Thursday, July 11, 2019

السفر العاشر فص حكمة أحدية في كلمة هودية الفقرة الثانية والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر العاشر فص حكمة أحدية في كلمة هودية الفقرة الثانية والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر العاشر فص حكمة أحدية في كلمة هودية الفقرة الثانية والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله

10 - The Wisdom Of Unity In The Word Of HUD

الفقرة الثانية والعشرون :
شرح فصوص الحكم من كلام الشيخ الأكبر ابن العربي أ. محمد محمود الغراب 1405 هـ:
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إن لله الصراط المستقيم ... ظاهر غير خفي في العموم
في صغير وكبير عينه ... وجهول بأمور وعليم
ولهذا وسعت رحمته ... كل شيء من حقير وعظيم "2"
«ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم».
فكل ماش فعلى صراط الرب المستقيم.
فهو غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ولا ضالون. فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي السابقة.
وكل ما سوى الحق دابة فإنه ذو روح. وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره. فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم، فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه.)
..............................................................
1 - المناسبة في تسمية هذا الفص :
هو أن لكل دابة صراطا مستقيما تمشي عليه وهو قول هود عليه السلام « ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقیم » .
ولهذا كانت المناسبة مع الأحدية فإن الخط المستقيم الذي يصل بين البداية والنهاية واحد لا ثاني له .
ولذلك خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه السلام وسلم خطا ثم خط على جانبيه خطوطا ثم تلا « وأن هذا صراطي مستقیما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ».
 فإذا عرف الصراط بالألف واللام أو بالاضافة فهو صراط واحد وهو شرع الله تعالى المنزل من عنده ، وإذا نكر الصراط فهو أيضا واحد وهو ما يمشي عليه المكلف إما إلى سعادته أو شقاوته فإن الله آخذ بناصيته على هذا الصراط ، ومن هنا كان مذهب الشيخ رضي الله عنه عدم سرمدة العذاب وشمول الرحمة فإن المكلف مجبور في اختياره .
2- راجع هامش رقم 1  
ص 143
قال الشيخ رضي الله عنه : (
إذا دان لك الخلق ... فقد دان لك الحق  "3"
و إن دان لك الحق ... فقد لا يتبع الخلق "4"
فحقق قولنا فيه ... فقولي كله الحق  "5"
فما في الكون موجود ... تراه ما له نطق  "6"
وما خلق تراه العين ... إلا عينه حق
ولكن مودع فيه ... لهذا صوره حق   "7"
اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة. "8"
فإن الله تعالى يقول : «كنت )
..............................................................
3 - « دان له » أي أطاعه يشير بذلك أن الخلق إذا تبعك وأطاعك فقد دان لك الحق فإنه هو الآخذ بناصية الخلق .
4 - « وإن دان لك الحق » من قوله تعالى في الحديث القدسي « عبدي كن لي كما أريد أكن لك كما تريد » ومن قوله تعالى « أجيب دعوة الداعي » « فقد لا يتبع الخلق ، فليس كل الخلق على الصراط المستقيم الذي تدعو إليه وإن كانوا على صراط مستقیم .
5 - وهو الفرق بين الصراط المستقيم و بين قوله تعالى «إن ربي على صراط مستقیم» فكله حق .
6 - هو قوله تعالی " وإن من شيء إلا يسبح بحمده".
7 - إشارة إلى أنه تعالى "هو الظاهر في المظاهر"  وإلى الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة وما يقوله العامة عنها "وحدة الوجود" .
8 - العلوم الإلهية الذوقية
علوم الأذواق لا سبيل إليها إلا بالذوق، فلا يقدر عاقل على أن يحدها ولا يقيم على معرفتها دليلا، كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق وما شاكل هذا النوع من العلوم.
فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد إلا بأن يتصف بها ويذوقها ، وبالذوق تتميز الأشياء عند العارفين .
والكلام على الأحوال لا يحتمل البسط وتكفي فيه الإشارة إلى المقصود ، ومهما بسطت القول
ص  144
قال الشيخ رضي الله عنه : ( سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها. فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد. فالهوية واحدة والجوارح )
..............................................................
فيه أفسدته ، فعلوم الأذواق لا تنقال ولا تنحكي ، ولا يعرفها إلا من ذاقها ، وليس في الإمكان أن يبلغها من ذاقها إلى من لم يذقها .
وبينهم في ذلك تفاضل لا يعرف ، ولا يمكن أن يعرف عين ما فضله به ، وما من أمر إلا وهو يقبل التعبير عنه ، ولا يلزم من ذلك فهم السامع الذي لا يفهم ذلك الاصطلاح ولا تلك العبارة ، فإن علوم الأذواق والكيفيات وإن قبلت لا تنقال ، ولكن لما كان القول بها والعبارة عنها لإفهام السامع .
لذلك قالوا ما ينقال ، ولا يلزم ما لا يفهم السامع - المدرك له أن لا يصطلح مع نفسه على لفظ بدل به على ما ذاقه ، ليكون ذلك اللفظ منبها ومذكرة له إذا نسي ذلك في وقت آخر ، وإن لم يفهم عنه من لا ذوق له فيه ، فالله يرزقنا الإصابة في النطق والإخبار عما أشهدناه وعلمناه من الحق علم کشف و شهود وذوق ، فإن العبارة عن ذلك فتح من الله تأتي بحكم المطابقة ، وكم من شخص لا يقدر أن يعبر عما في نفسه، وكم من شخص تفسد عبارته صحة ما في نفسه ، والصحيح أن كل علم لا يكون عن ذوق فليس بعلم أهل الله .
ولما كانت العلوم تعلو وتنضع بحسب المعلوم ، لذلك تعلقت الهمم بالعلوم الشريفة العالية التي إذا اتصف بها الإنسان زکت نفسه وعظمت مرتبته ، فأعلاها مرتبة العلم بالله .
وأعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجليات ، ودونها علم النظر ، فالتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم ، وهي علوم الأذواق .
ولما لم تر إلا التقليد ترجح عندنا تقلید هذا المسمى برسول والمسمى بکلام الله ، وعملنا عليه تقليدا حتى كان الحق سمعنا وبصرنا فعلمنا الأشياء بالله .
فرجال الله علموا الله بإعلام الله ، فكان هو علمهم كما كان بصرهم.
 فمثل هؤلاء لو تصور منهم نظر فکري لكان الحق عين فكرهم كما كان عين علمهم وعين بصرهم وسمعهم ، لكن لا يتصور من يكون مشهده هذا وذوقه أن يكون له فكر البتة في شيء إنما هو مع ما يوحي إليه على اختلاف ضروب الوحي ، وإنه من ضروب الوحي الفهم عن الله ابتداء من غير تعكر ، فإن
ص  145  


قال الشيخ رضي الله عنه : ( مختلفة. "9"
ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح، كالماء حقيقة واحدة مختلف في الطعم باختلاف البقاع، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت )
..............................................................
أعطي الفهم عن تفكر فما هو ذلك الرجل فإن الفهم عن الفكر يصيب وقتا ويخطىء وقتا ، والفهم لا عن فكر وحي صحيح صريح من الله لعبده ، وذوق الأنبياء عليهم السلام في هذا الوحي يزيد على ذوق الأولياء .
وأهل الله من الأنبياء والأولياء ينسبون فيما يدركونه من العلوم على غير الطريق المعتادة ، فإذا أدركوها تسبوا إلى تلك الصفة التي أدركوا بها المعلومات ، فيقولون فلان صاحب نظر أي بالنظر يدرك جميع المعلومات .
وهذا ذقته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفلان صاحب سمع ، وفلان صاحب طعم ، وصاحب نفس وأنفاس يعني الشم ، وصاحب لمس.
فمن علوم الوهب العلم عن النظرة والضربة والرمية وكيف نقوم هذه الأمور مقام کلام العالم للمتعلم ، وذوقنا من هذا الفن ذوق النظرة فتستفاد علوم كثيرة من مجرد ضرب أو نظر ، قد رأينا هذا كله بحمد الله من نفوسنا فلا نشك فيه .
الفتوحات ج 1 / 31 ، 166 ، 214 ، 483 ، 551 - ج 2 / 298 ، 482 ، 608 ، 754 .
ج 3 / 60 - ج 4 / 38 .
9 -  فإذا أحببته كنت سمعه .. الحديث
اعلم أن القرب قربان:
قرب في قوله تعالى «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد » وقوله تعالى «وهو معكم أينما كنتم».
وقرب هو القيام بالطاعات وهو المقصود في هذا الحديث ، فالقرب الذي هو القيام بالطاعات فذلك القرب من سعادة العبد من شقاوته ، وسعادة العبد في نيل جميع أغراضه كلها ، ولا يكون ذلك إلا في الجنة ، وأما في الدنيا فإنه لابد من ترك بعض أغراضه القادحة في سعادته .
فالقرب من السعادة بأن يطيع ليسعد ، وهذا هو الكسب في الولاية بالمبادرة لأوامر الله التي ندب إليها ، أما قوله « من أداء ما افترضته عليه » لأنها عبودية اضطرارية « ولا يزال
ص 146


