Saturday, February 15, 2020

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زکرياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د. أبو العلا عفيفي

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زکرياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د. أبو العلا عفيفي

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زکرياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص الحادي و العشرون حكمة مالكية في كلمة زکرياوية

(1) حكمة مالكية في كلمة زکرياوية
(1) يختلف هذا الفص عن غيره من فصوص الكتاب في أنه لا ذكر فيه- إلا في عنوانه- للنبي الخاص الذي تنسب إليه حكمته.
وقد جرت عادة المؤلف في الفصوص الأخرى أن يجعل محور كلامه في كل فص حول مناقشة بعض الآيات القرآنية الواردة في حق النبي المنسوب إليه حكمة الفص، وأن يشرح- على لسان النبي المزعوم- أسرار الحكمة التي يريد شرحها.
ولكنه في الفص الذي نحن بصدده يغفل تمام الإغفال اسم زكريا النبي كما يغفل جميع الآيات القرآنية الواردة في حقه.
نعم هناك إشارة غير مباشرة إلى قوله تعالى في سورة مريم: «ذكر رحمت ربك عبده زكريا» حيث يتكلم المؤلف عن الرحمة الإلهية ومن ذكرته الرحمة ومن لم تذكره، ولكنه لا يذكر اسم زكريا صراحة ولا يذكر الآية.
والظاهر أن هذه الإشارة البعيدة إلى الآية المذكورة قد أثارت في نفسه كل هذا الكلام الذي يفيض به الفص عن الرحمة ومعناها وأنواعها وأثرها في الوجود.

(2) «اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما».
(2) سبقت الإشارة مرارا إلى المعنى الخاص الذي يستعمل فيه ابن العربي كلمة «الرحمة»، فإنه لا يقصد بها الشفقة على العباد ولا غفران المعاصي للعاصين، وإنما يريد بها النعمة السابغة الشاملة التي أسبغها الله على الوجود بأسره، أو هي بعبارة أخرى منح كل موجود وجوده الخاص به، وإظهار حكمها فيه بإظهار الصفات الوجودية التي يتميز بها كل موجود من غيره.
وسواء أ كان الوجود بالقوة أو بالفعل، بسيطا أو مركبا، خيرا أو شرا، طاعة أو معصية، فالرحمة شاملة له أي معطية إياه وجوده الخاص به لأنه إما موجود بالفعل متحقق الوجود، أو موجود بالقوة صائر إلى الوجود بالفعل. فالنظرة التي ينظر بها المؤلف إلى الرحمة نظرة ميتافيزيقية لا خلقية.
ولذلك لا يفرق بين مقولتي الخير والشر كما لا يميز- إلا في مجرد التسمية- بين صفتي الغضب والرضا اللتين وصف الحق بهما نفسه. (قارن التعليق الثالث على الفص السادس عشر).
وبالرغم من أن الرحمة نفسها ليس لها وجود عيني- لأنها من الأمور الكلية المعنوية، فإن لها الحكم في إيجاد كل ما له وجود عيني، شأنها في ذلك شأن جميع المعاني الكلية التي لها أثر وحكم في أعيان الموجودات، مع أنها ليست من الموجودات العينية.
وإلى هذا المعنى أشار بقوله: «وقد ذكرنا في الفتوحات أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم (قارن الفص الأول).
هذه مسألة يرى ابن العربي أنها لا تدرك إلا بالذوق الصوفي وأنه لا مجال للعقل فيها، و إلا فكيف يدرك العقل أن الرحمة الإلهية قد وسعت المعاصي والآلام و الأمراض ونحوها مما يظهر للعقل البشري أنه من مظاهر الغضب الإلهي لا الرحمة؟

