الإحاطة بغاية العلم ، والسكوت وعدم الحيرة ، بل أعطاه التحقّق بالكلّ حقيقة على ما هو عليه الكلّ والسكوت .
وهذا الشهود لا يكون إلَّا للحقيقة الإنسانية الكمالية المحمدية الأزلية الأوّلية والأبديّة الختمية وهي حقيقة الحقائق الأحديّة الجمعية الأزلية الأبدية بين جميع الجمعيات السرمدية ، فافهم .
وإذا رزقك الله فهمه والكشف به أو الإيمان بما قلنا .
فاعلم : أنّ لهذه الحقيقة الجمعية الأحدية الكمالية تعيّنا أحديا جمعيا كماليا في مرتبة  ظاهريّتها و باطنيّتها ، وغيبها وملكوتها ، فظاهريّتها النبوّة ، وباطنيّتها الولاية . ولكل واحد من التعيّن في المرتبتين صورة تفصيل جمعي بجميع التفاصيل ، وصورة جمع الجمع بين التفصيل وأحدية الجمع . وهذه هي الحقيقة المحمدية الكلَّية الكمالية الإحاطية الختمية ، والإنسان الذي يتعيّن به وفيه هو المظهر الأكمل ، والمراة الأجلى ، والمجلى الأشمل لذات الذات الإلهية وصفاتها وأخلاقها ونسبها وإضافاتها وأسمائها وأفعالها وحروفها وأحوالها .
فأمّا ظاهريّتها وهي جهة نبوّتها فمرآة ذات الألوهية ومظهرها ومجلاها ومنظرها وعرش أحديّة الجمعية للحقائق الوجوبية والأحكام الفعلية التي للربوبية .
وباطنها وهي ولايتها مرآة للهوية الحقيقية الأحدية الجمعية المطلقة .
ولكل واحد من مرتبتي النبوّة والولاية جمع وتفصيل .
والجمع جمعان : جمع قبل التفصيل ، وجمع بعد التفصيل .
ولكلّ واحد من الجمعين تعيّن في مرتبتي الفعل والتأثير والوجود ، والانفعال والتأثّر والإمكان وجمع بين الجمعين في أحدية جمع المرتبتين .
فالجمع الأوّل في المرتبة الأولى العليا لحقائق الوجوب والألوهية ورقائق الأسماء والربوبية هو لله الواحد القهّار الأحد ، والمظهر الظاهر لهذا الجمع في مقام التفصيل مجموع العوالم أمريّها وخلقيّها على كثرة أجناسها وأنواعها وتفاصيلها غير المتناهية واتّساعها.
 لكون ظهور الآثار الإلهية وأحكام أسماء الربوبية على التمام والتفصيل إنّما هو في العالم كلَّه ، فجميع العوالم مظاهر تفاصيل الأسماء الإلهية ، والألوهية التي لها هذه الجمعية المحيطة بحقائق الفعل والتأثير والوجوب لذاتها تستلزم جمعية جمع الحقائق الكونية الانفعالية التفصيلية على الوجه الأتمّ ، حتى تظهر آثارها وأحكامها .
وهو مجموع العالم ، ومظهره في مرتبة الجمع الأوّل الجامع قبل التفصيل في مرتبة المظهرية الجمعية هو آدم عليه السّلام وهو الإنسان الأوّل ، ومنه يكون التفصيل الأحدي الجمعي ، فكما أنّ الجمع قبل التفصيل الأسمائي لله ، فكذلك أحدية جمع الجمع الأوّل بعد التفصيل المظهري الكياني العالمي لأوّل الإنساني صورة .
والتفصيل الأحدي الجمعي المظهري منه يكون على وجهين : معنويّ وصوري ، إذ كلّ واحد من الجمعين في كل واحدة من مرتبتي الظهور والبطون أعني الولاية والنبوّة إمّا أن يكون جمع الفرق ، أو جمع الجمع ، فالجمعية التي في آدم عليه السّلام جمعية أحدية جمعيات الصور المظهرية العنصرية الإنسانية قبل التفصيل ، فهو صورة جمع تجمع ظاهرية المظاهر الأحدية الجمعية .
ولهذا الجمع في مرتبة التفصيل الجمعي مظاهرهم الكمّل من النوع الإنساني من الأنبياء والأولياء من لدن آدم عليه السّلام إلى الختم الظاهر والختم الباطن .
فتفصيل الجمعية الإلهية جميع الأسماء التي لا يبلغها الإحصاء الظاهرة بالتفصيل في تفاصيل صور العالم الفرقانية كما مرّ ، فصور حجابيّات جمعيات هذا التفصيل الفرقاني الجمعي هم الكفّار المذكورون في القرآن من الفراعنة .
وتفصيل الأحدية الجمعية الإنسانية النورية الحقّية في الأناسيّ الكاملين إلى الختم ، والختم أحدية الجمع الجمعي الإنساني  ولهذه المرتبة أحدية جمع جميع المحامد والكمالات الذاتية والإلهية :
فإن كانت في مرتبة ظاهرية الإنسانية الكمالية وهي النبوّة فالإنسان القائم بهذه الأحدية الجمعية الكمالية هو خاتم الأنبياء والرسل ، محمّد بن عبد الله ، المصطفى ، رسول الله وخاتم النبيّين صلَّى الله عليه وسلَّم اصطفاه الله ، لكمال أحدية جمع جمع الحكم الإلهية الربّانيّة والحقائق الوجوبية الفعلية المؤثّرة في المرتبة الكمالية الإنسانية ، وهو حامل لواء احمد وحمد الحمد الذي هو مأوى جميع محامد الجمع ومجامع الحمد .
وهذه الحقيقة الختمية النبويّة تنبئ جميع الحقائق المظهرية الإنسانية بحقائق الجمع الإلهي ، ولهذا « كان نبيّا وآدم بين الماء والطين » فلا تعيّن لحقيقة آدم إلَّا في الماء الإلهي ، وهو ماء الحياة والطهارة الفطرية التي في نفس النبوّة ، فافهم .
وإن كانت أحدية جمع جميع الكمالات والمحامد المذكورة في باطن المرتبة الكمالية الإنسانية الإلهية الذاتية وهي الولاية فالإنسان القائم بباطن أحدية جمع جميع الكمالات ، فإن كانت أحدية جمع الجمع الخصوصي .
فهو خاتم الولاية المحمدية الخاصّة ، وهو أكمل ورثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم في المرتبة الختمية ، وإن كانت أحدية جمع جمع العالم في روح باطن الأحدية الجمعية الإنسانية الكمالية فالإنسان القائم بها هو عيسى روح الله وكلمته ، خاتم الولاية العامّة على الإطلاق في آخر نشأته الخصيصة بالولاية .
وإذا عرفت هذه الأصول ، عرفت أنّ اسم الحقيقة الإنسانية الكمالية الجمعية الأحدية على سبيل المطابقة هو " محمّد " فإن كانت الجمعيّة من حيث الظاهرية والنبوّة ، فمظهره أحدية جمع جمع الحقائق الوجوبية والنسب الإلهية والربوبية ، ولهذا الجمع الاختصاصي الختمي روح ومعنى وصورة ، فالصورة تجمع بين الروح والمعنى ، لأنّها أحدية جمع المعنوية والروحية ولوازمها وخصائصها .
 فإذا اجتمعت الحقائق والمعاني اجتماعا أحديا ، ظهرت عليها صورة التسوية الإلهية ، ونفخ الله فيها بنفسه الرحماني روح الأحدية الجمعيّة الكمالية التي هي جامعة بين الجمعية الروحية وبين الجمعية المعنوية الحقيقية وبين الجمعية الجسدانية البشرية و هو « محمّد » صلَّى الله عليه وسلَّم والمخصوص بالجمعية الظاهرية أبو البشر .
والمخصوص بجمعية الروح ، الباطنية هو روح الله وكلمته .
والمخصوص بجمعية الجمع بين الجمعيات الأحدية المذكورة في باطن المرتبة المعنوية الحقيقية ، هو خاتم ولاية الخصوص  محمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن العربيّ منشئ الفصوص رضي الله عنه وجمعية هذا الختم جامعة بين روح الجمعية ومعناها وصورتها ، ومستلزمة لظاهريّتها بحقيقتها وفحواها.
ونسبته إلى خاتم النبوّة نسبة الابن الصلبي حقيقة ونسبة الروح نسبة الابن غير الصلبي ، وختمية البطون والولاية مشتركة بينهما .
ولم يكاشف بمقام هذا الختم الخصوصي من أولياء الله المتقدّمين إلَّا الإمام العلَّامة محمد بن علي الترمذي الحكيم ، صاحب « نوادر الأصول » وهو من مشايخ الطبقة العالية ، فتح له في الاطَّلاع على مقام هذا الختم .
فلمّا ذكره في كتبه ، واشتهر ذلك عنه بين علماء زمانه الأعلام من مشايخ الإسلام ، وإشرأبّت نفوس أهل الدعوى إلى هذا المقام ، وعلم ذلك منهم ، وأنّه : الولاية الخصوص . أقول : والجامع بين المرتبة الروحانية الباطنية والظاهرية هو الوليّ المطلق الذي كانت ولايته على قلب الحقيقة المحمدية والمعبّر عنه بالولاية الخاصّة هو عليّ بن أبي طالب باعتبار والمهديّ الموعود باعتبار آخر ، لجمعها بين النسبة المعنوية والظاهرية جلال آشتياني.
ليس لهم ذلك ، وخاف عليهم من دعوى بلا معنى ولا فحوى ، أنشأ كتابا جامعا لمسائل غامضة خصيصة له بالمشرب الختمي .
وذكر أنّه لا يشرحها على ما ينبغي إلَّا خاتم الأولياء ، وأنّه يطابق اسم هذا الخاتم المجيب اسم الحكيم السائل رضي الله عنه وكذلك اسم أبيه يطابق اسم أبيه ، فلمّا عثر أهل الدعوى على هذا المعنى ، نكصوا على أعقابهم ، ورجعوا إلى الله عن تراميهم إلى مقام الختم وانتسابهم .
ثم لمّا بعث هذا الخاتم في أقصى البلاد وهو المغرب من العرب ، شرح تلك المسائل ، وأوضح الحجج على تلك الدلائل ، وحصلت المطابقة بين الأسماء كما ذكر الحكيم .
فكان ذلك أحد البراهين الدالَّة على ختمية هذا الخاتم الصحيح نسبته من طيّئ إلى الحاتم ، كما قلنا في بعض مدائحه رضي الله عنه في رسالة لنا سمّيناها بالنصوص الواردة بالأدلَّة على ختمية ولاية الخصوص في الغرّاء الميمية من فتوح دار السلام : شعر 
وخاتم حاتميّ الأصل من عرب     .....         عزّت به من كرام الغرب أعجام
له بحولان أخوال جحاجحة     .....         ومن صناديد آل الطيّ أعمام
القصيدة بطولها في الرسالة المذكورة ، فاطلبها منها إن شاء الله تعالى .
ومن الدلائل على ختميته ما روّينا من مشهده الغيبي القلبي الذي رآه بقرطبة من تنزّل أرواح السيّارات وأرواح منازل القمر وهي ثمانية وعشرون على عدد الحروف وأرواحها أيضا ، فإنّها تنزّلت في صور الجواري الحسان النورانيّات ، وباشرهنّ واقتضّهنّ جميعا ، وهذا المشهد لا يراه إلَّا أكمل ورثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم في الختمية الخصوصية المذكورة ، على ما استدللنا بذلك على ختميته في تلك الرسالة ، فاعلم ذلك .
ومن دلائل ختميته رضي الله عنه أيضا أنّه كان بين كتفيه في مثل الموضع الذي كان لنبيّنا خاتم النبيّين صلَّى الله عليه وسلَّم علامة مثل زرّ الحجلة ، ثابتة لهذا الخاتم أيضا تقعير يسع مثل زرّ الحجلة ، إشارة إلى أنّ ختمية النبوّة ظاهرة عليّة فعليّة ، وختميته رضي الله عنه باطنة انفعالية خفيّة .