قال الشيخ رضي الله عنه : ( طعومه.
وهذه الحكمة من علم الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه: «ومن تحت أرجلهم». فإن الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه والمشي فيه، والسعي لا يكون إلا بالأرجل.
فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط )  
..............................................................
العبد يقترب إلي بالنوافل » وهي عبودية اختيار « حتى أحبه » .
إذ جعلها نوافل ، فإذا ثابرت على أداء الفرائض فإنك تقربت إلى الله بأحب الأمور المقربة إليه ، وإذا کنت صاحب هذه الصفة كنت سمع الحق و بصره .
وتكون يدك يد الحق « إن الذين بیا یعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم » وهذه هي المحبة العظمى التي ما ورد فيها نص جلي كما ورد في النوافل ، فإن للمثابرة على النوافل حبا إلهيا منصوصا عليه يكون الحق سمع العبد ونظره ، فانظر ما تنتجه محبة الله ، فثابر على أداء ما يصح به وجود هذه المحبة الإلهية .
ولا يصح نفل إلا بعد تكملة الفرض ، فالحق سبحانه روح العالم وسمعه وبصره ويده ، فبه يسمع العالم و به يبصر وبه يتكلم وبه يبطش و به يسعى ، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ولا يعرف هذا إلا من تقرب إلى الله بنوافل الخيرات ، كما ورد في الحديث الصحيح ، فانتبه لقوله « كنت سمعه الذي يسمع به ولسانه الذي يتكلم به وما تكلم إلا القائل في الشاهد وهو الإنسان، وفي الإيمان الرحمن ، فمن كذب العيان كان قوي الإيمان ، ومن تردد في إيمانه تردد في عيانه ، فلا إيسان عنده ولا عيان ، فما هو صاحب مكان ولا إمكان .
ومن صدق العيان وسلم الإيمان كان في أمان ، فإن الله أثبت أن ذلك للعبد بالضمير عينه عبدا لا ربوبية له ، وجعل ما يظهر به وعليه ومنه أن ذلك هو الحق تعالى لا العبد فما ثم إلا حق لحق وحق لخلق ، فحق الحق ربوبيته ، وحق الخلق عبوديته.
فنحن عبيد وإن ظهرنا بنعوته ، وهو ربنا وإن ظهر بنعوتنا ، فإن التعوت عند المحققين لا أثر لها في العين المنعوتة.
ولهذا تزول بمقابلها إذا جاء ولا تذهب عينا .
فقوله تعالی « كنت سمعه وبصره » جعل کینوتنه سمع عبد منعوت بوصف خاص ، وهذا أعظم اتصال يكون من الله بالعبد حيث يزيل قواه من قواه ويقوم بکینوته في العبد مقام ما أزال على ما يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تكييف ولا حصر ولا إحاطة ولا حلول
ص 147
قال الشيخ رضي الله عنه : (
مستقيم إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق. "10"
«فيسوق المجرمين» وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم- وهو عين الأهواء التي كانوا عليها- إلى جهنم، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه.
فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب "11" فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون.
فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة.
فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب. "12"
«ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون»: وإنما هو يبصر فإنه مكشوف الغطاء «فبصره حديد». وما خص ميتا من ميت أي ما خص سعيدا في القرب من شقي. )
..............................................................
ولا بدليه ، فإنه أثبت عين الشخص بوجود الضمير في قوله « كنت سمعه » فهذه الهاء عينه ، والصفة عين الحق لا عينه ، فالشخص محل لأحكام هذه الصفات التي هي عين الحق لا غيره .
كما يليق بجلاله ، فنعته سبحانه بنفسه لا بصفته ، فهذا الشخص من حيث عينه هو ومن حيث صفته لا هو ، وهذا من ألطف ما يكون فظهور رب في صورة خلق عن إعلام إلهي لا تعرف له کيفية ولا تنفك عنه بينية .
والكرامة التي حصلت لهذا الشخص إنما هي الكشف والاطلاع لا أنه لم يكن الحق سمعه ثم كان ، والجاهل إذا سمع ذلك أداه إلى فهم محظور من حلول أو تحديد ، فبالوجه الذي يقول فيه الحق إنه سمع العبد به بعينه يقول إنه حياة العبد وعلمه وجميع صفاته .
فمثلا سر الحياة سري في الموجودات فحييت بحياة الحق ، فهي نسب وإضافات وشهود حقائق ، والله هو العلي الكبير عن الحلول والمحل.
الفتوحات ج 3 / 14 ، 63 ، 68 ، 184 ، 298 ، 356 ، 531 ، 557 .
ج 4 / 5 ، 362 ، 449 .
10 - هو قوله في أول الفص « ولهذا وسعت رحمته كل شيء » .
11 ، 12  - هو القرب الأول المشار إليه في رقم .9
ص 148


قال الشيخ رضي الله عنه : (
«ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» وما خص إنسانا من إنسان. فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي.
فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق متوهم.
فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود.
وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود. "13"
فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه.
فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها، فهي في حقه صراط مستقيم.
ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر.
فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة.
فهذا علم خاص يأتي من أسفل سافلين، لأن الأرجل هي السفل من الشخص، وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق. فمن عرف أن الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه جل وعلا تسلك وتسافر إذ لا معلوم إلا هو، وهو عين الوجود والسالك والمسافر. "14"
فلا عالم إلا هو فمن أنت؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت.
وهو لسان حق فلا يفهمه إلا من فهمه حق: فإن للحق نسبا كثيرة و وجوها مختلفة: ألا ترى عادا قوم هود كيف «قالوا هذا عارض ممطرنا» فظنوا خيرا بالله تعالى وهو عند ظن عبده به.
فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقى الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم»: فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة، وفي هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوف. فباشرهم العذاب فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه فدمرت كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقية.
فزالت حقية هذه النسبة الخاصة وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ.
وقد ورد النص الإلهي بهذا كله،"15" إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة)
  
..............................................................
13 - هو القرب الثاني المشار إليه في رقم ۰9
14 - وحدة الوجود فص 5 هامش 6.
راجع الفقرة 
15 - إشارة إلى المآل للرحمة - راجع شمول الرحمة فص 7 رقم ۰17
"" 17 ۔ شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب  ص 117
من اختصاص البسملة في أول كل سورة تتويج الرحمة الإلهية في منشور تلك السورة أنها منه كعلامة السلطان على مناشيره، وسورة التوبة والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلين ، فإن فصلها وحكم بالفصل فقد سماها سورة التوبة ، أي سورة الرجعة الإلهية بالرحمة على من غضب عليه من العباد ، فما هو غضب أبد لكنه غضب أمد ، والله هو التواب .
 فما قرن بالتواب إلا الرحيم ليؤول المغضوب عليه إلى الرحمة ، أو الحكيم لضرب المدة في الغضب وحكمها فيه إلى أجل ، فيرجع عليه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذي نعت به التواب تجد حكمه کما ذكرنا ، والقرآن جامع لذكر من رضي عنه وغضب عليه ، وتتويج منازله بالرحمن الرحيم ، والحكم للتتويج ، فإنه به يقع القبول ، وبه يعلم أنه من عند الله ، فثبت انتقال الناس في الدارين في أحوالهم من نعيم إلى نعيم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعيم ، من غير مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » أن هذا القدر مدة إقامة الحدود .
خلق الله الخلق قبضتين فقال هؤلاء للنار ولا أبالي ، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي .
فمن كرمه تعالی لم يقل هؤلاء للعذاب ولا أبالي وهؤلاء إلى النعيم ولا أبالي وإنما أضافهم إلى الدارين ليعمروها ، فإنه ورد في الخبر الصحيح أن الله لما خلق الجنة والنار قال لكل واحدة منهما لها علي" ملؤها ، أي أملؤها سكانا ، فيستروح من هذا عموم الرحمة في الدارين وشمولها حيث ذكرهما ولم يتعرض لذكر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشيء من ذلك .
فكان معنى « ولا أبالي » في الحالتين لأنهما في المال إلى الرحمة ، فلذلك لا يبالي فيهما ، ولو كان الأمر كما يتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة.
ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا كان البطش الشديد ، فهذا كله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم يكن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قيل في أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقين ، وقال في أهل التقاء « وأعد لهم عذابا أليما » فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحكم .
فما أعظم رحمة الله بعباده وهم لا يشعرون ، فإن الرحمة الإلهية وسعت كل شيء ، فما ثم شيء لا يكون في هذه الرحمة « إن ربك واسع المغفرة » فلا تحجروا واسعا فإنه لا يقبل التحجير ، ولقد رأيت جماعة ممن ينازعون في اتساع رحمة الله وأنها مقصورة على طائفة خاصة ، فحجروا وضيقوا ما وسع الله .
فلو أن الله لا يرحم أحدا من خلقه لحرم رحمته من يقول بهذا ، ولكن أبي الله تعالى إلا شمول الرحمة ، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » ، وما خص مؤمنا من غيره ، والله أرحم الراحمين كما قال عن نفسه .
وقد وجدنا من نفوسنا ، وممن جبلهم الله على الرحمة انهم يرحمون جميع العباد ، حتى لو حكمهم الله في خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم ، بما تمكن حكم الرحمة من قلوبهم .
وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالي مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جل علاه أنه أرحم الراحمين ، فلا شك أنه أرحم منا بخلقه ، و نحن قد عرفنا من تفوسنا هذه المبالغة في الرحمة .
فكيف يتسرمد، عليهم العذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ، إن الله أكرم من ذلك ، ولا سيما وقد قام الدليل العقلي على أن الباريء لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المخالفات، وان كل شيء جار بقضائه وقدره وحكمه.
وأن الخلق مجبورون في اختيارهم ، وقد قام الدليل السمعي أن الله يقول في الصحيح « يا عبادي » فأضافهم إلى نفسه ، وما أضاف الله قط العباد لنفسه إلا من سبقت له الرحمة ألا يؤبد عليهم الشقاء وإن دخلوا النار .
فقال : « يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا » .
وهذه مسألة المكاشف لها قليل ، والمؤمن بها أقل ، وهو سر عجيب ، ما رأينا أحدا نبه عليه من خلق الله ، وإن كانوا قد علموه بلا شك ، وما صانوه والله أعلم إلا صيانة لأنفسهم ورحمة بالخلق .
لأن الإنكار يسرع إليه من السامعين ، ووالله ما نبهت عليه هنا إلا لغلبة الرحمة عليه في هذا الوقت ، فمن فهم سعد ومن لم يفهم لم يشق بعدم فهمه وإن كان محروما ، فقد أظهرت أمرا في هذه المسألة لم يكن باختياري ، ولكن حق القول الإلهي بإظهاره ، فكنت فيه كالمجبور في اختياره ، والله ينفع به من يشاء لا إله إلا هو .
الفتوحات : ج 2 / 148 ، 244 ، 674 - ج 3 / 25 ، 100 ، 101 ، 383 .
 ج 4 / 163 .  ""
ص  149