(3) فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة إلى قوله ومركبا وبسيطا».
(3) في هذه الفقرة المتناهية في الغموض شرح لفكرة هي أشبه ما تكون بفكرة الفيض الأفلوطيني، أي ظهور الواحد الحق في مراتب الوجود من أعلاها إلى أدناها في سلسلة من الفيوضات تنتهي بالعالم المحسوس.
والأولى ألا نستعمل كلمة الفيوضات (بالمعنى الأفلوطيني) لأنها لا مكان لها في مذهب ابن العربي، وإنما الواجب أن نستعمل كلمة التجليات مكانها، فإن الواحد الحق يتجلى- في نظره- في صور الموجودات ولا تفيض الموجودات عنه.
ومما يزيد المسألة غموضا وصعوبة في الفهم أنه يدخل في «الفيوضات» الرحمة الإلهية التي يخلع عليها صفة العينية حتى يعدها مرادفة للحق نفسه أو للوجود المطلق. فإذا فهمنا الرحمة على أنها الوجود، كانت الرحمة المطلقة التي وسعت كل شيء هي والوجود المطلق الذي هو الحق شيئا واحدا.
فظهور الواحد الحق في صورة الكثرة الوجودية التي هي العالم يقع في التصور على سبيل التدرج في مراتب من الوجود تتحقق كل مرتبة منها عند ما يتجلى الواحد الحق فيها- أو عند ما تسعها الرحمة الإلهية.
وأول هذه المراتب مرتبة الذات الإلهية المطلقة: وهي مرتبة الوجود المطلق من حيث هو وجود: لا سبيل لنا إلى معرفتها أو وصفها بأي وصف، لأن كل وصف يحددها ويعينها، وهي متعالية على الوصف والتحديد.
فهي مرتبة الشيئية المطلقة التي تعتبر سائر الموجودات مظاهر لها أو صورا وتعينات فيها.
فقوله: «فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة» معناه أن أول شيء وسعته الذات الإلهية (أو الوجود المطلق) هو ذات الوجود المطلق، وأن أول تجل للذات الإلهية كان فيها لنفسها، وهو الفيض الأقدس الذي أشرنا إليه في الفص الأول.
وهو أيضا مرتبة العماء. (راجع في معنى الشيئية والعماء ما ذكره في الفتوحات ج 3 ص 115، وفي معنى الشيء من حيث وجوده بالقوة، والشيء من حيث وجوده بالفعل: الفتوحات ج 4 ص 136 و213).
والمرتبة الثانية من مراتب التجليات هي تجلي الواحد الحق لذاته في صور الأسماء الإلهية، وهي مرتبة الفيض المقدس التي فيها يتجلى الحق لنفسه في صور الموجودات من حيث وجودها في باطن الغيب المطلق: أي من حيث هي نسب و إضافات معقولة إلى الذات الإلهية الواحدة.
فإذا عرفنا أن اسم «الله» يشير إلى نسبة الحقائق الوجودية إلى الذات الإلهية على هذا النحو، وأن الاسم «الرحمن» يشير إلى أنه منبع الوجود وأصل كل موجود: إذا عرفنا هذا كله، أدركنا لم يعتبر ابن العربي الاسم «الله» مرادفا للاسم «الرحمن» مستشهدا بقوله تعالى:
«قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى»، ولماذا يعتبر كلا من هذين الاسمين جامعا للأسماء الإلهية كلها.
وإذا كان الأمر كذلك فتجلي الواحد الحق لنفسه في صور الأسماء الإلهية إنما هو في الحقيقة تجليه لنفسه في صورة اسم «الله» أو اسم «الرحمن».
فالحق مسمى باسم الرحمن في نظر ابن العربي لأنه يتجلى بوجوده على كل موجود، وتجليه بوجوده على كل موجود هو رحمته التي يرحم بها هذا الموجود.
فبوجود الذات الإلهية المطلقة- التي هي العين الواحدة- ظهرت الكثرة الوجودية في الواحد، وكانت فيه وجودا بالقوة ثم وجودا بالفعل.
وهذا هو معنى قوله: «تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة» أي تلك العين التي أخرجت الوجود من القوة إلى الفعل.
والتجلي الثالث هو تجلي الواحد الحق في صور أعيان الموجودات أو العالم الخارجي، وهذا أيضا ناشئ عن الرحمة.
إذ بالرحمة الإلهية منح الله الوجود لكل موجود، أو على حد قول المؤلف أعطى كل موجود شيئيته سواء أ كان جوهرا أو عرضا، بسيطا أو مركبا (قارن التعليقين السابع والثامن على الفص السادس عشر).

