Tuesday, July 9, 2019

السفر الأول فص حكمة إلهية فى كلمة آدمية الفقرة السادسة والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر الأول فص حكمة إلهية فى كلمة آدمية الفقرة السادسة والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر الأول فص حكمة إلهية فى كلمة آدمية الفقرة السادسة والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله

01 - The Wisdom Of  Divinity In The Word Of ADAM

الفقرة السادسة والعشرون :
جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص شرح الشيخ عبد الغني النابلسي 1134 هـ  :
قوله رضي الله عنه :  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. 
وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
(ثم لنعلم أن الحق) تعالى (وصف نفسه بعد ذلك أيضا بأنه ظاهر باطن) حيث قال تعالى: "هو الأول والأخر والظهر والباطن وهو بكل شيء عليم " 3 سورة الحديد.
(فأوجد العالم) كله (عالم غیب) عنا (و) عالم (شهادة) لنا. فغيبنا الأرواح وشهادتنا الأجسام.
(لندرك الباطن) من العالم (بغيبنا) وهو الروح (و) ندرك (الظاهر) من ذلك (بشهادتنا) وهي الجسم ولا غيب ولا شهادة بالنسبة إليه تعالى.
لأنه أخبر عن نفسه تعالى أنه عالم الغيب والشهادة، فهما عنده سواء.
وإذا استویا فلا فرق بينهما، وإذا لم يكن بينهما فرق ارتفع الأمران لارتفاع المميز لكل منهما عن الآخر.
وثبت علمه تعالى بكل شيء وإحاطته بالجميع إحاطة واحدة، ومع ذلك فهو تعالی الظاهر الباطن.
فهو الظاهر لغيره والباطن عن غيره، فلا ظاهر إلا هو ولا باطن إلا هو، ولا هو ظاهر لغيره ولا هو باطن عن نفسه.
ولما نسب سبحانه أمره إلينا كان باطنا عنا ثم لما سلب أمره عنا كان ظاهرة لنا وأمره مسلوب عنا في حال نسبته إلينا كما سبق، فهو الظاهر في عين باطنيته والباطن في عين ظاهريته .
وقوله بعد ذلك "وهو بكل شيء عليم" 29 سورة البقرة.
تنبیه منه تعالى على أن اسمه الباطن نسبة إضافية بالنظر إلينا، وأما بالنظر إليه تعالى فهو عليم بكل شيء فضلا عن علمه بذاته وصفاته فكيف يكون باطنا عنه.
ثم لما كانت هذه النسبة وهذا السلب يتعاقبان على الإنسان في كل آن في الدنيا والبرزخ في الآخرة تسمى الإنسان بما تسمى به الحق تعالى.
فكان الإنسان في حال نسبة ذلك الأمر إليه أولا، وفي حال سلب تلك النسبة عنه ثم عودها إليه آخر.
مع أنها منسوبة إليه أيضا في حال سلبها عنه، لأن هذه النسبة حكم إلهي وأحكام الله تعالى لا تتغير لكنها تنسخ ويؤتي بعدها بمثلها.
كما قال تعالى : " ما ننسخ من آية أو ننسها " 106 سورة البقرة.نأت بخير منها.
يعني من جهة رفعة المقام، أو مثلها من جهة المساواة، فالإنسان حينئذ هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته.
وكذلك هو الظاهر في حال تلك النسبة إليه، والباطن في حال سلبها عنه، وسلبها عنه كائن معها على كل حال، فهو الظاهر في عين باطنيته، والباطن في عین ظاهريته.
فتقابلت الحضرتان: حضرة الحق وحضرة الإنسان.
(ووصف الحق) تعالى (نفسه بالرضى) في قوله : "رضي الله عنهم" آية 119 سورة المائدة و آية 22 سورة المجادلة و آية 8 سورة البينة و آية 100 سورة التوبة.
(والغضب) في قوله : "غضب الله عليهم " 6 سورة الفتح.
(وأوجد العالم الإنساني) وغيره (ذا خوف) من ضر أو فوات نفع (ورجاء) لنفع أو فوات ضر (فنخاف غضبه)، أن يظهر فينا أثره وهو الانتقام. (ونرجو رضاه)، أن يظهر فينا أثره وهو الإنعام.
كما جعل فينا غضبا ورضى ليخافنا غيرنا ويرجونا غيرنا أن يظهر فيه أثر غضبنا ورضانا من انتقام أو إنعام.
(ووصف) الحق تعالی أيضا (نفسه بأنه جميل)، كما ورد في الحديث : "إن الله جميل يحب الجمال".
(وذو جلال) كما قال تعالى: " ذو الجلال والإكرام " 27 سورة الرحمن.
(فأوجدنا الحق تعالى على هيبة) تجدها في قلوبنا عند ظهور جلاله لنا (وأنس) نجده في قلوبنا عند ظهور جماله لنا، وكذلك جعلنا ذا جلال و جمال ليها بنا غيرنا ويأنس بنا غيرنا.
واعلم أن الغضب والرضی حضرتان لله تعالى يظهران لأهل البداية، فيظهر بظهورهما من أهل البداية الخوف والرجاء.
والجلال والجمال حضرتان لله تعالی أيضا في مقابلة ذلك يظهران لأهل التوسط في الطريق، فيظهر لظهورهما من أهل التوسط الهيبة والأنس والقبض والبسط.
وكذلك التجلي والاستتار حضرتان لله تعالى يظهران لأهل النهاية، فيظهر لظهورهما من أهل النهاية الفناء والبقاء .
فالغضب والرضى لأهل البداية
يسمى جلالا وجمالا لأهل التوسط.
ويسمى استتارة وتجلية لأهل النهاية .
وكذلك الخوف والرجاء للمبتدئين، والهيبة والأنس والقبض والبسط للمتوسطين، والفناء والبقاء للمنتهين.
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى) من الإعزاز والإذلال والخفض والرفع والضر والنفع والعطاء والمنع والإحياء والإماتة، فنعز بإعزازه، ونذل بإذلاله، ونخفض بخفضه، ونرتفع برفعه، ونتضرر بضره، وننتفع بنفعه، ونفوز بعطائه ، ونحرم بمنعه، ونحيا بإحيائه، ونموت بإماتته، إلى غير ذلك من باقي أوصافه تعالى المتقابلة.
(و) كذلك جميع ما (يسمى به) تعالى من المعز، والمذل، والخافض، والرافع، والضار، والنافع، والمعطي، والمانع، والمحيي، والمميت إلى آخره من المتقابلات.
(فعبر)، أي عبر الله تعالی بمعنی کنا (عن هاتين الصفتين) المتقابلتين والاسمين المتقابلين في القرآن العظيم (باليدين اللتين توجهتا منه) سبحانه وتعالى (على خلق) هذا(الإنسان الكامل) الذي هو آدم وبنوه إلى يوم القيامة.
فاليد اليمنى: هي ما يلائمه من ذلك كالإعزاز والمعز، والرفع والرافع، و النفع و النافع، والعطاء والمعطي، والإحياء والمحيي.
واليد الشمال : ما لا يلائمه من ذلك كالإذلال والمذل والخفض والخافض والضر والضار والمنع والمانع والإماتة والمميت إلى آخره.
فالمؤمنون غلبت عليهم اليد اليمنى فهم أهل اليمين .
والكافرون غلبت عليهم اليد الشمال فهم أهل الشمال.
والمنافقون تذبذبوا بين اليدين ولم يتمسكوا بواحدة منهما فسقطوا منهما فوقعوا تحت المؤمنين وتحت الكافرين فكانوا في الدرك الأسفل من النار.
ثم إن آدم عليه السلام لما خلقه الله تعالى باليدين معا كما قال تعالى في عتاب إبليس عن امتناعه عن السجود:"ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي 75 سورة ص.
جمع في ذريته لهذه الأنواع الثلاثة : المؤمنين والكافرين والمنافقين
(لكونه)، أي الإنسان الكامل (الجامع) دون غيره من بقية العالم ما عدا جملة العالم، فإنه جامع كذلك (لحقائق العالم) الروحاني الجسماني (و) جميع (مفرداته) من الأشخاص الجزئية .

