Saturday, July 20, 2019

 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة
قال رضي الله عنه : ( وأوّل ما ألقاه المالك على العبد من ذلك ) .
خصّص رضي الله عنه إضافة الإلقاء إلى المالك إشارة إلى أنّه محكوم مأمور أمين على ما يذكره ، فقد ملَّكه الله المالك في الصور المحمدية ، فهو يتلقّى ما يلقى إليه .
ويلقي ، ويلقى منه وإليه وعليه : يملي ويملى ، فأوّل ما تعيّن من النقوش الحكميّة نقش الحكمة الإلهية الأحدية الجمعية .
قال رضي الله عنه : ( فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة ).
قد سبق الكلام في الفصّ والحكمة ، وأمّا اختصاصها بآدم فهو أنّ كلّ واحدة من " الحكمة " و "الكلمة " حقيقة ظاهر الأحدية الجمعية الكمالية الكلَّية في مرتبتي الفاعل والقابل .
فالحكمة الإلهية ظاهرية أحدية جمع الحكم الكمالية الأسمائية الكلَّية في الحقائق العقلية المؤثّرة.
والكلمة الآدمية ظاهرية جمع المظهريات الجمعية الكمالية الإنسانية البشرية فإنّه أبو البشر ، والبشر منسوبون موصوفون ببنوّته وهو منعوت بأبوّتهم ، وكلَّهم أولاده ، وجميع هذه الأشخاص البشرية صور تفصيل بشريّته وآدميّته .
وهو أحديّة جمعهم قبل التفصيل إذ للأحدية الجمعية الكمالية مرتبتان إحداهما قبل التفصيل لكون كلّ كثرة مسبوقة بواحد هي فيه بالقوّة ، هو يذكَّر قوله تعالى :
"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَنِي آدَمَ من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ " آية 172 سورة الأعراف.
فإنّه لسان من ألسنة شهود المفصّل في المجمل مفصّلا ، ليس كشهود العالم من الخلق في النواة الواحدة النخيل الكامنة الكائنة فيها بالقوّة فإنّه شهود المفصّل في المجمل مجملا لا مفصّلا .
وشهود المفصّل في المجمل مفصّلا يختصّ بالحقّ وبمن شاء الحقّ أن يشهد من الكمّل ، وهو خاتم الأولياء وخاتم الأنبياء وورثتهما ، فافهم .
فكما أنّ الإلهية في حقائق الأسماء عينها آخرا ، والأسماء فيها عين الإلهية كذلك أوّلا قبل التفصيل الوجودي وبعده هو فيهم هم ، كما قال تعالى : " خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ " آية 1 سورة النساء.
وقد ذكر سرّ أحدية الجمع في مواضع من هذا الشرح على ما سيأتيك في شرح الفصّ الشيثي إن شاء الله تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لمّا شاء الحقّ سبحانه) أضاف المشيّة إلى الاسم « الحقّ » لكون هذه المشيّة متعلَّقة بالإيجاد ، حتى تتحقّق الأسماء في مظهريته موجودة في أعيانها ، وتظهر في مظاهرها ، وتظهر آثارها محقّقة مشهودة في محالّ مناظرها ومجالي محالَّها ومظاهرها لأنّ الاسم " الحق " يعطي الحقّيّة بالتحقيق والوجود ، والأسماء الإلهية كانت في قبضة قهر الأحدية الجمعية الإلهية الذاتية أحدية لا ظهور لها لعدم مظاهرها في أعيانها .
وهي العوالم « و كان الله ولا شيء معه غيره » وكانت كثرة الأسماء " كنت كنزا مخفيّا " أشار إلى عينه من حيث تعيّنه بكناية حرف التاء وهو تعيّنه بذات اللاهوت كنزا جامعا لجواهر حقائق الأسماء والمسمّيات.
إذ الكنز ذهب وفضّة وجواهر مجتمعة في الغيب .
والكنز مخفيّ عن الأغيار وإن كان ظاهر التحقّق والتعيّن في عينه « فأردت أن أعرف ».
أي يعرفني كلّ تعيّن تعيّن من تعيّناتي في مظاهري ومرائيّ ومجاليّ التي ليست ذات الألوهية بل نسبتها ، فهذه المشيّئة تجلّ من الله من حيث حقائق التعيّنات الأسمائية المستهلكة للأعيان.
 فشاء الحقّ من حيث الأسماء أن يعطيها التحقّق في أعيانها بالوجود والإيجاد ، والتحقّق في حاقّ حقائقها للشهود والإشهاد على رؤوس الأشهاد ولأنّ تحقّق هذه المشيّة مسبوق بتحقّق الذوات في نفسها ، وتحقّق المشيّة المطلقة مطلق للذات وعينها .
ولهذا أشار بقوله : " لمّا شاء "  فإنّ هذه العبارة دالَّة على المسبوقية في الرتبة والحقيقة والعين ، لا في الزمان والوجود الظاهر ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من حيث أسمائه الحسني التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها وإن شئت قلت : أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كلَّه لكونه متّصفا بالوجود) .
فصرّح أنّ هذه المشيّة من قبل الأسماء وحقائقها من كونها فيه هو .
وفي قوله : " لا يبلغها الإحصاء " يشير إلى أنّ شخصيات الأسماء لا تحصى فإنّها لا تتناهى لكون الأسماء تعيّنات إلهية في حقائق الممكنات التي لا تتناهى على ما يأتيك إن شاء الله تعالى وإن كانت أمّهات الأسماء محصاة من حيث تعيّناتها الكلَّية.
وهي مائة إلَّا واحدا هو عين الكلّ ، أو ألف وواحد فأضاف المشيّة إلى الاسم « الحق » من حيث أسمائه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء لأنّ هذه الإضافة إلى الاسم « الحق » أحقّ إذ هو حق كلّ اسم ، وبه حقيقة ذلك الاسم وتحقّقه .
والاسم هو الحق المتعيّن في أيّة مرتبة إلهية كان بالوجود .
ثم الاسم يستدعي تسمية ومسمّى ومسمّيا .
والمسمّى اسم مفعول هو الحق ، والمسمّي اسم فاعل هو القابل المعيّن للوجود الواحد المطلق عن قيد التعيّن من حيث ما فيه صلاحية قبول التعيّن لا من حيث اللاتعين والإطلاق مطلقا .
والتسمية هي التعيين لفعل القابل وتأثيره في الوجود المطلق والفيض الخالص الحقّ بالتعيين والتقييد ، فالاسم علامة على المسمّى بخصوص حقيقته التي بها يمتاز عن غيرها من الحقائق .
ولكل اسم اعتباران :
اعتبار من حيث الذات المسمّاة ،
واعتبار من حيث ما به يمتاز كل اسم عن الآخر وهو حجابية الاسمية .
فإن اعتبرنا المسمّى ، فهو الحق المتعيّن في مرتبة ما من المراتب التعيّنية ، وإن اعتبرنا الاسمية ، فعلامة خاصّة ودلالة معيّنة معيّنة للمدلول المطلق بخصوص مرتبتها ، فنفس تعيّن الوجود الحقّ بالإلهية في كل قابل قابل هو الاسم .
ولمّا كانت تعيّنات الوجود الحقّ وتنوّعات تجلَّيه وظهوره في قابليات الممكنات غير المتناهية غير متناهية .
لذلك  قال رضي الله عنه: « لا يبلغها الإحصاء » لأنّ الذي يبلغها الإحصاء متناه ، والتعيّنات الوجودية بالنفس الرحماني لا تتناهى ، فلا تحصى فلا يبلغها الإحصاء .
وأمّا أسماء الإحصاء ، فهي كلَّيات حقائق الوجوب والفعل والتأثير ، فهي مائة إلَّا واحدا .
وبيان سرّ ذلك أنّ الأسماء في حقائقها تنقسم إلى أسماء ذاتية ، وإلى أسماء صفاتية ، وإلى أسماء فعلية.
فإذا ضربنا الثلاثة الفردية في نفسها للتفصيل والبسط ، خرجت تسعة ، وهي آخر عقود الآحاد في مرتبة الأعداد .
والتسعة في مرتبة العشرات تسعون ، وهي مرتبة المجازاة الثانية ، فإنّ الواحدة بعشر أمثالها .
كما قال تعالى :"من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه ُعَشْرُ أَمْثالِها " لكون المجازاة لها المرتبة الثانية من عمل الإحصاء.
إذ المجازاة إنّما تقع من الأسماء الإلهية المحصاة في أعيان أعمال العباد ، والعشرة نظير الواحد في المجازاة .
ونسبة الواحد إلى العشرة كنسبة العشرة إلى المائة ونسبة المائة إلى الألف كذلك نسبة الواحد إلى العشرة .
فالواحد في الحقيقة هو العشرة والمائة والألف في مراتب العشرات والمئات والألوف ، ولهذا وقع في الواقع في الأعداد الهندسيّة إشارة من باب الإشارات .
فلمّا كانت أسماء الإحصاء هي المجازية للعبيد المتخلَّقين والمتحقّقين بها ، والعشرة هي الكاملة في المجازاة ، ظهرت التسعة في مرتبة العشرة تسعين ، وأضيفت إلى الأصل وهي التسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة المرتبيّة في نفسها كما مرّ فكانت تسعة وتسعين ، فافهم .
ولأنّ هذه الأسماء من وجه عين المسمّى بها ، ومن وجه غيرها ، كان المسمّى وهو الحقّ الظاهر في مراتب وجوده ، والمتعيّن بالتجلَّي في عين القابل المتجلَّى له وتعديده وتعيينه وتقييده وتكييفه وتحديده.
كان المسمّى بهذه الأسماء التي هو مدلولها تمام المائة من حيث كونها غيرها ، وغير محصى بالتعيين لكونها عينها .
فلهذا قال : « إنّ لله تعالى مائة اسم إلَّا واحدا » ، فهذا الواحد هو عين التسعة والتسعين ، وعين الألف والواحد على ما روي في مرتبة الإحصاء أنّها ألف وواحد ، ظهر في آخر كلَّيات مراتب العدد ، كما خفي في أوّلها وأوسطها .
وهو أيضا كذلك عين الأسماء التي لا يبلغها الإحصاء فإنّها التعينات الوجودية النورية ، وتنوّعات التجلَّيات النفسية الجودية ، والكمالات الإلهية لا تنفد ، ولا يبلغها الإحصاء ، ولا يحصرها تعديد النعماء والآلاء ، فافهم .
واعلم : أنّ الحقّ من حيث هذه التجلَّيات والتعينات الذاتية أزلا وأبدا يريد أن يرى أعيانها في كون جامع يحصر الأمر ، فإنّه كان ظاهرا قبل ظهورها لأنفسها له تعالى ، ورؤيتها إيّاها أيضا في مظاهر غير جامعة ولا حاصرة لحقائق السرّ والجهر ودقائق البطن والظهر .
وتجلَّيه تعالى في المظاهر النورية الجمالية يخالف تجلَّيه في المجالي الظلالية الجلالية .
وظهوره في القوالب السفلية ، وجميع هذه المظاهر غير جامع لرؤيته نفسه ولا حاصر للأمر .
ولهذا قال رضي الله عنه : " لمّا شاء الحق " على صيغة تقتضي المسبوقية بعدم هذه المشيّة المقتضية لظهوره له في الكون الجامع ، بعد ظهوره في الأكوان غير الجامعة وإن كانت مشيّته في رؤيته.
ورؤيته لأسمائه وصفاته ونسب ذاته سابقة التعلَّق على الظهور الأسمائي في العالم قبل الكون الجامع.
ولكن من حيث ظهور الإنسان من حيث الصورة العنصرية لمظهريّتها .
فإنّ تعلَّق المشية آخر بموجب الترتيب الحكمي الوجودي .
فإنّ الإنسان أوّل بالحقيقة ، والآية في البداية ، آخر في الغاية والنهاية ، ظاهر بالصورة ، باطن بالسرّ والصورة جامع بين الأوّلية والآخرية ، والباطنية والظاهرية .
وجمعيّته لكونه برزخا جامعا بين بحري الوجوب والإمكان والحقّية والخلقية .
وأمّا حصره الأمر فلكونه موجودا بالرتبة الكلَّية الجامعة بين المراتب ، ولكون الأمر محصورا في نفسه بين الوجود والمرتبة .
فلمّا كانت مرتبته كلية جامعة بين مرتبتي الحقّية والخلقية ، والربانية والعبدانية ، تمّ بعين الوجود الحق في مظهريته بحسبها كليا جمعيا أحديا ، والمرتبة منحصرة بين الحق الواجب والخلق الممكن ، معمورة  بهما ، فالحق أبدا حق ، والخلق أبدا خلق .
والوجود في مرتبة الحقية حق ، وفي مرتبة الخلقية خلق ، وفي النشأة الجامعة حق خلق جامع بينهما مطلقا عن الجمع بينهما أيضا ، فالدائرة الوجودية كما سبق محيطة بقوسين ، ومنقسمة بقسمين ، ومنصّفة بشطرين على قطرين :
فالشطر الأعلى للحقيّة والوجوب ، فإنّ الفوقية والعلوّ حق الحق.
والشطر الأدنى للكون والخلق .
والبرزخ يظهر بالنعتين ، ويصدق عليه إطلاق الحكمين ، وله الجمع بين البحرين ، وليس له نعت ذاتي سوى الجمعية والإطلاق فله أن يظهر مظهرية الأسماء والمسمّيات والذات على الوجه الأوفى .
وفي حقّه يصحّ أن يقال :
يرى أعيانها أو يرى الحقّ نفسه في كون جامع .
فإنّ رؤية الحقّ نفسه في كون غير جامع لما هو عليه ليست كرؤيته نفسه في مرآة كاملة جامعة لظهور آثاره وأحكامه تماما .
كما قال : ( أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر لكونه متّصفا بالوجود ) فإنّه كان يرى عينه في عينه رؤية ذاتية عينية غيبية ، ويرى حقائق أسمائه وصفاته مستهلكة في ذاته رؤية أحدية ، وشهوده عينه وأعيان أسمائه في الكون الجامع شهود جمعيّ بين الجمع والتفصيل .
ويجوز أن يقول :
أن يرى أعيانها ، أو يرى عينه فرادى وجمعا .
ويجوز أن يقول   : الكلمة مبنيّة للمفعول في الوجهين ، فانظر ما ذا ترى .
قال رضي الله عنه : ( ويظهر به سرّه إليه ).
وفي « يظهر » أيضا يصدق جميع الوجوه المذكورة من الإعراب لكونه عطفا على « يرى » ، ثم الضمير في « إليه » و " به " سائغ العود إلى الحقّ وإلى المظهر الجامع .
فإنّ ظهور السرّ الكامل الكامن إنّما يكون بالحق المتجلَّي بالتجلَّي التعريفي في قوله : « أحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرّفت إليهم فعرفوني ».
ولكن في الكون الجامع وبالكون الجامع ، فإنّ الحقّ تعالى شأنه من حيث كونه أحبّ إظهار سرّه الكامن ، وجلا حسنه الباطن إبداء كماله المستحسن بجميع المحامد والمحاسن ، ظهر بالكون الجامع الإنساني والكتاب الأكمل القرآني إلى الحق أو إلى المظهر ، كذلك يجوز على الوجهين ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فإنّ رؤية الشيء نفسه في نفسه ليست مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة فإنّه يظهر له نفسه ) .
يعني في المرآة (في صورة يعطيها المحلّ المنظور فيه ، ممّا لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحلّ ولا تجلَّيه له).
قال العبد أيّده الله : اعلم شرح الله صدرك بنوره ، وأسرّ إلى سرّك بسروره :
أنّ الحقّ الواجب الوجود في كماله الذاتي وغناه الأحديّ يرى ذاته بذاته رؤية ذاتية غير زائدة على ذاته ولا متميّزة عنها ، لا في التعقّل ولا في الواقع .
ويرى أسماءه وصفاته ونعوته وتجلَّياته أيضا كذلك نسبا ذاتية لها وشئونا عينيّة غيبية مستهلكة الأحكام تحت قهر الأحدية .
غير ظاهرة الآثار ولا متميّزة الأعيان بعضها عن البعض في حيطة  جمال الصمدية .
وكينونته  فيها إنّما هي ككينونة النصفية والثلثيّة والربعية والخمسية وغيرها من النسب في الواحد فإنّ الواحد هو النصف والثلث والربع والخمس كما مرّ مرارا .
فهو من حيث صلاحيته لاتّصاف هذه النسب إليه يصحّ إطلاق أسمائها عليه ككون المسمّى بالأسماء المحصاة تمام المائة .
والواحد في ذاته ومن حيث إنّ واحديّته غير زائدة عليه مع قطع النظر عن الاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة لا نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس .
فكذلك الحقّ من حيث ذاته الأحدية لا ظهور فيه لنسبة من هذه النسب لكنّه إن شاء أن يظهرها من حيث كماله الأسمائي ، أظهرها في مظاهرها ومجاليها ، ونظر إليها في منصّاتها ومرائيها فإنّ ثبوت الكمال الذاتي للحقّ من وجهين :
أحدهما : كماله من حيث الذات كما مرّ وهو عبارة عن ثبوت وجودها منها لا من غيرها ، فهي عينه في وجودها وبقائها ودوامها عن سواها ، فمهما تعلَّقت هذه النسب أو أضيفت أو شوهدت في الذات من حيث الكمال الذاتي ، فإنّها تشهد وتعلم أحدية لكون الحقائق المعقولة في كل مرتبة بحسبها .
والكمال الثاني : هو كمال نفسي للحق تفصيلي من حيث الأسماء الحسنى وصورها ، فهو كمال صورة الحق ، وذلك يكون بظهور آثار النسب المرتبيّة والحقائق الأسمائية ، وتعود أحكامها في عوالمها ومظاهرها .
وهذا الكمال الثاني ثابت للحق من حيث مرتبته الذاتية التي يقتضيها لذات الألوهية ، وهي نسبة كلَّية جامعة لجميع النسب الأسمائية .
فشاء الحقّ من حيث أسمائه الحسنى وتجلَّياته العليا تعيّناته القصوى ، فتجلَّت تجلَّيا جمعيا ، وانبعثت انبعاثا حسبيّا إلى المظهر الكلَّي والكون الجامع الأصلي الحاصر للأمر الإلهي فامتدّت رقائق النسب إلى متعلَّقاتها واشرأبّت حقائق الوجود إلى متعلَّقاتها ، فطلبت الربوبية المربوب ، والإلهية المألوه المحبوب .
فقامت بظاهرياتها مظاهر لباطنها ، وبشهادتها مجالي لغيبها ، فهي الظاهرة بمظاهر هي عينها ، والناظرة من مناظر هي عينها ، وفيها أينها ، فظهرت الحقائق الوجوبية والنسب التي اقتضتها  الربوبية في متعلَّقاتها ومظاهرها ومجاليها.
 وزهرت أنوار التجلَّيات في مراتبها ومرائيها ، فرأت أنفسها متمايزة الأعيان والآثار ، متغايرة الظلم والأنوار ، وتعيّنت أحكامها ولوازمها ممتازة ، وتبيّنت عوارضها ولواحقها إلى أحيازها منحازة .
فأعيان الموجودات العلوية وأشخاص المخلوقات السفلية مظاهر النسب الوجوبية ومجالي تعيّنات أسماء الربوبية ، فيرى الحقّ فيها حقائق الأسماء وأعيان الاعتلاء مستوية على عروشها ، ومحتوية على جنودها وجيوشها ، فما منّا إلَّا له من الحق مقام معلوم ، ومن الوجود رزق مقسوم ، فانظر الفرق بين الرؤيتين والشهودين ، والتفاصيل بين الكمالين والوجودين .
ثمّ اعلم : أنّ المناظر والمجالي والمظاهر والمرائي التي يرى الحقّ فيها نفسه إنّ لم تكن لها حيثيّة خصيصة واستعداد معيّن تمتاز بها عن الظاهر فيها ، كان الظاهر الحقّ فيها غير متغيّر عن عينه .
وإن لم تكن كذلك ، ظهرت الصورة بحسب المحلّ كظهور الحق في مرتبة من المراتب جزئية كانت أو كلَّية إنّما يكون بحسب المحلّ .
ولا يكون ذلك المظهر بحسب الحق فإنّ ظهور الحق مثلا في العالم الروحاني ليس كظهوره في العالم الطبيعي .
فإنّه في الأوّل بسيط ، نوري ، فعلي ، نزيه ، شريف ، وحداني .
وفي الثاني ظهوره على خلاف ذلك من التركيب ، والظلمة ، والانفعال ، والخسّة ، والكثرة ، والكدر.
ومن المظاهر ما ليس له حسب معيّن وحسبيّة يوجب انصباغ الظاهر فيه بصبغه ، ولا يكسب الحقّ المتجلَّي فيه أثرا من خصوص وصفه وصفة عينه بحيث يخرجه عن طهارته الأصلية ومقتضى حقيقته الكلَّية كالمظاهر الإنسانية الكمالية الكلَّية البرزخية ليست لها حسبيّة تخرج الحقّ عن مقتضى حقيقته لما بيّنّا أنّ البرازخ ما لها حقيقة تمتاز بها عن الطرفين .
وهذا هو سرّ الإمامة ولا يصل كلّ واحد من الطرفين إلَّا ما تقتضيه حقيقته ، بخلاف المظاهر البرزخية فإنّها تقبل ما يصلح للجمعية .
وكلّ موجود من العوالم الأمرية الروحانية والأعيان الجسمانية الملكية مظهر ومرآة لاسم مخصوص وصفة جزئية أو كلَّية من الأسماء والصفات الإلهية والحقائق الذاتية الكلَّية .
وإن كان لسائر الأسماء في ذلك مدخل بحكم التتبّع كالطالع من الفلك يقتضي لصاحبه خصوص حكم مع شركة سائر البروج .
وليس شيء منها علوا وسفلا مظهرا تامّا كاملا للذات المطلقة الكاملة الجزء الجزئية في حقيقته ، وإلَّا لانقلبت الحقائق وخرجت عن ذاتياتها ، فصار المطلق مقيّدا وبالعكس ، فظهور الحق بالوجود فيها لا يكون إلَّا بقدر قابليته واستعداده .
وهو سبحانه وتعالى يقتضي لذاته أن يظهر بالكلّ ويظهر به الكلّ ظهورا أحديا جميعا ، وظهوره في الكلّ بحسب الكلّ ، فلا يظهر الحق لنفسه بدون مظهر منها بما يقتضيه المظهر ، بل بالمظهر .
فهذا معنى قوله : « فإنّه يظهر لنفسه في صورة يعطيها المحلّ ممّا لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحلّ » .
كما أنّ الناظر في المرآة المتشكَّلة بشكل خاصّ من الطول والتدوير وغيرهما لا تظهر صورته بذلك إلَّا بحسب المحلّ لا بحسب الذات خارج المرآة .
فافهم من هذا المثال ظهور الحق في كلّ شيء بحسبه " وَلِلَّه ِ الْمَثَلُ الأَعْلى " وهاهنا أسرار " وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ "  .
قال رضي الله عنه : ( وقد كان الحقّ سبحانه أوجد العالم  وجود شبح مسوّى لا روح فيه ، فكان كمرآة غير مجلوّة ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ المراد المطلوب والعلَّة الغائيّة المقصودة من إيجاد العالم ظهور الحق وإظهاره نفسه لنفسه ظهورا وإظهارا فعليا تفصيليا كما اقتضت ذاته المطلقة تكميلا لمرتبتي الجمع والفرقان ، والغيب والشهادة ، والإخفاء والإعلان ، فكمال الجلاء والاستجلاء وإحاطة الشهود بالغيب والشهادة هو السرّ المطلوب والعلَّة الغائيّة من العالم .
فإذا لم يحصل كمال الظهور والإظهار على النحو المطلوب ، لم يكن له سرّ وروح ، والعالم كلَّه أعلاه وأسفله ، وأمره وخلقه ، ظلمانيته ونورانيته كما قلنا مظاهر الأسماء الإلهية ، فما من موجود منها إلَّا والغالب على وجوده حكم بعض الأسماء على سائرها .
فذلك البعض سنده وإليه مستنده ، والحق من حيث ذلك الاسم ربّه ومعبوده ، ومن حضرته فاض عليه وجوده وهو عند التجلَّي مشهوده .