قال رضي الله عنه في قريض نظمه في بعض مشاهده ، حكاية عنه تعالى لملائكته فيه رضي الله عنه شعر :
ولمّا أتاني الحقّ ليلا مبشّرا      .....         بأنّي ختام الأمر في غرّة الشهر
وقال لمن قد كان في الوقت حاضرا     .....         من الملإ الأعلى من عالم الأمر
ألا فانظرا فيه فإنّ علامتي     .....         على ختمه في موضع الضرب بالظهر
وفيه : أنا وارث لا شكّ علم محمّد     .....         وحالته في السرّ منّي وفي الجهر
وأنّي لختم الأولياء محمّد     .....         ختام اختصاص في البداوة والحضر
القصيدة بطولها في الرسالة وفي الديوان .
ومن دلائل ختميته أيضا قال رضي الله عنه في قريض له في أوّل الفتوح المكَّي ، قال ونظمه في عين المشهد ، شعر :
الله أكبر والكبير ردائي     .....         والنور بدري والضياء ذكائي
والشرق غربي والمغارب مشرقي     .....         وحقائق الخلق الجديد أماني
والنار غربي والجنان شهادتي     .....         والبعد قربي والدنوّ تنائي
وإذا انصرفت أنا الإمام وليس لي     .....         أحد أخلَّفه يكون ورائي
فهو الخاتم ، وقال فيه مستشهدا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا المشهد الأقدس ، والتجلَّي الأنفس الآنس شعر :
يا سيدي حقّا أقول فقال لي     .....         صدقا نطقت فأنت ظلّ ردائي
فاحمد وزد في حمد ربّك دائما     .....         فلقد وهبت حقائق الأشياء
من كل حق قائم بحقيقة      .....         يأتيك مملوكا بغير شراء
يشير إلى ما ذكرنا من تنزّل الأرواح لسعته حين قطابته .
وقال أيضا :
وأنا ختم الولاية دون شكّ     .....          بورث الهاشميّ مع المسيح
ومن ذلك إيراده رضي الله عنه ما أورده في الفصوص ، من ختميات مقامات الكمال في النبوّة من مشرب الخصوص ، لأرباب صفاء الخلوص .
وهاهنا لا يستقصى ذكر الدلائل على ختميته في هذا الكتاب ، فقد سبق لنا في كتاب النصوص في ختم ولايته الخصوص ما فيه شفاء العليل ، وبرد الغليل .
 " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
قال رضي الله عنه : « حتّى أنّ الرسل لا يرونه متى رأوه إلَّا من مشكاة خاتم الأولياء فإنّ الرسالة والنبوّة أعني نبوّة التشريع ورسالته تنقطعان ، والولاية لا تنقطع أبدا ، فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلَّا من مشكاة خاتم الأولياء ، فكيف من دونهم من الأولياء ؟ ! " .
قال العبد أيّده الله به :  مشكاة خاتم الأولياء عبارة عن الولاية الخاصّة المحمدية ، ومشكاة خاتم الأنبياء عبارة عن النبوّة الخاصّة الختمية الشرعية ، وهي اختصاص من الله لرسوله بخصوصية ذاتية له صلَّى الله عليه وسلَّم بهذا المقام أوجبت كونه خاتم النبيّين .
وهي أحدية جمع النبوّات التي كانت متفرّقة في جميع الأنبياء ، وهم صور تفصيلها ، والنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صورة أحدية جمعها ، ولأنّ النبوّة ظاهر الولاية ، والولاية باطنها ، إذ النبوّة عبارة عن نسبة اختصاصيّة للنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بين أمّته وبين الله .
 من كونه واسطة بينه تعالى وبينهم ، وسمّيت هذه النسبة وسيلة يتوسّل بها إلى الله أمّته ، وولايته عبارة عن النسبة التي بين الله وبين النبيّ من غير وساطة أحد .
أشار إليها بقوله : " لست كأحدكم ، لست كهيئتكم " وسمّاها فضيلة ، وحرّض الأمّة عند الأذان بسؤال هاتين الدرجتين كما تقول له : وأعطه الوسيلة والفضيلة ، فإنّ الفضيلة للنبيّ على أمّته من جهة هذه النسبة التي لا واسطة فيها بين النبيّ وربّه.
 ومن حيث هذه النسبة العليّة يأخذ عن الله وينزّل الله عليه الحكم والأحكام الإلهية في نفسه وأمّته بما فيه مصالحهم الظاهرة المعيشية الدنياويّة ومصالحهم الدينية الأخراوية الروحانية .
 ثم يوصل من تلك الحكم والأحكام في صور الأوضاع الشرعية الفرعية ، والأوامر والنواهي المرضيّة المرعيّة من حيث النسبة الأولى أعني النبوّة إلى الأمّة ما يليق بأحوالهم ويناسبهم ويدعوهم إلى الله والتعبّد له فيها وبها .
وعلى هذا يكون كلّ نبيّ ينبئ عن الله أمّته بما أمر بإنبائه ممّا أنبأه الله عن نفسه ودينه نبيّا وليّا ، ولا يلزم أن يكون كل وليّ نبيّا ، فالنبيّ إنّما يأخذ نبوّته وأحكام شريعته بولايته ، فإنّ حقيقة الولاية القرب والسلطان والنصرة ، وأنهى درجات القرب ارتفاع الوساطة .
كما قال : « لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل » والنبوّة لا تكون إلَّا بواسطة الملك الذي يوحي إلى النبيّ .
فمشكاة الولاية وإن كانت لرسول الله ، ولكنّها تخصّ بالقائم المتعيّن فيها ، فيقال فيها : إنّها مشكاة خاتم الأولياء .
 فهذا معنى قوله : رضي الله عنه : « حتّى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلَّا من مشكاة خاتم الأولياء » يعني إذ أشهد الله الرسل والأنبياء علوما وأسرارا خصيصة بالولاية والقرب ، فإنّما يشهدهم من حيث الولاية الخاصّة بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم أو من حيث الولاية العامّة .
 ولا سيّما وسرّ القدر الذي ينافي ويباين علمه علم مقام الدعوة من الأمر والنهي ، كما أومأ إليه أبو العبّاس الخضر عليه السّلام لموسى عليه السّلام بقوله عليه السّلام : « أنا على علم علَّمنيه الله ، لا تعلم أنت ، وأنت على علم علَّمك الله لا أعلمه أنا » .
 أي لا ينبغي لكل واحد منّا الظهور بما يباين مرتبته ومقامه .
والنبيّ يأخذ من الحكم الإلهية ما قدّر له أن يأخذ من جهة ولايته على ثلاثة أنحاء :
حكمة تختصّ به دون أمّته .
وحكمة يشارك فيها أمّته .
وحكمة يختصّ بها أمّته دونه .
ولا يأخذ النبيّ هذه الحكم إلَّا من حيث مشكاة الولاية .
ثم لمّا كانت النبوّة نسبة بين الخلق والنبيّ ، فهي منقطعة ولا بدّ ، يعني أنّه لا ينزل الملك إلى أحد بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشريعة مخالفة لهذه الشريعة أبدا ، فهي منقطعة لذلك .
وأمّا الولاية فغير منقطعة ، لأنّ الأخذ عن الله وإلقاءه وتجلَّيه وتعليمه وإعلامه وإلهامه غير منقطعة أبدا عن أولياء الله ، لأنّ الله سمّى نفسه بالوليّ الحميد ، ولم يسمّ بالنبيّ ولا الرسول ، وإذا لم يكن هذا السرّ المذكور أيضا من شهوده تعالى بالعين الثابتة مشهودا للرسل والأنبياء إلَّا من مشكاة الخاتم الوليّ ، فبالحريّ والأوجب أن لا يشهده الأولياء إلَّا من هذه المشكاة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من الشرائع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه ، فإنّه من وجه يكون أنزل ، كما أنّه من وجه يكون أعلى " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الاتّباع والاقتداء بشريعة الرسول الخاتم ، لا يقدح في علوّ مقام خاتم الولاية التابع لخاتم الأنبياء ، فإنّ الولاية من أحد وجوهها الاشتقاقية هي كمال التبعية للرسول الإلهي الحقّ ، ونصرته ونصرة شريعته .
والسلطان الذي يعطي ويورث التابع شرف الاطَّلاع والشهود ، فإنه قد يكون من وجه أعلى منه من وجه آخر ، يعني أنّ التابع من حيث النبوّة ، المتبوع من حيث الولاية هو من ولايته أعلى منه من حيث تابعيّته ، كما أنّه من وجه وباعتبار أنزل منه كذلك . ولا تظنّنّ أنّ الوليّ أعلى من الرسول ، فليس كذلك .
بل الأفضلية بين الوليّ التابع من كونه تابعا جامعا لمراتب الولاية وبين نفسه أيضا من كونه متبوعا ، فهو من كونه متبوعا في مقامات الولاية أعلى منه من كونه تابعا في الشريعة الظاهرة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيّد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم ، وفي تأبير النخل ، فلا يلزم الكامل أن يكون له التقدّم في كلّ شيء وفي كلّ مرتبة " .
قال العبد : لمّا فضّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأي عمر في قضيّة الأسارى وقصّتهم على آراء الصحابة ، مع كونه فيهم ، وكذلك قال في تأبير النخل : « أنتم أعلم بأمور دنياكم » فأثبت لهم الفضيلة في العلم بأمور الدنيا ، علمنا أنّ الفضائل الجزوية ممّا لا يكون من مقتضيات النبوّة إذا وجدت في غير النبيّ ، ولم توجد فيه ، فإنّ ذلك لا يقدح في أفضلية الخاصّة من حيث درجة النبوّة ، ولا يوجب أفضلية ذلك الشخص على الرسول مطلقا ، بل في عدم ما ينافي مقام النبوّة وكمالها وأفضليتها ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وإنّما نظر الرجال إلى التقدّم في مراتب العلم بالله ، هناك مطلبهم . وأمّا حوادث الأكوان فلا تعلَّق لخواطرهم بها ، فتحقّق ما ذكرنا ".
قال العبد : نظر أهل الله وخاصّته من وجهين :
أحدهما : يشترك فيه الأنبياء والأولياء ، كالاختصاص والقربة والرضوان والإخبار والإنباء عن الله تعالى والعلم والمعرفة بالله والشهود والتجلَّي .
والثاني : خصّت به الأنبياء من كونهم متبوعين ومشرّعين ومكلَّفين بالأوامر والنواهي الإلهية يتعبّدون بها الله أممهم ويعبدونه ، وليس لأولياء الله تطَّلع ولا رغبة واستشراف إلى هذه الفضائل من كونهم أولياء ، وإنّما نظرهم وتنافسهم وتفاضلهم في العلم بالله .
فالأعلم بالله هو الأكمل وإذ قد صحّت الأكملية لخاتم الولاية من حيث العلم بالله ، فقد صحّت متبوعيّته في ذلك لغيره من الأولياء وغيرهم .
وهذه الفضيلة الخصيصة به لا تنافي كونه تابعا ، ولا توجب متبوعيّته من كل وجه ، كما لا يقدح عدم العلم بتأبير النخل في كمال ختمية الخاتم الرسول ، وهذا الوليّ الخاتم الوارث ، تبعيته لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمرتبة والذات والحال والخلق والأعمال.
ولو شرعت في المناسبات والمطابقات الواقعة بين هذين الختمين في جميع ما ذكرنا من العلم والمقام والخلق والحال ، لطال المقال ، ومال إلى أهل الميل السأمة والملال ، فلقد كملت وراثة من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في العلم بالله وفي جميع الأعمال المشروعة على الوجه الذي كان النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعملها بغير زيادة ولا نقصان .
محتسبا في كل ذلك تحرّي كمال بياعه ، حتّى أنّه جرى عليه رضي الله عنه مندوحة من جميع ما عليه من الأحوال ، فكسرت سنّه وشجّت جبهته ، ولم يلتفت في جميع عمره رضي الله عنه عن غرض يلوي عنقه أو جيده إلى جهة.
