Sunday, February 9, 2020

السفر الحادي والعشرون فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الفقرة الثانية .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر الحادي والعشرون فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الفقرة الثانية .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر الحادي والعشرون فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الفقرة الثانية .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله
جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص شرح الشيخ عبد الغني النابلسي 1134 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )
21   - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
هذا فص الحكمة الزكرياوية ، ذكره بعد حكمة يحيى عليه السلام لأنه أبوه وقدم ذكر الابن ، لأنه هبة له من اللّه تعالى والهبة مقدمة اعتناء بشأن الواهب وشكر النعمة التي هي من أعظم المواهب .
قال تعالى : "وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ( 89 ) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ( 90 )" [ الأنبياء : 89 - 91 ] .
(فص حكمة مالكية) ، أي منسوبة إلى المالك الحق سبحانه (في كلمة زكرياوية . )
إنما اختصت حكمة زكريا عليه السلام بكونها مالكية لأنها مشتملة من أوّلها إلى آخرها على ذكر الرحمة الإلهية العامة والخاصة، لأنه عليه السلام كما قال تعالى عنه :"ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا" [ مريم : 2 ] الآية .
والرحمة لها الملك في المرحومين بها إيجادا وإمدادا فهي مالكة لذواتهم وصفاتهم لأن المالك له التصرف دون غيره ولا متصرف إلا الرحمة فلها الملك في كل شيء والاستيلاء على كل شيء.

قال رضي الله عنه:  (اعلم أنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، وأنّ وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب . فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرّحمة إليه نسبة الغضب إليه .  ولمّا كان لكلّ عين وجود يطلبه من اللّه ، لذلك عمّت رحمته كلّ عين . فإنّه برحمته الّتي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها . فلذلك قلنا إنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما . والأسماء الإلهيّة من الأشياء ؛ وهي ترجع إلى عين واحدة . فأوّل ما وسعت رحمة اللّه شيئية تلك العين الموجدة للرّحمة بالرّحمة ، فأوّل شيء وسعته الرّحمة نفسها ثمّ الشيئيّة المشار إليها، ثمّ شيئيّة كلّ موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة وعرضا وجوهرا، ومركّبا وبسيطا . ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كلّه وسعته الرّحمة الإلهيّة وجودا . )

(اعلم) يا أيها السالك (أن رحمة اللّه ) تعالى التي هي صفة من صفاته الأزلية الأبدية وسعت كل شيء قديم أو حادث فوسعها للقديم اتصافها به فهي موصوفة بجميع الأوصاف الإلهية ، فهي واسعة لذلك والاسم منها جامع لجميع الأسماء فهو واسع لها قال تعالى :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى[ الإسراء :110].

ووسعها للحادث محسوسا كان أو معقولا ، أو موهوما ، لأن لها الإحاطة بالأعيان كلها كما قال سبحانه ؛ والله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ[ فصلت : 54 ] بالشيء واسع له وما أحاط إلا بصفة الرحمة الاستوائية على العرش الجامع لكل شيء بالاسم المشتق منها وهو اسم الرحمن وتبعته جميع الأسماء للآية المذكورة .
وقال سبحانه :الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [ طه : 5 ] ، وكل اسم محيط بأثره بالرحمة التي توجد منها فالرحمة هي المحيطة فهي الواسعة لكل شيء (وجودا) ، أي من حيث وجود ذلك الشيء بها (وحكما) ، أي من حيث الحكم على ذلك الشيء بكونه مؤثرا أو مكملا أو أثرا خيرا أو شرا أو ذا خير وذا شر ومجردا منها واعلم أيضا (أن وجود الغضب الإلهي على شيء (من رحمة اللّه تعالى بالغضب) إذ الغضب صفة من صفات اللّه تعالى ولولا الرحمة له ما وجد ، أي ما قام وثبت لصفة وإن كان موجودا للذات الإلهية ، لأنه من صفاتها ولولا الاسم الرحمن المسمى بجميع الأسماء ما ظهر الاسم الغاضب
(فسبقت رحمته) تعالى المستوي بها على العرش جميع صفاته وأسمائه لسبق الذات لأحوالها فاتصفت بجميع الصفات وتسمت بكل الأسماء حتى أنها سبقت من جملة ذلك صفة (غضبه) تعالى كما ورد في الأحاديث أي سبقت نسبة الرحمة إليه ، تعالى بالنظر إلى إيجاد كل شيء وإمداده عن تلك الأسماء الإلهية والصفات الربانية (نسبة الغضب إليه) سبحانه فتأخر الغضب عنها تأخر الصفة عن الموصوف والاسم عن المسمى ، وقامت الرحمة لجميع الصفات والأسماء الإلهية مقام الذات الجامعة .

ولهذا ورد أن الرحمة انقسمت مائة جزء ، وهي الأسماء الإلهية التسعة والتسعون اسما ، وتمام المائة اسم الذات الجامع لكلها ، وكون الجزء الواحد منها في الدنيا وهو الاسم الجامع الذاتي الظاهر في كل شيء ، الذي ترفع به الدابة يدها عن ولدها شفقة عليه ورحمة به أن تدوسه ، وتتفصل الأجزاء الباقية في يوم القيامة فيرحم اللّه تعالى بها عباده ، ويقوم الميزان بالقسط ، ولا تظلم نفس شيئا لظهور العدل الإلهي في ذلك اليوم ، وتتخلق العارفون بتلك الأجزاء كلها .

روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " جعل اللّه الرحمة مائة جزء ، فأمسك عنده تسعا وتسعين جزءا ، وأنزل إلى الأرض جزءا واحدا ، فيه يتراحم الخلق حتى أن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تدوسه ". أورده المناوي في فيض القدير وعزاه إلى البخاري في الأدب المفرد.  

وفي رواية الحسن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " إن للّه تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة إلى أهل الدنيا فوسعتهم إلى آجالهم وأن اللّه تعالى قابض تلك الرحمة يوم القيامة إلى التسعة والتسعين فيكملها مائة رحمة لأوليائه وأهل طاعته ". رواه الحاكم في ورواه أحمد في المسند عن أبي هريرة ورواه غيرهما .

(ولما كان لكل عين) من الأعيان الأسمائية التي هي مجرد نسب ورتب في الذات الأحدية والأعيان الأثرية التي هي صور تجليات تلك النسب والرتب الاسمائية (وجود) يليق ظهوره بحسب تلك العين (يطلبه) ، أي كل عين يطلب وجوده المقيد من حضرة (وجود اللّه) تعالى المطلق القيوم على الكل اتصافا في الأعيان الأسمائية وتأثيرا في الأعيان الكونية (لذلك) ، أي لأجل كون الأمر كذلك (عمت رحمته) سبحانه (كل عين) مما ذكرنا ،

(فإنه) سبحانه وتعالى (برحمته) ، أي بسبب رحمته (التي رحمه) ، أي رحم كل عين ب(ها قبل) تعالى (رغبته) ، أي رغبة كل عين وطلبه ودعاءه بلسان افتقاره واستعداده (في وجود عينه) ، أي ذاته له (فأوجدها) ، أي تلك العين الراغبة في وجودها لشرف الوجود وكمال الاتصاف به فإنه حلة القديم سبحانه .

(فلذلك قلنا إن رحمة اللّه) تعالى (وسعت كل شيء) قديم أو حادث (وجودا وحكما و)لا شك أن (الأسماء الإلهية) القديمة الأزلية (من) جملة (الأشياء) لأنها مجرد نسب واعتبارات وإضافات بين ذات الحق تعالى وبين ما أقامه بها من الأعيان الكونية قبل وجودها الثابتة في عدمها الأصلي ، فإذا استفادت تلك الأعيان الثابتة صفة الوجود من تلك النسب الذاتية ، كانت الإضافة من الذات الإلهية بواسطة تلك النسب ، فتتبين تلك النسب المذكورة لا أنها تحدث لأنها قديمة بقدم الذات الإلهية ، إذ هي نسب الذات واعتباراتها وإضافاتها ، وإنما الذي يحدث تلك الأعيان الثابتة
باعتبار إضافة الوجود عليها بالمتجلي الحق سبحانه ، فكما تظهر تلك الأعيان الثابتة بالمتجلي الحق تظهر أيضا تلك النسب الذاتية بالمتجلى الحق ، فتشترك مع الأعيان في الظهور بالتجلي ، فتسمى أشياء بهذا الاعتبار
وتدخل تحت قوله تعالى :"كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ"[ القصص : 88 ] ومعنى الهلاك عدم الاستقلال فيها والنسب ليست مستقلة إذ هي أسماء الذات الإلهية فهي هالكة بهذا الاعتبار ، أي فانية في الذات الأحدية لأوجه تلك الذات الأحدية ، وكذلك قوله سبحانه :فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ[ البقرة : 115 ] ،

أي ذاته سبحانه الواحدة الأحدية المتجلية بالنسب والآثار في كل شيء (وهي) ، أي الأسماء الإلهية (ترجع) في نفس الأمر (إلى عين) ، أي ذات (واحدة) هي موضع نسبها واعتباراتها وإضافاتها وهي الذات الإلهية والوجود الواحد المطلق الساري بلا سريان في الأعيان كلها الأسمائية والكونية ، وهي عين الكل إذا فنيت جميع النسب الأسمائية ونسب النسب الإمكانية الكونية .

(فأول ما وسعته رحمة اللّه) تعالى وسعت (شيئية تلك العين) الواحدة المذكورة ، وهذا الوسع وهو الانقسام الواقع في الرحمة فالجزء من الرحمة ، الذي في الدنيا هو هذه العين الواحدة المشار إليها هنا كما سبق بيانه ،
ولهذا من فاته التحقيق بها اليوم فاتته بقية الأجزاء التسعة والتسعون في يوم القيامة أن يتحقق بها ، ومن تحقق بها اليوم تحقق بالبقية غدا .

وهذا الجزء الذي في الدنيا هو المقصود في الكل لأنه عين الذات ، ولهذا كثرت الغفلة في الدنيا من الجاهلين بهذا الجزء ، والغفلة عين اليقظة له ولكونه جزءا لا يتجزأ لكون معرفته عينه ، وهم يريدون أن تكون غيره وهو ممتنع عقلا وشرعا وهم لا يشعرون من كثرة ما يشعرون ، فلو قل شعورهم بالأغيار لتنبهوا لحقيقة هذا
(الواحد القهار) الموجدة تلك العين أي المظهرة المفصلة للرحمة الواسعة لها بالرحمة المذكورة فأوّل شيء وسعته الرحمة الإلهية أنها وسعت (نفسها ثمّ ) وسعت الشيئية التي لتلك العين الواحدة المذكورة (المشار إليها )هنا قريبا بأنها مرجع الكل وأنها هي المنفصلة المتكثرة إلى شيئيات تلك الأسماء الإلهية (ثم) وسعت (شيئية كل موجود) من الحوادث الكونية مما (يوجد) في الحس أو العقل أو الوهم إلى ما لا يتناهى دنيا) ،

أي في الدنيا (وآخرة) ، أي في الآخرة وعرضا بالتحريك وهو ما لا قيام له بنفسه ظاهرا (وجوهرا) وهو ما قام ظاهرا بنفسه (ومركبا وبسيطا) ،
أي غير مركب وكله دخل تحت قولنا في الحس والعقل أو الوهم (ولا يعتبر فيها) ، أي في الرحمة الإلهية الواسعة لما ذكر حصول غرض لأحد ممن وسعته مطلقا (ولا ملائمة طبع) من الطباع أصلا بل الشيء (الملائم) كالنعيم واللذة (وغير الملائم) كالألم والعذاب
كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا فوجد بها على حسب ما هو عليه في نفسه .

شرح فصوص الحكم مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي 1069 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
ولما كان أظهر مالكية الحق في وجود زكريا عليه السلام إذ أخذه بالشدة لأن المليك
يختلف هذا الفص عن غيره من فصوص الكتاب في أنّه لا ذكر فيه ، إلا في العنوان ، للنبي الخاص الذي تنسب إليه الحكمة .
وقد جرت العادة عند المؤلف في الفصوص الأخرى أن يجعل محور كلامه في كل فص حول مناقشة بعض الآيات القرآنية الواردة في حق النّبي المنسوب إليه حكمة الفص ، وأن يشرح على لسان النبي الموضع الحديث أسرار الحكمة التي يريد شرحها .

الشديد حتى قدّ بنصفين وصبر ولم يدع اللّه رفع ذلك فكان كيوم الدين كما أضاف الحق مالكيته إلى يوم الدين لظهور كمال مالكيته فيه في قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فكان اللّه مالك زكريا كما كان مالك يوم الدين فزكريا بمنزلة يوم الدين في تحققه بأحواله من ظهور الرحمة والنعمة فإن اللّه تعالى يرحم بعضا ويعذب بعضا في ذلك اليوم،
 فكما يظهر مالكيته بظهور الرحمة والعذاب بذلك اليوم لذلك أضاف إليه كذلك يظهر بظهورهما في هذا اليوم في وجود زكريا عليه السلام لذلك أضاف هذه الحكمة إلى كلمته وبين الرحمة والغضب في كلمته ليعلم أن الآلام الموجودة في وجوده رحمة به من اللّه لا إعراض عنه

فقال رضي الله عنه : ( اعلم أن رحمة اللّه تعالى وسعت كل شيء وجودا وحكما وإن وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب ) فرحمة اللّه قد ظهرت بصورة نفسها فقد سترت بصورة الألم لحكمة يعلمها ( فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ) فإن أول ما نسب إليه تعالى وجود الأعيان وهو عين الرحمة فسبقت نسبة الرحمة إليه على كل ما نسب إليه تعالى من الموجودات .

ولما دعي أن رحمة اللّه وسعت كل شيء أراد أن يثبته فقال ( ولما كان لكل عين وجود ) خاص بها ( تطلبه ) تطلب تلك العين ذلك الوجود الخاص بها ( من اللّه لذلك ) أي لأجل طلبها وجودها من اللّه ( عمت رحمته كل عين ) قوله لذلك يتعلق بعمت وعمت جواب لما وإنما عمت رحمته كل عين من أجل ذلك الطلب ( فإنه ) أي كل عين أو اللّه ( برحمته ) أي برحمة اللّه ( التي رحمه بها ) أي رحم الحق كل عين بتلك الرحمة ( قبل ) العين ( رغبته ) أي طلب كل عين من اللّه ( في وجود عينه ) الخارجي ( فأوجدها ) في الخارج بعد حصول قبول الطلب من اللّه

أو بعد قبول الحق طلبه قوله برحمته يتعلق بقوله قبل بكسر الباء ويجوز أن يكون قبل جواب لما والجملة اعتراضية أي لما طلب قبل طلبه فأوجدها أو معناه فإنه أي فإن اللّه تحقق برحمته التي رحم أي أوجد بها كل عين في علمه الأزلي قبل طلب كل عين وجوده الخارجي فالرحمة صفة أزلية للحق وذات الحق سابقة على كل عين وكذا لوازمه من صفاته :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى[ الإسراء: 110 ].

فكل عين مع لوازمه رحمة من رحمة الرحمن بل الأسماء الإلهية كلها ونفس الرحمة رحمة من الاسم الرحمن فعموم الرحمة من أجل المعلومات
وما ذكره الشيخ في إثباته تنبيهات فقبل حينئذ بسكون الباء أو معناه فإنه أي فإن كل عين موجود بالوجود العلمي برحمة اللّه التي أوجد للَّه بها كل عين ويجوز أن يكون جواب لما فأوجدها ودخول الفاء لطول الكلام المعترض بينهما أي لما كان لكل عين وجود طلبه من اللّه أوحدها اللّه أي أعطى اللّه لها ما طلبها من الوجود فعلى أيّ حال والمقصود أن الطالب هو العين والمطلوب هو الوجود والطلب وقبوله تعالى كل ذلك من رحمة اللّه
وإليه أشار بقوله ( فلذلك ) أي فلأجل كون الأمر على ما حققناه من عموم رحمته تعالى

قال رضي الله عنه :  ( قلنا إن رحمة اللّه وسعت كل شيء وجودا ) بالنسبة إلى الأعيان الخارجية ( وحكما ) بالنسبة إلى الأعيان الثابتة في العلم إذ لا يحكم عليها ظاهرا بالوجود فكانت الأعيان الخارجية من رحمة اللّه وجودا والأعيان الثابتة من رحمة اللّه حكما أو معناه لا حكم إلا بها كما لا وجود إلا بها كما سنبينه عن قريب بقوله فلها الحكم والحكم ليس بموجود في الخارج ( والأسماء الإلهية من الأشياء ) فتدخل تحت الرحمة ( وهي ترجع إلى عين واحدة ) وهي العين الرحمانية ( فأوّل ما وسعت رحمة اللّه شيئية تلك العين الموجدة ) في الخارج ( للرحمة ) على غائية للإيجاد ( بالرحمة ) أي بسبب الرحمة وهي الحقيقة المحمدية التي هي عين الرحمة أوجدها اللّه بالرحمة رحمة للعالمين أي ليوجد العالمين من وجوده قال تعالى :وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ[ الأنبياء : 107].

وقال تعالى خلقتك من نوري وخلقت الأشياء من نورك فالرحمة شيء ( فأوّل شيء وسعته الرحمة نفسها ) أي نفس الرحمة ( ثم الشيئية المشار إليها ) بقوله شيئية تلك العين الموجودة والمراد بالمشار إليها وصف جيء به لبيان معنى الشيئية فالرحمة من حيث نفسها صفة ذاتية للحق ومن حيث شيئيتها حقيقة محمدية مظهر للاسم الرحمن شيئية الشيء ما به يتعين الشيء ويمتاز عن غيره وهي من لوازم الوجود ( ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة عرضا وجوهرا ومركبا وبسيطا ) وقوله جوهرا على لسان الظاهر إذ العالم كله عرض عند أهل الحقيقة ( ولا يعتبر فيها ) أي في الرحمة

قال رضي الله عنه :  ( حصول غرض ولا ملاءمة طبع بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا) في الخارج مع كونه موجودا في الباطن


شرح فصوص الحكم عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني 690 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

قال رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.  فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها. فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.  والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.  فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.  ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

قلت : قال رضي الله عنه: إن رحمة الله وسعت كل شيء ومن جملة الأشياء الغضب، فإذا غضب، تبارك وتعالى، فقد رحم الغضب حيث أحياها فقد رحم الغضب ورحم الرحمة بايجادها ورحم أسمائه الإلهية باظهار متعلقاتها في الوجود العيني والذهني معا ورحم الشيئية بكونه شاءها سواء كانت اعتدالية أو انحرافية.

شرح فصوص الحكم الشيخ مؤيد الدين الجندي 691 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

 21 - فصّ حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
أضيفت هذه الحكمة المالكية إلى الكلمة الزكرياوية ، لما ذكرنا ممّا كان يشدّد على نفسه في الاجتهاد ، وظهرت فيه آثار الشدّة القهرية والجلال ، وكملت فيه التصرّفات الإلهية المالكية ، وظهرت تماما ، ولم يظهر تصرّف من قبله - صلوات الله عليه - في شيء أصلا .

قيل : إنّه ما لبس نعلا ولا مأزما ، يحمل بعض تراب وغبار من أرض إلى أرض ، فكان يمشي حافيا ، وكان مشهده عبدانيته وربوبيّة الله فيه وله وعليه ، حتى أنّه نشر ، فقطع نصفين ، مع تمكَّنه عليه السّلام من دعا الله وإجابته في رفع ذلك عنه في النظر العقلي بثبوت نبوّته وإجابة الله دعوته باستصحاب الحال والواقع في سؤال الولد والإجابة فيه وفي رفع الفقر عن امرأته ، وذلك لكونه عليه السّلام في مشهده تحت حكم مالك هو مملوكه الحقيقي ، وشهود أحدية التصرّف والمتصرّف والمتصرّف فيه .

وأمّا مضيّه ودخوله في جوف الشجرة فلم يكن لعدم رضاه وكمال استسلامه وانقياده لما يتصرّف فيه ، وإنّما كان إبقاء على قومه بحسب الاحتمال العقلي أنّه ربما يقلعون عن الظلم عليه ويؤمنون به بما شاهدوا عيانا من استبطان الشجرة له وستره وكون ذلك معجزا وحجّة على صدقه وصدق نبوّته ، وما أخبر به في تصديق عيسى ،

ولمّا شاهد من مفيض عينه الثابتة أنّ التجلَّي الجلاليّ محيط به في هذه الحياة الدنيا ، سلَّم واستسلم ولم يدع الله في رفع الضرّ عنه حتى قطعوا الشجرة فشقّوها بالمناشير فقطعوه نصفين في الشجرة ، فظهرت أسرار امتياز الحقيقة الجلالية عن الحقيقة الجمالية المستنبطة إحداهما في الأخرى ،

وظهرت رحمة اللطف المضمون في ضمن القهر ، وكملت عبوديته التي ظهر نفوذ التصرّف والحكم الكلَّي الإلهي فيها بصورة الظلم ، فانعكست حقائق الجلال والقهر على أعداء الله بتجلَّياتها ، وتغمّده الله برحمته الخفيّة في القهر ، فظهرت خليّة ، فكملت بحلّ القهر والنقمة على الأعداء ، فكمل كلّ شقّ من الجلال والجمال ، والقهر واللطف في أهلهما.

قال رضي الله عنه  : ) اعلم : أنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، وأنّ وجود الغضب من رحمة الله بالغضب ، فسبقت رحمته غضبه ، أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ( .
يعني  رضي الله عنه  : أنّ الرحمة له - تعالى - ذاتية ، لأنّه بالذات جواد فيّاض بالوجود ، من خزائن الرحمة والجود ، والوجود المفاض على كل شيء هو الرحمة العامّة التي وسعت كلّ شيء . وأمّا الغضب فليس بذاتيّ للحق تعالى ، بل هو حكم عدميّ من عدم قابلية بعض الأشياء لظهور آثار الوجود وأحكامه فيه تماما ، فاقتضى عدم قابليته للرحمة عدم ظهور حكم الرحمة فيه دنيا أو آخرة ، فسمّي بالنسبة إليه غضبا من قبل الراحم وشقاوة وشرّا وما شاكل هذه الألفاظ ، وانظر إلى كمال شهود النبيّ وإيمانه النبوي إلى الأمرين معا في قوله : « اللهمّ إنّ الخير كلَّه بيدك ، والشرّ ليس إليك » لأنّه حكم عدميّ .

من عدم قابلية بعض الممكنات لحكم رحمته ، وحيث لم تجد الرحمة المفاضة بالتجلَّي الرحمانيّ على الأعيان فيما لم تكن قابلية نور الوجود إلَّا نسبا عدميّة أو عدميات نسبية ، إذ العدم المحض لا حقيقة له تتعلَّق الرحمة بها ، فعمّت الرحمة - التي وسعت كلّ شيء - هذه الأعدام النسبية وهذه النسب العدمية ، ولحقتها ، فأوجدت الغضب والآلام والأسقام والمحن والموت والفقر وأمثالها من النسب العدميّة ، وذلك لكمال سعة الرحمة ، فافهمه .

قال رضي الله عنه  : " ولمّا كان لكل عين وجود يطلبه من الله ، لذلك عمّت رحمته كلّ شيء  ، فإنّه برحمته التي يرحمه بها قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها ، فلذلك قلنا : إنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء وجودا وحكما  " .

يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الأعيان الثابتة كانت في ثبوتها العلميّ الأزلي معدومة الأعيان بالنسبة إليها ، أي لم تكن موجودة لنفسها ، ولم ينسحب عليها الحكم الإيجادي ، فرغبتها في الوجود العيني - وهي عبارة عن قابلياتها واستعداداتها الذاتية غير المعدومة - معدومة الأعيان أيضا كهي ، فلمّا رحمها الرحمن بالتجلَّي الإيجادي ، وإفاضة النور الوجودي ، بالتوجّه الإرادي.

فأوّل أثر للرحمة فيها أن أعطتها صلاحية قبول التجلَّي الوجودي وذلك بالتجلَّي العيني الواقع غيبا ، فحييت بذلك التجلَّي الاستعدادات المعدومة الميّتة بحكم قهر الأحدية الغيبية ، فحصلت لها صلاحية قبول الوجود ، فتعلَّقت الرحمة الوجودية بها ، فأوجدتها بحسب خصوصياتها من الإحاطة والسعة والضيق والتقدّم والتأخّر وغير ذلك ، فكان الغضب أيضا من جملة النسب العدمية الناشئة من عدم الصلاحية والقبول لآثار الرحمة الوجودية ، وكذلك الآلام والعلل والأسقام والبلايا والمحن وغيرها من الأمور العدمية النسبية .

قال رضي الله عنه  : ) والأسماء الإلهية من الأشياء ، وهي ترجع إلى عين واحدة ، فأوّل ما وسعت رحمة الله سبعيّة  تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ، فأوّل شيء وسعت الرحمة نفسها ، ثمّ الشيئية المشار إليها ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة عرضا وجوهرا ، مركَّبا وبسيطا (.  في بعض النسخ وهو الصحيح  : شيئية .

يشير رضي الله عنه  بهذا الترتيب إلى أنّ الحقائق الربانية والنسب والأعيان الكونية كانت معدومة الآثار ، غير متميّزة في الظهور والآثار ، لعدم مظاهرها ، فعمّتها الرحمة بتعلَّقها بتلك الأعيان أوّلا ، فظهرت النسبة الإلهية في مظاهرها ثانيا ،
ثم أثّرت الأسماء الإلهية في إيجاد أعيان الأكوان في أرض الإمكان ثالثا عند من يقول بوجود الحقائق العلمية  وجودا نعتيّا ،
وعلى الكشف الأتمّ والشهود الأعمّ وجدت وجودا نسبيا مثاليّا في مرآة الوجود الواحد ، لا وجوديا حقيقيا ، وقد أشرنا إلى الذاتية الجودية الوجودية ووجود الأشياء بالرحمة الرحمانية الإلهية الأسمائية ، فتحقّق ذلك .

قال رضي الله عنه  : ) ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم وسعتهما الرحمة الإلهية وجودا(
يشير إلى أنّ الأعيان الثابتة التي هي معدومة لنفسها هي المؤثّرة في الوجود الواحد الحق المنبسط عليها بالتعيين والتقييد والتكييف والتسمية بحسب خصوصياتها ، حتى تظهر الأسماء الإلهية والنسب الربانية ، ثم النسب الإلهية - التي هي من حيث هي نسب معدومة الأعيان ،
لا تحقّق لها إلَّا بين طرفيها من الحق - مؤثّرة أيضا في وجود الأشياء ، فالآثار كلَّها إن كانت من الإلهية ، فمن النسب العدمية ، وإن كانت منها مع الذات المتعيّنة بها ، فمن الوجود من حيث هذه النسب المعدومة الأعيان ،

شرح فصوص الحكم الشيخ عبد الرزاق القاشاني 730 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
إنما خصت الكلمة الزكرياوية بالحكمة المالكية ، لأن الغالب على حاله حكم الاسم المالك ، والمليك هو الشديد ، وقد خصه الله بالشدة وأيده بالقوة حتى سرت في همته وتوجهه وأثمرت إجابة رعاية ، وأثرت في زوجته حيث قال تعالى : " وأَصْلَحْنا لَه زَوْجَه " .
ولولا إمداد الله إياه بقوة ربانية وتخصيصه بمعونة ملكوتية ما صلحت زوجه بعد الكبر وسن اليأس مع كونها عاقرا في شبابها للحمل والولادة ، وما ظهرت إلا بالتصرفات الإلهية المالكية ، ولهذا كان يشدد على نفسه في الاجتهاد ، وظهرت عليه آثار الشدة والقهر حتى نشر بالمنشار وقدّ نصفين ، فلم يدع الله في رفعه مع كونه مستجاب الدعوة لكون مشهده شدة المالك وشهود أحدية المتصرف والمتصرف فيه ،
ولما شاهد من عينه الثابتة أن تجلى القهر والشدة محيط به فاستسلم وسلم وجهه للمتصرف ، وحيث كان تحت قهر المالك وشدته سهل عليه تحمل الشدة لاتصافه بها ، فظهرت رحمة اللطف الكامن في ضمن القهر الظاهر في صورة الظلم ، فانعكست من نفسه أنوار القهر ونيرانه على أعدائه فقهرهم ودمرهم قهرا تاما ، وتغمده الله برحمته .

قال رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما ، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب فسبقت رحمته غضبه ، أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ).

لأن الرحمة له ذاتية لكونه جوادا بالذات فياضا بالجود من خزانة الرحمة والجود والوجود أول فيض الرحمة العامة التي وسعت كل شيء ، وأما الغضب فليس بذاتى للحق بل هو حكم عدمي ناشئ من عدم قابلية بعض الأشياء لكمال ظهور آثار الوجود وأحكامه فيه ، فاقتضى عدم قابليته للرحمة عدم ظهور حكم الرحمة دنيا وآخرة ، فسمى عدم فيضان الرحمة عليه لعدم قابليته غضبا بالنسبة إليه من قبل الراحم وشقاوة وشرا وأمثال هذه الألفاظ ،
فظهر أن نسبة الرحمة إليه سبقت نسبة الغضب إليه ، وما هي إلا عدم قابلية المحل لكمال الرحمة ، ولكمال شهود النبي عليه الصلاة والسلام حقيقة الأمرين ، أومأ إليهما بقوله « اللهم إن الخير كله بيديك والشر ليس إليك » لأنه أمر عدمي لا يحتاج إلى الفاعل وسببه عدم قابلية المحل للخير ، والشر هو العدم المحض فلا حقيقة له حتى تتعلق به الرحمة ، بل حيث لم توجد الرحمة الفائضة بالتجلي

(عمت رحمته كل عين ) جواب لما ، وقوله لذلك يتعلق بعمت ، وإنما عمت رحمته كل عين من أجل ذلك الطلب فإنه أي كل عين أو الله برحمته أي برحمة الله التي رحمه بها : أي رحم الحق كل عين بها قبل العين أو الله وعينه : أي طلب كل عين من الله وجود عينه الخارجي فأوجدها في الخارج بعد حصول قبول الطلب ،
الفائض على بعض الأعيان لم يكن لها قابلية نور الوجود إلا نسبا عدمية أو أعداما نسبية ، كالجهد والفقر والمرض والألم والموت وأمثالها سميت غضبا ، وذلك لكمال سعة الرحمة وعمومها كل شيء ، وسعت هذه الأعدام النسبية أو النسب العدمية لشائبة الوجود فيها ، فصار الغضب مرحوما وإلا لم يوجد .

قال رضي الله عنه :  ( ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله لذلك عمت رحمته كل عين ، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه فأوجدها ، فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما ) .

لذلك إشارة إلى الطلب ، وعمت جواب لما ، وقوله فإنه تعليل لعموم الرحمة ، وقوله قبل رغبته : خبر إن ، أي فإن الله برحمته التي رحم الشيء بها سابق رغبته في وجود عينه أي طلبه ، فأوجدها أي الرغبة أولا وهي الاستعداد فلذلك أي فلسبق الرحمة الاستعداد ، قلنا وسعت رحمته كل شيء وجودا وحكما ، حيث جعله برحمته الذاتية فطلبت مشيئته الوجود فأوجده ،
أي ولما كانت الأعيان الثابتة في ثبوتها العلمي معدومة العين في نفسها ، طالبة للوجود من الله راغبة في وجودها العيني ، عمت رحمته الذاتية كل عين بأن أعطتها قابلية التجلي الوجودي ، فتلك القابلية والاستعداد الذاتي لقبول الوجود رغبتها في الوجود العيني ،
وأول أثر الرحمة الذاتية فيها تلك الصلاحية لقبول الوجود المسماة استعدادا ، فإنه تعالى رحمها قبل استعدادها للوجود بوجود الاستعداد من الفيض الأقدس ،
أي التجلي الذاتي العيني الواقع في الغيب ، وذلك الاستعداد رحمة الله عليها إذ لا وجود لها تقدم بذلك الطلب الاستعدادي ، وسؤال الرحمة في الغيب أوجدها في الأعيان بالوجود العيني فذلك رحمته عليها وجودا ، وهو معنى قوله :" وآتاكُمْ من كُلِّ ما سَأَلْتُمُوه "   أي بلسان الاستعداد في الغيب.
"" أضاف بالي زادة :
أو بعد قبول الحق طلبه ، قوله ( برحمته ) يتعلق بقبل بكسر الباء ، ويجوز أن يكون قبل جواب لما ، والجملة اعتراضية أي لما طلب قبل طلبه فأوجدها ، أو معناه فإن الله تحقق برحمته التي رحم بها أي أوجد بها كل عين في علمه الأزلي قبل طلب كل عين وجوده الخارجي ، فالرحمة صفة أزلية للحق ، وذات الحق سابقة على كل عين وكذا لوازمه من صفاته - قُلِ ادْعُوا الله )   - فكل عين مع لوازمه رحمة من رحمة الرحمن ، بل الأسماء الإلهية كلها ونفس الرحمة رحمة من الاسم الرحمن فعموم الرحمة من أجل المعلومات ، وما ذكره الشيخ في إثباته تنبيهات ، وعلى أي حال فالمقصود أن الطالب هو العين ، والمطلوب هو الوجود والطلب ، وقبوله تعالى كل ذلك من رحمة الله وإليه أشار بقوله : فلذلك قلنا اهـ بالى زادة . ""

 قال رضي الله عنه :  ( والأسماء الإلهية من الأشياء ، وهي ترجع إلى عين واحدة ، فأول ما وسعته رحمته أزلا شيئيته تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ، ثم الشيئية المشار إليها ، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة عرضا وجوهرا ، مركبا وبسيطا ) .

لما تبين أن رحمته وسعت كل شيء قال : إن الأسماء الإلهية من الأشياء فيجب أن تكون مرحومة ، فإن حقائقها التي تتميز بها عن الذات وينفصل كل منها عن الآخر أشياء غير الذات ، فلها أعيان ترجع إلى عين واحدة هي حقيقة اسم الرحمن ،
فأول ما وسعته رحمة الله شيئيته تلك العين ، وتلك العين حقيقة الرحمة الانتشارية التي تفيض منها الرحمة الأسمائية فتلك العين مرحومة بالرحمة
فأول شيء وسعته الرحمة الذاتية التي جعلتها شيئا راحمة بالرحمة الأسمائية ، كل شيء فهي الرحمة بالرحمة ،
فأول شيء وسعته الرحمة الذاتية تنفس الرحمة الأسمائية الشيئية المشار إليها ، أي العين الواحدة التي هي جميع الأعيان وأصلها ، فعمت الرحمة المتعلقة بهذه العين جميع الأعيان الثابتة في العلم الأزلي وهي الشيئيات الثابتة في الشيئية الأولى ،
فتفصلت العين الواحدة إلى الأعيان الكونية وهو معنى قوله شيئية كل موجود أي عينه لا وجوده على الترتيب إلى ما لا يتناهى وجودها في الخارج ،
فظهرت النسب الإلهية في النسبة الأولى الرحمانية وهي الأسماء الإلهية في ضمن اسم الرحمن ، وليست إلا نسب الذات إلى الأعيان فتحققت حقائق الأسماء فذهب كل اسم بحظ من الرحمة حتى تحققت حقيقته ،

ثم أثرت الأسماء الإلهية في إيجاد أعيان الأكوان فتنبسط آثار الرحمة في عرصة الإمكان ، فتوجد الأعيان الممكنة على الترتيب وأحوالها جواهر بسيطة مركبة وإعراضا في الدنيا والآخرة ، فوجود الرحمة الغيبية في الحقائق الإلهية الأعيان العلمية التي هي تعينات وشئون في الوجود الواحد الحق ، إنما هو من الرحمة الذاتية الجودية التي هي عين الذات ، ووجوده الأشياء أي كونها حقائقها بالرحمة الرحمانية الإلهية الأسمائية والله أعلم.
"" أضاف بالي زادة :
( تلك العين الموجدة ) في الخارج للرحمة علة غائية للإيجاد بالرحمة أي بسبب الرحمة ، وهي الحقيقة المحمدية التي هي عين الرحمة أوجدها الله بالرحمة ، فالرحمة شيء من حيث نفسها صفة ذاتية للحق ، ومن حيث شيئيتها حقيقة محمدية مظهر للاسم الرحمن ، وشيئية الشيء يتعين الشيء ويمتاز عن غيره ، وهي من لوازم الوجود اهـ بالى زادة ""

قال رضي الله عنه :  ( ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا ، )

أي لا يعتبر في تعلق الرحمة بالأشياء حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، فإن الرحمة وسعت كل شيء فأوجدته سواء كان ملائما له أو غير ملائم ، ثم ذكر أن الأعيان الثابتة المعدومة في أنفسها هي المؤثرة في الوجود الواحد الحق المنبسط عليها بالتعين والتقييد والتكييف والتسمية بحسب خصوصياتها حتى تظهر الأسماء الإلهية والنسب الزمانية ،

مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم القَيْصَري 751هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
( المالك ) مأخوذ من ( الملك ) وهو الشدة والقوة . و ( المليك ) الشديد القوى .
و ( ملك ) الطريق وسطه . ويطلق على القدرة والتصرف أيضا .
ولما كانت الكلمة ( الزكرياوية ) مؤيدة من عند الله ب‍ ( القوة ) التامة والهمة المؤثرة والصبر على مقاساة الشدائد - حتى نشر بالمنشار وقد بنصفين ولم يدع الله أن يفرج عنه ويدفع البلاء منه مع كونه مستجاب الدعوة - اختصت بالحكمة ( المالكية ) .
ولما كان وجود الآلام والمحن من الغضب ، وكان وجوده من رحمة الله ابتداء ويرجع إليه انتهاء ويصير سببا للوصول إلى الكمالات وواسطة لرفع الدرجات وغفرانا للخطيئات ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده ) .

شرع لبيانها فقال رضي الله عنه  : ( اعلم ، أن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما ، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب ، فسبقت رحمته غضبه ، أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه . )
اعلم ، أن الحق سبحانه رحم الأعيان الطالبة للوجود وأحكامها ولوازمها ، فأوجدها في العين ، كما أوجدها أولا في العلم ، فالرحمة سابقة على كل شئ ومحيطة بكل شئ ،
كما قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شئ ) . وقوله : ( وجودا وحكما ) أي من جهة الوجود والاستعداد والقابلية له التي هي في حكم الوجود ، فإن الوجود عين الرحمة الشاملة على جميع الموجودات ، أعراضا كانت أو جواهرا .

وكذلك القابلية محيطة وشاملة عليها . ومن جملة الأعيان عين الغضب وما يترتب عليه من الآلام والأسقام والبلايا والمحن ، وأمثالها مما لا يلائم الطباع ، فوسعت الرحمة لها كما وسعت لغيرها ، فوجود الغضب من رحمة الله على عين الغضب ، فسبقت نسبة الرحمة إليه ، تعالى نسبة الغضب إليه ، وذلك لأن الرحمة ذاتية للحق تعالى ، وعين الغضب ناشئة من عدم قابلية بعض الأعيان للكمال المطلق والرحمة التامة ، فيسمى شقاوة وشرا .
وإليه أشار رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( إن الخير كله بيديك والشر ليس إليك ) .
ومن أمعن النظر في لوازم الغضب من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك ، يجد كلها أمورا عدمية .
فالرحمة ذاتية للوجود الحق ، والغضب عارضية ناش من أسباب عدمية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله ، لذلك عمت رحمته كل عين . )
( يطلبه ) يجوز أن يكون ب‍ ( الياء ) المنقوطة من تحت ، وب‍ ( التاء ) المنقوطة من فوق .
وقد مر في فصل الأعيان : أن لله تعالى أسماء ذاتية مسماة ب‍ ( مفاتيح الغيب ) التي لا يعلمها إلا هو .
وهي بذواتها تطلب من الله ظهور أنفسها في العلم ، ثم في العين .
والأعيان الثابتة عبارة عن صور تلك الأسماء وتعيناتها ، وليست الأسماء إلا وجودات خاصة ، فكل عين مستندة إلى وجود معين ، وهو الاسم الخاص الإلهي .
فإذا علمت هذا ، يجوز أن يكون فاعل ( يطلب ) ضميرا عائدا إلى ( الوجود ) ، وضمير المفعول عائدا إلى ( كل عين ) أو إلى ( عين ) .
ذكره باعتبار اللفظ ، أو الشئ . ومعناه : لما كان لكل عين مستند ، وهو وجود خاص
و اسم من الأسماء الذاتية يطلب ذلك الوجود بذاته كل واحد من الأعيان ليكون مظهره ومستواه في العلم والعين ، عمت رحمته تعالى كل عين لأجل ذلك الطلب .

فقوله رضي الله عنه  : ( لذلك ) متعلق بقوله : ( عمت ) . و ( عمت ) جواب ( لما ) .
ويجوز أن يكون الفاعل ضميرا عائدا إلى (كل عين) . وضمير المفعول عائدا إلى (الوجود) .
ومعناه : لما كان لكل عين وجود في خزانة غيبه تعالى مقدر أن يفيض عليه وكان يطلب كان عين ذلك الوجود من الله ، عمت رحمته كل عين ، فأفاضت على كل منها وجودها لأجل ذلك الطلب الذي من الأعيان .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه برحمته التي رحمه بها قبل ) بكسر (الباء) . (رغبته في وجود عينه ، فأوجدها.) تعليل لعموم الرحمة .
أي ، فإن كل عين برحمة الله التي رحمه الحق بها أزلا ، فأعطاه الوجود العلمي قبل رغبته في الوجود العيني ، أي ، صار قابلا طالبا للوجود الخارجي ، ( فأوجدها ) الله ، أي الأعيان فيه .
فضمير ( فإنه ) و ( قبل ) عائد ان إلى ( كل عين ) .
ويجوز أن يكونا عائدين إلى ( الله ) . وضمير ( رحمه ) إلى ( كل عين ) .
ذكره باعتبار لفظ ( الكل ) ، أو باعتبار الشئ ، إذ في بعض النسخ : ( كل شئ ) .

ومعناه : فإن الله برحمته التي رحم الكل بها قبل رغبته كل شئ في وجود عين ذلك الشئ .
أي ، قبل الله سؤاله وأجاب ندائه ورغبته في وجوده العيني ، فأوجدها ، أي الأعيان فيه ،
كما يقال : تقبل الله منك . و ( قبل ) على التقديرين خبر ( إن ) .

وقرأ بعض العارفين ( قبل ) ، بسكون ( الباء ) ، وقال : أي ، فإن الله برحمته التي رحم الشئ بها سابق رغبته في وجود عينه . أي ، طلبه ( فأوجدها ) أي الرغبة . وفيه نظر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك قلنا : إن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما . ) أي ، فلأجل قبول الحق طلب الأعيان ورغبتها في أن تكون موجودة في الخارج ، قلنا : إن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما . أما ( وجودا ) فظاهر .
وأما ( حكما ) ، فلأنه رحم وقبل سؤال كل شئ ، فأعطاه الاستعداد والقابلية للوجود العيني ،
فوجد في العين ، فذلك القبول وإعطاء الاستعداد رحمة من الله على الأعيان حكما ،
لذلك قال تعالى : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . أي ، بلسان الاستعداد والحال والقال .

قال رضي الله عنه :  (والأسماء الإلهية من الأشياء وهي ترجع إلى عين واحدة . فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ، فأول شئ وسعته الرحمة نفسها ، ثم الشيئية المشار إليها ، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة ، عرضا وجوهرا ومركبا وبسيطا . )
لما كانت الأسماء من حيث تكثرها مغائرة للذات الأحدية ورحمة الله وسعت كل شئ ، جعل الأسماء أيضا داخلة تحت الرحمة الذاتية ، لأنها من الأشياء المتكثرة ، مع أنها راجعة إلى عين واحدة وهي الذات الإلهية . فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة ، وهي عين اسم ( الرحمن ) من حيث تميزها بتعينها الخاص عن الاسم ( الله ) .

وإنما وسعت الرحمة الذاتية للعين الرحمانية ، لأنها من حيث امتيازها عن الذات الإلهية إنما
حصلت بالتجلي الذاتي والرحمة الذاتية على تلك العين ، إذ لولا التجلي الذاتي والرحمة الذاتية على تلك العين لما كان لشئ وجود أصلا ، اسما كان أو صفة أو عينا ثابتة .
وإذا كان الأمر كذلك ، فأول ما تعلقت به الرحمة الذاتية هو نفس الرحمة الظاهرة في العين الرحمانية ، ثم الشيئية المشار إليها ، أي العين الرحمانية .
وإنما جعل الرحمة الرحمانية أول متعلق الرحمة الذاتية ثم العين الرحمانية ، لأن عين الاسم ( الرحمن ) ذات مع صفة الرحمة ، والمجموع من حيث هو مجموع متأخر عن كل من أجزائه . ثم شيئية كل موجود ، أي عين كل موجود .

يوجد إلى ما لا يتناهى مفصلا ، دنيا وآخرة ، عرضا وجوهرا ، مركبا وبسيطا ، لأن جميعها أخلة تحت العين الرحمانية إجمالا .
فالأولية في قوله : ( فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجودة ) أولية بالنسبة إلى باقي أعيان الأسماء التي بعدها ، كقوله عن لسان إبراهيم عليه السلام : ( وأنا أول المسلمين ) وإن كان من قبله من الأنبياء أيضا مسلمين .

ويجوز أن يكون المراد ب‍ ( الشيئية ) وجودات الأعيان لا أعيانها .
( ولا يعتبر فيها ) أي ، في إفاضة الرحمة على كل شئ .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (حصول غرض ولا ملائمة طبع . بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.)
إذ لو كان حصول الغرض وملائمة الطباع معتبرا في الإيجاد ، لما كان للعالم وجود ولا
للأسماء الإلهية ظهور وتعين أصلا ، لأن الأسماء متقابلة ، فمظاهرها أيضا كذلك ، وطبيعة أحد المتقابلين لا تلائم طبيعة الآخر .

خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين المهائمي 835 هـ
:
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

الفصّ الزكرياوي
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بمالكية الحق لكل ما سواه ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى زكريا عليه السّلام ؛ فإنه لما تحقق بمقام العبودية على الكمال بما بالغ في التذلل والدعاء ظهر فيه الحق بمالكيته للكل ، فأعطاه قوة التصرف في نفسه وروحه بتقويتهما وإصلاحهما والغلبة على موالي السوء فيما أنتج له من تقويتهما ، ولما كانت المالكية عن احتياج المملوك إلى المالك ، وقضاء حاجة الشخص رحمة عليه كانت المالكية رحمة عامة على الكل ؛
ولذلك قال عزّ وجل في حقه :ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا[ مريم : 2 ] ، فنسب الرحمة إلى رب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ليدل على عمومها ، فأضاف العبد إلى الهوية ليدل على كمال عبوديته ؛ لأنه عبد جميع الأسماء حتى لم يتميز في حقّه ، فصار كأنه عبد الذات ؛ ولذلك استوجب أكمل وجوه الرحمة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، وأنّ وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب ؛ « فسبقت رحمته غضبه » . رواه ابن حبان والبيهقي 
أي : سبقت نسبة الرّحمة إليه نسبة الغضب إليه ، ولمّا كان لكلّ عين وجود يطلبه من اللّه ، لذلك عمّت رحمته كلّ عين ، فإنّه برحمته الّتي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها ، فلذلك قلنا : إنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، والأسماء الإلهيّة من الأشياء ؛ وهي ترجع إلى عين واحدة ؛ فأوّل ما وسعت رحمة اللّه شيئيّة تلك العين الموجدة للرّحمة بالرّحمة ، فأوّل شيء وسعته الرّحمة نفسها ثمّ الشيئيّة المشار إليها ، ثمّ شيئيّة كلّ موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة وعرضا وجوهرا ، ومركّبا وبسيطا ، ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملائمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كلّه وسعته الرّحمة الإلهيّة وجودا ) .

قال رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ) أي : بإعطائه إياها الوجود ، وأحكامه من الصفات والإضافات وسائر الاعتبارات .
ثم استشعر سؤالا بأنه لو عمت رحمته كل شيء لم يوجد الغضب أصلا ، إذ هو مقابل للرحمة ؟
وأجاب عنه بقوله : ( وأنّ وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب ) في نسخة : " وأن وجود الغضب رحمة بالغضب " .  

وإن لم تكن رحمة بالمغضوب عليه ، فلا تقابل بين الرحمة وبين وجود الغضب ؛ ولذلك اجتمعا في المغضوب عليه ، فإنه مرحوم بإعطاء الوجود ، وإنما التقابل بين حقيقة الرحمة وحقيقة الغضب ، وإذا كان وجود الغضب من الرحمة ؛
قال رضي الله عنه :  ( فسبقت رحمته غضبه ) ؛ لأنها سبب وجوده ، والسبب مقدم على المسبب ، ولما كان المتبادر إلى الوهم من هنا أن الرحمة تمحو الغضب في الآخر بالكلية ،
إزال ذلك بقوله : ( أي : سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ) ؛ لأن ما يكون انتسابه إلى الشيء بالواسطة فنسبته متأخرة عن نسبة الواسطة إليه ، وسبق النسبة لشيء بالغضب إلى شيء لا يقتضي رفع ما يكون نسبته متأخرة في وقت ما .

ثم أشار إلى وجه عموم الرحمة ؛ فقال : ( ولما كان ) في العلم الإلهي ( لكل عين ) بالعبودية فيه ( وجود ) مقداره إذا خرج إلى الفعل حصل كمالها ، وهي ( تطلبه ) بلسان الاستعداد ( من اللّه ) ، وإعطاؤه المطلوب رحمة منه على الطالب ؛ ( لذلك عمت رحمته كل عين ) ، وإنما كان وجود كل شيء رحمة عليه ، وإن كرهه البعض عن شدة وابتلاء ، ( فإنه برحمته التي رحمه بها ) وراء ما يرحم بابتلائه المنعمين من أهل معرفته ، إذ يرون كمال نعمهم ، ويعرفونها ببلائه ، فإنه إنما تعرف الأشياء بأضدادها ( قبل ) أي : أجاب ( رغبته ) أي :
دعاؤه وطلبه بلسان الاستعداد ( في وجود عينه ) ؛ لكونه كمالا لها ، ( فأوجدها ) ثم عرضت لها الكراهة ، فلا عبرة بها ، ( فلذلك قلنا : إن رحمة اللّه وسعت كل شيء وجودا وحكما ) ، فإن بعض الأحكام ، وإن كانت مكروهة الآن كانت مرغوبة للأعيان حينئذ .

ثم استشعر سؤالا بأنه كيف وسعت رحمته كل شيء ، وأعظم الأشياء ذات اللّه وأسماؤه وصفاته ، ولا يحصل لها الوجود بعد العدم ، فكيف تكون مرحومة ، ومن جملتها الرحمة ، فكيف وسعت نفسها ؟

فأجاب بقوله رضي الله عنه  : وأما ( الأسماء الإلهية ) ؛ فهي وإن لم تكن مرحومة باعتبار أنفسها ، فهي مرحومة باعتبار كونها ( من الأشياء ) التي هي صورها ، وكذا الذات الإلهية ، وإن كانت غنية عن العالمين ، فلها ظهور بظهور أسمائها إذ ( هي ترجع إلى عين واحدة ) ، وهي أيضا مرحومة بهذا الاعتبار ، وهي سابقة على الأسماء بالذات وظهورها كذلك ؛ لأن ما بالذات لا يزول بالغير ، ( فأول ما وسعته رحمة اللّه ) أضافها إلى اللّه احترازا عن الرحمة الذاتية التي أول ما وسعته نفس الرحمة الإلهية ( شيئيّة تلك العين ) ، أي : صورة ظهورها في المظاهر ، فإن وجود كل شيء سابق على سائر صفاته التي هي صور الأسماء والصفات ، ولهذه العين رحمة ذاتية أوجدت الرحمة الإلهية ، كما أشار إليه بقوله : ( الموجودة للرحمة بالرحمة ) ، إذ لا بدّ من نسبة بين الموجد والموجد .

قال رضي الله عنه :  ( فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ) ، وإن يغايرنا بالذات والإلهية ، فهما واحد بالماهية ، ( ثم الشيئية المشار إليها ) ، فإنها وإن كانت مرحومة للرحمة الإلهية ، فهي أيضا مرحومة للرحمة الذاتية إذ مرحوم المرحوم للشيء مرحوم لذلك الشيء ، ( ثم شيئية ) عين ( كل موجود ) ، فإن لها ظهورا بعد ظهور الوجود فيهما ؛
لأنه حينما ( يوجد ) يصير شيئا بعد ما كانت عينا ثابتة ؛ فإن لكل عين من الموجودات ثبوتا في العلم الأزلي ، وإن كانت بالغة ( إلى ما لا يتناهى ) ، وإن كان غير المتناهي يمتنع اجتماعها في الوجود ؛ لكن لا مانع في ذلك إذ وجدت مرتبة ( دنيا وآخرة ) ، فالدنيا وإن تناهت فلا تتناهى الآخرة ( عرضا وجوهرا ) ، فإن للعرض عينا ثابتة غير عين الجوهر ، ( ومركبا وبسيطا ) ، فإن للمركب أيضا عينا ثابتة غير مجعولة في علم الحق كالبسيط ، ولعل الجواهر البسيطة غير متناهية ، فالملائكة المنحصر كل نوع منها في شخص ، وهم جواهر بسيطة ؛ فكيف بتناهي الأعراض والمركبات ؟

ثم استشعر سؤالا بأنه : كيف وسعت الرحمة كل شيء ، وهي مختصة بملائمة طبع أو حصول غرض ، ومن الأشياء ما لا يلائم طبعا ، ولا يحصل غرضا ؟

فأجاب بقوله : ( ولا يعتبر فيها حصول غرض ، ولا ملائمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم ) ، وموافق الغرض وغير موافقة كله ( وسعته الرحمة الإلهية وجودا ) ، إذ هو خبر محض في نفسه ، وإنما يكون سرّا بالنظر إلى الغير عن منعه كماله ، وكيف يعتبر فيهما حصول غرض أو ملائمة طبع ، وهما للموجودات دون المعدومات ؟

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة 835 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

21 - فصّ حكمة مالكيّة في كلمة زكرياويّة

وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص هذه الكلمة بحكمتها هو أنّ « المالك » له معنى الشدّة .
كما يقال : « ملكت العجين » إذا شدّد عجنه . فله معنى شدّة الامتزاج .
وله معنى الوسط أيضا كما قيل ومِلْك الطريق: وسطه، قال يصف ناقة :
أقامت على ملك الطريق فملكه  .....   لها ، ولمنكوب المطايا جوانبه
أي في وسط الطريق .

وإذ قد كان لزكريّا شدّة قوّة المزاج لوقوعه في وسط طريق الاعتدال - ولذلك تراه قد قاوم تصادم البليّات بدون تبرّم ولا إظهار اضطراب وتشكّ ومن هاهنا تراه ما انقطع له عند بلوغ الكبر مادّة التوالد كما هو المعهود من أمزجة بني نوعه .

هذا ما له من القوّة بحسب ظاهر مزاجه وله أيضا قوّة بحسب باطن ذلك المزاج - يعني الهمّة - وهي أنّه قد همّ بحصول ولد يحيى به ذكره مع يأس بالغ كان له من تحصيله ، بوهن آلات التناسل منه ومن زوجته حيث قال “  أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ من الْكِبَرِ عِتِيًّا “  [ 19 / 8 ] ،
وأنّه قد وهب له يحيى ، حيث أنّ اسمه ينطوي على وصفه المطلوب إظهاره - كما قد اطَّلعت على ذلك  .
وأيضا قد عرفت في الفصّ اللوطي الذي هو رابع الثانية أنّ حكمته ملكيّة لما فيه من الشدّة التي يأوي إليها من قومه ،
وإذ كان ذلك القوّة لزكريّا بين أفراد قومه من ابنه يحيى ، تفرّد في ثالث الثالثة الختميّة بالمالكيّة كما لا يخفى على اللبيب وجهه .

المناسبات الحرفية في اسم زكريا ومالك
ثمّ إنّ هاهنا تلويحات : وهي أنّ حاصل فضل عدد « زكريا » يوافق ذلك من مالك في أصل العقود ، وفي عدد « زكريا » أيضا مادّة حروف " الرحمة " أكثرها بالفعل والباقي بالقوّة .

ومن كمال هذه النسبة أنه ظهر أمر رحمته الوجوديّة في مرتبة الكلام ، الذي هو مادّة « المالك » ، ولذلك خصّ بين الأنبياء بالمذكوريّة فإنّ صاحب الوجود الكلامي هو المذكور الذي ظهر اسمه في هذه المرتبة - لا الذاكر - حيث قال تعالى : “  ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَه ُ زَكَرِيَّا “ [19 : 1 ]   . ولذلك أخذ في تحقيق معنى الرحمة قائلا :

سعة الرحمة وشمولها للكل
قال الشيخ رضي الله : ( اعلم أنّ رحمة الله وسعت كل شيء : وجودا ) - وهو ظهور ذاته وعينه في مراتب الوجود - ( وحكما ) وهو ظهوره واعتباره في حضرة الغيب بالفيض الأقدس قبل الوجود ، وبعده أيضا عند طريان الأحكام الكونيّة ، فإنّ الكلّ داخل في رحمة الله تعالى .

فالرحمة هي العامّة التي لا شيء يشذّ عنها . وما توهّم بحسب مفهومه أنّه مقابل لها - يعني الغضب - فهو أيضا داخل فيها ، ضرورة أنّه مشمول للوجود الذي هو من الرحمة .

قال الشيخ رضي الله : ( وأنّ وجود الغضب من رحمة الله بالغضب ، فسبقت رحمته غضبه ) سبقا ذاتيّا إحاطيّا ( أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ) ، فإنّ الرحمة أقرب نسبة إلى الهويّة المطلقة من سائر الأسماء ، لعموم نسبتها وتمام إحاطتها والذي يدلّ على ذلك هو ما أشار إليه بقوله رضي الله عنه   : ( ولمّا كان لكل عين وجود يطلبه من الله ، لذلك عمّت رحمته كلّ عين ) ، أي لما كان وجود العين مطلوبا من الله ومسئولا عنه ، والضرورة حاكمة بأنّ المطلوب من الجواد المطلق موهوب على كل حال ، عمّت رحمة الله كلّ الأعيان .

ثمّ إنّه يمكن أن يقال هاهنا : إنّ طلب العين وجوده ، قبل وجوده وحصوله ، والطلب وصف لا بدّ وأن يكون لمحلَّه حظَّ من الوجود ؟

فأزال ذلك بقوله : ( فإنّه ) أي فإنّ كلّ عين ( برحمته التي رحمه ) الله ( بها ) - في الفيض الأقدس والتجلَّي الغيبيّ الذاتي - حصل له حظَّ من الرحمة بها ( قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها ) بالفيض المقدّس في التجلَّي العيني
فقبول العين لرغبته التجلي وطلبه ، من حكم الرحمة التي بالفيض الأقدس ( فلذلك قلنا : إنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ) .

ثمّ إنّه قد أدرج في طيّ هذه العبارة نكتة ، وهي أنّ الضمائر التي لكل عين قد ذكَّرها ما كان منها قبل قوله : « فاوجدها » اعتبارا بلفظ الكلّ ، وتنبيها بذلك على أنّ الأعيان في الفيض الأقدس غير متميّزة عمّا فيه من التجلي الغيبي الذي هو بمنزلة كله ، بل الأعيان هناك عين الكلّ وأما في الفيض المقدس  فقد حصل للعين امتياز ، كما بيّن وجهه في موضعه .

ولذلك أنّث الضمير في " أوجدها " . فلا تغفل عن دقائق إشاراته في لطائف عباراته .

ثمّ إنّك إذا عرفت هذا ظهر لك أنّ من جعل قوله « قبل رغبته » ظرفا بمعنى « سابق رغبته » ، فهو في طرف من مقصود الكتاب ، كما أنّ من جعله فعلا راجعا فاعله إلى « الله » في آخر منه .

الأسماء في الفيض الأقدس
ثمّ إنّه لما ذكر أنّ سبق الرحمة إنما هو لقرب نسبته إلى الحقّ ، وذلك لشمول إحاطتها وكمال سعتها ، أخذ يحقّق مراتب سعة الرحمة وموادّها بقوله :
قال الشيخ رضي الله : ( والأسماء الإلهية من الأشياء ) التي شملتها الرحمة ( وهي ) من حيث أنّها مشمولة للرحمة والوجود ( ترجع إلى عين واحدة ) كما سبق تحقيقه من أنّ الأسماء من حيث خصوصيّاتها الامتيازيّة نسب لا وجود لها ، ومن حيث أنّها راجعة إلى عين واحدة لها الوجود . فتلك العين الواحدة مبدأ وجود الأسماء .

قال الشيخ رضي الله : ( فأول ما وسعت رحمة الله شيئيّة تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ) فهي الراحمة ، وهي المرحومة . وهذه مرتبة الفيض الأقدس ، الذي لا ثنويّة فيه بين الفائض والمفاض .
وفي هذه الحضرة ظهرت أعيان سائر الأسماء والحقائق ، لا وجودها وشيئيّتها والأعيان في هذه الحضرة هي المسمّاة بالشؤون الذاتيّة اصطلاحا ومعناه بلسان الإشارة التلويحية أنّ شيئيّتها عين عينيّتها فيها .

 مراحل انتشار الأسماء والأعيان  
قال رضي الله : ( فأوّل شيء وسعته الرحمة نفسها ) ، ونفس الرحمة هي المسمّاة بالنفس الرحماني عند فتح فاء التفصيل ونصبه شفتيه وفاه لجمع الكلمات الوجوديّة  والفرق فيها في الثاني من الحضرتين .

قال رضي الله : ( ثمّ الشيئيّة المشار إليها ) بالشيء المطلق ، وهو التجلَّي الثاني النفسيّ في الحضرة الواحدية . وهاهنا تتميّز الأعيان عن الوجودات ، ويقال لها الأعيان الثابتة .

قال رضي الله : ( ثمّ شيئيّة كل موجود ) في العوالم والمراتب الإمكانية التي غلبت الكثرة وحكمها حتّى ( يوجد إلى ما لا يتناهى ، دنيا وآخرة ) ، صورة ومعنى ( و ) الصورة ( جوهرا وعرضا ، و ) الجوهر ( مركَّبا وبسيطا ) فلا تخصيص لوصف ولا وضع أصلا ، ( ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كلَّه وسعته الرحمة الإلهيّة وجودا ) في العوالم ، فتكون الرحمة سابقة على الغضب .

شرح الجامي لفصوص الحكم الشيخ نور الدين عبد الرحمن أحمد الجامي 898 هـ :قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.  )

الفص الزكرياوي
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
قال رضي الله عنه :  (اعلم أنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، وأنّ وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب. فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرّحمة إليه نسبة الغضب إليه.)

إنما وصف الشيخ رضي اللّه عنه حكمته بالمالكية لأن الغالب على أحواله كان حكم الاسم المالك ، لأن الملك الشدة والمليك الشديد ،
وأن اللّه ذو القوة المتين أيدته بقوة سرت في همته وتوجهه فأثمرت الإجابة وحصول المراد فليتذكر قصة :وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [ الأنبياء : 90 ] بقوة غيبية ربانية خارجة عن الأسباب المعتادة ما صحلت زوجته ولا تيسر لها الحمل ،
ثم أنه كما سرت تلك القوة من الحق في زكريا وزوجته تعدت منهما إلى يحيى ، ولذلك قال له الحق :يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ[ مريم : 12 ]
ولما صدر الحق سبحانه قصته عليه السلام في سورة مريم بذكر الرحمة حيث قال :ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا( 2 ) [ مريم : 2 ]
وافقه الشيخ رضي اللّه عنه وصدر حكمته ههنا بذكر الرحمة ،
فقال : ( اعلم أن رحمة اللّه وسعت كل شيء رحمة وجودا وحكما ) رحمة اللّه التي هي الوجود الشامل كل الأشياء ، وسعت كل شيء من حيث وجوده الخاص به ، ومن حيث الأحكام التابعة لوجوده كالعلم والقدرة مثلا ، والمتبوعة المتوقف وجوده عليها كالقابلية والاستعداد للوجود التابعين لثبوت الأعيان في العلم السابقين على وجودها في العين

( وأن وجود الغضب ) الذي هو من الأحكام التابعة بوجود الغاضب ( من رحمة اللّه تعالى بالغضب ) فإنه بحسب استعداده للوجود طلب الوجود من اللّه سبحانه ، فرحمه وأعطاه الوجود ( فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة ) على الغضب بإفاضة الوجود عليه ( إليه تعالى نسبة الغضب ) على المغضوب عليه ( إليه تعالى ) ، فإنه ما لم يتصف غضبه بالوجود الذي هو رحمته لم يتعلق بالمغضوب عليه .

اعلم أن الغضب في الجناب الإلهي ليس إلا إفاضة الوجود على حال غير ملائم للمغضوب عليه في المغضوب عليه ، بحيث يتضرر به ويتألم ، ولا شك أن تلك الإفاضة أمر وجودي يطلب الوجود الذي هو الرحمة ، فما لم يتعلق به الوجود الذي هو الرحمة لم يتحقق


قال رضي الله عنه :  (ولمّا كان لكلّ عين وجود يطلبه من اللّه ، لذلك عمّت رحمته كلّ عين .
فإنّه برحمته الّتي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها . فلذلك قلنا إنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما . والأسماء الإلهيّة من الأشياء ؛ وهي ترجع إلى عين واحدة . فأوّل ما وسعت رحمة اللّه شيئيّة تلك العين الموجدة للرّحمة بالرّحمة ، فأوّل شيء وسعته الرّحمة نفسها)

الغضب ، فهو مسبوق بالرحمانية ، وأيضا إفاضة الوجود مطلقا هي الرحمة ، لكنها قد تنصبغ باعتبار متعلقه بصبغ الغضب ، ولا شك أن انصباغها بهذا الصبغ متأخر عنها فهذا معنى آخر لسبق الرحمة على الغضب ، وقد يجعل السبق بمعنى الغلبة فسبق الرحمة الغضب باعتبار غلبتها عليه آخرا ( ولما كان لكل عين ) من الأعيان المتبوعة أو التابعة ( وجود ) ، أي حصة وجودية ( يطلبه ) ، أي يطلب ذلك العين الوجود يعني الحصة الوجودية ( من وجود اللّه لذلك عمت رحمته كل شيء فإنه ) ، أي الحق ( برحمته التي رحمه ) ،
 أي كل عين ( بها ) ، أي بتلك الرحمة في الفيض الأقدس بإعطائه الثبوت في العلم واستعداد الوجود في العين ( قبل ) فعل ماض من القبول ، أي بمقتضى تلك الرحمة الأزلية قبل الحق سبحانه ( رغبته ) ، أي رغبة كل عين ( في وجود عينه ) في الخارج ( فأوجدها ) في الفيض المقدس فيه ، وقيل : معناه ، فإنه أي كل عين برحمته ، أي برحمة اللّه التي رحمه ، أي كل عين بها في الفيض الأقدس لحصول الاستعداد قبل كل عين رغبته في وجود عينه ،

أي صار قابلا ، لأن يرغب في وجود عينه ويطلبه ، فأوجدها بالفيض المقدس ، فالمراد بقبول الحق رغبة كل عين في وجود عينه أن يعامل معه بمقتضى رغبته وطلبه ، ويفيض على غيبه الوجود بقبول العين الراغبة أن تظهر فيه الرغبة والطلب ( فلذلك ) ، أي لأجل ذلك الإيجاد لقبول رغبته في وجود عينه ( قلنا : إن رحمة اللّه وسعت كل شيء وجودا وحكما ) ، أما وجودا فظاهر ، وأما حكما فلإعطائه استعداد الوجود أولا وإفاضة الوجود على لوازم الوجود آخرا ( والأسماء الإلهية من الأشياء ) التي عمتها الرحمة الوجودية

( وهي ) من حيث أنها متمايزة بخصوصيات هي نسب لا وجود لها ( ترجع إلى عين واحدة ) لها الوجود ووجودها باعتبار تلك العين الواحدة وهذه العين الواحدة هي النفس الرحماني الذي هو الوجود الحق لا مطلقا بل من حيث عمومه وانبساطه
( فأول ما وسعت ) ، أي وسعته ( رحمة اللّه شيئية تلك العين ) والرحمة التي وسعت الرحمة الذاتية الحاصلة من التجلي الذاتي بصورة تلك العين التي هي النفس الرحماني ( الموجدة للرحمة ) ، أي للوجودات الخاصة المتعينة بحسب كل حقيقة حقيقة علما أو عينا ( بالرحمة ) التي هي نفس تلك العين أعني النفس الرحماني فإنها التي تقيدت بكل حقيقة حقيقة فصارت وجوداتها الخاصة .
وهذا المعنى هو المعنى بكونها موجودة لها ( فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ) ،

قال رضي الله عنه :  ( ثمّ الشيئيّة المشار إليها ، ثمّ شيئيّة كلّ موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة وعرضا وجوهرا ، ومركّبا وبسيطا . ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كلّه وسعته الرّحمة الإلهيّة وجودا . )

يعني نفس الرحمة التي هي النفس الرحماني ، وقد عرفت الرحمة التي وسعتها ( ثم الشيئية ) الأسمائية ( المشار إليها ) بقوله : والأسماء الإلهية من الأشياء ، فإن أول ما يمر عليه هذا التجلي النفسي هو الأسماء الإلهية وبإزائها الأعيان الثابتة ، ولذلك التقى بها ، أو الأسماء أعم من الأسماء الفاعلة والقابلة ( ثم شيئية كل موجود يوجد ) بالوجود العيني في العوالم والمراتب الإمكانية ( إلى ما لا يتناهى دنيا وأخرى عرضا وجوهرا ومركبا وبسيطا ولا يعتبر فيها ) ،
أي في سعة الرحمة شيئية كل موجود
( حصول غرض ولا ملائمة طبع بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا ) ، وإنما اكتفى بذلك ولم يقل : وحكما اعتمادا على ما مر غير مرة . ولما كانت الرحمة الذاتية التي تعين بها النفس الرحماني وكذا النفس الرحماني الذي به تعين الأسماء الإلهية والأعيان الثابتة ، ثم الأعيان الوجودية من النسب الاعتبارية التي ليس لها عين موجودة في الخارج ، كان محل أن يشكل كيفية تأثيرها ،
واتساب

No comments:

Post a Comment