Saturday, July 13, 2019

السفر الثالث فص حكمة سبوحية فى كلمة نوحية الفقرة التاسعة .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر الثالث فص حكمة سبوحية فى كلمة نوحية الفقرة التاسعة .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر الثالث فص حكمة سبوحية فى كلمة نوحية الفقرة التاسعة .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي لجامعها عبدالله المسافر بالله

03 - The Wisdom Of Exaltation In The Word Of NOAH

الفقرة التاسعة :
جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص شرح الشيخ عبد الغني النابلسي 1134 هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد. فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة،بل في نصف آية.)
قال رضي الله عنه : "فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد. فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية."
قال رضي الله عنه :(فعلم العلماء بالله تعالی) من أهل المعارف الإلهية والحقائق الربانية (ما أن إليه نوح عليه السلام) في ضمن عبارته (في حق قومه) الكافرين به (من الثناء عليهم)، أي مدحهم بإجابة دعوته أرواحا وإن خالفوه أشباحا.
وإن كانوا إنما مكلفون من حيث الأشباح لا من حيث الأرواح، ولهذا كانت العبارة بالذم للظ والإشارة بالمدح للباطن، والتكليف إنما هو بحسب الظاهر والباطن (بلسان الذم هو الظاهر بالنسبة إلى ما هو الظاهر لهم منهم لا بالنسبة إلى ما هو الباطن منهم عنده فإنه ممدوح لا مذموم.
فإن الجميع صادرون عن الحق تعالى، فكلهم کاملون کامل، ولا فرق بينهم من هذه الجهة كما قال تعالى : "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" [الملك: 3]، وإنما التفاوت بينهم بما وضعه فيهم من علمهم بأنفسهم وبغيرهم، فالكامل كامل في نفسه وفي رؤيته لنفسه ولغيره، والقاصر کامل في نفسه قاصر في رؤيته لنفسه ولغيره.
وكل واحد منهما قسمان:
فالأول عارف بأنه كامل في نفسه وفي رؤيته وغير عارف بذلك.
والثاني كذلك عارف بأنه كامل في نفسه قاصر في رؤيته وغير عارف بذلك.
ويخرج من هذا الثاني قسم ثالث غير عارف بأنه کامل في نفسه وعارف بأنه قاصر في رؤيته.
والكامل الحقيقي في نفس الأمر والكمال الشرعي في رؤية النفس والغير، وهو المطلوب ببعثة الرسل وإنزال الكتب.
إذ الأول لا دخل للتكليف به لأنه مما يلي الحق تعالى وهذا مما يلي العبد، وما يلي الحق للحق وما يلي العبد للعبد
وعلم نوح عليه السلام (أنهم)، أي قومه (إنما لم يجيبوا دعوته إلى توحيد الله تعالى، لأنه كامل وعارف بأنه كامل، والكامل عارف بمرتبتي الظهور والبطون لما فيها)، أي في دعوته (من الفرقان).
أي التمييز بين مرتبة الظهور ومرتبة البطون الكمال التفصيل بالتنزيه فقط والتشبيه فقط (والأمر) الإلهي الواحد (قرآن)، أي جمع للمرتبتين وإجمال في عين التفصيل بالتنزيه والتشبيه معا (لا فرقان) بالتمييز في كل مرتبة على حدة.
(ومن أقيم)، أي أقامه تعالی بجعله يشهد ذلك ولو بالروح دون : النفس (في) مقام (القرآن) الجامع (لا يصغي) إلى من دعاه (إلى) مقام (الفرقان) الفارق الذي يظهر فيه الكامل بصورة القاصر.
والكل في هيئة البعض كما إذا انقسم قلب الرضى بإزاء كل ذرة من أجزاء حجرها الدائر على ذلك القلب، فإنه كله بتمامه ماسك لكل جزء في الاستدارة على طريقة موزونة، فهو للکل قرآن ولكل ذرة فرقان ، ومن شهده قرآنا لا يرضى أن يشهده فرقانا (وإن كان)، أي الفرقان (فيه)، أي في القرآن، لأنه عينه إذ التفصيل في الإجمال.
(فإن القرآن)، أي الإجمال والكل (يتضمن الفرقان)، أي التفصيل وكل جزء (والفرقان) الذي هو التفصيل وكل جزء (لا يتضمن القرآن) الذي هو الإجمال والكل والمراد من حيث هو فرقان وتفصيل باعتبار صور ما تفصل إليها، وإلا فإن اعتبرت حقائق ما تفصل إليها.
فالقرآن في كل ما تفصل إليه الفرقان، وهو من هذه الجهة .و قرآن لا فرقان (ولهذا)، أي لكون القرآن جامعة للفرقان دون العكس (ما اختص بالقرآن إلا محمد ) دون غيره من المرسلین علیهم السلام (و) اختصت به أيضا هذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران : 110].
بإخبار الله تعالی عنها بذلك بقوله تعالى : "كنتم خير أمة أخرجت للناس" الآية دون غيرهم من الأمم فإنهم مأمورون بشهود الفرقان كما جائتهم بذلك أنبياؤهم.
فمأمور کل شاهد بترك ما شهده من حيث مغایرته للمشهود الآخر.
وهذه الأمة مأمورة بشهود الفرقان ، فمأمور کل شاهد منهم بإضافة المشهود الآخر إلى مشهوده الأول، فديننا اليسر ودينهم العسر، وعليهم التشديد وعلينا التخفيف .
(فليس كمثله)، أي ليس مثل أمره الظاهر بصورة كل شيء من محسوس أو معقول (شيء) إذ كل شيء تفصيل لأمره المجمل في حضرة على حدة (فجمع) سبحانه وتعالى الأمر كله (في أمر واحد) فمن كان في بعضه لا يترك ما هو فيه بل لا يقتصر على ما هو عليه ويضم إليه غيره ليكمل من قصوره ويتحقق بحقيقة ظهوره في مطالع نوره (فلو أن نوحا) عليه السلام (يأتي) إلى قومه (بمثل هذه الآية) الجامعة بين التنزيه والتشبيه معا (لفظ)، لأنه جاء بمثل ذلك معنى إذ الحق واحد والمرسلون كلهم مجمعون عليه من حيث الإيمان ولكن عباراتهم مختلفة (أجابوه) من غير تردد الما دعاهم إليه (فإنه)، أي من جاء بمثل هذه الآية وهو محمد صلى الله عليه وسلم (شبه) الله تعالی بإثبات المثل له (ونزه) الله تعالی بنفي المثل عن مثله فكيف عنه (في آية واحدة بل في نصف آية) إذ بقية الآية "وهو السميع البصير" [الشورى: 11].