بل كان رضي الله عنه لا يلتفت وإذا التفت التفت جمعا ، مثل ما كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يفعلها بالطبع لا بالتكلَّف ، مع انضمام تحرّي الاتّباع له .
ولو طالعت كتاب « الأسرار » لهذا الخاتم ، واطَّلعت على أسراره ، لعلمت أنّه اتّبعه في جميع مقاماته ومشاهده ومعاريجه وبرازخه وتجلَّياته بالمرتبة والذات والعلم والحال والخلق حذو القذّة بالقذّة ، كما عدّدنا بعض ذلك في رسالة النصوص ، والحمد لله .
قال رضي الله عنه : " ولمّا مثل النبيّ النبوّة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة ، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تلك اللبنة غير أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يراها إلَّا كما قال : لبنة واحدة " .
قال العبد : إنّما مثّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم النبوّة بالحائط ، لأنّ النبوّة صورة الإحاطة الإلهيّة بالأوضاع والأحكام الشرعية والحكم والأسرار الدينيّة الوضعية المرعيّة ، قد وضعها الله على ألسنة رسله وفي كتبه قبل ظهور الشريعة الجمعيّة الأحدية والأوضاع الكمالية المحمدية .
فكملت من حيث صورتها التفصيليّة ولكنّها كانت ناقصة من حيث عوز الوضع الأحدي الجمعي والمقام المحمدي الختمي الذي يستوعب الكلّ ، وكلّ لبنة كانت في تلك الحائط كانت صورة نبيّ من الأنبياء ، فالحائط كالقلادة المشتملة على جواهر الأنبياء.
وكان يعوزهم واسطة القلادة التي تساوي الكلّ ، وهو أحدية جمع الكمّل من الأنبياء ، كلَّهم الذين هم صور تفصيله ، فلا بدّ للرسول الخاتم أن يرى نفسه تنطبع في تلك الثلمة ، ويسدّ بذاته تلك الخلَّة ، فيكمل به الحائط ، لأنّه صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم النبوّة المبعوث لتتميم مكارم الأخلاق .
ولا بدّ لوارث كل رسول أن يجري عليه أنموذج من جميع أحواله التي جرت على ذلك الرسول الذي هذا الوليّ وارثه وتابعه في أعماله وأحواله وعلومه وأخلاقه ومشاهده ومواجده ، لكونه قد أقامه الله مقام ذلك النبيّ أو الرسول في ولايته كذلك .
ولا بدّ لهذا الوارث المحمدي الأكمل كذلك أن يرى مثل هذه الرؤيا وإلَّا لم يستكمل في ورثة وهو كامل الورث ، فيرى ذلك ولا بدّ .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وأمّا خاتم الولاية فلا بدّ له من هذه الرؤيا ، فيرى ما مثّل به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويرى في الحائط موضع لبنتين ،واللبن من ذهب وفضّة.
فيرى اللبنتين اللتين ينقص عنهما الحائط ويكمل بهما لبنة فضّة ولبنة ذهب ،فلا بدّ أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين،فيكمل الحائط".
قال العبد أيّده الله به اعلم : أنّ الذهب صورة الكمال الحقيقي الذي به تصحّ المتبوعيّة ، وهو باطن النبوّة ومعناها وأصلها الذي بدأت منه ومنتهاها .
فكذلك الذهب باطن الفضّة وهو حقيقتها ، طرأ عليه قبل كماله ونضجه البرد ، فابيضّ ، والفضّة أقبل الأجساد للذهبية ، لكمال طهارتها ونوريّتها إلَّا أنّها ستبطل  صورتها ، وتحرقها محرقاتها ، بخلاف الذهب ، فإنّه جوهر حافظ صورته النوعية على مرور الزمان وضروب الحدثان .
فلا يتسلَّط عليه النار والتراب والكباريت كما نفذوا على الفضّة التي هي صورة مظهر النبوّة والصفة ، إذ الفساد الطارئ على الأجساد إنّما متعلَّقه الصور لا الحقائق ، فإنّ الحقائق لا تنعدم ولا تتبدّل ، وإنّما متعلَّق الانعدام والتبدّل الصورة لا غير .
كذلك الولاية لا تنقطع ، فإنّ الله هو الوليّ الحميد ، وهو خير الوارثين .
ولمّا كان خاتم الأنبياء والرسل في التخلَّق بأخلاق الله والظهور بأوصاف العبودية وإقامة الشرائع والدين والدعوة إلى الله ونصرته متبوعا للكلّ في الكلّ .
وهو صلَّى الله عليه وسلَّم غير مأمور بكشف الحقائق والأسرار الذاتية ، بل كان مأمورا بسترها في الأوضاع الشرعية والديانات الوضعيّة والسنن الكلَّية الأصلية والجزئية الفرعية .
والنبوّة هي الدعوة إلى كلّ ذلك والظهور بها والاتّصاف بجميعها ، فلهذا مثّل الله له النبوّة المحيطة بسائر النبوّات الجزوية الفرعية والأحكام والنواميس الشرعية في صورة حائط تنقصه صورة لبنة واحدة فضيّة .
إشارة إلى ما كان ينقص النبوّة من تبعية أمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ولا تنسدّ تلك الخلَّة إلَّا بوجوده صلَّى الله عليه وسلَّم ، لكونه أحدية جمع صورة المتبوعية المحيطة في جميع الأخلاق الإلهية ، وهو المبعوث صلَّى الله عليه وسلَّم لتكميلها وتتميمها ، فيرى نفسه تكون عين تلك اللبنة الفضيّة التي هي صورة أحدية جمع جميع الصفات الإلهية التي بعث لتكميلها إشارة إلى متبوعيّته في الأخلاق الإلهية والأوصاف والنعوت وإن كان تابعا لله تعالى في التخلَّق بكلّ ذلك ، فافهم ، ولهذا ما رآه إلَّا لبنة واحدة ، لأنّه متبوع لا تابع .
والمقام الأحدى الجمعي الحاصل من الجمع بين التبعية والمتبوعية ينتج العلم بأحدية جمع المتبوعية الإلهية الأصلية والتابعية المربوبية العبدانيّة ، ولأحدية جمع الجمع الذاتي الصورة الذهبية من الأجسام والفضّة معنى الصفات الذاتية القابلة من وجه عين ذهبية الموصوف ، وذلك بسريان سرّ الإكسير الكماليّ الأحدي الجمعي في أجزائها .
فلمّا كان هذا الوليّ الكامل التبعية لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كامل الوراثة أيضا في العلم والحال والمقام ، أعطي متبوعية من سواه في العلم بالله ، والتابعية الكبرى من الوراثة المحمدية ، والولاية الخاصّة الجمعية الأحدية ، فلا بدّ أن يرى نفسه تنطبع في موضعي لبنتي الذهب والفضّة اللتين مثّل الله له فيهما النبوّة والولاية والتبعية والمتبوعية ، فيكون عينهما ، وكان ينقص عنهما صورة حائط الكمال الخصيص بالولاية ، فافهم .
[right]قال رضي الله عنه : " والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنّه تابع ومتبوع ، تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضيّة وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام ، كما هو آخذ عن الله في السرّ ما هو في الصورة الظاهرة متّبع فيه ، لأنّه يرى الأمر على ما هو عليه ، فلا بدّ أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن ، فإنّه أخذ عن المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول " .
قال العبد أيّده الله به اعلم : أنّ لخاتم الولاية الخاصّة ظاهرا أن يتّبع ظاهر الأمر النازل بالشريعة الطاهرة لإقامة ظاهر النشأة الإنسانية البشرية ، وباطنا تأخذه حقيقة الأمر ومعنى السرّ وروحه وكذلك باطن الجمعية الأحدية الكمالية .
فله من حيث تبعيّته الظاهرة لظاهر الشرع الطاهر المقتضي لإقامة ظاهر النشأة الدينية والطينية نسبة الفضّة ، لتبعية الفضّة للذهب في صفائها وصفاتها وطهارتها وكمالها في ذاتها وفي المعاملات والمبايعات العرفية الشرعية في جميع حالاتها .
فإنّ الفضّة تنوب عن الذهب في أكثر مراتب كمالاتها ، ولكنّ الذهب أصل به تعدّ الفضّة ، ويثمّن بأضعاف أضعاف ثمن الفضّة ، ولهذا السبب تتجسّد هذه النسبة الظاهرية الوضعية والوصفية على صورة اللبنة الفضيّة .
ثم الخاتم المذكور رضي الله عنه من كونه آخذا للأمر حقيقة ومعنى بلا واسطة عن المعدن الذي أخذ عنه الملك الموحى إلى الرسول له حقيقة اللبنة الذهبية ، وهي العلم بما هو الأمر عليه في نفسه وعند الله ، فهو عالم به في السرّ ، عامل بموجبه في الجهر من كونه جامعا بين التابعية والمتبوعية ، فافهم. فإنّك إن فهمت هذا حصل لك العلم النافع ، والسرّ الجامع ، والمعنى المحيط الواسع .
قال الشيخ رضي الله عنه : " فإن فهمت ما أشرت إليه ، حصل لك العلم النافع " .
يعني رضي الله عنه لكونه مفيضا إلى كمال التبعية المنتج لكمال التحقّق بالحقيقة ، فإنّ حصول هذا العلم النافع إنّما هو بكمال التبعية لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المنتجة لمحبّة الله من قوله تعالى : " فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ".
فمن كان أكمل في تبعيته والتخلَّق بأخلاقه صلَّى الله عليه وسلَّم فهو الأفضل في التحقّق والأكمل في التخلَّق بحقائق الأخلاق الإلهيّة .
قال رضي الله عنه : " وكلّ نبيّ من لدن آدم إلى آخر نبيّ ما منهم أحد إلَّا يأخذ من مشكاة خاتم النبيّين وإن تأخّر وجود طينته ، فإنّه بحقيقته موجود ،
وهو قوله :" كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين » وغيره من الأنبياء ما كان نبيّا إلَّا حين بعث " .
قال العبد أيّده الله به : قد علمت فيما سلف أنّ الحقيقة المحمدية في صورتها الحقيقة التي حذي آدم عليها ، لم تزل قائمة بمظهرية الله في جميع العوالم العلوية الروحانية ، وفوقها قبلها في العوالم النورانية الأسمائية بالقبلية المرتبيّة والذاتية لا الزمانية .
وفوقها قبلها في العوالم النفسية الرحمانية العمائية ، وبعد وجوده وظهوره في الأرواح النورية ، كان روحه روحا كلَّيا جامعا لخصائص عوالم الأمر .
مبعوثا إلى الأرواح البشريّين والملكيّين نبيّا من عند الله بالاختصاص الأحدى الجمعي ، كما أشار إلى ذلك بقوله : « أوّل ما خلق الله نوري » فجمع الله في هذا النور المحمدي جميع الأنوار النبوية وأرواح الأولياء جمعا أحديا قبل التفصيل في الوجود العيني .
وذلك في مرتبة العقل الأوّل ومظهرية الاسم « المدبّر » ثمّ تعيّنت الأرواح في مرتبة اللوح المحفوظ وتميّزت بمظاهر خصائصها وحقائقها النورية .
فبعث الله الحقيقة المحمدية الروحية النورية إليهم نبيّا ينبئهم عن الحقيقة الأحدية الجمعية الكمالية .
فلمّا وجدت الصور الطبيعية العلوية الكلَّية من العرش والكرسي ، ووجدت صور مظاهر تلك الأرواح النبوية والأنوار الكمالية من الخلفاء والأولياء ، ظهر سرّ تلك البعثة المحمدية إليهم أيضا ثانيا ، فآمن من الأرواح من كان مؤهّلا للروحانية الأحدية الجمعية الكمالية الإنسانية الإلهية .