شرح فصوص الحكم مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي 1069 هـ :
قوله رضي الله عنه :  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس.
وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
(ثم لنعلم أن الحق وصف نفسه) في الآية الكريمة (بأنه ظاهر و باطن فأوجد العالم) أي الإنسان لأن المراد بيان الارتباط وكيفية الدليل منا عليه.
(عالم غيب) وهو بواطتنا وأرواحنا (و) عالم (شهادة) وهي ظواهرنا وقوانا الظاهرة فكنا مجمع العالمين فليس المراد من إيجادنا على هذا
الوجه إلا (لندرك) الاسم (الباطن بغیبنا) بسبب إدراكنا غيبنا.
(والظاهر بشهادتنا) فنعلم قطعة على طريق الاستدلال من الأثر إلى المؤثر بأن الحق تعالی هو الظاهر والباطن.
(ووصف نفسه بالرضا) بقوله تعالی رضي الله عنهم :" ورضوا عنه " (والغضب) سبقت رحمتي على غضبي .
فأوجدنا ذا رضا وغضب لندرك الرضا برضائنا والغضب بغضبنا وإنما لم يذكر هذا الوجه لظهوره مما سبق .
(وأوجد العالم) أي أوجدنا (ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجو رضاه) لأن الخوف لازم الغضب والرجاء لازم الرضا فينا فنتصف بهما فنستدل على غضبه ورضائه مع كونه منزها عن الخوف والرجاء .
(ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فاوجدنا على هيبة) تحصل من جلال الله تعالى في قلوبنا (وأنس) حاصل
لنا من جماله فنتصف بهما فنستدل على جمال الله تعالى وجلاله مع أنهما لا ينسبان إليه تعالى ولا يسمى بهما لكنه يسمى بمبدئهما.
أي مبدأ الخوف وهو العضب ومبدأ الرجاء وهو الرضاء وكفى بذلك دليلا على حصول الارتباط.
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به) سواء كان انتسابا حقيقيا أو في الجملة .
(نعبر عن هاتين الصفتين) الجمال والجلال (باليدين اللتين توجهتا منه) من الحق (علی خلق الإنسان الكامل) لا على خلق غير الإنسان الكامل فإن المتوجه من الله تعالى على خلق غير الإنسان الكامل بد واحدة وإنما خلق الله تعالى الإنسان بيديه اللتين تجمعان جميع الصفات اللطيفة والقهرية.
(لكونه) أي الإنسان الكامل (الجامع)، بحسب الحقيقة الكلية التي هي عينه الثابتة (لحقائق العالم) أي لحقائقه الكليات التي هي أعيانه الثابتة.
(ومفرداته) لكونه جامعة لجميع ما يصدق عليه العالم من الجزئيات فإذا وجد الإنسان في الخارج بخلق الله تعالی بيديه ظهر جميع ما
في العالم في هذه النسخة الشريفة فاقتضى شأن الإنسان توجه اليدين مع الحق تعالی بخلقه فخلقه الله تعالی بيديه فإنه أعطى كل ذي حق حقه.

شرح فصوص الحكم عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني 690 هـ :
قال الشيخ ابن العربي الطائي الحاتمي:  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
قوله رضي الله عنه : "ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن، فأوجد العالم: عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا."
قلت: معناه أن الحق تعالی فعل ذلك بنا لنعلم ظاهره بما فينا من الظهور ونعلم الباطن من وصفه نفسه بالباطن بما فينا من معنى الغيب، فإن أحدا ما يعلم شيئا إلا بما فيه من ذلك الشيء أو بما في ذلك الشيء منه.
قوله: "ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجوا رضاهووصف نفسه بأنه تعالى جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع بحقائق العالم ومفرداته."
قلت: معناه حتى نقابل نحن غضبه بالخوف، ورضاه بالرجاء فيتحقق الرضا والغضب استدلالا على كل واحد منهما بما يقابله منا وكذلك ما بعد هذا مما وصف به نفسه.
قوله: "فعبر عن هاتين الصفتين باليدين".
قلت: يعني بالصفتين التقابل الذي بين كل صفتين مما ذكره ومما لم يذكر مما خلق الإنسان فيها على وفق صفتين متقابلتين منه تعالى على حد ما شرحناه.
كأنه قال: وهاتان الصفتان المتقابلتان هما اللتان عبر عنهما باليدين في قوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بیدی أستكبرت" سورة ص 75.
فاليدان هنا الصفتان المذكورتان والتعبير عنهما باليدين مجاز حسن في لغة العرب.
فإن اليدين هما سبب فيما يصنع بهما وهاتان الصفتان هما السبب في خلق العالم على وفقهما في جمعه بين المتقابلات، فهذه علاقة سوغت استعمال المجاز.
واقتصر من ذكر العالم على ذكر خلق الإنسان الكامل لكونه فيه جميع ما في العالم الكبير وجعل العالم الكبير كالمفردات التي يتركب المركب منها.
ثم جعل العالم شهادة لأنه هو عين ما يراه وأما الإنسان فما ترى منه إلا جسده لكن جسده هو من العالم الكبير وليس هو جامعا باعتبار جسمه إلا بما تخص القوى الطبيعية فقط وأما المعتبر منه.
فما هو إلا جمعه لصفات الأسماء الحسنى ومعانی الكليات التي تفاصيلها لا تتناهي وهذه معان كلها غيبية فالإنسان غيب والعالم شهادة.

شرح فصوص الحكم الشيخ مؤيد الدين الجندي 691 هـ :
قوله رضي الله عنه :  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس.
وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
قال رضي الله عنه : " ثمّ لتعلم أنّ الحق وصف نفسه بأنّه ظاهر باطن وأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا
. ووصف نفسه بالرضا والغضب ، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء ، فنخاف غضبه ونرجو رضاه.
ووصف نفسه بأنّه جميل وذو جلال ، فأوجدنا على هيبة وأنس ، وهكذا جميع ما ينسب إليه ويسمّى به . ثم عبّر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجّهنا على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته ".
قال العبد أيّده الله به : اعلم :
أنّه لمّا كان الإطلاق الذاتي الذي تستحقّه الذات ليس في مقابلة التقييد والتحديد ، بل إطلاق عن التقييد بالإطلاق الذي في مقابلة التقييد .
فهو إطلاق عن التقييد وعن الإطلاق بجمعه الذاتي بينهما جمعا ، غير متقيّد أيضا بالجمع ، بل مطلقا عن كل اعتبار ، ولا لسان في هذا المقام ولا حكم ولا اسم ولا صفة ، بل بهت بحت ، وخرس صرف .
وبتحقّق التعيّن الأوّل مفتاح مفاتيح الغيب يتعيّن للعين المطلقة تعيّن ولا تعيّن ، وإطلاق وتقييد ، ووحدة وكثرة ، وفعل وانفعال ، فتعيّن بالتعيّن الأوّل النسب الذاتية.
وهي : الأوّلية والآخرية ، والباطنية والظاهرية .
وهو من حيث التعيّن بلا اعتبار التعين واللا تعين لا أوّل ولا آخر ، ولا باطن ولا ظاهر ، ولا نسبة هذه النسب ولا لا نسبتها أحقّ وأولى .
ولكنّه تعالى من حيث إطلاقه باطن ، وقد جعل الباطن بحجاب عزّ غيبه عن أن يحاط به أو يتناهى ، أو يكون له بداية ، فله الجلال .
وهو من حيث تعيّنه ظاهر جميل بجمل القصد إليه والاستناد من كونه مبدأ للتعينات الشؤونية الكلَّية مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلَّا هو .
يعني ليس علمها إلَّا للهوية المطلقة الكبرى التي للمعيّن ، وهي فيه هو ، وهو فيها هي فظهرت الاثنينية بالتعين الأوّل للعين الواحدة بالوحدة الحقيقية.
وهي من حيث حضرتها الجلالية تقهر أعيان الأغيار ، وتغضب عليها غيرة أحدية ، ولكنّها من حيث التعين ترضى عن كلّ معيّن قابل ومتعيّن مقبول رضى خصيصا بخصوصيته لكونه جهده واستطاعته ، كما قال :
مالي سوى الروح خذه   ..... جهد الفقير المقلّ
وقد ورد الوارد في هذا البيت عليّ بمعنى مخترعا في المحتد والمشرب عند المبصر المستبصر ، فقال :
مالي سوى أنت خذ بي    ..... جهد الفقير المذلّ
فتأمّل أيّها المتأمّل .
وبموجب هاتين اليدين اللتين لهما القبض والبسط ، والعطاء والمنع ، والرفع والوضع ، أوجدنا ذوي خوف ورجاء ، وقبض وبسط ، وهيبة وأنس ، فنهاب جلاله ، ونأنس بجماله ، ونخاف غضبه ، ونرجو رضاه . فظهرت فينا أحكام الاثنينية ، المذكورة في اليدين .
كما أشار إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : " وخلق آدم بيديه " الحديث .
وقال الله تعالى لإبليس " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ".
وكما أظهر الله من هاتين اليدين المباركتى لآدم عند تجلَّيه .
فقال له : اختر أيّتها شئت .
فقال آدم : اخترت يمين ربّي ، وكلتا يدي ربّي يمين مباركة .
ففتح سبحانه يمينه ، فإذا فيه آدم وذرّيّته ، ولذلك خمّر الله بيديه طينة آدم أربعين صباحا .
فكان ربّنا تبارك وتعالى يتجلَّى على صورته التي خلق آدم عليها ويخمّر طينته بيديه المباركتين حتى تخمّر فيها ببركة توجّهه الكلي الجمعي الإلهي سرّ أحدية الجمع الذاتي الإلهي بين يديه .
حتى بدت فظهرت في طينته ، صورته المباركة على أحسن تقويم ، وأكمل تعديل وترسيم ، فظهرت فيه جميع الحقائق الجلالية القهرية والجمالية اللطفية ، وكمل به .
وفيه سرّ الإطلاق والتقييد ، والتعيّن واللاتعيّن ، فكان أكمل كون وأجمعه وأتمّه ، وأفضل مظهره وأوسعه وأعمّه .