شرح فصوص الحكم مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي 1069 هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد.فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله تعالی ما أشار إليه نوح عليه السلام في من قومه من الثناء عليهم بلسان الذم) أي كل واحد من العلماء من أي أمم كانوا ممن سمع كلام نوح عليه السلام من أي لسان كان علموا من وجوه نظم كلامه .
فإن هذا الثناء دعاء عليه في حق بعضهم بالمفهوم ودعاء له في بعضهم بالإشارة كما سنذكره.
(وعلموا) أي العلماء بالله تعالى أضمر الفاعل للعلم به (أنهم إنما لم يجيبوا دعوته) بالقول (لما فيها من الفرقان) بين التشبيه والتنزيه (والأمر) أي الدعوة الموجبة للإجابة (قرآن) أي جمع بين التنزيه والتشبيه (لا فرقان ومن أقيم) من الله تعالی
(في القرآن) أي في مقام الجمع الأسمائي کنبينا محمد صلى الله عليه وسلم (لا يصغي) أي لا يميل في دعوة أمنه (إلى الفرقان) .
أي إلى القوم الذي لا جمع فيه أي لا يدعو أمنه إلا بالجمع بين التنزيه والتشبيه لأجل عدم إقامة نوح عليه السلام في القرآن أي في الجمع الاسماني لا يدعو قومه به بل بالقول الفرقاني (وإن كان فيه).
أي وإن الفرقان في القرآن (فإن القرآن يتضمن الفرقان) لكون الفرقان جزءا من القرآن (والفرقان لا يتضمن القرآن) لوجود الجزء بدون الكل والمراد من القرآن والفرقان أعم من أن يكون تولية أو مقامية فإن مرتبة محمد عليه السلام قرآني متضمن أي جامع لجميع المراتب الفرقانية من الأنبياء وغيرهم .
كما أن القرآن القولي متضمن لجميع الفرقان القوني من الكتب المنزلة (ولهذا) أي ولكون القرآن يتضمن الفرقان (ما اختص بالقرآن إلا محمد عليه السلام) لكونه متضمنا لجميع الفرقان المرتبي فما أنزل الله تعالى القرآن إلا إلى القرآن .
(وهذه الأمة التي من خير أمة أخرجت للناس) أي اصطفيت وفضلت بأن يكونوا أمة لهذا النبي لقربهم إليه في المرتبة القرآنية (فليس كمثله شيء فجمع) محمد عليه السلام (الأمر) أي التنزيه والتشبيه (في أمر واحد) أي في كلام واحد .
(فلو أن نوحا أنه بمثل هذه الآية لفظة أجابوه) لفظا (فإنه) أي النبي عليه السلام (شبه ونزه في آية واحدة) وهي قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ". سورة الشورى : 11.
(بل) شبه ونزه (في نصف آية) وهو ليس كمثله شيء. لذلك قبل دعوته وكثر أمته يوما فيوما إلى يوم القيامة .


شرح فصوص الحكم عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني 690 هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد. فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن.
ولهذا ما يختص بالقرآن إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران: 110).
فـ "لیس كمثله شیء" فجمع الأمرين في أمر واحد.
فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.
و نوح، عليه السلام، دعا قومه ليلا من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها غيب. ونهارا دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وحسهم، وما جمع في الدعوة مثل "ليس كمثله شيء" فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا.
ثم قال عن نفسه إذ دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، لذلك "جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم" (نوح: 7) وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك.
ففي "ليس كمثله شیء" إثبات المثل و نفيه، وبهذا قال عن نفسه، صلى الله عليه وسلم، إنه أوتي جوامع الكلم. فما دعا محمد صلى الله عليه وسلم، قومه ليلا ونهارا، بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل.
قلت: قوله،"ليس كمثله شيء" فنزه هنا وجعل الكاف زائدة فافهم.
وقوله: "وهو السميع البصير" (الشورى: 11) شبه، لأنه وصف الحق تعالی بالسمع والبصر وهي قد يطلق على العين والأذن.
قوله: قال تعالى: "ليس كمثله شيء" فشبه وهنا جعل الكاف زائدة، فكأنه قال: ليس مثل مثله شيء فأثبت له مثلا لا يشبه ذلك المثل شيء .
ولذلك قال: وثني قوله: "وهو السميع البصير" فنزه وأفرد هنا حمل السمع والبصر على معاني أسمائه تعالى، فالسمع والبصر هنا لا يطلق على الأذن والعين بل على معاني الأسماء الإلهية.
ولذلك قال: و افرد و بالإفراد يقع التنزيه فلذلك قال فنزه وافرد.
قولهولو أن نوحا، عليه السلام، جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، يعني أن محمدا رسول الله جاء بالدعوتين: التنزيه والتشبيه، وهذا مبني على ما قرر من مفهوم قوله تعالى: "ليس كمثله شيء " فإنه عين حمل الآية على الأمرين معا، فجمع نبينا، عليه الصلاة والسلام، في دعوته.
وأما نوح، عليه السلام، فذكر رضي الله عنه : أنه ما جمع لهم وسنبين كيف ذلك .
وهو قوله:  فدعاهم جهارا، أي إلى التشبيه الذي تقدم ذكره لأنه الظاهر فناسب أن يقال في الدعاء إليه جهارا.
قال:  ثم دعاهم أسرارا، أي إلى حضرة التنزيه الذي تقدم ذكره أيضا لأنه الباطن فناسب أن يقال في الدعاء إليه أسرارا.
ثم قال لهم نوح: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا" فخاطبهم بما لا يناسب حالهم وإلى هذا أشار، رضي الله عنه: والذي لا يناسب حالهم هو كونه فرق الدعوة فدعا مرة إلى اسمه الظاهر، تعالى، ومرة إلى اسمه الباطن، تعالى.
فلما لم يجيبوه وصف حالهم معه وحاله معهم، فقال: "دعوت قومي ليلا ونهارا" (نوح: 5) . أي ظاهرا مرة وهو قوله: نهارا وباطنا مرة وهو قوله: لیلا أي إلى الاسم الظاهر مرة وإلى الاسم الباطن مرة "فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" (نوح: 6).
وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته بكونهم جعلوا أصابعهم في آذانهم.
قال وإنما تصامموا عن دعوته، لأنهم علموا ما يجب عليهم إن هم سمعوها أي يتعين عليهم الطاعة، فسدوا آذانهم عن سماع دعوته حتى لا يقع عليهم لسان الذم.
قال: فعلم العلماء ما أشار إليه نوح، عليه السلام، من الثناء عليهم بلسان الذم، يعني أنه عذرهم وعلم أن مستندهم في سد آذانهم عن سماع دعوته أنه صحيح.
