Monday, April 20, 2020

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د. أبو العلا عفيفي

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د. أبو العلا عفيفي

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص السابع والعشرون حكمة فردية في كلمة محمدية
(1) حكمة فردية في كلمة محمدية «الكلمة المحمدية».
(1) شاع من أوائل عهد الإسلام القول بأزلية محمد عليه السلام، أو بعبارة أدق بأزلية «النور المحمدي».
و هو قول ظهر بين الشيعة أولًا و لم يلبث أهل السنة أن أخذوا به، و استند الكل في دعواهم إلى أحاديث يظهر أن أكثرها موضوع. من ذلك أن النبي (صلى اللَّه عليه و سلم) قال: «أنا أول الناس في الخلق» و منها: «أول ما خلق اللَّه نوري»،
و منها: «كنت نبياً و آدم بين الماء و الطين» و غير ذلك من الأحاديث التي استنتجوا منها أنه كان لمحمد عليه السلام وجود قبل وجود الخلق، و قبل وجوده الزماني في صورة النبي المرسل، و أن هذا الوجود قديم غير حادث، و عبروا عنه بالنور المحمدي.
و قد أفاضت الشيعة في وصف هذا النور المحمدي، فقالوا إنه ينتقل في الزمان من جيل إلى جيل، و أنه هو الذي ظهر بصورة آدم و نوح و إبراهيم و موسى و غيرهم من الأنبياء ثم ظهر أخيراً بصورة خاتم النبيين محمد عليه السلام.
و بهذا أرجعوا جميع الأنبياء من آدم إلى محمد، و كذلك ورثة محمد إلى أصل واحد.
و هو قول نجد له صدى في الغنوصية المسيحية.
يقول الأب كليمنت الاسكندري: «ليس في الوجود إلا نبي واحد و هو الإنسان الذي خلقه اللَّه على صورته، و الذي يحل فيه روح القدس، و الذي يظهر منذ الأزل في كل زمان بصورة جديدة».
نجد لكل هذا الكلام نظيراً في كتب ابن العربي فيما يسميه الكلمة المحمدية أو الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي.
فهو لا يقصد بالكلمة المحمدية في هذا الفص محمداً الرسول، و إنما يقصد الحقيقة المحمدية التي يعتبرها أكمل مجلىً خَلْقِيّ ظهر فيه الحق، بل يعتبره الإنسان الكامل و الخليفة الكامل بأخص معانيه.
و إذا كان كل واحد من الموجودات مجلى خاصاً لبعض الأسماء الإلهية التي هي أرباب له، فإن محمداً قد انفرد بأنه مجلى للاسم الجامع لجميع تلك الأسماء، و هو الاسم الأعظم الذي هو «اللَّه».
و لهذا كانت له مرتبة الجمعية المطلقة، و مرتبة التعين الأول الذي تعينت به الذات الأحدية، إذ ليس فوقه إلا هذه الذات المنزّهة في نفسها عن كل تعين و كل صفة و اسم و رسم.
و لهذه الحقيقة المحمدية التي هي أول التعينات- و إن شئت فقل أول المخلوقات- وظائف أخرى ينسبها إليها ابن العربي.
فهي من ناحية صلتها بالعالم مبدأ خلق العالم، إذ هي النور الذي خلقه اللَّه قبل كل شيء و خلق منه كل شيء.
أو هي العقل الإلهي الذي تجلى الحق فيه لنفسه في حالة الأحدية المطلقة، فكان هذا التجلي بمثابة أول مرحلة من مراحل التنزّل الإلهي في صور الوجود.
فلما انكشفت له حقيقة ذاته و كمالاتها، و ما فيها من أعيان الممكنات التي لا تحصى، أحب إظهار كمالاته في صور تكون له بمثابة المرايا التي يرى فيها نفسه، فكانت أعيان الممكنات الخارجية تلك المرايا.

و من ناحية صلة الحقيقة المحمدية بالإنسان، يعتبرها ابن العربي صورة كاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع حقائق الوجود، و لذلك يسميها آدم الحقيقي، و الحقيقة الانسانية.
و يعدها من الناحية الصوفية مصدر العلم الباطن، و منبعه، و قطب الأقطاب. قارن كذلك الفص الشيثي للمؤلف، و طاسين السراج من كتاب الطواسين للحسين بن منصور الحلاج.

في هذا الوصف الاجمالي لما يسميه ابن العربي «الكلمة المحمدية»، أو الحقيقة المحمدية، عناصر مختلفة مستمدة من الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، و الفلسفة المسيحية و اليهودية، مضافاً إلى ذلك بعض أفكار من مذهب الاسماعيلية الباطنية و القرامطة.
مزج جميع تلك العناصر على طريقته الخاصة، فضيع بذلك معالم الأصول التي أخذ عنها، و خرج على العالم بنظرية في طبيعة الحقيقة المحمدية، لا تقل في خطرها و أهميتها في تاريخ الأديان عن النظريات التي وضعها المسيحيون في طبيعة المسيح، أو النظريات اليهودية أو الرواقية، أو اليونانية التي تأثرت بها النظرية المسيحية.

هذا هو ما يقصده ابن العربي بالكلمة المحمدية، و هي شيء يختلف تمام الاختلاف عن شخصية النبي محمد صلى اللَّه عليه و سلم، بل ليس بينهما من الصلة إلا ما بين الحقيقة المحمدية و أي نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل أو ولي من الأولياء.
فالكلمة المحمدية إذن شيء ميتافيزيقي محض خارج عن حدود الزمان و المكان.

أو قل إن شئت هي الحق ذاته ظاهراً لنفسه في أول تعين من تعيناته في صورة العقل الحاوي لكل شيء، المتجلي في كل كائن عاقل.
و ليس هذا الاختصاص لغير الكلمة المحمدية، و من هنا كانت فردية الحكمة المحمدية كما يشير إلى ذلك عنوان الفص.
و قد وردت تسمية هذه الحكمة بالحكمة الكلية أيضاً في بعض النسخ، و ليس لها معنى إلا ما ذكرنا.

(2) «و لهذا بدى ء به الأمر و ختم».
(2) يدل كلام المؤلف الآتي بعد ذلك مباشرة على أن المراد بكلمة «الأمر» هنا أمر الرسالة، لأنه يقول: فكان نبياً و آدم بين الماء و الطين، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين.
ولكن الأوْلى أن نفهم من قوله «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين» الإشارة إلى أسبقية وجود آدم، لا من حيث نبوته، بل من حيث مطلق ووجوده.
أي أن المراد الإشارة إلى أن الروح المحمدي أول موجود. وبذلك يكون معنى قوله بدىء به الأمر و ختم، بدى ء به أمر الوجود وختم به أمر الرسالة.
هذا، و قد شاع بين جمهور الصوفية الاستدلال بالحديث: «كنت نبياً و آدم بين الماء والطين» على أزلية محمد (الحقيقة المحمدية)، و لكن الغزالي يخالفهم في ذلك قائلًا إن المراد من الحديث النص على أن النبي عليه السلام قد قدر له أزلًا أن يكون نبياً قبل أن يخلق اللَّه آدم أو أي مخلوق آخر. و تفسير الغزالي لا يبين جهة الاختصاص في حالة النبي عليه السلام، لأن كل نبي آخر قد قدر له أزلًا أن يكون نبياً قبل خلق آدم.

(3) «وأول الأفراد الثَلاثةُ ...... إلى قوله و الدليل دليل لنفسه».
(3) أول الأعداد الفردية هو الثلاثة لا الواحد، لأن الواحد عندهم ليس بعدد و إنما هو أصل الأعداد.
وما زاد على الثلاثة من الأعداد الفردية فهو متفرع عنها، كالخمسة المتفرعة عن الثلاثة بإضافة جزئين منها إلا نفسها، و التسعة المتفرعة عن الثلاثة بضربها في نفسها وهكذا.
وعلى أساس هذه الفكرة العددية بنى ابن العربي فكرة ميتافيزيقية موازية لها، لا فيما يذكره عن «محمد» باعتباره مظهراً للاسم الإلهي «الفرد»، بل في كل ما يقوله عن عملية الخلق التي يرجعها إلى الفردية الثلاثة.