ولمّا وجدت الصور العنصرية ، ظهر حكم ذلك الإيمان في كل النفوس البشرية ، فآمنوا بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وكان خير أمّة أخرجت للناس ، كما أشار صلَّى الله عليه وسلَّم إلى هذا السرّ بقوله : « الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وبهذا المعنى « كان نبيّا وآدم بين الماء والطين ».
أي كان عالما بنبوّته إذ ذاك وإن لم يصدق إطلاق اسم النبيّ عليه السّلام .
ولا يخطر لك أنّ كلّ أحد بهذه المثابة من حيث إنّه كان في علم الله السابق قبل وجوده العيني كذلك ، فليس ذلك كذلك ، لأنّه ليس كل أحد عالما بذلك قبل وجوده العيني ، بل بعد وجوده واستكماله شرائط نبوّته بمتمّماتها ، والعلم الأزلي أيضا لم يتعلَّق به أنّه كذلك إلَّا بعد استكماله ما ذكرنا وفي نشأة دون نشأة ، بل هذا النوع من العلم والتذكير مخصوص بالكمّل والأفراد المحمديين الذين يتذكَّرون نشأتهم المقدّمة في عالم الأرواح والسماوات العلى وعوالم الأنوار والأسماء والتجلَّيات .
وهذا سرّ خفيّ جدّا دقّ عن الأفهام إلَّا من شاء الله من الندّر ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " وكذلك خاتم الأولياء ، كان وليّا وآدم بين الماء والطين ، وغيره ما كان وليّا إلَّا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتّصاف بها من كون الله تسمّى بالوليّ الحميد" .
قال العبد اعلم : أنّ خاتم الأولياء من كونه صورة من الصور المحمدية ختمت بها الولاية الخاصّة بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فكان حكمه حكم خاتم الرسل في علمه بكونه وليّا قبل وجوده العنصري ، فإنّ الحقيقة المحمدية الكلَّية المذكورة توجب المظهر الأكمل لتجلَّيها الذاتي بمرتبة الولاية .
كما توجب المظهر الأكمل لتجلَّيها في مرتبة النبوّة ، ولا بدّ من هذين الختمين ، وهما صورتا حقيقة واحدة في مرتبتين هما النبوّة والولاية ، والحقيقة هي الحقيقة المحمدية الكلَّية المذكورة الكمالية الإنسانية ، وحكمها بعكس ما قيل قبل :" نحن روحان حللنا بدنا " .
فإنّ هذا لا يصحّ فيما نحن بصدد بيانه ، ولكن في الاتّحاد والحلول عند من يقول بهما على الوجه الذي يقول بهما ، لا على ما عرف عرفا عاميّا .
ولكن يقال فيها : « نحن روح واحد في جسدين » وهذا الخاتم رضي الله عنه كان يذكر كيف كان حال كون خاتم الرسل نبيّا وآدم بين الماء والطين ، عالما بنبوّته الكاملة والولاية المحيطة الشاملة ، وكان يشهد لخاتم الرسل بالنبوّة والتقدّم على الأرواح الكاملة من الأنبياء والأولياء كما قال في قريضه ، شعر :
شهدت له بالملك قبل وجودنا     ..... على ما تراه العين في قبضة الذرّ
شهود اختصاص أعقل الآن كونه     ..... ولم أك من حال الشهادة في ذعر
لقد كنت مبسوطا طليقا مسرّحا     ..... ولم أك المحبوس في قبضة الأسر
يعني رضي الله عنه كنت عالما بنبوّته وختميته صلَّى الله عليه وسلَّم إذ ذاك قبل وجودنا العنصري ، وكونه مبسوطا طليقا مسرّحا لا محبوسا ، إشارة إلى مراتب أهل البرزخ في برازخهم ، فإنّهم على اختلاف درجاتهم وائتلاف طبقاتهم وتباين مقاماتهم على قسمين :
أحدهما وهو العامّ أرواح الناس المتقيّدين بالمقامات الجزئية والعلوم والأخلاق التقيّدية الفرعية ، كانوا في نشأتهم الدنياوية متقيّدين بعقائد وعوائد مخصوصة ، متعشّقين بعلوم وأعمال وأخلاق وأحوال جزئية ، فهم بعد المفارقة محبوسون بصور ما هم متعشّقون ، وفي قبضة أسر الأمر الذي هم متقيّدون .
والقسم الثاني صنف من كمّل الإنسان ، قطعوا في نشأتهم الدنياوية برازخهم ، وحشروا قبل الحشر ونشروا قبل النشر وبعثر قبور هياكلهم عن أرواحهم في صور الانسلاخات والمعاريج والإسراءات على ما تحقّق في قواعد الكشف والشهود .

وهؤلاء الكمّل غير مقيّدين بصورهم البرزخية ، بل لهم الإطلاق والسراح والانطلاق والظهور في أيّ عالم شاؤوا ، لكمال نشأتهم وقواهم ، فافهم .


قال رضي الله عنه : " فخاتم الرسل من حيث ولايته ، نسبته مع الختم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه ، فإنّه الوليّ الرسول النبيّ ، وخاتم الأولياء الوليّ الوارث ، الآخذ عن الله ، المشاهد للمراتب وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل ، محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم مقدّم الجماعة ، وسيّد ولد آدم في فتح باب الشفاعة " .
قال العبد أيّده الله به اعلم : أنّ الولاية المحمدية التي هي مشكاة خاتم الأولياء ، منها مادّة الولايات كلَّها ، المتفرّعة في أنبياء الأمم ورسلهم وعامّة الأولياء وخاصّتهم وخلاصة خلاصتهم وصفا خلاصة الخاصّة من حيث إنّ النبوّة لا تخلو عن ولاية هي باطنها .
ومن حيث إنّها صور نسب الولاية الكلية الكمالية المحمدية الإلهية من مرتبة التفصيل من مشكاته المذكورة ، فمنها وصول المادّة إلى الكلّ .
فنسبته في الأخذ عن الله من الوراثة المحمدية للولاية الجمعية الأحدية الكمالية مع محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم كنسبة الأنبياء والرسل في أخذ نبوّاتهم ورسالاتهم عن الله من الحقيقة المحمدية ، على ما تقرّر آنفا ، هذا لسان عموم أهل الذوق في هذا المقام .
سرّ للخواصّ :
لمّا تعيّن في ختمية الولاية الخاصّة المحمدية خاتم الأولياء ، وكانت مشكاته الخصيصة به هي الولاية الخاصّة المحمدية الإلهية الكمالية الختمية الأحدية الجمعية.
كتعيّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ختم النبوّة التشريعية المحيطة الكمالية الإلهية ، وهي المشكاة الخاصّة به صلَّى الله عليه وسلَّم وكانت النبوّات كلَّها مترتّبة على الولايات ، فإنّما هي صور أحكام حكم الولايات ، ظهر له نسبة خاتم الرسل إلى ختم الولاية من حيث إنّ نبوّته صلَّى الله عليه وسلَّم ظاهرية مشكاة ختم الولاية ، والولاية خصيصة به كنسبة سائر الرسل في أخذ نبوّاتهم من مشكاة الرسول الخاتم ، وولايتهم من مشكاة خاتم الولاية الخاصّة المحمدية ، فافهم إن شاء الله .
فمن عنده صلَّى الله عليه وسلَّم قسمة أرزاق العلوم والأذواق والمقامات والأحوال والأخلاق كلَّها ، فما تعلَّق منها بالنبوّة واختصّ بالرسالة يوصله الله من هذه المشكاة المحمدية إلى جميع الأنبياء والرسل حال وجودهم في نشأتهم وبعد المفارقة في برازخهم.
وما تعلَّق منها بالولاية وتحقّق بها خاتم الأولياء المحمديين يفيضه الله من مشكاة خاتم الأولياء على سائر الأولياء المحمديين وهم أنبياء الأولياء وعلى أولياء الأنبياء والرسل ، فافهم .
ولا يحجبنّك تأخّر صورته العنصرية الختمية فلا بدّ للختم من الآخرية من حيث صورته الشخصية ، وأنّ له صورة أزلية فاتحية متقدّمة على الكلّ بالحقيقة والمرتبة ، فافهم وتذكَّر ، والله الملهم .
واعلم : أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جامع بين النبوّة والرسالة والولاية والخلافة ، فهو النبيّ الرسول الخاتم .
وكذلك وارثه الأكمل خاتم الأولياء المحمديين حسنة من حسنات خاتم الرسل ، لكونه جمع له وراثته في الختمية الكمالية وتخيّر من بين أرواح الأولياء لمظهريته الكاملة الأحدية الجمعية في باطن الصورة الإلهية المحمدية الختمية ، ولكنّه صلَّى الله عليه وسلَّم مقدّم جماعة الكمّل في فلك النبوّة وفلك الولاية ، وهو سيّد ولد آدم.
لأنّ الحقيقة الكمالية الجمعية الأحدية في الصورة الإلهية المحمدية هي التي تشفع فرديات الحضرات الأسمائية إذا غلبت الأحدية الجلالية بقهرها على الحضرات ومظاهر الأسماء والتجلَّيات وأمم الأنبياء وأرباب الرسالات ، فإذا شفعتها بفرديّتها .
انضاف الفردي المحمدي إلى الفرد العبداني المستهلك تحت قهر الأحدية الجلالية بقهرها على الحضرات ومظاهر الأسماء والتجليات وأمم الأنبياء وأرباب الرسالات فإذا شفعتها بفرديّتها ، انضاف الفرد المحمدي إلى الفرد العبداني المستهلك تحت قهر الأحدية ، حصلت الشفعية فشفعه الوتر ، وهو أرحم الراحمين .
فكان الشفع بالوتر فردا موجبا لظهور الفتحية ، ففتح الرحمن باب الشفاعة ، فشفع كلّ اسم في عالمه وكلّ نبيّ في أمّته .
قال رضي الله عنه : " فعيّن حالا خاصّا ما عمّم . وفي هذا الحال الخاصّ تقدّم على الأسماء الإلهية ، فإنّ الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلَّا بعد شفاعة الشافعين ، ففاز محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم بالسيادة في هذا المقام الخاصّ فمن فهم المراتب والمقامات ، لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام " .
قال العبد أيّده الله به : لمّا كانت الشفاعة في إنقاذ أهل البلاء والجهد أوّلا للمرتبة الأحدية الجمعية الكمالية بفتح باب الرحمة في الإيجاد ، فشفعت الحقيقة المحمدية الجمعية الأحدية حقائق القوابل الأفراد بالتجلَّي الرحماني .
فقرن بها الوجود ، فشفعت بأحدية جمعها وفردانيّتها بين القابل والتجلَّي ، فأنقذت الحقائق من ظلمة العدم ، فيظهر سرّ ذلك آخرا بشفاعته صلَّى الله عليه وسلَّم لأهل المحشر .
فيشفع أوّلا للشفعاء من الأسماء الإلهية والأنبياء ، حتّى يشفّعوا ، فيشفعوا في عوالمهم وأممهم ومتعلَّقات خواطرهم وهممهم ، فله في هذا المقام الخاصّ سيادة على الكلّ .
بإنقاذ مظاهرهم عن الذلّ ، وذلك سلطنة أسماء القهر والجلال ، ك « القاهر » و « المنتقم » و « المعذّب » ، إذا ظهرت في الدنيا والآخرة ، بطنت سلطنة أسماء اللطف والجمال .
فلم يظهر لها حكم إلى أن تنقضي سلطنة أسماء العذاب ، وحينئذ أظهرت الحقيقة المحمدية الإنعامية الكلَّية من خزائنها الأحدية الجمعية حقائق اللطف والجنان ، والعفو والإحسان ، فشفعت بأحدية جمعها فردية الرحيم الرحمن ، فزهرت يفاع بقاع الجنان ، أزهار رياض الفردوس بالحور والقصور والولدان.
وأظهرت سرّ قوله : « سبقت رحمتي غضبي » ففاضت الرحمة وغاضت النقمة " وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ" .