قال الشيخ رضي الله عنه : (
ومن غيرته «حرم الفواحش» وليس الفحش إلا ما ظهر.
وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له. فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة وهو أنت من الغير.
فالغير يقول السمع سمع زيد، والعارف يقول السمع عين الحق، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء. "16" فما كل أحد عرف الحق:
فتفاضل الناس وتميزت المراتب فبان الفاضل والمفضول.
واعلم أنه لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ست وثمانين و خمسمائة، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، و رأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها."17"
ودليلي على كشفه لها قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم»."18" وأي بشارة للخلق أعظم من هذه؟   ) 
..............................................................
16 - راجع رقم 9 « كنت سمعه » ، رقم 14 وحدة الوجود .
17 - ذكرت بالفتوحات المكية ج 4 / 77 .
18 - قول هود عليه السلام « ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقیم».
ما جاء في هذه الفقرة من قوله « ودليلي على كشفه لها » لا يصح صدوره عن الشيخ لأنه يناقض الثابت من قوله « ذوق الأنبياء عليهم السلام في هذا الوحي يزيد على ذوق الأولياء » .
وقوله «لا يتكلم في الرسل إلا رسول ولا في الأنبياء إلا نبي » وقوله « إني لست بنبي فذوق الأنبياء لا يعلمه سواهم » وقوله في هذه الآية بالذات « إن الرسل لا تقول على الله إلا ما تعلمه منه فهم أعلم الخلق بالله ».
فهل بعد هذا يحتاج الشيخ إلى دليل ؟!
"" تعقيب من الجامع : الحقيقة كل كلام قاله نبي الله هود عليه السلام فى الأيات قاله الله تعالى في القرآن بعد أن تم وانتهى فقد قاله هود عليه السلام في زمانه سابقا واصبح قصص للعبلاة تروى: "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)سورة هود.
فما وجه الاستدلال هنا بـ «لا يتكلم في الرسل إلا رسول ولا في الأنبياء إلا نبي » وقوله « إني لست بنبي فذوق الأنبياء لا يعلمه سواهم » لأن المتكلم هنا هو الله عز وجل والعلم هنا من لله والقرآن كلام الله الى العالمين كافة وليس كلام الشيخ ابن العربي إلى العالمين كافة .
الأمر هنا آيات القرآن الكريم وليست تجلي خاص أو رؤيا او كشف خاص بالشيخ ابن العربي فلا محل هنا للمعارضة ونفي الأمر عن الشيخ ؟! ""
الفتوحات ج 2 / 85 ، 563 - ج 4 / 38 ، 85.
أما فهمه في هذه الآية فانظر إلى جمیل بیانه حيث يقول :
أتي بالصراط نكرة لأنه على كل صراط شهيد ، وجاء في فاتحة الكتاب في « اهدنا الصراط المستقيم » بالتعريف ، لأنه صراط مخصوص وهو المؤدي إلى السعادة ، ومع هذا فإن القول من الكلام القديم ، والقرآن الحكيم ، جاء به الرؤف
ص 150


قال الشيخ رضي الله عنه : (
ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن، ثم تمها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان: أي  )
..............................................................
الرحيم ، الخبير بما هناك العليم ، فمع الحق مشي من مشى ، وما تشاؤن إلا أن يشاء .
فالسعادة كاملة ، والرحمة شاملة ، فإن أهل الاستقامة في الاستقامة هم أهل السلامة في القيامة ، وأما الماشي في الاستقامة بغير استقامة فهو المنحاز من دار الكرامة ، وكما أنه سبحانه في قبلة المصلي فهو تعالى من ورائه محیط.
فهو السابق والهادي ، فهو سبحانه الذي نواصي الكل بيده ، الهادي إلى صراط مستقیم ، والذي يسوق المجرمين إلى جهنم وردا ، وإليه يرجع الأمر كله ، وإن كان الصراط المستقيم الذي عليه الرب الكريم يتضمن الخير والشر ، والنفع والضر ، والفاجر والبر « ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقیم » وهو البر الرحيم ، فلا ينفع الاحتجاج بما سبق ، وإن كان حقا ، فهي حجة لا تنفع قائلها ، ولا تعصم حاملها ، لما يؤدي إليه من درس الطريق الأمم ، الذي أجمع على صحته الأمم .
« ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها » دخل في حكم هذه الآية جميع ما دب علوا وسفلا ، دخول ذلة وعبودية لأنها أعطته بحقيقتها وقبولها التمكن من الأخذ بناصيتها إذلالا ، لأنها عبد، وكل من أخذ بناصيته فهو ذليل ، والكل عبيد الله تعالى .
فالكل أذلاء بالذات وهو العزيز الحكيم ، وإنما جعل يده بناصيتك ابتغاء عافيتك ، فأثبت أمرا هو عليه وما سواه فانظر من يصل إليه ، وهذا من كرمه وسابقة قدمه ، فما ثم إلا مستقیم ، وعلى منهج قويم ، لأنه بيد الكريم.
وتدل هذه الآية على أنه ما ثم إلا من الحق آخذ بناصيته ، ولا يمكن إزالة ناصيته من يد سيده ، وشكر لفظ دابة ، فعمه ، فهو مسلوك به ، سالك بحكم الجبر .
هكذا قال هود عليه السلام ، فلهذا كان المآل إلى الرحمة ، وإذا أدركه في الطريق النصب ، فتلك أعراض عرضت له ، فإنه أخبر بأنه تعالى على صراط مستقیم ، فما ثم إلا من هو مستقيم على صراط الرب ، فهذه الآية دليل لمن قال بالجبر، ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام « إنه ربي على صراط مستقیم ، فيما شرع مع کونه آخذا بنواصي عباده إلى ما أراد وقوعه
ص 151


قال الشيخ رضي الله عنه : (
هو عين الحواس. والقوى الروحانية أقرب من الحواس. فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد. فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقاتله لقومه بشرى لنا، وترجم )  


..............................................................
منهم ، وعقوبته إياهم مع هذا الجبر ، فاجعل بالك وتأدب واسلك سواء السبيل ، فهذه آية بشرى لنا ، فما في العالم إلا مستقیم ، لأن الآخذ بناصيته هو الماشي به .
وهو على صراط مستقیم ، فكل حركة وسكون في الوجود فهي إلهية ، لأنها بيد حق ، وصادرة عن حق ، موصوف بأنه على صراط مستقیم ، بإخبار الصادق .
فإن الرسل لا تقول على الله إلا ما تعلمه منه ، فهم أعلم الخلق بالله ، وليس للكون معذرة أقوى من هذه ، فمن رحمة الرسل بالخلق تنبيه الخلق على مثل هذا، فإن الله أخبر عن نبيه ورسوله هود عليه السلام قوله هذا .
وما خطا هذا الرسول في هذا القول ، ومعلوم أن تصرف كل دابة قد يتعلق به لسان حمد أو ذم لأمور عرضية في الطريق عينتها الأحوال وأحكام الأسماء .
والأصل محفوظ في نفس الأمر تشهده الرسل عليهم السلام والخاصة من عباد الله ، ومع هذا التحقيق فإن قوله « إن ربي على صراط مستقيم » من حيث ما يقود الماشي عليه إلى سعادته ، وعلى هذا الصراط كل دابة عسومة ما عدا الإنس والجن ، فإنه ما دخل من الثقلين إلا الصالحون منهم خاصة ، ولو دخل جميع الثقلين لكان جميعهم على طريق مستقیم.
نصيحة لا تجعل زمامك إلا بيد ربك فإن له كما قال يدين كما أنه قد أخبرك أن يده بناصيتك اضطرارا ، فاجعل زمامك بيده اختیارا ، فتجني ثمرة الاختيار والاضطرار بجمعك بين اليدين ، واعلم أن العباد في قبضة الحق .
قال تعالى « ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها » لما هي مصرفة فيه ، فالكل في قبضته من قضائه في قضائه .
ومع ذلك عليك بأمر الحق فاتبعه ، ولا تغتر بكونك لا ترى شيئا إلا تحت تصريفه وحكم إرادته ، هذا لا ينجيك والأخذ بأمر الحق ينجيك ، لكن انظر ذلك عقدا وتصرف بالأمر .
الفتوحات ج 1 / 406 ، 426  - ج 2 / 217 ، 478 ، 563 .
ج 3 / 410 ، 413  - ج 4 / 273 ، 364 ، 366 ، 384 ، 400.
ص 152

قال الشيخ رضي الله عنه : (
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مقالته بشرى: فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم "19" «وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون» فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم و نفاسة و ظلما.
وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه.
أوله العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء. فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق. ثم ذكر أنه استوى على العرش، فهذا أيضا تحديد.
ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا فهذا تحديد. ثم ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض وأنه معنا أينما كنا إلى أن أخبرنا أنه عينا.
ونحن محدودون، فما وصف نفسه إلا بالحد. وقوله ليس كمثله شيء حد أيضا إن أخذنا الكف زائدة لغير الصفة. ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود. فالإطلاق عن التقيد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم.
وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا «ليس كمثله شيء» على نفي المثل تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها. فهو محدود بحد كل محدود.
فما يحد شيء إلا وهو الحق. فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود. فهو عين الوجود،20 «وهو على كل شيء حفيظ» بذاته، «ولا يؤده» حفظ شيء. فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشي ء غير صورته.
ولا يصح إلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود. فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير."21"
فهو الكون كله ... وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه "22" ... ولذا قلت يغتذي   )

..............................................................
كتاب التراجم - كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن قارن بين جزالة اللفظ هنا في تفسير هذه الآية والتحقيق ، وبين ما جاء في هذا الفص .
19 - الإشارة إلى شمول الرحمة .
راجع البند 15
20 - وحدة الوجود راجع فص 5 ، رقم 6 ص 45.
  ""   6 - وحدة الوجود – المرايا  ص 45

اعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها :
وهي الوجود المطلق الذي لا يتقيد وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه .
والمعلوم الآخر العام المطلق الذي هو عدم لنفسه وهو الذي لا يتقيد أصلا وهو المحال ،
والعلوم الثالث هو البرزخ الذي بين الوجود المطلق والعدم المطلق وهو الممكن ، وسبب نسبة الثبوت إليه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرين بذاته .
 وذلك أن العدم المطلق قام للوجود المطلق كالمرآة فرأي الوجود فيه صورته فكانت تلك الصورة عين الممكن ، فلهذا كان للممكن عين ثابتة وشيئية في حال عدمه ولهذا خرج على صورة الوجود المطلق .
ولهذا أيضا اتصف بعدم التناهي فقيل فيه إنه لا يتناهی ، وكان أيضا الوجود المطلق كالمرآة للعدم المطلق فرأى العدم المطلق في مرآة الحق نفسه .
فكانت صورته التي رأي في هذه المرأة هو عين العدم الذي اتصف به هذا الممكن ، وهو موصوف بأنه لا يتناهی كما أن العدم  المطلق لا يتناهی ، فاتصف الممکن بأنه معدوم ، فهو كالصورة الظاهرة بين الرائي والمرأة ، لا هي عين الرائي ولا غيره.

وقد علمنا أن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق ، إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا ، كما تحدث صورة المرئي في المرآة ، ينظر الناظر فيها، فهو بذلك النظر كأنه أبدعها مع كونه لا تعمل له في أسبابها، ولا يدري ما يحدث فيها .
ولكن بمجرد النظر في المرآة ظهرت صور ، هذا أعطاه الحال ، فما لك في ذلك من التعمل إلا قصدك النظر في المرآة .
ونظرك فيها مثل قوله « إنما قولنا لشيء إذا أردناه » وهو قصدك النظر « أن نقول له کن » وهو بمنزلة النظر « فیکون » وهو بمنزلة الصورة التي تدركها عند نظرك في المرآة ،.
ثم إن تلك الصورة ما هي عينك الحكم صفة المرآة فيها من الكبر والصغر والطول والعرض ، ولا حكم لصورة المرآة فيك فما هي عينك ولا عين ما ظهر ممن ليس أنت من الموجودات الموازية لنظرك في المرآة ، ولا تلك الصورة غيرك ، لما لك فيها من الحكم .

فإنك لا تشك أنك رأيت وجهك ، ورأيت كل ما في وجهك ظهر لك بنظرك في المرآة من حيث عين ذلك لا من حيث ما طرأ عليه من صفة المرآة ، فما هو المرئي غيرك ولا عينك ، كذلك الأمر في وجود العالم الحق .
أي شيء جعلت مرآة أعني حضرة الأعيان الثابتة أو وجود الحق، فإما أن تكون الأعيان الثابتة الله مظاهر ، فهو حكم المرآة في صورة الرائي ، فهو عينه وهو الموصوف بحكم المرآة ، فهو الظاهر في المظاهر بصورة المظاهر.
أو يكون الوجود الحق هو عين المرآة ، فترى الأعيان الثابتة من وجود الحق ما يقابلها منه ، فترى صورتها في تلك المرآة و يترائي بعضها البعض ، ولا ترى ما ترى من حيث ما هي المرآة عليه ، وإنما ترى ما ترى من حيث ما هي عليه من غير زيادة ولا نقصان .
وكما لا يشك الناظر وجهه في المرآة أن وجهه رأي ، وبما للمرآة في ذلك من الحكم يعلم أن وجهه ما رأى .

فهكذا الأمر فانسب بعد ذلك ما شئت كيف شئت ، فإن الوجود للعين الممكنة كالصورة التي في المرآة ، ما هي عين الرائي ولا غير الرائي ، ولكن المحل  المرئي فيه به و بالناظر المتجلي فيه ظهرت هذه الصورة ، فهي مرآة من حيث ذاتها والناظر ناظر من حيث ذاته والصورة الظاهرة تتنوع بتنوع العين الظاهرة فيها .


کالمرأة إذا كانت تأخذ طولا ترى الصورة على طولها والناظر في نفسه على غير تلك الصورة من وجه ، وعلى صورته من وجه ، فلما رأينا المرآة لها حكم في الصورة بذاتها ورأينا الناظر يخالف تلك الصورة من وجه .
علمنا أن الناظر في ذاته ما أثرت فيه ذات المرآة ، ولما لم يتأثر ولم تكن تلك الصورة هي عين المرأة ولا عين الناظر ، وإنما ظهرت من حكم التجلي للمرآة ، علمنا الفرق بين الناظر وبين المراة وبين الصورة الظاهرة في المرآة التي هي غيب فيها ، ولهذا إذا رؤي الناظر يبعد عن المرآة يرى تلك الصورة تبعد في باطن المرآة ، وإذا قرب قربت .
وإذا كانت في سطحها على الاعتدال ورفع الناظر يده اليمنى رفعت الصورة اليد اليسرى ، تعرفه إني وإن كنت من تجليك وعلى صورتك فما أنت أنا ولا أنا أنت ، فإن عقلت ما نبهناك عليه فقد علمت من أين اتصف العبد بالوجود، ومن هو الموجود، ومن أين اتصف بالعدم، ومن هو المعدوم ومن خاطب ومن سمع ومن عمل ومن كلف .
وعلمت من أنت ومن ربك وأين منزلتك ، وأنك المفتقر إليه سبحانه وهو الغني عنك بذاته.
فسبحان من ضرب الأمثال وأبرز الأعيان دلالة عليه أنه لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا ، وليس في الوجود إلا هو ، ولا يستفاد الوجود إلا منه، ولا يظهر الموجود عين إلا بتجليه.

فالمرأة حضرة الإمكان والحق الناظر فيها والصورة أنت بحسب إمكانيتك ، فإما ملك وإما فلك وإما إنسان وإما فرس ، مثل الصورة في المرآة بحسب ذات المرآة من الهيئة في الطول والعرض والاستدارة واختلاف أشكالها مع كونها مرآة في كل حال.

كذلك الممكنات مثل الأشكال في الإمكان والتجلي الإلهي يكسب الممكنات الوجود والمرآة تكسبها الأشكال ، فيظهر الملك و الجوهر والجسم والعرض ، والإمكان هو هو لا يخرج عن حقیقته ، وأوضح من هذا البيان في هذه المسألة لا يمكن إلا بالتصريح ، فقل في العالم ما تشاء و انسبه إلى من تشاء بعد وقوفك على هذه الحقيقة كشفة وعلما .
راجع الفتوحات ج3/ 46 , 80 , 352 . - ج4/ 316. ""



21 - العالم على صورة الحق فص 1 رقم ۰3

""  4 . خلق الله آدم على صورته   ص 24
اعلم أنه لا يصح أن يكون شيء من العالم له وجود ليس هو على صورة الحق، فنسبة الحق إلى الخلق نسبة الإنسان إلى كل صنف من العالم ، والعالم عند الجماعة، هو إنسان كبير في المعنى والجرم.
يقول الله تعالى : "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون" .
فلذلك قلنا في المعنى ، وما في العلم عن الكل وإنما نقاه عن الأكثر ، والإنسان الكامل من العالم وهو له کالروح لجسم الحيوان ، وهو الإنسان الصغير ، وسمي صغيرا لأنه انفعل عن الكبير وهو، مختصر فالمطول العالم كله والمختصر الإنسان الكامل ، فالإنسان آخر موجود في العالم لأن المختصر لا يختصر إلا من مطول وإلا فليس بمختصر ، فالعالم مختصر الحق والإنسان مختصر العالم والحق ، فهو نقاوة المختصر.

فلما كان العالم على صورة الحق وكان الإنسان الكامل على صورة العالم وصورة الحق وهو قوله : " إن الله خلق آدم على صورته"، فليس في الإمكان أبدع ولا أكمل من هذا العالم إذ لو كان لكان في الإمكان ما هو أكمل من الله .
 فإن آدم وهو من العالم قد خلقه الله على صورته ، وأكمل من صورة الحق فلا يكون ، وما كملت الصورة من العالم إلا بوجود الإنسان .
فمن كل شيء في الوجود زوجان الأن الإنسان الكامل والعالم بالإنسان الكامل على صورة الحق ، فامتاز الإنسان الكامل عن العالم مع كونه من كمال الصورة للعالم الكبير بكونه على الصورة بانفراده ، من غير حاجة إلى العالم .


فالإنسان الكامل وحده يقوم مقام الجماعة ، فإنه أكمل من عين مجموع العالم إذ كان نسخة من العالم حرفا بحرف (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) ، ويزيد أنه على حقيقة لا تقبل التضاؤل « خلق الله آدم على صورته » .

فحاز الإنسان الكامل صورة العالم وصورة الحق ففضل بالمجموع فجعل الحق الإنسان الكامل نسخة من العالم كله ، فما من حقيقة في العالم إلا وهي في   الإنسان .

فهو الكلمة الجامعة وهو المختصر الشريف وجعل الحقائق الإلهية التي توجهت على إيجاد العالم بأسره متوجهة على إيجاد هذه النشأة الإنسانية الإمامية ، فخلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم ، وأبرزه نسخة كاملة جامعة لصورة حقائق الحدث وأسماء القديم ، أقامه سبحانه معنى رابطا للحقیقتين ، وأنشأه برزخا جامعا للطرفين والرقيقتين ، أحكم بيديه صنعته وحسن بعنايته صبغته ، وكانت مضاهاته للأسماء الإلهية بخالقه، ومضاهاته للأكوان العلوية والسفلية بخلقه، فتميز عن جميع الخلائق بالخلقة المستقيمة والخلائق ، عين سبحانه سره مثالا في حضرة الأسرار ، ومیز نوره من بين سائر الأنوار ، وقصب له کرسي العناية بين حضرتيه ، وصرف نظر الولاية والنيابة فيه وإليه .

فلم يخلق الله تعالى الإنسان عبثا بل خلقه ليكون وحده على صورته ، فكل من في العالم جاهل بالکل عالم بالبعض ، إلا الإنسان الكامل وحده ، فإن الله علمه الأسماء كلها وآتاه جوامع الكلم ، فكملت صورته ، فجمع بين صورة الحق وصورة العالم ، فكان برزخا بين الحق والعالم ، مرآة منصوبة ، يرى الحق صورته في مرآة الإنسان ، ويرى الخلق أيضا صورته فيه ، لأن الإنسان فيه مناسب من كل شيء في العالم ، فيضاف كل مناسب إلى مناسبه بأظهر وجوهه ، ويخصصه الحال والوقت والسماع بمناسب ما دون غيره من المناسب ، إذا كان له مناسبات كثيرة لوجوه كثيرة يطلبها بذاته، فمن حصل هذه المرتبة حصل رتبة الكمال الذي لاأكمل منه في الإمكان، ومعنى رؤية صورة الحق فيه ، إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه ، كما جاء في الخبر

"فبهم تنصرون" ، والله الناصر « وبهم ترزقون » والله الرازق « وبهم ترحمون ، والله الراحم ، وقد ورد في القران فيمن علمنا كماله صلى الله عليه وسلم واعتقدنا ذلك فيه أنه « بالمؤمنين رؤوف رحيم » ، « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » أي لترحمهم ، والتخلق بالأسماء يقول به جميع العلماء ، فالإنسان متصف يسمى بالحي والعالم المريد السميع البصير المتكلم القادر وجميع الأسماء الإلهية من أسماء تنزيه وأفعال .