فأول صورة تعينت فيها الذات الإلهية كانت ثلاثية، لأن التعين كان في صورة العلم حيث العلم و العالِم و المعلوم حقيقة واحدة. و قد كان هذا التعين الأول تعيناً حُبيًّا أيضاً، حيث الحب و المحب و المحبوب حقيقة واحدة، و إلى هذا أشار ابن العربي في قوله:
تثلث محبوبي و قد كان واحداً .....  كما صيروا الأقنام بالذات أقنما. راجع ترجمان الأشواق ط. بيروت 1312 هـ ص 42. قارن الفتوحات ج 3 ص 171.

وأول حضرة إلهية ظهر عنها العالم ثلاثية أيضاً، لأنها حضرة الذات الإلهية المتصفة بجميع الأسماء و الصفات، وهي التي تسمى في اصطلاح القوم «حقيقة الحقائق» و «البرزخ الجامع» وغير ذلك من الأسماء. وعملية الخلق أيضاً ثلاثية، لأنها تقتضي
وجود الذات الإلهية و الإرادة و قول كن. قال تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».  راجع الفص 12، التعليق الثالث.
و هذا يقتضي وجود فردية ثلاثية في الشيء المخلوق لكي يتم خلقه، لأنه يقتضي شيئية الشيء المخلوق و سماعه أمر التكوين و امتثاله ذلك الأمر.
هكذا ينظر ابن العربي إلى التثليث، و يعتبره المحور الذي تدور حوله رحى الوجود، و الأساس الذي ينبني عليه الخلق و الإنتاج أياً كان نوعه، أي سواء أ كان في العالم المادي أم في العالم الروحي أم في عالم المعاني.

ولذلك ذكر الدليل المنطقي- وهو القياس- و قال إنه ينتج لأنه ثلاثي التركيب، فإنه لا بد فيه من ثلاثة حدود هي الحد الأكبر والحد الأصغر والحد الأوسط، وثلاث قضايا هي المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى والنتيجة.
ولما كان الدليل ثلاثي التركيب، وكانت دلالته على مدلوله ذاتية مباشِرَةً من غير حاجة إلى شيء آخر خارج عنه، وهو المراد بقوله: «و الدليل دليل لنفسه»، شَبَّه الحقيقة المحمدية المثلثة الأركان، من حيث دلالتها على ربها، بالدليل المنطقي المثلث الأركان، من حيث دلالته على مدلوله.
والحقيقة المحمدية أول دليل على ربها، لأنها المظهر المعقول الجامع لجميع حقائق الأسماء الإلهية، الظاهرة في الجنس البشري، بل في العالم أجمع.

وإذا كان كل موجود دليلًا على ربه من حيث هو مظهر خارجي تتجلى فيه كمالات ربه، فمحمد أول دليل على ربه، لأنه الصورة الجامعة التي تتجلى فيها كل هذه الكمالات.
قال تعالى: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (البقرة آية 30): ومعنى علمه الأسماء كلها في عرف ابن العربي أظهر فيه معاني الأسماء الإلهية كلها.
أما محمد (الحقيقة المحمدية) فقد أعطي حقائق تلك الأسماء، و هي التي يشير إليها ابن العربي بجوامع الكلم.
فإذا كان آدم هو الإنسان الظاهر المتعين بالوجود الخارجي في صور أفراده، فمحمد هو الإنسان الباطن المتعين في العالم المعقول.
و قد اختلف شراح الفصوص في تفسير قوله: «و الدليل دليل لنفسه». ف
يقول القيصري (ص 293) «اللام في الدليل للعهد، أي هذا الدليل الذي هو الروح المحمدي هو دليل على نفسه في الحقيقة، ليس بينه و بين ربه امتياز إلا بالاعتبار و التعين.
فلا غير ليكون الدليل دليلًا له»: أي أن الحقيقة المحمدية ليست دليلًا على ربها، بل هي دليل على نفسها، لأنها هي و الحق حقيقة واحدة لا فرق بينهما إلا بالاعتبار.
و يذهب «بالي» إلى أن اللام في كلمة «الدليل» للاستغراق لا للعهد، أي فكل فرد من أفراد الدليل أو نوع من أنواعه دليل على الرب من حيث هو دليل على النفس.
و بهذا نفهم معنى الحديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (بالي ص 420 - 421).
أما «جامي» فيفسرها بقوله «و الدليل- أي دليل كان- فإنما هو دليل لنفسه، أي دلالته على مدلوله ذاتية لا يُحتاج فيها إلى ما سواه، و كذلك دلالته صلى اللَّه عليه و سلم ذاتية لا احتياج له فيها إلى غيره بخلاف سائر الموجودات».
و هذا هو التفسير الذي أخذت به. (راجع شرح جامي على الفصوص ج 2 ص 336).

(4) «و معرفة الإنسان بنفسه مقدَّمة على معرفته بربه ... إلى قوله فافهم».
(4) مقدَّمة معناها متقدمة سابقة على معرفته بربه. و قد ذاع بين الصوفية الاستشهاد بما ادعوا أنه حديث نبوي، و هو قوله عليه السلام «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، و أكثروا القول فيه و التعليق عليه.
أما ابن العربي فيفهم هذا الحديث فهماً خاصاً يتمشى مع مذهبه في وحدة الوجود. فليست معرفة الإنسان بنفسه وسيلة لمعرفته بربه من حيث إنه يدرك قدرة اللَّه و عظمته عن طريق إدراكه لنفسه، و ما أودع اللَّه فيها من أسرار الخلق و عجائبه.
بل إنه يعرف ربه بمعرفته نفسه، و يجهل من ربه بمقدار ما يجهل من نفسه، لأن نفسه هي المظهر الخارجي لربه، أو هي المرآة التي يتجلى فيها ربه فيراه و يدركه.
و المراد بالرب هنا الحق المتجلي بالأسماء الإلهية في صور أعيان الممكنات لا الحق من حيث هو في ذاته بعيداً عن كل تعين، و كل نسبة، أو إضافة إلى العالم، فإنه من هذه الناحية غني عن العالمين، منزه عن كل معرفة و إدراك.
أما الحق الذي يعرف و يدرك فهو الحق الظاهر، و ليس الحق الظاهر سوى العالم: و نفس الإنسان جزء من العالم بل أكمل جزء فيه. فمن عرف نفسه عرف ربه على هذا المذهب معناه عرف الحق الظاهر في نفسه.
و لكن هل يعرف الإنسان نفسه على وجه الحقيقة؟
إذا كان الجواب بالإيجاب، قلنا بإمكان معرفة الإنسان ربه، و إذا كان بالسلب، لاستحالة معرفة حقيقة النفس و كنهها، قلنا بامتناع معرفة اللَّه.
والسبب في أن كل موجود يعرف ربه بمقدار ما يعرف من نفسه، أن لكل جزء من أجزاء العالم «أصلًا» من الذات الإلهية: هذا الأصل هو ربه، وهو الاسم الإلهي الخاص الذي يظهر فيه أثره، فهو يعرف ربه أي يعرف ذلك في الأصل نفسه.
وهو يعبد ربه، أي يعبد ذلك الاسم الإلهي الخاص المتجلي في نفسه. وهو دليل واضح على ربه، لأنه مجلاه و مظهره.