قال رضي الله عنه : « وأمّا المنح الأسمائية فاعلم : أنّ منح الله تعالى خلقه رحمة منه بهم ، وهي كلَّها من الأسماء . فإمّا رحمة خالصة كالطَّيب من الرزق اللذيذ في الدنيا ، الخالص يوم القيامة ، ويعطي ذلك ، الاسم الرحمن فهو عطاء رحماني ، وإمّا رحمة ممتزجة كشرب الدواء الكرية الذي بعقب شربه الراحة ، وهو عطاء إلهي ، فإنّ العطاء الإلهي لا يمكن إطلاق عطائه منه من غير أن يكون على يدي  سادن من سدنة الأسماء ، فتارة يعطي الله العبد على يدي الرحمن ، فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت أولا ينيل الغرض وما أشبه ذلك وتارة يعطي الله على يدي « الواسع » فيعمّ ، أو على يدي « الحكيم » فينظر في الأصلح في الوقت ، أو على يدي « الواهب » فيعطي لينعم ، لا ليكون مع الواهب تكليف المعطى له بعوض على ذلك من شكر أو عمل ، أو على يدي " الجبّار " فينظر في الموطن وما يستحقّه أو على يدي « الغفّار » فينظر في المحلّ وما هو عليه ، فإن كان على حال يستحقّ العقوبة فيستره عنها ، أو على حال لا يستحقّ العقوبة فيستره عن حال يستحقّ العقوبة فيسمّى معصوما ومعتنى به ومحفوظا وغير ذلك ممّا شاكل هذا النوع وأشباه ذلك  "
قال العبد أيّده الله به : « له » تمليك الرقبة ، والمنحة : تمليك الانتفاع دون الرقبة ، كمن يعطى الناقة لتحلب أو لتركب ، أو الأرض لتزرع ، والأغلب فيها المدّة المعيّنة ثم الاسترداد ، وهي لا تكون إلَّا من حضرات الأسماء ، وهي رحمات متخصّصة بحسب خصوص الحضرات ، ومتخصّصة بموجب الاستعدادات .
ثم العطايا والمنح إن كانت من حضرة أحدية الجمع الإلهية ، فهي ذاتية أي من ذات اللاهوت ، ولا يتمكَّن إطلاق عطاياها من حيث هي هي من غير أن يكون التجلَّي الإلهي الأحدى الجملي الذاتي من خصوص حضرة من حضرات الأسماء .
فإن كان التجلَّي من حضرة الرحمن ، خلصت عطايا الله من الشوب والكدر ، وعمّت الدنيا والآخرة والظاهر والباطن ، وإن كان من حضرة الواسع ، عمّ ظاهر المعطى له وباطنه وروحه وطبيعته وغير ذلك ، وتمّت نعمته سابغة في عافية ورفاهية ، وكذلك تكون عطايا الله ممتزجة منصبغة بحكم الحضرة المتجلَّي منها ، فإنّ الحكيم ينظر في الأصلح والأنسب.
كما قد فصّل الشيخ رضي الله عنه خصوصيات الحضرات ، فلا حاجة إلى سنديّة الاسم " الله " و "الرحمن" .
و « المعصوم » و « المحفوظ » هو العبد الذي يحول « العاصم » و « الغفّار » و « الحافظ » و « الواقي » بينه وبين ما لا يرضاه من الذنوب .
و « المعتنى به » أعمّ من المحفوظ والمعصوم ، فقد يكون المعتنى به من لا تضرّه الذنوب ، ويقلَّب المحبّة الإلهية ، والاعتناء الربّاني غيّر سيّئاته حسنات ، ثم المعصوم يختصّ في العرف الشرعي بالأنبياء ، والمحفوظ بالأولياء .
قال رضي الله عنه : « والمعطي هو الله من حيث ما هو خازن لما عنده في خزائنه ».
أي من حيث إنّ ذلك الاسم خازن لما عنده من خزائن الاسم الله " فما يخرجه إلَّا بقدر معلوم " أي بقدر ما تستدعي قابلية المعطى له ويستأهل من خزائنة ، فما يخرج إليه إلَّا بقدر ذلك المعلوم . " على يدي اسم خاصّ بذلك الأمر .
فـ " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه " على يدي الاسم « العدل » وأخواته لأنّ الحكم العدل يحكم على « الجواد » و « الوهّاب » و « المعطي » أن يعطي ما يعطي بقدر قابلية المعطى له .
قال رضي الله عنه : « وأسماء الله لا تتناهى ، لأنّها تعلم بما يكون عنها ، وما يكون عنها غير متناه وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمّهات الأسماء أو حضرات الأسماء . وعلى الحقيقة فما ثمّ إلَّا حقيقة واحدة تقبل جميع هذه النسب والإضافات التي يكنى عنها بالأسماء الإلهيّة " .
قال العبد : تحقّق وجود العالم والممكنات في أعيانها موقوف على الأسماء وحضراتها ، ولكنّ العلم بالأسماء موقوف عندنا على القوابل والعوالم والمظاهر .
وعوالم الإمكان من حيث شخصيّاتها وجزويّاتها لا تتناهى ، فالأسماء لا تتناهى لكنّها من حيث أمّهاتها وكلَّياتها منتهية إلى أصول حاصرة لها ، فتعدادها وعدم تناهيها وازديادها إنّما هو من حيث الممكنات والقوابل والمظاهر المتعدّدة غير المتناهية والكلّ تعيّنات وجودية ، وتنوّعات تجلَّيات جودية بحسب خصوصيات القوابل .
فهو من حيث الأصل حقيقة واحدة هي محض الوجود الحق الخالص لا غير . فالتوحيد في الحقيقة ، والتعدّد في الظهور والطريقة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « والحقيقة تعطي أن يكون لكل اسم يظهر إلى ما لا يتناهى حقيقة يتميّز بها عن اسم آخر ، تلك الحقيقة التي بها يتميّز هي الاسم عينه لا ما يقع فيه الاشتراك ، كما أنّ الأعطيات تتميّز كلّ أعطية عن غيرها بشخصيّتها ، وإن كانت من أصل واحد ، فمعلوم أنّ هذا ما هي هذه الأخرى ، وسبب ذلك تميّز الأسماء " .
وسبب ذلك التميّز تميّز الحقائق ، والذي يقع فيه الاشتراك هو الوجود البحت ، والموجب للتعدّد هو خصوصية القابل ، فتعيّن الوجود الواحد بحسب تلك الخصوصية على وجه مخصوص هو المميّز لذلك المتعيّن بتلك الخصوصية عن تعيّن آخر ، وبعد تعيّن الحضرات الأسمائية وتمايزها لا بدّ أن تتمايز الأعطيات بعضها عن البعض .
وليس ذلك إلَّا من تمايز الحضرات ، فالذي يمتاز به كلّ اسم عن الآخر هو عين الاسم لا ما تتشارك الأسماء فيه ، فإنّه الوجود الحقّ المسمّى بهذه الأسماء ، هو فيها عينها ، وحقيقته هي عين الكلّ ، لا يكون فيها من حيث هي تمثّل كلّ منها عين الآخر ، فتمايزها بخصوصيات هي أعيانها .

قال رضي الله عنه : « فما في الحضرة الإلهيّة لاتّساعها شيء يتكَّرر أصلا .  هذا هو الحق الذي يعوّل عليه " .
قال العبد اعلم : أنّ الفيض ذاتي لواجب الوجود الحقّ من كونه مفيدا للحقائق وجودها الذي به تحقّق المتحقّقات ، ومفيضا نور الحقيّة التي بها وجدت الموجودات وشهدت المشهودات .
ثمّ التعيّن للنور الفائض من ينبوع التجلَّيات ومعدن الوجود ومنبعث الجود والفيضات أيضا ذاتي ، والموجب لذلك هو القابل المعيّن للوجود الحقّ الفائض بحسب خصوصيّته الذاتية غير المجعولة .
فالتمايز بين الحضرات والأسماء إنّما هو بحسب خصوصيات الحقائق ، إذ التعيّن هو الدالّ بالتخصيص على المتعيّن بذلك التعيّن ، والمتعيّن أيضا دالّ على أصله ومنبعه الذي فاض منه ، فالتعيّن اسم للمتعيّن وهو الوجود الحق المسمّى به ، وهو اسم للحقّ المطلق ، وهو المسمّى بجميع هذه الأسماء .
والمسمّى اسم فاعل هو القابل المعيّن للوجود الحق المطلق وهو الفائض .
والتعيين وهو التسمية فعل المعيّن .
ثم الفيض دائم التعين لدوام ذات المفيض .
والمعيّنات القوابل الممكنة وإن لم تكن متناهية من حيث الشخصيات والجزويّات ولكن أمّهات الحقائق المعيّنة لهذا النور الواحد الفائض المتعيّن بها وفيها وبحسبها أصول حاصرة لما تحتها ومنها .
والتعيّنات الكلَّية أيضا وإن انحصرت في أمّهات الحضرات الأسمائية ولكنّها من حيث الشخصية   والجزوية غير متناهية كموجباتها .
والتجلَّيات وإن كانت من حيث الأصل تجلَّيا واحدا ، ولكنّ التعيّنات الفيضية النفسية النورية والانفهاقات النورية الشهودية والاندفاقات الوجودية الجودية ما هي في كل عين عين الأخرى .
فما في الحضرة شيء يتكرّر أصلا ، فالتجدّد والتكثّر والحدوث والفناء والعدم إنّما هي للتعيّن لا للمتعيّن بذلك التعين من حيث هو هو ، بل من حيث التعيّن لا غير . هكذا أعطت حضرة الواسع ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « وهذا العلم كان علم شيث عليه السّلام » يعني علم الأعطيات والمنح والهبات .


قال رضي الله عنه : « وروحه هو الممدّ لكلّ من يتكلَّم في مثل هذا من الأرواح إلَّا روح الخاتم  فإنّه لا تأتيه المادّة إلَّا من الله ، لا من روح من الأرواح ، بل من روحه تكون المادّة لجميع الأرواح ، وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان تركيب جسده العنصري ، فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كلَّه بعينه من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيب جسده العنصري ، فهو العالم الجاهل ، فيقبل الاتّصاف بالأضداد ، كما قبل الأصل الاتّصاف بذلك ، كالجليل والجميل »
يعني على معنييه المتنافيين « كالظاهر والباطن ، والأوّل والآخر ، وهو عينه ليس غيره فيعلم لا يعلم ، ويدري لا يدري ، ويشهد لا يشهد " .
قال العبد اعلم : أنّ أرواح الكمّل من الأنبياء لهم الإمداد لأرواح الأولياء الذين هم ورثتهم في أعصارهم وأعصار بعدهم ، وروح شيث عليه السّلام هو الممدّ لأرواح العلماء بالعلوم الوهبية ، وكلّ روح لوليّ من الأولياء له العلم الوهبي .
فيستمدّ من روحه عليه السّلام لكونه صورة الوهب الأوّل لأوّل الآباء إلَّا روح خاتم الأنبياء وروح خاتم الأولياء ، فإنّ روح الختم كما تقدّم روح محيط بالولايات كلَّها كإحاطة من هو وارثه الأكمل وهو ختم الرسل صلَّى الله عليه وسلَّم بالنبوّات كلَّها .
ولأنّه أحدية جمع جميع الولايات المحمدية الأحدية الجمعية الختمية كلَّها ، فأعطيات الولايات من المكاشفات والتجلَّيات والعلوم والأسرار والأحوال والمقامات ، إنّما تكون من خزانة حيطته ، وذلك لأنّ حقيقته حقيقة الحقائق الأول التعيينية كلَّها.
وهو مفتاح المفاتيح الغيبية ، فالمادّة النورية التي بها قوام الأرواح وحياتها من حقيقته تنبعث وتسري في سائر المراتب الروحية ، ولا يستمدّ هو من أحد ، والكلّ مستمدّون من مشكاته .