ولذلك عبر عن الإنسان الكامل بمرآة الحق ، والحقيقة من قوله تعالی " ليس كمثله شيء " وهي مثلية لغوية ، وذلك عند بروز هذا الموجود في أصفى ما يمكن وأجلي ، ظهر فيه الحق بذاته وصفاته المعنوية لا النفسية ، وتجلى له من حضرة الجود ، وفي هذا الظهور الكريم قال تعالى : « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم »

فالإنسان الكامل له الشرف على جميع من في السماء والأرض ، فإنه العين المقصودة للحق من الموجودات ، لأنه الذي اتخذه الله مجلي ، لأنه ما كمل إلا بصورة الحق ، كما أن المرآة وإن كانت تامة الخلق فلا تكمل إلا بتجلي صورة الناظر ، فتلك مرتبتها والمرتبة هي الغاية .

راجع فتوحات  ج3 /152, 315 ,331 , 398 , 409.
 ج4 / 21 , 132 , 230 , 231 , 409.  عقلة المستوفز ۔ ذخائر الأعلاق ""


22 - وحدة الوجود ، الظاهر في المظاهر ، ص ۰84

"" 6 - وحدة الوجود - الظاهر في المظاهر ص 84
الموجودات على تفاصيلها في ظهور الحق في مظاهر أعيان الممكنات بحكم ما هي الممكنات عليه من الاستعدادات ، فاختلفت الصفات على الظاهر لأن الأعيان التي ظهر فيها مختلفة ، فتميزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعيان وتميزها في نفسه فما في الوجود إلا الله وأحكام الأعيان ، وما في العدم شيء إلا أعيان الممكنات مهيأة للاتصاف بالوجود .
فهي لا هي في الوجود ، لأن الظاهر أحكامها فهي ، ولا عين لها في الوجود فلا هي ، كما هو لا هو .
لأنه الظاهر فهو والتميز بين الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحكام الأعيان فلا هو ، فيا أنا ما هو أنا ولا هو ما هو هو .
مغازلة رقيقة وإشارة دقيقة ردها البرهان ونفاها ، و أوجدها العيان وأثبتها .
ما من شيء في تفاصيل العالم إلا وفي الحضرة الإلهية صورة تشاكل ما ظهر ، أي يتقيد بها، ولولا هي ما ظهر .
فإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة ، وكل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة ، والإرادة الإلهية إنما متعلقها إظهار التجلي في المظاهر ، أي في مظهر ما ، وهو نسبة .
فان الظاهر لم يزل موصوفا بالوجود ، والمظهر لم يزل موصوفا بالعدم ، فإذا ظهر أعطى المظهر حكما في الظاهر بحسب حقائقه النفسية .
فانطلق على الظاهر من تلك الحقائق التي هو عليها المظهر المعدوم حكم يسمى إنسانا أو فلكا أو ملكا أو ما كان من أشخاص المخلوقات .
كما رجع من ذلك الظهور للظاهر اسم يطلق عليه يقال به خالق وصانع ، وضار ونافع ، وقادر.
وما يعطيه ذلك التجلي من الأسماء ، وأعيان الممكنات على حالها من العدم كما أن الحق لم يزل له حكم الوجود .
فحدث لعين الممكن اسم المظهر ، و للمتجلي فيه اسم الظاهر .
فأعطى استعداد مظهر ما أن يكون الظاهر فيه مكلفا ، فيقال له افعل ولا تفعل ، ويكون مخاطبا بأنت وكاف الخطاب .
واعلم أن التجلي الذاتي ممنوع بلا خلاف بين أهل الحقائق في غير مظهر .
فوقتا يكون المظهر جسميا و وقتا يكون جسمانيا ووقتا جسديا ، ووقتا يكون المظهر روحيا ووقتا روحانیا.
فالتجلي في المظاهر هو التجلي في صور المعتقدات وهو كائن بلا خلاف.
والتجلي في المعقولات كائن بلا خلاف . وهما تجلي الاعتبارات .
لأن هذه المظاهر سواء كانت صور المعقولات أو صور المعتقدات فإنها جسور يعبر عليها بالعلم .
أي يعلم أن وراء هذه الصور أمرا لا يصح أن يشهد ولا أن يعلم .
وليس وراء ذلك المعلوم الذي لا يشهد ولا يعلم حقيقة ما يعلم أصلا .
وأما التجلي في الأفعال ففيه خلاف بين أهل هذا الشأن لا يرتفع دنيا ولا آخرة .
فما في المسائل الإلهية ما تقع فيها الحيرة أكثر ولا أعظم من مسألة الأفعال ، ولاسيما في تعلق الحمد والذم بأفعال المخلوقين.
فيخرجها ذلك التعلق أن تكون أفعال المخلوقين لغير المخلوقين حين ظهورها عنهم ، وأفعال الله كلها حسنة في مذهب المخالف الذي ينفي الفعل عن المخلوق ويثبت الذم للفعل بلا خلاف .
ولا شك عنده في تعلق الذم، بذلك الفعل من الله، فمن الشدائد على أهل الله إذا أوقفهم في حضرة الأفعال ، من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم ، فيلوح لهم ما لا يمكن لهم معه أن ينسبوها إلى أنفسهم ، ويلوح لهم ما لا يتمكن معه أن ينسبوه إلى الله .
فهم هالكون بين حقيقة وأدب ، والتخلص من هذا البرزخ من أشد ما يقاسيه العارفون ، فإن الذي ينزل عن هذا المقام يشاهد أحد الطرفين فيكون مستريحا لعدم المعارض.
فمذهبنا العين الممكنة إنما هي ممكنة لأن تكون مظهرا ، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فيكون الوجود عينها .
إذن فليس الوجود في الممكن عين الموجود ، بل هو حال لعين الممكن ، به يسمى الممكن موجودا مجازا لا حقيقة ، لأن الحقيقة تأبى أن يكون الممكن موجودا ، فلا يزال كل شيء هالك .
 الفتوحات ج1 / 694  , ج 2 / 40 ، 42 ، 99 ، 160 ، 435 ، 606.  ""

ص 153


قال الشيخ رضي الله عنه : (
فوجودي غذاؤه "23" ... وبه نحن نحتذي "24"
فبه منه إن نظرت ... بوجه تعوذي "25"
ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق "26" إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ كان و لا هي، و هو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها.
فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول، و«هو بكل شيء عليم» لأنه بنفسه عليم.
فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى فقال: «اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي» أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردكم إلى انتسابكم إلى . أين المتقون؟
أي الذين اتخذوا الله وقاية فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة، وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع.
وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هوية الحق قوى العبد. فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق على الشهود حتى يتميز العالم من غير العالم.
«قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب» وهم الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء. فما سبق مقصر مجدا كذلك لا يماثل أجير عبدا.
وإذا كان الحق وقاية للحق بوجه والعبد )
..............................................................

23 - الكون غذاء الأسماء - راجع فص 5 رقم 11.

""11 – الغذاء   ص 88
كل غذاء أعلا من حياته المتولدة عنه ، فلا تزال من العالم الأدنۍ ترتقي في أطوار العوالم أغذية وحياة حتى تنتهي إلى الغذاء الأول الذي هو غذاء أغذية الأغذية.
وهي الذات المطلقة ، والأسماء الإلهية أقواتها أعيان آثارها في الممكنات .
فبالآثار تعقل أعيانها ، فلها البقاء بآثارها .
فقوت الاسم أثره، وتقديره مدة حكمه في الممكن أي ممكن كان ، ولما لم يكن في الكون إلا علة و معلول ، علمنا أن الأقوات العلوية والسفلية أدوية لإزالة أمراض ، ولا مرض إلا الافتقار .
فقوت القوت الذي يتقوت به هو استعماله .
 فالمستعمل قوت له لأنه ما يصح أن يكون قوتا إلا إذا تقوت به ، فاعلم من قوتك ومن أنت قوته.
من قدر القوت فقد قدرا     …… والقوت ما اختص بحال الوری
 بل حكمه سار فقد عمنا    …… ونفسه فانظر تری ما تری
 کل تغذي فيه قام في       …… وجوده حقا بغير افتری
فأول رزق ظهر عن الرزاق ما تغذت به الأسماء من ظهور آثارها في العالم ، وكان فيه بقاؤها ونعيمها و فرحها وسرورها .
وأول مرزوق في الوجود الأسماء ، فتأثير الأسماء في الأكوان رزقها الذي به غذاؤها وبقاء الأسماء عليها .
وهذا معنى قولهم إن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت الربوبية ، فإن الإضافة بقاء عينها في المتضايفين ، وبقاء المضافين من كونهما مضافين إنما هو بوجود الإضافة، فالإضافة رزق المتضایفین، و به غذاؤهما وبقاؤهما متضايفين .
فهذا من الرزق المعنوي الذي يهبة الاسم الرزاق ، وهو من جملة المرزوقين .
فهو أول من تغذى بما رزق ، فأول ما رزق نفسه .
ثم رزق الأسماء المتعلقة بالرزق الذي يصلح لكل اسم منها.
وهو أثره في العالم المعقول والمحسوس .
الفتوحات  ج2 / 462 , ج4 / 248 , 409 . أهـ  ""


24 - العالم على صورة الحق فص 1 رقم ۰4
   راجع البند 21

25 - إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم « أعوذ بك منك » .