فكأنه قال: إنهم فعلوا ما يجب عليهم فعله ولم يدخلوا تحت ما يجب عليهم ما لا يلزمهم من اجابة دعوته المفترقة الجهات، وهذا الكلام صعب.
قال: لأنهم كانوا أهل قرآن وهو إنما أتاهم بالفرقان فلا جرم ما أجابوه.
وقول الشيخ، رضي الله عنه: فإن الأمر قرآن لا فرقان، يعني أن الحق هو الجمع بين الظاهر والباطن في الدعوة إلى التنزيه والتشبيه، والمراد هنا بالقرآن الجمع، لأنه مشتق من المصدر الذي اشتق منه قولك: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، فكأنه قال: الأمر جمع لا فرقان ، إذا كان الفرقان هو ضد الجمع وهو مثل فرق يفرق فرقا وفرقانا.
فقال الشيخ، رضي الله عنه: الأمر الإلهي قرآن لا فرقان ثم أخذ في تعريفنا مرتبة كل واحد من الاسمين المذكورين.
قال: ومن أقيم في القرآن وهو حضرة التوحيد لا يصغي إلى من دعاه إلى الفرق وإن كان الفرق في الجمع.
فلذلك قال رضي الله عنه: وإن كان فيه فإن القرآن يتضمن الفرقان بمعنى أن تفصيل الوحدانية هو بالأحدية وفي ضمنها وفي التفصيل يظهر الفرقان لكن يرجع بالأحدية كما ذكرنا، وأما الفرقان فلا يتضمن القرآن، لأن الفرقان صفة مسلوب عن موجب، والايجاب والسلب لا يجتمعان في الأقوال والأضداد لا تجتمع في الموصوفات ، إذا تحقق التناقض والتضاد.
قال: فالجمع اختص بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران: 110) في «ليس كمثله شيء" فجمع الأمر في أمر وأحد، يعني أن قوله تعالى: "ليس كمثله شيء" هو جامع المعنيين:
أحدهما أن يكون الكاف زايدة وهو معنی التنزيه
والثاني أن يكون الكاف غير زائدة ، وهو معنى التشبيه والكلمة واحدة، فاجتمع فيها الأمران كما هو الأمر في نفسه مجموعا في نشأة الإنسان الكامل.
قال: فلو أن نوحا أتي بمثل هذه الآية أجابوه أي يجمع الأمر في كلمة واحدة.
قوله: فإنه شبه ونزه في نصف آية، قلت: يعني قوله: "ليس كمثله شئ" .
قوله: ونوح دعا قومه إلى قوله: لیلا في نهار ونهارا في ليل، قلت: هذا الكلام ظاهر.

شرح فصوص الحكم الشيخ مؤيد الدين الجندي 691 هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد. فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال الشيخ سلام الله عليه : « فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذمّ وعلم أنّهم إنّما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان ، والأمر قرآن لا فرقان ، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه ، فإن القرآن يتضمّن الفرقان والفرقان لا يتضمّن القرآن » .
قال العبد : علم المحقّقون من هذه الإشارات أنّ قوم نوح إنّما أجابوا لما دعاهم إليه في صورة الإعراض ، وأقرّوا بعين ما ادّعاه في ملابس الإنكار بنوع من الإشارة والإيماض ، وذلك لأنّه دعاهم إلى الاستغفار وهو طلب الغفر فتظاهروا بالاستتار عن تجلَّي الواحد القهّار ، في العكوف على عبادة حجابيّات الأغيار ، ممّا يحبّق من الخشب والأحجار ، فأجابوه بالفعل إلى ما دعاهم من الاستغفار ، فأثنى عليهم نوح عليه السّلام كذلك في صورة الذمّ .
كما ظهروا بصورة الجهل فيما عندهم من العلم لأنّ دعوته لهم كانت إلى التوحيد وتنزيه التجريد ، وذلك تمييز وتقييد ، وفرقان بيّن بين السادات والعبيد ، والضالّ والرشيد ، والغاوي والسديد ، والمقرّ المريد ، والمنكر المريد ، وأنّ سوس الأمر وأساسه على الجمع والقرآن ، ليس على الصدع والفرقان ، لأنّ الوحدة كما عرفت تضادّ الكثرة والتوحيد ينافي التعديد ويحادّ أمره ، والحق سبحانه وتعالى كما لا ضدّ له في ذاته .
فكذلك لا ضدّ له في صفاته ، فهذه الوحدة التي تقابل الكثرة وتضادّها لا تليق أن تكون صفة ذاتية لله تعالى فيحادّها ، وأنّها زائدة على ذات الواحد الموصوف بها ، ووحدة الله عن ذاته ليست عليها زائدة ، وإلَّا كانت عارضة وزائدة ، أو تكون كثرة منها فيها عليه عائدة ، بل هو تعالى منبع الوحدة والكثرة المتقابلتين ، وعين الحقائق المتباينة والمتماثلة ، وفي الحقيقة لا وجود للاثنينيّة إلَّا في التعيّن والتعقّل ، والحقيقة الأحدية تنقلب في صور الكثرة بالتحوّل والتبدّل ، في عوالم التمثّل والتخيّل ، والتصوّر والتشكَّل .
وليس الوجود إلَّا للأحد الصمد ، وأحديّته عين حقيقته فيما تجرّد وتوحّد ، وتنزّه وتفرّد ، وفيما تكثّر وتعدّد ، وتحدّد وتجدّد ، فله تعالى الإطلاق الحقيقي عن التقيّد بإحدى الجهتين ، لكونه أحدي الذات والعين بلامين ، في عين تعيّنه في الصورتين ، فالتنزيه والتشبيه طرفان ، والوحدة الذاتية والكثرة الأسمائية ذاتيّتان للذات الإلهية والعين الجمعية الأحدية ، فلها منها بها أقران ، فيرتقي الفرقان الظاهر في الكفر والإيمان ، والطاعة والعصيان بحقيقة الجمع والقرآن .
ولمّا كشف الله لنوح عليه السّلام عن سرّ ما هم عليه من الجمعية السارية فيهم والأحدية النورية المستهلكة الحكم في مظاهرهم ومرائيهم ، أثنى عليهم بلسان الحقيقة ، ولغة منطق طير الطريقة ، ثناء ظاهرا بصورة الذمّ ، وسرورا مستسرّا في هيئة الهمّ والغمّ ، كما يقتضي مقامه وحالهم فيما خصّ وعمّ .
ولمّا كانوا في ظاهرية الفرق ، ووقع منه الدعاء إلى الباطن الحق ، ولا يخلو الظاهر من باطن فيه قاطن ، فلم يكونوا إلَّا على جمع مستهلك فيهم كامن ، فلا بدّ لأهل الجمع المستهلكين في عبدانيّة حقائق الجمع ، الساري في صور الفرق والصدع أن لا يصغوا إلى ما يباين مشهودهم ومعهودهم من الأنباء .