فالأعطيات وإن كانت من حضرات الأسماء ، ولكنّها من الله ، " وَما بِكُمْ من نِعْمَةٍ فَمِنَ الله " .
إن كان هذا الخاتم لا يتعقّل حال تركيب جسده العنصريّ كيفية إمداده للكلّ في كلّ آن من الزمان الحجابية في المزاج العنصري لا بدّ من ذلك ، حتى يكون جامعا لجميع الكمالات والنقائص . كما أنّ الهوية الواحدية الأحدية الجمعية محمولة عليها الأضداد في قوله : " هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ".
فالموصوف بالباطنية والظاهرية والأوّلية والآخرية هوية واحدة لا اختلاف فيها ولا تضادّ ، وهي قابلة لأوصاف متنافية ونعوت وأسماء متباينة ومتشاكلة متشابهة ، كذلك الختم يقبل الأوصاف المتنافية المتكثّرة المختلفة ، والنعوت المتناسبة المؤتلفة ، لأنّه أحدية جمع جميع حقائق الوجوب والإمكان ، فيقبل بذاته الاتّصاف بالكلمالات والنقائص .
فهو من حيث التركيب العنصري والغواشي الطبيعي جاهل بما هو عالم به من حيث روحه الممدّ وعينه الجامعة ورتبته الكمالية ، ولكن لا يقدح ذلك في كونه بالرتبة والحقيقة والروح عالما بإمداده للأرواح كما لا يقدح تنافي الزوجية للفردية في العدد ، ولا تضادّ السواد والبياض في اللون المطلق ، لكونه بذاته قابلا لهما ، ولا تنافي الملك للشيطان في الحيوانية ، ولا الحقّية للخلقية في الوجود والحقيقة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « وبهذا العلم سمّي شيث ، لأنّ معناه الهبة » أي هبة الله .
" فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أوصافها ونسبها ، فإنّ الله وهبه لآدم أوّل ما وهبه وما وهبه إلَّا منه ، لأنّ الولد سرّ أبيه ، فمنه خرج وإليه عاد ، فما أتاه غريب لمن عقل عن الله " .
قال العبد : إنّما ظهرت العلوم الوهبيّة الجودية والحكم الوجودية الشهودية بالكلمة الشيثيّة ، لأنّ آدم عليه السّلام حزن على فقد « هابيل » حزنا عظيما فسأل الله تعالى أن يهبه ولدا صالحا للإلقاء والوهب الإلهيّ .
فوهبه الله شيثا فسمّاه بهذا الاسم ، يعني هبة الله ، فهو أوّل موهوب لأوّل الصور الإنسانيّة بعد سؤاله الوهب عن الله الوهّاب بمن يكون مؤهّلا للعلم الوهبي ، فظهرت علوم الوهب والإلقاء بشيث عليه السّلام ووهب الحكمة التي في علوم التقابل والتماثل.
ولهذا قال : « بيده مفتاح العطايا » وما وهبه الله آدم إلَّا منه ، لأنّ آدم الذي هو صورة أحديّة جمع الحقائق اللاهوتيّة ، ومنه منبعث حقائق الهبات المفاضة على الأولاد في الوجود ، والولد سرّ أبيه ، وسرّ هذه الصورة الأحدية الجمعية هو الفيض والوهب .
فمنه خرج وإليه عاد ، فإنّ الهبات والأعطيات تعود على حقائق القوابل المظهريّة المرتبيّة ، والأمر محصور بين الوجود والمرتبة ، والإحاطة والجمع بحقائقها يقتضيان الحصر فيهما ويقضيان بهما ، ولهذا ذكر الشيخ رضي الله عنه سرّ الختميّة في هذا الفصّ .
ثمّ إنّ صورة الوهب والهبة الإلهيّة إنّما تكون في الواحد متعدّدة ومتكثّرة ، فهو صورة سرّه القابل للوهب ، فما وصل إليه إلَّا منه ولكن بالحق ، فمنه خرج وإليه عاد .
فما أتاه غريب من غيره ولا من الخارج ، ولا سيّما خارج عن صورة أحديّة جمع الكلّ ، فلا خروج ولا دخول إلَّا بالنسبة والإضافة ، فما خرج عن صورة أحديّة جمع الكلّ عاد على صور تفصيله في الكلَّية التي هي فيه هو أوّلا وهو فيها هي آخرا .

قال رضي الله عنه : " وكلّ عطاء في الكون على هذا المجرى ، فما في أحد من الله شيء وما في أحد من سوى نفسه شيء وإن تنوّعت عليه الصور " .
قال العبد : المواهب والعطايا التي تجري على أيدي العبيد والوسائط وبدونها إنّما هي صور استدعتها خصوصيات القوابل من الوجود المتعيّن فيها بحسبها ، والوجود الفائض من الحق ذاتيّ له ، وقبوله للقوابل إنّما هو بحسب الاستعدادات الذاتية غير المجعولة والخصوصيات ، فلولاها لما تعيّنت صور المواهب والعطايا من خزائن الجود الإلهيّة للقوابل بحسبها.
فوصولها وحصولها وإن كان من خزائن الله ولكنّ المستدعي والمعيّن الموجب لتعيّنها إنّما هو من القوابل وتنوّع صور المواهب للمعطي له في عين الفيض الواحد .
والفيض الواحد إنّما هو بحسب صور الاستعدادات ، فما في أحد من الله شيء ، وإلَّا لزمته مفاسد لا تخفى من التبعيض والتجزّي والحلول وغيرها.
وكذلك ليس في أحد من غيره شيء ، إذ صور المواهب من خصوص استعداده ، وحقيقتها الفيض الوجودي وهو عينه لا غيره في الحقيقة ، فافهم ، فما آتاه الله ما آتاه إلَّا منه .
قال رضي الله عنه : « وما كلّ أحد يعرف هذا ، وأنّ الأمر على ذلك ، إلَّا آحاد من أهل الله ، فإذا رأيت من يعرف ذلك ، فاعتمد عليه ، فذلك هو عين صفاء خلاصة خاصّة الخاصّة من عموم أهل الله تعالى " .
قال العبد : لا يعرف هذا السرّ الخفيّ إلَّا الأفراد الكمّل ، وهم على طبقات والكلّ يرون النعم والمواهب من الله ، لسريان سرّ " وَما بِكُمْ من نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ".
وهذا المشهد الذي ذكرنا في ظاهر المفهوم يوهم خلاف هذا ، وليس ذلك كذلك ، لأنّ هؤلاء الطبقات :
منهم : من يرى النعم كلَّها من الله ولكن بالأسباب التي هي غير الله .
ومنهم : من لا يرى الأثر للأسباب والوسائط ، وهي سوى الحقّ كذلك في زعمهم .
ومنهم : من يراها شروطا لا أسبابا ولا عللا ولا وسائط .
ومنهم : من يرى النعم من الله بلا واسطة .
ومنهم : من يرى الوسائط والأسباب أيضا من نعم الله .
وجميع هؤلاء الأصناف محجوبون في عين الكشف ، ومشركون في عين التوحيد ، لأنّهم وإن وجدوا الله تعالى في رؤية النعم كلَّها من الله ، ولكنّهم أثبتوا الوسائط والنعم والمنعم عليه والمنعم أغيارا بعضها للبعض ، والحقيقة تأبى إلَّا أن يكون هو الله الواحد الأحد الظاهر الباطن الواحد الكثير . فالمسمّى واحدا هو الوجود الواحد الحق الذي به تحقّق الحقائق من حيث حقيقته ، وهو المسمّى كثيرا أيضا من حيث تعيّناته في القوابل ، والمنعم هو المفيض لذلك الواحد الكثير ، والمنعم عليه هو المعيّن القابل لتعيّنات أخر بعد الوجود .
فالظاهرية والباطنية والأصالة والفرعية نسب ، فإذا وجد من يرى النعم الواصلة إليه في عرصة الوجود العيني من مدرجة عينه الثابتة ، في الحق أزلا وأبدا من حيث إنّ تلك العين الثابتة عين الحق ، فقد جمع بين رؤية النعم كلَّها من الله ورؤية المنعم عليه عين المنعم ، وشهد أحدية الوجود على ما هي عليه الأمر في نفسه ، فكان هو عين صفاء خلاصة خاصّة الخاصّة من عموم أهل الله .
فإنّ العامّة من أهل الله يرون التوحيد وهو ستّة وثلاثون مقاما كلَّيا نطق بها القرآن في مواضع عدّة فيها ذكر " لا إِله َ إِلَّا الله " في كل موضع منها نعت مقام من مقامات التوحيد .
وأمّا الخاصّة فيرون الوحدة فإنّ التوحيد فيه كثرة الموحّد والموحّد والتوحيد وهي أغيار عقلا عاديّا ، والوحدة ليست كذلك .
وأمّا خاصّة الخاصّة فيرون الوحدة في الكثرة ، ولا غيريّة بينهما .
وخلاصة خاصّة الخاصّة يرون الكثرة في الوحدة .
وصفاء خلاصة خاصّة الخاصّة يجمعون بين الشهودين ، وهم في هذا الشهود الجمعي على طبقات :
فكامل له الجمع ، وأكمل منه شهودا أن يرى الكثرة في الوحدة عينها ، ويرى الوحدة في الكثرة عينها كذلك شهودا جمعيا ، ويشهدون العين الأحدية جامعة بين الشهودين في الشاهد والمشهود .
وأكمل وأعلى وأفضل منه أن يشهد العين الجامعة مطلقة عن الوحدة والكثرة والجمع بينهما وعن الإطلاق المفهوم في عين السواء بين ثبوت ذلك كلَّها لها وانتفائه عنها ، وهؤلاء هم صفوة صفاء خلاصة خاصّة الخاصّة ، جعلنا الله وإيّاك منهم بمنّه ، إنّه قدير خبير .

قال رضي الله عنه : « فأيّ صاحب كشف شاهد صورة تلقي إليه ما لم يكن عنده من المعارف ، ومنحته ما لم يكن في يده قبل ذلك ، فتلك الصورة عينه لا غيره ، فمن شجرة نفسه جنى ثمرة علمه ، كالصورة الظاهرة منه في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره ، إلَّا أنّ المحلّ أو الحضرة التي رأى فيها صور نفسه يلقي إليه بتقلَّب من وجه ، لحقيقة تلك الحضرة " .
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أنّه مهما يرى المكاشف صورة تلقي إليه من العلوم ما لم يكن يعلمه ، فلا يتوهّم أنّها الله ، ولا سيّما إذا كان التجلَّي من حضرة ذاتية .
وإن قالت الصورة : إنّها هي الله ، فليعلم حقيقة أنّ التجلَّي وإن كان من الله كما نطق به ولكن تعيّن التجلَّي له إنّما كان من عينه الثابتة ، فالمتجلَّي إذن عينه من كونها عين الحق.
 فما تجلَّى له الحقّ إلَّا في صورة عينه الثابتة في عين شهود الحق ، فمن شجرة نفسه التي هي للأسماء المعيّنة لله في الوجود الحق وبه من عينه الثابتة المعيّنة لتلك الأسماء من الحضرة وفيها جنى ثمرة علمه التي هي عين العطيّة الإلهية الآتية من حضرة اسمية هي شجرته التي غرسها في أرض حقيقته وعينه الثابتة ، كما أنّ الصورة الظاهرة منه في الجسم الصقيل ليست غيره ، فإنّها لو كانت غيره لكانت فيه بلا هو كذلك .
بل أعطاه محلّ ظهور صورته شهود ذاته ، كذلك ظهوره في الوجود الحق إنّما يكون بحسب ظهور عينه الثابتة في مرآة الحق ، فتعطيه شهود ذاته نفسه في الحق فلا تظنّن أنّها هي الله وإن لم تكن في الحقيقة إلَّا الله ولكنّ الكلّ لا ينحصر في الجزء ، إلَّا أنّ الصورة تنصبغ من وجه بصبغة المحلّ وصبغه فتظهر بحسبه . فكذلك الحق يعطي العين الثابتة من حيث تعيّنها وظهورها فيه حقّيّة هي فيها هي ، وهي بها فيه هو ، فافهم .