(4) «و لا يعتبر فيها حصول غرض و لا ملاءمة طبع، بل الملائم و غير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا».
(4) هذه نتيجة لازمة عن تعريف الرحمة الإلهية على الوجه الذي ذكرناه، فإن الرحمة لو كان معناها الشفقة بالعباد والعناية بهم، لدخل في حساب الراحم فعل ما هو ملائم لطباع الناس وما هو محقق لأغراضهم، بل لقصرت الرحمة على هذا الصنف من الأعمال دون غيره.
ولكنها أوسع من أن تنحصر في هذا الصنف لأنها عامة تشمل الملائم وغير الملائم، والخير والشر، وكل ما يتحقق في الوجود على أي وجه.
فلا يعنيها أن ما يتحقق وجوده ملائم أو غير ملائم لغرض هذا الفرد أو ذاك، لأن الملاءمة وغير الملاءمة أمران اعتباريان لا دخل لهما في الأشياء من حيث هي، وكذلك الخير والشر أمران اعتباريان لا دخل لهما في الأفعال من حيث هي.
والرحمة تتوجه إلى إيجاد الأشياء والأفعال من حيث هي، فهي- بهذا المعنى- مرادفة للمشيئة الإلهية التي هي أعم قانون في الوجود.

(5) «وقد ذكرنا في الفتوحات أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم».
(5) بعد أن ذكر أن الصفات الإلهية- وهي في ذاتها ليست وجودا عينيا- لها أثر في كل ما له وجود عيني، أراد أن يبين هنا أن كل ما له أثر في متأثر فإنما هو معدوم (أي ليس له وجود عيني خارجي).
وإن تأثر متأثر بموجود فإنما يكون ذلك لحكم «معدوم» فيه.
وظاهر من هذا أن المؤلف لا يعني بالمعدوم المعدوم إطلاقا فإن المعدوم المطلق سلب محض وليس له أثر ولا يمكن أن يكون له أثر في متأثر، وإنما يريد بالمعدوم هنا الذي لا وجود له في العالم الخارجي، أعني الموجود العقلي أو الروحي.
إن العالم الخارجي وهو عالم الظواهر الذي له وجود عيني في تغير مستمر، ولا بد لكل تغير من علة تحدثه.
ولا يرى ابن العربي أن الظواهر الطبيعية أو حالات المادة هي العلل في وجود ظواهر طبيعية أخرى أو حالات جديدة في المادة، بل العلل في نظره أمور غير مادية أو كما يقول غير وجودية: وأحيانا يصف الأسماء الإلهية- وهي في نظره صفات معقولة محضة ليس لها وجود مستقل عن الذات التي تصفها- بأنها علل جميع الموجودات بمعنى أنها حقائق كلية معقولة متجلية في صور العالم الخارجي التي لا تتناهى عددا.
فليست الذات الإلهية من حيث هي- أي ليست الذات معراة عن جميع الصفات التي توصف بها- علة في وجود أي معلول.
وإنما هي علة في وجود كل معلول من حيث هي متصفة بصفاتها المتجلية في جميع نواحي الوجود.
ويشير ابن العربي إلى هذا المعنى في قوله فيما بعد: «فلها الحكم (أي للرحمة التي هي أمر معقول) لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل.
فهو (الحق) الراحم على الحقيقة:
فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة»: أي لا يرحم من يرحمه من حيث هو ذات معراة عن صفة الرحمة، بل يرحم من حيث هو موصوف بصفة الرحمة.
ولكنه أحيانا يتكلم عن «الأعيان الثابتة» للموجودات كما لو كانت هي الأخرى عللا في وجودها لأنها في نظره- مثل المثل في نظر أفلاطون- العلل الحقيقية لكل ما هو موجود في عالم الظاهر.