شرح فصوص الحكم الشيخ عبد الرزاق القاشاني 730 هـ :
قوله رضي الله عنه :  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس.
وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
( ثم ليعلم أن الحق ) أي بعد العلم بما ذكر .
ليعلم أنه تعالى لما أرانا آيات أسمائه وصفاته في العالم جعل فينا ما نعرف به ذلك فشركنا مع العالم في صفاته لنعرف بما فينا ما فيه وما أمكن العالم قبول جميع أسماء الحق وصفاته ، لأن الفارق بينه وبين الحق الوجوب الذاتي والإمكان وما يلزمهما من الغنى والفقر لازم فيقبل بعضها وهو الذي لا يختص بالوجوب كالوجود والظهور والبطون .
وأما البعض الآخر فلا يقبل إلا آثارها التي يليق بفقره ونقصه ،وجمع فينا بأحدية الجمع الأمرين.
فلذلك قسمها قسمين :وجعل القسم الأول مشتركا بين الكل أي بين الحق تعالى وبيننا وبين العالم فقال ( وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا )
لكنه فرق بين وصف العالم ووصف الحق بهما بأن جعل العالم عالمين عالم غيب وعالم شهادة إذ ليس في العالم إلا أحدية الجمع ولم يفرق بين وصف الحق ووصفنا فأضاف الغيب والشهادة إلينا بحكم أحدية جمعنا المخصوص فنحن على معناه وصورته دون العالم .
وأما القسم الآخر فسوانا فيه مع العالم وجعل في مقابلة كل صفة فعلية محضة لله تعالى صفة انفعالية مشتركة بيننا وبين العالم
فقال ( ووصف نفسه بالرضا والغضب وأوجد العالم ذا خوف ورجاء ) فإن الخوف انفعال وتأثر من تأثير الغضب نعرف به غضبه ، وكذا الرجاء في مقابلة الرضا ولهذا قال ( فنخاف غضبه ونرجو رضاه )
وقال ( ووصف نفسه بأنه جميل ذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس ) فإن الهيبة انفعال من صفة الجلال ونعرف به عظمته وجلاله .
وكذا الأنس في مقابلة الجمال فجعلنا على صفته بوجه وعلى صفة العالم بوجه كما سيجيء
( وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به فعبر عن هاتين الصفتين ) أي المتقابلتين اللتين له تعالى كالظهور والبطون والرضا والغضب والجمال والجلال.
( باليدين اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل ) .
قوله ( لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته ) فيه إشعار بأنه مع مساواته العالم في حقائقه ومفرداته يختص بالجامعية الأحدية دونه .
وبهذه الجمعية التي اتحدت بها مفردات العالم كاتحاد العناصر بالتركيب واتحاد كيفياتها بالمزاج واتحاد صورته بقوى العالم المسماة بالتسوية ليستعد لقبول روحه المنفوخ فيه .
فاستحق به الخلافة لأن الخليفة يجب أن يناسب المستخلف ليعرفه بصفاته وأسمائه وينفذ حكمه في المستخلف فيه .
ويناسب المستخلف فيه ليعرفه بصفاته وأسمائه فيجري كل حكم على ما يستحقه من مفرداته.
فيناسب بروحه وأحدية جمعية الحق وشارك بصورته وأجزاء وجوده ومفرداته العالم فهو عبد الله رب العالم وصورته التي هي من العالم شهادة وروحه غيب وربوبيته من جهة غيبه.

مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم القَيْصَري 751هـ :
قوله رضي الله عنه :  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
قوله: "ثم ليعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن" مزيد بيان لما مرمن أن الحق تعالى خلق آدم على صورته وكمالاته، ليستدل بها عليه ويتمكنالسالك من الوصول إليه.
"فأوجد العالم" أي، العالم الإنساني. وإن شئت قلت العالم الكبير لأنه أيضا صورة الإنسان، لذلك يسمى بالإنسان الكبير.
والأول أنسب بالمقام، إذ المقصود أن الإنسان مخلوق على صورته لا العالم.
قوله: (عالم غيب وشهادة) أي، عالم الأرواح والأجسام.
قوله: (لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا).
هذا دليل على أن المراد بـ "العالم" هو العالم الإنساني.
أي، لندرك عالم الباطن، وهو عالم الجبروت والملكوت، بروحنا وقلبنا وقوانا الروحانية، وندرك عالم الظاهر بأبداننا ومشاعرنا وقوانا المنطبعة فيها.
أو ندرك غيب الحق من حيث أسمائه وصفاته لا من حيث ذاته، فإنه لا يمكن لأحد معرفتها.
إذ لا نسبة بينها وبين غيرها من العالمين بغيبنا، أي بأعياننا لغيبته.
وندرك ظاهره وهو مظاهر تلك الأسماء الغيبية من العقول والنفوس وغيرهم من الملائكة.
فإنهم وإن كانوا غيبا باطنا بالنسبة إلى الشهادة المطلقة، لكنهم ظاهر بالنسبة إلى الأسماء والصفات التي هي أربابهم لظهورهم في العين بعد بطونهم فيالعلم.
وقد مر تحقيقه في بيان العوالم في المقدمات.  
"بشهادتنا" أي، بروحنا وقلبنا وقوانا وأبداننا الموجودة في الخارج.
قوله: (ووصف نفسه بالرضا والغضب) حيث قال: "رضى الله عنهم ورضوا عنه".
وقال: (سبقت رحمتي غضبي).
قوله: (فأوجد العالم ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجو رضاه).
وإنما جاء بلازم الرضا والغضب، وهو الخوف والرجاء،ولم يقل: فأوجدنا ذا رضاء وغضب. وإن كنا متصفين بهما، ليؤكد المقصود الأول أيضا، وهو بيان الارتباط بين الحق والعالم، إذ كل من الصفات الأفعالية والانفعالية يستدعى الآخر، لذلك أعاد الارتباط في الأبيات الثلاثة المذكورة بعد.
وقوله: (فأوجد العالم ذا خوف ورجاء) دليل على ما ذهبنا إليه من أن المراد بالعالم هو العالم الإنساني، لأن الخوف والرجاء من شأن الإنسان لا العالم الكبير،إذ الخوف إنما هو بسبب الخروج عن الأمر، والرجاء إنما يحصل لمن يطمع في الترقي، وهما للإنسان فقط.
وكذلك قوله: (فنخاف غضبه ونرجو رضاه) يدل على ذلك،
وكذلك قوله: (ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال، فأوجدنا على هيبة وأنس، وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به) ينبئ عن ذلك.
والمراد بـ (الجميل) الصفات الجمالية، وهي ما يتعلق باللطف والرحمة، وبـ (الجلال)، ما يتعلق بالقهر والعزة والعظمة والستر.
قوله: (فأوجدنا على هيبة وأنس) مثال يجمع بين المقصودين، وهما بيان الارتباط وكون الإنسان مخلوقا على صورته تعالى.
وذلك لأن (الهيبة) قد يكون من الصفات الفعلية كما يقول: هذا السلطان مهيب. أي له عظمة في قلوب الناس.
وقد يكون من الصفات الانفعالية كما يقول: حصل في قلبي هيبة من السلطان.
أي دهشة وحيرة من عظمته وكذلك (الأنس) بالنسبة إلى من هو أعظم مرتبة منك وإلى من هو دونك في المرتبة.
فإن الأول يوجب الانفعال، والثاني يوجب الفعل، لأن الأنس رفع الدهشة والهيبة.
ففي الصورة الأولى صاحب المرتبة الأعلى يرفع منك الدهشة، وفي الثانية أنت رافعها من غيرك. والهيبة من (الجلال) والأنس من (الجمال.)
(فعبر عن هاتين الصفتين) أي، الجمال والجلال. "باليدين" مجازا.
إذ بهما يتم الأفعال الإلهية وبهما تظهر الربوبية، كما باليدين يتمكن الإنسان من الأخذ والعطاء، وبهما تتم أفعاله.
"اللتين توجهتا منه" أي، من الحق.
"على خلق الإنسان الكامل" كقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟" وخلقه بيديه عبارة عن الاستتار بالصورة الإنسانية وجعله متصفا بالصفات الجمالية والجلالية.
قوله: "لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته" أي، لكون الإنسان جامعا لحقائق العالم التي هي مظاهر للصفات الجمالية والجلالية كلها، وهي الأعيان الثابتة التي للعالم.  والمراد بالمفردات الموجودات الخارجية.
فكأنه يقول: لكون الإنسان جامعا لجميع الأعيان الثابتة بعينه الثابتة ولجميع الموجودات الخارجية بعينه الخارجية، فله أحدية الجمع علما وعينا وقد مر، في المقدمات، من أن أعيان العالم إنما حصلت في العلم من تفصيل العين الثابتة الإنسانية.
واعلم، أن للعالم اعتبارين: إعتبار أحديته، واعتبار كثرته. فباعتبار أحديته الجامعة يسمى بالإنسان الكبير، وباعتبار كثرةأفراده ليس له الأحدية الجامعة كأحدية الإنسان، إذ لكل منها مقام معين.
فلا يصح أن يقال، ليس للعالم أحدية الجمع مطلقا. كيف لا؟
وهو من حيث المجموع صورة الاسم الإلهي كما للإنسان، لذلك يسمى 
بالإنسان الكبير، إلا أن يراد به أفراده.

خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين المهائمي 835 هـ:
قوله رضي الله عنه :  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
(ثم) أي: بعدما علمت أنه ظهر فينا بصفات لا تختص بالوجوب الذاتي إما بصورها، أو آثارها، أو ما يتعلق بها (ليعلم أن الحق وصف نفسه) أي: بين من أوصافه في كتابة الكريم (أنه ظاهر و باطن) حيث قال: "هو الأول والأخر والظاهر والباطن" [الحديد: 3].
ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن بد من ظهورهما في العالم، وإن كان يتوهم أن ظهور الظاهر كتحصيل الحاصل، وأن ظهور الباطن کالجمع بين النقيضين(فأوجد العالم) الكبير والصغير (عالم غيب) الأرواح الإنسانية والملائكة، (وعالم شهادة) الأجسام الفلكية والعنصرية، وأعراضها.
(فندرك الباطن) أي: باطن الحق ( بغيبنا، وندرك الظاهر بشهادتنا)، وهذا هو لظهورها بالصورة، ولتعلم أيضا أنه (وصف نفسه بالرضا والغضب) بحيث قال: "رضي الله عنهم ورضوا عنه" [المجادلة:22].
"لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" [الفتح: 18].
وقال: "وغضب الله عليه ولعنه" [النساء: 93]، وقال: "فعليهم غضب من الله" [النحل: 16].
ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن لهما بد من الظهور وبصورهما وآثارهما أو ما يتعلق بآثارهما (فأوجد العالم) لظهور ما يتعلق بآثارهما (ذا خوف ورجاء فنخاف) أثار (غضبه، ونرجو) أثر (رضاه) ولم يتعرض لظهور صورهما وآثارهما لوضوحه، ولتعلم أيضا أنه (وصف نفسه بأنه جميل ذو جلال) والجمال من صفات اللطف، والجلال من صفات القهر ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن بد من ظهورهما بصورهما وآثارهما أو متعلقهما، (فأوجدنا) لظهور آثارهما (على هيبة)من الحلال (وأنس) من الجمال قدم الجميل أولا؛ لأنه أقرب إلينا؛ لأن دنو الحق من الخلق به، ثم عكس في مثال يشعر بأصالة الجلال.
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالی) أي: يوصف به من الأوصاف التي تتضمن النسب، (و یسمی به) من الأسماء التي لا تتضمن النسب، لكن ما لا يكون من خواص الوجوب الذاتي لا بد وأن يظهر فينا بصورته أو أثره ، أو ما يتعلق به ولما كانت هذه الأسماء والصفات متعلقة بالعوالم التي لا بد من التقابل فيها لتكون أزواجا، ويبقى الحق فردا بلا زوج.
كما أشار إليه ولك بقوله: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها" [يس: 36]، لم يكن من التقابل في الأسماء والصفات، وكان الحق هو الموجد لها بواسطة تلك الأسماء والصفات، فهي له کالأيدي.
(فعبر عن هاتين الصفتين) المتقابلتين كالظهور، والبطون، والرضا، والغضب، والجمال، والجلال وغير ذلك مما لا يختص بالوجوب الذاتي )باليدين( استعارة من يدي الإنسان اللتين هما فعله مع تخالفهما في الوضع، والتأثير كتخالف الأسماء الإلهية في المفهوم، والتأثر.
ووصفهما بقوله: (اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل) ليشير إلى أن ذلك تفسير لقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" [ص: 75].
وفيه على القول من فسرهما بالإرادة والقدرة إذ لا اختصاص لهما على ذلك التقدير بأدم؛ فلا يكون حجة على إبليس؛ لأنه تعالى إنما احتج بذلك عليه (لكونه الجامع لحقائق العالم) أي: كلياته (ومفرداته) أي: جزئياته وحقائق العالم ومفرداته متقابلة في الأسماء المتوجهة إليه أيضا متقابلة، ولكنها مع تقابلها اجتمعت فيه فصارت كالمتحدة بخلافها في العالم الكبير.
""الكلام تعليل المتوجه باليدين؛ لأن الإنسان الكامل يجمع حقائق العالم، وهي الأمور الكلية المعقولة التي لها الآثار، والأحكام على مفردات الأعيان الخارجية؛ لأن أحدية جمع الجميع علما وعينا.
قال رضي الله عنه في «الفتوحات»:  لما كان المقصود من العالم الإنسان الكامل كان من العالم أيضا الإنسان الحيوان المشبه للكامل في النشأة الطبيعية وكانت الحقائق التي جمعها الإنسان متبددة في العالم فناداها الحق من جميع العالم فاجتمعت فكان من جمعيتها الإنسان فهو خزانتها فوجوه العالم مصروفة إلى هذه الخزانة الإنسانية لترى ما ظهر عن نداء الحق بجميع هذه الحقائق فرأت صورة منتصبة القامة مستقيمة الحركة معينة الجهات وما رأى أحد من العالم مثل هذه الصورة الإنسانية ومن ذلك الوقت تصورت الأرواح النارية والملائكة في صورة الإنسان وهو قوله تعالى :"فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا"وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" أهـ.""

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة 835 هـ :
قال الشيخ ابن العربي الطائي الحاتمي:  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
وأشار إلى ذلك بقوله رضي الله عنه : ( ثمّ ليعلم أنّ الحقّ وصف نفسه بأنّه ظاهر ، باطن ، وأوجد العالم عالم غيب وشهادة ) وإذ قد تقرّر أنّ الجهة الارتباطيّة والرقيقة الجمعيّة الاتحاديّة ما سرت بين أمرين إلَّا وتولَّد منهما نتيجة .
وهو الذي عبّر عنه لسان الاصطلاح بـ « النكاح الساري في جميع الذراري » .
قال : ( لندرك الباطن بغيبنا ، والظاهر بشهادتنا ) إشارة إلى نتيجة سريان هذه الجهة الارتباطيّة ، ولأنّها بنفس طبايعها وجزئيّاتها هي الرابطة ، أنتج الإدراك الذي هو الاتّصال والاتّحاد .
( ووصف نفسه بالرضا والغضب ، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء ، فنخاف غضبه ونرجو رضاه ) هذه الجهة دون الأوّل في الربط ، ولذلك ما أنتج غير النسبة والإضافة .
( ووصف نفسه بأنّه جميل وذو جلال ، فأوجدنا على هيبة وانس ) هذا آخر مراتب تنزلات الجهة المتّصل بالأول بحكم الأمر الدوري ، فلذلك ما صرّح بالعالم هاهنا ، بل أدرج النتيجة في أحد المرتبطين .
واعلم أنّ من لطائف ما يشعر به هذا التفصيل وبدايع دقائقه بيان درجات رتبة المستكملين إجمالا ، والإشارة إلى تفاوت ما يستحصل كلّ منهم بحسب استعداداته وطرق مناسباته :
فإنّ منهم من سلك التروح والتقدّس ، وهو
 الذي رابطة مناسبته بالمبدأ ووسيلة استفاضته منه محض التجرّد والتبتّل ، ومحافظة غيب روحه عن مخالطة التعلَّق والتكدّر ، وغايته الاتّصال بالملكوت الأعلى  والتحقّق بالحقائق التنزيهيّة .
ومنهم من انغمس منه تلك الجهة في العلائق الهيولانيّة ، واستهلكت لطيفته الروحانيّة تحت الكثائف الجسمانيّة وانحصر رقائق مناسبته في ارتكاب ما يرتجى به رضاء الحقّ من الأوامر ، واجتناب ما يخاف به عن غضبه من المناهي وغايته نيل ما يستعقب الرضاء من دخول الجنّات والاحتظاء بالمستلذّات والسلامة عمّا يستتبع الغضب من ورود الجحيم ومكارهها من العذاب الأليم .
ومنهم من امتزج بين التروح والتعلَّق واعتدل غاية الاعتدال ، وتناسب بتلك الجمعيّة المبدء الحقّ ، فيطوي مسافة الروابط والرقائق بجواذب الجذبات الإلهيّة ، ومطايا الواردات العشقيّة ، وهذا هو الطريق المختصّ بالإنسان ، وفي عبارة الشيخ إشارة إليه فلا تغفل.
قال رضي الله عنه : (وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى) من الأوصاف (ويسمّى به) من الأسماء لا يخلو عمّا يشعر بالتقابل ، وذلك لما في الإطلاق من لزوم الاعتبارين المتضادّين له وفيه كما عرفت في المقدّمة فيلزم أن يكون كلّ صفة للحقّ لها مقابل يتّصف بهما معا .
(فعبّر عن هاتين الصفتين بـ « اليدين » اللتين توجّهتا منه على خلق الإنسان الكامل) لما فيهما من التقابل ، واختصاص كلّ منهما بجهة من المؤثر عند توجّهه نحو التأثير والفعل ، واحاطتهما جملة على كلّ ذلك المتوجّه إليه ، وفي استعمال التوجّه بـ « على » استشعار معنى الإحاطة والعلوّ .
ووجه اختصاص الإنسان الكامل بالتوجّه المذكور ( لكونه الجامع لحقائق العالم ) يعني رقائق نسبه المعنويّة ولطائف روابطه الامتزاجيّة ( ومفرداته ) أي أعيان جزئيّات العالم وذوات أفراده كما سلف لك بيانه .
وهاهنا تلويح يطلعك على استكشاف ما في هذا الموضع من التحقيق :
وهو أنّ الظاهر والباطن الَّذين عليهما ابتنى مباني حقائق التشبيه قد كمل ظهورهما في الإنسان الكامل بما لا مزيد عليه أصلا ، وذلك لأنّ الصورة والمعنى قد انختم أبواب تمامهما فيه بالختمين ، فهما اليدان ، فلا تغفل عن تحليله  .
ثمّ إذ قد تقرّر أنّ الإنسان الكامل صاحب أحديّة جمع الظاهر والباطن ، وهي لبطونها بمنزلة الروح في خلافة التأثير وإنفاذ الأمر , لما مرّ غير مرّة.