قال رضي الله عنه : « كما يظهر الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا أو المستطيلة مستطيلا ، والمتحرّكة متحرّكا ، وقد تعطيه انتكاس صورته من حضرة خاصّة ، وقد تعطيه عين ما يظهر منها ، فيقابل اليمين منها اليمين من الرائي ، وقد يقابل اليمين منها اليسار من الرائي وهو الغالب في المرائي بمنزلة العادة في العموم ، وبخرق العادة يقابل اليمين اليمين ويظهر الانتكاس . هذه كلَّها من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلَّي فيها التي أنزلناها منزلة المرائي ".
قال العبد : ظهور الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا ، ضرب مثل لظهور الحق في مظهرية كلّ عين عين بحسبها .
والمستطيل ضرب مثل لمظهرية عالم الأمر والأرواح فإنّ لها طول العالم والعرض لعالم الصور الجسمانية والمثالية والخيالية من حيث إنّها صور وأمثلة .
والظهور في المتحرّكة متحرّكا ضرب مثل للتجلَّيات والتعيّنات الدائمة الظهور والتنوّع على التوالي حقّا وخلقا ، جمعا وفرقا .
وانعكاس الصورة في المرآة إذا كانت تحت الرائي في الوضع ضرب مثال للحق في الخلق خلقا لا حقّا .
وانعكاسها فيها بعكس ما ذكرنا إذا كانت المرآة فوق الرائي ضرب مثل لظهور الخلق في الحق حقّا لا خلقا .
وتقابل اليمين اليمين ضرب مثل لظهور الحق المطلق في مظهرية الإنسان الكامل كاملا ، أو لظهور الحق المطلق في المقيّد المحاذي للمطلق مطلقا من حيث إنّ عكس العكس يستوي بالأصل ، ومن حيث إنّ الحق مع أنّه في كلّ متعيّن عينه فهو غير متعيّن على التعيين في المطلق نفسه في المقيّد المنطلق عن غيره قيّده الفاني عن نفسه مطلقا ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " فمن عرف استعداده ، عرف قبوله ،وما كلّ من عرف قبوله عرف استعداده إلَّا بعد القبول وإن كان يعرفه مجملا ".
قال العبد أيّده الله به اعلم : أنّ أهل العلم بالاستعداد على ضربين :
منهم : من يعلم استعداده الذاتيّ غير المجعول الذي به قبل الوجود أوّلا ، فيعرف في ضمن ذلك الاستعداد غير المجعول استعدادات أخر مجعولة تتجدّد له في تطوّره بأطوار الوجود ، عرف قبوله لما يقبله في كلّ آن من الزمان من التجلَّيّات والأعطيات والهبات في كلّ موطن ومقام وحال . وهذا العالم أعلى عالم بالله في هذا المشرب والمشهد ، ويختصّ بالختمين لا غير ، إلَّا من يشاء الله من الكمّل والأفراد الندّر ، جعلنا الله منهم بمنّه ويمنه .
ومنهم : من علم قبوله من استعداده المجعول في كلّ وقت وحال ، بمعنى أنّه لمّا استعدّ لقبول تجلّ أو عطاء أو هبة أو حال أو مقام ، وتهيّأت أسباب ذلك في الوجود ، عرف أنّ ذلك الاستعداد الوجوديّ إنّما حصل له من ذلك الاستعداد الذاتيّ الأزلي غير المجعول ، فإنّ الثاني حكم من أحكام الأوّل ، وأنّه قبل به الوجود أوّلا على وجه ينتج ظهور هذا الاستعداد الحالي الوجودي آخرا .
ومنهم : من يعرف استعداده من قبوله بمعنى أنّه إذا حصل له فيض ، وقبل تجلَّيا ، عرف من الحاصل استعداده المستدعي لذلك العطاء من حيث إنّه لو لم يكن له استعداد ، لم يحصل له ذلك القبول وذلك بعد الوقوع ، وقد يعرف الاستعداد بدلالة الحال قبل القبول للتجلَّي وحصوله ، كالكاتب المجد إذا تهيّأت أسبابه وآلاته على الوجه المطلوب ، وحمله باعث الحال على الكتابة ، فإنّه يتحقّق وقوع الكتابة قبل وقوعها ، ويتحقّق الاستعداد المستدعي لذلك .
ومنهم : من يعرف الاستعداد الأصلي المذكور مجملا ، فيعرف كذلك مجملا ما يقبله من الفيض والتجلَّي ، والعالم بالتفصيل له على الكلّ كلّ التفصيل ، مثل ما ذكرنا عن خاتم الأولياء ، وشهوده جميع أحواله وعلومه وتجلَّياته وهيئاته التي أقامه الله فيها إلى آخر عمره حال دخوله في بلاد الشرق ساحل بلاد الروم .
قال رضي الله عنه : « شهدت جميع ذلك حتّى صحبتي مع أبيك ".
يعني أبا الشيخ صدر الدين ، محمد بن إسحاق رضي الله عنه : " وشهدت ولادتك في زمانها ، ومرتبتك عند الله ، وجميع مكاشفاتك وأذواقك وأذواق أولادك الإلهيّين ، ومشاهدهم ومقاماتهم وعلومهم وتجلَّياتهم وأسماءهم عند الله ، وحلية كلّ واحد منهم ، وأحواله وأخلاقه وكلّ ما يجري لك وعليك وعليهم إلى آخر أعماركم وبعد المفارقة في برازخكم وما بعدها ، والحمد لله " .
وهذا النوع من العلم يختصّ بمثله ، وكان لأبي العبّاس الخضر عليه السّلام علم الاستعدادات شهودا وكشفا .
منه علمه باستعداد الصبيّ الذي قتله أنّه لو عاش ظهرت استعدادات فرعيّة وجودية توجب أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا ، وأنّه يقتل عن ذلك الاستعداد على الطهارة والفطرة عناية من الله سبقت له بموجب استعداده الأصلي أيضا .
وهو مخصوص بظهور الولاية ، مستور عن عامّة الأنبياء وخاصّتهم من كونهم أنبياء وإذا شهدوها ، شهدوها من جهة الولاية ، وهي المشكاة الخصيصة بخاتم الأولياء ، فافهم وتذكَّر ما ذكَّرت به إن شاء الله تعالى .
قال رضي الله عنه : " إلَّا أنّ بعض أهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة يرون أنّ الله لمّا ثبت عندهم أنّه فعّال لما يشاء ، جوّزوا على الله ما يناقض الحكمة » يعني الحكمة الإلهية لا الحكمة العرفية .
قال رضي الله عنه : « وما هو الامر عليه في نفسه ، ولهذا عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان وإثبات الوجوب بالذات وبالغير " .
قال العبد أيّده الله به : يشير رضي الله عنه إلى جمع كثير من النظَّار وعلماء الرسوم والمتكلَّمين القائلين بأنّ الله قد يفعل ما يناقض الحكمة ، كإيجاد الشريك والمثل وإعدام الوجود وإيجاد العدم والممتنع والمحال ، واستدلَّوا على ذلك بكونه قادرا على كلّ شيء ، وأنّه يفعل ما يشاء ، وأنّه فعّال لما يريد ، وهذا تنزيه وهميّ بالعقل ، ولكنّهم غفلوا عن الحقيقة ، وما عقلوا أنّ هذه فروض وتقادير ساقطة غير واقعة ، وليس لها لافظة ، وأنّها غير واردة في العقول المنوّرة الصافية الوافية ، والاشتغال بمثل هذه الشبه تضييع الأنفاس .
ونحن نسلَّم أنّ الله قادر على كلّ شيء ، لكنّهم « حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء » وذلك أنّ الله قادر على كل شيء ، ولكن كلّ شيء بشيئية الله ومشيئته ، فإنّه قادر على ما يشاء ، وأنّه ما يشاء خلاف ما يعلم ، ولا يريد خلاف الحكمة ، فإنّه العليم الحكيم ، والحكيم العليم لا يشاء ولا يريد أن يفعل ما يناقض الحكمة .
فقدرة الله تعالى إنّما تتعلَّق بالمقدورات بموجب إرادته ومشيّته تعالى ، والإرادة إنّما تتعلَّق بالمراد على التعيين والتخصيص بموجب ما اقتضته الحكمة والعلم ، والعلم الأزليّ ما تعلَّق بهذه الأمور المذكورة بما يخالف الحكمة على وجه لا يقبل الوجود ، وأنّها لا تستعدّ لقبول الوجود ، بل بموجب العلم والحكمة واستعداد القابل .
والحكيم الأزليّ قد أحكم الأشياء بحكمته قبل إيجادها ، ثم أوجدها بحسب ما رتّبتها الحكمة ووضعتها مواضعها ، فلا جائز في حكمة الله تجويز ما يناقض الحكمة الإلهية . 


ولما كثر شغب هؤلاء في تجويز هذه الأمور ، عدل بعض المتحذلقين من النظَّار إلى نفي الجواز والإمكان وإثبات الوجود إمّا بالذات أو بالغير
وقال : ما ثمّ إلَّا واجب الوجود ، والممتنع ممتنع وجوده ، ولكنّ الواجب واجبان : واجب بالذات ، وواجب بالغير ، فما في الوجود إلَّا واجب الوجود ، فانتفى الجواز والإمكان عنده ، فما كان واجبا بالذات فواجب له عدم الامتناع كذلك .
ثمّ الواجب بالغير على زعم من يقول به هو الوجود المتعيّن بحسب القابل فما بقي للإمكان متعلَّق في الحقيقة إلَّا التعيّن .
قال الشيخ رضي الله عنه : " والمحقّق " بعد منا " يثبت الإمكان ، ويعرف حضرته والممكن ما هو الممكن ؟ ومن أين هو ممكن وهو بعينه واجب بالغير ؟ من أين صحّ عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب ؟ ولا يعلم هذا التفصيل إلَّا العلماء بالله خاصّة " .
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أنّ الممكن هو الوجود المتعيّن ، فإمكانه من حيث تعيّنه ، ووجوبه من حيث حقيقته ، وذلك أنّ التعيّن نسبة تعقّلية ، فهي بالنسبة إلى المرجّح وجودية واجبة للمتعيّن .
والتعيّن هو حدوث ظهور الوجود على وجه متعيّن يعيّنه القابل المعيّن للوجود بحسب خصوصه الذاتي ، فيمكن بالنظر إلى كل متعيّن حادث للوجود أن ينسلخ الوجود عنه ، ويتعيّن تعيّنا آخر ، وينعدم التعيّن الأوّل.
إذ نفس التعيّن هو الواجب للوجود الحقّ الساري في الحقائق لا التعيّن المعيّن ، ولكن ليس كل تعيّن معيّن واجبا له على التعيين إلَّا بموجباته ، فيمكن أن ينعدم ويتعيّن الوجود تعيّنا آخر ، إذ الوجود المتعيّن لا ينقلب عدما ، بل يتبدّل بتعيّنات أخر عن تعيّنات قبلها فتتحقّق من هذا حقيقة الإمكان للتعيّن المعيّن وهو نسبة عدميّة في الوجود .
فهو بين عدم ووجود ، مهما رجّح الحق إفاضة نور الوجود على ذلك الوجه المعيّن ، بقي موجودا في رأي العين للجمهور ، والكشف يقضي بالتبدّل مع الآنات ، وإن أعرض عنه التجلَّي الوجوديّ ، انعدم وعاد إلى أصله . هذا أصل الإمكان .
وأمّا اسم « الغير » و « السوي » للممكنات فذلك من حيث امتيازاتها النسبية والذاتية بالخصوصيات الأصلية فهي من هذا الوجه أغيار بعضها مع البعض وأمّا غيريّتها للوجود المطلق الحقّ فمن حيث إنّ كلَّا منها تعيّن مخصوص للوجود الواحد بالحقيقة يغاير الآخر بخصوصيّته .