(5) «فإنما حُبِّبَ إليه النساء فحن إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه. فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق».
(5) قال عليه السلام: «حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء و الطيب، و جعلت قرة عيني في الصلاة».
يستغرق شرح هذا الحديث الجزء الأكبر من الفص، و يتخذ ابن العربي من مسائله الثلاث:
أعني حب النبي النساء، و الطيب، و الصلاة، أساساً لكثير من أمهات المسائل الفلسفية و الصوفية التي يعرض لها. و أولى هذه المسائل مسألة الحب الإلهي.
لا عجب في نظر ابن العربي أن أحب النبي النساء، لأن المرأة جزء من الرجل، و الأصل يحن إلى فرعه، و الكل يحن إلى جزئه.
وليس حب النبي النساء إلا مثالًا جزئياً يوضح مبدأً عاماً يسير عليه الوجود بأسره، وهو الحب الإلهي الذي هو حنين الحق إلى الخلق.
ولكن الفرع يحن إلى أَصله أيضاً، و الجزء إلى كله: ومن هنا جاء حنين الخلق إلى الحق، وإن كان في الحقيقة حنيناً للحق إلى نفسه في صورة الخلق المتعين.
وسنشرح ذلك في شيء من التفصيل فيما بعد.
لمسألة الحب الإلهي ناحيتان: ناحية شوق الحق إلى الخلق، و ناحية شوق الخلق إلى الحق.
أما شوق الحق إلى الخلق، فهو شوق الكل إلى أجزائه (و الكل و الأجزاء مستعملان هنا على سبيل المجاز).
وقد ظهر في صورتين: الأولى في حنين الذات الإلهية إلى الظهور على مسرح الوجود الخارجيّ، ذلك الحنين الذي كان علة الخلق، وإليه الإشارة في الحديث القدسي بقوله تعالى: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني».
و الصورة الثانية هي حنين الحق المتجلي في صور الوجود إلى الرجوع إلى نفسه: أي حنين الكل المتعين بصورة الجزء إلى الرجوع إلى الكل العام. و هذا بعينه حنين الخلق إلى الحق، لأن المشتاق عين المشتاق إليه في الحقيقة، و إن كان غيره بالتعين.
قال تعالى يخاطب داود عليه السلام: «يا داود إني أشد شوقاً إليهم»، أي إلى المشتاقين إليه. فالخلق يشتاق إلى الحق و يلاقيه بأن يعود الجزء إلى كله.
و لكنه «لقاء خاص» كما يقول ابن العربي، لأنه ليس من قبيل لقاء الشيئين المختلفين، بل من قبيل الشيء الواحد يلاقي نفسه. و إذا كان شوق الحق إلى الخلق علة ظهور الوجود في صوره الخارجية، فإن شوق الخلق إلى الحق علة عودة تلك الصور إلى الوجود الواحد العام.
أما أن شوق الحق إلى الخلق أشد من شوقهم إليه، فذلك لأن الخلق يشتاق إلى الحق من حيثية واحدة: أي من حيث هم صور تحن إلى الرجوع إلى الذات الإلهية المقومة لها.
أما الحق فيشتاق إلى الخلق من حيثيتين مختلفتين، لأنه من حيث إنه متعين بصورة العبد المشتاق، يشتاق إلى نفسه، ومن حيث إنه الأصل، يشتاق إلى نفسه في مرتبة التقييد التي هي مرتبة العبد.
فالحب موجود على الدوام متبادَل بين الحق و الخلق. و الشوق و الحنين و اللقاء موجودة على الدوام أيضاً، لأن الحق دائم الظهور في صور الخلق، يدفعه إلى ذلك الحبُّ الكامن فيه نحو ذلك الظهور.
والخلق دائم الفناء يدفعه إلى ذلك الحبُّ الكامن فيه نحو التحلل من الصور والرجوع إلى الأصل. هذه هي دائرة الوجود، أولها حب و فراق، وآخرها حب وتلاق، ومحور الدائرة «الحق» ومحيطها ما لا يحصى عدده من مجالي الوجود: كلٌّ يخرج من المركز، وكل يرجع إليه.
ولكن للقاء الحق معنى يفهمه كل منا بحسب منزلته و استعداده الروحي.
فهو بالنسبة إلى أهل الشهود من المؤمنين لقاء يتحقق في هذه الدنيا، لأنهم قوم ماتوا عن إنّيّاتهم وتعيناتهم في هذه الدار، وتجردوا عن طبائعهم وخلعُوا هيئاتهم النفسانية والطبيعية فأحياهم اللَّه بحياته، و شاهدوا جمال وجهه الباقي في كل شيء.
وهؤلاء لا يشتاقون إلى اللقاء، لأنهم متحققون به في عين القرب من اللَّه، و الشوق لا يكون إلا للمحروم البعيد، حيث الفراق و دوام الحجاب.
ولكنهم يشتاقون إلى دوام اللقاء: أي يشتاقون إلى مشاهدة نور الجمال الحق يطلع في كل لحظة في صورة جديدة من صور الوجود، وهو شوق لا ينتهي، وظمأ لا ينقع.
وإلى هذا المعنى أشار أبو يزيد البسطامي في البيت الآتي المنسوب إليه:
شربت الحب كأساً بعد كأس  .....  فما نفد الشراب و ما رويت
أما المحجوبون فهم أبداً مشتاقون إلى لقاء الحق، و هم لا يصلون إلى بغيتهم إلا بعد ارتفاع حجابهم البدني، و زوال الغواشي الطبيعية عنهم.
وهذا لا يكون إلا بالموت الحقيقي: إذ بالموت تنحل الصورة البدنية و يعود الفرع إلى أصله.
و لكن الموت موتان:
موت طبيعي وهو لجميع الخلق بلا استثناء، و فيه يلقى العبد ربه برجوع عينه إلى الذات الإلهية الواحدة، كما يعود النهر إلى البحر الذي خرج منه.
و موت أهل الكشف والوجد وهو الفناء الصوفي، وفيه يلقى العبد ربه بتحققه أنه عينه، ومشاهدته إياه في جميع مجالي الوجود.
ويسمى هذا الموتُ الموتَ الإرادي، وهو مقام الفناء عند الصوفية، أي فناء الصوفي عن نفسه وكل ما يتصل بها مما يقوم حجاباً بينه وبين ربه.

(6) «فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه ... إلى قوله فيما كان به الإنسان إنساناً»
(6) يشرح في هذه الفقرة الطبيعة المزدوجة للإنسان مستنداً إلى قوله تعالى في خلق آدم: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» * (سورة الحجر آية 29، سورة ص آية 72).
فلآدم (الجنس البشري) جسم طبيعي عنصري مؤلَّف من الأركان الأربعة، أو من الأخلاط على حد قوله، لأن الأركان لا تصير أعضاءً في البدن إلا بعد أن تتحوَّل أخلاطاً. و في الإنسان أيضاً روح يدبر جسمه، و هو النفس الإلهي الذي نفخه اللَّه في صورة آدم.
فالنَّفس هنا (المعبر عنه بالنفخ) كناية عن الروح الإلهي المنفوخ به في آدم.

و لكن النَّفَس الإلهي أو الروح الإلهي نوراني، فلما نفخ به في آدم، تحوَّل إلى نار بسبب ما في الجسم الانساني العنصري من الرطوبة.
و لهذا ظهر الروح الإلهي في الإنسان في صورة النار لا في صورة النور، و عنه ظهر فيه الروح الحيواني الذي من خصائصه الحياة و النمو و الحركة و الحس إلخ. و لكن الروح الإلهي له مظهر آخر في الإنسان و هو النطق، لأن الإنسان ليس كائناً حياً حساساً فحسب، بل هو كائن ناطق أيضاً.
و خلاصة القول :
أن حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان حقيقة نورية إلهية، و لكن طبيعته نارية من حيث هو جسم قَبِلَ الروح الإلهي المنفوخ فيه.
و الطبيعة الأولى خفية باطنة، و هذا معنى قوله: «فبطن نَفَسُ الحق فيما كان الإنسان به إنساناً» و أما معنى قوله: «فلو كانت نشأته طبيعية لكان روحه نوراً»، فالمراد بالنشأة الطبيعية النشأةُ غير العنصرية كنشأة الأفلاك و الملائكة. فلو كان جسم آدم من هذا النوع لكان روحه نوراً لا ناراً «1».