فإن كل موجود إنما يوجد على الصورة التي يوجد عليها لأن عينه الثابتة قد قضت أزلا أن يكون على هذه الصورة.
فهي علة وجوده بهذا المعنى. ولكن هذه الأعيان الثابتة لا تخلو عند الفحص الدقيق عن أن تكون إما المثل المعقولة التي قال بها أفلاطون أو التعينات الأولى التي ظهرت في الذات الإلهية من حيث إضافة هذه الذات إلى العالم كما يقول ابن العربي.
أي أنها لا تخلو عن أن يكون المراد بها العالم المعقول أو الأسماء الإلهية.
وإذا كان هذا الأخير فيستوي أن تنسب العلية في عالم الظاهر إلى الأسماء الإلهية أو تنسبها إلى الأعيان الثابتة. وهناك احتمال ثالث.
فإن من الممكن أن يكون المراد بالمعدوم، ما لا وجود له في العالم الخارجي وهو مع ذلك علة في وجود التغيرات: أقول من الممكن أن يكون المراد بهذا المعدوم الحقيقة غير المدركة بالحس المختفية وراء الظواهر.
وبهذا المعنى تكون علة التغير في كل موجود جوهره المتقوم به الذي هو محل للتغير، ويكون الوجود ثنويا.
ولكنها ثنوية في وحدة كما يقول ابن العربي، فإن لكل موجود ناحيتين: ناحية الظاهر أو الخلق التي يسميها بالناسوت وناحية الباطن أو الحق التي يسميها باللاهوت.
والناحية الأولى هي ناحية المعلولية في الموجود كما أن الثانية ناحية العلية فيه.
أما قوله: «وهو علم غريب وسألة نادرة ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام» فالظاهر أن السبب فيه أن أصحاب الأوهام يتأثرون بأمور ليس لها وجود عيني خارجي، فهم لذلك أدنى من غيرهم إلى فهم المؤثرات التي ليس لها وجود محسوس.
وقد يكون ذلك كذلك لو أدرك أصحاب الأوهام حقيقة ما يؤثر فيهم، أي لو عرفوا أنهم يتأثرون بأمور ليست موجودة بالفعل، مع أن الأمر على خلاف ذلك لأن المتسلط عليه الوهم يعتقد أثناء تسلطه عليه أن ذلك الذي يؤثر فيه له كل معاني الوجود.

(6) «ثم إن الرحمة لها أثر بوجهين: أثر بالذات ... إلى قوله و لها أثر آخر في السؤال».
(6) تنال الرحمة الإلهية بطريقتين: الأولى ظهور الذات الإلهية في صور الموجودات على نحو ما هي عليه، وبحسب استعداد هذه الموجودات المنطبع فيها من الأزل، وهذه هي الرحمة الرحمانية التي يشير إليها الله في قوله: «ورحمتي وسعت كل شيء».والطريقة الثانية بسؤال العبد ربه أن يعطيه كذا أو كذا مما يلائم غرضا أو يحقق له نفعا.
ولكن الرحمة لا تنال بالسؤال إطلاقا وإنما تنال إذا اقتضت طبيعة الوجود نفسها تحقيق المسئول عنه.
ومن هنا لم يكن للسؤال في نظر العارفين قيمة أو أثر، بل إنه يدل في نظرهم على أن السائل محجوب جاهل بحقيقة السؤال.
وقد روي عن كثير منهم أنهم كانوا يكرهون السؤال ويفوضون الأمر كله إلى الله، ولا يسألونه إلا أن تقوم بهم رحمته فإذا قامت بهم وجدوا حكمها ذوقا، أي لا يسألون الله إلا أن يقوم ذلك المعنى بهم، لا أن يرحمهم الله من حيث هو فاعل للرحمة لأن الأثر كما قلنا ليس في الحقيقة إلا للمعاني.