والوجود الحق المطلق لا يغاير الكلّ ولا يغاير البعض ، لكون كلَّية الكلّ وجزويّة الجزء نسبا ذاتيّة ، فهو لا ينحصر في الجزء ولا في الكلّ ، مع كونه فيهما عينهما ، فلا يغاير كلَّا منهما في خصوصهما ، ولكن غيريّته في أحديّة جمعه الإطلاقي في التي تخصّه ، ولا يوجد في الجزء ولا في الكلّ ، فإنّ تلك الأحديّة الجمعيّة الإطلاقيّة مطلقة عن الكليّة والجزئيّة والإطلاق ، فافهم .
وهذا التفصيل لا يعلمه إلَّا العلماء بالله خاصّة ، لكونهم عرفوه في الأصل المطلق في شهودهم أوّلا ، فلم يحجبوا في الفرع الذي هو الوجود المقيّد آخرا ، فما في الحقيقة إلَّا وجود مطلق ووجود مقيّد ، وحقيقة الوجود فيهما واحدة ، والإطلاق والتعيّن والتقيّد نسب ذاتيّة ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : " وعلى قدم شيث عليه السّلام يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني ، وهو حامل أسراره ، وليس بعده ولد في هذا النوع الإنساني فهو خاتم الأولاد يولد معه أخت  له فتخرج قبله ويخرج بعدها ، يكون رأسه عند رجليها ، ويكون مولده بالصين ولغته لغة بلده ، ويسري العقم في الرجال والنساء ، فيكثر النكاح من غير ولادة ويدعوهم إلى الله ، فلا يجاب ، فإذا قبضه الله وقبض مؤمني زمانه ، بقي من بقي مثل البهائم لا يحلَّون حلالا ولا يحرّمون حراما ، يتصرّفون بحكم الطبيعة شهوة مجرّدة عن العقل والشرع ، فعليهم تقوم الساعة " .
قال العبد أعلم : أنّ آدم عليه السّلام لمّا كان صورة ظاهريّة أحدية جمع جميع الكمالات الأسمائيّة الإلهيّة الربّانيّة والكيانية ، كان ظهور الوهب الجودي الامتنائي به وفيه وحدانيّا جمعيّا ، ثم ظهور التعيّنات من قبله بحسب الحقائق الأول وحروف الأزل وعلى ترتيبها في وجود الأبناء ، فأوّل التعيّنات بعده كما أومئ إليها من مرتبة الفيض .
ولكن تعيّن الفيض وتحقّقه لا يكون إلَّا بين مفيض للفيض وبين مفاض عليه ، فالمفيض هو الله الفعّال ، وفيضه الذي هو عطاؤه ووهبه
على وجهين : ذاتيّ وأسمائيّ ، والمفاض عليه هو العالم .
والعالم عالمان : عالم جمع وعالم تفصيل .
فظهور الأسماء في عالم التفصيل وظهور الجمع الذاتي في عالم الجمع ولا بدّ لحقيقة الوهب من هذين الوجهين وظهور الوهب من قبل القابل انفعاليّ ، ومن قبل الواهب فعليّ .
ولحقيقة الوهب نسبتان ذاتيّتان إلى الفاعل والمنفعل ، وتعيّن الفيض في مراتب التفصيل إنّما يكون بحسب هذين الوجهين ، فهو من قبل الفاعل تعيّن الأسماء الإلهيّة الكمالية في قابليات كمّل الأنبياء ، ومن قبل الانفعال تعيّن الكمّل الآدميّين في مظهريّة تلك الكمالات الأسمائيّة .
فآدم عليه السّلام مظهر أحدية جمع الأسماء ومظهر النفس الواحدة ومن حيث اعتبار ذاتيّة الذات وإطلاقها لا يكون تجلّ ولا اسم ولا صفة ولا حكم ولا نعت .
والاعتبار الثاني موجديّة الذات ومفيضيّتها ومبدئيّتها ، ويظهر بحسب الإطلاق والتقييد ، والفعل والانفعال ، والأسماء والذات ، فيكون في الأب الثاني وهو شيث عليه السّلام تعيّن  سرّ مرتبة الفيّاضيّة والوهب والجود .
ثمّ تعيّن المواهب والحكم الإلهيّة والرحمانية الذاتية في كمل الأنبياء على ما سيأتي بعد شيث عليه السّلام الذي هو مظهر أحدية جمع الفيض الرحماني والعلوم الوهبيّة الروحانيّة النورانية .
فأوّل تعيّن الأسماء في مرتبة الجمعية الإنسانيّة بعد مرتبة الفيض بشيث عليه السّلام .
وإنّما كان بالتجلَّيات التنزيهيّة في نوح عليه السّلام بعد كمال ظهور أسرار التشبيه بقوم نوح ، فنوح صورة أحدية جمع التنزيهات التوحيدية ، ومظهر تجلَّيات الأسماء السلبية المفيضة للنزاهة والطهارة الإلهية ، وأمّته الذين لم يقبلوا دعوته مظاهر التشبيه الذين شبّهوا الصور الجسمانيّة بالصور الأسمائيّة الإلهيّة النبوية .
ثمّ مرتبة التقديس والنزاهة والطهارة بالفعل في إدريس عليه السّلام .
ثمّ تفصّلت الحقائق النبويّة بعد تعيّنها وظهور أحدية جمع كمالاتها في إبراهيم عليه السّلام .
وتحقّق إمامته في أولاده سليمان عليه السّلام في مرتبة ظاهرية أحدية جمع الكمالات الأسمائية. وكملت في داود وسليمان عليه السّلام .
ثمّ ابتدأت بظهور مرتبة الجمع في الباطن ، فيمن بعد سليمان إلى عيسى عليه السّلام حتّى ظهر كمال دعوة البطون فيه .
ثمّ كمل الأمر في مرتبة أحدية جمع جمع الأسماء والذات في مقام الفردية الكمالية البرزخيّة بمحمّد عليه الصلاة والسلام .
ثمّ ابتدأت بالصور الكمالية الأحدية الجمعية في مرتبة الباطن والولاية بآدم الأولياء ، وهو أوّل وليّ مفرد في الولاية المورّثة عن النبوّة الختمية المحمدية وهو عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام فظهرت الحقائق الجمعية الكمالية أحدية جمعيّة في مظاهر الكمالات الإنسانية الأحدية الجمعية من الأولياء والورثة المحمديّين الإلهيّين إلى أن ختمت الولاية العامّة بعيسى بن مريم عليه السّلام .
قال محقق الكتاب :
" فعبّر عنه عليه السّلام بآدم الأولياء ، لأنّ ولاية كلّ وليّ تنتهي إليه عليه السّلام .
لأنّه « كان ونبيا وآدم بين الماء والطين » بحسب الرتبة الجسمانية الزمانية .
وهو سرّ الأنبياء عبارة عن مرتبة ولا يأتهم فهو أب كل الأنبياء معنى وروحا ، وآدم أبونا بحسب الرتبة الجسمانية الزمانية"
وإذا انتهت مراتب التفصيل الوهبي جمعا وتفصيلا في الصور الجمعية الكمالية الإنسانية ، وفي الصور التفصيلية الفرقانية نورانيّها في كمل الأنبياء والأولياء وظلمانيّها في الفراعنة والجبابرة والمردة والعفاريت تماما ، ظهرت ختميّة مرتبة الوهب الذي كان مفتتحه ومختتمه من شيث عليه السّلام في آخر مولود يولد من النوع الإنساني الذي هو صورة ختميّة مرتبة الوهب الأحدي الجمعي الكمالي الإنساني.
فكونه توأما إشارة إلى أنّ الوهب ذاتي وأسمائي ، فالذاتي فعلي على ما ذكر والأسمائي انفعالى سفلي أنثيّ ، وذلك لما فيه من التقابل .
وخروج الأنثى قبل الذكر إشارة إلى أنّ المظاهر الأسمائية ظاهرية الوهب ، وأنّها تظهر وتبدو قبل الوهب الذاتي الأحدي الجمعي ، ولهذا كان أمّ رأسه وهو محلّ أحديّة جمع قواه النفسانيّة ، ومنبت الأعصاب التي بها يكون الحسّ والحركة بين رجليها ، لأن أحدية الجمع يكون بين الجمع الأوّل وهو اثنان في العدد الزوج .
وكما كان افتتاح صور جمع الأوّل الناتجة أوّلا من الأبوين الأوّلين أعني آدم وحوّاء زوجا زوجا ، فكانت تلد لآدم في كل بطن توأما .
إشارة إلى أنّ ظهور مرتبتي الفعل والانفعال الناتجتين من صورة أحدية جمع المظهرية الكماليّة بين مرتبتي الحق والخلق يكون أحديّا جمعيّا ، فكذلك انختمت الصورة البشرية ، الناتجة من هذا النوع أيضا زوجا في صورة أحدية جمعية .
فتولَّد خاتم الأولاد مع أخته توأما ، ضرب مثل إلهي لهذا السرّ وإشارة إلى انختام هذه المرتبة الوهبية والحكمة النفثيّة المفتتحة بها في الكلمة الشيثيّة لا مطلق الوهب .
فإنّ الله وهّاب دائما ، ولكن مرتبة الوهب الحكمي الأحدي الجمعي الكمالي الخصيص بخاتم الصور الوجودية الظاهر أوّلا في شيث ، فخاتم الأولاد آخر صور مثليّة إلهية ضرب مثلا لختميّة هذه المرتبة لمن عقل عن الله ، و " كانَ لَه ُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ".
ولمّا كانت هذه المرتبة الأحدية الجمعية الكماليّة النفسية الخصيصة بأوّل صورة في النوع الأخير ظاهرة في خاتم الصور الوجودية في أقصى مرتبة الوجود وآخر الأنواع كذلك ، انختمت المرتبة بخاتم الأولاد الذي ولد في أقصى البلاد ، وهو الصين .
ثمّ منعت عن الظهور فلا يولَّد بعده إنسان ، إشارة إلى أنّ إنزال الحكم المنتجة للكمال الأخير بلغ النهاية ،فانختمت المرتبة فانقطع النوع في هذه النشأة وهذه الدورة.
ثمّ يبقى بعده شرار الخلق لا نزّل الله إليهم الحكم ، فيهم حيوانات في صور إنسان لإظهار كمال الحقائق الحيوانيّة الطبيعية البهيمية والسبعية في الصورة الإنسانية تماما على ما تقتضيه الطبيعة من حيث هي من غير وازع عقلي ولا مانع حكمي أو شرعيّ ، فعليهم تقوم الساعة .
وخاتم الأولاد أكمل زمانه ، وله من العلوم الوهبيّة والحكم النفثية الظاهرة في الكلمة الشيثية أتمّ حظَّ وأوفر نصيب ، ويدعو إلى الله بأحكام حكمته فلا يجاب إلى دعوته ، فيقبضه الله إليه ويقبض معه وبعده مؤمني زمانه .
وولادة أخته قبله إشارة أيضا إلى أن تحقّق المرتبة الفاعليّة بعد تعيّن مرتبة الانفعال ، وولادته بعد أخته تصحيح ختميّته ، لأنّه لو ولد قبلها كانت هي الخاتمة ،ولهذا لا يطَّرد هذا الحكم في كل توأم.
وكون رأسه عند رجليها إشارة أخرى أيضا إلى أنّ الأحدية الجمعيّة الكمالية الختمية إنّما تظهر بعد ظهور رتبة التفصيل لتحقّق الآخرية ، فافهم .
واعلم : أنّ هذه الحكمة النفثية تشتمل على مكاشفات عليّة ، وقواعد علميّة ، وقوانين كشفية حكمية ، فتدبّرها بفهمك الثاقب ونور إيمانك الصائب تعثر على كنوز الحكم النازلة على الطريق الأمم ، من المقام الأقدم ، على المظهر الأكمل الأجمع الأتمّ ، والمنظر الأحسن الأعدل الأقوم ، محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم .
.


واتساب

No comments:

Post a Comment