(7) «و الصورة أعظم مناسبة، و أجلها، و أكملها، فإنها زوج أي شفعت وجود الحق».
(7) ذكر في الفص الأول الحكمة في خلق آدم، فقال إن الحق سبحانه لما شاء أن يرى عينه في كون جامع يحصر في نفسه جميع معاني الوجود، و يكون مجلىً شاملًا لكل الأسماء الإلهية، خلق آدم فكان تلك المرآةَ التي نظر الحق فيها إلى صورته، و العقلَ الذي أدرك به كمال وجوده.
فآدم (الجنس البشري) هو الخليفة الحق عن اللَّه، و هو الصورة الإلهية المشار إليها في الحديث «2» القائل:
«خلق اللَّه آدم على صورته»: أعني على صورة اللَّه. و لصورة أي شيء معنى غير المعنى الذي للشيء نفسه.
فإنها فوق كونها تشبه الشيء و تظهر كل ما فيه من كمال أو نقص تؤكد وجوده، إذ تضيف إلى وجوده الأصلي وجوداً ثانياً.
ثم هي من ناحية أخرى تكون لصاحبها بمثابة المرآة التي يرى فيها نفسه، و رؤية الشيء نَفْسَه في نفسه ليست كرؤيته نفسه في شيء يكون له بمثابة المرآة.
و كل شيء واحدٌ في ذاته، زوج في صورته، لأن الصورة تشفع وجوده كما أسلفنا. و كذلك شفعت الصورة الإلهية المسماة «آدم» وجود الحق، و شفعت المرأة التي هي صورة الرجل وجود الرجل و صيرته زوجاً بعد أن كان فرداً.

(8) «و لما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة ... إلى قوله إذ لا يكون إلا ذلك».
(8) شرح في الفقرة السابقة أن الرجل يحب المرأة لأنها جزء منه كما أحب اللَّه الإنسان لأنه صورته، و أن الرجل في حبه المرأة إنما يحب في الحقيقة ربه لتعلق حبه بربه لا بأي شيء آخر أياً كان ذلك الشيء.
و تكلَّم في هذه الفقرة عن الوصلة التي في المحبة و ما يصاحبها من عموم الشهوة و فناء الرجل في المرأة و وجوب الاغتسال بعد ذلك.
و قد استعمل في الفقرتين لغة الرمز و الإشارة فتعقدت بذلك عباراته و صعب اقتناص معانيه. و من الغريب أن أحداً من شراح الفصوص لم يشر إلى هذه الرمزية و لم يحاول صرف الفص عن ظاهره، مع أنه يكاد يكون من المستحيل فهم النص على ظاهره إلا إذا اتهمنا ابن العربي بمادية شنيعة لا تتفق مع روح مذهبه.
و الذي أعتقده أنه يستعمل كلمة «المرأة» هنا رمزاً للدلالة على أي موضوع محبوب، و «الشهوة» رمزاً على الرغبة الملحة في الحصول على المطلوب، و «وصلة النكاح» رمزاً على الاتحاد الصوفي، و «الاغتسال» رمزاً على الطهارة الروحية.

و إذا كان الحق هو عين كل محب و محبوب، و كانت غاية كل محب الاتصال بمحبوبه و الفناءَ فيه و التلذذ بقربه، لزم أن يكون الحق هو المحبوب على الإطلاق، و المتلذذ به على الإطلاق، و لزم ألّا يفنى محب إلا فيه، و ألّا تطلب «وصلة النكاح» إلا به.

أما أولئك المحجوبون الذين يقولون بوجود الغير و السوي، فينظرون إلى المرأة و إلى كل ما هو موضع للذة و الشهوة، على أنها مصادر مستقلة للذاتهم.
و لهذا أُمر الإنسان بالاغتسال بعد الجماع، أي أُمر بتطهير نفسه من كل شوائب الغيرية بعد الجماع البدني، لتكون نفسه أكثر قبولًا و أعظم استعداداً للجماع الروحي، و التحقق بوحدة المحب و المحبوب، و الفناء في المحبوب الواحد مهما تعددت صوره و مجاليه:
ذلك الفناء الذي أشار إليه بعضهم بقوله:
صح عند الناس أني عاشق غير أن لم يعرفوا عشقي لمن و مفتاح الرمزية في هذه الفقرة قول ابن العربي «فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره»: أي أن الحق يأبى أن يُحَبَّ شيء إلا إذا كان هو عينَ ذلك المحبوب، كما يأبى أن يعبد شيء إلا إذا كان هو عين ذلك المعبود: أي أنه استأثر بالحب و العبادة لنفسه.

و كيف لا يستأثر بهما و ما سواه شيء، و ما غيره محبوب و لا معبود على الحقيقة؟ أما قوله: «إذ لا يكون إلا ذلك»، فقد يكون معناه إذ لا يكون إلا الحق مصدراً للذة و منبعاً للحب، أو إذ لا يكون للإنسان إلا أن يرجع إلى الحق في كل شيء يحبه و يفنى فيه فيشاهد الحق في كل محبوب و كل متلذَّذٍ به.

(9) «فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة ... إلى قوله: من حيث هو منفعل خاصة».
(9) الرجل فاعل و المرأة منفعلة، إما لأن المرأة مخلوقة من الرجل، و الفرع محل الانفعال و الأصل محل الفعل، أو لأن الأمر كذلك في حالة المواقعة.
و الرجل و المرأة صورتان للحق، فلا بد أن يوصف الحق بأنه فاعل و منفعل أيضاً.
فإذا شاهد الرجل الحقَّ في المرأة من حيث ظهور المرأة عنه، شاهده في صورة منفعل، و إذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه، شاهده في فاعل.

و إذا شاهده في نفسه من غير نظر إلى ظهور المرأة عنه، أي شاهده في نفسه من حيث ظهوره هو عن الحق، شاهد الحق في صورة منفعل من غير واسطة.

و بذلك يكون المنفعل على نوعين: نوع يظهر عن الحق بلا واسطة، أو يظهر اللَّه فيه مباشرة و ذلك كالرجل. و نوع يظهر عن اللَّه بواسطة، أو يظهر اللَّه فيه بواسطة منفعل آخر، و ذلك كالمرأة التي ظهرت عن الحق بواسطة الرجل.

هذه هي الأنواع الثلاثة التي ذكرها لمشاهدة الرجل للحق، و لكنه يقول بعد ذلك إن شهود الرجل للحق في المرأة أتم و أكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل.
فلا بد أن تكون هذه المشاهدة في حال المواقعة كما يفهمها چامي، لأن المرأة يمكن اعتبارها في هذه الحال فاعلة منفعلة من حيث إنها تؤثر في الرجل و تتأثر به، و إلا ناقض ما ذكره سابقاً من أن المرأة من حيث ظهورها عن الرجل إنما هي صورة للحق من حيث هو منفعل فقط.

وعلى هذا فنحن نشاهد الحق في صورة الفاعل تارة، وصورة المنفعل تارة، كما نشاهده في صورة الفاعل و المنفعل معاً في المجلى الواحد.
والحقيقة أنه لا مجال للتحدث عن الفعل والانفعال إلا في عالم الكثرة و التعدد، و هو عالم المحجوبين الذين لا يدركون الوحدة الوجودية بين العلل و المعلولات، فيقولون هذا منفعل وذلك فاعل، ولا يدركون ذوقاً أن الفاعل والمنفعل عين واحدة فرَّقت بينهما المراتب.
ولكن إذا كان لا بد لنا أن نتكلَّم بلسان الكثرة الذي هو لسان العقل- لا الذوق- و إذا كان لا بد أن نتحدث عن مشاهدة الحق في الصور، و هو «لا يشاهَدُ مجرداً عن المادة أبداً»، إذ تستحيل مشاهدة ذاته. فيصح أن نقول إن الحق يشاهَدُ في الوجود بصورة الفاعل وبصورة المنفعل، كما يشاهَدُ بصورة الفاعل المنفعل وهو أكمل مشهد له.

(10) «وأعظم الوصلة النكاح وهو نظير التوجّه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه».
(10) أعظم اتصال جسماني بين الرجل والمرأة هو النكاح، وفيه يتوجه الرجل لإيجاد ولد يكون على صورته و يخلفه من بعده. ولذلك شبّه به توجه اللَّه إلى خلق آدم ونفخه فيه من روحه ليكون على صورته ويخلفه و يرى فيه نفسه.
و لكن هذا التشبيه يصدق أيضاً على توجُّه الحق أزلًا إلى الظهور بمظهر الخلق في صورة العالم الخارجي. فالإنسان حق و خلق، و العالم حق و خلق و الحق في كل منهما هو الروح المدبر لصورته، و الخلق هو تلك الصورة التي يدبرها الروح.