26 - الحب سبب وجود العالم
الحب أصل سبب وجود العالم والسماع سبب كونه ، و بهذا الحب وقع التنفس. وأظهر العالم نفس الرحمن لإزالة حكم الحب ( الكرب ) وتنفس ما يجد المحب. وخرج ذلك النفس عن أصل محبة في الخلق الذي يريد أن يتعرف إليهم ليعرفوه .
فتوحات ج 2 / 111 ، 428  . راجع فص 1 هامش 3 ص 23

""   3- الحب سبب وجود العالم   ص 23
لما لم يكن علم الله تعالى بالعالم إلا علمه بنفسه إذ لم يكن في الوجود إلا هو.
فما ظهر في الكون إلا ما هو عليه في نفسه ، فلابد أن يكون العالم على صورته ، وصورة العالم على قدر الحضرة الإلهية الأسمائية ، فما في الحضرة الإلهية اسم إلهي إلا وهو على قدر أثره في نشء العالم من غير زيادة ولا نقصان ، فخلق الله العالم
في غاية الإحكام والإتقان كما قال الإمام أبو حامد الغزالي من أنه لم يبق في الإمكان أبدع من هذا العالم ..
فطابق العالم الأسماء الإلهية ، وكأنه تعالى كان باطنا فصار بالعالم ظاهرا ، فعرف نفسه شهودة بالظاهر بقوله : "فأحببت أن أعرف" - الحديث .
ولما أظهر العالم في عينه كان مجلاه ، فما رأي فيه غير جماله ، فالعالم جمال الله، فهو تعالى الجميل المحب الجمال ، ورد في الخبر الصحيح في صحيح مسلم عن رسول الله مع أنه قال : "إن الله جميل يحب الجمال"، فأوجد الله العالم في غاية الجمال والكمال خلقا وإبداعا ، فإنه تعالى يحب الجمال ، وما ثم جميل إلا هو ، فأحب نفسه ثم أحب أن يرى نفسه في غيره ، فخلق العالم على صورة جماله ونظر إليه فأحبه حب من قيده النظر ، فما خلق الله العالم إلا على صورته ، فالعالم كله. جميل وهو سبحانه يحب الجمال.

كلمة الحضرة الإلهية وهي كلمة « کن » : لله تجل في صورة تقبل القول والكلام بترتيب الحروف ، « فكن » عين ما تكلم به فظهر عنه الذي قيل له كن ، فعين الأمر عين التكوين ، وما ثم أمر إلهي إلا كن ، فإذا نظرت إلى تكون العالم من النفس الرحماني الظاهر من محبة الله أن يعرفه خلقه ، علمت أن ما في العالم أو ما هو العالم سوی کلمات الله ، وكلمات الله أمره ، وأمره واحدة كلمح البصر أو هو أقرب .
وعلمت اختصاص كلمة الحضرة من الكلمات بكلمة كن لكل شيء مع اختلاف ما ظهره فليس الكون بزائد على كن بواوها الغيبية ، فظهر الكون على صورة كن ، وكن أمره وأمره كلامه وكلامه علمه ، وعلمه ذاته ، فظهر العالم على صورته ، فليس للحق منزه ولا مجلي إلا العالم.
راجع الفتوحات المكية  ج2 /111 , 345 , 399 , 401 , 402 , 403
ج3/ 151 , ج4/ 269  ""

ص 154


قال الشيخ رضي الله عنه : (
وقاية للحق بوجه، فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الحق الخلق، وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب. ولو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه.
فلا تنظر العين إلا إليه ... و لا يقع الحكم إلا عليه
فنحن له وبه في يديه ... و في كل حال فإنا لديه
لهذا ينكر ويعرف وينزه و يوصف. فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف، ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف. ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل.
وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها فإذا تجلى له الحق فيها و أقر به، و إن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه فلا يعتقد معتقد إلها إلا جعل في نفسه، فالإله في الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم وما جعلوا فيها. "27"
فانظر: مراتب الناس في العلم   )

..............................................................

27 - خلق الله نفسه ؟!
جاء في الخبر « خلق الله نفسه » فردت العقول كلها هذا الخبر لعدم فهمها من ذلك ، وما شعرت بأن كل صاحب مقالة في الله أنه يتصور في نفسه أمرا ما يقول فيه هو الله فيعبده وهو الله لا غيره ، ما خلقه في ذلك المحل إلا الله .
فهذا معنى ذلك الخبر ، واختلفت المقالات باختلاف النظار فيه ، فكل صاحب نظر ما عبد ولا أعتقد إلا ما أوجده في محله ، وما وجد في محله وقلبه إلا مخلوق ، وليس هو الإله الحق .
وفي تلك الصورة أعني المقالة تتجلى له وإن كانت العين من حيث ما هي واحدة ، وهو ظهور الحق في صورة كل اعتقاد لكل معتقد ، ولولا أن له وجها في كل معتقد ما وصف نفسه على ألسنة رسله بالتحول في صور الاعتقادات ، وإنجي الطوائف من اعتقد في الله ما أخبر الحق به عن نفسه على السنة رسله .

فتوحات ج 4 / 211.


"" أضاف الجامع : عن "خلق الله نفسه " يقول إسماعيل حقي الخلوتي في روح البيان فى تفسير القرآن 1127 هـ  الجزء الرابع في تفسير سورة يوسف :
ثم اعلم أن الرؤيا عبارة عن ارتسام صورة المرئي وانتقاشها في مرآة القلب فى النوم دون اليقظة فالرؤيا من باب العلم ولكل علم معلوم ولكل معلوم حقيقة .
وتلك الحقيقة صورته والعلم عبارة عن وصول تلك الصورة الى القلب وانطباعها فيه سواء كان فى النوم أو فى اليقظة .
فلا محل له غير القلب ولما كان عالم الأرواح متقدما بالوجود والمرتبة على عالم الأجسام وكان الإمداد الرباني الواصل الى الأجسام موقوفا على توسط الأرواح بينها وبين الحق .
وتدبير الأجسام مفوض الى الأرواح وتعذر الارتباط بين الأرواح والأجسام للمباينة الذاتية الثابتة بين المركب والبسيط .
فان الأجسام كلها مركبة والأرواح بسيطة فلا مناسبة بينهما فلا ارتباط وما لم يكن ارتباط لا يحصل تأثير ولا تأثر ولا امداد ولا استمداد .
فلذلك خلق الله عالم المثال برزخا جامعا بين عالم الأرواح وعالم الأجسام ليصح ارتباط أحد العالمين بالآخر فيتأتى حصول التأثر والتأثير ووصول الإمداد والتدبير.
وهكذا شأن روح الإنسان مع جسمه الطبيعي العنصري الذي يدبره ويشتمل عليه علما وعملا فإنه لما كانت المباينة ثابتة بين روحه وبدنه وتعذر الارتباط الذي يتوقف عليه التدبير ووصول المدد إليه خلق الله نفسه الحيوانية برزخا بين البدن والروح المفارق .
فنفسه الحيوانية من حيث إنها قوة معقولة هى بسيطة تناسب الروح المفارق ومن حيث أنها مشتملة بالذات على قوى مختلفة متكثرة منبثة فى أقطار البدن متصرفة بتصرفات مختلفة ومحمولة ايضا فى البخار الضبابي الذي فى التجويف الأيسر من القلب الصنوبري .
تناسب المزاج المركب من العناصر فحصل الارتباط والتأثر والتأثير وتأتى وصول المدد وإذا وضح هذا فاعلم أن القوة الخالية التي فى نشأة الإنسان من كونه نسخة من العالم بالنسبة الى العالم المثالي المطلق كالجزء بالنسبة إلى الكل و كالجدول بالنسبة الى النهر الذي هو مشرعه .
وكما أن طرف الجدول الذي يلى النهر متصل به كذلك عالم الخيال الإنساني من حيث طرفه الأعلى متصل بعالم المثال والمثال نوعان : مطلق ومقيد.
فالمطلق ما حواه العرش المحيط من جميع الآثار الدنيوية والأخروية.
والمقيد نوعان :
نوع هو مقيد بالنوم
ونوع غير مقيد بالنوم مشروط بحصول غيبة وفتور ما فى الحس.
 كما فى الواقعات المشهورة للصوفية وأول ما يراه الأنبياء عليهم السلام إنما هو الصور المثالية المرئية فى النوم والخيال .
ثم يترقون إلى أن يروا الملك في المثال المطلق أو المقيد فى غير حال النوم لكن مع نوع فتور فى الحس .
وكونهم مأخوذين عن الدنيا عند نزول الوحي إنما هو مع بقاء العقل والتمييز .
ولذا لا ينتقض حينئذ وضوؤهم ولانهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم لكون بواطنهم محلاة بصفات الله متخلقة بأخلاقه مطهرة عن أوصاف البشرية من الحرص والعجز والأمل والضعف وغير ذلك.أهـ
ومن موسوعة البحوث والمقالات العلمية: في تفسير سورة يوسف : عن "خلق الله نفسه"
أن قوله (كلمته) هو من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فـ (الكلمة) هنا عيسى، وهو مخلوق، لأنه منفصل.
وقد بينا سابقا أن إضافة الشيء القائم بذاته إلى الله، هو من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فيكون المراد بـ (الكلمة) هنا عيسى، وأضافه الله إلى نفسه تشريفا له وتكريما.فإن قلتم: كيف يسمي الله - تعالى -عيسى (كلمة) والكلمة صفة لله؟
فالجواب: أنه ليس المراد هنا الصفة، بل هذا من باب إطلاق المصدر، وإرادة المفعول نفسه، كما نقول: هذا خلق الله، ونعني هذا مخلوق الله، لأن خلق الله نفسه فعل من أفعاله.
لكن المراد هنا المفعول، أي المخلوق،"عيسى عليه السلام"  ومثل ما تقول أيضا: أتى أمر الله، يعني المأمور، أي ما أمر الله به، وليس نفس الأمر، فإن الأمر فعل من الله تعالى. أهـ""


ص 155


قال الشيخ رضي الله عنه : (
بالله تعالى هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة. "28"
وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك. فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم  )  

..............................................................

28 - مراتب الناس في العلم بالله
الناس فيما ورد به التعريف على أحد ثلاثة أمور :
الأمر الأول : من يطعن في الرسل ويجعلهم تحت سلطان الخيال . وهذه الطائفة من الأخسرين الذين أضلهم الله وأعماهم عن طريق الهدى بل في طريق الهدی لو علموا ، فهؤلاء قد جمعوا بين الجهل وبين المروق من الدين فلا حظ لهم في السعادة.
الأمر الثاني: قسم قالوا إن الرسل هم أعلم الناس بالله فتنزلوا في الخطاب على قدر أفهام الناس لا على ما هو الأمر عليه فإنه محال ، فهؤلاء كذبوا الله ورسوله فيما نسب الله إلى نفسه وإلى رسله بحسن عبارة ، كما يقول الإنسان إذا أراد أن يتأدب مع شخص آخر إذا حدثه بحديث يرى السامع في نظره أنه ليس كما قال المخبر فلا يقول له كذبت ، وإنما يقول له يصدق سيدي ولكن ما هو الأمر على هذا وإنما الأمر الذي ذكره سيدي على صورة كذا وكذا فهو يكذبه ويجهله بحسن عبارة . هكذا فعل هؤلاء المتأولون .
وقسم آخر لا يقول بأنه نزل في العبارة إلى أفهام الناس . وإنما يقول ليس المراد بهذا الخطاب إلا كذا وكذا ما المراد منه ما تفهمة العامة .
وهم طائفة من المنزهة عدلت بهذه الكلمات عن الوجه الذي لا يليق بالله تعالى في النظر العقلي .

فعدلت إلى وجه من وجوه التنزيه على التعيين مما يجوز في النظر العقلي أن ينصف به الحق تعالى ، بل هو متصف به ولابد ، وما بقي النظر إلا في أن هذه الكلمة هل المراد بها ذلك الوجه أم لا، ولا يقدح ذلك التأويل في ألوهته .
وربما عدلوا بها إلى وجهين وثلاثة وأكثر على حسب ما تعطيه الكلمة في وضع اللسان ولكن من الوجوه المنزهة لا غير ، فإذا لم يعرفوا من ذلك الخبر أو الآية عند التأويل في اللسان إلا وجها واحدا قصروا الخبر على ذلك الوجه النزيه وقالوا هذا ليس إلا في علمنا وفهمنا ، وإذا

ص 156

قال الشيخ رضي الله عنه : (
بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول «فأينما تولوا فثم وجه الله» وما ذكر )
..............................................................
وجدوا له مصرفین صرفوا الخبر أو الآية إلى تلك المصارف .
وقالت طائفة من هؤلاء ، يحتمل أن يريد كذا ويحتمل أن يريد كذا وتعدد وجوه التنزيه ثم تقول والله أعلم أي ذلك أراد .
وطائفة أخرى تقوى عندها وجه ما من تلك الوجوه النزيهة بقرينة ما قطعت لتلك القرينة بذلك الوجه على الخبر وقصرته عليه ولم تعرج على باقي الوجوه في ذلك الخبر وإن كانت كلها تقتضي التنزيه ، وهذا موجود في اللسان الذي جاء به هذا الرسول ، فهؤلاء أشبه حالا من تقدم إلا أنهم متحكمون في ذلك على الله بقولهم هذا هو المفهوم من اللسان .
وكذلك الذي يعتقده عامة أهل ذلك النسان هو أيضا المفهوم من ذلك فما يمنع أن يكون المجموع فأخطأوا في الحكم على الله بما لم يحكم به على نفسه ، فهؤلاء ما عبدوا إلا الإله الذي ربطت عليه عقولهم وقيدته وحصرته .

وقسم آخر قالوا نؤمن بهذا اللفظ كما جاء من غير أن نعقل له معنى حتى نكون في هذا الإيمان به في حكم من لم يسمع به ونبقى على ما أعطانا دليل العقل من إحالة مفهوم هذا الظاهر من هذا القول ، فهذا القسم متحكم أيضا بحسن عبارة وأنه رد على الله بحسن عبارة فإنهم جعلوا نفوسهم حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب .
وقسم آخر قالوا نؤمن بهذا اللفظ على حد علم الله فيه وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء قد قالوا إن الله خاطبنا عبثا لأنه خاطبنا بما لا تفهم.
والله يقول : « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم » وقد جاء بهذا فقد أبان كما قال الله لكن أبی هؤلاء أن يكون ذلك بيانا ، وهي طائفة لم تشبه ولم تجسم وصرفت علم ذلك الذي ورد في كلام الله ورسله إلى الله تعالى ، ولم تدخل لها قدما في باب التأويل .
وقنعت بمجرد الإيمان بما يعلمه الله في هذه الألفاظ والحروف من غير تأويل ولا صرف إلى وجه من وجوه التنزيه بل قالت لا أدري جملة واحدة ولكني أحيل إبقاءه على وجه التشبيه لقوله تعالى : « ليس كمثله شيء » لا لما يعطيه النظر العقلي ، وعلى هذا فضلاء المحدثين من أهل الظاهر السالمة عقائدهم من التشبيه والتعطيل.

ص 157
قال الشيخ رضي الله عنه : (
أينا من أين. وذكر أن ثم وجه الله، ووجه الشيء حقيقته. فنبه بذلك قلوب العارفين  )
.............................................................
الأمر الثالث : هم الذين كشف الله عن أعين بصائرهم غطاء الجهل ، فأشهدهم آيات أنفسهم و آیات الآفاق فتبين لهم أنه الحق لا غيره .
فآمنوا به بل علموه بكل وجه ، وهي طائفة من المنزهة أيضا وهي العالية وهم من أصحابنا فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها إذ كان المتقدمون من الطوائف المتقدمة المتأولة أهل فکر و نظر و بحث .
فقامت هذه الطائفة المباركة والكل موفقون بحمد الله وقالت حصل في نفوسنا تعظيم الحق جل جلاله بحيث لا تقدر أن تصل إلى معرفة ما جاء من عنده بدقيق فکر ونظر فأشبهت في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم حيث لم ينظروا ولا تأولوا ولا صرفوا بل قالوا ما فهمنا .
فقال أصحابنا بقولهم ، ثم انتقلوا عن مرتبة هؤلاء بأن قالوا لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه الكلمات وذلك بأن تفرغ قلوبنا من النظر الفكري وتجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهيؤ لقبول ما يرد علينا منه تعالى حتى يكون الحق تعالی يتولى تعليمنا على الكشف والتحقيق لما سمعته يقول : «واتقوا الله ويعلمكم الله »

ويقول : « إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا » « وقل رب زدني علما » « وعلمناه من لدنا علما" ، فعندما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله تعالى ولجأت إليه وألقت عنها ما استمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة .
فعندما كان منهم هذا الاستعداد ، تجلى الحق لهم معلما فاطلعتهم تلك المشاهدة على معاني هذه الأخبار والكلمات دفعة واحدة ، وهذا ضرب من ضروب المكاشفة ، فإنهم إذا عاينوا بعيون القلوب من نزهته العلماء المتقدم ذكرهم بالإدراك الفكري ، لم يصح لهم عند هذا الكشف والمعاينة أن يجهلوا خبرا من هذه الأخبار التي توهم ، ولا أن يبقوا ذلك الخبر منسحبا على ما فيه من الاحتمالات النزيهة من غير تعيين ، بل يعرفون الكلمة والمعنى النزيه الذي سيقت له فيقصروها على ما أريدت به له ، وإن جاء في خبر آخر ذلك اللفظ عينه فله وجه آخر من تلك الوجوه المقدسة معين عند هذا المشاهد ، هذا حال طائفة منا .
وطائفة أخرى منا أيضا


ص 158


قال الشيخ رضي الله عنه : (
لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا 29، فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض، فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور.
ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا يلزم في الصورة الظاهرة والحال المقيدة )
..............................................................
ليس لهم هذا التجلي ولكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتابة وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامة عندهم لا يعرفها سواهم ، فيخبرون بما خوطبوا به وما ألهموا به وما ألقي إليهم أو كتب.
وقد تقرر عند جميع المحققين أن الحق تعالى لا تدخل عليه الأدوات المقيدة بالتحديد والتنبيه على حد ما نعقله في المحدثات ولكن تدخل عليه بما فيها من معنى التنزيه والتقديس على طبقات العلماء والمحققين في ذلك لما فيه وتقتضيه ذاته من التنزيه.
الفتوحات ج 1 / 89  - ج 4 / 7 .