شرح الجامي لفصوص الحكم الشيخ نور الدين عبد الرحمن أحمد الجامي 898 هـ :
قوله رضي الله عنه :  (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.)
قوله : "ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن ، فأوجد العالم عالم غيب و شهادة لندرك الباطنَ بغيبنا و الظاهر بشهادتنا. "
فقال: (لتعلم أن الحق سبحانه وصف نفسه)، أي ذاته المطلقة (بأنه ظاهر) بظهوره في عالم الشهادة المطلقة التي هي مرتبة الحس.
(وباطن) ببطونه عنه . فالباطن بهذا الاعتبار يشتمل ما عدا مرتبة الحس من المراتب الإلهية والكونية (فأوجد العالم).
أي كل واحد من عالمي الكبير والصغير عالمین (عالم غيب) لا يدرك بالحواس الظاهرة (وعالم شهادة) يدرك بها (لندرك) اسمه (الباطن بغيبنا) الذي هو روحه و مدارکه الغيبية.
أو ندرك باطنه وغيبه بالقياس على غيبنا وباطننا (و) كذلك ندرك أسمه (الظاهر بشهادتنا)، أي بمشاعرنا الشاهدية .
أو بأن يدرك شهادتنا فإن شهادتنا شهادة ، أو بالمقايسة
قوله : "و وصف نفسه بالرضا و الغضب، و أوجد العالم ذا خوف و رجاء فيخاف غضبه و يرجو رضاه."
(ووصف نفسه بالرضى والغضب) حيث قال تعالى :"رضي الله عنهم ورضوا عنه" آية 119 سورة المائدة.
وسبقت رحمتي غضبي (فإذا وجد العالم) ذا خوف ورجاء (فنخاف غضبه ونرجو رضاه) وإنما جاء بأثر الرضى والغضب وهو الخوف والرجاء ولم يقل ذا رضی وغضب مع أنه صحيح أيضا.
تنبيها على أن ظهور الصفات في العالم كما تكون ظهور أعيانها كالظهور والبطون فيما تقدم .
وكذلك يكون ظهور آثارها كالخوف والرجاء فإنهما من آثار الغضب والرضی لا عينهما.
قوله : "ووصف نفسه بأنه جميل و ذو جلال فأوجَدَنَا على هيبة و أُنْسٍ. "
(ووصف نفسه بأنه جميل)، أي متصف بالصفات الجمالية، وهي ما تتعلق باللطف والرحمة.
(وذو جلال)، أي متصف بالصفات الجلالية وهي ما تتعلق بالقهر والغلبة.
(فأوجدنا على هيبة)، أي دهشة وحيرة من مشاهدة أسمائه الجلالية .
فتكون تلك الهيئة من آثاره فينا أو على هيئة مدهشة محيرة لمن يشاهدها فينا فتكون الأسماء الجلالية ظاهرة فيها بأعيانها لا بآثارها.
وعلى هذا القياس قوله : (وأنس) فإن الأنس رفع الدهشة والوحشة فتارة ترتفع الدهشة عنا وتارة ترفعها عن غيرنا.
فيحتمل أن تكون الهيئة والأنس من قبيل ظهور أعيان الأسماء فينا أو من قبيل ظهور أثارها فينا
قوله : "و هكذا جميع ما ينسب إليه تعالى و يُسَمّى به. "
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى و یسمی به) من الأسماء المتقابلة كالهداية والضلالة والإعزاز والإذلال وغيرها .
فإنه سبحانه أوجدنا بحيث نتصف بها تارة وتظهر فينا أثارها تارة،
قوله : "فعبّر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامعَ لحقائق العالم و مفرداته."
(فعبر عن هاتين الصفتين باليدين)، أي عن هذين النوعين من الصفات المتقابلين الشاملين كلها (باليدين) لتقابلها .
وتصرف الحق سبحانه بهما في الأشياء (اللتين توجها منه)، أي من الحق سبحانه (على خلق الإنسان الكامل) وإنما توجهت هاتان اليدان على خلته (لكونه).
أي الإنسان الكامل (الجامع الحقائق العالم ومفرداته) التي هي مظاهر لجميع الأسماء التي يعبر عنها لملاحظة شمول معنيين متقابلين لها باليدين.
وهذه الأسماء الظاهرة فيها المرتبة لها ويجوز أن تكون اللام في لكونه متعلقة بالكامل الذي هو صفة للإنسان تعلية لكماله وأن تكون متعلقة بالخلق.
واعلم أن المراد بكل واحد من حقائق العالم ومفرداته أنها الأعيان الثبوتية أو الوجودية أو المراد بواحد منهما الأعيان الثبوتية والآخر الأعيان الوجودية .
ولا شك أن الإنسان الكامل بحسب حقيقته وعينه الثابتة أحدية جمع جميع الأعيان الثابتة التي للعالم.
وبحسب وجوده العيني أحدية جمع جميع الأعيان الخارجية.
وبحسب عينه الثابتة والوجودية مع أحذية جمع أعيانه الثبوتية والخارجية جميعا .
فالأعيان الثابتة للعالم تفصيل لعينه الثابتة .
والأعيان الخارجية تفصيل لعينه الخارجية .
والمجموع تفصیل للمجموع. وكل تفصيل صورة الإجمال.
وكل صورة فهي شهادة بالنسبة إلى ذي الصورة، وذو الصورة غيب لها .
وكذلك كل موجود عيني، فهو شهادة بالنسبة إلى وجوده العلمي ووجوده العلمي غيب له .


كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين الشيخ ناصر بن الحسن السبتي الكيلاني 940 هـ:
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا.
ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه.
ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به.  فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته. )
قال المصنف رضي الله عنه : [ ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا.]

قال الشارح رحمه الله :
(ثمّ لتعلم ) بعد ما علمت فيما تقدّم أنّ الأوصاف مشتركة، أراد رضي الله عنه أن ينبه بكيفية الاستدلال، فإنه تعالى أرانا آيات أسمائه وصفاته في العالم وفينا، و جعل فينا ما نعرفه به لنستدل بناءا عليه، و يتمكّن السالك من الوصول إليه فلو لم يصف نفسه بنعوتنا ما عرفناه، فهو المعروف في الحالين و الموصوف بالنعتين، و بهذا من كل شيء زوجين ليكون لأحد
الزوجين العلو و التأثير و هو الذكر، و للآخر السفالة و الانفعال والتأثير وهو الأنثي ليظهر ما بينهما إذا اجتمعا وجود أعيان ذلك النوع على صورتهما .
(إنّ الحق وصف نفسه بأنه ظاهر و باطن فأوجد العالم عالم غيب و شهادة) .
قال الله تعالى"هُو اللّهُ الّذِي لا إله إلّا هُو عالمُ الغيْبِ والشّهادةِ هُو الرّحْمنُ الرّحِيمُ" [ الحشر: 22] .
و قال تعالى: "هُو الْأوّلُ والْآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وهُو بكُل شيْءٍ عليمٌ" [ الحديد: 3] فعلم المحقّقون من خاصته، و المعتني بهم من أهل قربه و كرامته بما كشف لهم، و أطلعهم عليه من  أسرار وجوده أولا.

وبما أخبر ثانيا: إنّ المراتب و إن كثرت فإنها ترجع إلى هاتين المرتبتين و هما الغيب والشهادة والحقيقة جامعة بينهما، فكل شيء له ظاهر، فهو صورته و شهادته وباطن، وهو روحه وغيبه.
فنسبته جميع الصور على اختلاف أنواعها الخفية و الجلية إلى الاسم الظاهر المنعوت بالشهادة، ونسبة جميع المعاني و الحقائق المجردة التي هي أصول لما ظهر من الصور الجزئية المتعينة، أو أسباب و شروط كيف شئت؟
قلت: إلى الغيب و الاسم الباطن، فإذا عرفت هذا .
فنسبته جميع الصور على اختلاف أنواعها الخفية والجلية إلى الاسم الظاهر المنعوت بالشهادة، و نسبة جميع المعاني و الحقائق المجردة التي هي أصول لما ظهر من الصور الجزئية المتعينة، أو أسباب و شروط كيف شئت؟ قلت: إلى الغيب والاسم الباطن، فإذا عرفت هذا.
فاعلم أنّ العالم عالمان ما ثم ثالث عالم يدركه الحس وهو: المعبر عنه بالشهادة، وعالم لا يدركه الحس وهو: المعبر عنه بعالم الغيب المطلق.
فإن كان مغيبا في وقت للحسّ فلا يسمّى ذلك غيبا، و إنما الغيب ما لا يمكن أن يدركه الحس أصلا لكن يعقل بالعقل إمّا بالدليل القاطع، و إمّا بالخبر الصادق و هو إدراك الإيمان، فالشهادة مدركها الحس و هو طريق العلم ما هو عين العلم، و ذلك يختص بكل ما سوى الله ممن له إدراك حسّي، و الغيب مدرك العلم عينه فافهم .

فهذا الغيب الذي أثبتناه: هو الغيب المطلق الحقيقي الذي لا يظهر لأحد أصلا و لا لمن ارتضى من رسول لأنه حضرة ذاته و هويته تعالت و تقدّست عن أن يحاط و أن يتعلق بها بها الإدراك أصلا من حيث هي هي، فإنه من المتفق عليه أن حقيقته لا تحاط بالعلم ولا تتقيد بالوصف، سبحانك! ما عرفناك حق معرفتك.
و هذا القدر من المعرفة المتعلقة بهذا الغيب المطلق إنما هي معرفة إجمالية حاصلة بالكشف الأجليّ و التعريف الإلهيّ الأعلى الذي لا واسطة فيه غير نفس التجلي المتعين من هذه الحضرة الغيبية المطلقة الغير متعينة فالغيب المتعلق صار دليلا على الغيب المطلق لأنه الأصل، فالمتعين منه دليل عليه من حيث غير متعين، فكان هو الدليل و المدلول .

قال تعالى إشارة إلى هذا المقام: أي الغيب المتعين المقيد عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا .
قال تعالى: عالمُ الغيْبِ فلا يظهِرُ على  غيْبهِ أحداً إلّا منِ ارتضى مِنْ رسُولٍ فِإنّهُ يسْلكُ مِنْ بيْنِ يديهِ ومِنْ خلْفِهِ رصداً "[ الجن: 26، 27] .
و إنما قلنا بالغيب الحقيقي المطلق لأنه رضي الله عنه ذكره في الباب السابع و الأربعين و أربعمائة من "الفتوحات ": إن له في نفسه ما لا يصح أن يعلم أصلا هو الذي له بنفسه المشار إليه بقوله: "اللّه غني عنِ العالمِين" [ آل عمران: 97] .
فقوله تعالى: "عالمُ الغيْبِ والشّهادةِ " [ الحشر: 22] أراد الغيب بالنسبة إلينا و إلا لا غيب له، و الذي هو غيب بالنسبة إلينا بحلم الشهادة له تعالى.
أو نقول: إنه عالم الغيب أو عالم بأنه غيب لا يصح أن يعلم أصلا .
قال رضي الله عنه: و هذا الذي نبهناك عليه من العلم بالله ما أظهرناه اختبارا و لكن حكم الخبر علينا، فتحفّظ و لا تغفل عنه فإنه يعلمك الأدب مع الله، انتهى كلامه رضي الله عنه .
هذا هو الغيب الحقيقي و بقية الغيوب كلها إضافي، فافهم .
فإن الإنسان إذا أراد إدراك الغيب و الشهادة الإضافيين اللذين نحن بصدد بيانهما، و أراد أن يتميز في علميهما، فينبغي ألا يقيد نفسه إلا بالله وحده و هو التقييد الذاتي الذي لا يصح له الإنفكاك عنه جملة واحدة و هي عبودية صرفة محضة لا تقبل الحرية أبدا .
فإذا قيده بالله الذي "خلقهُ فقدّرُه ثمّ  السّبيل يسّرُه" [ عبس: 19، 20] .

فلا يقف إلا في البرزخ و هو المقام المتوهّم بين عالم الشهادة و الغيب مطلعا على الطرفين كأصحاب الأعراف فلا يخرج منها شيء إلا و هو مطلع عليه، فإذا وقف في هذا المقام و هو محل العثور على الطرفين.
استشرف على الغيبين الغيب الذي يوجد منه، واستشرف على عالم الشهادة لأنه إذا وقف في المقام المتوهّم على أنه معتنى به حيث شغله الله تعالى بمطالعة الانفعالات عنه تعالى.
و إيجاد الأعيان من قدرته تعالى، و اتصافها بالوجود في حضرة إمكانها، و ما أخرجها منها، و لا حال بينها و بين موطنها، و لكنه كساها خلقة الوجود و حلة الظهور، فاتصفت بهما بعد أن كانت موصوفة بالعدم مع ثبوت العين في الحالتين.
و بقي الكلام في ذلك الوجود الذي كساه الحقّ فيك الآمر و هو كالصورة التي في المرآة ما هي عين الرائي و لا غير عينه، و لكنه المحلّ المرئي مع الرائي، والمواجهة أعطت هذا الحكم الذي تراه، فعلمت المرآة والرائي والصورة الحادثة بينهما، فأدركت بالغيب الباطن و بالشهادة الظاهر، وحصل المقصود .
و هنا مبحث آخر و هو من لطائف العلم بالله، فأذكره لك :
لا يفوتك علما فإنه ورد في الخبر : "إن أفضل الهدية و أكمل العطية الكلمة من كلام الحكمة يسمعها العبد ثم يعلمها أخاه خير له من عبادة سنة على نيتها"  رواه تمام، و ابن عساكر رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
فاعلم أيدك الله و إيانا بروح منه أن العالم ينقسم إلى: ظاهر و إلى باطن .
فـ (الظاهر) هو عالم الشهادة، و (الباطن) هو عالم الغيب، وقد سمّى الله تعالى الباطن بالأمر والظاهر بالخلق، و قال: "ألا لهُ الخلْقُ والْأمْرُ" [ الأعراف: 54] .  و قال تعالى: " قلِ ُّالروحُ مِنْ أمْرِ ربِّي" [ الإسراء: 85] .
فـ (عالم الأمر) هو عالم الغيب الذي هو الأسماء الذاتية، و يليها أمهات أسماء الألوهية و توابعها، و كل واحد منها حجاب عن الآخر، وصف نفسه تعالى باعتبار هاتين العالمين: أي الظاهر و الباطن، أو الغيب و الشهادة .

بأن له الحجب النورية التي هي الأرواح، و الظلمانية التي هي الأجسام، فكل واحد منهما حجاب عن الآخر، فإذا اعتبرتهما خلقا و أمرا، و لطيفا و كثيفا إنما اعتبرتهما من حيث الأسماء، و هي سلسلة الترتيب و الوسائط المتكثرة .
فبهذا الوجه يكثر الوجود و هو ظاهر الخلافة التي منه تكثر، و أمّا إذا اعتبرتهما أي العالمين الخلق الأمر، و إن شئت قلت:
عالم الغيب و الشهادة حقّا أعني من الوجه الخاص زالت الكثرة و ارتفعت الوسائط، و ذلك باعتبار أن (الاسم) عين المسمّى، و (الذات) هي السارية في الكل كتعين الأسماء من حيث عدم التغاير، فاتحدّ الكل من حيث أن الساري في الكل هو الذات، فهذا باطن الخلافة، و التجلي منه تجلّ أقدس .
و على هذا صحّ أن القرآن غير مخلوق من حيث ارتفاع الوسائط، و من حيث الإضافة إلى الاسم الذي عين المسمّى، فصحّ له الوحدة مع تكثر الألفاظ و الحروف و الآيات و السور، و بذلك تكثر في وحدته و لم يوصف بالمخلوقية مع التكثر لأنه ظهور الذات في المراتب بلا كيف.
فالعالمان الغيب و الشهادة أو الخلق و الأمر إذا أضيفا إلى الذات بلا واسطة بطريق الوجه الخاص فهما واحد.
و إذا أضيفا إلى الأسماء فالشهادة: الخلق، و الغيب: الأمر، فبهذا الاعتبار قلنا:

إن الإنسان الكامل له الأخذ من الله تعالى بواسطة باعتبار الإضافة إلى الاسم، و بلا واسطة باعتبار الأخذ من الوجه الخاص.
و إنما قلنا: الوجه الخاص لأنه مخصوص بالإنسان الكامل من دون الموجودات كالملك وغيره، فإن له الإطلاق في الأخذ و غيره لكل منهم مقام معلوم لا يتعدّون مقاماتهم و ذلك لأن الإنسان الكامل كل الوجود، فافهم .
( لندرك الباطن بغيبنا، و الظاهر بشهادتنا) فلمّا أراد تعالى ظهورنا بالصورة: أي بصورة الحق و لها الغيب و الشهادة، فأوجدنا ذا غيب و شهادة ذا جسم و روح فعالم الجسوم شهادتنا، و عالم الأرواح غيبنا فالكون كله جسم و روح و بهما قامت نشأة الوجود، فالعالم للحق كالجسم للروح فلا يعرف الحق إلا من العالم كما لا تعرف الروح إلا من الجسم .

"" أضاف المحقق : قال سيدي محمد وفا في المعاريج:
 وأما
 الأرواح فإنها مخلوقة من النور الإفاضي العرشي، ولها التقدم في الخلق على الأجساد بألفي عام ما شهد به الخبر النبوي.
وأما الأرواح النورانية السعيدة فإنها تعرج إلى مقامها العلى، ومحلها البهی، ضمنها لطيفي الجسم النوراني، والهيكل الإنسان.
فأرواح السعداء ظاهرة أنوارها، باطنة نفوسها، مستهلكة الأجسام ضمن الأرواح، فالأجسام باطن الأرواح في دار البرزخ، ودار المحشر.
وفي دار الدنيا جسم ظاهر ، والروح باطن.
فالأرواح النورانية في داري الدنيا والبرزخ، يكشف بعضها بعضا، ويشهد بعضها البعض لما بينهن من المناسبة والتعارف.
وقد نبه رسول الله على ذلك بقوله: «خلق الله الأرواح أجناد مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
وكذلك النفوس في مجانستها و مناسبتها، فالأرواح أنوار للسعداء، وظلم للأشقياء، وأجسام السعداء منعمة بتنعيم نفوسها، وأجسام الأشقياء والعذاب مشترك بين النفوس والأجسام، وهذا ظهر لهذا، وهذا بطن هذا.
فإنتشار البشرية ظهور صفات النفس الطبيعية، التي لا انفكاك للصفة الآدمية الإنسانية منها، ولا خروج لها منها، وهذا أمر الله تبارك وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول : " قل إنما أنا بشر مثلكم فامتثل أمر ربه عز وجل وقال: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنا إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشتركين" (فصلت: 6).
كما أمر "من الله عز وجل" قال صلى الله عليه وسلم  ولم يقل: (إنما أنا بشر مثلكم).
فهو مأمور ببلاغ ما ينزل إليه من ربه كما أنزل، من غير زيادة ولا نقصان.
قال الله تبارك وتعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا تهدي القوم الكافرين" [المائدة: 67] .
فأجسام الأصفياء و المرسلين والأنبياء والصديقين والصالحين نورانية.
و نفوس الأشقياء و أرواحهم وأجسامهم مظلمة، فإنها هابطة في الدركات إلى أسفل سافلين. عکس نفوس السعداء؛ فإنها عارجة إلى عليين. فالطبيعة أثر الترابية، والبشرية أثر الطبيعة.
فهي سماء الطبيعة، ولها النشور من الحشر بالخروج إلى فضاء البسط.
فالحشر صفة قبض، والنشر صفة بسط.
والله يقبض ويبسط فالنفوس بالتزكية تخرج من حشرها إلى نشرها البسطي النوري، والنفس الشقية ترد على عقبها، فتدس من نشرها، وتحشر في عوالم طبيعتها.
قال الله تعالى: "قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها" [لشمس: 9، 10] . ""

فإنا لما نظرنا فيه، و رأينا صورته مع بقائها تزول عنها أحكام كنا نشاهدها من الجسم و صورته من إدراك المحسوسات و المعاني، فعلمنا أن وراء هذا الظاهر معنى آخر هو الذي أعطى أحكام الإدراكات معرفتنا غيبنا بشهادتنا، و سمّيناه روحا لهذا الجسم الظاهر، و كذلك ما علمنا أن لنا أمرا يحرّك أرواحنا كما كانت الأرواح تحرّك أجسامنا و هو روح الأرواح يحكم فيها بما يشاء حتى نظرنا في أنفسنا، و عرفنا منها و بها ربنا .

و بهذا أخبر الوحي النبوي : “من عرف نفسه فقد عرف ربه”. 
و قال تعالى: "سنريهِمْ آياتنا في الْآفاقِ وفي أنْـفُسِهِمْ حتّى يتبيّن لهُمْ أنّهُ الحق أولمْ يكْفِ بربِّك أنّهُ على كُل شيْءٍ شهِيدٌ" [ فصلت: 53] .
حتى عرفنا الغيب بالغيب، و الشهادة بالشهادة، فمن جمع هذين العلمين فظهر بالصورتين، و علم علم الغيب و الشهادة قال تعالى: "وهُو بكُل شيْءٍ عليمٌ" [ الحديد: 3] .
قال تعالى: "عالمُ الغيْبِ فلا يظهِرُ على غيْبهِ أحداً * إلّا منِ ارتضى مِنْ رسُولٍ فِإنّهُ يسْلكُ مِنْ بيْنِ يديهِ ومِنْ خلْفِهِ رصداً " [ الجن: 26، 27] .
لتعلم أنه تعالى بالحكم الذي صحّت به  الربوبية الموجبة للمكاسبة الرابطة بينه و بين خلقه أثر في العالم من الأحوال، فيتصف تعالى عند ذلك بالرضا و السخط .

قال الشيخ المصنف رضي الله عنه : [ ووصف نفسه بالرضاء والغضب . فأوجد العالم ذا خوف و رجاء فنخاف غضبه ونرجو رضاه . ووصف نفسه بأنه جميل و ذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس، وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به . فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم و مفرداته .  ]

قال الشيخ الشارح رضي اللّه عنه :
( ووصف نفسه بالرضا و الغضب) و هما من الصفات التشبيهية لأن للعالم مع الحقّ أحكاما لو لا تعريفه إيانا ما عرفنا، و ذلك إذا اتبعنا رسوله فيما جاءنا به من الطاعة أحبنا و أرضيناه فرضي عنا .
قال تعالى: "رضِي اللّهُ عنْـهُمْ ورضُوا عنْهُ وأعدّ لهُمْ جنّاتٍ تجْري تحتها الْأنهارُ خالدِين فيها أبداً ذلك الفوْزُ العظِيمُ" [ التوبة:  . [100
و إذا خالفوه و لم يمتثل أمره أخبر أنهم أسخطوه و أغضبوه، فغضب الله عليهم، فالرضى أثر الطاعة، و الغضب أثر العصيان، فافهم .

( وأوجد العالم ذا خوف و رجاء) بسبب المناسبة التي بينه و بين الحق و بها كان خلفا له و منسوبا إليه، فارتبط به تعالى ارتباط منفعل عن فاعل، فخرج العالم على صورته، فيتحوّل بتحولها فإذا تحوّلت بصورة الرضا أثرت فيه، فتحوّل بصورة النعيم، و إذا تحوّلت بصورة الغضب أثّ رت فيه فتحوّل بصورة العذاب .
وهكذا الأمر في الوجود إنما غير الأسلوب المطلوب ههنا، وما قال: ذا رضا وغضب تنبيها على المقصود الأولى الذي هو بيان الارتباط من الجانبين حتى لا تنسى، أما ترى الأبيات الثلاث الآتية بعد هذا؟ فإنه ذكر فيها الارتباط، فافهم مع أن المقصود حاصل بهذا فيما نحن بصدد بيانه الآن و هو العلم به تعالى بالمقايسة لأن الرضا و الغضب لو لم يكن ذوق الراجي و الخائف فما خاف و ما ارتجى، فأثبت باللازم مع ملاحظة أخرى، فافهم .

( فأوجدنا على هيبة و أنس الهيبة) من أثر الجمال، و الأنس من أثر الجلال، و لما  كان الجمال مهوبا، فأوجدنا قابلا للهيبة حتى نهاب منه، و لما وصف نفسه بالحياء من عبده إذا لقيه، فقام الحياء لله مقام الهيبة في مخلوق، فأوجدنا قابلا للأنس، و أرسل حجاب الجلال بيننا و بينه ليرتفع عنا أثر هيبة الجمال، و تكون النشأة جامعة للصفتين .
هذا البيان بطريق اللف والنشر المرتبين على ذوق الشيخ رضي الله عنه، فإنه قال في بعض رسائله: إن أكثر هذا التصرف جعلوا الأنس بالجمال مربوطا، والهيبة بالجلال منوطا، وليس كما قالوه.
وهو أيضا كما قالوه بوجه، وما ذلك إلا أن الجلال والجمال وصفان لله تعالى، والهيبة والأنس وصفان للإنسان، فإذا شاهدت حقائق العارفين الجلال هبت وانقبضت، وإذا شاهدت الجمال أنست وانبسطت فجعلوا الجلال للقهر، والجمال للرحمة، وحكموا في ذلك بما وجدوه في أنفسهم.
و أريد إن شاء الله تعالى أن أبين هاتين الحقيقتين على قدر ما يساعدني به في العبارة، فأقول أولا: إن (الجدال لله تعالى) معنى يرجع إليه، و هو الذي يمنعنا من المعرفة به تعالى .
و (الجمال) معنى يرجع منه إلينا، وهو الذي أعطانا هذه المعرفة وزنا "لنزن بها المعاني في" و التنزلات و المشاهدات و الأحوال .
و له فينا أمران: الهيبة و الأنس، و ذلك أن لهذا الجمال علوّا و دنوّا فـ (العلوّ ) يسمّيه جلال الجمال، و فيه يتكلم العارفون، و هو الذي يتجلى لهم، و يتخيلون أنهم يتكلمون في الجلال الأوّل الذي ذكرناه، و هذا جلال الجمال قد اقترن معه منا الأنس .
و الجمال الذي هو الدنو قد اقترنت معه منا الهيبة، فإذا تجلى لنا جلال الجمال أنسنا، و لو لا ذلك لهلكنا، فإن الجلال و الهيبة لا يبقى لسلطانهما  شيء، فقابل ذلك 
الجلال منه بالأنس منا لتكون في المشاهدة على الاعتدال حتى نفعل ما نرى، و لا نذهل، و إذا تجلى لنا الجمال متنا فإن الجمال مباسطة الحق لنا، و الجلال عزته عنا، فيقابل بسطه معنا في جماله بالهيبة، فإن البسط مع البسط يؤدي إلى سوء الأدب، و سوء الأدب في الحضرة سبب الطرد و البعد .
و لهذا قال المحققون ممن عرف هذا المعنى و حضره: قف على البساط و إياك و الانبساطفكشف أصحابنا صحيح، و حكمهم بأن الجلال يقبضهم و الجمال يبسطهم غلط، و إذا كان الكشف صحيحا فلا نبالي فهذا هو الجلال و الجمال  كما تعطيه الحقائق، انتهى كلامه رضي الله عنه .

أو نقول بعكس الأول أنه أوجدنا على هيبة حتى نرى عظمة الجلال تدركنا الهيبة لما نرى أنفسنا عليها من الافتقاد و البعد عن إلتفات ما يعطيه مقام العظمة، و من هذه الحضرة كانت الألوهية، فيعلم سرنا لما فينا من نسبة الباطن، و جهرنا لما فينا من نسبة الظاهر، فعظم ذلك في نفس الرائي .
أما الأنس فلأن السامع إذا أخذ الجلال على العظمة أدركه القنوط عن اللحوق لما يرى في نفسه الافتقار و البعد، فيزيل الله هذا القنوط عن وهمه بظهور الجمال، فإنه جميل يحب الجمال، فجامل و وهب و أعطى و جاد و امتنّ به من جزيل الهبات و المنح، و آنسه فاستأنس به فأزال الله حكم القابض و نسخه بحكم الباسط و ظهر بصورة كل شي ء إلى عباده في طلب الكرم منهم إلى الظهور بصفة الحاجة و أيّ أنس أكبر من هذا! فافهم .

و الجميل يتبع الجليل و يلازمه، قال تعالى: "و يبقى وجْهُ ربِّك ذو الجلالِ والِإكْراِم" [الرحمن: 27] .
قال تعالى: "تبارك اسْمُ ربِّك ذِي الجلالِ والِإكْراِم" [ الرحمن: 78] ربما يجدون في نفوسهم حرجا، و هيبة من عظمة الجليل، فإن الله أحرجهم بإقران الجميل و الأنس و الإكرام بالجلال اعتناءا بهم فلهذا قارن رضي الله عنه بين الجمال و الجلال و أحكامهما، و قدّم الهيبة و أخرّ الأنس لأن الاعتبار بالخواتيم، فافهم .
( و هكذا جميع ما ينسب إليه تعالى) و يسمّى به من الأسماء المتقابلة، و أوجد فينا مثلها، و بين لنا أن في أرض العالم نجدين نجد التنزيه، و نجد التشبيه و هما عالمان متقابلان في العلوّ، و إن لكل سرّ في العالم وجهين بحكم القبضين من اليدين، و لا بد من الدارين، و لا بد من برزخ بين كل اثنتين .

قال تعالى: "ومِنْ كُل شيْءٍ خلقنا  زوْجيْنِ" [ الذاريات: 49] لأنه مخلوق عن صفتين إرادة و قول و هما اللذان شهدهما كلّ مخلوق من الحقّ، فإن العالم نتيجة، و النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين و هذا هو التناسل كوجود الابن بين الأبوين على صورة الأبوين، فافهم .
و هذا كله حتميّ بنا لا بأمر خارج عنا لأن  الشيء لا يعرف إلا بما به الاشتراك إلا بما به الامتياز، فافهم .
( فعبر عن هاتين الصفتين و النسبتين المتقابلتين) تقابل تنزيه و تشبيه باليدين، و ما هو إلا عين جمعه بين الصورتين صورة العالم، و صورة الحق و هما يد الحق إذ بهما يتمّ الوجود و تكمل الأفعال و الآثار للربوبية، كما باليدين يتمكّن الإنسان من الأخذ و المنع.

قال تعالى: "يداهُ مبْسُوطتانِ" [ المائدة: 64]: أي في العطاء و المنع .
و في الحديث : "الصدقة تقع في يد الرحمن" . كناية عن الأخذ و القبول اللتين توجهتا منه أي: من الحق تعالى . ( على خلق الإنسان الكامل) .
قال تعالى: "ما منعك أنْ تسْجُد لما خلقْتُ بيديّ  أسْتكْبرْت أمْ كُنْت مِن العالين" [ ص: 75] .
و إنما خصّ الإنسان الكامل لأن غيره ما خلق إلا بقول (كن فكان) كالملائكة عليهم السلام .

ورد في الحديث الصحيح : " إنّ الملائكة عليهم السلام قالوا: ربنا خلقتنا و ما خلقت بني آدم فجعلتهم يأكلون الطعام و يشربون الشراب و يلبسون الثياب و يأتون النساء و يركبون الدواب و ينامون و يستريحون و لم تجعل لنا من ذلك شيئا، فاجعل لهم الدنيا و لنا الآخرة.
فقال تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي و نفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان"  رواه ابن عساكر .
اعلم أن للحق في مشاهدة عباده إياه نسبتين: نسبة تنزيه، و نسبة تشبيه فنسبة التنزيه تجليه في: " ليس كمِثلهِ شيْءٌ" [ الشورى: 11].
و النسبة الأخرى تجليه في قوله صلى الله عليه و سلم : "إن تعبد الله كأنك تراه".
و قوله صلى الله عليه و سلم : "إن الله في قبلة المصلي".
و قوله تعالى:" فأينما تولُّوا فثمّ وجْهُ اللّهِ" [ البقرة: 115] ذاته .
و الأحاديث الواردة لو لم تستصحب بمعانيها الموضوعة لها المفهومة من الاصطلاح، فما معنى قوله تعالى: " و ما أرسلْنا مِنْ رسُولٍ إلّا بلِسانِ قوْمِهِ" [ إبراهيم: 4].
فما وقعت الفائدة بذلك عند المخاطب لها خصوص العموم من الناس، فإذا تقرّر عندك هاتين النسبتين للحق المشروعتين و أنت المطلوب بالتوجّه بقلبك و بعبادتك إلى هاتين النسبتين، فلا تعدل عنهما إن كنت ناصحا نفسك.
فإن الإنسان ما جمع الحقائق المذكورة إلا بهاتين النسبتين، فلمّا توجّهت هاتان النسبتان فخرج بنو آدم لهذا على ثلاث مراتب :
( كامل) و هو الجامع للنسبتين.
أو (واقف) مع دليل عقله و نظره و فكره و هو المنزه خاصة.
أو (مشبه) بما أعطاه اللفظ الوارد، و لا رابع لهم .
فـ (الاعتدال و الكمال) هو القول بالأمرين و الاتصاف بالوجهين أعني الظهور بحقائق الأسماء الإلهية الوجوبية في حقائق الصفات الكونية على الكشف و العيان، فلا تزال حقيته في خليقته حاكمة على خليقته شهودا و كشفا بل ذوقا محقّقا .
و أما (الانحراف) فإمّا تنزيه، و إمّا تشبيه فهو لا جهلوا و هو لا جهلوا، حيث فاز بالحق أهل الاعتدال، فافهم أمة وسط بين غنى و فقر لا يتركه الفقر أن يطغى، و لا يتركه الغنى أن يغنى فقد تعرى بهذين الحكمين عن هاتين الصفتين، أما ترى أنه تعالى جعل له عينين لينظر بالواحدة إلى الغنى الذاتي من كونه غنيا عن العالمين فلا يراه في  شيء لأنه لا يرى شيئا، بل و لا يرى نفسه كما في التجلي في لا شيء، فإن المقام مقام فناء كل شيء كان ما كان، و هذا هو الغنى الذاتي، و هو نهاية الكامل، و حظه في الاتصاف بالصفات التنزيهية، و ينظر بالعين الأخرى افتقاره الذاتي إلى كلّ شيء من حيث ما هي الأشياء، أسماء الحق تعالى لا من حيث أعيانها، فلا يرى أفقر من نفسه إلى العالم لأنه مسخرته، ولو لا افتقاره إليه لما سخر له لأن المسخر حكيم عليم، و هو نهاية الكامل، وحظه في الاتصاف بالصفات التشبيهية فإذا اتصفت فقلدت ربك منزها مشبها و كل ذلك أنت لأنهما تجليان إلهيان وأنت جامعهما .

( لكونه الجامع لحقائق العالم و مفرداته) اللام تعليل المتوجّه باليدين لأن الإنسان الكامل بجميع حقائق العالم، وهي الأمور الكلية المعقولة التي لها الآثار، و الأحكام على مفردات الأعيان الخارجية لأن أحدية جمع الجميع علما و عينا .
قال رضي الله عنه في "الفتوحات": 
إن الحقائق التي جمعها الإنسان فكان من جمعيتها الإنسان انتهى كلامه رضي الله عنه.
فجمع له بين يديه، و أعطاه جميع نسبته و تجلى له في الأسماء كلها جماليا، و لكن لا يعلم ذلك إلا الراسخون، إن الراسخ في العلم والكشف يرى و يعلم أن العلم بأنواعه و أفراده أجزاؤه و مع هذا واحد في نفسه و أحديته، ولم يحكم عليه النسب بالتعداد الانقسام في ذاته من حيث حقيقته و لطيفته، و يقابل بذاته الحق من حيث نسبته التنزيهية، وبذلك الوجه يقابل الحق تعالى من حيث التشبيه و لا له وجهان متغايران كالحق سبحانه أنه الموصوف بهاتين الصفتين، و هو واحد في نفسه و أحديته و هذا الكمال المطلق متفاوت بين الأنبياء الأولياء من الأناسي صلوات الله عليهم أجمعين المستغرق له في كل عصر بالذات، والمرتبة و العلم، والحال و الفعل في جميع الأسماء و الصفات الإلهية، و الحقائق الكونية، و الأحكام الكلية و الجزئية .

فجمع له بين يديه، و أعطاه جميع نسبته و تجلى له في الأسماء كلها جماليا، و لكن لا يعلم ذلك إلا الراسخون، إن الراسخ في العلم و الكشف يرى و يعلم أن العلم بأنواعه و أفراده أجزاؤه و مع هذا واحد في نفسه و أحديته، و لم يحكم عليه النسب بالتعداد الانقسام في ذاته من حيث حقيقته و لطيفته، و يقابل بذاته الحق من حيث نسبته التنزيهية.
و بذلك الوجه يقابل الحق تعالى من حيث التشبيه و لا له وجهان متغايران كالحق سبحانه أنه الموصوف بهاتين الصفتين، و هو واحد في نفسه و أحديته و هذا الكمال المطلق متفاوت بين الأنبياء الأولياء من الأناسي صلوات الله عليهم أجمعين المستغرق له في كل عصر بالذات، و المرتبة و العلم، و الحال و الفعل في جميع الأسماء و الصفات الإلهية، و الحقائق الكونية، و الأحكام الكلية و الجزئية .
و هو من حيث أنه برزخ البرازخ الجامع بين الغيب الذاتي المطلق الواجب و بين أحكام الألوهية و الكونية و الإمكانية هو خليفة الله و خليفة الخليفة المسمّى بـ (القطب) و لمن دونه تكون الخلافة على قدره و يشير إليه قوله صلى الله عليه و سلم : "كلكم راع"  الحديث فافهم .

..
واتساب

No comments:

Post a Comment