و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ»: أي من أعلى مراتب الوجود إلى أسفلها، لأن الأرض أسفل عالم العناصر.
ففي كل مرتبة من مراتب الوجود يدبر الحقُّ الخلقَ: أو الباطنُ الظاهِرَ، و إن كانت الحقيقة أنه هو الحق الخلق و الظاهر الباطن، لأن التنزلات في مراتب الوجود ليست إلا تعينات و شئوناً للذات الإلهية الواحدة.
و لما فسر النكاح على هذا النحو، أي على أنه ازدواج شيئين لإنتاج ثالث، أو توجُّه نحو الإنتاج أيّاً كان نوع ذلك التوجه، ظهرت صلة النكاح بالتثليث الذي ذكره من قبل، و تبين أن النكاح ليس إلا التثليث معبراً عنه بعبارة أخرى، و أنه، كالتثليث، أساس كل خلق و كل إيجاد، و أنه هو المسمى نكاحاً في عالم الصور العنصرية، و همةً في عالم الأرواح، و ترتيب مقدمات في عالم المعاني.
فالنكاح في عالم العناصر هو الاتصال بين ذكر وأنثى لإنتاج النسل، وقد يصدق على اتحاد عنصرين أيّاً كانا لإنتاج عنصر ثالث.
والنكاح في عالم الأرواح هو التوجه الإلهي نحو الطبيعة وفتح صور العالم فيها: والنكاح في عالم المعاني هو الإنتاج العقلي، أو توليد النتيجة من المقدمات في القياس المنطقي.

كل ذلك في الفردية الأولى: أي في أول الأعداد الفردية الذي هو الثلاثة، فإن التثليث مبدأ الخلق ومبدأ الفيض الوجودي، كما هو مبدأ الإنتاج في كل عالم من العوالم.
ولكن التثليث في ذاته عاجز عن الفعل، و هو لا يفعل إلا إذا وجدت حركة بين عنصرين من عناصره لإنتاج العنصر الثالث، وهذه الحركة هي التي سماها نكاحاً.

(11) «و كما نزلت المرأة عن درجة الرجل ... نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأة على صورته».
(11) استمر في تشبيه الصلة بين الحق و الخلق بالصلة بين الرجل و المرأة، لأن كلًّا منهما مظهر للصلة بين الأصل و فرعه. و المرأة أقل درجة من الرجل. قال تعالى: «وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» (سورة البقرة آية 228).
و كذلك الخلق الظاهر بصورة الحق أقل درجة من الحق في ذاته. و الظاهر أنه لا يريد «بالمخلوق على الصورة» الانسانَ الذي قال إن اللَّه خلقه على صورته، بل العالم الأكبر.

فبالرغم من أن العالم صورة كاملة يتجلى فيها الحق بجميع كمالاته الأسمائية و الصفاتية، لا يزال في المرتبة، لا في الحقيقة، دون الحق متميزاً عنه.
فإن الحق من حيث ذاته واجب الوجود لذاته غني عن العالمين، أي غني عن كل صلة و كل إضافة إلى الوجود الخارجي، في حين أن العالم الذي هو ظل الحق مفتقر إليه في وجوده، و في كل ما هو ظاهر فيه من صفات.

و الغني له الأولوية على الفقير، كما أن له صفة الفاعلية، و للمفتقر المفعولية. و قد سبق أن قال: إن المؤثر بكل وجه و على كل حال و في كل حضرة هو اللَّه، و إن المؤثَّر فيه بكل وجه، و على كل حال، و في كل حضرة هو العالم. راجع الفص الثاني و العشرين، التعليق الخامس.

و إذا كان لنا أن ننسب إلى العالم صفة الفاعلية استناداً إلى ما ندركه فيه من العلل و المعلولات، فلا بد من وصف فاعليته بأنها فاعلية ثانوية، تمييزاً لها عن الفاعلية الأولية التي للحق وحده.

(12) «فأعطى كلَّ ذي حق حقه كلٌ عارف».
(12) قد تفهم هذه الجملة بمعنى أن العارف باللَّه، الواقف على أسرار حقيقة الوجود، يعطي كلًّا من الحق و الخلق حقه، و يميز بينهما على نحو ما بيناه في التعليق السابق: أي يميز بين ما له وجوب الوجود و الغنى المطلق عن العالمين، و ما له إمكان الوجود و الافتقار المطلق.

و قد تفهم بمعنى أن العارف يعطي كل موجود من الموجودات نصيبه من الحق كما يعطيه نصيبه من الخلق، أي يدرك في كل موجود أنه حق و خلق معاً: حق من حيث عينه و أصله، و خلق من حيث صورته.

(13) «و ليست الطبيعة على الحقيقة إلا النَّفَس الرحماني ... إلى قوله: سريان آخر».
(13) سبق أن ذكرنا في الفص العيسوي أن الطبيعة نسبتها إلى النَّفَس الرحماني، نسبة الصور النوعية إلى الشيء الظاهرة فيه.
و قوله «على الحقيقة» إشارة إلى أن العقل و إن كان يميز بين الشيء و صورته النوعية، إلا أنها في الحقيقة عين ذلك الشيء.
و النَّفَس الرحماني (أو الطبيعية) على هذا التفسير، هو الجوهر الذي تفتحت فيه صور الوجود المادي و الروحي: سماه النَّفَس الرحماني، من قوله تعالى: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» .
والنفخ خروج النَّفَس من النافخ، فكأنه أخذ ما ذكر في القرآن عن خلق آدم، رمزاً على خلق العالم بأسره.
وسماه «طبيعة» إشارة إلى أنه هو الموجود بالفعل في العالم المادي و الروحي.
وقد تفتحت في الطبيعة صور العالم بواسطة النفخ الإلهي الذي سرى في الوجود، فظهرت الأجسام الطبيعية في العالم المادي، عند ما سرى النفخ في الجوهر الهيولاني القابل للصور الجسمانية.
وكذلك ظهرت الأرواح النورية التي هي المجردات، بسريان النفخة في الجواهر الروحانية كلها، وظهرت الأعراض- التي يظهر أنه يقصد بها الصفات بسريان النفخة الإلهية في الطبيعة العرضية التي هي مظهر التجلي الإلهي.
وهو يفرق بين نوعين من السريان:
سريان النفخة الإلهية في عالم الأجسام، و سريانها في عالم الأرواح و الأعراض، لأن الأول يعمل في جوهر هيولاني مادي، و الثاني في جوهر غير مادي.

(14) «ثم إنه عليه السلام غلَّب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ... إلى قوله: و العلة مؤنثة».
(14) في هذه الفقرة الطويلة يحاول ابن العربي أن يثبت أهمية التأنيث و منزلته في الوجود بطرق مختلفة، بعضها لفظي و بعضها غير لفظي.
وليس دفاعه عن التأنيث في الحقيقة دفاعاً عن النبي الذي روي عنه حبه للنساء، و لا تبريراً لقوله «ثلاث» بدلًا من «ثلاثة» في الحديث «حبب إليَّ من دنياكم ثلاث»،
و إنما هو دفاع عن أفكاره التي أخذ في شرحها منذ ابتداء الفص: أعني المرأة من حيث هي صورة للرجل مشابهة للإنسان الذي هو صورة الحق، و المرأة من حيث هي أكمل مجلى للحق، و المرأة من حيث هي رمز لكل محبوب إلخ إلخ.

أما ما يذكره في هذه الفقرة فليس إلا مماحكات لفظية لا طائل تحتها في ذاتها، و إن كانت لها دلالتها على المعاني التي أسلفنا ذكرها.
و هاك خلاصة ما قال: قال النبي عليه الصلاة و السلام «حبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء و الطيب و جعلت قرة عيني في الصلاة».
لم يقل ثلاثة مع أنه ذكر الطيب و هو مذكر، و من عادة العرب تغليب المذكر على المؤنث مهما يكن عدد الذكور.
فكان المنتظر أن يقول «ثلاثة» و يغلب المذكر على المؤنث، فيأتي بتمييز للعدد على عكس المعدود.
و لكنه لم يفعل، بل غلب التأنيث على التذكير لحكمة أرادها.
و يرى ابن العربي أن النبي عليه الصلاة و السلام أشار بذلك إلى أهمية التأنيث، و أنه أصل كل شيء، و العلة في وجود كل شيء.
ألا ترى أنه مهما كانت وجهة نظرك في خلق العالم، فإنك منتهٍ لا محالة إلى لفظ مؤنث يفسر لك أصله و سبب وجوده؟
فإن قلت إن أصل الوجود «الذات الإلهية»، أو أن الظاهر في الوجود «الصفات الإلهية»، أو أن الذي أظهر الوجود «القدرة الإلهية»، أو وصفت اللَّه بأنه «علة الوجود» و«حقيقته» و ما إلى ذلك، فإنك تستعمل في كل حالة كلمة مؤنثة.