(7) «ولهذا رأت الحق المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثابتة فرحمته بنفسها في الإيجاد».
(7) قد شرحنا في التعليق الثالث على هذا الفص المرتبة الثانية من مراتب التجلي الإلهي وذكرنا كيف وسعت الرحمة الإلهية الأسماء التي يتسمى بها الحق وتدخل تحت اسم واحد هو اسم الله أو الرحمن.
والآن يريد المؤلف أن يفسر وجود صور المعتقدات أو صور الله في الاعتقاد على أنها أمور وسعتها الرحمة الإلهية أيضا.
والله لا يعرف من حيث ذاته المجردة عن الأسماء وإنما يعرف ويعبد من حيث هو ذات متصفة بأسمائها.
وأسماء الله في نظر المؤلف هي الصفات التي يتصف بها العالم: إذ ليس للعالم معنى عنده إلا أنه الصفات التي وصف الحق بها نفسه.
فعلم الناس بالله مستمد من علمهم بالعالم.
والحق المخلوق في الاعتقاد- وهو غير الحق في ذاته- صورة من صور علم الناس بالعالم.
ويلزم من هذا أن الرحمة التي وسعت الأسماء الإلهية قد وسعت في الوقت نفسه صور المعتقدات جميعها، أو قد وسعت- كما يقول- الحق المخلوق في الاعتقاد.
بعبارة أدق قد وسعت صور الاعتقاد التي قدر لها أزلا أن تكون صور اعتقاد للناس في الله كما قدر لصاحب كل صورة من صور الاعتقاد أن يخلق هذه الصورة وفقا لما تجلى في نفسه وفي العالم الخارجي المحيط به من الأسماء الإلهية.
أما فكرة خلق الحق في الاعتقاد ففكرة يرددها المؤلف في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وقد أشرنا إليها في مثل قوله: «فأعلمه فأوجده» وقوله «فالله عبارة لمن فهم الإشارة» ونحو ذلك.

(8) «فيسأل المحجوبون الحق أن يرحمهم في اعتقادهم، وأهل الكشف يسألون رحمة الله أن تقوم بهم».
(8) يسأل عامة الناس الذين لا يعرفون الحق إلا بطريق عقولهم الله أن يرحمهم في اعتقاداتهم، وهذا هو عين الحجاب، لأن الحق المخلوق في الاعتقاد إنما هو من عملهم من حيث هو صورة من صور علمهم بأنفسهم وبالعالم الذي يعرفونه.
فإذا ما دعوا الله أن يرحمهم دعوا في الحقيقة آلهتهم المخلوقة في اعتقاداتهم أن يغفروا لهم ذنوبهم ومعاصيهم.
أما أهل الكشف الذين يعرفون الحقيقة عن طريق الذوق، فلهم في طلب الرحمة غاية أخرى: وهي أن تقوم الرحمة بهم أي يتحققوا بصفة الرحمة التي هي من صفات الله فيصبحوا راحمين لا مرحومين.

وهذا رأي قد يبدو غريبا لأول وهلة، غير أن غرابته سرعان ما تزول عند ما ينظر إليه الناظر في ضوء مذهب وحدة الوجود الذي يقول به المؤلف، لأنه لا فرق في الحقيقة في مثل هذا المذهب بين راحم ومرحوم ولا معنى للاثنينية هناك حيث لا يوجد في الوجود إلا حقيقة واحدة، فمن الجهل إذن أن تدعو الحق أن ينزل بك رحمته أو أن يهبك أي شيء فإن الحق الذي تدعوه هو الحق الذي خلقته في اعتقادك وهو أنت وأنت هو، بل الواجب عليك أن تتحقق ما أمكنك بصفات الكمال الإلهي التي منها الرحمة ونحوها.