29 - مشاهدة الحق في كل اعتقاد
ولله رجال أعطاهم الله الفهم والاتساع وحفظ الأمانة أن يفهموا عن الله جميع إشارات كل مشار إليه، وهم الذين يعرفونه في تجلي الإنكار الشاهدون إياه في كل اعتقاد ، والحمد لله الذي جعلنا منهم إنه ولي ذلك .
قال تعالى : "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " أي حكم ، وقضاء الحق لا يرد ، فقضى أن لا يعبد غير الله ، فمن أجل حكم عبدت الآلهة ، فلم يكن المقصود بعبادة كل عابد إلا الله .
فما عبد شيء لعينه إلا الله ، وإنما أخطأ المشرك حيث تصب لنفسه عبادة بطريق خاص لم يشرع له من جانب الحق ، فشقي لذلك .
فإنهم قالوا في الشركاء « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله » فاعترفوا به وأنزلوهم منزلة النواب الظاهرة بصورة من استنابهم ، وما ثم صورة إلا الألوهية فنسبوها إليهم، فكان قوله تعالى "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" من الغيرة الإلهية حتى لا يعبد إلا من له هذه الصفة .
فكان من قضائه أنهم اعتقدوا الإله وحينئذ عبدوا ما عبدوا ، مع أنهم ما عبدوا في الأرض من الحجارة والنبات والحيوان وفي السماء من الكواكب والملائكة إلا لاعتقادهم في كل معبود أنه إله.
ص 159
قال الشيخ رضي الله عنه : (
 التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته، و هو بعض مراتب وجه لحق من «فأينما تولوا فثم وجه الله». فشطر المسجد الحرام منها، ففيه وجه الله.
ولكن لا تقل هو هنا فقط، بل قف عند ما أدركت و الزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام و الزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة، بل هي من جملة أينيات ما تولى متول إليها. فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة، و ما ثم إلا الاعتقادات. "30"  فالكل مصيب، وكل  )
..............................................................
لا لكونه حجرا ولا شجرا ولا غير ذلك وإن أخطأوا في النسبة فما أخطأوا في المعبود .
فعلى الحقيقة ما عبد المشرك إلا الله ، وهو المرتبة التي سماها إلها لأنه لو لم يعتقد الألوهية في الشريك ما عبده .
فالكامل من عظمت حيرته و دامت حسرته ، ولم ينل مقصوده لما كان معبوده ، وذلك أنه رام تحصیل ما لا يمكن تحصيله ، وسلك سبيل من لا يعرف سبيله. والأكمل من الأكمل من اعتقد فيه كل اعتقاد ، وعرفه في الإيمان والدلائل وفي الإلحاد ، فإن الإلحاد ميل إلى اعتقاد معين من اعتقاد ، فاشهدوه بكل عين إن أردتم إصابة العين ، فإنه عام التجلي ، له في كل صورة وجه ، وفي كل عالم حال.
الفتوحات ج 1 / 238 ، 405 ، 589 - ج 2 / 92 ، 212 ، 326 ، 498 .
ج 4 / 100 ، 101 ، 415.
30 - « فأينما تولوا فثم وجه الله » الآية  
هذه حقيقة منزهة بلا خلاف ، فإن الله جل جلاله عن التقييد .
فهو قبلة القلوب ، فوجه الله موجود في كل جهة يتولى أحد إليها ، ولابد لكل مخلوق من التولي إلى أمر ما، ووجه الشيء ذاته وحقيقته ، فكما نسب الحق الفوقية لنفسه من سماء وعرش ، نسب لنفسه الإحاطة بالجهات كلها بقوله « فأينما تولوا فثم وجه الله » لحكم المراتب ، فإن الله تعالى جعل وجهه في كل جهة ليعصم من شاء ويحفظ من شاء ، فإن الحق مع بعض عباده بالولاية والعناية وبالكلاءة والرعاية .
فله تعالى عين في كل أین ، ومع هذا لو تولى الإنسان في صلاته إلى غير الكعبة مع علمه بجهة الكعبة لم تقبل صلاته ، لأنه ما شرع له إلا استقبال هذا البيت الخاص بهذه العبادة الخاصة .
فإذا تولى في غير هذه العبادة التي لا تصح إلا بتعيين هذه الجهة الخاصة فإن الله يقبل ذلك التولي، مثل الصلاة على الراحلة ، فالمستقبل لا يتقيد فهو بحسب ما تمشي به
ص 160
قال الشيخ رضي الله عنه : (
مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضي عنه وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة.
فقد مرض وتألم أهل العناية- مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق- في الحياة الدنيا. فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم، و مع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم، أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان و الله أعلم . "31"   )
..............................................................
الراحلة ، كما أنه لو اعتقد ان كل جهة يتولى إليها ما فيها وجه الله لكان كافرا وجاهلا ، ولولا أن الإجماع سبق في أن التوجه إلى القبلة شرط من شروط صحة الصلاة ، لما كان ذلك شرطا في صحتها .
فإن قوله تعالى: « فأينما تولوا فثم وجه الله » نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة ، وهي آية محكمة غير منسوخة ، ولكن العقد الإجماع على هذا ، وعلى قوله : « فأينما تولوا فثم وجه الله » محكما في الحائر الذي جهل القبلة فيصلي حيث يغلب على ظنه باجتهاد بلا خلاف ، ولا خلاف أن الإنسان إذا عاين البيت أن الفرض عليه هو استقبال عينه ، وأما إذا لم ير البيت فعندنا أن استقبال الجهة هو الفرض لا العين .
رقيقة - أوتر رسول الله و على الراحلة حيث توجهت فإن النبي صلى الله عليه وسلم  كله وجه بلا قفا .
فإنه قال صلى الله عليه وسلم :" إني أراكم من خلف ظهري" ، فأثبت الرؤيا لحاله ومقامه . فثبتت الوجهية له ، وذكر الخلف والظهر لبشرته ، فإنهم ما يرون رؤيته ويرون خلفه وظهره ، ومن كانت هذه حاله فحيث كانت القبلة فهو مواجهها .
فما أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط على راحلته حيث توجهت إلا والقبلة في وجهه « فأينما تولوا فثم وجه الله » فمن كان وجها كله يستقبل ربه بذاته ، ووجه الله للمصلي إنما هو في قبلته ، ودل على أن من حاله هذا الوصف ويرى القبلة بعين منه تكون في الجهة التي تليها فهو مصل للقبلة ، والله جل جلاله عن التقييد فهو قبلة القلوب .
الفتوحات ج 1 / 401 ، 491 ، 507 ، 517 - ج 3 / 408 ، 542 .
ج 4 / 103 ، 253 ، 346.
31 - شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب . راجع فص 7 رقم 17 ص 117
  راجع البند 15
 ""    17 ۔ شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب فص 7 رقم 17 ص 117

من اختصاص البسملة في أول كل سورة تويج الرحمة الإلهية في منشور تلك السورة أنها منه كعلامة السلطان على مناشيره، وسورة التوبة والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلين ، فإن فصلها وحكم بالفصل فقد سماها سورة التوبة .

 أي سورة الرجعة الإلهية بالرحمة على من غضب عليه من العباد ، فما هو غضب أبد لكنه غضب أمد ، والله هو التواب .

فما قرن بالتواب إلا الرحيم ليؤول المغضوب عليه إلى الرحمة ، أو الحكيم لضرب المدة في الغضب وحكمها فيه إلى أجل ، فيرجع عليه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذي نعت به التواب تجد حكمه کما ذكرنا ، والقرآن جامع لذكر من رضي عنه وغضب عليه ، وتتويج منازله بالرحمن الرحيم ، والحكم للتتويج ، فإنه به يقع القبول ، وبه يعلم أنه من عند الله ، فثبت انتقال الناس في الدارين في أحوالهم من نعيم إلى نعيم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعيم ، من غير مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » أن هذا القدر مدة إقامة الحدود .

خلق الله الخلق قبضتين فقال هؤلاء للنار ولا أبالي ، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي .

فمن كرمه تعالی لم يقل هؤلاء للعذاب ولا أبالي وهؤلاء إلى النعيم ولا أبالي وإنما أضافهم إلى الدارين ليعمروها ، فإنه ورد في الخبر الصحيح أن الله لما خلق الجنة والنار قال لكل واحدة منهما لها علي" ملؤها ، أي أملؤها سكانا ، فيستروح من هذا عموم الرحمة في الدارين وشمولها حيث ذكرهما ولم يتعرض لذكر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشيء من ذلك .

فكان معنى « ولا أبالي » في الحالتين لأنهما في المال إلى الرحمة ، فلذلك لا يبالي فيهما ، ولو كان الأمر كما يتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة.

ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا كان البطش الشديد ، فهذا كله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم يكن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قيل في أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقين ، وقال في أهل التقاء « وأعد لهم عذابا أليما » فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحكم .

فما أعظم رحمة الله بعباده وهم لا يشعرون ، فإن الرحمة الإلهية وسعت كل شيء ، فما ثم شيء لا يكون في هذه الرحمة « إن ربك واسع المغفرة » فلا تحجروا واسعا فإنه لا يقبل التحجير ، ولقد رأيت جماعة ممن ينازعون في اتساع رحمة الله وأنها مقصورة على طائفة خاصة.

 فحجروا وضيقوا ما وسع الله ، فلو أن الله لا يرحم أحدا من خلقه لحرم رحمته من يقول بهذا ، ولكن أبي الله تعالى إلا شمول الرحمة .

 قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » ، وما خص مؤمنا من غيره ، والله أرحم الراحمين كما قال عن نفسه ، وقد وجدنا من نفوسنا ، وممن جبلهم الله على الرحمة انهم يرحمون جميع العباد ، حتى لو حكمهم الله في خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم ، بما تمكن حكم الرحمة من قلوبهم ، وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالي مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، وقد قال عن نفسه جل علاه أنه أرحم الراحمين ، فلا شك أنه أرحم منا بخلقه ، و نحن قد عرفنا من تفوسنا هذه المبالغة في الرحمة .

فكيف يتسرمد، عليهم العذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ، إن الله أكرم من ذلك ، ولا سيما وقد قام الدليل العقلي على أن الباري لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المخالفات، وان كل شيء جار بقضائه وقدره وحكمه.

وأن الخلق مجبورون في اختيارهم ، وقد قام الدليل السمعي أن الله يقول في الصحيح « يا عبادي » فأضافهم إلى نفسه ، وما أضاف الله قط العباد لنفسه إلا من سبقت له الرحمة ألا يؤبد عليهم الشقاء وإن دخلوا النار .

فقال : « يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا » .

وهذه مسألة المكاشف لها قليل ، والمؤمن بها أقل ، وهو سر عجيب ، ما رأينا أحدا نبه عليه من خلق الله ، وإن كانوا قد علموه بلا شك ، وما صانوه والله أعلم إلا صيانة لأنفسهم ورحمة بالخلق .

لأن الإنكار يسرع إليه من السامعين ، ووالله ما نبهت عليه هنا إلا لغلبة الرحمة عليه في هذا الوقت ، فمن فهم سعد ومن لم يفهم لم يشق بعدم فهمه وإن كان محروما ، فقد أظهرت أمرا في هذه المسألة لم يكن باختياري ، ولكن حق القول الإلهي بإظهاره ، فكنت فيه كالمجبور في اختياره ، والله ينفع به من يشاء لا إله إلا هو .

الفتوحات : ج2 / 148 ، 244 ، 674 - ج 3 / 25 ، 100 ، 101 ، 383 .

 ج 4 / 163 .


- لم سمي العذاب عذابا

العذاب إنما سماه الله بهذا الاسم إيثارا للمؤمن ، فإنه يستعذب ما يقوم بأعداء الله من الآلام ، فهو عذاب بالنظر الى هؤلاء .

ومن وجه آخر سمي عذابا ما يقع به الآلام بشرى من الله لعباده أن الذي تألمون به لابد إذا شملتكم الرحمة أن تستعذبوه وأنتم في النار ، كما يستعذب المقرور حرارة النار ، والمحرور برودة الزمهرير .

ولهذا جمعت جهنم النار والزمهرير لاختلاف المزاج ، فما يقع به الألم المزاج مخصوص يقع به النعيم في مزاج آخر يضاده ، فلا تتعطل الحكمة، ويبقي الله على أهل جهنم الزمهرير على المحرورين ، والنار على المقرورين فينعمون في جهنم ، فهم على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا بها لاعتدالها ، فسمى العذاب عذابا لأن المال إلى استعذابه لمن قام به بعد شمول الرحمة.

كما يستحلي الجرب من يحكه ، فإذا حكه . من غير جرب أو حاجة من بوسة تطرأ على بعض بدنه تألم من حكه .

الفتوحات : ج 2 / 136 ، 207 - ج 3 / 463 .

ص 161
واتساب

No comments:

Post a Comment