ويشير ابن العربي بمجموعة الألفاظ المؤنثة التي أوردها إلى رأي الأشاعرة القائلين بأن سبب وجود الخلق «القدرة الإلهية» ناظرين إلى القدرة، و سائر الصفات على أنها أمور مغايرة للذات الإلهية، و إلى مذهب الحكماء الذين اتبعهم المعتزلة في قولهم ان الذات عين الصفة، وإلى مذهب من يرى أن الذات الإلهية من حيث هي:
أي من غير اعتبار لأية صفة: هي علة وجود العالم.
و مهما يكن المذهب الذي تأخذ به في أصل الوجود و خلقه، فإن الكلمات التي تعبر بها عن ذلك مؤنثة.

(15) «ولما خُلق عبداً بالأصالة لم يرفع رأسه قط إلى السيادة .... فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس».
(15) أي و لما خلق محمد عليه السلام (أو بالأحرى الروح المحمدي) وقف من الحق موقف العبودية المحضة، أي موقف الانفعال المحض لأنه الصورة الأولى للحق، و الصورة محل الانفعال كما أسلفنا.
و لكنه أُعْطِيَ القوة على الفعل لما أوجد اللَّه من روحه جميع الأرواح و مظاهرها، كما جاء في الحديث الذي يروونه من «أن اللَّه لما خلق العقل قال: أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، فقال و عزتي و جلالي، بك آخذ و بك أعطي و بك أمنع و بك أعاقب إلخ».

هكذا يقول القيصري (شرح الفصوص ص 305). و معناه أن ابن العربي يقصد بالروح المحمدي العقل الذي اعتبره أفلوطين أول الفيوضات التي ظهرت عن «الواحد»، أو شيئاً قريباً من ذلك. و نحن نعلم أن كلًّا من الفيوضات الأفلوطينية له ناحيتان: ناحية الانفعال (و هي التي عبر عنها ابن العربي بالعبودية) من حيث صلته بما فوقه الذي فاض عنه، و ناحية الفعل من حيث صلته بما تحته مما فاض عنه.

إلا أن ابن العربي لا يدين بمذهب الفيوضات كما يدين أفلوطين، فإن العقل الأول و النفس الكلية و ما إلى ذلك من الفيوضات ليست وجودات مستقلة كل منها عن الآخر و عن الواحد الحق، لا يلحق آخرها بأولها و لا يتصل به.
و لكنه بالرغم من استعمال اصطلاحات أفلوطين، يفهم هذه الفيوضات، على أنها مجالي مختلفة للحقيقة الوجودية الواحدة، منظوراً إليها من جهات تختلف كل منها عن الأخرى. فالعقل الأول أو الروح المحمدي هو الحق ذاته متجلياً في صورة خاصة، و كذلك النفس الكلية. بل كذلك كل مظهر من مظاهر الوجود.

وكل واحد من هذه المجالي أو المظاهر له صفة العبودية: أي صفة الخلق والانفعال، وله أيضاً صفة الربوبية، أي صفة الحق والفعل.
أما قوله فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس، فإما أن يكون المقصود به أنه خلق من روحه جميع الأرواح الأخرى فعبر عن الأرواح بالأنفاس، أو يكون معناه أن بواسطته خلق جميع الكلمات الوجودية. وعبَّر عن «الكلمات» بالأنفاس لأن الكلمات مظاهر الأنفاس.

وقد غلب على ابن العربي استعمال كلمة «الكلمات» مرادفة لكلمة «الموجودات» استناداً إلى قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (الكهف آية 109)، كما غلب عليه تسمية الوجود في صورته الأولى قبل أن تنفتح فيه أعيان الممكنات، بالنَّفَس الرحماني.
و كثيراً ما سمى العالم بالعرش و عبَّر عن ظهور الحق في صورة العالم باستواء الرحمن على العرش.

وهو لا يقصد بالرحمن إلا معطي الوجود، و لا بالرحمة إلا الوجود الذي فاض من واهب الوجود على جميع الخلق. راجع ما ذكرناه في الرحمة و في قوله تعالى «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» في الفص السادس عشر، التعليق الثالث، والفص الحادي والعشرين، التعليقين الثاني والثالث.

(16) «و قد جعل الطيِّب تعالى في هذا الالتحام النكاحي في براءة عائشة فقال الخبيثات للخبيثين ... و الطيِّبات للطيِّبين».
(16) ذكر «الطيِّب» و هو ثاني الأشياء الثلاثة التي حبِّبت إلى النبي، و فسره بأنه عَرْف الوجود، رائحة التكوين.
ولكنه كعادته في الانتقال من مسألة إلى أخرى لمناسبة لفْظية بين المسئلتين، ترك «الطيِّب» و أخذ يتكلم عن الطيِّب الذي هو ضد الخبيث.
بل استعمل الكلمتين على سبيل الترادف. قال إن اللَّه ذكر الطيِّب (و لا يقصد به إلا مادة ط ي ب) في قصة عائشة و براءتها، عند ما أشار إلى الالتحام النكاحي بين الرجل و المرأة.
وإن اللَّه هيّأه بحيث يكون بين الطَّيِّبات و الطيِّبين و الخبيثات و الخبيثين. فقوله «جعل الطيب» أي استعمله أو ذكره، و قوله «في الالتحام النكاحي» صفة للطيب، و قوله في براءة عائشة مفعول ثان لجعل.
ولما كان النبي صلى اللَّه عليه و سلم أطيب الطيِّبين، لزم طيب من اختص به في الالتحام النكاحي، و انتفاء الخبث عنها بشهادة اللَّه ببراءتها.
والظاهر أنه يعتقد صلة بين الطيِّب (الذي هو ضد الخبيث) و الطيِّب الذي هو الرائحة، على أساس أن الطَّيِّب صفة للذات، و الذات الطيِّبة لا يصدر عنها إلا الطَّيِّب من الأقوال.
والأقوال أنفاس و الأنفاس روائح أو الروائح أنفاس.
وهذه صلة بعيدة جداً، و لكنها تمثِّل التواء ابن العربي أحياناً في معالجة المسائل.
والحقيقة أنه أراد أن ينتقل من الكلام عن الطيِّب إلى الكلام عن الطَّيِّب
من الأشياء و الأفعال، أي الكلام في مسألة الحسن و القبح، و الخير و الشر، فربط المسئلتين بهذا الرباط اللفظي السقيم.

(17) «فما حُبِّب إلى رسول اللَّه إلا الطَّيِّب من كل شيء، و ما ثم إلا هو».
(17) صرح هنا بأنه يستعمل كلمة الطيِّب مرادفة لكلمة الطَّيب لأنه بصدد الكلام عن مسألة الخير و الشر، و ما يحمد و ما يذم من الأشياء و الأفعال.
فالذي حُبِّب إلى رسول اللَّه لم يكن طيِّب الروائح، بل طيِّب الأخلاق والأفعال والأشياء.
أما قوله: «و ما ثم إلا هو» فإشارة إلى مذهبه في طبيعة الوجود وأنه خيرٌ على الإطلاق.
وخلاصة هذا المذهب أن الوجود من حيث هو، خير لا شر فيه، وحسنٌ لا قبح فيه.
وأننا لا نصف الأشياء والأفعال بالشر والقبح و الذم وما إلى ذلك من الأوصاف، إلا لأمر عرضي.
وقد حصر هذه الأمور العرضية في خمسة هي: أن يكون الوصف بالشر أو القبح أو الذم من قبيل العرف والاصطلاح، أو يكون لمخالفة الموصوف بهذه الصفات للطبع، أو لعدم موافقته للغرض، أو الشرع، أو لقصوره عن درجة كمال مطلوب.
فالأشياء في ذاتها لا توصف بهذه الأوصاف، و إنما تلحق بها لأمور عارضة، خارجة عن ذاتها. كالثوم الذي ذكره: فإنه في ذاته لا يوصف بأنه مكروه أو مذموم، و إنما يكرهه و يذمه من يتأذى برائحته.

فحبِّب إلى الرسول الطيِّب: أي الطَّيِّب من كل شيء، و لكن ما ثم في الوجود الا الطَّيِّب، أي ما ثم في الوجود الا الخير: لأن الوجود نَفَس الرحمن الذي هو الخير في ذاته، و لأن الخير مرادف للوجود، و الشر مرادف للعدم، فيلزم أن كل ما هو متحقق بالوجود خيرٌ.

(18) «و هل يتصوَّر أن يوجد في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب ... فإنَّا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه و هو الحق».
(18) ذكرنا في التعليق السابق رأيه في أن الوجود بأسره خيرٌ في ذاته: فإن حكم على شيء فيه بأنه شر، فذاك من قبيل العرض الصرف.
و ذكرنا أن المستويات التي يحكم على الأشياء بأنها شر بالقياس إليها، هي العرف و الطبع و الغرض و الشرع و درجة من الكمال مطلوبة.
و كل هذه أمور متغلغلة في العالم، في نظامه الطبيعي و الاجتماعي. فلا عجب إذن ألا يوجد موجود لا يعرف إلا الخير، و لا يجد إلا الطَّيِّب في كل شيء لأنه لا محالة واجد شيئاً لا يلائم طبعه أو غرضه، أو لا يتفق مع عرفه أو شرعه.
بل إن الأصل الذي ظهر عنه العالم- و هو الحق- يعرف الخير كما يعرف الشر، و يدرك الطَّيِّب كما يدرك الخبيث.
فليست طبيعته قاصرة على إدراك الخير وحده، و لا على اعتبار الوجود بأسره خيراً لا شر فيه.
يدل على ذلك أنه وصف نفسه بأنه يحب و يكره و يعذِّب و يثيب: أي يفرق بين الطَّيب و الخبيث، إذ ليس الطَّيِّب إلا ما يحب و ليس الخبيث إلا ما يكره.
وقد يبدو لأول وهلة أن هناك تعارضاً بين هذا القول و بين ما ذكرناه في التعليق السابق، من أن الوجود في ذاته خيرٌ محض في نظر الحق.
والواقع أنه لا تعارض بينهما، لأن الحق الذي يحب ويكره، ويعذب و يثيب، هو الحق من حيث صلته بالعالم، لا الحق من حيث هو في ذاته، فإنه من هذه الحيثية الأخيرة خيرٌ محض، لا يرى في الوجود إلا خيراً.
أما من الحيثية الأولى فقد ظهر برحمته في كل شيء، لا فرق في ذلك بين الخبيث و الطَّيِّب، و هما معنيان يدركهما العباد في الوجود فيخاطبهم الحق بهما حسب إدراكهم.
و العالم على صورة الحق، فلا بد له من أن يحب و يكره كذلك:
أي يدرك الخير و الشر. أما من يدعي من الناس أنه لا يدرك إلا الخير، فذلك لأنه شغل بالخير عما عداه، فظن أنه لا يوجد في الوجود إلا هو.

(19) «و أما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة ... إلى قوله: في الفتوحات المكية».
(19) لعل من الغريب أن يتكلم في الصلاة رجل يقول بوحدة الوجود، أو أن يتكلم في أي نوع آخر من أنواع العبادة تتمثل فيه الصلة بين العبد و ربه.
ولكن ذلك ليس بغريب على ابن العربي الذي لم يفقد عاطفته الدينية، على الرغم من قوله الصريح بوحدة الحق و الخلق، والرب والعبد، و إن كان يكيف العبادة تكييفاً آخر يخرج بها عن مألوف معناها، وينتهي بها إلى حال عميق من أحوال الاتصال الصوفي باللَّه.
وفيما يذكره عن الصلاة في هذا الفص مثال رائع لإظهار العاطفة الدينية التي لم تتمكن وحدة الوجود من إطفاء جذوتها في قلب ذلك الرجل، و لكيفية فهمه العبادة فهماً صوفياً.

أخص جزء من الصلاة في نظره ذكر اللَّه، بل ذكر اللَّه على نحو خاص: أي المناجاة بين الحق و بين العبد الذي هو مجلاه و مظهره. قال تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» (العنكبوت آية 45).
يقول ابن العربي: و لذكر اللَّه أكبر، أي أكبر ما في الصلاة باعتباره جزءاً منها.
و لكن الذكر في الصلاة ليس قاصراً على ذكر العبد لربه، بل يشمل ذكر اللَّه للعبد أيضاً، و ذلك بإجابته سؤال العبد.
و قد ذكر هذا المعنى فيما بعد بقوله: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يعني فيها (أي في الصلاة) أي الذكر الذي يكون من اللَّه لعبده حين يجيبه في سؤاله».
يأخذ بعد ذلك في شرح هذه المناجاة بين العبد و ربه و هي لا تعدو التأمل في صفات الحق و الخلق، و إعطاء كل منهما حقه: فإن للرب صفات يختلف بها عن العبد، و للعبد صفات تميز بينه و بين الرب.
و لذا قسم «فاتحة الكتاب» التي يعدها أعظم جزء من أجزاء الصلاة إلى ثلاثة أقسام: الأول خاص باللَّه، و الثالث خاص بالعبد، و الثاني مشترك بينهما.

و فسر هذه السورة على أنها مناجاة بين المحب و المحبوب، أولها مجالسة و حديث مع الحق، و وسطها تخيل له في قبلة المصلى، و آخرها شهود و رؤية للحق في عين قلب عبده، و سماعه صوت الحق يدوي في كل مكان، و استيلاء المحبوب على قلب المحب بحيث لا يرى و لا يسمع غيره كما يقول بعضهم:
إذا ما تجلى لي فكلي نواظر    .....   و إن هو ناجاني فكلي مسامع

فالقسم الأول من «الفاتحة» مجموعة صفات خاصة، يتصف بها الحق وحده:
أي الحق من حيث هو معبود، لا من حيث هو في ذاته. فهو اللَّه، الرحمن الرحيم، رب العالمين، مالك يوم الدين.
و العبد إذ يقرؤها يذكر اسم اللَّه و يحمده، و يثني عليه و يمجده، و يفوض الأمر إليه، و يعترف بافتقاره إليه.
و القسم الثاني قوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».
يقول ابن العربي إن اللَّه يقول عند سماع هذه الآية من العبد «هذه بيني و بين عبدي» أي مشتركة بيني و بين عبدي، إذ العبادة مشاركة و اتصال بين العابد و المعبود: لأنها ليست فعلًا من جانب واحد، بل هي حال، بالمعنى الصوفي، يتحقق فيها العابد بوحدته الذاتية بمعبوده، فيكون فيها العابد معبوداً و المعبود عابداً.
و لعل هذه الحال هي التي أشار إليها ابن العربي في قوله:
فيحمدني و أحمده و يعبدني و أعبده . راجع الفص الخامس.

والقسم الثالث هو من قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخر السورة.
وهو يعبر عن صفة العبودية المحضة الخاصة بالعبد، أي افتقاره إلى الهداية إلى الصراط المستقيم.
وإذا فسرنا الصراط المستقيم كما فسره في فص هود و غيره بأنه صراط الوجود الذي يسير عليه كل شيء، ظهر معنى العبودية و الافتقار، لا في الإنسان وحده، بل في الخلق أجمع.

إذ الخلق من حيث إن له صفة الإمكان مفتقر إلى الحق الذي يمنحه الوجود، فكأنه يتوجه إليه على الدوام، و يسأله بلسان حال افتقاره أن يمنحه الوجود و يهديه إلى صراطه.