فلم يستطيعوا إجابة نداء الجلاء ، ودعاء الفرق والتمييز والتنزيه والاعتلاء ، فردّوا دعوته إلى التمييز والتنزيه ، والفرق بين العين والعين والحق والخلق ، لكونهم في عين الفرق مجموعين ، وعلى جمع فرق الفرق مجمعين ، وعن إجابة دعاء تمييز التنزيه وعن سمع نداء التجريد والتوحيد معزولين ، فافهم .
قال الشيخ سلام الله عليه : "ولهذا ما اختصّ بالقرآن إلَّا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وهذه الأمة التي هي خير أمّة أخرجت للناس ف " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " يجمع الأمر  في أمر واحد ، فلو أنّ نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا ، أجابوه ، فإنّه شبّه ونزّه في آية واحدة ، بل في نصف آية " .
قال العبد : قد علمت أنّ سائر عبيد الله الكمّل في المقامات التفصيلية النبوية وحكمهم وحكمهم في شرائعهم منزلة من سماوات الأسماء التفصيلية الفرعية ، فمقتضى الحكم الإلهي الكلَّي في أمم قبلنا إنّما هو الطاعة والدعوة إلى التنزيه وتجريد التوحيد ، لكون القوم ملبّين على عبادة صنميّات الكثرة والتعديد ، وملبّين لدعوة حجابيّات الصور الأسمائية ، ذاهلين بالكلَّية عن الحقيقة الأحدية ، التي هي أصل الكثرة الفرعية والجمعية ، الموجدة الموحّدة للتفرقة العددية ، وحقيقة التحقيق في الجمع بين المرتبتين جمعا إطلاقيا وإطلاقا أحديّا .
وإنّما وقعت واقعة الأصنام ، وعبادة الصور من عالم الأجسام ، لكون التجلَّيات التعيينية ، وظهور النسب المستهلكة للأعيان في عين الأحدية مرادة لله تعالى في أوّل الإرادة ، فظهرت حقائق الأسماء والنسب أوّلا في عالم الشهادة ، لأنّه أراد أن يعرف كمال العرفان ، وأن ينعت ويوصف ويظهر كلّ نسبة من نسب ذاته بلوازمها وإضافاتها وعارضاتها ولاحقاتها في صورة الجمع من عالم الملك والشهادة صورا ظاهرة متمايزة بشخصيّاتها ، متناظرة متشاكلة ومتنافرة بخصوصيّات ليست في صورة مظهرية عالم الأمر والملكوت ، القابلة لتجلَّيات الصور الأسمائية الفرقانية ، وكان في بدو الأمر توجّه المشيّة والإرادة إلى الظاهرية .
فلمّا ظهرت صنميّات حجابيّات الأسماء ، وأخرجت الحضرات ما عندها من التجلَّيات ، وتوجّهت نفوس أهل تلك القرون الأول بمقتضى انبعاث التجلَّي الأوّل إلى عبادة صنميّات صور الأسماء ، وتوفّرت الرغبات إلى تلقّي الأنباء ، من حجابيّات  مراتب الإلقاء لظهور سلطنة تلك الأسماء عليهم واستواء تجلَّياته على عروش قابليّاتهم كلّ الاستواء ، واستولى شهود أحديّة الكثرة أو كثرة الأحدية على جموعهم كلّ الاستيلاء ، فوجب لهذا أن تكون الدعوة إلى الكمال الجمعي بالنسبة إليهم مبنيّة على حكم التنزيه والتوحيد ، ومنبئة على التمييز والتجريد ، حتى تكاملت أقسام هذه الدعوة التنزيهية العقلية الروحانية إلى زمان عيسى عليه السّلام ولم يبق بعده إلَّا الدعوات الخاصّة بالجمع .
فكانت حكمة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم جامعة للأمر على ما هو عليه أحكامه الشرعية أيضا ، جامعة للمصالح الجمعية الكمالية بين ما تعلَّق منها بأرواحهم ، وبين ما اختصّ منها بأجسامهم وأشباحهم ، فجمع شرعه عليه السّلام بين الشرائع كلَّها ، وأتى بزيادات على الجمع عليهما ، فجعلها كلَّها لله لا لهم ، فما أبقى لهم حظوظا نفسانيّة في عين تقريرها وإثباتها لهم .
فقال : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ " وهو العدل من غير عدول وميل إلى جهة ولا جنوح وحيد إلى طرف من الروحانية والجسمانية ، " شُهَداءَ لِلَّه ِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ" ، فأمرهم بإقامة الشهادة لله بأنّ الذوات والصفات والأفعال والأخلاق والأعمال كلَّها لله ، حتى أنّ أنفسهم ما هي لهم ، بل لله ، فهم قائمون بشهادة الله عزّ وجلّ على أنفسهم وعلى الوالدين وهما :
الروح والطبيعية والأقربين : الحقائق الجسمانية والروحانية ، فجمعت حكمة المحمديين عليهم السّلام بين تنزيه في عين تشبيه ، وتشبيه في عين تنزيه في قوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " ، فأثبت المثل ونفى المثليّة عن المثل ، وهو السميع البصير ، فأتى بما يشتركه في العبيد عرفا ، ونزّه أن يكون معه غيره في ذلك ، فوضع هويّته موضوعة ، وحمل عليها السميع والبصير محمولا ، فلو كانت دعوة نوح عليه السّلام جامعة كذلك ، لأجابوه ظاهرا وباطنا ، قولا وفعلا ، ولكن لمّا كانت غير جامعة ، كانت الإجابة في صورة الصدّ والردّ والإنكار ، وعلى وجه النفار والفرار .


شرح فصوص الحكم الشيخ عبد الرزاق القاشاني 730 هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد. فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال رضي الله عنه : ( فعلم العلماء باللَّه ما أشار إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم ) فإن العزيز الجليل لما تعزز بجلاله ، وأقام أهل الذل والتأخير في مرتبة خير من مراتب جميع الوجود كان هو المانع عن تقدمهم ، فيكون العالم باللَّه الهادي بهدايته يذمهم بلسان الاسم الهادي بذم هو عين الثناء والمدح بلسان التوحيد ، لعلمه بأن إجابتهم الداعي إلى المقام الأعلى ومقام الجمال والتقدم لا تكون إلا هذه الصنعة.
وكلما كان المدعو أصلب في دينه وأشد إباء الداعي إلى ضد مقامه كان أشد طاعة وقبولا لأمر ربه وحكمه حتى إن إباء إبليس عن السجود وعصيانه واستكباره بحسب ظاهر الأمر عين سجوده وطاعته وخدمته وتواضعه لربه باعتبار الإرادة ، فإن العزيز الجليل أقامه في حجاب العزة والجلال ذليلا محجوبا حتى يكون إبليس .
فلم يكن له بد من موافقة مراده لذلك أقسم بعزته ، فإن الإغواء مقتضى العزة والاحتجاب بحجب الجلال ( وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان ) أي التفصيل وترك شق من الوجود إلى شق آخر ، أي من صورة الكثرة إلى الوحدة ، ومن اسم المذل إلى المعز ، ومن المفضل إلى الهادي ( والأمر قرآن ) أي الأمر الإلهي ( لا فرقان ) أي والأمر الإلهي جامع شامل للمراتب كلها ، فللذئب دين وللغنم ، وكل يدين بدينه مطيع لربه مسبح له بحمده .
قوله ( ومن أقيم في القرآن ) أي في الجمع ( لا يصغى إلى الفرقان ) أي التفصيل (وإن كان فيه) أي وإن كان الفرقان في القرآن ( فإن القرآن يتضمن الفرقان ، والفرقان لا يتضمن القرآن ) أي فإن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع والجمع لا يوجد في التفاصيل ، أو وإن كان الذي أقيم في القرآن ولا يصغى في الفرقان في عين الفرقان فإن التفاصيل موجودة في الجمع ، وأهل كل مرتبة في مراتب التفصيل أهل تفرقة فرقانية في عين الجمع كقوم نوح فإنهم أهل الحجاب وعباد الكثرات ، لا يجيبون إلى التوحيد وتنزيه التجريد .
ومن كان مرتبته الجمع كنوح عليه السلام يطلع على مراتبهم ويعذر الكل ، ويعلم أن إنكارهم عين الإقرار وفرارهم عين الإجابة ، كما قال على كرم الله وجهه : يشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذى الجحود ( ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلَّم ، وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ) أي ولأن القرآن يتضمن الفرقان إنما اختص به محمد عليه الصلاة والسلام وأمته لأنه الخاتم .
فكان جامعا لمقتضيات جميع الأسماء بجمع التنزيه والتشبيه في أمر واحد ، كما قال ( فليس كمثله شيء ، فجمع الأمور في أمر واحد ) وأثبت الفرق في الجمع والجمع في الفرق ، وحكم بأن الواحد كثير باعتبار والكثير واحد بالحقيقة ، ولهذا بعث عليه الصلاة والسلام بالحنيفية السمحة السهلة ، وأما صاحب الفرقان فأمره صعب ودعوته أصعب وأشق ، لأنه إن دعا إلى التنزيه والتوحيد والجمع بدون التفصيل أجابوه بمفهوم قوله : " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ " . فلا فرق بين الهادي والمضل ولا بين العاصي والمطيع ، بل لا عاصى في هذا الشهود كما أجاب قوم نوح دعوته ، وإن دعا إلى التشبيه والتفصيل أجابوه بمثل قول قوم موسى " أَرِنَا الله جَهْرَةً " - وقولهم – " اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ " - لأن الداعي في شق والمدعو في شق ، فكل يرجع جانبه ويخالف عن سمته إلى ما يقابله ، بخلاف من جمع بين الجمع والتفصيل والتشبيه والتنزيه .
( فلو أن نوحا عليه السلام يأتى بمثل هذه الآية لفظا لأجابوه ، فإنه شبه ونزه في آية واحدة بل في نصف آية ) أي كانت دعوة نوح عليه السلام إلى التنزيه المحض ، لكون قومه محتجبين بعبادة الأصنام لتأدية دعوة الأنبياء السالفة إلى نفى الكثرة الأسمائية المؤدية إلى ذلك ، فنفروا عن ذلك نفور الضد عن الضد .
فلو جمع بين التنزيه والتشبيه كما ذكر في الآية لأجابوه لوجود المناسبة


مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم القَيْصَري 751هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد. فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال الشيخ رضي الله عنه : "فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم".
أي، علم الراسخون في العلم بالله وأسمائه وصفاته الذين هم أصحاب الكشف والشهود، معنى ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه سرا بلسان الذم من حيث صورة الشريعة، وهو الثناء عليهم في الحقيقة.
وذلك لأنهم قبلوا دعوته بالفعل لا بالقول: فإنه دعاهم إلى الاسم الظاهر، وهو عالم الملك، ثم إلى الاسم الباطن، وهو عالم الملكوت، ثم إلى الفناء في الله، ذاتا ووجودا وصفة وفعلا، كما مر تقريره آنفا، ولم يف استعدادهم بالترقي إلى هذا الكمال، فسدوا آذانهم من إجابة دعوته مكرا منهم وحيلة ليدعو عليهم بظهور الحق بالتجلي الذاتي بصفة القهارية، فيحصل لهم الكمال المدعو إليه بلسان نبيهم بإجابة دعائه.
فدعا عليهم وأوصلهم بكمالهم رحمة منه عليهم في صورة النقمة. كما يشاهد اليوم فيمن ابتلي بامر منهي لا يقدر على استخلاص نفسه من تلك الخصلة الذميمة، ويحصل له الملامة بسببها كل حين، أنه يطلب من الحاكم إفناء نفسه بلسان قاله وحاله ليخلصه منها. وهذا حال العارفين منأمته.
وأما حال المؤمنين المحجوبين منهم والكافرين به فأيضا كذلك، وإن لم يعرفوا ذلك. فإن كل أحد له كمال يليق باستعداده.
والنبي رحمة من الله إلى أمته يوصل كلا منهم إلى كماله، لذلك دعا عليهم جملة.
والشيخ رضي الله عنه  نزل الآيات كلها بما يليق بحال الكمل المهديين منهم، لأنهم هم الأناسي في الحقيقة لا غير.
(وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان.) أي، وعلم نوح، عليه السلام، أنهم إنما لم يجيبوا دعوته بالقول لما فيها من الفرقان، أي بين الحق والخلق الذي هو المظاهر، أو بين التشبيه والتنزيه.
والكمال التام القرآن، أي الجمع بينهما، لأنه مأخوذ من (القرء) وهو الجمع.
وليس ذلك مقامه، وإلا كان الواجب عليه أن يأتي بالقرآن الجامع بين التشبيه والتنزيه ليؤمنوا به وبربه، إذ السعي والاجتهاد على الأنبياء، بكلما يقدرونه ،واجب عليهم.
ويجوز أن يكون (علم) بتشديد اللام، من (التعليم) عطفا على (أشار).
أي، أشار بهذا القول: وعلم العلماء أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لإتيانه بالفرقان.
(ومن أقيم في القرآن لا يصغى إلى الفرقان) أي، ومن أقيم في مقام الجمع بين التشبيه والتنزيه، كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يصغى إلى قول من يقول بالفرقان المحض كالمنزه وحده، كنوح عليه السلام، والمشبه وحده ، كقومه.
فمن يكون قائلا بالشق الآخر من الفرقان، وهو التشبيه، فهو بالطريق الأولى أن لا يصغى إلى قول من يقول بالتنزيه المحض فقط.
ومن أقيم في مقام الجمع الذي هو حق بلا خلق، كالمجذوبين والموحدين الصرفة، لا يقدر على إصغاء مرتبة الفرق بين الحق والخلق وبين التنزيه والتشبيه، كما يقدر على إصغائه الكامل، فإنه يرى الخلق في مقامه، والحق في مقامه، ويجمع بينهما في كل من المقامين، كذلك في التشبيه والتنزيه.
(وإن كان فيه، فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن.)
(إن) للمبالغة. أي، وإن كان الفرقان حاصلا في القرآن. فإن القرآن لكونه مقام الجمع يتضمن الفرقان، وهو مقام التفصيل، فيجمع صاحبه بينهما. فما يحكم عليه الفرقان، من التشبيه والتنزيه، أجزاء لمقام القرآن دون العكس.
ويجوز أن يعود ضمير (كان) إلى (من). أي، وإن كان من أقيم في القرآن ومقام الجمع هو في حين الفرقان، لأنه محجوب بالحق عن الخلق، وبالجمع عن الفرق، (ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس".) أي، ولكون المقام القرآني الجمعي بين مقامي التنزيه والتشبيه أكمل من مقام كل منهما، ما اختص به إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، لأنه مظهر الاسم الأعظم الجامع للأسماء، فله مقام الجمع وبتبعيته لأمته التي هي خير أمة.
(فليس كمثله، فجمع الأمر في أمر واحد).
(فجمع) يجوز أن يكون مبنيا للمفعول، أي، اختص محمد، صلى الله عليه وسلم، بهذا المقام. فذكر فيما أنزل إليه: (ليس كمثله شئ) فجمع بين مقامي التنزيه والتشبيه في كلام واحد. ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل.
فمعناه: اختص محمد، صلى الله عليه وسلم ،بمقام الجمع، فجاء بقوله تعالى: (ليس كمثله شئ) فجمع بين المقامين.
فمقامه جامع بين الوحدة والكثرة، والجمع والتفصيل، و التنزيه والتشبيه، بل جميع المقامات الأسمائية، لذلك نطق القرآن المجيد بكلها.
(فلو أن نوحا، عليه السلام، أتى بمثل هذه الآية لفظا، أجابوه).
أي، بمثل قوله تعالى: (ليس كمثله شئ). (فإنه) أي فإن النبي، صلى الله عليه وسلم.
(شبه ونزه في آية واحدة بل في نصف آية).
الآية هي: (ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير). ونصفها: (ليس كمثله شئ). والنصف الآخر: "و هو السميع البصير". فإن في كل من النصفين تشبيها وتنزيها، كما مر بيانه.


خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين المهائمي 835 هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد.فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال رضي الله عنه : "فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد."
فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من إجابة دعوته. (فعلم العلماء بالله) الواقفون على تأثيرات الدعوات في التعريف بقدر جمعیتها.
والتغير بقدر نوريتها (ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم) حيث علموا وجوب إجابة دعوته لما فيها من الجمعية الحقيقية (بلسان الذم) حيث لم ينقادوا لما علموا وجوبه، بل اتبعوا نفوسهم الأمارة، فاقتصروا على ما فيها من التفرقة بحسب اللفظ.
(وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته) بالقول فيه إشارة إلى أن معرفة أرواحهم وجوب إجابته، إجابة من وجه، بل من كل وجه لو لم يعقبهم ظلمات نفوسهم الأمارة التي أقرتها باقتصار النظر في اللفظ المفرق (لما فيها من الفرقان)، أي: ذكر التشبيه بلفظ والتنزيه بآخر، وكذا ذكر الظاهر بلفظ، والباطن بآخر فلم تتم نوریتها بحيث تجذب أرواحهم جدا قويا إلى ما فاضت هي منه من الحضرة الإلهية.
( والأمر) أي: الذي منه فيض أرواحهم (قرآن) جامع بين حضرة الوجوب، وهي حضرة التنزيه والبطون، وبين حضرة الإمكان، وهي حضرة التشبيه والظهور من غير افتراق بينهما، كما قال: (لا فرقان) فلو دعا بطريق القرآن لأثرت دعوته في رفع الحجب الظلمانية من كل وجه، فانجذبت أرواحهم إلى مقارها الأصلية، وتركت متابعة النفوس الأمارة، فلما دعا بطريق الفرقان بقیت الحجب.
وذلك لأن (من أقيم) أي: كان مقيما في الأصل (في القرآن)، وهي الأرواح قبل التعلق بالأشباح (لا يصغي إلى الفرقان) إصغاء ينجذب به لا محالة إلى مقره الأصلي، إلا إذا كان ممن سفل من رؤية التفرقة إلى رؤية الجمع، وإليه الإشارة بقوله: (ولو كان) أي: الفرقان المدعو إليه في دعوة نوح بحسب اللفظ (فيه) أي: في القرآن إذ كل كثرة ترجع إلى الوحدة فلو كانت أرواحهم كاملة لرجعت إلى القرآن عند رؤية هذا الفرقان (فإن القرآن يتضمن الفرقان)، فإن النظر إلى الأجزاء المتفرقة مفرق عن النظر إلى الهيئة المجموعية، إلا في حق الكمل الذين لا يحجبهم شيء عن شيء.
(ولهذا) أي: ولكون القرآن متضمنا للفرقان شاملا على أجزائه جامعا للمعارف (ما اختص بالقرآن) أي: الدعوة الجامعة بين التنزيه والتشبيه (إلا) من كانت نبوته جامعة الأسرار النبوة، وولايته الأسرار الولاية (محمد ، وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس)، وإذا كان القرآن مخصوصا بمحمد ، وهذه الأمة (وليس کمثله" [الشورى: 11]) أي: مثل محمد وأمته ("شيء" [الشورى:11]) في كمال النبوة والولاية وجمعيتهما، ولما كملت جمعيتهم إلى هذا الحد.
(فجمع الأمرين) أي: الأمر معارف من تقدم من الأنبياء والأولياء ""أي أمر التنزيه والتشبيه"" (في أمر واحد) جاء فيه بالتفرقة باعتبار، والجمعية بأخر فهذا اقتباس لطيف وإيهام بديع، وإذا كانت إجابة الأرواح المحتجبة بالحجب الكثيفة الظلمانية مختصة بالقرآن الجاذب بنوریته لها إلى مقارها، بحيث تتبعها النفوس الأمارة بالقسر.
قال رضي الله عنه : (فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال رضي الله عنه : (فلو أن نوحا عليه السلام أتي بمثل هذه الآية لفظا)، وفيه إشارة إلى أنه جاء بهذه المعرفة معنی وحقيقة؛ ولكن كان لفظه قاصرا عنها موهما للتفرقة، (لأجابوه) بغلبة نورانیتها على ظلماتهم، إذ للجمعية نورهم عظيم، سيما إذا كانت جامعة للجمعية والتفرقة جميعا.
والآية كذلك (فإنه) أي: مثل هذه الآية (شبه) بقوله: ("وهو السميع البصير" [الإسراء: 1])، (ونزه) بقوله: "ليس كمثله شيء" [الشورى:11] ففيه تفرقة من وجه وإن كان (في آية واحدة).
ثم أشار إلى وجه الجمع بقوله: (بل في نصف آية)، وهو قوله: "ليس كمثله شيء" [الشورى:11]، إذ فيه نفي المثل وإثباته، وكذا في قوله: "وهو السميع البصير" [الإسراء: 1]، إثبات التشبيه ونفيه.


شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة 835 هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد.  فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعلم العلماء باللَّه ما أشار إليه نوح في حقّ قومه من الثناء عليهم بلسان الذمّ ) في مقابلة ما صدر عنهم من إجابة دعوته في صورة الإباء والاستكبار ، والقيام بما يجب عليهم من عين العصيان والإصرار .
وأمثال هذه الإشارات إنّما يفهمها العلماء باللَّه ، ممن له ذوق المشرب الختميّ الإحاطيّ ، حتّى يعرف شرب كلّ من الأنبياء من ذلك المجمع المعتنق للأطراف ، وقدر ما لكلّ منهم من الدخل فيه ، فهذا دخل نوح فيه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وعلم) أيضا أولئك العلماء ( أنّهم إنما لم يجيبوا دعوته ) بلسان التلقّي والإقبال على ما هو المفهوم من لفظ الإجابة مطلقا ( لما فيها من الفرقان ) على ما هو مقتضى بعثته من الستر والإخفاء ، الذي عليه قهرمان زمانه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والأمر ) في نفسه وبحسب الكمال الإنسانيّ الذي جبّل عليه حقيقته ( قرآن ) ضرورة أنّه الكون الجامع المتّصف بالوجود ، وهو إنّما يقتضي الوحدة الجمعيّة القرآنيّة ، إذ لا كثرة في الوجود و ( لا فرقان ) فيه أصلا ، فإنّه إنّما يقتضيه العدم ضرورة أنّه كونيّ .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن أقيم ) بحسب حقيقته الأصليّة ( في القرآن ) ويكون موطنه هناك ( لا يصغي إلى الفرقان ، وإن كان فيه ) بحسب نشأتها الطارية عليها في كلمته الظاهرة في ذلك الزمان ، وذلك هو الذي أوقع كلمته هناك بحسب تطوّراته الاستيداعيّة .
وذلك وإن كان لسانه المفصح عنه ولكن ما طلب فهمه ، إلَّا مقتضى حقيقته الأصليّة فلذلك ما أصغى إلى الفرقان لعدم دلالته على القرآن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ القرآن ) الجمعيّ الوجوديّ ( يتضمّن الفرقان ) الفرقيّ الكونيّ ، ضرورة أنّ الجمع يستوعب جميع ما في التفرقة من الأفراد ، مع الهيئة الجمعيّة التي ليس فيها شيء من ذلك ، فله دلالة عليه بالتضمّن ( والفرقان ) الفرقىّ ( لا يتضمّن القرآن ) الجمعيّ ولا دلالة عليه أصلا ، فلذلك ما أصغي إليه فظهر أنّ صاحب الجمعيّة هو القرآن ، فيكون القرآن أكمل من الفرقان .
وهاهنا تلويح له مزيد دخل في تبيين هذا الكلام وتحقيقه ، وهو أنّ الألف والنون - على أيّ ترتيب كان إذا كان تامّ الدلالة يدلّ على النفس والذات ، التي هي مبدأ ظهور الوجود ومصدر إظهار العلم ، الذي مظهره الكلام لا غير ، والذي يصلح لظهور ذلك فيه من الكائنات الإنسان ، وما يظهره من جوارحه أعني اللسان والبنان .
ثمّ إنّ الإنسان مشتمل عليها ظاهرا وباطنا : أمّا باطنا فلأنّ حقيقته هي البرزخ بين العلم والوجود ، وأمّا ظاهرا فلأنّ صورته كونيّة وجوديّة ، فهي مشتملة عليهما كما سبق بيانه ، ولذلك تراه محفوفا بهما  .
وأمّا البنان والبيان : وإن كان بحسب المعنى والبطون لهما الإحاطة بالعلم والوجود بسائر مراتبهما ، لكن صورتهما كونيّة صرفة ، فلذلك تراهما متأخّرين فيهما وفي الفرقان والقرآن ، اللذين بهما تمّ صور تنوّعاتهما .
ثمّ إنّ القرآن له خصوصيّة إلى الكمال الإنساني ، وهي أنّه إذا حوسب عقدا ما يمتاز به عن الإنسان ونسب إلى ما به يمتاز الإنسان عنه يكون ذلك نسبة النصفيّة التي هي أخصّ نسبة بالجمعيّة ، وذلك لأنّ النصف هو البرزخ الجامع وأمّا الفرقان فإذا حوسب كذلك يكون ذلك النسبة هو الثلثية ، التي هي التفرقة الصرفة .
وإذ قد عرفت إنّ الرسل إنّما أرسلت بلسان قومهم ، وهو ما ظهر عليهم في طيّ نشأتهم الطارية على أصلهم ، ليتدرّجوا بها إلى فهم القرآن الكماليّ الذي هو كمال آدم بحسب حقيقته الإنسانيّة ، ظهر لك أنّ صاحب القرآن لا يكون إلَّا خاتما .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا ما اختصّ بالقرآن إلَّا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ) الذي به تمّ دائرة الكمال الإنساني ، وبتلك النقطة حصل لها الصورة الجمعيّة الوحدانيّة وجودا وشهودا ، ظهورا وإظهارا ، شعورا وإشعارا وذلك لأنّ سائر الأنبياء لهم العلم بالجمعيّة القرآنيّة ، فلهم الظهور به ، ولكن أمر إظهاره متوقّف على أنّ أمم زمانه مستعدّون لأن يكونوا امّة الخاتم ، وإليه أشار بقوله رضي الله عنه: ( وهذه الامّة التي هي خير امّة أخرجت للناس ) بميامن مناسبتهم له وحسن تأسّيهم به .
ومن التلويحات التي لها كثير دخل ها هنا أنّ للإنسان من العقود ، التسعة المتّسعة للكلّ ، وأمّا محمد فقد اشتمل عليها بزيادة اثنين : أحدهما إشارة إلى كماله ، والآخر إلى ختمه ، ولا يخفى على الفطن أنّ العقد الإنسانيّ بضم هذا الواحد الكماليّ إليه قد بلغ إلى ما يرجع إلى الواحد الجامع بين الوحدة والكثرة ، فمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم هو الواحد الجامع إنسانا وبيانا ، ظهورا وإظهارا ، فهو المثل الذي لا يمكن مثله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فليس كمثله شيء ، فجمع الأمر في أمر واحد ) لأنّه قد أدرج كلَّا من المتقابلين في الآخر ، والأمر لا يخلو منهما فجمع الكل في واحد .
وأمّا نوح : وإن كان له أيضا ذلك العقد الكامل رسالة ونبوّة ولكن ما ظهر في « محمد » من الزيادة الختميّة قد تبطَّن فيه منفصلا ، وما ظهر فيه من الكثرة الفرقيّة تبطن في « محمد » متوصّلا مجتمعا ، ولذلك ما كان له أن يظهر مثل ذلك الإظهار ، ولا أن يأتي بيانا تامّا وكلمة جامعة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلو أنّ نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا أجابوه ) وفي قوله : « لفظا » إشعار بما سبق من أنّ الرسل ما يظهرون الحقائق في صورة الألفاظ ذات الإنباء إلَّا مطابقين للسان أممهم الظاهرة به ، فلذلك ما أتى نوح بالقرآن لفظا ، وأتى به محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّه شبّه ونزّه في آية واحدة ، بل في نصف آية ) على ما سبق بيانه   .


شرح الجامي لفصوص الحكم الشيخ نور الدين عبد الرحمن أحمد الجامي 898 هـ :
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد. فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،)
قال رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله) وأسمائه وصفاته أو العلماء به لا لأنفسهم (ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم) معنی (لسان الذم) صورة .وعلموا، أي العلماء بالله . وفي النسخة المقروءة على الشيخ رضي الله عنه (وعلم) باعتبار كل واحد هو عطف على قوله : علم العلماء عطف تفسير فإن فيه الثناء عليهم بلسان الذم
(أنهم)، أي قوم نوح عليه السلام (إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان) بين التنزيه والتشبيه فتارة دعاهم إلى التنزيه وتارة دعاهم إلى التشبيه ولم يجمع بينهما. (والأمر) في نفسه (قرآن) وجمع بينهما فإن التنزية إنما هو باعتبار الاسم الباطن والتشبيه باعتبار الاسم الظاهر وهو سبحانه باطن في غير ظاهريته وظاهر في عين باطنيته (لا فرقان) وتمييز بينهما.
قال رضي الله عنه : (و علم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان و إن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان و الفرقان لا يتضمن القرآن. و لهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه و سلم و هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. فـ « ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد.).
(وعلم) باعتبار كل واحد هو عطف على قوله : علم العلماء عطف تفسير فإن فيه الثناء عليهم بلسان الذم (أنهم)، أي قوم نوح عليه السلام (إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان) بين التنزيه والتشبيه فتارة دعاهم إلى التنزيه وتارة دعاهم إلى التشبيه ولم يجمع بينهما. (والأمر) في نفسه (قرآن) وجمع بينهما فإن التنزية إنما هو باعتبار الاسم الباطن والتشبيه باعتبار الاسم الظاهر وهو سبحانه باطن في غير ظاهريته وظاهر في "عين باطنيته " (لا فرقان) وتمييز بينهما.
(ومن أقيم في القرآن) والجمع بين التشبيه والتنزيه وإن كانت تلك الإقامة بحسب الفطرة الأصلية المعتبرة بالأمور العادية كما كانت لقوم نوح عليه السلام فإن كل من له جهة روحانية وجهة جسمانية فهو ممن أقيم بحسب فطرته الأصلية في القرآن وإن غلبت عليه إحدى الجهتين .
(لا يصغي إلى الفرقان) ولا يقبله بحسب فطرته الأصلية (وإن كان)، أي المقيم في القرأن بحسب فطرته (فيه)، أي في الفرقان بحسب الأمور العادية الخارجية عن فطرته فان ما بالذات لا يزول بالعرض، وإنما لا يصغي إلى الفرقان.
(فإن القرآن يتضمن الفرقان)، فإن الجزء لا يتضمن الكل فالقرآن أكمل من الفرقان و من الفطرة السليمة الإنسانية، لا يميل إلى المفضول مع وجود الفاضل.
فعلم من ذلك أن فرار قوم نوح و تصاممهم عن دعوته إلى الفرقان إنما كان لكونهم مقيمين بحسب فطرتهم وإن لم يشعروا بذلك في القرآن فذكروا فرارهم وتصاممهم، وإن كان بحسب الظاهر ذما لهم، فهو بحسب الحقيقة ثناء عليهم.
(ولهذا)، أي لكون القرآن أكمل من الفرقان (ما اختص بالقرآن) وما فاز به (إلا محمد صلى الله عليه وسلم ) بالأصالة (وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ) [آل عمران : 110] بالمتابعة .
والمراد بالقرآن الذي اختص به محمد صلى الله عليه وسلم وأمته إنما هو الحقيقة السوائية الاعتدالية الجامعة بين التنزيه والتشبيه وسائر المتقابلات بحيث لا يغلب أحد المتقابلين على الآخر في مرتبة من المراتب.
لأن مجرد الجمعية الفطرية المذكورة آنفا ، فإنها مشتركة بين جميع الأفراد الإنسانية (فقال "ليس كمثله شيء" [الشورى : 11]) .، أي التنزيه "ليس كمثله، شيء".
إلى آخره (فجمع الأمرين)، أي أمر التنزيه والتشبيه (في أمر واحد)، أي آية واحدة وهي مجموع تلك الآية أو كلام واحد وهو كل واحد من نصفيها وقوله بجميع الأمر. هكذا وقع في النسخة المقروءة على الشيخ رضي الله عنه ويوافقه نسخة شرح الجندي رحمه الله .
وفي بعض النسخ فجمع بصيغة الماضي مصدرة بالفاء مبنية للفاعل أو المفعول ويوافقه نسخة شرح القيصري، أي فيما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم قوله : "ليس كمثله - شيء " إلى آخره فجمع فيه أمر التنزيه والتشبيه في آية واحدة أو كل من جزئيها .


واتساب

No comments:

Post a Comment