فظهور الحق وإن وجد قبل الكون الجامع والمظهر الكامل والمجلى الشامل نحوا من الظهور تفصيليا فرقانيا ، ولكنّ المطلوب بالقصد الأوّل هو كمال الجلاء والاستجلاء ، فحيث لم يوجد كمال الظهور في المظهر الأكمل ، لم يحصل المراد المطلوب من إيجاد العالم لعدم قابلية العالم بدون الإنسان لذلك ، وقصوره عن كمال مظهريته تعالى ذاتا وصورة جمعا وتفصيلا ، ظاهرا وباطنا ، فكان كمرآة غير مجلوّة ، أي غير قابلة لروح التجلَّي المطلوب والمراد المقصود المرغوب ، فكان العالم بمنزلة شبح مسوّى لا روح فيه لأنّ الروح إنّما يتعيّن في المحلّ بعد التسوية ، كما قال تعالى مقدّما للتسوية على النفخ في قوله : " فَإِذا سَوَّيْتُه ُ وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي ".
فالتسوية عبارة عن حصول القابلية في المحلّ للنفخ الإلهي ، وهو عبارة عن التوجّه النفسي الرحماني بالفيض الوجودي والنور الجودي.
 كما قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن شأن الحكم الإلهي أنّه ما سوّى محلَّا إلَّا ولا بدّ أن يقبل روحا " إلهيا عبّر عنه بالنفخ فيه وما هو إلَّا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسوّاة لقبول الفيض التجلَّي الدائم الذي لم يزل ولا يزال . وما بقي إلَّا قابل ، والقابل لا يكون إلَّا من فيضه الأقدس ) .
يعني رضي الله عنه : ليست تسوية الحقّ للمحلّ لقبول الروح إلَّا حصول الاستعداد ، فـ " هو " في قوله : « وما هو لسان الحكم الإلهي » .
وفي قوله : " عبّر عنه " يعود الضمير إلى الروح ، لا بمعنى أنّ الروح هو النفخ ، بل بمعنى أنّ الله ذكر تعيّن الروح في المحلّ بعد التسوية بهذه العبارة ، فقال :" وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " .
ثمّ اعلم : أنّ تسوية الحق للمحلّ أن يعطيه الاستعداد والقابلية ، أي يظهر استعداده الذاتيّ غير المجعول ، فإنّه إن لم يكن له استعداد ذاتي لقبول هذا الاستعداد المجعول هذه الصورة المذكورة هيولى مستعدّة لقبول صورة بعدها إلى أن تنتهي في الصورة الإنسانية الكمالية * ( .
"ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ " 29 سورة العنكبوت.
 وكلّ هذه الصور صور مراتب التسوية والإعداد لقبول تجلّ بعدها .
وكذلك صورة الحنطة هيولى مسوّاة لقبول صورة الدقيق ، وهي هيولى لصورة العجين ، وهي أيضا هيولى مسوّاة لصورة الخبز ، وهي هيولى لصورة الكيلوس أو الكيموس.
وكذلك إلى الصورة الدمويّة ، ثم اللحمية والعظمية وغيرها ممّا يطول ذكرها ، كذلك العالم صورة مسوّاة لقبول تجلّ كلَّي فرقاني تفصيلي أسمائي .
وبعده يستعدّ لقبول تجلّ كلَّي إنساني قرآني إلهي ذاتي ، وأسمائي جمعي بين الجمع والتفصيل أحديّ ، وهذا السرّ سار في جميع الصور ، فتدبّرها تدقيقا وتحقيقا ، إن شاء الله .
ثمّ اعلم : أنّ التسوية والتعديل لا يكونان إلَّا بأحدية فيما به الاشتراك بين الأجزاء الكلَّية ، المتميّز بعضها عن البعض بالذات والخصوصيات .
وتوحّد الجميع لسراية الوجود بالوحدة في حقائق المراتب ، وتوحيد تعديداتها وتمييزاتها بالوجود الواحد الظاهر بها والظاهرة هي به وفيه .
فإذا توحّدت الآحاد والأفراد بالوجود الواحد الموحّد بسرّ أحدية الجمع السارية في حقائق القابل والمقبول ، والحامل والمحمول ، والظاهر والمظهر ، والمتجلَّي والمجلى ، اضمحلَّت أحكام ما به المباينة والامتياز والاثنينيّة .
وتلاشت آثار النسب التعديدية حين استعداد القابل لقبول نفخ الروح الإلهي بالتوجّه النفسي الرحماني ، فلمّا ظهر الحق بأسمائه في العالم بصورة الكثرة الفرقانية التفصيلية ، استعدّ لنفخ روح الأحدية الجمعية الإنسانية ، فما بعد التفصيل إلَّا الجمع ، فافهم .
وقول الشيخ رضي الله عنه : ( لقبول الفيض التجلَّي الدائم ) إن كان"الدائم" مجرورا ، فـ "التجلَّي" بدل عن « الفيض » .
بمعنى أنّ التجلَّي الدائم هو الفيض ، أو عطف بيان ، ويسوغ إسقاط لام التعريف من « الفيض » وإضافته إلى « التجلَّي »
 فيقال :لقبول فيض التجلَّي ويجوز أيضا إبقاء اللام في « الفيض » بحالها ونصب الياء من
" التجلَّي " ورفع محلّ " الفيض " المجرور بإضافة « قبول » إليه.
يعني أنّ الفيض الأوّل المعدّ لقبول التجلَّي يكون هو القابل للتجلَّي ثانيا .
والفيض بعد تعيّنه في قابلية الماهية القابلة له بحسبها يستعدّ استعدادا ثانيا وجوديا قابلا للتجلَّي ، فيكون حينئذ قابل الحقّ إنّما هو الحقّ .
والفيض الأوّل الذي وجد به القابل أوّل مرّة يقبل التجلَّي الدائم الذي لم يزل ولا يزال لكون الحق المتجلَّي دائم التجلَّي بالاقتضاء الذاتي ، فإنّه فيّاض النور أبدا الآبدين .
وقوله رضي الله عنه : (وما بقي إلَّا قابل ، والقابل من فيضه الأقدس) بعد ذكر ما ذكر وإن أوهم أهل الوهم أنّه كالتكرار ، ولكن ليس كذلك ، ولكن ما ذكر إنّما ذكر بالضمن .
وهذا عطف على قوله : « وكان الحق أوجد العالم » وما بقي إلَّا قابل .
وما ذكر في البين هو حشو اللوزينج لزيادة البيان .
ولمّا كان الفيض دائما والقبول كذلك أيضا ، وجب لقابل الفيض أن يقبل بعد التلبّس بأحكام ماهية العالم وحقيقته ، والانصباغ بأحكام حقائقه تجلَّيات أخر لا تتناهى دائما أبدا الآبدين فإنّ ما دخل في الوجود ، وصار واجب الوجود بالوجود الحق الدائم ، فإنّه لا ينقلب عدما ، ولكنّ التعيّنات والظهورات والنشآت تنقلب عليه .
فإنّ قيل : قوله تعالى : " كُلُّ من عَلَيْها فانٍ "، وانقراض المشهود من الدنيا دليل صريح على انعدام الموجودات .
قلنا : متعلَّق الانعدام والفناء إنّما هو التعيّن الشخصي لا الوجود  المتعيّن في الحقيقة المعيّنة ، فيفنى تعيّن الوجود في مادّة تعيّن ، ويظهر في أخرى برزخيّ وحشريّ وجناني ، أو جهنّمي أو كينيّ ، هكذا إلى الأبد .
فالقابل والمقبول باقيان دائمان بالحق الدائم الباقي ، فافهم إن شاء الله تعالى فهاهنا مزلَّة أقدام الكثيرين من الأوّلين والآخرين ، والله يثبّتنا وإيّاك بالقول الثابت الحق إنّه عصمة المعتصم به وهو حسبنا وكفى ، والحمد لله .
وأمّا كون القابل من فيضه الأقدس فهو ، يعني : أنّ الحقائق والأعيان الثابتة في العلم الإلهي الأزلي قوابل الفيض الوجودي العيني ، وهي شؤون ذاتية وتجلَّيات ذاتيات اختصاصيات ، وتعيّنات علميات ، فإنّ مبدأ تعيّنات التجلَّيات الذاتيات .
هذه التعيّنات العلمية بأعيان العالم ، وحقائقها ومعنوياتها معان مجرّدة ونسب علمية متمايزة بالخصوصيات ، كتمايز النصفيّة والثلثية والربعية والخمسية في علم العالم بالواحد في مراتب العدد فتعيّن بهذا التجلَّي العلمي تميّز كلّ عين عين من الأعيان عن غيرها بموجب الخصوصيات الذاتية.
فتعيّن المعلومات في العلم الأزلي أزلا إنّما هو بالفيض الذاتي الأوّل الأقدس أوّلا ، فحصلت بهذا الفيض الأقدس الأوّل على وجود علمي وثبوت أزلي .
أعني تحقّق العلم بالمعلومات المعيّنة ، فتعيّنت الأعيان الثابتة من عين الأعيان بهذا الفيض الأوّل الأقدس ، كما أشرنا إلى ذلك في الغرّاء التائيّة بقولنا شعر :
وإذ عيّن الأعيان في علم ذاته   .....   على صور علمية أزلية
تعيّن بي معنى المعاني بعينه    .....   وعيني حرف الأحرف المعنوية
ثم تعلَّقت النسبة المخصّصة للإيجاد ، وهي المشيّة والإرادة الكليّة الذاتية ، وهي التعرّف والظهور التّام ثم تعلَّقت النسبة الاقتدارية أيضا بمتعلَّقها وهو المقدور بالتدبير والإعداد للتمكَّن عن قبول ما يفيض عليه النسبة الجودية الوهبيّة الذاتية للإيجاد.
ثم تداخلت كلَّيات النسب في أمّهاتها ، واشتكت وانتسبت الصورة الإلهية بأسمائها .
وتمثّلت الصورة المثلية المثالية فرقانية تفصيلية في مثال العالم ، وقرآنية جمعية كمالية في الصورة التي حذي عليها آدم ، فوجدت العوالم في أعيانها ، وشهدت الحقائق ، وزهرت الأنوار والأزهار والشقائق ، في الدرج والدقائق .
وثبتت الحروف في ألواح الوجود ، وارتسمت بحسب ما تعيّنت في صفحة أمّ الكتاب العلمي الأنفس بالفيض النفسي القدسي ، وارتقمت فكتبت الآيات البيّنات ، وسطرت الكلمات التامّات والسور الكاملات ، وملئت الصحف الزاهرات الطاهرات ، بالألسنة الإلهية الوجودية الظاهرات.
فالفيض الأوّلي في أوّل الانبعاث النفسي الرحماني ، تجلّ ذاتي نفسيّ في حضرتي العلم والشهود الذاتيين للحق ، وكما تعلَّقت النسبة العلمية والنسبة الشهودية بالمعلومات والمشهودات ، علم الحق بعضها قابلا للوجود ، وشهده حريّا بالفيض والإحسان والجود .
فأعطاه التمكَّن من القبول ، والتهيّؤ والاستعداد لقبول الوجود العيني الكمالي ، حتى قبل الوجود في عينه لنفسه ، وفي التجلَّي العلمي الأوّل كان وجوده وتحقّقه للحق في الحق لا في عينه ولا لعينه فالفيض الوجودي الأوّل العيني المقبول هو القابل ثانيا للتجلَّي الوجودي العيني الوارد عليه ، فافهم .
فهذا معنى قوله : " والقابل من فيضه الأقدس " فإنّ الأقدسية مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة والتجليات الأسمائية الموجبة لوجود العالم كلَّها قدسيّة ، ولكنّ التجلَّي الذاتيّ والفيض الغيبيّ من غيوب الشؤون الذاتية وهو الفيض الأقدس ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فالأمر كلَّه منه ، ابتداؤه وانتهاؤه " وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " ، كما ابتدأ منه ) .
يعني رضي الله عنه : مبدأ أمر الوجود ومنتهاه من الحق ، وهذا غير مناف لكون المنتهى إليه فإنّه منه بدأ وإليه يعود ، وما ثمّ إلَّا هو ، فهو القابل من حيث ظاهريته ومظهريته ، وهو المقبول من حيث باطنه وعينه ، فالوجود المقبول المتعيّن ، والمرتبة القابلة المتعيّنة  له للمتبيّن.
والأمر محصور بين الوجود والمرتبة ، والمرتبة المظهر ، والمتعيّن بها الظاهر الوجود الحقّ الباطن ، والظاهر مجلى للباطن ، والباطن عين الظاهر بالمظاهر وفيها ، والكلّ من العين الغيبيّة .
ثم دائما من الغيب إلى الشهادة ، ومن الشهادة إلى الغيب ، ومن العلم إلى العين ومن العين إلى العين ، وما ثمّ إلَّا هو ، هو هو ، إليه المصير .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة ) .
قال العبد : ولمّا كان المراد بالإيجاد هو كمال الجلاء والاستجلاء ولم يحصل إلَّا بالإنسان وفي الصورة الإنسانية المثلية الكمالية الإلهية التي حذاها الله حذو صورته المقدّسة.
كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " خلق الله آدم على صورته ".
 وفي رواية " على صورة الرحمن ".
وجاء في أوّل التوراة كما ذكرنا أوّلا : " نريد أن نخلق إنسانا على مثالنا وشكلنا وصورتنا ".
كما قال الله تبارك وتعالى ، وكما أنّ صورة الرحمن مستوية على عرش الوجود .
كذلك صورة الله مستوية على عرش قلب العبد المؤمن ، كشفا وشهودا وإيمانا وصدقا وحقّا موجودا . قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حكاية عن الله تعالى : "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن ".
فالعبد المؤمن هو القابل للكلّ ، والكون الجامع الإلَّيّ الذي يظهر به الأسماء والصفات والذات على ما هي عليها من الكمال يؤمن بقابليّته الكلَّية المحيطة .
ويعطي الأمان صور الذات والأسماء والصفات الظاهرة في مظهريته عن التغيّر والتحريف ، فيظهر صورها في مرآته الكاملة كاملة ومؤمن أيضا ، أي معطي الأمان صور النسب وحقائقها أيضا من عدم ظهور آثارها من خفاء حكم الغيب والعدم .
بإظهارها في محالّ أحكامها وأسرارها في حقائق مظهرياته المعنوية والروحانية والطبيعية والعنصرية والمثالية .
فالإنسان هو المظهر الكلَّي والمقصد الغائي الأصلي ، حامل الأمانة الإلهية ، وصاحب الصورة المثلية المنزّهة عن المثلية .
فقبوله للتجلَّي الإلهي أكمل القبول ، لأنّه ما من قابل من القوابل يقبل الفيض على نحو من القبول وتعيّن الصورة الإلهية بمظهريته إلَّا وفي الإنسان الكامل مثال ذلك على الوجه الأكمل والأتمّ فروحانيته أتمّ الروحانيات وأكملها ، وطبيعته العنصرية أجمع الأمزجة وأعدلها .
ونشأته أوسع النشآت وأفضلها وأشملها ، واستعداده لظهور الحق وتجلَّيه أعمّ المظهريات والاستعدادات وأقبلها .
وتعيّن صورة الحق والخلق في مظهريته أكمل التعيّنات وأجلَّها ، وبه حصل كمال الجلاء والاستجلاء ، وبه اتّصل كمال الذات بكمال الأسماء .
وكان آدم عليه السّلام أوّل الصورة الإنسانية العنصرية ، فهو عين جلاء تلك المرآة المسوّاة شبحا لا روح فيه قبل وجود هذه النشأة الإنسانية الكمالية ، وجلى الحقّ هذا المجلى الأتمّ والمظهر الأعمّ ، وجلا به الصدأ الذي كان في شخص العالم .
وتجلَّى له فيه تجلَّيا كاملا ، فرأى نفسه فيه ، كما تقتضيه ذاته الكمالية ، وظهر لنفسه فيه ظهورا جامعا بين الكمال الأسمائي والكمال الذاتي ، وكمل به العالم أيضا .
فظهر الحق به على أكمل صورة لأنّه على صورة آدم الذي هو على صورة الحق ، فكان آدم عين قابلية العالم وإنسان عينه وعين جلاء قلبه القابل للتجلَّي الكمالي الجمعي الإلهي.
 فالصورة الإلهية الظاهرة في مرآتيته هي روح العالم ، والمظهرية الإنسانية هو القلب القابل المؤمن لصورة الحق الظاهر فيه وبه عن التغيّر والتحريف عمّا هي عليه في نفسها ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبّر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير ) .
قال العبد أيّده الله به : اعلم : أنّ الملائكة هي أرواح القوى القائمة بالصورة الحسّيّة الجسمية ، والأرواح النفسية والعقلية القدسية ، وتسميتها ملائكة لكونها روابط وموصلات للأحكام الربانية والآثار الإلهيّة إلى العوالم الجسمانية فإنّ الملك في اللغة هو القوّة والشدّة ، فلمّا قويت هذه الأرواح بالأنوار الربانية ، وتأيّدت واشتدّت بها ، وقويت النسب الربانية والأسماء أيضا بها وعلى إيقاع أحكامها وآثارها وإيصال أنوارها وإظهارها ، سمّيت ملائكة .
وهم ينقسمون إلى:
 علويّ روحاني .
 وسفلي طبيعي .
 وعنصري .
ومثالي نوراني .
فمنهم المهيّمون ، ومنهم المسخّرون ، ومنهم المولَّدة من الأعمال والأقوال والأنفاس ، والصافّون والحافّون والعالمون .
ثم العلوي الروحاني :
إمّا مجرّد عن المادّة والطبيعة وهم عالم العقول والمهيّمة ، وإمّا متعلَّقة بالمادّة ، والمتعلَّق بالمادّة إمّا متعلَّق بمادّة معيّنة ، أو بمادّة غير معيّنة وللمحقّق المكاشف .
هاهنا بحث مع غير المكاشف منهم وذلك أنّ مشرب التحقيق الأتمّ يقضي أن لا تخلو الأرواح عن مادة ما فإنّ الصور لا تستغني في الوجود عن المادّة.
فكذلك الصور الروحية والصور العقلية المتمايز بعضها عن بعض والمتغاير بعضها بعضها لا بدّ لها من مادّة صالحة لتصوّر تلك الصورة.
ولكن لا يلزم أن تكون مادتها طبيعية أو عنصرية ، بل تكون مادّتها من نور النفس الرحماني ، أو تكون مادتها من نور التجلَّي الوجودي ، أو نفس النفس ، أو من العماء الآتي حديثه فيما بعد وغيره والمقدّم أيضا ذكره فيما سلف في أسرار حروف الاسم" الله " فتذكَّر .
فالعقول والأرواح العالية المجرّدة عند الحكيم المكاشف إنّما هي وجودات متعيّنة في الماهيات والحقائق البسيطة ، صوّرها الله من العماء.
 وهو النفس المتضاعف المتكاثف بتوالي الفيض النفسي الرحماني المنفّس عن القابل ، والقابل من تأثير القابل المتعيّن والانفعال والانعقاد صورا نورية .
فمادّة هذه الصور العقلية والأرواح العليّة الإلَّيّة هي العماء ، حقيقة الحقائق وجوهر الجواهر وهويّة الكلّ وأصلها وهيولاها الحاملة لصور وجوبها وإمكانها ، وهي الهيولى السابقة .
ولقد استقصينا القول فيه في هذا الكتاب ،وسنعيد الكلام عليه ، فلا تظنّها تكرارا ،
لعلّ الله يجود بلائحة من علمها لأهل الاستعداد ، والله الموفّق للرشاد .
فإنّ العلم بها لا يحصل إلَّا بتعليم الحق وتجلَّيه وتعريفه بما يخصّ به بعض عبيده الصالحين ، ولا يعرفه العقلاء بالفكر النظري والقانون الفكري من تركيب المقدّمات وترتيب المفردات.
بل بالتخلَّي عن الشواغل والعلائق ، والتوجّه التامّ بأحدية العزيمة ، وصمود القلب إلى الموجد المتجلَّي بالعلم الحقيقي والبرهان الكشفي والاطَّلاع الشهودي والتعريف الإلهي الوجودي بعد المناسبة الذاتية والمرتبية .
ثم الملائكة العالية الموجودة من المادّة العمائيّة هم الأرواح العالية المهيّمة .
ومنهم العقل الأوّل أبو العقول وهو القلم الأعلى ، وفي مرتبته النفس الكلَّيّة من وجه ، وهي اللوح المحفوظ في العرف الشرعي ، والمادّة العمائية التي قبلت هذه الصور النورية الروحية هي النون أعني الدواة التي أقسم الله بها في القرآن العزيز بقوله : " ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ".
 ودون هذه المرتبة الأرواح التي مادّتها مثاليّة نورانية مطلقة ، وطبيعية نورانية ، وعنصرية غير نورانية ، ومثالية مقيّدة خيالية .
يوجدها الله من الأعمال والأنفاس والأخلاق وهي الملائكة المولَّدة .
فعلى هذا لا يخلو روح عن مادّة يفعل فيها ما يشاء من الصور ، فإمّا أنفسيّة حقيقية ، وإمّا ربّانية إلهية حقانية وذلك في عماء الربّ وإمّا عمائيّة كيانية .
إمّا نفسية رحمانية ، أو مثالية نورانية ، أو طبيعية كلَّية عرشية محيطة وفلكية كذلك ، أو عنصرية سماوية أو كوكبيّة أسطقسّيّة مائية وهوائية ونارية وأرضية ، والموادّ من الأرضية ما يغلب على نشأته الأرضية وكذلك غيرها .
ثم اعلم : أنّ الملائكة لا تنحصر عددا إلَّا بسدنة الأسماء الإلهيّة التي لا تنحصر ، والكلمات والآيات التي لا تنفد ولا تتناهى .
وهي أرواح القوى المنبثّة في العوالم العلوية والسفلية ، والخواصّ المنتشرة اللازمة للأعيان الوجودية المتصوّرة المتعيّنة بحسب الخصوصيات ، وبمقتضى القوابل غير مجعولة الاستعداد ، لكل قوّة من هذه القوى روح من الأرواح له صورة نورية طبيعية وعنصرية على اختلافها وكثرتها ، وقد يتوسّع في إطلاق بعض صورها روحا للبعض الآخر بالأشرفية والأفضلية المرتبية .
كما أنّ الروح الملكي الذي هو روح درجة الطالع أفضل وأشرف وأصفى وأنور وأقرب إلى الوحدة والبساطة من الروح المدبّر لهذا الهيكل العنصري من وجه لأنّ علَّته وسببه أفضل وأعلى وأقدم وأبقى ، والأرواح المدبّرة للأجسام العنصرية فائضة من الأرواح العلوية السماوية .
وإن كان بعض الأرواح المدبّرة لبعض الأجسام البشرية أكمل من سائر الأرواح العلوية والسفلية ، فإنّ ذلك لا ينافي ما ذكرنا لكون ذلك باعتبار حصول التجلَّي الكمالي الإلهيّ الأحدي الجمعي .
وأمّا الأرواح المدبّرة للأجسام البشرية من نوع الإنسان الحيوان فلا خلاف في قصورها مطلقا عن درجة أيّ روح فرضنا من الأرواح الملكية والفلكية ، فاعلم ذلك .
ولمّا كانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم ، تبيّن فيما سلف أن ليس فيها قوّة القيام بمرآتية الذات من حيث هي هي ولا من حيث أحدية جمع الذات ، ولا بمظهرية الأسماء جمعا وفرادى .
وأنّ المظهر الكامل الجامع لمظهريات التجلَّيات الذاتية الكمالية الكلَّية هو الإنسان الكامل الجامع بين مظهرية الذات المطلقة بإطلاق قابليته الكلَّية ، وبين مظهرية الأسماء والصفات والأفعال.
بما في نشأته الكلَّية من الجمعية والاعتدال ، وبما في مظهريته من الحيطة والسعة والكمال ، وهو كذلك جامع أيضا بين الحقائق الحقيّة الوجوبية ونسب الأسماء الإلهيّة الربوبية ، وبين الحقائق الإمكانية والأعيان الكيانية.
 وأمّا كماله فلإحاطته بين الحقيقتين ، وشموله لجميع ما في العالمين ولجمعه كذلك بين البحرين ، فهو المظهر الأتمّ ، والمنشأ الجامع الأعمّ ، والبحر المحيط الزاخر الخضمّ ، والطود الراسخ الأشمخ الأشمّ.
فكانت الملائكة صور قواه الروحانية لأنّ فيها قوى كثيرة غير القوى التي للملائكة المنبثّة في العالم صورها التفصيلية .
فإنّ الأرواح الخبيثة والشياطين والعفاريت والمردة أيضا من صور بعض قواها ، وكذلك جميع الحيوانات الماشية الساعية والسابحة والطائرة .
وكذلك الأسماء الإلهية صور قوى هذا الإنسان ، وكذلك الدوابّ والبهائم والحشرات والسباع وغير ذلك ممّا لا نذكره اعتمادا على فهمك " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكانت الملائكة له كالقوّة الحسيّة والروحانية التي في النشأة الإنسانية .
وكلّ قوّة منها محجوبة بنفسها ، لا ترى أفضل من ذاتها ) .
قال العبد أيّده الله به : القوى الحسّية التي في نشأة الإنسان هي التي متعلَّقاتها المحسوسات كالإبصار والسماع والشّم والذوق واللمس وما تحت هذه الكلَّيات من الأنواع والشخصيات .
وأمّا القوى الروحانية فكالمتخيّلة والمفكَّرة والحافظة والذاكرة والعاقلة والناطقة .
وهذه القوى الكلَّية وشخصياتها في حيطة الروح النفساني ، ومنشؤها ومجاري تصرّفاتها وأحكامها وآثارها الدماغ ، فكالقوى الطبيعية مثل الجاذبة والماسكة والهاضمة والغاذية والمنمية والمربيّة والمولَّدة والمصوّرة والدافعة وشخصياتها راجعة إلى الروح الطبيعي .
وكالعلم والحلم والوقار والإناءة والشجاعة والعدالة والسياسة والنخوة والرئاسة وغيرها ممّا تحتها من المشخّصات والأنواع بالمماثلة والمشاكلة والمباينة والمنافرة عائدة إلى الروح الحقيقي الحيواني والنفساني .
وكما أنّ هذه القوى منبثّة في أقطار نشأة الإنسان وإن كان لكل جنس وصنف ونوع من هذه القوى محلّ خصيص بها .
 هو محلّ ظهور أحكامه وآثاره ومنشأ حقائقه وأسراره ، ولكن حكم جمعيّة الإنسان سار في الكلّ بالكل فكذلك العالم الذي هو الإنسان الكبير في زعمهم .
كلَّيات هذه القوى وأمّهاتها بجزئياتها وأنواعها وشخصياتها منتشرة ومنبثّة في فضاء السماوات والأرضين وما بينهما وما فوقهما من العوالم ، وتعيّنات هذه القوى والأرواح في كلّ حال بما يناسبه ويوافقه على الوجه الذي يلائمه ويطابقه .
وبها ملاك الأمر النازل من حضرات الربوبية ، وهي في الحقيقة صور متعلَّقات للنسب الربانية ، وبها يقوى الوجود النفسي على التعيّنات وتنوّعات الظهور والتجلَّيات ، فافهم .
ولأنّ كلّ قوّة منها مجلى لتجلَّي الأحدية الجمعية ، ولكن تعيّن سرّ الجمع والأحدية فيه ليس إلَّا بحسبه ، وظهور التجلَّي فيه يقتضي خصوصيّته ، فكانت كل قوّة منها لهذا محجوبة بنفسها .
لا ترى أفضل من ذاتها ، وذلك كذلك ، لكون الكلّ في الكلّ ولكنّها غابت عن أشياء كثيرة بمحبّتها لنفسها ، كما قال : « حبّك الشيء يعمي ويصمّ » فإنّ كون الكلّ في كل منها بحسبه لا بحسب الكلّ ، وظهور الكلّ بحسب الكلّ لا يكون إلَّا في الكلّ .
ولكنّ الكلّ له ثلاث مراتب :
الأولى  : مرتبة جمع الجمع والأحدية ، وهي الحقيقة الإنسانية الإلهية التي حذي آدم عليها .
والثانية : صورة التفصيل الإنساني الإلهيّ ، أعني العالم بشرط وجود الإنسان الكامل في العالم .
والثالثة : صورة أحدية جمع الجمع الإنساني الكمالي ، فظهور الكلّ في مرتبة جمع الجمع الأحدي لا تفصيل فيه ، وأنّه مرتبة الإجمال.
وظهور الكلّ في مرتبة أحدية جمع الجمع الإنساني ظهور كامل جامع بين الجمع والتفصيل ، والقوّة والفعل ، فإنّ الكلّ في الكلّ إنسان كامل بالقوّة دفعة بالفعل في كل زمان بالتدريج ، كما قال المترجم ، شعر :
تجمّعت في فؤاده همم   ....        ملء فؤاد الزمان إحداها
فإن أتى دهره بأزمنة   .....        أوسع من ذا الزمان أبداها
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأنّ فيها ) يعني في كلّ قوّة منها ( فيما تزعم الأهلية لكل منصب عال ، ومنزلة رفيعة عند الله ، لما عندها من الجمعية الإلهية بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي ، وإلى جانب حقيقة الحقائق ) .
قال العبد : يعني رضي الله عنه : أنّ كلّ قوّة من هذه القوى والأرواح الملكية تزعم في نفسها أنّ لها أهلية كلّ منزلة عالية وفضيلة سامية عند الله من القيام بمظهريات الأسماء والصفات والشؤون والتجلَّيات والسمات والسبحات .
لما تحقّق في نفسها أنّ لها مرتبة الجمعية الإلهية بين ما هو راجع من تلك المناصب والمنازل الرفيعة إلى الحضرة الإلهية الوجوبية وحقائق نسب الربوبية ، وبين ما يرجع منها إلى جانب حقيقة الحقائق المظهرية الكيانية .
فإن لحقيقة حقائق العالم وحضرة الإمكان جمعية خصيصة بها ، ولكلّ منها خصوص في جمعية ليس للآخر كما ستعلم . وقد علمت أنّ الكمالات في الجمع والاستيعاب والإحاطة .
فلمّا رأت وظنّت كلّ قوّة منها أنّ فيها الجمعية بين الجمعية الإلهية والجمعية الكيانية ، زعمت أنّ لها أهلية كلّ فضيلة وكمال فحبست بهذا الزعم عن كمال الحق الظاهر في الكلّ بعين الكلّ ، فزكَّت نفسها وجرحت غيرها وخرجت عن الإنصاف .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( و في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلَّية التي حصرت قوابل العالم كلَّه أعلاه وأسفله ) .
عطف على قوله : " إلى جانب الحق ، وإلى جانب حقيقة الحقائق " وإلى ما تقتضيه الطبيعة الكليّة في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف . وفيه تقديم وتأخير .
والطبيعة الكلّ هي الطبيعة الكليّة و « الكلّ » في هذه العبارة بدل أو عطف بيان ، بمعنى أنّ الكلّ طبيعة واحدة والطبيعة التي هي الكلّ والطبيعة الكلَّية في مشرب التحقيق إشارة إلى الحقيقة الإلهية الكلَّية الحاصرة لقوابل العالم وموادّها الفعّالة للصور كلَّها .
وهي ظاهرية الألوهية وباطنها الإلهية ، وهذه الحقيقة تفعل الصور الأسمائية بباطنها في المادّة العمائية وهي منها وعينها ، ولا امتياز بينهما إلَّا في التعقّل لا في العين ، فإنّ النشأة واحدة جامعة بحقيقتها للصور الحقّانية الوجوبية والصور الخلقية الكونية .
ثم اعلم أنّ الحقائق ثلاث :
الأولى  : حقيقة مطلقة بالذات ، فعّالة ، مؤثرة ، واحدة ، عالية واجب لها [ الوجود ] بذاتها من ذاتها ، وهي حقيقة الله سبحانه وتعالى .
والثانية : حقيقة مقيّدة ، منفعلة ، متأثّرة ، سافلة ، قابلة للوجود من الحقيقة الواجبة بالفيض والتجلَّى وهي حقيقة العالم .
وحقيقة ثالثة : أحدية جامعة بين الإطلاق والتقييد ، والفعل والانفعال ، والتأثير والتأثّر ، فهي مطلقة من وجه ونسبة ، ومقيّدة من أخرى ، فعّالة من جهة ، منفعلة من أخرى . وهذه الحقيقة أحدية جمع الحقيقتين ، ولها مرتبة الأوليّة الكبرى والآخرية العظمى ، وذلك لأنّ الحقيقة الفعّالة المطلقة في مقابلة الحقيقة المنفعلة المقيّدة ، وكلّ مفترقين فلا بدّ لهما من أصل هما فيه واحد مجمل ، وهو فيهما متعدّد مفصّل ، إذ الواحد أصل العدد والعدد تفصيل الواحد .
وكل واحدة من هذه الحقائق الثلاث حقيقة الحقائق التي تحتها ، ولمّا سرت أحدية جمع الوجود في كل حقيقة من الجزئيات والشخصيات ، انبعثت إنائيّة كلّ تعيّن تعين بأنّ له استحقاق الكمال الكلَّي الأحدي من حيث ما أشرنا إليه وما تحقّقت من أنّ تعيّن الكمال الأحدي الجمعي الأكبر إنّما يكون بحسب القابل واستعداده كما مرّ .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكريّ بل هذا الفنّ من الإدراك لا يكون إلَّا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه ).
قال العبد أيّده الله به : هذا إشارة إلى علم الطبيعة الكلّ التي حصرت قوابل العالم أعلاه وأسفله ، والطبيعة الكلَّية إشارة إلى ظاهرية الحقيقة الفعّالة للصور ، كما ذكرنا .
واعلم : أنّ الصور أعمّ ممّا عرفت عرفا في تعريف العرف الفلسفي الظاهر والنظر الرسمي ، والكشف والتحقيق يقضيان بأنّها اعمّ ممّا عرفوا وعرّفوا ، ولا تختصّ بالجسمانية ، بل قد تكون الصور عقلية وخيالية وذهنية ونورية وروحانية وإلهية.
كما جاء في الصحيح : « إنّ الله خلق آدم على صورته » فللَّه تعالى صورة إلهية نورية لائقة بجنابه تعالى.
ويقال : صورة المسألة وصورة الحال .
وقال : " رأيت ربّي في أحسن صورة ".
 وكان الروح الأمين يأتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في صورة " دحية " وغيره .
وقد تمثّل لمريم " بَشَراً سَوِيًّا " مع تحقّق أنّ الأرواح غير متحيّزة .
فكان  ظهور روحانيّ في صورة مثالية ، وحقيقة الصورة هيئة اجتماعية من أوضاع شكلية في أي مادّة فرضت في أيّ أجزاء قدّرت ومثّلت ، فافهم .
وإذا تحقّقت حقيقة الصورة ، علمت أنّها أعمّ ممّا قيل ، والصور في طور التحقيق الكشفي علوية وسفلية :
والعلوية حقيقية وهي صور أسماء الربوبية والحقائق الوجوبية ، ومادّة هذه الصور وهيولاها عماء الربّ ، والحقيقة الفعّالة ، لها أحدية جمع ذات الألوهة ، وظاهرها الطبيعة الكلية . والعلوية الإضافية هي حقائق الأرواح العقلية والأرواح المهيّمة والأرواح النفسية والملكية المهيّميّة ، ومادّة هذه الصور الروحانية في مشرب التحقيق والكشف النور .
وأمّا الصور السفلية الإمكانية من الحقائق الكيانية مطلقة فهي صور الحقائق الإمكانية والنسب المظهرية الكيانية .
وهذه الصور أيضا منقسمة إلى علوية وسفلية ، فالعلوية منها ما ذكرنا من عالم الأمر أنّها علوية إضافية ، فإنّها علوية بالنسبة إلى الحقائق الجسمانية ، وموادّها وهيولاها عماء المربوب والكون من النفس الرحماني ، ويسمّى هذا العماء عماء ، لكونه مشوبا بالظلمة .
ومن الصور العلوية الكونية صور عالم المثال المطلق والمقيّد وعالم البرازخ ، ومادّة هذه الصور وهيولاها الأنفاس والأعمال والأخلاق والملكات والنعوت والصفات .
وأمّا السفلية الكونية فهي صور عالم الأجسام ، وهي أيضا علوية وسفلية :
فالعلويات هي العرش والكرسي والأفلاك والكواكب والسماوات ، ومادّتها الجسم الكلَّي .
والسفلية الجسمانية منها فهي العناصر والعنصريات ، وهي أيضا علوية وسفلية :
فالعلوية منها هي صور الأرواح الهوائية والنارية والمارجية ، ومادّة هذه الصور الهواء والنار وما اختلط منهما مع باقي الثقلين من الأركان المغلوبين في الخفيفين كما ذكرنا في الموضع الأنسب بذلك.
والسفلية الحقيقية هي ما غلب في نشأته الثقيلان وهما الأرض والماء على الخفيفين وهما النار والهواء
وهي ثلاث :
صور معدنية .
وصور نباتية .
وصور حيوانية .
وكل عالم من هذه العوالم يشتمل على صور شخصيات لا تتناهى ولا يحصيها إلَّا الله تعالى .
والطبيعة هي الحقيقة الحاملة لهذه الصور كلَّها من كونها عين المادّة من وجه ، ومن وجه أخرى الفعّالة لهذه الصور كلَّها ، وحقيقتها هي الأحدية الجمعية الذاتية الفعّالة لصورتها في نفسها بنفسها . فالطبيعة الكلّ وإن كانت مظهر الفعل الذاتي الإلهي .
ولكن حقيقتها حقيقة أحدية جمع الصور الفعلية والانفعالية في العوالم الربانية والعوالم الكيانية ، والصورة الكلية المطلقة منفعلة على الإطلاق في المادّة العمائية الكلَّية الكبرى عن هذه الحقيقة الفعلية الذاتية للحقيقة الإلهية الكامنة في التعيّن الأوّل ، وهي منه وفيه ، والفاعل هو الله .
والطبيعة باعتبار آخر من قوى النفس الكليّة سارية في الأجسام الطبيعية السفلية والأجرام العلوية ، فاعلة لصورها المنطبعة في موادّها الهيولانية المعلومة لحكماء الرسوم .
وبالاعتبار الأوّل قوّة كلَّية من قوى النفس الإلهية الفعّالة للصور كلَّها معنويّها العلمية الإلهية الأزلية والعقلية والروحانية والنفسانية والمثالية والنورية والطبيعية والعنصرية والخيالية والذهنية والتصوريّة واللفظية النفسية الإنسانية من صور الحروف والكلمات ، والرقية كذلك ، فافهم .
وما أظنّك تفهم فادرج ، فليس نفسك إن كنت مقيّدا للحق .
وقد أشار الله تعالى إلى نفسه التي من قوّتها هذه الطبيعة الكلَّية بقوله :" وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَه " , " وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي " .
فالطبيعة الكلية بهذا الاعتبار قوّة من قوى النفس الإلهية الذاتية الكلية التي لا يعلم ولا يحيط بما فيها إلَّا الله .
كما قال الله تعالى إخبارا وحكاية عن العبد الصالح : " تَعْلَمُ ما في نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ ". وكما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك لا أبلغ كلّ ما فيك " .
فلمّا كانت أحدية الجمعية الإلهية ، وأحدية الجمعية التي بحقيقة الحقائق ، وأحدية الجمع التي للطبيعة الكلية في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف كلَّها من الحقيّة والخلقية وما تحتهما سارية بالنفس الرحماني إلى الحقائق والقوى كلَّها بالكمالات والمناصب الراجعة إلى هذه الجمعيات وفي كل ملك ملك.
 وقوّة قوّة وصورة صورة ، زعمت أنّ لها أهلية هذه الكمالات كلَّها ، وأنّى لها ذلك ؟
وما لكلّ منها إلَّا مقام معلوم ، فافهم .
فإنّ هذا الكشف من أصعب العلوم الخصيصة بكشف مرتبة الكمال المحمدي الختمي ، ولا يناله إلَّا من ورث خاتم النبيين ومشكاة خاتم الأولياء المحمديين .
حقّقنا الله والإخوان والأودّاء الإلهيين بعلومه ومقاماته وأحواله ومشاهده ومنازلاته ومعاريجه ، إنّه عليم قدير حكيم خبير .
ثم اعلم : أنّ الكشف عبارة عن رفع الحجب الظلمانية والنورية التي بين الحقيقة وبين المدرك منّا ، فإن كان المدرك النفس أو العقل ، والمدارك قواهما النفسانية النظرية والفكرية بطريق ترتيب المقدّمات وترتيب المبادئ والمفردات على الوجه المؤدّي إلى الغايات.
 فهو طريق البرهان والاستدلال باللوازم القريبة والبعيدة على الملزومات ، فهي وإن كانت في زعم أهلها موصلة إلى إدراك الحقائق ، فليست موصلة إلى الحقائق من حيث هي هي في العلم الأزلي مجرّدة عن النسب والإضافات .
بل من كونها موجودات وملزومات ومعروضات للعوارض ولوازم ، لا من حيث هي حقائق مطلقة فإنّ ذلك لا يكون إلَّا بكشف حجب هذه اللوازم والعوارض من حيث هي حجب.
كذلك فإنّ الملزومية والعارضية والمعروضية نسب عارضة على الحقائق عند تلبّسها بالوجود العيني ، فإنّها في علم الله حقائق غيبيّة معنوية عريّة عن الوجود العيني .
أو قل : هي نسب علمية أزليّة ، أو صور معلوميّات الأشياء ، أو حروف الكلمات النفسية الرحمانية ، أو شؤون ذات اللاهوت ، أو الأعيان الثابتة في العلم الذاتي ، أو الماهيات ، أو هويات الموجودات من شأنها أنّها إذا وجدت لأعيانها ، كان بعضها ملزومات ومعروضات ، وبعضها لوازم وعوارض ولواحق .
كلّ هذه الاعتبارات والعبارات صادقة ، ويتداولها طائفة من المحقّقين في عرفهم الخاصّ بهم ، وهي في عرصة العلم الذاتي متمايزة بخصوصياتها الذاتية يدركها المكاشف عند رفع الأستار ، والتجلَّي والشهود متمايزة الحقائق لخصوصياتها ، ولا يدركها المفكَّر كذلك .
بل إنّما يدرك هذه الحقائق متلبّسة بالوجود العيني الموجب للتوحيد ، والرافع للتمييز والتعديد ، ونظنّ أنّها لم تزل على هذا ، وليس ذلك كذلك .
فإذا انشرحت العقول عن حجابيّات قيود العادات ، وانطلقت عن عقال ضمنيات الكائنات ، ويخلص السرّ الإلهيّ من أحكام التعيّن وآثار القيود الحجابية ، وانكشفت عن بصائرها وأبصارها الأستار ، حينئذ تأتّى للمدرك أن يدرك الحقائق على ما هي عليها في عالم الحقائق والمعاني .
وقد يظنّ العامّة من ظاهرية المتفلسفة ، أنّ علم الحقائق على ما هي عليها عبارة عن إدراكها في هذه اللوازم والعوارض واللواحق وأنّها لا تحقّق لحقائق بدونها في الخارج .
وهذا المتفلسف المدّعي للحكمة ما عرف الفرق بين حقائق الأشياء وبين أعيانها فإنّه ما أدرك إلَّا أعيان الموجودات ولم يدرك الحقائق من حيث إطلاقها وباطنها الحقيقية مجرّدة عن هذه العوارض واللوازم واللواحق ، وهو معذور لكون هذا العلم والشهود فوق طور العقل ، وراء طور الفكر ، والفرق بين المقامين بيّن ، فانظر ما ذا ترى ؟
وإذا تحقّقت ما ذكرنا ، علمت أنّ من الكشف ما هو عقلي وهو الذي يدركه العقل بجوهره النوري المطلق عن قيود الفكر والمزاج .
ومنه ما هو نفسانيّ وهو ما يحصل للنفوس المطلقة عن قيودها المزاجية بإدمان الرياضات والمجاهدات من النفوس الكلَّية العالية ، بكشف حجاب ما به المباينة والممايزة .
ومن الكشف ما هو روحاني ، وذلك بعد كشف الحجب النفسانية والعقلية ومطالعة الروح الإنساني لمطالع الأنفاس الرحمانية .
ومن الكشف ما هو رباني بطريق التجلَّي ، إمّا بالتنزّل والتدلَّي ، أو بالمعراج والتسلَّي ، أو بالمنازلات بأسرار التولَّي والتجلَّي ، أو بالجمع والتجلَّي بعد التخلَّي من الربّ المتولَّي .
وهو متعدّد بحسب تعدّدات الحضرات الأسمائية فإنّ للحق تجلَّيا من كل حضرة ، ومن الحضرات.
وأعلى التجلَّيات الأسمائية هو التجلَّي الإلهيّ الجمعيّ الأحديّ الذي يعطي المكاشفات الكلَّية الأحدية الجمعية ، وليس كلّ كشف كذلك.
وفوقها التجلَّي الذاتيّ الاختصاصيّ الذي يعطي الكشف بحقيقة الحقائق ومراتبها ، وبحقيقة النفس والعلماء ، وبالحقيقة الإلهية ، وبحقيقة الطبيعة الكلَّية ، فافهم واعرف قدر ما دسّيت لك من الأسرار ، والله وليّ التوفيق والتحقيق .
ثمّ أعلم : أنّ « الحقيقة » يصدق إطلاقها على كل ما له تحقّق في الجملة بالإطلاق العامّ ، فثمّ حقيقة تحقّقها بذاتها وهي حقيقة الحق ، وقد تكون حقيقة تحقّقها لا بذاتها .
بل تحقّقها بما هو متحقّق بذاته من ذاته ، إمّا في العلم أو في العين أو في بعض مراتب الوجود أو في جميعها دائما أو لا دائما ، بل في وقت دون وقت .
وعلى هذا يصدق إطلاق الحقيقة على الحق والخلق وعلى النسب والإضافات والجواهر والأعراض ، إن قلنا إنّ الخلق له تحقّق ، وقد تكون الحقيقة واحدة وكثيرة ، ومطلقة ومقيّدة ، فاعلم ذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فسمّي هذا المذكور إنسانا وخليفة . فأمّا إنسانيته فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلَّها .
وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر وهو المعبّر عنه بالبصر ، فلهذا سمّي إنسانا فإنّه به ينظر الحقّ إلى خلقه ، فيرحمهم ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ اعتبار الحقيقة الإنسانية على وجه يكون الاشتقاق اللفظي محفوظا فيه ، إن كان بمعنى الأنس من كونها مؤنسة للحقائق ومأنوسة.
وليس سائر الحقائق كذلك لكون كلّ حقيقة غيرها ممتازة عن غيرها بخصوصها المباين الموجب للغيرية بخلاف الحقيقة الإنسانية فإنّها أحدية جمع جميع الحقائق الحقيّة والخلقية والبرزخية .
فما امتازت الحقيقة الإنسانية عنها إلَّا بأحدية جمع الجمع والإحاطة ، وبها أنست بالكلّ ، وأنس بها الكلّ بعضه بالبعض .
ولهذا لم يكن مثله شيئا لعموم نشأته جميع النشئات ، وعدم عموم غيرها لأنّها ما من نشأة من النشآت إلَّا وفي نشأته نظيرتها .
وما من حقيقة  من الحقائق إلَّا وفي الحقيقة الإنسانية محتدها وأصلها لأنّ العوالم كلَّها على صورة الإنسان .
كما أنّ الإنسان على صورة الله فما من عرش ولا كرسي ولا فلك ولا روحاني ولا كوكب ولا منازل ولا بروج ولا سماوات ولا أرضين ولا نار ولا هواء ولا تراب ولا ماء ولا مولَّد من معدن ونبات وحيوان ماش أو ساع أو سائح أو طائر أو ناش إلَّا وفي النشأة الإنسانية أمثالها ونظائرها .
ولهذا قيل : الإنسان هو العالم الصغير .
وقالوا : العالم الإنسان الكبير .
وفيه نظر على ما سنبيّنه في موضعه ، فهو بصورته الطبيعية وبروحه جامع لخصائص عالم الأرواح من المهيّمة ومن العقول والنفوس والملائكة والجنّ ، وكذلك يجمع بحقيقته الإنسانية البرزخية بين بحريّ الوجوب والإمكان  وبين الإطلاق والتعيّن .
وقابليته أجمع القابليات ، ومظهريته أكمل المظهريات ، وما يخصّه من الفيض والتجلَّي أتمّ وأكمل وأعمّ وأشمل .
وبهذا استحقّ الخلافة وسجود الملائكة فإنّ السجود هو الدخول في الطاعة والتذلَّل والانقياد والخضوع.
فلمّا جمعت النشأة الإنسانية الكمالية بسعة قابليته وحيطة دائرة استعداده جميع الحقائق والقوى القائمة بصور العالم ، والمنتشرة والمطويّة منها في أعلاه وأسفله ، سجدت الملائكة التي هي عبارة عن صور أرواحها لآدم هو أوّل مظهر إنساني لافتقار العالم في كماله إلى وجوده واستغناء الإنسان بنشأته الكاملة عن العالم وما فيه .
فهو على حدته مغن عن العالم ، أو كان في مظهرية التجلَّي الذاتي الأحدي الجمعي والأسماء التفصيلية الفرعية .
والعالم بلا إنسان كامل غير كامل ولا كاف فيما ذكر .
ولهذا ما عرفته الملائكة إلَّا أسماء حين سألهم الحق عنها بقوله : " أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ " ، أي هؤلاء النسب والحقائق الإلهية الزمانية ، إشارة إلى حقائق الأسماء متجلَّية في صورها النورية وحقائق الموجودات القابلة لتلك التجليات .
فلمّا لم يعرف الملائكة أسماء تلك الصورة النورانية والحقائق المعنوية من حيث التمايز والخصوصيات التي تقوّمت بها نشأتهم ، قال الله تعالى : " يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ " أي أعلمهم وأخبرهم بأسمائهم .
أي بيّن المظاهر وأسماء الحق ، التي هم مستندون إليها في وجودهم فإنّ كلّ واحد منهم مظهر لحقيقة مخصوصة من حقائق أسماء الواجب الوجود ، وخادم لاسم معيّن ، وسادن لنسبة ربانية من النسب الإلهية ، فكلّ منهم لا يعرف الحقّ إلَّا من حيث مظهريته المعيّنة وقابليته الجزئية واستعداداته الخصوصية.
فالحق المسمّى بفتح الميم وآدم المسمّى بكسر الميم والملائكة لا يعرفون الحق ولا أنفسهم ولا ما يستند إليه من الأسماء إلَّا من وجه جزئي تعيّنيّ .
ولهذا لمّا أنبأهم آدم بأسمائهم في الحضرات الأسمائية ، وأظهر خصوصيات عبدانيات كلّ واحد منهم لاسم هو ربّه ، وأنبأهم بأسماء الحق ، التي هم مستندون إليها التي لها السلطان والحكم عليها.
 قالوا : " سبحانك لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ".
 فلهذا أنس بهذه الحقيقة الإنسانية الكلّ ، وأنس بالكلّ ، فسمّي الوجود الحق المتعيّن في هذه الحقيقة الكلَّية المطلقة إنسانا .
وهو « فعلان » من الأنس على صيغة المبالغة .
وسمّي أيضا إنسان العين إنسانا بهذا الاعتبار لأنّ العين تأنس بكلّ ما تقع عليه ولا يناسبه أيضا نور الحق المتعيّن بالجمع في نار الفرق .
وإيناس النور في النور مؤنس يعطي الأنس لناظر الناظر ، ولأنّ الإنسان من عين الإنسان آلة النظر ، وإدراك ظاهرية المبصرات وإبصار كلّ ذي بصر إنّما هو بحسبه .
وكان نظر الله أحديا جمعيا بأحدية جمع العلم والشهود لظاهرية أحدية جمعيات الحقائق والأشياء ، ولم يكن في الموجودات والحقائق حقيقة جمعية أحدية جامعة لجميع الجمعيات إلَّا هذا المظهر الأعمّ الأكمل ، والمنظر الأتمّ الأجمع الأوسع الأشمل ، به نظر الله في إبصاره لظاهريات الحقائق كلَّها ، فهو مجلى النظر الإلهي وإنسان العين المنزّهة ، فسمّاه بهذه الاعتبارات إنسانا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو الإنسان الحادث الأزلي ، والنشء الدائم الأبدي ) .
قال العبد أيّده الله به : أمّا حدوثه فهو من جهة صورته العنصرية خاصّة فإنّ له صورا علويّة فيما فوق العنصريات فقديمة ، علمية ونورية ، نفسية وروحية ، عقلية ونفسية ، ومثالية وطبيعية ، عرشية وملكية .
فالعلمية أزلية قائمة بقيام العلم ودائمة بدوام العالم الحق المشاهد الناظر بهذا الإنسان .
معنى قولهم : " الإنسان أزلي " وأمّا أزليّته فلأنّه العلَّة الغائيّة من التجلَّي الإيجادي.
وبه كمال الجلاء والاستجلاء ، والظهور الكلي المطلق بالإظهار والإنباء .
فهو أزليّ بأزليّة علم العالم ، كما أنّ العلم عين العالم ، فيصدق عليه أنّه أزليّ نسبة إلى الأزل ، وهو الضيق والضنك الذي كان لحقائق المعلومات حين استهلاكها في عين الذات العالم بها .
وأمّا كونه نشئا دائما أبدا فلأنّ الحقيقة الإنسانية هي المرآة الكلَّية الإلهية الأحدية ، والنشأة الدائمة الأبدية . وكما أنّه أحدية الجمع الأوّل الأزليّ .
فكذلك هو تفصيل ذلك الجمع وأحدية جمع جمع التفصيل والجمع ، وما ثمّ إلَّا هو ، فهو النشء الدائم الذي لا أوّل له إذ هو الأوّل والأبدي الذي لا آخر له إذ هو الآخر بعين ما هو الأوّل ، فهو الدائم . والنشء الذي هو الارتفاع في النموّ ، والازدياد والربوّ باعتبار أنّ العين الواحدة بتعيّنها في جميع مراتبها فرع زاد على اعتبار الأصل .
الذي هو عين الذات الواحدة التي اندمجت وتوحّدت فيها التعيّنات غير المتناهية لعدم تناهي التجلَّيات ، فبظهور ما كان كامنا في العين من أعيان النسب غير المتناهية تتحقّق حقيقة البشر لتلك العين الواحدة المنفصلة ، في مراتب الأعداد ، وكمال نشئها بكمال النشأة الإنسانية .
بل جميع مراتب النشء له فهو النشء الدائم ، وأوّل مراتب النشء الذاتيّ الدائم مرتبة النفس الرحماني بالنور الوجودي والفيض الجودي المنبعث من باطن قلب التعيّن الأوّل ، حاويا محيطا بجميع ما ينطوي عليه التعيّن الأوّل .
وينفعل انبعاث النفس الأحدي الجمعي وامتداده وتعاليه إلى الغاية المطلوبة التي تعلَّق بها التعيّن الأوّل الذي هو تاء الكناية في قوله :
" أردت " أو " أحببت " ، وهو كمال الجمع بين كمال الظهور وكمال البطون ، والكمال الذاتي والأسمائي ينشئ مراتب الوجود وذلك لأنّ النفس بخار هوائي أو هواء بخاري خارج من بطن المتنفّس إلى ظاهر الهواء .
هذا في الأنفاس المعهودة الجسمانية ، فاعلم في النفس الرحماني مثل ذلك فإنّ القلب الذي هو التعيّن الأوّل منطو على حقائق المظهرية والظاهرية والانفعالية التي هي الأجزاء الأرضية نظائرها .
وعلى خصائص النسب الوجودية وحقائق أسماء الربوبية التي بها ومنها حياة الحقائق المظهرية ولبنها ، وهي ضرب مثل للأجزاء الماديّة في نشء النفس والبخار لكون كل بخار أحدية جمع الأجزاء :
الهوائية ، والمائية ، وما تشبّث بهما من الأجزاء الأرضية المحلولة ، والنارية المذيبة الحلَّالة لتلك الأجزاء .
فامتدّ النفس الرحماني جامعا لحقائق الفعل والانفعال في حق حضرة الإمكان مقيّدة ، عقده برودة القوابل الأرضية المظهرية التي في عين الجوهر النفسي فإنّ فيها الفاعل والقابل .
فانعقدت الصور العمائية في هذا البخار المعنوي النوري ، فظهر النشء العمائي الأكبر ، فامتدّ النشء بسبب حقائقة الثلاث الذاتية على أنحاء ثلاثة في جهات ثلاث معنوية ، علوا وسفلا ووسطا ، جميعا أحديا برزخيا .
وتعيّن في عين النفس جميع الحقائق الفعلية والانفعالية ، فتعيّنت في النفس المتعالي الحقائق الإلهية المؤثّرة الفعّالة المنوّرة الشريفة صورا إلهية ربانية وتعيّنات وجوبية حقّانية ، وامتدّ النشء النفسي الممتدّ المنطوي على الحقائق المظهرية الأرضية الانفعالية إلى التحت والسفل بالطبيعة لما تقتضيه مرتبة الانفعال والتأثّر المظهري الكياني .
فملأ العماء بصورة المذكورة محيط فلك الإشارة ، وعقدها برودة جوّ الإمكان ، وانعقدت صور كيانية ، وتعيّنات وجودية إمكانية ، وتنوّعات تجلَّيات تقييدية روحانية ، وجسمانية ملكية وملكوتية ، غيبية وعينية وجبروتية .
فانتشأ النشء الكوني والعالم الخلقي ، وأوّل هذا النشء الكوني العقل والقلم واللوح والعرش والكرسي ، ثم طبقات السماوات ، ثم الأرضيّات على الترتيب المذكور .
حتى حصلت النشأة البشرية الإنسانية ، وجميع هذه النشآت نشأة هذا المسمّى إنسانا ومع قطع النظر عن الإنسان ، فإنّ الذات المطلقة مع تجلّ عن النشء والانتشاء .
فالإنسان الحقيقي هو النشء الدائم الأزلي الأبدي ، فما ثمّ إلَّا نشأة الإنسان في عالم الفرقان ، وفي مقام الجمع والقرآن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والكلمة الفاصلة الجامعة ) .
يشير رضي الله عنه إلى ما بيّنّا فيما تقدّم أنّ الكلام  ثلاث :
كلمة جامعة لحروف الفعل والتأثير
وأخرى جامعة لحروف الانفعال والتأثّر
وكلمة جامعة لحروف الجمع البرزخي الرابط بين الأعلى والأسفل ، والظاهر والباطن .
وهذه الحقائق والحروف والكلمات البرزخية جامعة بين حقائق الوجوب وحقائق الإمكان من وجه ، وفاصلة بينها أيضا باعتبار .
ومع كونها جامعة وفاصلة ليست لها عين زائدة ممتازة عن الطرفين امتيازا خارجا مخرجا عن كونها أحدية جمعها ، فهو الجامع الفاصل بهذا الاعتبار .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فتمّ العالم بوجوده ، فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم وهو محلّ النقش والعلامة ) .
يشير رضي الله عنه إلى ما سلف آنفا أنّه لولا الإنسان في العالم ، لم يحصل كمال الجلاء والاستجلاء ، الذي هو العلَّة الغائية من الإيجاد .
وأمّا قوله : « تمّ العالم بوجوده » ولم يقل « به » فلأنّ الإنسان له تعيّن أزلي علمي وبانسحاب الفيض الجودي العيني عليه تكمل مراتب ظهوره ونشره .
وأمّا كونه فصّ الخاتم فلأنّه محلّ نقش الحكمة الكلية المنقوشة بأحدية جمع نقوش الفصوص الحكمية كلَّها ، كما سبق ، فتذكَّر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( هو محلّ النقش ، والعلامة التي بها يختم الملك على خزانته وسمّاه خليفة من أجل هذا لأنّه تعالى الحافظ خلقه كما يحفظ الختم الخزائن ، فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلَّا بإذنه ، فاستخلفه في حفظ العالم ، فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ) .
قال العبد أيّده الله به : « نقش الفصّ » هو الكلام المحتوي على الحكمة التي اقتضت وجود العالم على الترتيب المشهود والنظام الموجود .
و « العلامة » هي خصوص المقام المحمدي من تلك الحضرة التي منها بحسبها تنزل الحكمة الخاصّة بذلك الفصّ فإنّ قلب كل نبيّ كامل هو محلّ نقش الحكمة .
والعلامة هي خصوص الحكمة المحمدية الإلهية من ذلك الاسم الذي تستند إليه حكمته المنزلة عليه ، وعلامة هذه الحكمة الإلهية أحدية جمع جميع التجلَّيات الأسمائية .
وبها يختم الملك بقوّته وشدّته ، فما يسدّ الخلل الذي تقتضيه التفرقة المباينة التي في حقائق العالم من الخصوصيات التي بها يتميّز بعضها عن بعض إلَّا بأحدية الجمع الجامع لصدعها ، والموجود لتفرقة جمعها .
وبها يقوى على حفظ خزائن العالم فيها ، وبها سرى سرّ أحدية الجمع النفسي الرحماني بالتجلَّي الوجودي الإحساني ، وجمع بين الحقائق المتبوعة وتوابعها .
والنسب الملزومة ولوازمها وعوارضها ولواحقها بعد التمييزات الذاتية التي لها في عالم المعاني من حضرة العلم الذاتي ، فإذا جمعها الوجود الواحد في هذه المثاني والمعاني ، وراب صدعها ، وشعب شعثها وجمعها .
انحفظت العوالم كلَّها ما دامت الخزائن مختومة بختم علامة أحدية الجمع الخصيص بالحكمة التي هي معنوية النقش المحيط بجميع النقوش الحكمية التفصيلية فتلك العلامة عبارة عن الإنسان الكامل الذي هي أحدية جمع جميع الجمعيات لأنّه الاسم الأعظم .
والاسم الأعظم هو العلامة على مسمّاه ، فهو ظاهرية الإنّيّة الإلهية ، والله هويّته وباطنه ، ولهذا سمّاه خليفة إذ الخليفة ظاهر بصورة مستخلفه في حفظ خزائنه .
والله تعالى هو الحافظ لخلقه بختمه على خزائنه ، فما دام هذا الختم الأحدي الجمعي عليها لا تتسلَّط على فتحها الحقائق المباينة والمتمايزة التي في حقائق خزائن العالم إلَّا بإذن الله .
فإذا أذن لهذا الخاتم الإنساني الكمالي الأحدي الجمعي بالخروج عن الدنيا ، وأمره بالانفكاك عن جزئيتها إلى الأخرى ، انتهت الجزئية وخرجت عنها السكينة .
وأمّا تسمية العالم بالجزئية فلما ذكرنا في شرح الخطبة أنّ حقائق العالم القابلة لتعيّنات التجلَّيات الوجودية بخصوصياتها هي التي تحقّقت بها حقائق الأسماء والصفات التي هي خزائن الآلاء والهبات ، ومنها ومن حضراتها تتنزّل البركات .
 فحقائق العالم خزائن هذه الخزائن الأسمائية ، فلا تزال خزائن العالم محفوظة ما دام فيها الإنسان الكامل ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا تراه إذا زال وفكّ الختم عن خزانة الدنيا ، لم يبق فيها ما أخزنه الحق ، وخرج ما كان فيها ، والتحق بعضه ببعضه ، وانتقل الأمر إلى الآخرة ، وكان  ختما على خزانة الآخرة ختما أبديا ) .
قال العبد : اعلم : أنّ دار الوجود واحدة ، وانقسامها إلى الدنيا والآخرة بالنسبة إليك لأنّهما صفتان للنشأة الإنسانية ، فأدنى نشأته الوجودية العينية النشأة العنصرية ، فهي الدنيا لدناءتها بالنسبة إلى نشأتها النورية الإلهية ، أو لدنوّها من فهم الإنسان الحيوان .
ولمّا كانت النشأة الإنسانية الكليّة في الدنيا نشأتين : نشأة فرقانية تفصيلية ، ونشأة أحدية جمعية قرآنية ، وهذه النشأة الدنياوية كثيفة ، وصورتها مقيّدة سخيفة من مادّة جامعة بين الظلمة والنور ، مشوبة فيها بأكدار الغصص والمحن نوريّة السرور .
وهي أيضا من قبيل النفس الناطقة ، والنفس الناطقة من بعض قواها القوّة العملية ، وهي ذاتية لها ، وبها يعمل الله لأجلها في كلّ نشأة وموطن صورة هيكلية ينزّل معانيها فيها ، ويظهر قواها وخصائصها وحقائقها بها ، ويحفظها ، ويقيها .
وكانت هذه النشأة الجامعة بين النور والظلمة لا تقتضي الدوام على هذه النظام والقوام ، ولا بدّ لها من الانخزام والانصرام ، لأنّ قوى مزاجه العنصرية غير وافية ، ولا لجميع ما في النفس من الحقائق والدقائق بكافية .
وهذه الحقيقة على العقول المنوّرة الصافية غير خافية فإنّ في النفس من الحقائق ما لا يظهر بهذه النشأة العنصرية الثقيلة ، مثل كون صورته روحانية نورانية لطيفة ملائمة للروح ، وخصائصه بحسب الروح لا بحسب المزاج ، بخلاف هذه النشأة العنصرية السفلية الثقيلة فإنّ الروح والنفس فيها بحسبها ، وكذلك خواصّهما وحقائقهما .
فلمّا لم تف هذه النشأة بذلك لكونها من مادّة متنافرة متضادّة وهيولى متباينة متحادّة ، وقد حصل لها بحمد الله في مدّة عمرها التي كانت تعمر فيها أرض جسدها من الأخلاق الفاضلة ، والملكات الكاملة والعلوم والأعمال الصالحة الحاصلة كمال فعلي لما صار لها جميع ما كان بالقوّة بالفعل .
فينشئ الله تعالى من ذلك بالقوّة العملية الذاتية للنفس ما إذا فكّ عن خزانة الدنيا ، وقبض الله إليه أنوار أسمائه التي هي حقائق خزائن النعم والآلاء الإلهية ، وأسرار خزائن خزائنه المذكورة قبضا يسيرا ، فتقلَّصت أنوار التجلَّيات إلى الحضرات .
والأرواح الجزئية المدبّرة إلى كلَّيات أرواح السماوات ، والتحق كلّ فرع في هذه النشأة إلى أصله الذي منه انبعث ، ولم يبق فيها مخزونات نعم الأسرار والأنوار ، وأرزاق الأحكام والآثار لاختلال القابل ، وزوال المظهر الزائل كما ذكرنا صورة أخراوية روحانية ملائمة للنفس الناطقة في جميع أفاعيلها وخصائصها بحسبها من مادّة روحانية حاصلة للنفس من تلك الأخلاق والأعمال والقوى والملكات الصالحة .
فتظهر بحقائقها وخصائصها وآثارها في تلك الصورة ظهورا يقتضي الدوام إلى الأبد غير مقيّدة بأجل معيّن وأمد معين واحد لأنّ مادّتها روحانية وحدانية نورية ، بخلاف هذه النشأة العنصرية الثقيلة المظلمة الحاصلة للنفس من عناصر مختلفة متباينة متضادّة تقتضي لحقائقها الانفكاك لولا جمع أحدية الجمع  النفسي النفسي لها بحياته الروحية النورية الباقية .
فاقتضت تلك النشأة الروحانية البقاء والدوام لرسوخ حقائقها وأصولها الروحانية في جوهر الروح أعني الأخلاق والنعوت والصفات والعلوم ودوام التجلَّي النفسي الإلهي فيها فإذا انتقل الأمر إلى الآخرة ، وظهرت النفوس والأرواح الإنسانية في صورها الروحانية البرزخية والمثالية والحشرية ، وغلبت الروحية على الصورية ، والنورية على الظلمة ، واختزن الحق الأسرار والأنوار والحقائق في تلك الصور الأخراوية ، " وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ".
 كان الإنسان بأحدية جمعه ختما على تلك النشأة الأخراوية إلى الأبد ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية ) .
يعني رضي الله عنه على الوجه الأفضل الأكمل ، فإنّ ظهور الحقائق الأسمائية في الصور الكليّة الأحدية الجمعية الكمالية ظهور جمعي أحدي كمالي ، بخلاف ظهورها في الصور التفصيلية الفرقانية فإنّ ظهورها فيها متفرّق تفصيليّ .
بمعنى أنّ ظهور الحقائق الأسمائية الإلهية في كل كامل كامل جمعي أحدي كلي بحسب المظهر الأجمع الأكمل ، وظهورها في كل جزء من العالم جزئي بحسبه كذلك.
وقد لا يظهر في أكثر أجزاء العالم أكثر الأسماء فضلا عن أن تظهر تماما بكمالها ، وذلك في أسماء مخصوصة بالإنسان ، وظهورها في الإنسان تماما على الوجه الأكمل .
قال رضي الله عنه : ( فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود ، وبه قامت الحجّة لله تعالى على الملائكة ) .
يعني رضي الله عنه : في قوله تعالى : " أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " .
قال رضي الله عنه : ( فتحفّظ بما وعظك الله بغيرك ، وانظر من أين أتي على من أتي عليه ) .
يريد إتيان المعاتبة وتوجّه المطالبة من قبل الحقّ على الملائكة في اعتراضهم على الحق وجرحهم لآدم وتزكيتهم أنفسهم .
قال رضي الله عنه : ( فإنّ الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليفة ، ولا وقفت مع ما تعطيه حضرة الحق من العبادة الذاتية ، فإنّه ما يعرف أحد من الحق إلَّا ما تعطيه ذاته  وليس للملائكة جمعية آدم ).
يريد رضي الله عنه عدم وقوف الملائكة مع الأدب الذي تقتضي مرتبة خليفة الله تعالى بعد إخباره تعالى لهم : أنّه " جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً " .
 وتعطيه نشأته الأحدية الجمعية من الكمال والإحاطة ، وعدم وقوفهم أيضا على ما توجب مرتبة الألوهية من الأدب والوقوف عند الأمر الإلهي ، فاعترضوا على الحق تعالى .
كما قال جلّ وعلا حكاية عنهم :  "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"
فجمعوا بين الاعتراض على الله والجرح والطعن فيمن عدّله الله وزكَّاه عندهم ، وبين تزكيتهم أنفسهم ، وكلّ هذه الأمور منافية لنشأتهم المقتضية أن لا يعصوا ما أمرهم الله به ، ويفعلوا ما يأمرهم به .
 والذي يقتضيه الأدب والتحقيق من العبيد بالنسبة إلى الحق أن لا يعترضوا عليه في أوامره ونواهيه ويمتثلوها .
والذي تقتضي نشأة الخليفة هو النزول إليه والدخول تحت حكم خلافته وجمعيّته ، لا الجرح والطعن فيه ، ولا سيّما ونشأتهم على ما ادّعوا من التسبيح والتقديس تقتضي عدم الاعتراض وحسن القبول والتلقّي لما يلقى إليه ويلقى .
فإن نشأتهم وحدانية بسيطة روحانية نورانية ، لا تقتضي الاعتراض ، فإنّه نزاع والنزاع من مقتضى التضاد والتباين والتنافر ، بل مقتضى نشأتهم الإيمان والطاعة والعبادة الذاتية والتنزيه والتقديس والخير لا غير .
إذ ليس لهم ولا لغيرهم أن يعرفوا كلّ ما في نفس الحقّ ، بل ما فيه من الحق ، ويعرفون الحق من حيث ما هم عليه "وليس للملائكة جمعيّة آدم" كما مرّ .
فكان الأوجب والأولى والأوجه والأحرى أن يتّصفوا بالإنصاف ، وينصفوا له بالاعتراف ، لا الاستنكاف والاعتساف لإحاطته وجمعيّته وسعته ، دونهم .
قال رضي الله عنه : ( ولا وقفت إلَّا مع الأسماء الإلهيّة التي تخصّها وسبّحت الحقّ بها وقدّسته) .
يعني أسماء التنزيه والتقديس :
كالسبّوح ، والقدّوس ، والطيّب ، والطاهر ، والنور ، والواحد ، والأحد ، والعليّ ، وأخواتهم « وما علمت أنّ لله أسماء ما وصل علمها إليها .
 كالخالق ، والرازق ، والمصوّر ، والسميع ، والبصير ، والمطعم ، وغير ذلك ممّا يتعلَّق بالتدبير والتسخير والملك والسلطان والنعيم والعذاب والموت والهلاك والسقم والشفاء ، وسائر الأسماء التي تخصّ عالم الأجسام والطبيعة " فما سبّحت الحقّ بها ولا قدّسته ، فغلب عليها ما ذكرناه  .
يعني رضي الله عنه ما عندها من الجمعية السارية في نشأتها بالنفس الرحماني الأحدي الجمعي  وحكم عليها هذا الحال ، فقالت من حيث النشأة  .
يعني : بلسان التنافي والتنافر الذي بين الوحدة والبساطة الملكيّتين وبين الكثرة والتركيب الجسمانيّين . "أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها " وليس إلَّا النزاع .
 يعني موجب الفساد وسفك الدماء وما شاكلهما وهو النزاع .
" وهو عين ما وقع منهم " في الاعتراض " فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق " والاعتراض على الله عين النزاع مع من لا منازع له ، وجرح آدم عين سفك دمه لأنّه طلب عدم خلقه وإيجاده .
ثم قال رضي الله عنه : ( فلولا أنّ نشأتهم تعطي ذلك ، ما قالوا في حق آدم ما قالوه ) .
يعني رضي الله عنه : النزاع والاعتراض من حيث ما ذكرنا من سراية أحدية جمع النشأة الطبيعية الكليّة ، « وهم لا يشعرون » بذلك لغلبة الحال وحكم البساطة والوحدة بالفعل ظاهرا ، وأعطى ذلك هذا الاعتراض والسعي في الجرح ، فقالوا في حق آدم ما قالوه وهم لا يشعرون .
قال رضي الله عنه : ( فلو عرفوا نفوسهم ، لعلموا ولو علموا لعصموا ) .
أي إنّ مقتضى ذاتهم ونوريّتهم وبساطتهم هو عدم الاعتراض والاعتساف ، والاتّصاف بحقائق الإنصاف . لعصموا عن وقوع المنازعة .
قال رضي الله عنه : ( ثمّ لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس والتسبيح .
وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة تقف عليها فما سبّحته بها ، ولا قدّسته عنها تقديس آدم وتسبيحه) .
قال العبد : اعلم : أنّ التسبيح تعريف الحق والثناء عليه بأسماء السلب والتنزيه ، ولمّا كان في نشأة آدم من حقائق الكمال ونقائضها من النقائص التي ليست في نشآت الملكية .
فما أثبت الملائكة على الحق أي وما عرفته من حيث تلك الكمالات الخصيصة بالجمعية الإنسانية ، ولا نزّهت الحقّ ولا قدّسته ولا سبّحته عن نقائض تلك الكمالات من النقائص تسبيح ذوق وتقديس حال .
تقديس آدم وتسبيحة لكونه جامعا لحقائق الكمالات ونقائضها وعدم جمعية الملائكة ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فوصف الحقّ لنا ما جرى لنقف عنده ونتعلَّم الأدب مع الله تعالى ، فلا ندّعي ما أنا متحقّق به وحاو عليه بالتقيّد فكيف أن نطلق في الدعوى ، فنعمّ بها ما ليس لي بحال ، ولا أنا  منه على علم ) .
يعني رضي الله عنه : كما ادّعت الملائكة مطلقا في التسبيح . " فنفتضح ؟ ! " عند المطالبة ، ونتعرّض المعاتبة .
قال رضي الله عنه : ( فهذا التعريف الإلهي ممّا أدّب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء . ثم نرجع إلى الحكمة فنقول ) .
مقام الأدب
قال العبد : اعلم : أنّ مقام الأدب أعلى المقامات ، ويقتضي المعاملة مع الحق والخلق بحسب ما تقتضي مراتبهما ، ولا يتحقّق به إلَّا أهل الأمانة  الإلهية .
وهي صورة الله تعالى التي حذي آدم عليها حين عرضها على سماوات الروحانية وأرض الجسمانيات " فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها " أي لم يطقن ذلك .
ولم يستطعن لعدم أحدية جمع الجمع عند منها " وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ ".
الكامل الحامل لواء الحمد ، وأحدية جمع جميع حقائق السيد والعبد ، " إِنَّه ُ كانَ ظَلُوماً " ، لعدوله عن العدل في استهلاك استعداده الكمال الكلَّيّ في أمور جزئية وأحوال ناقصة .
" جَهُولًا " برتبته أنّه هو المظهر الأتمّ الأشمل ، والخليفة الأكبر الأكمل فتعيّن اتّصافه بهذا الظلم والجهل بسبح الحقّ عنهما ولحمده بنقائضهما ، من الكمال على الوجه الأكمل .
فالأمناء هم الأدباء أهل الأمانة الإلهية وهم الخلفاء الذين استخلفهم الله في حفظ خزائنة وخزائن خزائنه ، فتذكَّر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أنّ الأمور الكلَّية وإن لم يكن لها وجود في عينها ، فهي معقولة معلومة بلا شكّ في الذهن فهي باطنة لا تزال عن الوجود العيني ، ولها الحكم والأثر في كلّ ماله وجود عيني ، بل هو عينها لا غيرها ، أعني أعيان الموجودات العينية ) .
قال العبد : اختلفت النسخ وفي البعض  منها : " لا تزول " .
فإن قلنا : « لا تزال » فـ « باطنة » منصوب ، وفيه تقديم وتأخير ، والتقدير : " فهي لا تزال باطنة عن الوجود العيني " ، أي لا تظهر أعيانها . وإن كانت موجودة في العلم الإلهي وبالنسبة إلى الحق .
وإن قلنا « لا تزول » فظاهر .
يعني : أنّ الأمور الكليّة وإن لم تكن موجودة في أعيانها لكونها إذ ذاك مشخّصة ، وإذا تشخّصت لم تكن كلَّية ، فهي لا تزول عن الوجود العيني لظهور أحكامها وآثارها في كل ماله وجود عيني .
فإنّ الأمور العامّة كالوجود والعلم والحياة التي تعمّ الحق والخلق وإن لم توجد في الأعيان لكونها كلَّيات لا يمنع نفس تصوّر معناها عن وقوع الشركة فيها .
فإنّها من حيث هي هي مع قطع النظر عن إضافتها إلى الحق أو الخلق حقائق كلَّية تطلق على كل من اتّصف بها ، وقامت به من حق أو خلق ، فهي من كونها كلَّية مطلقة عن الإضافة لا تزال باطنة إذ لا توجد في الأعيان .
ومع كونها كذلك باطنة ، فإنّها لا تزول عن الوجود العيني لوجود آثارها وأحكامها في أعيان الموجودات ، بل هي تحقيقها في كل ماله وجود عيني .
فإنّها لا تبطن ولا تزال باطنة من كونها كلَّية ، وكونها كلَّية اعتبار ثان مسبوق باعتبار حقائقها مجرّدة عن كونها موصوفة بالكلَّية أو غيرها ، فهي بحقائقها في كل من قامت به لا بكلَّيتها فإنّ الوجود في القديم والمحدث هو هو ، والعلم في كل عالم عالم علم.
وكذلك الحياة فهي في كل موجود عيني عينها غير زائدة عليها وجودا وشهودا ، لا عقلا فإنّ العقل ينتزع عن الموجود وجوده ويتعقّله زائدا على الموجود ، وليس ذلك إلَّا في التعقّل لا في العين ، فأمعن النظر وأنعم .
قال رضي الله عنه : ( ولم تزل ) تلك الحقائق الكليّة ( عن كونها معقولة في نفسها فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليّتها ) .
قال العبد : أمّا كونها ظاهرة فمن حيث إنّها في كل موجود عينيّ بماهيتها وحقيقتها ، وهي فيه عينه غير زائدة عليه لعدم امتيازها عنه في الوجود .
وأمّا كونها باطنة فلأنّها من حيث تعقّلها الأمور الكلَّية عامّة ينتزعها العقل ويأخذها كلية لا يمنع نفس تصوّرها عن وقوع الشركة فيها .
فهي من كونها كذلك باطنة معقولة لا وجود لها إلَّا في العقل .
قال رضي الله عنه : ( فاستناد كلّ موجود عيني لهذه الأمور الكلَّية ) .
يعني : استناد الموجودات من كونها موجودة ، والعلماء من كونهم علماء ، والإحياء من كونهم إحياء إلى هذه الكلَّيات العامّة .
قال رضي الله عنه : ( التي لا يمكن رفعها عن العقل ) .
أي لا تزال من كونها كلية معقولة .
قال : ( ولا يمكن وجودها في العين ) أي لا يتشخّص من كونها كلية ( وجودا تزول به عن أن تكون معقولة ) .
يعني : أنّ هذه الكلَّيات وإن كانت في كل موجود عينيّ عينه ، فذلك لا يخرجها عن كونها معقولة فإنّ كونها معقولة باطنة هو من كونها كلَّية ، وكونها عين كل موجود عينيّ هو بحقائقها لا بكلَّيتها لوجود تميّز تعقّل كلَّيّتها عن تعقّل حقيقتها في العقل .
وعدم تميّز حقيقتها عن الوجود العيني ، ولا يخرجها أيضا كذلك كونها معقولة وكلية عن كونها بحقيقتها في كل موجود عينيّ عينه ، بمعنى أنّها لا تزيد عليه ولا تمتاز عنه .
قال رضي الله عنه : ( وسواء كان ذلك الموجود العيني موقّتا أو غير موقّت إذ نسبة الموقّت وغير الموقّت إلى هذا الأمر الكلَّي واحدة ).
يريد رضي الله عنه بالموقّت الحادث الفاني من العالم ، فظهور هذه الأمور الباطنة المعقولة الكليّة بالأعيان الحادثة التي وجودها موقّت غير مؤبّد يكون موقّتا .
كذلك غير مؤبّد كوجود زيد مثلا وعلمه وحياته ، كهو غير أبدية بل هو موقّته ، وظهورها لمن ليس وجوده موقّتا ولا متناهيا غير موقّت ولا متناه لانضياف هذه الحقائق الكلَّية النسبيّة المعقولة إلى كل موجود عينيّ وظهورها فيه بحسبه وبموجب ما تعطيه ذاته .
قال رضي الله عنه : ( غير أنّ هذا الأمر الكلَّيّ يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينيّة ، كنسبة العلم إلى العالم والحياة إلى الحيّ فالحياة حقيقة معقولة ، والعلم حقيقة معقولة متميّزة عن الحياة ، كما أنّ الحياة متميّزة عنه ،
ثم نقول في الحق تعالى: إنّ له علما وحياة ، فهو الحيّ العالم .
ونقول في الملك : إنّ له علما وحياة فهو الحيّ العالم .
ونقول في الإنسان : إنّ له حياة وعلما فهو الحيّ العالم .
وحقيقة العلم واحدة ، وحقيقة الحياة واحدة ونسبتها إلى العالم والحيّ نسبة واحدة
ونقول في علم الحق : إنّه قديم ، وفي علم الإنسان : إنّه حادث ،
فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة ) .
قال العبد أيّده الله به :
اعلم : أنّ الحقائق الكلَّية مطلقة ، لها من حيث هي هي خصوصية ذاتية لا تخرجها عن تلك الخصوصية الذاتية إضافتها إلى الموجودات العينية كحقيقة العلم مثلا معنى قائم بالذات العالمة ، به تسمّى عالمة ، وهو في طور التحقيق عبارة عن إدراك المعلوم .
وكشفه بما هو به وهو وبما هو عليه في عينه على وجه الإحاطة والتمييز عن غير هذه حقيقة العلم ، وليست إضافتها ونسبتها إلى الحق أو إلى الخلق مخرجة لها عن هذه الحقيقة المخصوصة ، ولكن يعود إليها من إضافتها إلى كل موجود عيني إذا أضيفت إليه أن تكون فيه بحسبه.
 فإن كان المضاف إليه موجودا قديما مطلقا ، كان علمه قديما مطلقا كذلك ، وإن كان المضاف إليه حادثا ، مقيّدا ، موقّت الوجود .
كان علمه حادثا مقيّدا كذلك ، وهذا ممّا اقتضت هذه الحقائق بشرط الانضياف ، فهي لا تزال على ذلك ما دام ذلك الشرط مقترنا بها ، وهذا ظاهر .
قال رضي الله عنه : ( وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينية ، فكما حكم العلم على من قام به
بأن يقال فيه : إنّه عالم ، كذلك حكم الموصوف به على العلم بأنّه حادث في حق الحادث ، قديم في حق القديم ، وصار كل واحد )  يعني من المضاف والمضاف إليه ( محكوما به و محكوما عليه ) يعني من جهتين مختلفتين .
قال رضي الله عنه : (ومعلوم أنّ هذه الأمور وإن كانت معقولة ) أي لها وجود في العقل والعلم
(فإنّها معدومة العين موجودة الحكم ) يعني في الوجود العيني ، لأنّها لم تتعيّن في الوجود تعيّنا شخصيا غيرها من الأعيان الموجودة . وإلَّا لكانت شخصية ، وأشير إليها ، ولم تكن كلَّية .
قال رضي الله عنه : ( كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني .
فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ) فإنّ ظهورها في الأعيان بحسبها ( ولا تقبل التفصيل ولا التجزّي فإنّ ذلك محال عليها فإنّها بذاتها في كل موصوف بها ) .
يعني : أنّ الإضافة والنسبة لا تخرجها عن حقائقها كما قرّرنا .
قال رضي الله عنه : ( كالإنسانية في كلّ شخص شخص من هذا النوع الخاصّ لم تتفصّل ولم تتعدّد بتعدّد الأشخاص ، ولا برحت معقولة ) .
يعني : أنّها لو تفصّلت وتعدّدت بتعدّد الأشخاص ، لكانت عن أصل كثرة فيها وهي واحدة في حقيقتها .
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الارتباط بينها وبين من له وجود عيني قد ثبت ، وهي نسب عدمية ، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنّه على كل حال بينها جامع وهو الوجود العيني وهناك ، فما ثمّ جامع . وقد بعد الارتباط بعدم الجامع ، فبالجامع أقوى وأحقّ ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ هذا الأمر العامّ من حيث عدم تعيّنه في الوجود العيني متميّز ، وتميّزه عن الأعيان الوجودية في الخارج أمر عدمي ، وهو معدوم العين.
 ومهما ساغ الارتباط بينها مع كونها معدومة الأعيان وبين الموجودات العينية ، فوجود الارتباط بين الموجودات أولى وأحقّ ، وعلى هذا يكون الارتباط بين الموجود القديم الحق ، وبين الحادث الخلق ثابتا صحيحا ، وهو المطلوب .
قال رضي الله عنه : ( ولا شكّ أنّ المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه ، فوجوده من غيره ، فهو مرتبط به ارتباط افتقار ، ولا بدّ أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيّا في وجوده بنفسه ، غير مفتقر ، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه ولمّا اقتضاه لذاته كان واجبا به ).
قال العبد أيّده الله :
كون العالم ممكنا في حقيقته يقتضي أن يكون في ذاته مفتقرا إلى المرجّح في الوجود لأنّ الممكن من حيث هو ممكن مع قطع النظر عن المرجّح نسبته إلى الوجود والعدم بالسواء .
فهو من حيث هو ممكن ليس بأولى أن يوجد ، وإلَّا لكان واجبا ، ولا أن لا يوجد وإلَّا لكان ممتنعا وكلّ ممتنع الوجود فليس بممكن وإلَّا لكان الممكن باللاوجود أولى ولم يكن ممكنا ، وكذلك كل واجب الوجود فليس بممكن بالإمكان الخاصّ .
وإن صدق إطلاق الإمكان العامّ عليه عرفا خاصّا ، فإنّا لا نعني بالإمكان العامّ إلَّا عدم الامتناع ، فلمّا لم تكن للممكن أولويّة الانحياز إلى أحد النقيضين ، افتقر في تعيّنه إما في الوجود أو في العدم إلى المرجّح ، وعلى جميع التقادير ثبت افتقاره إلى المرجّح .
وهو الحق الواجب الوجود لذاته لأنّ المفتقر إليه إن لم يكن واجب الوجود ، لزم أن يكون ممكنا أو ممتنعا ، فإن كان ممكنا فالقول فيه كالقول في كل ممكن ، ولزم إمّا الدور وإمّا التسلسل في العلَّة ، وهما باطلان عقلا ، وإن كان ممتنعا .
فلا يصلح أن يكون واجب الوجود ما لا وجود له ، ولا قابلا للوجود ، فلم يبق إلَّا أن يكون المرجّح الواهب للوجود واجب الوجود لذاته غنيّا في وجوده بذاته عن الغير ، غير مفتقر إليه .
وليس المراد من الواجب إلَّا ذاتا لا افتقار بها في وجودها إلى الغير ، فوجودها إذن من ذاتها ضروري واجب .
فإن قيل : الوجوب في تعقّله مفتقر إلى تعقّل ما ليس بضروري الوجود واجبة ، فهو إذن من الحقائق النسبية ، وفيه رائحة الافتقار ، وتوقّف تعقل الوجوب على الامتناع أو الإمكان كتوقّف تعقّله على تعقّل غيره .
قلنا : لا يلزم من توقّف تعقّل الواجبية على تعقّل غيرها توقّف تحقّقه في ذاته على تحقّق ما ليس كذلك ، أو على عدم تحقّق غيره كذلك فإنّ ثبوت الوجود بالذات أمر ذاتي للواجب الوجود بالذات ، فلا يفتقر في ذلك إلى غيره ولا يتوقّف عليه .
ولكنّ الواجب الوجود مفيض من وجوده ووجوبه على ما ليس كذلك ، ومستلزم له في الوجود المستلزم لوجود غيره والموجب له لا يتأخّر في تحقّقه عن لازمه في الوجود لتوقّف وجود اللازم على الملزوم ، ولكن عدم اللازم قد يستلزم عدم الملزوم في الدلالة .
وإذا ثبت وجوب الوجود لذات من عينها ونفسها ، وثبت افتقار غيرها في وجوده إليها ، فمهما وجد ذلك الغير فوجوده من فيض وجود واجب الوجود بالذات ، فبالضرورة ينسب ذلك الغير في وجوده إلى من أفاض عليه الوجود .
ولا بدّ أن تكون الإضافة ذاتية للواجب الوجود بالذات ، فيوجب وجود المفاض عليه المفتقر في وجوده عنه إليه ، والمقتضي أمرا لذاته لا يزال عليه ما دامت ذاته .
فلمّا اقتضى الحق الواجب الوجود فيضه وهو الوجود المطلق أن يفيض الوجود على الخلق المقيّد ، كان واجبا به بالضرورة إذ الإله يقتضي وجود المألوه .
والربّ يوجب المربوب ، والخالق يستلزم وجود المخلوق وذلك من كونه إلها ربّا موجدا أو مفيضا للوجود بالذات وعلَّة ، لا من حيث ذاتية الذات المطلقة عن كل وصف ونعت ، الغنيّة عن العالمين ، فإنّ اعتبار ذاتية الذات سابق ومتقدّم على جميع الاعتبارات .
ولمّا كان وجوده عين ماهيته ، فلا تلزم مساوقة وجود الحادث لوجود القديم ، ولكنّه من كونه مفيضا للوجود وموجدا لهذا الحادث يوجد عنه الحادث ، فالارتباط من قبل الحادث بالافتقار الذاتي إلى محدث يحدثه ويوجده على التعيين ، ومن قبل الموجد بالإيجاد والاستلزام .
قال رضي الله عنه : ( ولمّا كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته ، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفة ) .
يعني : من حيث اقتضائه أن يكون على صورته بحيث لا يخرج الاسم والصفة من حقيقتها الخاصّة ، وإن أوجبت الإضافة نعتا ، ليس لها بالفعل ، بل بالصلاحية وبشرط الإضافة كما ذكر في حقيقة العلم والحياة .
قال رضي الله عنه : ( ما عدا الوجوب الذاتيّ فإنّ ذلك لا يصحّ في الحادث وإن كان واجب الوجود ، ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه ) .
يعني رضي الله عنه :
لمّا كان العبد على صورة سيّده ، وجب أن يكون واجبا ، ولكن وجود العبد ووجوبه مستفاد من الواجب بذاته الموجب لوجود هذا الحادث ، فما له قدم في الوجوب الذاتي لكون وجوب وجود العبد لا بذاته لا بذات مطلقة منها ذاته ، أو وجود مطلق منه وجوده .
قال رضي الله عنه : ( ثم لتعلم أنّه لمّا كان الأمر على ما قلناه من ظهوره ، بصورته ، أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث ، وذكر أنّه أرانا آياته فينا  فاستدللنا بنا عليه ، فما وصفناه بوصف إلَّا كنّا نحن ذلك الوصف ) .
يعني رضي الله عنه :
لمّا قرّر أنّ الخليفة ظاهر بصورة المستخلف فيما استنابه فيه ، ونسبه إليه ، وملَّكه إيّاه ، لا جرم أنّه تعالى أحاله في العلم به على النظر في الحادث في كل ما نسب إليه من صورة على صورة القديم.
فإذا عرفنا المخلوق على الصورة بنسبه ولوازمه الثبوتية كماليّها وغير كماليّها استدللنا بكمالاتنا الثبوتية التي أعطانا الكامل بالذات على ثبوت الكمالات له على الوجه الأكمل .
واستدللنا أيضا بنقائصنا ونسبنا غير الكمالية على أنّها منتفية عن موجدنا وثابتة له نقائض تلك
النقائص من الكمالات ، وفي الحقيقة ما وصفناه بوصف إلَّا كنّا نحن ذلك الوصف .
والتحقيق يقتضي أنّه ليس لنا من الأمر شيء ، بل كل ما لنا فمنه ، كما قال : "وَما بِكُمْ من نِعْمَةٍ فَمِنَ الله "  فما وصفناه بنا إلَّا من حيث كوننا به فيه منه له .
قال رضي الله عنه : ( إلَّا الوجوب الخاصّ الذاتي ، فلمّا علمناه بنا ومنّا ، نسبنا إليه كلّ ما نسبناه إلينا ) .
يعني رضي الله عنه :
من حيث إنّ نسبة نسبة الشيء نسبة لذلك الشيء ولازم لازمه بالوسط .
قال رضي الله عنه : ( وبذلك وردت الأخبار الإلهية على ألسنة التراجم إلينا ، فوصف نفسه لنا بنا  ، فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا ، وإذا شهدنا شهد نفسه ) .
قال العبد أيّده الله تعالى به : اعلم :
 أنّ الله علم نفسه ذات نسب مستهلكة الأعيان في أحدية ذاته وهويّته المطلقة ، وأراد أو أحبّ أن يظهرها في الوجود العيني ، أو يظهر هويّتها فيها بحسبها ، وكانت متمايزة الأعيان في التعين بالعلم الذاتي كعلم الواحد العالم بأنّه ذو نسب ونسب نسب .
 فلمّا تعلَّقت المشيّة بإظهار هذه النسب في الوجود ، تجلَّى الله الجواد الرحمن المحسن الوهّاب بإفاضة الوجود من ينبوع الجود ، فأوجدها في أعيانها لها في عرصة الشهود.
 وبعد تحقّق هذه النسب الحقيقة ، إنّ الحقائق النسبية فما لها أن تدلّ على الحق المطلق ، أو نشهده إلَّا من خصوصها وبها ، قد ظهر الوجود فيها بحسبها .
فلولا أنّ في الوجود صلاحية الظهور في كل حقيقة أو نسبة منها بحسبها وعلى صورتها ، لما ظهر بذلك كذلك ، ويضاف إذ ذاك إلى الوجود الحق الظاهر في كل حقيقة منها على صورتها ما يضاف إلى تلك الصورة ، فافهم . إذا فهمت ، فهمت .
فاعلم أنّا نحن صور تلك النسب الذاتية والشؤون الغيبية ، اقتضانا بالذات من كونه إلها موصوفا بالموجدية ، منعوتا بالربوبية ، فلمّا وصف نفسه لنا بنا أعني بالنسب والأسماء والصفات التي نحن صورها وأحالنا في المعرفة والعلم به علينا بقوله الحق ، على لسان رسول الصدق :"من عرف نفسه فقد عرف ربّه ".
فعلمنا به أنفسنا ، وعلمنا من علمنا بنا علمنا به ، فما علمناه إلَّا بنا وما علمنا ما علمنا إلَّا به ، فما علمنا إلَّا إيّاه به منه فيه .
وما علمنا أنفسنا إلَّا فيه عينه ، فنحن فيه هو عينه ، وهو فينا نحن أعياننا ، لأنّا فيه شؤونه الذاتية ونسب نسب الإنّيّة الغيبية ، وهي الهوية العينية ، فإذا شهدنا فيه شهد نفسه .
وإذا شهدناه فيه أو فينا شهدنا أنفسنا ، فما نحن إلَّا وجودات تعيّنية وتجلَّيات وجوديّة ، نفسية ، ظاهرة بخصوصيات أعياننا وماهياتنا التي هي شؤونه الذاتية ونسبه أو نسب نسبه الغيبية الوحدانية ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ولا نشكّ أنّا كثيرون بالشخص والنوع ، وأنّا وإن كنّا على حقيقة واحدة تجمعنا ، فنعلم قطعا أنّ ثمّ فارقا ، به تميّزت الأشخاص بعضها عن بعض ، ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد ) .
يعني : رضي الله عنه :
أنّ هذه الشؤون وإن اشتركت في أنّ كلَّا منها شأن ذاتي له أو نسبة من نسب الألوهية ، ولكنّه لا بدّ أن تكون لكلّ شأن منها خصوصية ، بها يتميّز عن غيره .
 فتلك الخصوصيات هي التي أوجبت تعدّد الأشخاص وتمايزها بشخصياتها عند وجودها العيني بموجب وجودها العلمي ، فالوجود وإن كان موجودا للكلّ ، ولكنّ الخصوصيات الذاتية تعيّن الوجود الواحد بحسبها .
 فيختلف ظهور الوجود الحق الواحد الأحد في جميع مراتب العدد ، ويتكثّر بحسب القوابل المختلفة المتكثّرة .
 ولولا هذا السرّ ، لم تظهر الكثرة المتعقّلة في الواحد ظهورا وجوديا ، ولا الكثرة الوجودية في أحدية الجمع ، كما نقول : " مدينة واحدة " مع اشتمالها على البيوت والدور الكثيرة ، وكقولنا : « كتاب واحد » مع أنّه ذو حروف وكلمات كثيرة ، و « شخص واحد » مع أنّه ذو أجزاء وأعضاء كثيرة .
قال رضي الله عنه : ( فكذلك أيضا ، وإن وصفنا بما وصف به نفسه من جميع الوجوه ، فلا بدّ من فارق  وهو افتقارنا إليه في وجودنا ، وتوقّف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه . فبهذا صحّ له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأوّلية التي لها افتتاح الوجود عن عدم فلا تنسب إليه الأوّلية مع كونه الأوّل . ولهذا قيل فيه :
الآخر ، فلو كانت أوّليته أوّلية وجود التقييد ، لم يصحّ أن يكون الآخر للمقيّد لأنّه لا آخر للممكن لأنّ الممكنات غير متناهية ، فلا آخر لها .
وإنّما كان آخرا لرجوع الأمر كلَّه إليه بعد نسبة ذلك إلينا ) .
قال العبد أيّده الله :
كما أنّا وإن كنّا مشتركين في الاستناد إلى الحق والدلالة عليه وفي القيام بوجوده الواحد ، ولكنّا كثيرون بالأشخاص والخصوصيات الذاتية ، والتفرقة فيما بيننا ظاهرة .
 فكذلك إذا دللنا عليه فإنّ دلالة كلّ منّا بخصوصية ليست في الآخر .
 وكذلك وإن وصفنا بما وصف به نفسه وأعطانا الاتّصاف بأوصافه جميعا والتسمّي بأسمائه طرّا ، فلا بدّ من فارق بيننا وبينه لا نشاركه فيه أصلا ، وهو وجوبه الذاتي الذي انفرد به من ذاته دوننا ، وأمّا الفارق من قبلنا الذي خصّصنا به دونه فهو افتقارنا جميعا إليه على التعين في الوجود وذلك لإمكاننا الذاتي ، كما مرّ ، فتذكَّر .
واعلم : أنّ في الإمكان سرّا شريفا ذكرنا في موضعه ، فاطلبه من هناك ، إن لم تعثر عليه من هاهنا ، فقد أومأنا إليه في مواضع ممّا سلف وفيما خلف .
وقوله : « عن مثل ما افتقرنا إليه » يدلّ على شمول الافتقار ومرتبتي الوجود أعني مرتبتي الحق والخلق لكون الوجود يشملهما ، والحق من حيث ذاته ووجوده الذاتي غنيّ عنّا ونحن مفتقرون إليه بذواتنا في وجودنا .
 ولكنّ الربوبية من كونها تقتضي المربوب بحقيقتها ، والخالقية لا تتعقّل بدون المخلوق وجودا وتقديرا فثبت الافتقار للنسب الإلهية في تعيّنها الوجودي والتعقلي إلى متعلَّقاتها ضرورة توقّف الأمور الإضافية والنسبية على طرفيها وافتقارها إليها .
 ولا يقدح ذلك في الغنى الذاتي فإنّ الله غنيّ بذاته في وجوده أزلا وأبدا .
وهذا الافتقار المذكور ليس إلَّا في النسب الأسمائية فإنّ الألوهية والربوبية والخالقية والرازقية وغيرها حقائق يتحقّق وجودها بالمألوه والمربوب والمخلوق والمرزوق ، والغنى لله في ذاته لكون وجوده من ذاته ، وعين ذاته .
ولهذا السرّ صحّ له الأزل والقدم ، يعني نفي الأوّلية والمسبوقية عن وجوده الذاتي ، فلا أوّل له سابقا عليه ، بل هو الأوّل السابق بوجوده المطلق الذاتي على التعينات الوجودية التقييدية .
وليس متعلَّق الحدوث والقدم حقيقة الوجود ، بل تعيّنه بحسب الأزمان والأوقات والمواطن والمراتب لا غير ، والتعيّن نسبة عدمية أيضا مع قطع النظر عن المتعيّن .
فسبحان الذي وسع بجوده ورحمته وعلمه وحكمته كلّ شيء حتى النسب العدمية ، أحدثها وأعطاها ضربا من الوجود ، وأظهرها موجودة للشهود المعهود .
فلو كانت أوّلية الحق من حيث الوجود العيني المقيّد ، لم يصحّ أن يكون هو الآخر لأنّه لا آخر للممكنات لأنّها غير متناهية ، فلو كانت متناهية ، صحّ أن يكون لها آخر .
فليست أوّليّته تعالى بمعنى أوّلية وجود التقييد ، ولا آخريّته بمعنى أنّه إذا انتهت الممكنات غير المتناهية ، كان هو آخرها .
فكان آخر وجود التقييد ، بل أوّليّته وآخريته بمعنى أنّه لا موجود إلَّا هو ، فالكلّ منه إليه " لا إِله َ إِلَّا هُوَ إِلَيْه ِ الْمَصِيرُ " .
بمعنى أنّه المطلق غير المتعيّن في عين كونه عين الكلّ أوّلا بداية ، والمتعيّن في عين لا تعيّنه وإطلاقه بتجلَّيات غير متناهية آخرا لا إلى غاية ونهاية .
قال رضي الله عنه : ( فهو الآخر في عين أوّليّته ، والأوّل في عين آخريّته ) .
يعني رضي الله عنه :
أنّ الوجود المطلق هو الأوّل على الإطلاق ، ثم إن تعيّن وتقيّد الوجود بتنوّع التجلَّي في مراتب تعيّناته فهو في حقيقته على أوّل الإطلاق الأصلي .
لأنّ التعين والتقيد نسبتان لا تقدحان في إطلاقه الحقيقي الذي ليس في مقابلة التقييد ، بل هو معنى ذاتيّ للذات .
نعم ، الإطلاق والتعيّن يستلزم تعقّلهما انتفاء البداية والنهاية ، والافتتاح والاختتام ، شمل بنور هويّته وإنّيّته المطلق والمقيّد .
فإنّ العين المطلق عين المطلق اللامتعيّن وعين المتعيّن غير المتناهي في تعيّنه ، لا إلى أبد أبدا الأبد ، فهي هي في اللاتعيّن الأوّل الباطن وفي التعيّن الآخر الظاهر .
فما ثمّ إلَّا هو هو ، فهو الأوّل في عين آخريته والآخر في عين أوّليته .
قال رضي الله عنه : ( ثمّ لتعلم أنّ الحق وصف نفسه بأنّه ظاهر باطن وأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا
 . ووصف نفسه بالرضا والغضب ، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء ، فنخاف غضبه ونرجو رضاه.
ووصف نفسه بأنّه جميل وذو جلال ، فأوجدنا على هيبة وأنس ، وهكذا جميع ما ينسب إليه ويسمّى به . ثم عبّر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجّهنا على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته ).
قال العبد أيّده الله به : اعلم :
 أنّه لمّا كان الإطلاق الذاتي الذي تستحقّه الذات ليس في مقابلة التقييد والتحديد ، بل إطلاق عن التقييد بالإطلاق الذي في مقابلة التقييد .
فهو إطلاق عن التقييد وعن الإطلاق بجمعه الذاتي بينهما جمعا ، غير متقيّد أيضا بالجمع ، بل مطلقا عن كل اعتبار ، ولا لسان في هذا المقام ولا حكم ولا اسم ولا صفة ، بل بهت بحت ، وخرس صرف .
وبتحقّق التعيّن الأوّل مفتاح مفاتيح الغيب يتعيّن للعين المطلقة تعيّن ولا تعيّن ، وإطلاق وتقييد ، ووحدة وكثرة ، وفعل وانفعال ، فتعيّن بالتعيّن الأوّل النسب الذاتية.
 وهي : الأوّلية والآخرية ، والباطنية والظاهرية .
وهو من حيث التعيّن بلا اعتبار التعين واللا تعين لا أوّل ولا آخر ، ولا باطن ولا ظاهر ، ولا نسبة هذه النسب ولا لا نسبتها أحقّ وأولى .
ولكنّه تعالى من حيث إطلاقه باطن ، وقد جعل الباطن بحجاب عزّ غيبه عن أن يحاط به أو يتناهى ، أو يكون له بداية ، فله الجلال .
وهو من حيث تعيّنه ظاهر جميل بجمل القصد إليه والاستناد من كونه مبدأ للتعينات الشؤونية الكلَّية مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلَّا هو .
يعني ليس علمها إلَّا للهوية المطلقة الكبرى التي للمعيّن ، وهي فيه هو ، وهو فيها هي فظهرت الاثنينية بالتعين الأوّل للعين الواحدة بالوحدة الحقيقية.
 وهي من حيث حضرتها الجلالية تقهر أعيان الأغيار ، وتغضب عليها غيرة أحدية ، ولكنّها من حيث التعين ترضى عن كلّ معيّن قابل ومتعيّن مقبول رضى خصيصا بخصوصيته لكونه جهده واستطاعته ، كما قال :
مالي سوى الروح خذه   .....   جهد الفقير المقلّ
وقد ورد الوارد في هذا البيت عليّ بمعنى مخترعا في المحتد والمشرب عند المبصر المستبصر ، فقال :
مالي سوى أنت خذ بي    .....        جهد الفقير المذلّ
فتأمّل أيّها المتأمّل .
وبموجب هاتين اليدين اللتين لهما القبض والبسط ، والعطاء والمنع ، والرفع والوضع ، أوجدنا ذوي خوف ورجاء ، وقبض وبسط ، وهيبة وأنس ، فنهاب جلاله ، ونأنس بجماله ، ونخاف غضبه ، ونرجو رضاه . فظهرت فينا أحكام الاثنينية ، المذكورة في اليدين .
كما أشار إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : " وخلق آدم بيديه " الحديث .
وقال الله تعالى لإبليس " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ".
وكما أظهر الله من هاتين اليدين المباركتى لآدم عند تجلَّيه .
فقال له : اختر أيّتها شئت .
 فقال آدم : اخترت يمين ربّي ، وكلتا يدي ربّي يمين مباركة .
 ففتح سبحانه يمينه ، فإذا فيه آدم وذرّيّته ، ولذلك خمّر الله بيديه طينة آدم أربعين صباحا .
فكان ربّنا تبارك وتعالى يتجلَّى على صورته التي خلق آدم عليها ويخمّر طينته بيديه المباركتين حتى تخمّر فيها ببركة توجّهه الكلي الجمعي الإلهي سرّ أحدية الجمع الذاتي الإلهي بين يديه .
حتى بدت فظهرت في طينته ، صورته المباركة على أحسن تقويم ، وأكمل تعديل وترسيم ، فظهرت فيه جميع الحقائق الجلالية القهرية والجمالية اللطفية ، وكمل به .
وفيه سرّ الإطلاق والتقييد ، والتعيّن واللاتعيّن ، فكان أكمل كون وأجمعه وأتمّه ، وأفضل مظهره وأوسعه وأعمّه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعالم شهادة والخليفة غيب ، ولهذا احتجب السلطان ووصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية وهي الأجسام العنصرية الكثيفة والنورانية وهي الأرواح والعقول والنفوس وعالم الأمر والإبداع ، والعالم بين لطيف وكثيف ، فهو عين الحجاب على نفسه فلا يدرك الحق إدراكه نفسه ولا يزال في حجاب لا يرفع مع علمه بأنّه متميّز عن موجده بافتقاره و لكن لا حظَّ له في وجوب الوجود الذاتي الذي للحق ، فلا يدركه أبدا .
فلا يزال الحق من هذه الحقيقة غير معلوم علم ذوق وشهود لأنّه لا قدم للحادث في ذلك ) .
قال العبد أيّده الله به :
خلق الله آدم على صورة الرحمن ، كما نطق به الصادق الذي ما ينطق عن الهوى لأنّ الخليفة على صورة مستخلفه فيما استخلف فيه واستنيب ، وإن لم يظهر بصورة مستخلفه فما هو بخليفة .
ثم خلق الله العالم على صورة آدم لما ذكرنا أنّ العالم صورة تفصيل النشأة الإنسانية ، والإنسان صورة جمعها الأحدية فهو غيب العالم .
والعالم شهادته وظاهره لكون الكثرة والتفرقة حجابا ظاهرا ، والجمعية الأحدية غيبا باطنا ، فالإنسان روح العالم وقلبه وسرّه الباطن ولبّه .
ولهذا السرّ وجد احتجاب السلاطين والخلائف ضرب مثال للأمر ، حتى يكون غيبا ، كما أنّ اللبّ غيب في القشر ، وذلك أليق بعزّة الخليفة وعظمته ، كما أنّ الله تعالى وصف نفسه على لسان رسولنا بالحجب .
فقال صلَّى الله عليه وسلَّم : " إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة " ، فالاحتجاب بالحجب من مقتضيات السلطنة والخلافة .
ولمّا كان العالم بين لطيف وكثيف ، جسم وروح ، قد تعيّن الوجود الحق عامرا لعوالمهما وكثراتهما غير المتناهية ، وكلّ من العالمين حجاب على الآخر ، فتحجّب اللطيف بالكثيف ، والكثيف باللطيف ، واللطيف باللطيف والكثيف .
فالعالم عين حجابه على نفسه ، فلا يدرك الحق أبدا إلَّا من وراء هذه الحجب الكثيفة واللطيفة وذلك لأنّه لا حظَّ له في الوجوب الذاتي ولأنّه مفتقر في الوجود إلى من يتوهّم أنّه غيره ، فلا يزال في حجاب الغيرية ما بين كثيف نسمّيه جسما ، ولطيف نسمّيه روحا أو عقلا أو نفسا أو معنى ، وهي فيما بينها أغيار لوجود المغايرة بين التعيّنات الحقيقية والخصوصيات الذاتية ، فلو شهد العالم العين المحتجبة بحجب الغيرية عن أعين أعيان الأغيار أنّها بالحقيقة عين هذه الأغيار ، لزال عن عينها الغين والحجاب ، ولكنّ العزّة والغيرة أوجبتا الغيرية ، ولا بدّ ، " وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ من ضُرٍّ لَلَجُّوا في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ".
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما جمع الله لآدم بين يديه إلَّا تشريفا ، ولهذا قال لإبليس : " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ".
 وما هو إلَّا عين جمعه بين الصورتين : صورة العالم وصورة الخلق ، وهما يدا الحقّ . وإبليس جزء من العالم ، لم تحصل له هذه الجمعية .
ولهذا كان آدم خليفة ، فإن لم يكن ظاهرا بصورة من استخلفه فيما استخلفه فيه ، فما هو خليفة ، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها لأنّ استنادها إليه ، فلا بدّ أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه وإلَّا فليس بخليفة عليهم ).
وذلك لأنّ الكمال في أحدية جمع الجمع ، ثم الكمالات كلَّها إنّما تفيض من أحدية جمع هاتين اليدين المباركتين الإلهيتين .
فوجب أن تكون الكمالات المنبعثة من اليدين مجتمعة فيه مع أضعافها إذ الهيئة الجمعية الأحدية تعطي في الجامع أن يظهر فيه كلّ حقيقة من حقائق اليدين بهيئة الجمع .
ولهذا توجّهت المطالبة والمؤاخذة على إبليس الذي هو جزء من العالم في امتناعه عن سجود آدم لكون الواجب على كلّ قوّة من القوى الروحية والقوى الطبيعية جمعا وفرادى .
هو الإذعان والانقياد والطاعة والدخول تحت حكم صاحب الجمعية بين اليدين اللتين في قبضتهما عالم الأرواح اللطيفة وعالم الطبيعة الكثيفة ، وإبليس في إحداهما .
ولكنّ حقيقة إبليس منافية لحقيقة آدم بالحقيقة والطبع لأنّ حقيقة آدم عليه السّلام صورة ظاهرية أحدية جمع الجمعيات الإلهية والجمعيات الكونية .
وإنّما جمع الله له بين اليدين لأنّ الإنسانية التي هي حقيقته تقتضي الاعتدال وكمال الجمع بين التعين والإطلاق ، والكثرة والوحدة ، وعدم الانحصار في تعيّن جزئي .
بخلاف حقيقة إبليس ، فإنّها صورة الانحراف التعيّني الحجابي إلى الأنانية الجزوية المتقيدة بالاستعلاء والاستكبار ، والظهور والعلوّ على حقيقة العين إذ التعيّن يكفر العين ويحجبه ويعلو عليه .
وهذه الحقيقة تقتضي التفرقة النارية المعتلية على باقي العناصر .
فلمّا تباينت الحقيقتان ، وقعت المضادّة والمحادّة والمعاداة في عالم الصورة بسبب المضادّة الحقيقية في الحقيقة وبحسبها .
ولأنّ نشأة كلّ واحد منهما تضادّ نشأة الآخر في الجزء الأعظم فإنّ الجزء الأعظم في نشأة الإنسان الماء ، ثم الأرض ، وهما يعطيان بحقائقهما وصورهما وقواهما وروحانياتهما اللين والإذعان والطاعة والقبول والانقياد والإيمان والثبات والوقار والتّؤدة والسكينة والخشوع والاستكانة والعبودية والتذلَّل والعلم والحلم والإناءة وما شاكل ذلك .
 والجزء الأعظم في نشأة إبليس والشياطين النار ، وهي بحقيقتها وصورتها وروحانيتها تعطي الاستعداد والاستكبار والخفّة والطيش والسفوف والكبر والخيلاء والتسلَّط والجبروت والكفر والجحود والحقد والحسد لأنّه صورة الانحراف العنصري التعيّني .
كما قلنا : إنّ التعيّن يعلو على المتعيّن فيه ، ويطغو ويكفره أي يستره وما له ثبات فإنّ نور العين المتعيّنة في حجابية كلّ تعيّن يخرقه ويحرقه ، ومن حق التعيّن أن يلعن ويطرد وينفي عن وجه العين المتعيّنة في ذلك التعين.
لكونه حجابا على من تعيّن به وفيه من وجه وإن كان دالَّا عليه من وجه آخر ، فمن كان مشهوده أنّ وراء التعيّن أمرا هو منه يشاهد الحقيقة في الحجاب .
ومن لم يشاهد إلَّا حجابية التعيّن ، حجب به ، والتعيّن حجاب على نفسه ، فلا يرى العين المحتجبة به أبدا ، كظهر المرآة لا يظهر فيه مثال صورة الرائي المنطبع في باطنه إلَّا أن يلعن حقيقة الحجاب عن وجه المحتجب .
ولهذا كلّ تعيّن يدّعي أنانيّة هو بها محجوب عن غيره وعن عينه وعين الكلّ التي بها قيام الكلّ وهو قيّام الكلّ وقد أشرنا إلى هذا السرّ في الغرّاء الرائية واللامية أيضا بقولنا : شعر :
لا يحجبنّك  أشكال يشاكلها          .....    عمّن يشكَّل فيها فهي أستار
وكن به فطنا في أيّ مظهره          .....      بدء ففي الأمر إظهار وأسرار
كالبحر بحر على ما كان في قدم   .....    ثمّ الحوادث أمواج وأنهار
ومن حجب بالتعيّن ، طلب الاستبداد والتفرّد بتعيّنه الجزئي إذ لا قدم له في الكلَّية والأحدية الجمعية الإلهية.
 ولعن الحضرة الإنسانية لإبليس إذ الجزئية التعيّنية حجاب على العين الكلَّية الأصلية ، والتعيّن طار ولا يكون إلَّا من جهة غلبة جزء من أجزاء ظاهرية المتعيّن أو المعيّن ، فافهم .
فلمّا جمع الله لآدم بين الصورتين  صورة الحقّ وصورة الخلق .
فكان له مرتبة جمع الجمع ، فهي على صورة الله ضرورة كون الحقيقة الإلهية أحدية جمع الحقائق الوجوبية كلَّها المقتضية بالذات لجمع جميع الحقائق الكونية .
 وبهذه الجمعية صحّت له الخلافة ، كما نطقت الحقيقة على لسان بعض تراجم الحقائق ، شعر :
أتته الخلافة منقادة      ....          إليه تجرّر أذيالها
فلم تكن تصلح إلَّا له      ....          ولم يكن يصلح إلَّا لها
ولو رامها أحد غيره      ....          لزلزلت الأرض زلزالها
فالإنسان حامل الأمانة التي هي الصورة الإلهية التي حذي آدم عليها .
فإن لم يظهر الخليفة بصورة المستخلف في الرعايا ، لم يطيعوه ، وكان قاصرا عن درجة الخلافة ، فلم يصلح لها ، وإذا لم يكن عنده جميع ما تطلبه الرعايا ، لم يطيعوه ولم يوصل ذلك إلى الجميع جمعا وفرادى ولم يكن خليفة .
وإذ قد جمع الله لآدم بين يديه المبسوطتين بجميع الآلاء والنعماء التي يطلبها الكلّ واستوت الحقيقة الأحدية الجمعية والوجوبية الإلهية على عرش الحقيقة الأحدية الجمعية الإنسانية الكمالية ، ظهر بصورة الله تعالى .
فأوصل نعم الله وآلاءه المخزونة في خزائنه عنده وفيه التي هي حضرات الأسماء وخزائن خزائنة التي هي حقائق القوابل والمظاهر إلى العالم الأعلى الربّاني والعالم الأسفل الكياني ، روحانيّتها وجسمانيّتها ، سماويّها وأرضيّها .
وظهرت جميع الحقائق الوجوبية والنسب الإلهية والربوبية في مظاهرها تماما ، وظهرت أيضا بها الحقائق الخلقية المظهرية في جميع مرائيها ومراتبها ومناظرها ومجاليها الروحانية والمثالية والطبيعية تماما ظهورا فرقانيا تفصيليا .
وكان ظهورها في الخليقة ظهورا جمعيا أحديا كماليا ليس كظهور كلّ منها في كلّ من المظاهر إذ ليس كلّ منها كلّ كلّ منها من كلّ وجه ، فما في بحري الوجوب والإمكان حرف ولا كلمة إلَّا وهي في الإنسان الكامل الفاضل أفضل وأكمل منه ، خارجا عنه .
مع حصول فضيلته الخصيصة به له ، فافهم إن كنت تفهم ، والله الملهم والمعلم .
فما أكمل الإنسان لو عرف قدره ، وملك أمره ، وكمّل سرّه ، ولم يتعدّ طوره ، ولزم مركزية حقيقة الاعتدال ، وتحقّق بحقيقة الإطلاق في الجمع والكمال ! .
حقّقنا الله وإيّاكم معاشر المستعدّين الطالبين لهذه الحقيقة ، والمسترشدين إلى هذه الطريقة بفضله وطوله وقوّته وحوله .
وأمّا استناد العوالم التي كنى عنها الشيخ رضي الله عنه بالرّعايا إلى هذا الخليفة .
وهي الخليقة : فمن حيث إنّ كلّ حقيقة من حقائق ذات الخليفة ونشأته برزخ من حيث أحدية جمعها بين حقيقة ما من حقائق بحر الوجوب وبين حقيقة مظهرية لها من حقائق بحر الإمكان هي عرشها ، وتلك الحقيقة الوجوبية مستوية عليها .
فلمّا ورد التجلَّي الكمالي الجمعي الإلهي على المظهر الكمالي الإنساني ، تلقّاه بحقيقة الأحدية الجمعية الكمالية ، وسرى سرّ هذا التجلَّي في كل حقيقة من حقائق ذات الخليفة ، ثم فاض نور التجلَّي منها على ما يناسبها من العالم .
 فما وصلت الآلاء والنعماء الواردة بالتجلَّي الرحماني على حقائق العالم إلَّا بعد تعيّنه في الإنسان الكامل بمزيد صبغة لم تكن في التجلَّي قبل تعيّنه في مظهرية الإنسان الكامل .
فحقائق العوالم وأعيانها رعايا للملك الحقيقي المالك لهم .
وعلى الخليفة رعاية رعاياه على الوجه الأنسب والأليق والأفضل ، وفيه تتفاضل الخلائف بعضهم على بعض ، فاجهد واشهد واكشف ، تشهد ، والله الهادي .
قال رضي الله عنه : ( فما صحّت الخلافة إلَّا للإنسان الكامل فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره ، وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى .
ولذلك قال : « كنت سمعه وبصره » ولم يقل : كنت عينه وأذنه ، ففرّق بين الصورتين ) .
بيان إيجاد الحق صورة ظاهر الإنسان
قال العبد : أمّا إنشاء صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره فمن حيث إنّ ظاهرية الإنسان أحدية جمع جميع الحقائق الكونية وصورها .
فما من ذرّة من ذرّات الوجود من العقل الأوّل إلى آخر نوع من أنواع الموجودات الكونية إلَّا وفي نسخة ظاهر الإنسان الكامل نظيرتها ومندوحتها ، ونسبتها إليه كنسبة الأصل إلى الفرع .
 ونسبة حقائق ذات الإنسان وصورها إلى حقائق العالم وصورها نسبة الأصل إلى الفرع ،
ولقد ذكرنا نظائر حقائق العالم وصورها من الإنسان الكامل في الشرح الكبير ، وربما يحشو حشو حواشي هذا المختصر شيء من ذلك ، حتى يكون الكتاب كافيا وافيا.
 والله الموفّق والمؤيّد والمعين .
بيان إظهار صورة باطن الإنسان الكامل
وأمّا إنشاء الله تعالى صورة باطن الإنسان على صورته تعالى فهو أنّ الإنسان الكامل حاو ، جامع لجميع الأسماء الإلهية الفعلية الوجوبية وجميع نسب الربوبية فإنّه أعني الإنسان الكامل واجب الوجود بربّه.
 عرش لله بقلبه ، فهو حق ، واجب الوجود ، حيّ ، عالم ، قدير ، مريد ، متكلَّم ، سميع ، بصير وهكذا جميع الأسماء ، ولكن بالله على الوجه الأجمع الأكمل .
وصورة الله التي خلق الله آدم عليها هي أحدية جمع جميع هذه الحقائق الربانية الإلهية على الإطلاق ، لا غير ، فباطن الإنسان على صورة الله ، وظاهره على صورة العالم وحقائقه.
والظاهر مجلى ومرآة للباطن ، والباطن متعيّن في الظاهر وبه بحسبه كما عيّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما أسنده إلى الله تعالى أنّه قال :
"كنت سمعه وبصره " ولم يقل عينه وأذنه ، ففرّق بين صورته الظاهرة وصورته الباطنة .
يريد رضي الله عنه في هذا ، الحديث ، وإلَّا ففي غيره التعميم والشمول على صورتية الظاهرة والباطنة ، ولا تظنّنّ قولنا : " صورته الظاهرة " جسمانية فقط فليس المراد ذلك .
بل خليقته من جسم وروح ، وقوى وعقل ، ومعان وصفات وغيرها ممّا يصدق إطلاق الخليقة وما سوى الله عليه ، فالهيئة الجمعية من جميع ما ذكرنا هي صورته الظاهرة .
فبهذا كان الإنسان الكامل بظاهره صورة العالم الأحدية الجمعية .
وقيل : فيه العالم الصغير ، أي من حيث الصورة .
والذي يتضمّن هذا الحديث من الفرق بين الصورتين والتخصيص فهو أنّ السمع والبصر حقيقتان ملكوتيّتان وإلهيّتان للنفس أو للروح كيف شئت وأمّا العين والأذن فهما آلتا إدراك المبصرات والمسموعات بالنسبة إلى من إدراكه مقيّد بالآلات ما دام كذلك .
وأمّا سمع الحق وبصره اللذان تسمّى بهما فغير متوقّف على الآلة والجارحة ، فذكر في هذا الحديث الأليق بجنابه تعالى لأهل العموم بلسانهم .
وإلَّا فإنّ الإدراكات بالآلات والجوارح كلَّها ، وقد يسري النور في باطن المحقّق المتحقّق بهذا المقام إلى ظاهره وأعضائه وجوارحه ، كما جاء في اليد والرجل واللسان والقدم والطريق ، والله وليّ التوفيق .
قال رضي الله عنه : ( وهكذا هو في كل موجود في العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود ، ولكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة ، فما فاز إلَّا بالمجموع ) .
يعني رضي الله عنه :
أنّ الحق متعيّن في كل جزء جزء من العالم بحسب خصوصيته لا غير ، فاشترك الكلّ في مطلق المظهرية ، وافترقت في الخصوصيات .
ففاز الإنسان بخصوص الجمع بين جميع الخصوصيات المظهرية ، ففاز بظاهره بالاسم « الظاهر » من جميع الوجوه ، وبباطنه بالاسم " الباطن " كذلك ، وكان الجامع لأحديّة جمعها على الوجه الأجمع الأحسن .
قال رضي الله عنه : ( ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ، ما كان للعالم وجود ، كما أنّه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلَّية المذكورة ، ما ظهر حكمها في الموجودات العينية .
ومن هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده ) .
قال العبد أيّده الله به :
قد أعلمناك فيما تقدّم أنّ الله خلق آدم على صورته وعلى صورة الإنسان العالم ، وأنّ الصورة التي خلق آدم عليها صورة معقولية أحدية جمع جميع الأسماء ، وأنّ العالم بجميع أجزائه جمعا وفرادى مظاهر الأسماء ، التفصيلية ، وأنّه الصورة الإنسانية الفرقانية ، وأنّ صورة الإنسان الكلي على صورة العالم أو حقائقه تماما ، وأنّ صورة باطنه صورة الله .
فتذكَّر « 4 » جميع هذه الأصول ، واعلم أنّه ما من موجود من الموجودات ولا شيء من الأشياء إلَّا وهو مظهر ومرآة ومحلّ ظهور للوجود الحق الظاهر فيها والساري بأحدية جمع الصور الإلهية في الكلّ.
إذ النفس الرحماني يقتضي  النور الوجودي الإلهي الفائض على المظاهر الكيانية بالصورة الربانية الأحدية الجمعية .
ولكن ظهورها في كلّ مجلى وتعيّنها في كلّ مظهر إنّما يكون بحسب القابل لا بحسب الصورة كظهور النور الكبير في المرآة الصغيرة .
فإنّه صغير ومتشكَّل بشكلها ، وكان المراد الأوّل الأولى والمقصد الإلهي الأعلى الأجلى من الإيجاد هو التجلَّي الإلهيّ بصورته في أحدية جمع النفس الساري في حقائق العالم .
ولولا هذا السريان النوري الوجودي بالصورة المقدّسة الأحدية الجمعية الإلهية في حقائق هذا المجلى المشهود الموجود ، ما وجد موجود ، ولا شهود مشهود.
فافتقار العالم إلى الموجد من أهل هذه الحقيقة ، حتى يحصل له شرف المظهرية لصورته تعالى فإنّ المخلوق على الصورة التي هي مخلوقة على الصورة الإلهية يكون على الصورة الإلهية يكون على الصورة .
قال رضي الله عنه : شعر :
فالكلّ مفتقر ما الكلّ مستغن     ......        هذا هو الحق قد قلناه لا نكني
فإن ذكرت غنيّا لا افتقار به     .....          فقد علمت الذي من قولنا نعني
فالكلّ بالكلّ مربوط فليس له   .......         عنه انفصال خذوا ما قلته عنّي
قال العبد - أيّده الله به - : اعلم :
أنّ الله - سبحانه وتعالى - بجميع نسبه الذاتية موجب لوجود العوالم والمظاهر ، ومستلزم لمتعلَّقات حقائقة الوجوبية ، ودقائق سائر أسماء الربوبية .
وتلك المتعلَّقات هي حقائق المخلوقية والمربوبية ، فهي واجبة الوجود بإيجاب الواجب الوجود بالذات لها ، ولولا هذه الحقائق المظهرية من أكوان عالم الإمكان ، لما ظهرت الصورة الإلهية المقدّسة الأحدية الجمعية الذاتية .
فشمل الافتقار نسب الربوبية وحقائق المربوبية ، بيد أنّ افتقار العوالم إلى الحق في التحقيق بالحقيقة
والوجود على التعيين .
وليس كذلك افتقار النسب الأسمائية ، فإنّ الوجود هو المسمّى بجميع الأسماء ، المتعيّن بجميع النسب ، فما بها افتقار في الوجود والتحقيق إلى العالم .
ولكن في ظهور الآثار والأحكام لا غير ، ومع ذلك فلا افتقار بها إلى عالم معيّن أو مظهر شخصيّ مبيّن ، بل يوجب بالذات لها مظاهر لا على التعيين إلى أبدا الآبدين ، كما هو مقتضى ذاته المقدّسة من الأزل دهر الداهرين . فافهم .
واعلم : أنّ فلك الوجود الحقّ محيط بالموجودات العينية والغيبية ، وهويّته المحيطة وأوّل تعيّنه الذاتي بفلك الإلهية ، وهي محيطة بأفلاك الأسماء الإلهية .
ثم أفلاك الأسماء محيطات بحقائق مظاهرها الكيانية ، وهي أجناس العوالم وأنواعها وأصنافها وأشخاصها ، ودائرة فلك الهوية الكبرى الذي للوجود الحق فلك محيط بجميع الأفلاك .
وجميعها منحصر في أربعة أفلاك :
فلك اللاتعيّن والإطلاق الوجودي العيني الحقيقي ، وفلك التعين الأوّل الأحدي الجمعي الأكبر .
وهو من الوجود الحق كالقلب من الإنسان ، وهذا الفلك محيط بفلكين عظيمين كلَّيّين محيطين بسائر الأفلاك التفصيلية الآتي حديثها في مواضع ، مواقعها فلك الإلهية المحيطة بجميع نسبها وأسمائها  بالفلك الكوني المظهري من المعلول الأوّل إلى آخر صورة توجد من آخر نوع وجد .
ثم اعلم : أنّ فلك كل حقيقة من نقط محيط فلك الإلهية وهي عبارة عن نسب الربوبية والحقائق الوجوبية إنّما يتمّ بفلك متعلَّقها من العالم .
فكل فلك من أفلاك حضرات الأسماء مقسوم بقوسين كلَّيّين متساويين مساويين مجموعهما من محيط الفلك الدائر .
فالقوس الأعلى لنسب حقيقة فلك الاسم « الله » ونسبها ولوازمها نقط محيط دائرة متعلَّقة الحبائل ، متّصلة الرقائق والجداول بنقط محيط القوس الآخر الخصيص بمرتبة الكون المظهري .
والمجموع فلك كامل ، فأفلاك الإلهية ونقط محيطها مربوطة بأفلاك العوالم ونقط محيطها ، فالكلّ مفتقر ، ما الكلّ مستغن.
 وهذا معنى قول الكامل :

" فالكلّ بالكلّ مربوط ، فليس له  .....        عنه انفصال خذوا ما قلته عنّي " .
وأنّى الانفصال والافتراق والحقيقة الكلية مقتضية للاتّصال والاتّفاق والائتلاف والاعتناق ؟
" وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناه ُ طائِرَه ُ في عُنُقِه ِ " .
فإذا قامت قيامة التفصيل ، وتمّت مقامات التوصيل والتحصيل ، وبعثرت قبور النشور ، وبسطت أرض الحشر والنشور .
فيوم القيامة يلقاه كتابا منشورا ، سنذكر ما يبقى من تتمّة هذا السرّ في الموضع الأليق به ، إن شاء الله تعالى .
وأمّا قوله :
فإن ذكرت غنيّا لا افتقار به   .....   فقد عرفت الذي من قولنا نعني
فإنّه - رضي الله عنه - يشير إلى الغنى الذاتي الحقيقي الأحدي ، القاهر أعيان الأغيار ، والموجد كثرة النظراء والنظَّار " كان الله ولا شيء معه ".  " هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ ".
لم يوجب من حيث ذاته الغنيّة معنى الإنتاج والإيجاد ، ولا يقتضي الإظهار والإشهاد لأنّه بالذات كامل أبدا الآباد " وَلَمْ يُولَدْ " لم ينتج من أصل مقدمات منتجة " وَلَمْ يَكُنْ لَه ُ " لا يكون للهوية الكبرى المحيطة بالكلّ مثل ولا كفؤ من أحد معيّن ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم أعني صورته الظاهرة ) .
التي هي أحدية جمع جميع الحقائق المظهرية الخلقية روحانيّتها العقلية والنفسيّة ، وجسمانيّتها الطبيعية والعنصرية والمثالية والبرزخية والحشرية.
( وقد علمت نشأة روحانيّة آدم ، أعنى صورته الباطنة ، فهو الحق الخلق ) أي باطنه حق ، وظاهره خلق .
( وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي به استحقّ الخلافة .
فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني .
وهو قوله : " يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ").
قال العبد : اعلم :
أنّ أبانا عليه السّلام صورته ظاهرية أحدية جمع جميع الجمعيات ، وهو أوّل الختوم في المرتبة الظاهرة ، به ختم صور الأنواع الوجودية ، وهو بمثابة البشرة من وجه الصورة الإلهية ، ولهذا كان أبا البشر ، وجميع الصور البشرية بهذه المثابة من صورة اللاهوت .
ولمّا كان صلَّى الله عليه وسلَّم صورة ظاهرية أحدية جمع جميع الجمعيات الإلهية والكونية المنبعثة من جمعية التعين الأوّل الحقيقية والطبيعية الكلَّية والنفسية العمائية .
فهو صلَّى الله عليه وسلَّم أوّل صورة أحدية جمع الجمع بين الحقائق الوجوبية بالفعل والتأثير وبين الحقائق الكونية بالانفعال والتأثّر ، وذلك في أوّل النشأة الأحدية الجمعية .
وإنّما كان نفسا واحدة لأنّ الواحد أصل العدد ومنشؤه ولعدم صدور غير الواحد عن الواحد .
ولمّا كان المراد من خلق آدم وجود الخليفة على الوجه الأكمل الأجمع بين المجموع والمفصّل.
أخرج الله من هذا الأصل بعدد ذرّيّته وعدد ما يحويه النفس الواحدة الكلية الإلهية ، صورة أحدية جمع جميع الحقائق الانفعالية القابلة صور الجمعيات الكمالية وسمّاها « حوّاء » من الحواية وهي الجمع على صورة آدم من الطينة الطبيعيّة التي لها الجانب الأيسر .
 كنى عن هذه الحقيقة بأنّها خلقت من ضلع أعوج لأنّ الطبيعة من حقيقتها الاعوجاج إلى الظهور والتعيّن ، فأظهر الله من هذين الأبوين صور كليات صور أحديات جمعيات جميع الحقائق الجمعية المظهرية الإنسانية .
 فكانت حوّاء تنتج للأب ولدين في كل بطن بمقتضى الأصل الذي كان في بطنه صور الحقائق الفعلية والانفعالية معا وهو حقيقة الحقائق والتعيّن الأوّل ، فافهم إن شاء الله تعالى .
ثم قال رضي الله عنه : ( فقوله : " اتَّقُوا رَبَّكُمُ " اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربّكم ، واجعلوا ما بطن منكم وهو ربّكم وقاية لكم فإنّ الأمر ذمّ وحمد ، فكونوا وقايته في الذمّ ، واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين ) .
قال العبد :
لمّا كان ظاهرية آدم من مجموع العالم الكياني ، والعالم من حجابيته مجمع النقائص والمذامّ الخصيصة بالمقام الإمكاني ، فالأفعال والأخلاق والأحكام الصادرة عن الإنسان ، إن كانت قبيحة يستحقّ عليها المذمّة إمّا عرفا أو عقلا أو شرعا .
 فالأحرى والأليق أن ينسبها إلى نفسه أدبار وتحقيقا ، ناظرا في ذلك نظرا دقيقا فإنّ الصادر من الحق خير محض ، وهو الواحد لا غير فإنّه بالنسبة إلى من وجد به خير محض ، والنقائص والقبائح راجعة إلى الكيان من حضرة الإمكان .
والعدم الذي يلي أحد جانبي الإمكان بالنسبة إليه أولى ، وما كان فيها من الكمال والفضائل والمحاسن والمحامد أضاف إلى الحق لأنّها في الحقيقة راجعة إلى الوجود الحق .
وحينئذ يكون العبد قد جعل نفسه وقاية للحق في إضافته المذامّ إلى نفسه كما قال : " ما أَصابَكَ من حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ " .
والحقّ أنّ الحقّ وقاية لنفسه في إضافة المحامد إليه ونفي المذامّ عنه من وجهين وباعتبارين جمعا وفرادى ، وإليه يرجع عواقب الثناء ، وهذا مقتضى التحقيق الأتمّ ، والكشف الأعمّ ، والأدب الكامل الأهمّ ، ولمثل ذلك فليعمل العاملون .
قال رضي الله عنه : ( ثم الله أطلعه على ما أودع فيه ، وجعل ذلك في قبضتيه :القبضة الواحدة فيها العالم ، والقبضة الأخرى فيها آدم وبنوه ، وبيّن مراتبهم فيه ) .
قال العبد أيّده الله تعالى به : اعلم :
أنّ الكمّل من الصورة الأحدية الجمعية الإنسانية لا بدّ لهم أن يريهم الله ويشهدهم صور تفاصيل ما أودع فيهم تشريفا لهم وتكميلا وتفهيما لهم بحقائقه التي أودعها فيهم وتوصيلا .
 وكذلك أشهد آدم عليه السّلام صور تفاصيل النشأة الإنسانية في مقامي الجمع والفرق المشار إليهما بالآفاق والأنفس .
 فأشهد جميع العالم في القبضة الواحدة وهي اليسار عرفا اصطلاحيّا وأشهد آدم وذرّيّته في الأخرى ، وهي اليمين كذلك ، وكلتا يدي ربّي يمين مباركة ، والحديث مشهور .
إشارة إلى عناوين فصوص الكتاب
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لمّا أطلعني الله تعالى في سرّي على ما أودع في هذا الوالد الأكبر ، جعلت في هذا الكتاب ما حدّ لي منه ، لا ما وقفت عليه فإنّ ذلك لا يسعه كتاب ، ولا العالم الموجود الآن ) .
قال العبد :
فكما أطلع الله هذا الوالد الأكبر من كونه أحدية جمع ظاهرية الصورة الجمعية الأحدية الإنسانية الكمالية الإلهية على ما أودع فيه من أسرار مظهريّات الأولاد .
كذلك أطلع وأشهد خاتم الولاية الخاصّة المحمدية ، الجامع لجميع الكمالات الأحدية الجمعية الإنسانية ، والجامع لجميع الجمعيات جميع ما أودع في الوالد الأكبر عليه السّلام من صور أحديات جمع الجمعيات الكمالية من بين جميع الكمالات النبوية .
ما أمر رضي الله عنه بإظهار حقائق كل ذلك ، ولكن بإظهار ما حدّه له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم نبوّة التشريع .
وصورة جمع جميع التفاصيل النبوية والرسالتية ونسب الربوبية وحقائق الأسماء الوجوبية المتعلَّقة بالوضيع والرفيع ، والله يقول الحقّ وهو المجيب البصير السميع .
قوله رضي الله عنه : « لا يسعه كتاب ، ولا العالم الموجود الآن » إشارة إلى أنّ العالم أحكم كتاب يعوّل إليه وعليه ، كتبه الله بقلمه الأعلى ، وفسّره في لوحه المحفوظ الأجلى.
 وحروفه الحقائق الذاتية والوصفية والفعلية والحقيّة والخلقية الربانية والكيانية ، وهو أي العالم الموجود الآن كتاب مبيّن جميع الخفيّات والجليات من الكمالات .
وهو وإن حصل على كمالات لا تتناهى فليس إلَّا كتابا واحدا .
 ولكنّ الله له كتب كثيرة تمثّلها الحقيقة الروحية العلمية الإنسانية الكمالية أبد الآبدين ، ولن يزال خلَّاقا موجدا دهر الداهرين ، وصلَّى الله على محمد خاتم النبيّين ، وعلى ورثته الكمّل المقرّبين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فممّا شهدته ممّا نودعه في هذا الكتاب كما حدّه لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حكمة إلهية في كلمة آدمية وهو هذا الباب ) .
قال العبد :
هذه الحكمة مخصوصة بحضرة الألوهية وإن كانت الحكم كلَّها إلهيّة ، ولكن بين آدم عليه السّلام وبين الله تعالى نسب جامع ، ونسب تعريفك بها لك نافع وذلك أنّ الإلهية كما مرّ أحدية جمع جميع الحقائق الوجوبية ، وآدم أحدية جمع جميع الصور البشرية الإنسانية .
وقد ذكر شيخنا الإمام الأكمل أبو الأولاد الإلهيّين الكمّل ، سند الورثة المحمدية ، سيد الإخوان في الوراثة الإلهية الكمالية ، صدر الحق والدين ، محيي الإسلام والمسلمين ، أبو المعالي ، محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف رضي الله عنه في كتاب له ، لطيف الحجم ، محيط بكثير من جمل هذا العلم ، قريب المأخذ لأولي الألباب وذوي الفهم .
ولم يحضرني عند تعليقي هذا الشرح ، وكان فيه غناء عن شرح هذه التراجم والفهرست ، ولكن وارد الوقت يملي على الكاتب ما يجب البحث عنه ممّا أشار إليه الشيخ ، وممّا يفتح الله للناس من رحمة .
" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
من ذلك : أنّ « الألوهة » و « الألوهية » و " الإلهية " كلمات ثلاث دالَّات على أحدية جمع جميع الكمالات الوجوبية الواجبية الواجبة للنسب الذاتية وأسماء الربوبية وذلك بحسب الاختلاف التركيبي الواقع بين حروفها لفظا مع الاشتراك الأصلي في الدلالة ، كذلك أيضا دلالتها على هذه الحقيقة بحسب مراتبها في مشربنا وذوقنا .
فالألوهة : اسم لمعقولية المرتبة المطلقة التي لذات الله الواجب الوجود في مقابلة العبودة الذاتية ، التي هي اسم لمعقولية المرتبة المطلقة الخلقية التي للعالم المقيّد ، فكما أنّ العبودة مرتبة ذاتية للعبد معقولة ، كذلك الألوهة مرتبة لله معقولة سرّا اعتبرناها له متحقّقة به وجودا .
أو لم نعتبرها كذلك دالَّة على المرتبة الواجبية الفعّالة الموجدة لا غير ، وهي أحدية جمع جميع النسب الأسمائية من حيث معقوليّاتها وخصوصيّاتها ، ومن كونها في ذات الواجب عينها غير زائدة عليها .
والألوهيّة : اعتبار هذه الحقيقة المرتبية قائمة بالذات مضافة إليها ، ودلالتها دلالة أحدية جمعية بين معقولية المرتبة الأحدية الجمعية ، وبين الذات الواجبة من حيث أحديتها الجمعية الذاتية الخاصّة بالله فقط .
والإلهيّة : اعتبار هذه الحقيقة لله موجودة الأحكام والآثار ، ظاهرة النسب واللوازم والعوارض بالفعل في جميع الحضرات عرفا تحقيقيا . فاعلم هذه الفروق بين هذه الكلمات فإنّها لطيفة .
ومنها : أنّ آدم عليه السّلام كما هو صرة ظاهريّة الأحدية الجمعية الإنسانية البشرية ولهذا سمّي آدم اشتقاقا من أديم الأرض وأديم الوجه ، وهو ظاهرهما .
ويكنّى لذلك أبا البشر اشتقاقا من بشره الوجه ، وهي ظاهريته التي تباشرها الأبصار والعيون ، ووجه كل شيء حقيقته الأحدية الجمعية ، ووجه الإنسان مستقبلة وأحدية جمع حواسّه الخمسة الظاهرة كما علمت فالإنسانية الكمالية ، لها من صورة الله مثابة الوجه من صورة الإنسان ، وهي متحقّقة في جميع الختوم الكمّل كما ستعلم ذلك في شرح الحكمة الشيثية .
إن شاء الله تعالى والذي يختصّ بآدم من الجمعية الإنسانية الإلهية الكمالية هو ظاهريّتها الظاهرة لا غير ، فهو أبو البشر ، مؤمنهم وكافرهم ، موحّدهم ومشركهم ، أنبيائهم وأوليائهم وكذلك الإلهية ظاهرية المرتبة الأحدية الجمعية الربانية ، بخلاف الألوهية التي هي باطنها ، والألوهة التي هي معقولية المرتبة لا غير .
والحكم المنزلة على آدم عليه السّلام الواقعة في صورة حاله من دخوله الجنّة ، ونعيم الحقّ له ولزوجه فيها أوّلا ، ثم هبوطه إلى الأرض .
وتشهير نسبته إلى العصيان الظاهر ظاهرا ، وإلى الغواية المذكورة ، وغير ذلك كلَّها أحدية جمعية ظاهرة على الوجه الكمالي الإجمالي .
وفيه مترع للبسط فيه مجال ، وفيه أسرار وحكم كثيرة لا نذكرها في هذا الاختصار ، لكونها من الأسرار العالية التي لم يأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم الولاية الخاصّة المحمدية بكتابتها في هذا الكتاب ولكون أكثر الأفهام تنبو عنها لعلوّ مرتبتها ومجدها .
ولكن سنكشف هذه الأسرار في كتب توضع لذلك في وقته ، وفيما ذكرنا تنبيه وتلويح وتشويق ، والله وليّ التأييد والتوفيق .
قال رضي الله عنه : (ثم حكمة نفثية في كلمة شيثية).
قال العبد : اعلم :
أنّ الترتيب الواقع في هذا الفهرست ، إنّما هو ترتيب رتبي عيني ، وتأخّر وتقدّم وجودي عيني بين هذه الحكم بموجب المناسبة الرتبية .
وفصّ كل حكمة إنّما هو قلب ذلك النبيّ الكامل الذي أسندت تلك الحكمة إلى كلمتها الخصيصة بها ، والحكم نقوش العلوم الخاصّة بالأحكام التي أمر النبي أمّته بها ، وظهرت فيهم على الوجه الذي تقتضي تلك الحضرة ، ولكن ذكرها هاهنا من حيث الحضرة الأحدية الجمعية الكمالية الخصيصة بالمرتبة الختميّة  المحمدية في كل حضرة ، فافهم .
و « النفث » لغة نوع من النفخ ، وهو إرسال النفس من مخرج حرف الثاء مضموما إرسالا رخوا ، والنفث مخصوص بأهل علم الروحانية والنيرنج والعزائم والرقى شرعيّها وحكمتيّها .
وهو بثّ الروحانية وبسطها في النفس على ما ينطوي عليه الباطن من العزائم . قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : " إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت ، حتى تستكمل رزقها " .
ولمّا كانت الحكمة الجمعية الأحدية المبدئية الخصيصة بحضرة الألوهية قد كملت بآدم ، وتليه في المرتبة مرتبة الفيض الجودي والوهب الجودي بالنفس الرحماني .
وهذه المرتبة الوهبية مخصوصة بالكلمة الشيثية ، فإنّه أوّل إنسان نزلت عليه العلوم الوهبية الدينية ، فنزلت عليه علوم الروحانيات ، والملائكة الخصيصة بالتسخير والتصريف والتصرّف في الأكوان بالأسماء والحروف والكلمات والآيات وما شاكل ذلك.
 فلهذه المناسبة الأصلية ، ذكر رضي الله عنه حكمة النفث بعد الحكمة الإلهية ، وأضافها إلى شيث عليه السّلام كما أضاف الحكمة الأولى إلى آدم .
و « شيث » في اللغة العبرانية هو الهبة ، وكان أوّل من وهبه الله آدم بعد تفجّعه على فقد هابيل ، فعوّض الله له عن هابيل شيثا ، وسيرد في داخل الفصّ تتمّة البحث .
قال رضي الله عنه : (ثم حكمة سبّوحية في كلمة نوحيّة.)
قال العبد أيّده الله به :
 أمّا وجه إضافة هذه الحكمة إلى الحضرة السبّوحية فهو أنّ الغالب على الدعوة النوحية التنزيه والتقديس على ما سيجيء في شرح المتن .
وأولى تعيّن من المراتب الأسمائية بعد تعيّن المرتبة الإلهية هي مراتب أسماء التنزيه والإطلاق والتقديس ، ثم تتعين النسب الثبوتية .
وبعد تعين مرتبة الفيض والنفث ، إنّما وجد أوّلا عالم الأرواح والعقول والمجرّدات التي لها من معرفة الحق قسم التنزيه والتسبيح والتقديس ، ولهذا كان الحكمة الثالثة
فالأوّل حكم الجمع
والثاني مرتبة الفيض والوهب
والثالث إيجاد عالم التنزيه والتقديس .
ولأنّ الغالب على أمّة نوح عليه السّلام الأمور الظاهرة وعبادة أنواع الأصنام ، وجب أن تكون من الله دعوة نبيّهم إلى التنزيه والتطهير عن التحديد والتجسيم تعليما أنّ ما يعبدون لا يصلح للعبادة .
ولهذا نزلت هذه الحكمة على نوح ، وقلبه عليه السّلام محلّ نقش هذه الحكمة ، فهذا ما أردنا من تفسير قوله : فصّ حكمة سبّوحية في كلمة نوحية  .
قال رضي الله عنه : (ثم حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسية)
اعلم : أنّ « التسبيح » كما علمت حمد الحق تعالى والثناء عليه بالأمور السلبية ونفي النقائص عن الجناب الإلهي ، وتنزيهه عن التشبيه والتحديد والتقييد . وكذلك « التقديس » هو التنزيه عن النقائص وعن صلاحية قبول جناب الله تعالى ذلك وإمكانه فيه فإنّ ذلك مستحيل إضافته « 2 » إلى جنابه تعالى لكونه غنيّا عن العالمين ولكون جنابه تعالى أحدية جمع الكمالات الإحاطية وجودا ومرتبة .
والفرق بين التنزيه النوحي والإدريسي :
أنّ دعوة نوح عليه السّلام وذوقه تنزيه عقلي .
 وتنزيه إدريس عليه السّلام عقلي ونفسي .
 فإنّ إدريس عليه السّلام ارتاض حتى غلبت روحانيته على طبيعته ومزاجه وتروحن ، وكان كثير الانسلاخ والمعراج ، وخالط الملائكة والأرواح ، وعاشرهم وخرج عن صنف البشر ستّ عشرة سنة ، لم ينم ولم يأكل حتى بقي عقلا مجرّدا ، وعرج به إلى السماء الرابعة .
 بخلاف نوح عليه السّلام لأنّه كان قائما بحظَّ النفس والروح ، وتزوّج وولد له .
وهو الأب الثاني ، فتنزيه إدريس أبلغ وأتمّ .
فإنّه نزّه الحق من حيث تعيّنه في عينه عن أوساخ الطبيعة والجسمانية ، وبقي في نفسه عقلا مجرّدا ، وسقطت عنه شهوته ، كما يرد عليك ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة مهيمنيّة في كلمة إبراهيمية ) .
قال العبد :
هي شدّة العشق وغلبة الهيمان ، وهو عدم الانحياز إلى غرض معيّن ، بل إلى المحبوب في أيّ جهة كان لا على التعيين .
وهذه المرتبة تحقّقت أوّلا في الأرواح العالية المهيّمة ، تجلَّى لهم الحق في جلال جماله ، فهاموا فيه ، وغابوا عن أنفسهم فلا يعرفونها ولا غير الحق ، وغلب على خليقتهم حقيقة التجلَّي ، فاستغرقهم واستهلكهم وملكهم .
وتحقّق ذلك فيمن تحقّق من كمّل الأنبياء إبراهيم عليه السّلام لأنّه كان خليل الرحمن .
والخليل هو المحبّ الحبيب الذي يتخلَّل في خلال روح المحبّ والمحبّ في الحبيب .
كما قال : تخلَّلت مسلك الروح منّي .
ولهذا سمّي الخليل خليلا ، والخليل عليه السّلام غلبته محبّة الحق ، حتى تبرّأ عن أبيه في الحق وعن قومه ، وذبح ابنه في سبيل الله ، وخرج عن جميع ماله مع الكثرة المشهورة لله .
كما قيل عنه : إنّ ملائكة الله تعالى قالوا : لا بدّ مع هذا الخير والبركة والنعمة والمال والوجاهة والنبوّة والملك والكتاب الذي أعطى الله إبراهيم أن يحبّه وليس ذلك بجنب هذه العطايا كثيرا .
فقال الحق لهؤلاء الملائكة : جرّبوه ، فتجسّدوا له في صور البشر .
وذكروا الله له بالتنزيه ، فقالوا :سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح .
فلمّا سمع إبراهيم عليه السّلام هذه الكلمات ، أخذه الوجد والهيمان في الله تعالى ، واستدعى منهم أن يعيدوا عليه الكلمات .
فطلبوا من ماله أجراء على إعادة الكلمات ، فأعطى ثلث ماله .
 فذكروا الذكر ، فاستعاده منهم كرّة أخرى ، وأعطاهم الثلث الثاني .
 فسبّحوا له الله بالمذكور من الذكر ، فطاب وقت إبراهيم وازداد هيمانه فاستعاد الكلمات منهم ، وأعطاهم الثلث الباقي .
فأعادوا له ، فلمّا تمّ امتحانهم له ، ذكروا أنّهم ملائكة الله ، فلهذا نسبت هذه الحكمة إلى إبراهيم عليه السّلام .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة حقّيّة في كلمة إسحاقية ) .
اعلم : أنّ عالم المثال المقيّد وهو عالم الخيال إذا شوهدت فيه صورة وتجسّد له المعنى أو الروح في صورة مثالية أو خيالية ، ثم إذا رجع إلى الحسّ ، وشاهد حقّية ذلك على الوجه المشهود .
فقد جعله الله حقّا ، أي أظهر حقّية ما رأى في الوجود العيني حسّا ، فإنّ الخيال لا حقيقة له ولا ثبات ، كما قال يوسف عليه السّلام : " هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " .
وكان هذا حال إبراهيم عليه السّلام في مبدئه ، فكان لا يرى رؤيا إلَّا وجد مصداقها في الحسّ ، ورأي حقيقتها عينا ، فكان عليه السّلام لا يؤوّل رؤياه ، وهو نوع من الكشف الصوري .
وسرّ ذلك أنّ الوارد إذا نزل من الخارج على القلب .
ثم انعكس من القلب إلى الدماغ ، فصوّرته القوّة المصوّرة في المتخيّلة وجسدّته ، خرج على صورة الواقع لأنّ عكس العكس مطابق للصورة الأصلية ، فيشاهد صاحب الكشف المذكور شاهد الوارد مطابقا للصورة الأصلية على ما رآه في عالم المثال .
وقد شاهدت هذا من أبي رحمه الله في صغري كثيرا فكان رحمه الله يرى رؤيا ويحكيها لي ، ثم يقع في الحسّ على ما رأى ، فيتعجّب ويسرّ بذلك .
وكان مشاهد إبراهيم عليه السّلام على هذا ، وقد يعود ذلك ، ثم لمّا نقله الله إلى ما هو أعلى ، وتحقّق برتبة الكمال ، فصار قلبه محلّ الاستواء الإلهي وينبوع تنوّع التجلَّيات ومنبعث أنوار الواردات الخارجة إلى الكون .
فانبعث الوارد بمعنى القربان من قلبه إلى القوّة المتخيّلة ، فصوّرت له المصوّرة ذلك القربان وهو الكبش على صورة إسماعيل لكونه صورة السرّ الذي أوجب عليه القربان .
فلمّا استيقظ لم يفسّر رؤياه بموجب مقتضى عالم الخيال ، بل جرى على سيرته الأولى على ما اعتاده.
وكان مشهد إسماعيل عليه السّلام أيضا من هذا المشرب .
فلمّا قال له : "يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ " أي لله قربانا ، فلم يزل إسماعيل عن معهود المشهود ، واستصحب الحال.
فقال :" يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ " .
فصرّح أنّ الوحي إليه كان بهذا الطريق ، ولهذا السرّ أضيفت هذه الحكمة الحقّية إلى الكلمة الإسحاقية ، وسنذكر في داخل شرح المتن سرّ الحقيقة .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة عليّة في كلمة إسماعيلية ) .
إنّما أسندت هذه الحكمة إلى الاسم « العليّ » لما شرّف إسماعيل عليه السّلام بقوله :
" وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا " ولأنّه كان صادقا في الوعد ، وذلك دليل على علوّ الهمّة في القول والفعل ، كما سنذكر .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية ) .
وحكمة إضافة هذه الحكمة إلى الروحية لأنّ الغالب على ذوق يعقوب عليه السّلام كان علم الأنفاس والأرواح ، حتى ظهر في وصاياه وإخباراته ، مثل قوله : "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ".
ووصيّى بنيه فقال : " لا تَيْأَسُوا من رَوْحِ الله إِنَّه ُ لا يَيْأَسُ من رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ " وذوق أهل الأنفاس عزيز المثال ، قد جعل الله لهم التجلَّي والعلم في الشمّ .
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " إنّي لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ".
 قيل : إنّه عليه السّلام ، كنى بذلك عن الإبصار وهم صور القوى الروحانية التي نضرتهم على صور القوى الطبيعية ، واليمن أيضا من اليمين ، وهو إشارة إلى الروحية وعالم القدس .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية ) .
أضاف رضي الله عنه حكمة النور إلى الكلمة اليوسفية لظهور السلطنة النورية العلمية المتعلَّقة بكشف الصور الخيالية والمثالية .
وهو علم التعبير على الوجه الأكمل في يوسف عليه السّلام فكان يشهد الحقّ عند وقوع تعبيره ، كما قال " قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " فأشار إلى حقيقة ما رأى ، وأضاف إلى ربّه الذي أعطاه هذا الكشف والشهود .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة أحدية في كلمة هوديّة ) .
وجه نسبة هذه الحكمة إلى هود عليه السّلام هو أنّ الغالب عليه شهود أحدية الكثرة ، فأضاف لذلك إلى ربّه أحدية الطريق بقوله : " إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ".
 وقال :" ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها " فأشار إلى هوية ، لها أحدية كثرة النواصي والدوابّ .
قال رضي الله عنه: ( ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ حكمته منسوبة إلى الفاتح والفتّاح ، فانفلق الجبل له في إعجازه ، ففتح الله له عن الناقة ، وفتح الله له على قومه بذلك ، فكان موجب إيمان بعض أمّته وإهلاك بعضه في وجود الناقة ومدّتها .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية ) .
كان الغالب على دعوة شعيب الأمر بالعدل وإقامة الموازين والمكاييل والأقدار .
كما قال : " وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ " كلّ هذه الإشارات تدلّ على رعاية العدل وأحدية الجمع والاعتدال .
وكما أنّ العدل في حفظ صحّة جميع البدن وسقمه إلى القلب ، والقلب له أحدية جمع القوى الروحانية والقوى الجسمانية ومن القلب ينشعب الروح الطبيعي إلى كل عضو عضو من أعلى البدن وأسفله على ميزان العدل ، فيبعث لكل عضو ما يلائمه من الروح الطبيعي ، فافهم .
واستفاد منه موسى عليه السّلام علم الصحبة والسياسة ، وأمره بالتخلَّي عن العامّة إلَّا في وقت معلوم وقدر موزون ، وكان الغالب على موسى عليه السّلام الظاهر .
 فحصل له بصحبته جميع مقام الجمع .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة ملكية في كلمة لوطيّة ) .
أضيفت حكمته إلى الملك من طلبه القوّة والركن الشديد ، فإنّ الملك القوّة والشدّة ، كما سيأتيك .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة قدرية في كلمة عزيزيّة ) .
أضيفت حكمة عزيرية عليه السّلام إلى القدر لطلبه العثور على سرّ القدر ، وكان الغالب على حاله القدر والتقدير ، " فَأَماتَه ُ الله مِائَةَ عامٍ "  ولما سأله الله تعالى : " كَمْ لَبِثْتَ " عن قد ما لبث  ، قال بالتقدير : " لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ ".
 وقوله : " أَنَّى يُحْيِي هذِه ِ الله بَعْدَ مَوْتِها "  استفهام استعظام وتعجّب عن كيفية تعلَّق القدر بالمقدور بالنظر الظاهر على ما سيأتيك نبؤه عن قريب .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة نبويّة في كلمة عيسوية ) .
أسند الشيخ حكمته إلى النبوّة لكون الغالب على عيسى عليه السّلام الإنباء عن الحق وإنباء الحق عنه له وعن نفسه ولعلوّه وارتفاعه الروحي والإلهي عن أبناء البشر ، كما ستعرف .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية ) .
أسندت حكمته إلى الرحمن لكمال ظهور أسرار الرحمة العامّة والخاصّة فيه صلَّى الله عليه وسلَّم على الوجه الأعمّ الأشمل وبالسرّ الأتّم الأكمل ، وجعل الله سعته في أمره وحكمه على أكثر المخلوقات ، وسخّر له العالم جميعا كما وسعت رحمة الرحمن جميع الموجودات ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة وجودية في كلمة داودية ) .
إنّما كانت حكمته وجودية لما تمّ في وجوده حكم الوجود العامّ في التسخير ، وجمع الله له بين الملك والحكمة والنبوّة ، ووهبه سليمان الذي آتاه التصرّف في الوجود على العموم ، وخاطبه بالاستخلاف ظاهرا صريحا ، فبلغ الوجود بوجوده كمال الظهور .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة نفسية في كلمة يونسيّة ) .
قال العبد : حاله عليه السّلام كان ضرب مثل لتعيّن النفس الناطقة بالمزاج العنصري وأهوال أحوال المزاج الطبيعي . وفيه رواية ، أنّ حكمته مستندة إلى النفس الرحماني بفتح الفاء لما نفّس الله عنه جميع كربه المجتمعة عليه من قبل أهله ونفسه وولده وماله .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة غيبية في كلمة أيّوبية ) .
جميع أحواله عليه السّلام من أوّل حالة الابتلاء إلى آخر مدّة كشف الضرّ عنه غيبيّ حتى أنّ الآلام كانت في غيوب جسمه ، وابتلي بغتة غيبا ، ثم كشف عنه الضرّ ، كذلك من الغيب من حيث لا يشعر ، فآتاه الله أهله الذين غيّبهم عنه " وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً " من الله غيبته ، كما سنومئ إلى ذلك عن قريب .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية ) .
نشأته عليه السّلام روحانية على وجه لا يقبل تأثير الموت ، فانفلق له جبل لبنان من لبانته في صورة فرس من نار ، فأنس بها وآنسها ، فأمر بالركوب عليها ، فركبها ، فنسب حكمته إلى إيناس نور أحدية الجمع في صورة نارية الفرق على ما يأتي .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية ) .
كان الغالب على حاله في كشفه وشهوده الإحسان ، وأوّل مرتبته الأمر بالعبادة على البصيرة والشهود ، كما أمر لقمان ابنه في وصيّته إيّاه " يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " نهاه عن الشرك للإخلاص في عبادته وعبوديته لله .
وهو أعلى مرتبة الإحسان ، ثم عرّفه بوصيّته تعالى الإنسان بالإحسان ، ولقد أحسن في بيان إحسان الله تعالى إلى المرزوقين ، كما ستقف على أسراره عن قريب .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية ) .
كان هارون عليه السّلام إمام الأئمّة من الأحبار في بني إسرائيل كلَّهم ، وأمره موسى عليه السّلام أن يؤمّ أمّته ، واستخلفه عليهم ، ولقد صرّح بإمامته في القرآن ، وصرّح هو أيضا بذلك في طلبه الاتّباع والطاعة من قومه في قوله : " فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي " .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة علوية في كلمة موسوية ) .
أعلى الله مكانته ، وأخبره أنّه هو الأعلى ، فقال : " لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى " وأعلى الله كلمته العليا على من ادّعى العلوّ بقوله : " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " و " كانَ عالِياً من الْمُسْرِفِينَ " .
ثم قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية ) .
دعا إلى الأحد الصمد ، وكان قومه يصمدون إليه ويقصدونه في الملمّات والمهمّات ، فيكشف الله إيّاها عنهم بدعائه عليه السّلام  .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة فردية في كلمة محمدية ) .
قال العبد :
جاء الوارد في هذه الحكمة بعبارتين دالَّتين على حقيقة واحدة :
إحداهما : حكمة كلَّية لكونها أحدية جمع جميع الحكم الجمعية الكلَّية المتعيّنة في كلّ كلّ منها كلَّية فهي كلّ كلّ منها .
والثانية : حكمة فردية لأسرار وحقائق يكشف لك عن أصولها وفصولها في شرح حكمته صلَّى الله عليه وسلَّم .
قال رضي الله عنه : ( وفصّ كلّ حكمة الكلمة التي نسبت إليها ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ محلّ نقش كلّ فصّ هو قلب ذلك الإنسان الكامل المذكور عند كلّ حكمة منها .
قال رضي الله عنه : ( فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حدّ ما سبق  في أمّ الكتاب ، فامتثلت على ما رسم ، ووقفت عندما حدّ لي ، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت فإنّ الحضرة تمنع عن ذلك ، والله الموفّق لا ربّ غيره ) .
قال العبد أيّده الله به :
مراتب أمّ الكتاب كثيرة ولكن أمّهاتها الكلَّية خمس :
الأولى : أمّ الكتاب الأكبر ، وهو التعيّن الأوّل وحقيقة الحقائق الكبرى .
والثانية : أمّ الكتاب الإلهية وهو عماء الربّ الذي كان فيه ربّنا قبل أن يخلق خلقه فتذكَّر ، وهو لله تعالى خاصّة .
والثالثة أمّ الكتاب المبين للاسم « المدبّر » وهو العقل الأوّل والقلم الأعلى ، أعني الكتاب المبين ، وأمّه حقيقة الحقائق الكيانية ، وهو عماء العالم .
الرابعة : ثم أمّ الكتاب المفصّل للاسم « المفصّل » بكسر الصاد ، وهو اللوح المحفوظ شرعا والنفس الكلَّية عرفا حكميا .
الخامسة : ثم أمّ الكتاب الذي في سماء الاسم « الخالق » وهو في روحانية روح سماء القمر ، فافهم.
ثم اعلم :
 أنّ التعيّن الأوّل الذي هو حقيقة الحقائق الكبرى مرتبة الإنسان الكامل ، وهي أحدية جمع جميع الكتب إلهيّها وكونيّها .
 وأثبت ثبت هذه الحكم والكتب رضي الله عنه ممّا ثبت في هذه الأمّ من مشرب أحدية جمع جميع الكمالات الختمية المحمدية .
وهذه المرتبة هي البرزخية الفاصلة بين التعين واللا تعين ، والغيب الذاتي والشهادة الكبرى ، وبين الحقيّة والخلقية ، وصاحبها صاحب الحدّ ، محمد خاتم الأنبياء .
الذي حدّ منها ما حدّ لخاتم الولاية الخاصّة أن يخرج به إلى الناس ، فينتفعوا به ، بل هو الحدّ . فافهم   وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ .
.



واتساب

No comments:

Post a Comment