 فإذا انتهت هذه المناجاة و صدق فيها العبد و كان حاضر القلب مع ربه، رآه: أي تجلى له في قلبه. فإن من لم يظفر برؤيته في عين بصيرته يحاول أن يتمثله في قبلته عند مناجاته.
قال عليه السلام: «اعبد اللَّه كأنك تراه».

و من لم يظفر برؤية الحق في صلاته لم يبلغ الغاية منها، و لا كانت له قرة العين التي أشار إليها النبي في حديثه: «و جعلت قرة عيني في الصلاة».
و من لم يحضر في الصلاة مع ربه، فليس بمصلّ أصلًا.
فأكمل أنواع الصلاة ما كان فيها حضور للعبد مع ربه، و حصلت له فيها الرؤية و السمع، فكان صاحبها ممن «أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ».
وإذا وصل العبد إلى هذا المقام غاب عن نفسه، و عن كل ما سوى اللَّه، و ذلك هو الفناء الصوفي.
وإلى هذا المعنى أشار بقوله: «و ما ثم عبادة تمنع من التصرف في غيرها سوى الصلاة».
وهو أيضاً المقام الذي لا تصدر فيه عن العبد فاحشة: أي ما يسمى فاحشة، لأن العبد في مقام لا يخاطف فيه بالتكاليف التي تفرق بين الطاعة و المعصية، إذ يتحقق العابد في هذا المقام بأن الأفعال كلها للَّه و أنه ليس له من الأمر شيء، بل ليس له من الوجود حظ.
وهذا هو تأويل أصحاب وحدة الوجود لقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» (العنكبوت آية 45).

(20) «و ليس إلا مشاهدة المحبوب التي تقر بها عين المحب: من الاستقرار إلخ».
(20) قرت العين تَقَر بالفتح و الكسر قُرة و قروراً بردت و انقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وقر بالمكان يَقِرَ بالفتح و الكسر أيضاً قراراً و قروراً و تقرّة ثبت و سكن به كاستقر.
و قولهم كذا من الأشياء قرة العين مراعى فيه المعنى الأول دون الثاني. و لكن ابن العربي فسر كلمة «قرة» الواردة في الحديث: «و جعلت قرة عيني في الصلاة» بالمعنى الثاني أي من الاستقرار، فأصبح معنى الحديث: و جعلت عيني مستقرة في الصلاة لا تتحول عن المحبوب الذي أشاهده فيها و لا ترى غيره لانتفاء وجود ذلك الغير.
و قوله: «فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء، و في غير شيء» معناه فلا ترى العين غيره في أي وجود آخر، متعيناً كان ذلك الوجود (و هو ما يسميه شيئاً) أو غير متعين (غير شيء).

(21) «ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ... إلى قوله: هو المتأخر عن السابق في الحلبة».
(21) يريد بذلك أن كلمة «الصلاة» تقال بالاشتراك على أكثر من معنى واحد ككلمة «العين» التي تطلق على العين المبصرة، و عين الماء و الذهب، و غير ذلك.
و قد ذكر أحد معاني الصلاة في الفقرات السابقة، و يريد الآن شرح معنى آخر (و هو الذي يسميه قسمة أخرى) هو صلاة اللَّه على العبد.
فإن اللَّه تعالى أخبرنا أنه يصلي علينا في قوله: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (الأحزاب آية 43).
و هنا يتلاعب ابن العربي بالألفاظ مرة أخرى، فيستعمل كلمة «المصلي» بمعنى المتأخر عن السابق، كما تصف الجواد المتأخر في السباق بأنه المصلي، و تصف الأول الفائز بأنه المجلي. فيقول إن اللَّه يصلي عليكم (على الخلق) أي يتجلى لكم باسمه الآخر، فيتأخر وجوده من حيث هو إله مخلوق في اعتقاد العبد عن وجود العبد نفسه.
فالحق المصلي علينا هو الحق المتأخر في الوجود، أي الإله المعتقد فيه الذي يتجلى في قلوب العباد فيما لا يتناهى من الصور بحسب استعداداتهم.
فإذ صلَّينا نحن كان لنا الاسم «الآخر»، أي فإذا نظرنا إلى الحق اعتبرنا وجودنا متأخراً عن وجوده، و اتصفنا بالاسم الآخر الذي وصفناه به في الاعتبار الأول.
و يلاحظ هنا أيضاً أنه يستعمل كلمة «المجلي» المقابلة للمصلي بمعنى المتجلي، أي الظاهر، فيزيد الأمر تعقيداً. و لكن خلاصة كلامه أننا إذا نظرنا إلى أنفسنا أولًا، و إلى الحق ثانياً، أتى الحق متأخراً في الوجود عن وجودنا، لأنه يأتي لنا في صور اعتقاداتنا، فننظر إليه في مرآة نفوسنا. و هذا معنى كونه مصلياً، و معنى تجليه لنا بالاسم الآخر.
و لكنا إذا نظرنا إليه أولًا، و إلى أنفسنا ثانياً، كانت نظرتنا إليه من حيث هو ذات واحدة مطلقة، متجلية في كل صورة من صور الوجود- و هذا هو الإله الحقيقي.
و الأول الإله المخلوق في الاعتقاد. في هذه الحالة نكون نحن المصلين أي المتأخرين في الوجود، و يحق لنا الاتصاف بالاسم الآخر.

(22) «و قوله: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» أي رتبته في التأخر».
(22) ذكرنا في التعليق السابق ما يقصده من تأخر العبد في الصلاة.
و لما أراد أن يجد لأفكاره مستنداً من القرآن ذكر الآية: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» (سورة النور آية 41). أما الصلاة فقد عرفنا رأيه فيها، و أما التسبيح فيقصد به تنزيه الحق عن صفات الخلق.
و لكن لما كان الحق المنزه هو الحق المخلوق في الاعتقاد، و كان تنزيهه متوقفاً على درجة استعداد كل فرد، لأن كل فرد يسبح الحق و ينزهه بمقتضى الصورة الخاصة التي تجلى له فيها في قلبه، اختلفت درجات التنزيه اختلافاً بيناً باختلاف أصحاب المعتقدات و اختلاف صور الاعتقاد. و لهذا يذم بعضهم بعضاً، و ينكر بعضهم إله بعض.
و لو عرفوا أن الحق المخلوق في الاعتقاد يتلون بلون المعتقد كما يتلون الماء بلون إنائه، و هو ما أشار إليه الجنيد عند ما سئل عن المعرفة باللَّه.
لو عرفوا ذلك لأقروا جميع صور الاعتقاد من حيث إنها صور للواحد الحق المتجلي فيها جميعاً. قال ابن العربي يشير إلى هذا المعنى:
عقد الخلائق في الإله عقائداً   ..... و أنا شهدت جميع ما اعتقدوه
و إذا كان الأمر كذلك:
أي إذا كان كل فرد ينزه إله معتقده و يسبحه، و إله الاعتقاد من صنع المعتقد كما ذكرنا، و إذا كان الثناء على الصنعة ثناء في الحقيقة على الصانع: أقول إذا كان كل هذا، لزم أن يكون تسبيح العبد لربه تسبيحاً لنفسه.
و إلى هذا أشار فيما بعد بقوله: «و ثم مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» أي بحمد ذلك الشيء.
هذه جرأة غريبة في فهم القرآن، و لكنها نتيجة منطقية لمذهب رجل يقول بوحدة الوجود.
إن الحق الذي ينَزَّه و يشَبَّه، و يوصف بكيت و كيت من الصفات، و يُعلَم و يُجْهَل، و يعرف و ينكر، ليس هو الحق في ذاته، و إنما هو حقيقة معقولة حققها كل منا في نفسه، بحسب استعداده، و بحسب تكوينه العقلي و الروحي.
أما الحق في ذاته فيتعالى عن كل تنزيه و تشبيه و وصف و معرفة.
و يختم ابن العربي هذا الفص، كما يختم كتابه كله، بهذه العبارة القصيرة التي تلخص هذه المسألة، بل تلخص مذهبه بأكمله وهي: «فإن إله المعتقدات تأخذه الحدود (أي يمكن حده و تعريفه وتصوره ومعرفته).
وهو الإله الذي في قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه». 
 .
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment