Friday, August 2, 2019

10 - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

10 - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

10 - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

لمّا فرغ من حكمة الجمع الإلهي وحكم التنزيه والسلوب والتقديسات ، وتمّم حكم كليّات الحقائق الثبوتية الإلهية ، شرع في بيان حكمة أحدية العين التي لها التنزيه السلبي وتنزيه التنزيه والكمالات الثبوتيّة.
فإنّ الحكم الكمالية سلبية كانت أو ثبوتية فإنّها للذات المطلقة الأحدية ، وقد ظهرت هذه الحكمة على أكمل وجوهها في الكلمة الهودية على ما نطق به القرآن ، وكما سيرد عليك جملا وفصولا ، إن شاء الله تعالى .
وجه نسبة هذه الحكمة إلى هود عليه السّلام هو أنّ الغالب عليه شهود أحدية الكثرة ، فأضاف لذلك إلى ربّه أحدية الطريق بقوله : " إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ".
 وقال :"ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها " فأشار إلى هوية ،لها أحدية كثرة النواصي والدوابّ .
ولمّا كانت الأحدية نعتا للهوية الذاتية ، قل هو الله أحد ، أضاف الأحدية إلى هوية الله وحملها عليه ، ثم لمّا ظهر من ذوق هود عليه السّلام ومشربه إشارات عليّة إلى الهوية والأحدية ، أسند حكمته إلى الأحدية ،ولأنّ حكمة الفصّ المتقدّم لمّا كانت خاتمتها في بيان الأحدية ، ناسب اتباع هذه الحكمة لها.
فقال رضي الله عنه :
إنّ لله الصراط المستقيم   ..... ظاهر غير خفيّ في العموم
في صغير وكبير عينه    ..... وجهول بأمور وعليم
ولهذا وسعت رحمته       ..... كلّ شيء من حقير وعظيم.
قال العبد : قد علمت فيما تقرّر من قبل أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق وبعدد الأنفاس الإلهية ، وأنّ لكل اسم عبدا هو ربّه ، ذلك العبد جسم هو قلبه ، وكل عين عين من الأعيان الوجودية مستند إلى اسم هو عبده الذي ارتبط به ، فهو على الطريقة المستقيمة بالنسبة إليه ، يصل إلى الله من حيث هو .
ثم هذه الطرقات المستقيمة فهي على استقامتها السببية موصلة إلى المسمّى وهو الله أحدية جمع جمع هذه المسمّيات ، والمستقيم الحقيقي من كل وجه هو الله ، فللَّه الصراط المستقيم.
وذلك ظاهر في كل حضرة على العموم من كون الجميع متّصلا بالمسمّى ، وهذا ظاهر غير خفيّ ، وسواء كان الاسم كلَّيا أو جزئيا ، والمظهر كبيرا أو صغيرا ، فإنّ الله مسمّى الاسم بلا شك .
وكذلك فيمن يعلم ذلك وفيمن يجهل وإن لم يكن هذا هكذا ، فلا عموم إذن في الرحمة لما لم يعمّ ، والرحمة عامّة فالرحمن هو المسمّى بالكلّ ، فهو بالمرصاد لكلّ سالك ، وطريق من الطريق والسالكين ، وغايات الكلّ عند النهايات واصلة إليها .
قال رضي الله عنه  : " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ " ، فكلّ ماشي فعلى صراط الربّ المستقيم ، فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ، ولا ضالَّون .
فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كلّ شيء وهي السابقة " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الرحمة كانت سابقة إلى الأشياء قبل إيجادها ، لإزالة غضب العدم ، فأوجدتها بنسبها الذاتية المختلفة ، فامتدّت إليها على رقائقها ، وشدّت على تلك الرقائق إلى حقائقها ، ثمّ سلكت الحقائق الكيانية على تلك الرقائق إلى حقائق أربابها بطرائقها .
فمآل الكلّ كما قلنا إلى الله الرحمن ، والكلّ على صراط الربّ المستقيم ، فإنّ الله أخذ أيضا بناصية كل دابّة إليه ، فهو القائد والسائق والطريق ، وهو على الغاية ، قد سبقهم ويرقبهم بالمرصاد .
قال رضي الله عنه: " وكلّ ما سوى الحق فهو دابّة ، فإنّه ذو روح ، وما ثمّ من يدبّ بنفسه ، بل يدبّ بغيره ، فهو يدبّ بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم ، فإنّه لا يكون صراطا إلَّا بالمشي عليه " .
يعني رضي الله عنه : أنّ كلّ ما يسمّى سوى الحق فقيامه بالحقّ والحقّ قيامه ، يسير به إلى غاية كماله الذي أهّل له ، وذلك لأنّ الوجود الحق المتعيّن في قابليته يخرج ما في استعداده بالقوّة إلى الفعل ، وليس له ذلك بدون الوجود الحق.
فهو آخذ بناصيته في سيره به إلى كماله الخصيص به ، فهو إذن يدبّ ويتحرّك حركة ضعيفة ، لكونها غير ذاتية له ، بل عرضية بحكم التبعية ، فهو يتحرّك به في الحق .
فالحق هو عين الصراط المستقيم ، وهو الذي يمشي به عليه ، والصراط إنّما يكون صراطا بالمشي عليه ، كما قلنا في الغرّاء الرائية :لقد سار بي فيه فسرت بسيره
عليه إليه منه في كل سائر.
قال رضي الله عنه :
إذا دان لك الخلق    ..... فقد دان لك الحق
وإن دان لك الحق   ...... فقد لا يتبع الخلق
يعني : الوجود الحق المتعيّن في قابلية الخلق لمن هو متعيّن فيه وبه بحسبه ، فإذا أذعن وانقاد لك الخلق ، فإنّ حقيقته الباطنة فيه معه ، وإذا أذعن وانقاد لك الحق الذي تجلَّى لك ، فلا يلزم أن يتبعه الخلق ، لعدم تعيّنه فيه .
فإنّ الحق المذعن المفروض حق بلا خلق ظهر فيه ، إذ الظاهر بحكم المظهر وبالعكس في النار ، فكذلك الخلق السالك ناصيته بيد حق يسيّره به إلى كماله فما سلك خلق إلَّا بحقّ فيه ، فلا ظهر حق إلَّا بخلق .
 قال رضي الله عنه : فحقّق قولنا فيه    .... فقولي كلَّه حق.
يعني : لمّا تحقّقت أنّ الخلق لا فعل له إلَّا بالحق ، فتحقّق ذلك ، وحقّق قولي ونطقي بذلك : إنّه للحق بالحق في الحق ، فلا أقول إلَّا الحق .
 قال رضي الله عنه :فما في الكون موجود   ..... تراه ما له نطق.
يعني : كلّ ما وجد ، فلا بدّ أن يتعيّن الوجود الحق في مظهريته ، فهو ينطق بذلك الحق الذي فيه ينطق به وينطقه و " قالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ " ،
يعني : به .
قال رضي الله عنه: وما خلق تراه العين  ...... إلَّا عينه حق.
يعنى : لا يقع عين على عين من الأعيان الوجودية الخلقية إلَّا والحق عينه ، لأنّ الظاهر
المتعيّن به وفيه هو الوجود الحق ، فالوجود المشهود عيانا في رأى العين هو الحق المسمّى بالخيال والوهم في العرف خلقا ، أي إفكا ، فإنّ الخلق لغة إفك مفترى ، " إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ " وأيضا خلق بمعنى قدّر.
 فإنّ الموجود المشهود حقّ تقدّره أنت في وهمك وخيالك أنّه غير الحق ، وذلك زور وبهتان واختلاق ، ليس للقائل به عند الله خلاق ، بالوهم يخلق الإنسان في ذهنه ما يشاء ، ويسمّيه بموجب تعيّنه في ذهنه بما يشاء .
 قال رضي الله عنه :ولكن مودع فيه   . ... لهذا صوره حقّ.
يعني : أنّ الحق مودع فيما نسمّيه خلقا ، وهو مظهره ، فالصور الخلقية حقّ - جمع حقّه - وقد أودعت فيها حقّا به حقّية هذه الحقائق .
 فكلّ خلق حقّه لحقّ مودع فيه والصور جمع صورة ، والضمير يعود إلى الحقّ الخلق ، أي الحقّ الظاهر بأعيان المظاهر ، مظاهر حقائق الجواهر الحقوق المودعة فيه ، وكذلك الحقائق الكيانية الإمكانية للوجود الحق الظاهر فيها ، فافهم . 
قال رضي الله عنه : " اعلم : أنّ العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة ".
يشير رضي الله عنه إلى:  أنّ أهل الله يحصل لهم من العلم بالله قوى مختلفة توجب مشاهد مختلفة بحسب استعداداتهم الخصوصة ، فيحصل للبعض قوّة بها يكون الحق سمعه وبصره وسائر قواه وجوارحه ، جمعا وفرادى موقّتا وغير موقّت ، وفيها طبقات أهل قرب النوافل.
 ويحصل أيضا كذلك لآخر قوّة يكون هو بها عين الحق وسمعه وبصره فيه ، يبصر الحق ويسمع وينطق ويفعل به ، ويحصل للبعض قوّة يجمع بها بين الشهودين والوجودين ، فافهم ، وليس حصول هذه القوى فيهم إلَّا بالعلم ، والاختلاف بحسب القابلية والصلاحية الاستعدادية الذاتية الخصوصية لا غير .

قال رضي الله عنه : "قال الله تعالى : « كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها » فذكر أنّ هويّته هي عين الجوارح التي هي عين العبد ، فالهوية واحدة والجوارح مختلفة ، ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصّها من عين واحدة يختلف باختلاف الجوارح ، كالماء حقيقة واحدة يختلف باختلاف البقاع " .
قال العبد : شبّه رضي الله عنه العلم الحاصل لأهل الله في جوارحهم وقواهم من الله بالماء ، فإنّ الحياة للحيوان بالماء كالحياة للأرواح بالعلم . ثمّ إنّ هذه الحقيقة الواحدة العلمية تظهر في كل مظهر بحسبه كما يظهر الماء في كل بقعة بحسبها فمنه  "عذب فرات " وهو العلم النافع الإلهي ومنه "ملح أجاج " وهو العلم بالسوى والغير من حيث حجابيّتها .
قال رضي الله عنه : "وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغيّر عن حقيقته وإن اختلفت طعومه  ".
يعني : كذلك العلم لا يختلف عن حقيقته ، فإنّه علم في جميع العلماء لا يتغيّر ، وإن اختلف بحسب المدارك والمدركين والمدركات ، فليس الاختلاف فيه  ، بل في اللوازم لا غير . 
قال رضي الله عنه : « وهذه الحكمة حكمة الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه : "لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " فإنّ الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه والمشي فيه ، والسعي لا يكون إلَّا بالأرجل ، فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على الصراط المستقيم إلَّا هذا الفنّ الخاصّ من علوم الأذواق " .
يشير رضي الله عنه إلى : العلم الخصيص بالأرجل ، وهو العلم الحاصل بالكدّ والسعي والتعمّل في مراتب العلوم الظاهرة في المثال ، وفي التحقيق العلم الحاصل للأقدام من حيث هي أقدام وآلات سعي على الصراط.
 ولا نتيجة له في أخذ النواصي بيد الحق الذي هو على الصراط المستقيم إلَّا أن يقودها بموجب ما تسوق الأرجل في السلوك والسعي لا غير ، ولا يفيد إلَّا هذا الفنّ الخاصّ من علم الأذواق . 
قال رضي الله عنه : « ويسوق المجرمين وهم الذين استحقّوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها ، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم وهي عين الأهواء التي كانوا عليها - إلى جهنّم وهي البعد الذي كانوا يتوهّمونه ، فلمّا ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب ، فزال البعد ، فزال مسمّى جهنّم في حقّهم ، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق" .
يشير رضي الله عنه إلى : أنّ المجرمين الذين يسعون في الأجرام والآثام إنّما تسوقهم الأهواء  التي يهوون بها في هوّة جهنّم إلى البعد الوهميّ من خلفهم وأدبارهم ، ولهذا سمّيت دبورا .
أي تسوقهم من أدبارهم أهواؤهم بزعمهم وفي نفس الأمر ، إنّما تسوقهم الأهواء بحسب ما يقودهم من بيده نواصيهم إلى غاياتهم التي استحقّوها بحسب استعداداتهم وسعيهم فيهم بحكم السائق والقائد .
فهم فنوا وهلكوا عنهم بحكمه ، فليسوا بحكمهم وقد توهّموا بعدا في بعد من حيث توهّمهم أنّهم هم الذين يسعون ويعملون ويمشون ويسلكون بأنفسهم إلى ما تخيّلوا من كمالات وهمية فانية .
فما يسعون إلَّا إلى ما يتوهّمونه ، وهو البعد ، والحقيقة تأبى ذلك ، فإنّهم إنّما يسعون بالحق في الحق للحق من حيث لا يعلمون ولا يشعرون ، فإذا بلغوا غاياتهم لم يجدوا ما عملوا شيئا ، لأنّهم وجدوا الله عاملا بهم ما عملوا ، ووجدوا الحق الذي به عملوا ما عملوا .
فإذا وفّقوا عند النهاية إلى الغاية على السرّ ، حصلوا في عين القرب ، فزال البعد في حقّهم ، فزال مسمّى جهنّم وهو البعد ، ففازوا بالقرب بسعيهم واستحقاقهم ، فإنّهم إنّما وصلوا إلى ما وصلوا بأرجلهم التي سعوا عليها .
وكانت أرجلهم عين الحق من حيث لم يعرفوا ، فلمّا عرفوا غرقوا في الذوق واللذّة القربيّة من حيث لم يعرفوا كذلك . 
قال رضي الله عنه : " فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنّة ، وإنّما أخذوه بما استحقّه حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها ، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الربّ المستقيم ، لأنّ نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة ، فما مشوا بنفوسهم ، وإنّما مشوا بحكم الجبر " .
يعني رضي الله عنه : أنّهم في سعيهم الذي سعوا غير مختارين بالاختيار المعروف عرفا ، فإنّهم إنّما سعوا بموجب استعداداتهم الذاتية وبموجبها تعلَّقت المشيّة الإلهية بما يشبه الجبر ، فساقهم من أدبارهم بالدبور ، وأخذهم بنواصيهم جبرا ، حتى أوصلهم إلى ما استحقّوا بحسب مقتضيات ذواتهم لا باختيارهم المجعول فيهم ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « إلى أن وصلوا إلى عين القرب " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ " وإنّما هو مبصر ، فإنّه مكشوف الغطاء فبصره حديد ، وما خصّ ميّتا عن ميّت أي خصّ مؤمنا سعيدا دون مشرك شقيّ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وما خصّ إنسانا من إنسان ، فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي ، فلا قرب أقرب من أن تكون هويّته عين أعضاء العبد وقواه ، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى ، فهو حق مشهود في خلق متوهّم ، فالخلق معقول ، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود ، وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول ، والخلق مشهود ، فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج ".
يعني : علومهم ليست إلَّا بحجابيات الأشياء وصنميّات الأعيان والأهواء ، فلا علم لهم بالحق الذي يشهدون " وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ". 
قال رضي الله عنه :" والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ شرابه لشاربيه ، فالناس على قسمين :
من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها فهي في حقّه صراط مستقيم.
ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر .
فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة ، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة ".
يعني رضي الله عنه : أنّ الطريق إلى الحق حق عرفه من عرفه ، فسلك عليها ودعا إليها على بصيرة ، وجهلها من جهلها ، فسلك عليها على جهالة إلى غاية عليها الحق ، ودعا إلى الحق على جهالة ، لأنّ الطريق والغاية حقّ جميعها .
قال رضي الله عنه : « فهذا علم خاصّ يأتي من أسفل سافلين ، لأنّ الأرجل هي السفل من الشخص وأسفل منها ما تحتها وليس إلَّا الطريق ، فمن عرف الحق عين الطريق ، عرف الأمر على ما هو عليه " .
يعني رضي الله عنه : يعلمهم الله نتائج سلوكهم من كونه عين الطريق الحق الذي يسلكون عليها ، وإليه الإشارة بقوله : " وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ".
قال رضي الله عنه : « ففيه جلّ وعلا نسلك ونسافر ، إذ لا معلوم إلَّا هو وهو عين السالك والمسافر ، فلا عالم إلَّا هو " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ طريق الحق حق ، والسالك سالك حقّ ، والغاية حق ، والعلم حق ، والمعلوم حق ، والعالم حق ، فما في الوجود إلَّا الحقّ ، ولكنّ الحق في كلّ متعيّن باسم ومدلول اسم ما إنّما يكون بقدره وبحسبه ، وهو حقّه الخصيص به من الحقيّة المطلقة تحقّقت في الطريق والغاية والسالك والعلم والعالم والمعلوم ، فما ثمّ إلَّا هو .

قال رضي الله عنه : « فمن أنت ؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك ، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت ، وهو لسان حق فلا يفهمه إلَّا من فهمه حق ، فإنّ للحق نسبا كثيرة ووجوها مختلفة".
يشير رضي الله عنه إلى : التحريض بالتحقّق بحقيقة الأمر ، وحقيقة الأمر أن لا حقيقة ولا حقّية إلَّا لله ، وهو حق الحقيقة وحقيقتها ، فإذا تحقّقت ذلك تحقّقت أنّك عين الحق ، والحق عينك وعين قواك وجوارحك .
وأنت صورة أحدية جمع صور تنوّعات ظهوره وتعيّنات نوره ، وإذا عرفت أنّك حق على الطريق الحق ، وغايتك الحق ، وسلوكك حق ، فالكلّ حق في حق ، فاعلم ذلك ولا تكن من الجاهلين " إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ من الْجاهِلِينَ ".
 فقد بان لك الأمر على لسان ترجمان الحق وهو رسول الله الذي هو لسان حق بقوله : « كنت سمعه وبصره ويده ورجله » وحيث قال لك الحق بلسان الحق حقّا ، فافهم الحق بالفهم الحقّ حقّ الفهم ، إذ لا يفهم الحق إلَّا الحق .

ثم قال رضي الله عنه بعد قوله : « فإنّ للحق نسبا كثيرة ووجوها مختلفة : « ألا ترى عادا قوم هود ، كيف " قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا " فظنّوا خيرا بالله وهو عند ظنّ عبده به ؟ !
فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتمّ وأعلى في القرب ، فإنّه إذا أمطرهم فذلك حظَّ الأرض وسقي الحبّة ، فلا يصلون إلى نتيجة ذلك إلَّا عن بعد .
 فقال لهم : "بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ به رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ " ، فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة لهم ، فإنّ هذه الريح أراحتهم عن هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمّة .
وفي هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا أذاقوا إلَّا أنّه يوجعهم ، لفقد المألوف ، فباشرهم العذاب ، فكان الأمر إليهم أقرب ممّا تخيّلوا " .
يعني رضي الله عنه : أنّهم لمّا ظنّوا بالله خيرا من حيث لا يشعرون والله عند ظنّ عبده به ، فأثابهم الله خيرا ممّا ظنّوا ، لكونهم حصلوا بذلك في عين الحق من حيث لم يحتسبوا ، فإنّ للحق وجوها كثيرة ونسبا مختلفة ، هم وظنونهم وأفعالهم وأحوالهم وأقوالهم من جملتها ، فجازاهم على ظنّهم بالله خيرا على وجه أتمّ وأعمّ .

قال رضي الله عنه : « فدمّرت " كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ " وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقيّة .
فزالت حقّية هذه النسبة الخاصّة ، وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصّة بهم من الحق - التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل - وعذبات الأسواط والأفخاذ . وقد ورد النصّ الإلهي بهذا كلَّه " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ التدبير كان في تدميرهم ، فدمّرت الريح ما كان قابلا للتدمير منهم ، فأزالت أرواحهم العامرة لجثثهم وأبدانهم ، فإزواح الريح أرواحهم إزواحهم عن هذه الهياكل المظلمة التي كان سلوك الحق فيها في المنازل والسمالك الوعرة الغالبة عليها حشوية الحجابية والتعيّن .
فبقيت جثثهم بلا أرواحهم ، وهم وإن زالت عنهم الحقّية التي كانت لهم من حمية الأرواح الحقّية ، ولكنّ أبقى الله عليهم الحقّية التي تخصّ أجسامهم هي حياة الحقّيّة الحفيّة .
ولكنّ التي بها تنطق الأيدي والأرجل يوم لا ينطقون بأنفسهم الناطقة وتلك حياة حييت بها الجسمانيات من حيث الجسمانية لا من حيث الروحانية .
كما أشار إلى سرّها الشيخ الكامل أبو مدين الغوثّ بقوله : سرّ الحياة سرى في الموجودات ، يعني : من حضرة الحيّ القيّوم المحيي ، فيه تجمّدت الجمادات ، وبه حييت الحيوانات ، فإنّ الجماد صورة وجودية بها حياة ذلك الجسم وكماله الوجودي .
""أضاف الجامع قال الشيخ في الفتوحات الباب الثامن والخمسون وخمسمائة :
فالخلق وإن كان له السريان في الحق فهو محدود بالسريان والحق وإن كان له السريان في الخلق فهو محدود بالسريان .
وهذا كان مذهب أبي مدين رحمه الله وكان ينبه على هذا المقام بقوله الأمي العامي سر الحياة سرى في الموجودات كلها فتجمدت به الجمادات ونبتت به النباتات وحييت به الحيوانات فكل نطق في تسبيحه بحمده لسر سريان الحياة فيه فهو وإن كان رحمه الله ناقص العبارة لكونه لم يعط فتوح العبارة .
فإنه قارب الأمر ففهم عنه مقصوده وإن كان ما وفاه ما يستحقه المقام من الترجمة عنه فهذا معنى الطيب وأنه من أسماء التقييد والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.أهـ ""

قال رضي الله عنه : « إلَّا أنّ الله وصف نفسه بالغيرة ، ومن غيرته حرّم الفواحش ، وليس الفحش إلَّا ما ظهر »
يعني رضي الله عنه : ممّا يجب ستره .
قال رضي الله عنه : « وأمّا فحش ما بطن فهو لمن ظهر له . فلمّا حرّم الفواحش أي منع أن تعرب حقيقة ما ذكرناه ، وهي أنّه عين الأشياء - فسترها بالغيرة وهي أنت من الغير.
فالغير يقول : السمع سمع زيد ، والعارف يقول : السمع عين الحق ، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء ، فما كلّ أحد عرف الحق ، فتبيّن الفاضل والمفضول ، فتفاضل الناس ، وتميّزت المراتب " .
قال العبد : لمّا قرّر رضي الله عنه أنّ الحق هو الموجود المشهود : من الطريق ، والسالك ، والسلوك ، والغاية ، والعلم ، والعالم ، والمعلوم ، استثنى بأنّ الله حرّم ظهور هذه الأسرار ، فإنّ الفحش ظهور ما يجب ستره ، وهذا ما ظهر منها .
وأمّا فحش ما بطن منها فهو بالنسبة إلى من أظهره الله عليه ، فجرّ الله العيون أي أظهرها من باطن الأرض ، وفجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه ، والفجور هو الفحش الظاهر ، ممّا يجب ستره .

قال : ولمّا حرّمها أي جعلها حرما لا يطرقها إلَّا أهل الحمى،  لم يكن سترها إلَّا بالتعينات الكثيرة المختلفة التي أوجبتها أنت بأنانيّتك وإنيّتك.
فإنّ الأنانيّة والإنيّة والأينية والتحتية والفوقية عدّدت الهوية الأحدية إلى هويات لا تتناهى ، فسترتها بها ، فظهرت الغيرية .
لأنّ " أنا " غير « ك » ، و « أنت » و « أنت » غير « هو » وغير « ي » ، و " نحن" غير « كم » .
فكثرت الكنايات والعبارات عن عين واحدة ، فقيل :
عباراتنا شتّى وحسنك واحد  .... وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
فمن كان تحقّقه في مقام شهود الغيرية تحقّقت الغيرية بالنسبة إليه على العين فستر الحقيقة .
فقال : السمع سمع زيد .
والعارف بالحقيقة يقول : السمع والبصر والقوى والجوارح من الكلّ عين الحقّ .
والكلّ في مقام قرب النوافل من كون الكلّ متنفّلا بوجوداتهم ومتقرّبا إلى الحق بمظهرياتهم وإنّيّات أعيانهم وهوياتهم ، فتميّزت المراتب والمنازل ، وتعيّنت المشارب والمناهل وتبيّن المفضول عن الفاضل . 
 قال رضي الله عنه - :  " واعلم : أنّه لما أطلعني الله وأشهدني أعيان رسله وأنبيائه كلَّهم البشريّين من آدم إلى محمّد - صلوات الله عليهم أجمعين - في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ستّ وثمانين وخمسمائة ، ما كلَّمني أحد من تلك الطائفة إلَّا هود عليه السّلام ، فإنّه أخبرني بسبب جمعيتهم ، ورأيته رجلا ضخما في الرجال ، حسن الصورة ، لطيف المحاورة ، عارفا بالأمور ، كاشفا لها ، ودليلي على كشفه لها قوله " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ".
قال العبد : « قرطبة » مدينة من بلاد المغرب ، وكان الشيخ رضي الله عنه بها إذا أشهده الله هذا المشهد الشريف النزيه ، أشهده فيها أعيان الأنبياء والمرسلين كلَّهم أجمعين مجتمعين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأخبره هود عليه السّلام أنّ اجتماعهم لتهنئته - رضي الله عنه - بأنّه خاتم الأولياء ووارث ختمية خاتم الرسل والأنبياء ، وأنّه قطب الأقطاب .
وسبب اختصاص هود عليه السّلام بإخباره بسبب اجتماعهم هو صحّة مناسبة ذوقه ومشربه صلى الله عليه وسلم بمشرب ختم الولاية المحيطة بالأذواق والمشارب كلَّها من حيث جمعيته عليه السّلام وإحاطة مشربه في التوحيد وسعة مقام كشفه وشهوده عليه السّلام.
فإنّه أثبت بشهادة القرآن العظيم أنّ الحق عين كلّ دابّة على أرض الحقيقة ، فما خصّص شيئا عن شيء .
وعيّن أنّ الله بهويته الأحدية الجمعية آخذ بناصية كل متعيّن بها من الممكنات غير المتناهية التي تدبّ بالحق المتعيّن فيه على أرض الحقيقة التي عليها تدبّ وتسلك طريقة خاصّة بها إلى ربّها.

فإنّه هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، فعمّ شهوده عليه السّلام جميع ما ظهر وبطن ، فإنّه ما من ظاهر متعيّن إلَّا وهو يدبّ بالحق الآخذ بناصيته إليه ، وما من باطن من الحقائق الغيبية العينية إلَّا وهو يدبّ إلى كمال الظهور وتحقّقه بالنور ، والأوّل يدبّ إلى نهاية الآخرية اللامتناهية ، والآخر يدبّ بانعطافه على الأوّل . 
وكونه ضخما صورة كماله وسعته في الشهود ، كمال قال الله تعالى حكاية عن أشموئيل عليه السّلام في حق طالوت وتزكيته عند من كان بصدد جرحه في الطعن فيه .
فقال : " إِنَّ الله اصْطَفاه ُ عَلَيْكُمْ وَزادَه ُ بَسْطَةً في الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ".

قال رضي الله عنه : « وأيّ بشارة أعظم للخلق من هذه ؟ »
يعني : من إخباره أنّه عين هويات الأشياء كلَّها .
قال رضي الله عنه: « ثمّ من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن ، ثم تمّمها الجامع للكلّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم بما أخبر به عن الحقّ بأنّه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان ، أي هو عين الحواسّ . والقوى الروحانية أقرب من الحواسّ ".
يعني : في النظر العقلي
قال رضي الله عنه: « فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحدّ ، فترجم الحق لنا عن نبيّه هود عليه السّلام مقالته لقومه بشرى لنا وترجم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله مقالته بشرى فكمل العلم " في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ " . "وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ".
فإنّهم يسترونها وإن عرفوها حسدا ونفاسة وظلما .
 وما رأينا قطَّ من عند الله في حقّه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلينا فيما يرجع إليه تعالى إلَّا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه .
أوّله العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء ، فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق ، ثم ذكر أنّه استوى على العرش ، فهذا أيضا تحديد .
ثمّ ذكر أنّه ينزل إلى سماء الدنيا ، فهذا تحديد ، ثم ذكر أنّه في السماء ، وأنّه في الأرض ، وأنّه معنا أينما كنّا إلى أن أخبرنا أنّه عيننا . ونحن محدودون ، فما وصف نفسه إلَّا بالحدّ .
وقوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " حدّ أيضا إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة ومن تميّز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود .
فالإطلاق عن التقييد تقييد والمطلق مقيّد بالإطلاق لمن فهم . وإن جعلنا الكاف للصفة ، فقد حدّدناه .
وإن أخذنا « ليس كمثله شيء » على نفي المثل ، تحقّقنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنّه عين الأشياء ، غير هذا المحدود ".
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى ما يخطر لبعض المحجوبين من أنّ الحق إذا كان عين سمع أو بصر ، كان محدودا بحدّه وهو غير محدود .
فعرّف رضي الله عنه أنّ الأمر أعظم ممّا توهّم تنزيهه الوهميّ ، وأوسع وأجل عن التقيّد بالمدرك الفكري ، فإنّه الحقيقة التي من شأنها أن تكون عين الكلّ ، فلا يتقيّد بحدّ ولا يتحدّد بما ميّزه هو بتنزيهه عن أن يكون عين المحدودات .
فإنّه لو كان في معيّن بالتعيين أو معيّنا متميّزا عن غيره ، لكان كذلك ، ولكنّه ليس كذلك ، بل محيط بالكلّ قد استغرق الكلّ ، غير منحصر في الكلّ .
لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها بعينه ، فكان عينها ، ولم يتعيّن في عين على التعيين ، فلم يتحدّد بحدّ مخصوص على التخصيص والتمييز .
فلم يدركه حدّ ولم يبلغه حصر ، وإن كان محدودا بحدّ كلّ ذي حدّ ، فإنّه غير محصور في ذلك فافهم ، إن شاء الله تعالى .
ثمّ أخذ رضي الله عنه في تعديد التحديد الذي وردت به النصوص الإلهية ممّا يجب الإيمان به في الكتاب والسنّة ، وادّعى أنّه لم يرد في جميع ما ورد في القرآن وسائر الكتب المنزلة وألسنة السنّة إلَّا التحديد .
ثمّ بيّن أنّ التحديد لا يقيّده والتقييد لا يحدّده ، لعدم انحصاره في الكلّ ، ولا في الإطلاق عن الكلّ .
ثمّ قال رضي الله عنه : الآية الدالَّة على التنزيه في القرآن هي " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ "  فإن أخذنا الكاف زائدة ، دلَّت على نفي المثل فتميّز عن الأمثال وماله مثل ، فكان محدودا بتميّزه عمّاله مثل ، وإن لم تكن زائدة ، كان إثباتا للمثل ونفيا لمثليّة المثل ، عن المثل ، وهذا عين التشبيه ، والتشبيه تحديد.
 وبنفي المثلية عن مثله يتحقّق أنّ مثله من لا يشبهه شيء له مثل ، فيصحّ أن يكون عين الأشياء حقيقة ، حتى لا يكون له مثل من الأشياء.
فإنّ من يكون بعينه عين الكلّ ، فإنّه لا يكون شيء من الكلّ مثله من كونه عين الكلّ ، فافهم ، وإذا كانت الأشياء محدودة بحدود لها خصيصة بها ، كان هو من حيث كونها عين الكلّ محدودا بحدود ذوات الحدود كلَّها .
فما حدّه حدّ معيّن حاصر فما له حدّ ، إذ حدّ الحدّ أن يكون جامعا لحقائق المحدود ، مانعا لما تميّز عنه عن الدخول في حدّه والمقول عليه ، وفيه حدود المحدودات غير المتناهية ، وغير المحدودة غير محدود ، فافهم .

قال رضي الله عنه : « والأشياء محدودة ، وإن اختلفت حدودها ، فهو محدود بحدّ كلّ ذي حدّ  ، فما يحدّ شيء إلَّا وهو حدّ للحق ، فهو الساري في مسمّى المخلوقات والمبدعات ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لما صحّ الوجود " . 
يعني : لأنّه لا وجود إلَّا وجوده الذي هو هو ، فبالحق وجدت الموجودات وشهدت المشهودات ، فلا وجود لشيء إلَّا به . 
قال رضي الله عنه : « فهو عين الوجود ، فهو على كل شيء حفيظ بذاته لا يؤوده حفظ شيء ، فحفظه تعالى الأشياء كلَّها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته ، ولا يصحّ إلَّا هذا ، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود ، فالعالم صورته ، وهو روح العالم ، المدبّر له ، فهو الإنسان الكبير " .
قال العبد : قد علمتم أنّ الأشياء محدودة ، ولكل شيء حدّ هو جمع جميع ما يجمعه ويمنعه عن غيرهن أن يكونه ، وذلك إمّا بذكر الجنس والفصل فيما هو تحت الجنس والفصل ، أو بما به الاشتراك والامتياز فيما ليس كذلك.
 وحدّ الحدّ أن يكون كذلك سواء كان الحدّ تامّا أو ناقصا ، إذ الناقص أيضا على ما عرف وعرّف كاف ، لتضمّنه ما نقصه في العبارة من كون الخاصّ مستلزما للعامّ .
لأنّك إذا قلت : الإنسان هو الناطق أو الناطق الإنسان ، لكان في قوّة قولك : الإنسان حيوان ناطق ، أو الحيوان الناطق هو الإنسان .
لاستلزام الناطق وهو الفصل المميّز الخاصّ للعامّ وهو الحيوان الذي فيه الإنسان أو الناطق مع غيره ، وكل ناطق فهو حيوان ، وكل خاصّ فهو مستلزم للعامّ .
فكلّ كاف شاف عند الإيجاز عن ذكر ما به الشركة ، ولا شيء من الأشياء إلَّا وهو محدود بما به يمتاز ويختصّ ، وهو يتضمّن ما به الاشتراك بالضرورة .
ثمّ إنّا إن لم نأخذ في كل حدّ ظاهر المحدود وباطنه ، لم يعمّ التعريف ولم يكن الحدّ جامعا ، وباطن الأشياء باعتبار هو الوجود الحق ، وظاهرها ما نسمّيه « السوي » سوى الحق وغيره غيره .
وباعتبار آخر هو الظاهر من كون الظاهر هو الحق الموجود المشهود ، والباطن المعقول هو الاعتبارات والحدود والكثرة ، وهي أمور متعقّلة عقلا علمية لا تميّز لها ولا تحقّق بدون الوجود الحق المعطي حقيقتها في أعيانها ، بل  بالوجود الحق الموجود المشهود ، فإذا ذكرنا الحدّ الشامل لكلّ محدود ، فلا بدّ من ذكر الحق فيه في اعتبار أهل الاعتبار والاستبصار ، أولي الأيدي والأبصار.
فهو الظاهر من الظاهر والباطن من الباطن ، والمتحقّق هو الوجود الحق ما ثمّ إلَّا هو ، هو الأوّل والآخر ، والباطن والظاهر ، والجامع بذاته للكل ، والمطلق عن هذه الجمعية وعن هذا الإطلاق والتقيّد بحدّ ، فافهم .
فإن فهمت ، فهمت فيما فهمت ، وهمّت الهمم أن تهيم وتهتمّ فيه ، فحقيق بك أن تهيم وتهتمّ بذلك إن شاء الله تعالى ، فلا يتمّ حدّ المحدود إلَّا بالحق .
ثمّ الحدود لا تفي ولا تكفي بتحديده ، فلا حدّ له أصلا ورأسا ، فنقول مثلا في مشرب التحقيق الكمالي في حدّ الإنسان الكامل : إنّه الحق المتعيّن بأحدية جمع جمع جميع الأعيان الظاهرة المشهودة ، والحقائق الباطنة الغيبية المفقودة ، في عين كونها موجودة مطلقة عن هذا التعيّن والجمع والإطلاق .
وهذا حدّ الإنسان عندنا إن قلنا إنّه محدود ، فالحق حدّ للكلّ ، وليس له في كل حدّ حد ، ولكن تصحيح الحدود - على ما عرفت .
وعرفت في عرف الظاهرية من الحكماء أن تقول : أكتفي في حدّ الحدّ بذكر الخاصّ عن ذكر الأعمّ كما ذكرنا في الحدّ الناقص ، وما ليس مذكورا في تعريفه ما ذكرنا ، فإنّه يجري مجرى الرسم التامّ أو الناقص كذلك ، فاعلم ذلك .

قال الشيخ رضي الله عنه :
فهو الكون كلَّه    ...... وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه     ...... ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذاؤه     ...... وبه نحن نحتذي
وبه منه إن نظرت     ...... بوجه تعوّذي
يشير رضي الله عنه  إلى: أنّه تعالى من كونه عين الوجود الحق المتعيّن في حقائق الأشياء وأعيانها هوية الكلّ .
وأنّه الواحد الذي قام به العدد ، فأنشأ الواحد بذاته العدد ، فقام بحيث لو فرضت تخلَّف واحد عن عدد ، لما تحقّق عين ذلك المعدود ، ولا قامت صورة ذلك العدد ، فالواحد هو المعدود ، والعدد اعتبار عقلي ، وكذلك ظهور الواحد بالكثرة في مراتب ظهوره ، ومظاهر تعيّنات نوره .
وقيام كونه التقييدي -هو العالم كلَّه بكونه الذي هو وجوده في مراتب شهوده ، فقيام الوجود المقيّد بكون الوجود المطلق موجودا على الإطلاق .
فغذاء كل واحد من الكونين:   المقيّد والمطلق الإلهيّين بعين الآخر ، إذ به بقاؤه وتحقّقه وقيامه ، فاغتذاء الوجود إنّما هو بحقائق العالم وأحكامه ، وهي الأعيان الثابتة الخلقية والمعاني الغيبية القائمة ، فحقيقة العلم القديم الأزلي الإلهي واغتذاء حقائق العالم إنّما هو بالوجود العامّ المشترك في الكلّ ، وهذا ظاهر .

وقوله رضي الله عنه« وبه نحن نحتذي » صادق على معنيين :
أحدهما : بمعنى الاقتداء ، فإنّ الاحتذاء هو الاقتداء ، فإنّ المقتدي - اسم فاعل - يحتذي حذو المقتدى - اسم مفعول - حذو القذّة بالقذّة ، وكذلك الوجود المقيّد - الذي هو فرع ونفل على أصل وجود الحق - يحذو حذوه في كونه غذاءه .
والمعنى الآخر : هو الذي نحن بصدد بيانه من كون الحق عين الطريق والأرجل ، والحذاء هو النعل ، إذ هو الطريق والسالك والساعي ، والأرجل دالَّة السير والوقاية عن أذى الطريق والغاية ، فافهم ، وإذا كان للحق مظاهر مختلفة وظهورات بحسبها كذلك مختلفة .
فقد يظهر ظهورا ينكر فيه فيتعوّذ منه لا جهلا به عند العارف به ولكن إلقاء الحق ظهوره في ذلك المظهر ، لكونه ممّا يتعوّذ منه فيه ، فافهم .



قال رضي الله عنه: "ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ كان و لا هي، و هو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها.
فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول، و «هو بكل شي ء عليم» لأنه بنفسه عليم."
يشير رضي الله عنه إلى: أنّ هذه النسب المظهرية - وهي حقائق الأشياء أو أعيانها أو صور معلوميّاتها للحق أزلا أو صورة نسب علمه كذلك بحسب اختلاف الأذواق والمشاهد - كانت موجودة مفقودة باعتبارين مختلفين ، أعني موجودة للحق بالعلم في العلم أو في الحق به له ، مفقودة فاقدة لأعيانها في الوجود الشاهد المشهود ، ولكن كانت كما ذكرنا فيما ذكرنا أنّها كانت مشهودة للحق شهود المفصّل في المجمل مفصّلا .

وهو شهود خاصّ بالله تعالى ، يشهد به الأشياء في نفسه قبل إيجادها وإشهادها أنفسها ، فأراد إشهادها أعيانها في عرصة الوجود وإيجادها لها في الشهود والمشهود .
فضاق قلب الغيب الأحدي ، عن كثرة ما حواه من الحرف العددي ، فنفّس الله عن غيبة عينه ما كان يجده من كونه في قلبه بنفسه الرحماني ، وهو الفيض الوجودي للشهود العياني رحمة به.
أي بالغيب - بإظهار ما كان مغيبا في غياباته ، ممّا ليس بغيب حقيقي ، فإنّه لا يقبل الظهور أبدا ، ورحم الأعيان الثابتة في غيب علم الذات بهذا الفيض الإيجادي .

فأوجدها وأشهدها أنفسها في نفسه على ما كانت في نفسه ، فلمّا شهدتها فيه فمنهم من تحقّق أنّه عينه ، إذ لا تحقّق للغير أصلا إلَّا بالنسبة والإضافة الاعتبارية لا غير ، فنفّس الله بنفسه الرحماني عن النسب الإلهية بعين ما أوجد لها مظاهرها وأشهدها أنفسها على مرائيها ومناظرها وهي أعيان الأشياء.
فما كانت أوّلا هي فيه هو غيبا فلم يكن ، وكان هو هو في مقام « كان الله ولا شيء معه » و « كنت كنزا مخفيا » فلمّا كان هي هي بأعيانها آخرا وهو فيها هي كذلك ظاهرا تعيّن أنّه أوّل لها من كونه عينها في عينها .
وأنّه آخر بكونه عين ما ظهر في عينها ، فهو الأوّل غيبا وباطنا ، والآخر شاهدا وظاهرا ، فهو الأوّل في عين بطونه ، والآخر بعين ظهوره ، وهو الأوّل في عين الآخرية ، والآخر في عين الأوّلية ، إذ هو الأوّل والآخر ، والظاهر الباطن ، وإليه المصير ، وهو بكل شيء عليم ، لأنّه عين كل شيء ، فهو بعينه عليم ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « فلمّا أوجد الصور في النفس ، وظهر سلطان النسب المعبّر عنها بالأسماء ، صحّ النسب الإلهي للعالم ، فانتسبوا إليه ، فقال : « اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي » أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم ، وأردّكم إلى انتسابكم إليّ ، « أين المتّقون ؟ » أي الذين اتّخذوا الله وقاية ، فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة ، وهو أعظم الناس وأحقّهم وأقواهم عند الجميع ، وقد يكون المتّقيّ من جعل نفسه وقاية للحق بصورته ، إذ هوية الحق قوى العبد فجعل مسمّى العبد وقاية لمسمّى الحق على الشهود ، حتى يتميّز العالم من غير العالم " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ " وهم الناظرون في لبّ الشيء الذي هو المطلوب من الشيء " .
قال العبد : لمّا ظهر النسب الإلهيّ الحقيقي وهو انتساب المألوه إلى الإله والمربوب إلى الربّ والخالق إلى المخلوق والرازق إلى المرزوق - فانتسب العالم إلى الموجد من حيث افتقاره إليه على التعيين .
وانتسب الخالق أيضا والربّ إلى العالم بكونه ربّ العالمين وخالق الحق ، ولم يبق لظهور نسبة العالم إلى نفسه مجال ، فعرف كل عبد بربّه .
فقيل : هذا عبد الله ، وهو عبد الرحمن ، وذلك عبد الرحيم ، أو عبد الكريم أو المنعم أو الغنيّ أو غيره ، وصار كل واحد من الربّ والمربوب وقاية للآخر في المذموم والمحمود ، إذ الأفعال والآثار والأخلاق والنعوت لتعيّن ذلك الوجود صالح لإضافة الأفعال والآثار والأخلاق وما شاكل ذلك إليه ، وكل واحد منهما - أعني الربّ والمربوب - ظاهر أو باطن للآخر باعتبارين - كما تقدّم - جامع بين الظاهرية والمظهرية دائما . والصفات منتشية من الربّ الذي هو الوجود الحق .
والعبد الذي هو المظهر القابل  ، فإن أضفت الأفعال والآثار المذمومة إلى العبد ، كان العبد وقاية لربّه من أن تضاف إليه تلك المذامّ والنقائص والقبائح ، أحكام العدم اللازم للعبد الممكن القابل .
وإن أضفت الفضائل والمحاسن والمحامد والكمالات إلى الحق ، كان الحق وقاية للعبد من إضافة ما ليس له من ذاته بالحقيقة لكونها وجودية والوجود للحق ، بل الوجود الحقّ إليه  حقيقة.
وكان أيضا حينئذ بوجه آخر وقاية للعبد من آثار النقائص والمذامّ الظاهرة منها جزاء وفاقا ، فالعالم هو الذي يضيف الحقائق إلى أصولها ، فخذ ما هو لك بالأصالة ، وأعطه ما له كذلك ، تكن من الأدباء العلماء ، فإنّ العالم من العالم لا يستوي معه غير العالم " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ "  ينظرون من كل شيء في لبّه ، لكونهم في أنفسهم أرباب الألباب .


قال رضي الله عنه : « فما سبق مقصّر مجدّا ، كذلك لا يماثل أجير عبدا " لكون المقصّر أبدا قاصرا عن بلوغ الكمال .
والعبد أيضا لا يماثله في كمال مؤاتاته لظهور آثار مالكه فيه أجير ، فإنّه عبد أجرته لا عبد لسيّده ، ولا بدّ للسيد من العبد ، وليس كذلك الأجير ، فقد يقوم العبد بأعمال الأجير ، وليس للأجير أن يقوم بالعبدانية الذاتية التي للعبد .
قال رضي الله عنه : « وإذا كان الحق وقاية للعبد من وجه ، والعبد وقاية للحق من وجه »
يعني رضي الله عنه : فساغ في التحقيق إضافة ما لكلّ منهما إلى كلّ منهما .
قال رضي الله عنه : " فقل في الكون " أي في الوجود المقيّد الكوني « ما شئت إن شئت قلت : هو الخلق ، و إن شئت قلت : هو الحق ، وإن شئت قلت : هو الحق الخلق » أي بالاعتبارين معا « وإن شئت قلت : لا خلق من كل وجه ، ولا حق من كل وجه » يعني حق باعتبار الحقيقة والعين في الأصل ، وخلق باعتبار التعيّن والظهور بالكثرة . « وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك". 
قال رضي الله عنه« فقد بانت المطالب بتعيّنك المراتب »
ثمّ قال رضي الله عنه« ولولا التحديد »
يعني سوغان التحديد بشرط التعيّن والظهور .
ثمّ قال رضي الله عنه : « ما أخبرت الرسل  بتحوّل الحق في الصور ، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه "
 بذلك علمنا أنّ ظهوره بصور ماله حدّ غير قادح في كماله المستوعب للإطلاق والتقييد ، والتنزيه والتجريد والتشبيه بالتحديد والتجديد .
قال رضي الله عنه  :
فلا تنظر العين إلَّا إليه     ...... ولا يقع الحكم إلَّا عليه
فنحن له وبه في يديه     ...... وفي كل حال فإنّا لديه
ولهذا ينكر ويعرف ، وينزّه ويوصف  .
أي : علَّة إنكار من أنكره إذا أنكر ، وسبب معرفة من أقرّ به حين عرفه إنّما هو تجلَّيه في صور ، وظهوره في أحكام وأوصاف ونعوت ، وخلع خلع وملابس يقتضي ذلك ، فاعرف ذلك .
قال رضي الله عنه  : " فمن رأى الحق منه وفيه بعينه ، فذلك العارف " .
يعني : من رأى الحق من الحق في الحق بعين الحق ، فقد رأى الحق .
قال رضي الله عنه  : "ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه ، فذلك غير العارف " لكون العارف عارفا بأنّ الحق لا يراه إلَّا عينه .
قال رضي الله عنه : « ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه ، فذلك الجاهل ، وبالجملة فلا بدّ لكل شخص من عقيدة في ربّه يرجع بها إليه ، ويطلبه فيها ، فإذا تجلَّى له الحق فيها عرفه وأقرّ به ، وإن تجلَّى في غيرها ، نكره وتعوّذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر وهو عند نفسه أنّه قد تأدّب معه ، ولا يعتقد معتقد إلها إلَّا بما جعل في نفسه " .
يعني رضي الله عنه : أنّ أهل الاعتقادات إنّما يعتقدون الإله بما جعلوا في نفوسهم من الاعتقاد الذي جزموا بهواه على حقيقة وبطلان ما يغايره وإحالته.
قال رضي الله عنه : « فالإله بالاعتقادات بالجعل ، لأنّه هو الذي جعل في نفسه ، صورة يعتقد أنّ الحق على تلك الصورة في نفس الأمر ، فهو مجعول فيه بجعله ، فما رأوا هؤلاء إلَّا نفوسهم وما جعلوا فيها » يعني في نفوسهم من الصور الاعتقادية ، ولكنّ الحق يسع بسعة حقّيّته كلّ ذلك ، فيحقّق جميع تلك الصور ، وينفخ فيها روح الحقّية برحمته وسعته ، فيرحمهم بحسب صحّة معاملاتهم مع ذلك الحق المجعول المتخيّل وإن كانت في الحقيقة أوثانا وأنصابا نصبوها وأصناما وطواغيت متخيّلات بالوهم ، عبدوا الحقّ فيها أنّها هو .
قال رضي الله عنه : " فانظر مراتب الناس في العلم بالله ، هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك " .
يعني : كلّ من تقيّد بقيد وبعقد معيّن وقيّد الحق بذلك العقد الذي اعتقده وجعله في نفسه عقيدة يرجع بها إلى ربّه ، فهو عبد ذلك العقد .
قال رضي الله عنه : « فإيّاك أن تتقيّد بعقد مخصوص ، وتكفر بما سواه ، فيفوتك خير كثير».
يعني رضي الله عنه : أنّ الحق المتجلَّي في صور الاعتقادات يقبل الجميع ويسعها ، فإذا تقيّدت منها بصورة دون صورة ، فقد كفرت بما سواه والحق فيه ، فجعلته وأسأت الأدب معه وأنت لا تدري .
قال رضي الله عنه : « فيفوتك خير كثير ، بل يفوتّك العلم بالأمر على ما هو عليه ، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلَّها ، فإنّ الإله - تعالى - أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الحق هو الظاهر المتجلَّي في كل ذلك ، ومتعلَّق الجهل والكفر إنّما هو التعيّن والتقيّد والحصر لا غير ، فأطلق الأمر وانطلق أنت بعقلك عن القيود الاعتقادية تحظ بالعلم الأتمّ والشهود الأعمّ .
كما أشار إليه الشيخ في المقام :
« عقد الخلائق في الإله عقائدا  .... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوا ».
قال رضي الله عنه : « فإنّه يقول » أي الحقّ " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله "  وما ذكر أينا من أين » أي أطلق وعمّم ، فلا أين إلَّا ولله تعالى وجه يولَّي وجهه إليه مولّ .
قال : « وذكر أن ثمّ وجه الله ، ووجه الشيء حقيقته ، فنبّه بهذا قلوب العالمين لئلَّا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا ، فإنّه لا يدري العبد في أيّ نفس يقبض ، فقد يقبض في وقت غفلة ، فلا يستوي مع من قبض على حضور " .
يحرّض رضي الله عنه : المؤهّلين للكمال أن لا يتقيّدوا ولا يقيّدوا ، فيغلب عليهم ذلك ، فيعمّ أحوالهم وأوقاتهم ، ثمّ لا يتأتّى لهم أن يلقوا الله على الحضور والمراقبة والعلم ، فيخسروا ويحشروا على ما قبضوا عليه من الغفلة ، أعاذنا الله وإيّاك من آفات الغفلات ، فإنّها أفظع العاهات ، وأقطع الزلَّات ، إنّه قدير .
قال رضي الله عنه : « ثمّ إنّ العبد الكامل مع علمه بهذا » يعني بعدم حصر الحق في إنّيته وجهة وجهه « يلزم في الصورة الظاهرة والحالة المقيّدة التوجّه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام [ ويعتقد أنّ الله في قبلته حال صلاته وهو بعض مراتب وجه الحقّ من « أينما تولَّوا فثمّ وجه الله » فشطر المسجد الحرام ] منها ، ففيه وجه الله ، ولكن لا تقل هو هاهنا فقطَّ ، بل قف عندما أدركت والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام ، والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأينيّة الخاصّة ، بل هي من جملة أينيات ما ولَّى مولّ إليها ، فقد بان لك عن الله أنّه في أينية كلّ وجهة " .
يعني : في قوله : " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله".  " وما ثمّ إلَّا الاعتقادات ".
يعني : أنّها هي الجهات المعنوية التي يتوجّه إلى الحق فيها قلوب المعتقدين .
قال رضي الله عنه : « فالكلّ مصيب » لأنّه من المطلق الحقّ له حظَّ ونصيب .
قال رضي الله عنه : « وكل مصيب مأجور ، وكل مأجور سعيد ، وكل سعيد مرضيّ عنه وإن شقي زمانا في الدار الآخرة ، فقد مرض وتألَّم أهل العناية مع علمنا بأنّهم سعداء أهل الحق في الحياة الدنيا ، فمن عباد الله من يدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمّى جهنّم ، ومع هذا فلا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه ، أنّه لا يكون لهم في تلك الدار " أي في دار جهنّم « نعيم خاصّ بهم " .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ أهل جهنّم على ما هم عليه من البعد المتوهّم ينعّمون بما يعذب لهم من العذاب الذي ألفوه مدّة في تلك الدار ثمّ فصّل ذلك النعيم الخاصّ بهم .
بقوله رضي الله عنه« إمّا بفقد ألم كانوا يجدونه ، فارتفع عنهم ، فيكون نعيمهم راحتهم من وجدان ذلك الألم ، أو يكون نعيم مستقلّ زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان والله أعلم " .
يعني : أنّ كلا القسمين بالنسبة إليهم إدراك ملائم لهم ، فافهم وتدبّر .
.
واتساب

No comments:

Post a Comment