ولكنك لن تصير في يوم من الأيام الحق لأنك في الحقيقة حق أي صورة من صور الحق ومظهر من مظاهره.
فإذا قامت بك صفة الرحمة (أو أية صفة أخرى) فأظهرها لغيرك تكن راحما مرحوما، وتحقق بذلك وحدتك الذاتية مع الحق. هذا معنى من معاني الحال الصوفي المعروف بحال الفناء وهو الحال الذي صاح فيه الحلاج بقوله: «أنا الحق».
ومعنى قوله: «فمن ذكرته الرحمة فقد رحم واسم الفاعل هو الرحيم والراحم» أن من قامت به صفة الرحمة وتحقق بها أصبح راحما لغيره من الخلق.

(9) «والحكم لا يتصف بالخلق لأنه أمر توجيه المعاني لذواتها».
(9) سبقت الإشارة إلى موضوع هذه الفقرة فيما مضى من التعليقات على هذا الفص لا سيما التعليق الخامس.
والمراد بالحكم هنا حكم الصفة في الموصوف كحكم «العلم» في العالم والإرادة في المريد ونحوهما.
وقد انقسمت الآراء في مسألة الصفات الإلهية إلى قسمين: رأي أهل السنة القائلين بأن الصفات لا هي عين الذات ولا هي غيرها، ورأي المعتزلة الذاهبين إلى أن الصفات عين الذات: وكلا الرأيين مخطئ في نظر المؤلف.
فالصفات ليست عين الذات عنده- كما يقول المعتزلة- إلا بمعنى خاص وهي أنها نسب وإضافات بين الذات الموصوفة وبين الأعيان المعقولة للصفات.
فنحن إذا وصفنا الحق بأنه «عالم» لا نقصد أن صفة العلم عين الذات العالمة، وإنما نقصد أن صفة العلم هي عين الذات المتصفة بالعلم من حيث قيام صفة العلم بها، كما تقوم الأحوال بالجواهر: أي أنها نسبة أو إضافة بين الذات المتصفة بالعلم، وبين المعنى الكلي العام- العلم.
ومعنى هذا أن العلم هو الصفة التي حكمت على الذات فصارت الذات من أجلها عالمة.
والإرادة هي الصفة التي حكمت على الذات فصارت الذات من أجلها مريدة وهكذا.
ولا يقال إن صفة العلم أو الإرادة قد خلقت في الذات، ولا أن حكمها قد حدث أو تجدد أو وصف بأي معنى من معاني الخلق، فإن حكم الصفة في الموصوف أمر لا يوصف بالخلق ولا بالحدوث، بل يلزم من معنى الصفات لذواتها.
وفي هذا رد على أهل السنة الذين يتحاشون القول بأن الذات عين الصفات لئلا يسووا بين الله وصفاته، كما يتحاشون القول بأن الذات غير الصفات لئلا يقعوا في تعدد القديم:
إذ صفات الله قديمة كذاته. فهم لم يستطيعوا أن ينفوا الصفات الإلهية لثبوت حكمها في الموصوف، ولم يستطيعوا أن يجعلوها عين الذات، فقالوا قولتهم المشهورة: «لا هي هو ولا هي غيره».
ويقول ابن العربي «وهي عبارة حسنة وغيرها أحق بالأمر منها وأرفع للإشكال وهو القول بنفي أعيان الصفات وجودا قائما بذات الموصوف».
فمذهبه إذن أدنى إلى مذهب المعتزلة، غير أنه وإن أثبت وحدة الذات والصفات كما يثبتون، وقال بقيام الصفات بذات الموصوف كما يقولون، لا يذهب إلى أن للصفات أعيانا قائمة بذات الموصوف، وإنما هي مجرد نسب وإضافات معقولة ليس لها وجود عيني. فهي معان قائمة بذات الحق ولكن لا أعيان لها، كما أنها لا تقوم بالذات قيام الأعراض أو الحوادث بمقوماتها.

(10) «والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم، و هي الموجبة للحكم، و هي الراحمة. والذي أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها، و إنما أوجدها ليرحم بها من قامت به».
(10) المعنى أن الحق سبحانه إذا رحم عبدا أوجد فيه الرحمة أو جعل الرحمة تقوم به بحيث يصبح قادرا على أن يرحم غيره من المخلوقات.
وبذلك يصبح المرحوم راحما. فالحق لا يوجد الرحمة في المرحوم ليرحمه بها، بل ليكسبه الصفة الإلهية التي بها يرحم غيره- وهذا لا يكون إلا للكاملين من العارفين.
ولا يكون قيام الرحمة بالراحم بهذا المعنى- أي لا يكون إيجادها فيه بعد أن لم تكن- إلا من صفات الإنسان الحادث، لأن الحق سبحانه ليس بمحل للحوادث، فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه.
ومع ذلك فالحق هو الراحم على الإطلاق: أي هو مصدر كل رحمة، ولا تكون له هذه الصفة إلا على معنى أن رحمته عين ذاته كما بينا في التعليق السابق.
وها هو نص شرح القيصري على هذه المسألة الدقيقة وهو من أوضح الشروح فيها.

قال: «وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به» أي الحق الذي أوجد الرحمة في هذا المرحوم الذي هو من أهل الكشف ما أوجدها ليرحمه بها فيكون مرحوما، وإنما أوجدها فيه ليكون راحما، لأنه بمجرد ما وجد أولا صار مرحوما بالرحمة الرحمانية، وعند الوصول إلى كمال يليق بحاله صار مرحوما بالرحمة الرحيمية.
فإيجاد الرحمة فيه وإعطاء هذه الصفة له بعد الوجود والوصول إلى الكمال، إنما هو ليكون العبد موصوفا بصفة ربه فيكون راحما بعد أن كان مرحوما.
وإنما كان كذلك لأن الصفات الفعلية (أي صفات الأفعال) إذا ظهرت فيمن ظهرت تقتضي ظهور الفعل منه.
ألا ترى أن الحق إذا أعطى لعبده صفة القدرة وتجلى بها له كيف تصدر منه خوارق العادات وأنواع المعجزات والكرامات؟
والرحمة مبدأ جملة الصفات الفعلية إذ بها توجد أعيانا.
فنسأل الله (أن) يرحمنا بالرحمة التامة الخاصة والعامة": شرح القيصري على الفصوص ص 237. قارن التعليق الثالث على الفص السادس عشر.

(11) «وإن كانت الرحمة جامعة فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة».
(11) الرحمة الإلهية جامعة لجميع صفات الفعل التي يتصف بها الحق لأنها مبدأ الإيجاد كما قلنا.
ولكنها تظهر في الوجود بصور مختلفة بحسب الأسماء الإلهية المختلفة، وتتعدد بتعددها.
وقد سبق أن ذكرنا أن الأسماء الإلهية هي الصفات التي تتصف بها الموجودات، أو هي المعاني التي تتجلى في الوجود بصور الموجودات فظهور الرحمة في صور الأسماء الإلهية معناه تجليها في صور الموجودات بحسب استعدادها وقابليتها للوجود.
ومما يستدل به على عمومية الرحمة وجامعيتها أن اسم «الرحمن» قد استعمل في القرآن مرادفا لاسم «الله» في قوله تعالى «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى». واسم «الله» هو جماع الأسماء الحسنى كلها.

(12) «فرحمة الله والكناية هي التي وسعت كل شيء، ثم لها شعب كثيرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية».
(12) الرحمة التي لها صفة العموم هي الرحمة المنسوبة إلى الاسم «الله» أو إلى ياء المتكلم (وهي المشار إليها بالكناية) في قوله تعالى «ورحمتي وسعت كل شيء».
اما الرحمة التي يمنحها الله بواسطة أي اسم آخر من الأسماء الإلهية فرحمة جزئية لا تعم لأن الاسم الإلهي المتجلي فيها اسم خاص لا يعم.
وإذا نظرنا إلى الأسماء الإلهية من حيث هي مجال للوجود العام أو مجال للرحمة الإلهية العامة كانت كل رحمة خاصة تظهر على يد اسم من الأسماء بمثابة الشعبة المتفرعة عن الرحمة العامة.

(13) «إذ المصطلح عليه بأي لفظ حقيقة متميزة بذاتها عن غيرها، وإن كان الكل قد سيق ليدل على عين واحدة مسماة».
(13) كل اسم إلهي حقيقة متميزة بذاتها عن حقائق الأسماء الأخرى، ومن هنا استعمل لكل اسم لفظ خاص وكان له من الحكم ما ليس لغيره.
ولكن الأسماء الإلهية كلها لها دلالة أخرى واحدة وهي دلالتها على الذات الإلهية الواحدة المسماة بها.
وهذا هو المعنى الذي أشار إليه أبو القاسم بن قسي الأندلسي عند ما قال: إن كل اسم إلهي على انفراده مسمى بجميع الأسماء الإلهية كلها.
فلا بد إذن من مراعاة الدلالتين جميعا: دلالة كل اسم على معناه الخاص، ودلالة الأسماء الإلهية كلها على الذات المتصفة بها.
أما طلب الرحمة بواسطة الأسماء الإلهية، فيفهمه المؤلف على أن السائل إنما يدعو الله باسم من الأسماء من حيث دلالة ذلك الاسم على الذات الإلهية المسماة به، لا من حيث دلالته على معناه الخاص: ولذلك يدعى الله بالاسم الرب كما يدعى بالاسم المنتقم لكي يرحم فلانا أو فلانا فيقول الداعي يا رب ارحم كما يقول يا منتقم ارحم ولا تناقض في مثل هذا الدعاء.

(14) «أبو القاسم بن قسي».
(14) هو الشيخ أبو القاسم بن قسي شيخ طائفة المريدين في الأندلس. مات مقتولا سنة 546 هـ.
كان معاصرا لاثنين من كبار رجال التصوف في الأندلس وهما أبو العباس ابن العريف وأبو الحكم بن برجان اللذان اتهما بالزندقة فدعاهما صاحب شمال إفريقية على بن يوسف إلى مراكش و حبسهما حتى ماتا في السجن.
من ذلك الوقت استقل ابن قسي بزعامة الصوفية في الأندلس، وأطلق على أتباعه اسم المريدين فألف منهم جيشا قويا كان له خطره في الشئون السياسية في الأندلس وإفريقية على السواء.
وقد خاض بهذا الجيش مواقع كثيرة في الثورة المعروفة بثورة المريدين، واختلفت عليه الحظوظ فانتصر في بعضها وهزم في البعض الآخر.
ثم انتهى به الأمر إلى أن قتل في ساحة القتال نتيجة لعقد تحالف بينه وبين نصارى البرتغال سنة 545 هـ.  أما قتله فكان في سنة 546.
وكان بنفس الرماح التي أمده بها هؤلاء النصارى.
وليس هناك من شك في أن ابن قسي كانت له آمال سياسية واسعة استغل مريديه لتحقيقها، ولكنه كان في الوقت نفسه من أكبر رجال الصوفية الذين عرفتهم الأندلس، وأنه كان ينحو في تصوفه منحى أهل المشرق.
كان من أكبر المعجبين بالإمام الغزالي فكان يقرأ كتبه ويشرحها علانية في مجالسه متحديا في ذلك عرف أهل وطنه الذين كانوا ينقمون كل النقمة على الغزالي وكتبه.
ويحكي ابن العربي عن نفسه أنه في زيارة له لمدينة تونس لقي ابن الشيخ ابن قسي وقرأ معه كتاب أبيه المعروف بخلع النعلين.
ولم يذكر شيئا عن كتابته شرحا على هذا الكتاب ولكن بعض المترجمين لابن العربي يذكرون له شرحا بهذا الاسم.
ولابن العربي إشارات كثيرة إلى هذا الشيخ في كتابه الفتوحات ولكن معظمها حول مسألة الأسماء الإلهية التي شرحنا رأي ابن قسي في التعليق السابق.
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment