Saturday, August 3, 2019

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

وإذا نظرت إلى أول بيّنات اسم هود ( اا وال ) ظهر لك أوليّته ، وكذلك إذا تأمّلت في بيّنات عدده.
وأيضا - فإن لكل من الكلمة والاسم له حروفا من أول المراتب ، وبيّن أن الأول - حيثما كان - غالب عليه حكم الإجمال - على ما مرّ غير مرّة - وإذ كان صورة النظم لها مزيد اختصاص بالإجمال ، وأجلى مراتب ظهوره وأتمّها حكما عالم الأفعال التي فيها منتهى أمر التفصيل ، وعليها مبتنى أوضاع  الأنبياء وأحكامهم أخذ يبيّن الوحدة الإجمالية في مرتبة الفعل بصورة النظم قائلا :
( إنّ لله الصراط المستقيم ) وهو أقرب الطرق لأن الأقرب هو الأقوم .
وهو ( ظاهر غير خفيّ ) أمر ظهوره ( في العموم ) من الخلائق
( في كبير وصغير عينه ) إذ لا تفاوت للأعيان في ذلك وإن كان صغيرا بحسب الظاهر ناقصا ، كما أنه لا تفاوت للحقائق في ذلك ، وإن كان جاهلا بحسب الباطن ناقصا فيه .
كما قال :( وجهول بأمور وعليم )
( ولهذا وسعت رحمته  ..... كلّ شيء من حقير وعظيم ) قدرا ومنزلة .
تلويح  : لا يخفى على الواقف بأساليب اولي الأيدي والأبصار وعبارات إشاراتهم .
 أنّ كلمة « هود » في عرفهم ذلك عبارة عن الدال الكاشف اسم « هو » بما له من الأحكام في غيبه .
كلّ دابّة على الصراط المستقيم
الذي يدلّ على أنّ لهود هذا المشهد الذوقي ما ورد في التنزيل حاكيا عن "هو" »
(" ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ")  وهو المنهج الاعتدالي الموصل إلى الكمال الختمي ، الذي به سبقت الرحمة غضبه ( فكلّ ماشي ) من السالكين نحو ذلك الكمال ( على صراط الربّ المستقيم ) ضرورة أنّ المأخوذ بالناصية لا ينفك عن الآخذ ، فهو واصل البتة إليه  .
المآل إلى الرحمة
( فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ) وإن كان بحسب مداركهم الجزئيّة الكونيّة ، وسلطان الواهمة عليها كلَّها فيهم ترى بعضهم يسوقون مطايا أفعالهم وإدراكهم إلى مهامه نهايات التفرقة الموحشة ، فيفضي بذلك أمرهم إلى دركات الحرمان ونيران البعد والخذلان ، ولكن لم يزل لذلك الكمال وجه إليهم ، به يأنسون ونحوه ينتهجون ، فهم في سلوكهم الموصل إلى ذلك غير مغضوب عليهم ( ولا ضالَّون ) وإن كان في طريقهم ذلك من الأغوار الهائلة والمهامه المضلَّة ما لا يحتمله إلا كل فحل من أبطال الرجال ، فإنّ ذلك واقع في طريقه بالعرض .
(فكما كان الضلال عارضا ، كذلك الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كلّ شيء وهي السابقة).
 وتطابقت البراهين الحكميّة العقليّة والمؤيّدات الذوقيّة اليقينيّة ، أن كلّ حركة إنّما ينتهى عند حصول مبدئها الباعث لها ، ولذلك ترى سائر العوالم والحركات دوريّة .
ثمّ إذ قد بيّن أن المآل إلى الرحمة ، شرع يتبيّن أنّ ذلك عامّ ، فإنّ مآل الذوات كلَّها إليها ، قائلا : ( وكلّ ما سوى الحقّ دابّة - فإنّه ذو روح - وما ثمّ من يدبّ بنفسه ، وإنّما يدبّ بغيره ، فهو يدبّ بحكم التبعيّة للذي هو على الصراط المستقيم ) والذي يدبّ مستقلَّا بنفسه هو الحقّ ، كما أنّ الذي يدبّ عليه هو الصراط ( فإنّه لا يكون صراطا إلَّا بالمشي عليه ) .
وإذ قد انساق مآل إجماله هذا المساق بما هو مقتضى الذوق الهودي ، أتى بنظم يفصح عن ذلك على ما عليه الكلمة الختميّة في التوحيد الفعلي من القول الفصل ، الفارق في عين الجمع ، المنزّه في عين التشبيه ، قائلا :
( إذا دان لك الخلق  .... فقد دان لك الحقّ )
لما مرّ من أنّ الفاعل من الخلق في فعله بالتبعيّة ، فلا يتخلَّف عنه المتبوع .
( وإن دان لك الحقّ  .... فقد لا يتبع الخلق )
لأنّ المتبوع المستقلّ بنفسه له الإحاطة في الأحكام ، فلا يكون محاطا ، فشبّه ونزّه .
( فحقّق قولنا فيه  .... فقولي كلَّه الحقّ )
أي اسمع قولنا في هذا المرام ، فإنّه مما لا حركة له بنفسه ، وللقول في حركاته مقالات إليك من هذا الباب إن وعيت .
( فما في الكون موجود  ..... تراه - ما له نطق )
(وما خلق تراه العين  .... إلَّا عينه حقّ )
( ولكن مودع فيه )  أي له في الخلق مواطن الاختفاء كما أنّ له فيه منصّات الظهور
( لهذا صوره حقّ ) أي مطايا ظهوره وصوره إنّما هو الحقّ ، وهو من الإبل ما بلغ عمره إلى أن يركب عليه ، ويظهر فيه .
ومن تأمّل في الأبيات الثلاثة ظهر له من التوحيد الجمعي ما يستفاد من قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ  [ 42 / 11 ] بترتيبه .
أقسام العلوم الإلهية
ثمّ إنّ الحركة والفعل الذي هو محلّ البحث هاهنا منها كوني ظلَّي لا اعتداد به لديهم ، ومنها وجوديّ حقيقيّ هو مقصد الإشارة والدلالة عندهم ، وهو ما لمدارك الكمّل من التنوّعات الذوقيّة وتطوّراتهم فيها ، فأخذ في تحقيق ذلك فيه بقوله : ( اعلم أنّ العلوم الإلهيّة الذوقيّة الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة ) هي ( منها ، مع كونها راجعة إلى عين واحدة ) - وهو عين الحقّ المتجلَّي في تلك القوى بما لها من القبول .
( فإنّ الله تعالى يقول : « كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الذي يبطش بها ، ورجله الذي يسعى بها ».
 فذكر أن هويّته هي عين الجوارح ،التي هي عين العبد ،فالهويّة واحدة ،والجوارح مختلفة ) ولكون تلك الوحدة حقيقية يستجمع مع التكثّر والتخالف ولا ينافيها ذلك أصلا ، فإنّ لكلّ من تلك القوى شعورا خاصّا بتلك الوحدة .
(ولكلّ جارحة علم من علوم الأذواق يخصّها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح ، كالماء حقيقة واحدة تختلف في الطعم باختلاف البقاع ) واكتساب خواصّها المعدنيّة منها ، وذلك للطافته وصلوح اتحاده بما يجاوره ويمرّ عليه .
وبهذه المناسبة شبّهها بالعلم ( فمنه " عَذْبٌ فُراتٌ " ) له صلوح التغذّي (ومنه " مِلْحٌ أُجاجٌ ") ليس له ذلك ( وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغيّر عن حقيقته وإن اختلفت طعومه ) .
علم الأرجل
( وهذه الحكمة من علم الأرجل ) وذلك لما سبق من أنّ الفيض في ذلك على صورة المحلّ القابل ، متلبّسا بخصوصيّات المشاعر الجزئيّة ومشخّصاتها ، فهو من طرف السفل والرجل ، دون ما يفاض على العقل بكلَّيته بدون توسّط الآلات والجوارح ، فإنّه من طرف العلو .
والذي يدلّ على ذلك ( هو قوله تعالى : " في الأُكُلِ") [ 13 / 4 ] وهو التغذّي بما يفاض عليه روحا أو جسدا ( لمن أقام كتبه ) وهي كليّة تفاصيل البيان ، سواء كان من طرف الجزئيّات وفرقان الجوارح القوابل ، أو من الكلَّيات وقرآن العقول الفواعل ، أو ما يجمعهما .
كما قال الله : " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ " ( "وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " ) [ 5 / 66 ] .
وإنّما خصّص هذا بعلم الأرجل ( فإنّ الطريق - الذي هو الصراط - هو للسلوك عليه ، والمشي فيه ، والسعي لا يكون إلَّا بالأرجل ، فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط مستقيم ، إلَّا هذا الفن الخاصّ من علوم الأذواق ) .
وهو أنّ الناس عند تحرّكهم في مدركاتهم الجزئيّة نحو مستلذّاتهم المألوفة ومشتهياتهم المطبوعة ، غير مستقلّ بنفسه في تلك الحركة ، بل مجبور ، جبر من أخذ نواصيه من هو أعلى منه وأقوى .
ومن ثمّة ترى التائب عن الذنب وهو الذي يتحرّك إليه بتلك الحركة طبعا عائدا إليه وهو نادم في عوده ، عائذ منه ومباشر له ، حريص عليه كما قيل :
وإذا ذكرت التائبين عن الطلا  ...... لا تنس حسرتهم على أوقاتها
" الطلا = الخمر "
ولا يتوقّف المتفطَّن اللبيب هاهنا أنّه ما ذلك إلَّا صفات مجبور محسور ، وسمات متحيّر محصور .
مساق المجرمين
( فيسوق المجرمين - وهم الذين استحقّوا ) بجرمهم ذلك وسعيهم في صراطه المستقيم ( المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور ،التي أهلكتهم عن نفوسهم بها ) .
بما ورد في الحديث: « نصرت بالصبا » وهو الريح الذي يستقبل الوجه عند توجّهك إلى مطلع شمس الظهور والإظهار « وأهلكت عاد بالدبور » ، وهو الريح الذي يستدبرك في ذلك . راجع الأحاديث البخاري ومسلم و أحمد وغيرهم.
فهو يسوقك إلى ذلك المطلع ، وإن كان ما يروحك ترويح الصبا ، وذلك من مرورها على المطلع وظهورها عليك بآثاره - كما قال  من قيس ابن الملوح العامري :
أيا جبلي نعمان باللَّه خلَّيا   .... سبيل الصبا يخلص إلىّ نسيمها
فإنّ الصباريح إذا ما تنسّمت  ..... على قلب محزون تجلَّت همومها
( فهو يأخذ بنواصيهم ، والريح تسوقهم ) ، وفي عبارته هاهنا لطيفة إنّما يتفطَّن لها من تذكَّر ما مهّدنا قبل من تقديم الضمائر الأسماء الإلهيّة ، وقربها إلى الذات ، وتخلَّف الظواهر منها وتأخّرها عنها ، وتقدّم ضمير الغايب منها على الكلّ .
ومما يلوّح على ذلك أنّ لفظ « هود » ذلك الضمير مع الدال الدالة على إظهار أمره وتعيّن حكمه .
فعلم بذلك وجه اختصاص هذا الذوق بهود فـ « هو » هو المسند إليه أخذ النواصي ، ولا شكّ أنّه كلَّما كان أقرب إلى الذات من الأسماء ، كان أقهر في الحكم وأشدّ في إنفاذه .
عين القرب في جهنّم
فلا تخالف كيف ، وما يروحه من أصل جبلَّته وطينة طبيعته يسوقه .
(وهي عين الأهواء التي كانوا عليها إلى جهنّم ، وهي البعد الذي كانوا يتوهّمونه ) لخفائها وسترها عن أنظارهم وعقولهم التي إنّما يتميّز ويحكم بين الأشياء بعقائد الأضواء التشريعيّة الواقعة بها أمر الصورة مواقع كمالها وتمامها .
وممّا نبّهت عليه في التلويح ظهر وجه تقدّم هذا الطرف وتقرّبه إلى الذات .
(فلمّا ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب ، فزال البعد ، فزال مسمّى « جهنّم » في حقّهم ) - وهو البعد ، فإنّه معرّب ، فارسي الأصل ، يقال : « ركية جهنام » : أي بعيدة الغور ، وكأنّه في الفرس : " چه نم " 
 ( ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنّهم مجرمون ) مجبورون في ذلك بما يحطَّ به عند الناس مراتب أقدارهم ، ومنازل تمكَّنهم في التعيّن ، واستقرارهم.
( فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنّة ، وإنّما أخذوه ) هم أنفسهم
( بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها ) في أصول قابليّاتهم .
( وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الربّ المستقيم ، لأنّ نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة ، فما مشوا بنفوسهم ، وإنّما مشوا بحكم الجبر ) في ذلك البعد الموهوم .
( إلى أن وصلوا إلى عين القرب ) .
قال رضي الله عنه : ( "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ" [ 56 / 85 ]  . وإنّما هو يبصر ، فإنّه مكشوف الغطاء ) لوصوله إلى قرب لا يسعه الغطاء .
( فبصره حديد ، فما خصّ ميّتا من ميّت ، أي ما خصّ سعيدا في العرف من شقيّ ) عند إثبات القرب للعبد .
فإنّه قال رضي الله عنه: ( " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ " [ 50 / 16 ] وما خصّ إنسانا من إنسان ، فالقرب الإلهي من العبد ) مطلقا ( لا خفاء به  في الإخبار الإلهي ) وعدم تبيين القريب وتميّزه من البعيد منه .
وما ورد في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل » وهي غير التكليفات المكتوبة عليه مما خصّ بوقت معيّن ، وحدّ بعدد مخصوص ، فإنّها هي الزوائد من أفعال العبد ، وهي معدّات ذلك التقرّب ففي دلالة هذا الحديث ضرب من الإجمال ، فإنّه إنّما يتبيّن من الحديث كيفيّة ذلك القرب وغايته لا غير .
قال رضي الله عنه : (فلا قرب أقرب من أن تكون هويّته عين أعضاء العبد وقواه ، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى ، فهو حقّ مشهود في خلق متوهّم ) فإنّ الحقّ موجود ، والخلق كائن في ظلاله ، متخيّل ، على ما سبق في الفصّ اليوسفي .
الحقّ عند أهل الكشف
قال رضي الله عنه : ( فالخلق معقول ) لأنّه ليس خارج المشاعر له وجود ( والحقّ محسوس مشهود ) فإنّه الموجود في الخارج عن المشاعر ، الداخل في المداخل الحسّية على المشاعر .
وذلك إنما هو ( عند المؤمنين ) ممن وصل إلى اليقين ، وميّزه عن المتخيّلات ، إمّا نظرا وحدسا ، أو سماعا وتفرّسا ( وأهل الكشف والوجود)
من الواصلين إليه بالذوق والشهود في المشاهد الحسّية التي بها أرسلت الرسل وعليها أنزلت الكتب ، بدون توسّط وضع ولا تعمّل نقل وجعل .
قال رضي الله عنه : ( وما عدا هذين الصنفين ) من الذاهبين إلى اعتبارية الوجود الحق ، وإلى أن له ماهيّة غير الوجود ، أو موصوفة به ( فالحقّ عندهم معقول ) ضرورة أنّه مجعول عقولهم وتصوّراتهم ، ما له في الخارج عنه مطابق ، ( والخلق مشهود ) ، فإنّ الموجود في الخارج عندهم هي الماهيّات المشخّصة وأعراضها المشخّصة لها .
الناس حسب علومهم قسمان
قال رضي الله عنه : ( فهم ) في إفاضة العلوم ( بمنزلة الماء الملح الأجاج ) حيث أنّه قد شاب اللطيفة العلميّة عند مرورها عليهم بما يكيّفه ويغيّره عن لطفه الطبيعي ، ويحرّفه عن أصل اعتداله الذي به يصلح لأن يتغذّى به المسترشد ويقويه أو يروح به السالك ويرويه في مسالكه ، فإنّه بتلك الكيفيّة المكتسبة الاجاجية إنّما يزيد لهم عطشا على عطش وضعفا على ضعف .
قال رضي الله عنه : ( والطائفة الأولى ) من أهل الذوق والإيمان الذين لم يمتزج فيهم لطيفة ماء اليقين بشوائبه المعدنيّة ، المحرّفة له عن أصل مزاجه العلمي ، فهم في إفاضتهم العلوم والمعارف ( بمنزلة الماء العذب الفرات ، السائغ لشاربه ).
 فعلم أن ما به تتميّز هذه الطائفة عن الأولى هو خلوص علومهم عن شوائب الامتزاجات الجهليّة ، وذلك غامض قلَّما يهتدي إليه المسترشد .
فنبّه على ما يظهر من آثار ذلك المميّز العلمي في أعمالهم تبيينا لأمره عند السالكين بقوله :
قال رضي الله عنه : ( والناس على قسمين ) كما يشاهد كلّ أحد من أهل زمانه :
( من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها ) وكلّ طريق معروفة هي قريبة عند السالك العارف . 
( فهي في حقّه صراط مستقيم ).
(ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها ، وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر ) غير أنّه متحيّر فيها ، لأنّها قد احتفّت في علمه بظلمات جهالاته المدهشة ، كالماء بعينه ، فإنّه باق على أصل طبيعته ، غير أنّه ممتزج بالأخلاط الخارجيّة .
قال رضي الله عنه : ( فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة ) في مسالكه العلميّة النيّرة .
( وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة ) في مسالكه المجهولة المظلمة ، فعلم أنّ الغاية هو الحقّ والتخالف إنّما هو بحسب مدارك الهادين والمهتدين .
قال رضي الله عنه : ( فهذا علم خاصّ ) يورثه الخاتم ، وبه ( يأتي من أسفل سافلين ) إنّما يليق به أكمل الكاملين ، وإنّما قلنا : إنّه من أسفل سافلين ( لأنّ الأرجل هي السفل من الشخص ، وأسفل منها ما تحتها ، وليس ) ذلك ( إلَّا الطريق ) وهي أعماله وأقواله التي يسعى فيها على أراضي الاستعداد منه إلى الحقّ .
قال رضي الله عنه : ( فمن عرف الحقّ عين الطريق ) وهو أسفل سافلين يعني الأعمال والأقوال الإنسانيّة التي هي أنزل منه في الظهور والوجود ، وأكمل جمعيّة في الإظهار والشهود .
قال رضي الله عنه : ( عرف الأمر على ما هو عليه ، فإنّ فيه جلّ وعلا يسلك ويسافر ، إذ ) لا مسلك من المسالك  عقديّة كانت أو عمليّة أو قوليّة - إلا وكانت معلومة للسالك والمسافر . 
و ( لا معلوم إلَّا هو ، وهو عين السالك والمسافر ، فلا عالم إلَّا هو فمن أنت ؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك ) أنّ الحقيقة عين الطريقة ،وأنّها ناشية عنك.
( فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان ) الختمي صلَّى الله عليه وسلَّم حيث قال : « كنت سمعه الذي يسمع به » وصرح بالفعل ومبدئه ، وهذا ظاهر.
قال رضي الله عنه : ( إن فهمت ، وهو لسان حقّ )   لأنّ الترجمان ما له تصرف في ذلك أصلا ، ( فلا يفهمه إلا من فهمه حقّ ) فإنّه لا يعرفه ولا يفهمه إلَّا هو.

الحروف والكلمات
وهاهنا نكتة لا بدّ من الاطلاع عليها : وهي أنّك قد اطلعت من قبل على أنّ أصحاب علم الأرجل هم الذين يسوقهم ريح دبور الطبيعة من خلفهم  ، وهم يسعون في مقتضيات جوارحهم ومشتهيات أنفسهم ، هالكين فيها مجبورين ، وهم أهل القرب وإن كان في بعد موهوم .
وقد بيّن هاهنا أن أسفل سافلين الذي هو موطنهم من وجه ومسلكهم من آخر هو عين الحقّ ، وما هو إلَّا عالم الأفعال البشريّة وإدراكاته ، والجامع للكلّ منها هو القول الظاهر بصور الحروف والكلمات ، فإنّه الآتي بمدركات الجوارح كلَّها ، والكاشف عنها أجمع .

القرب الذاتي في أسفل سافلين
فقد علم في طيّ هذه المقدّمات أنّ أهل أسفل سافلين وهم أبعد الموجودات في نظر العامّة لهم القرب الذاتي .
فبيّن ذلك بقوله : ( فإنّ للحقّ نسبا كثيرة ) كثرة نسب الظلال إلى شخصه ( ووجوها مختلفة ) اختلاف وجوه تلك النسب الظلَّية بحسب قرب بعض الأطراف من الظلّ إليه وبعده عنه ، وأنت تعرف أنّ أقرب أطرافه إليه إنّما هو طرف الرجل .
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى عادا قوم هود كيف قالوا ) لما أظلَّهم سحب هذه العوارض الكائنة المدركة بجوارحهم : ( " هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا " ) [ 46/ 24 ] . أي يفيض علينا ما به يستحصل أغذيتنا ، بعد امتزاجات معدّة وترتيب مقدّمات منتجة مستجمعة للشرائط ، كحرية أرض قابليّتهم وسلامة نبات أوليات علومهم عن الآفات .
تأويل ما حكي عن قوم عاد
وكأنّا قد أسمعناك من قبل أنّ القصص المنزلة السماويّة سيّما ما اختصّ منها بالخاتم ما هي حكاية أشخاص مخصوصة قد انقرضت بانقراض بعض أجزاء الزمان وأبعاضه .
فإنّها حكاية أحوال حقائق كليّة وأسماء إحصائيّة إلهيّة ، يتشخّص أفرادها في كل زمان متكلَّمين بتلك القصص حالا وقولا ، فإنّ لتلك الأحوال المختصّة بالزمان ماضيا كان أو مستقبلا وجوها شهاديّة إنّما يحتظي بها أهل الذوق والشهود .
فلا ينبغي للمسترشد اللبيب أن يقنع من تلك القصص الحكميّة بالحكايات المنقرضة في سالف من الأزمنة ، منخرطا نفسه في سلك ذوي الحرمان من القرآن الختمي على ما أخبر عن لسان حالهم قوله تعالى : " قالُوا أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ " [ 16 / 24 ] .
وقد أومأنا إلى وجوه من المناسبات والاستعارات هاهنا ، عساك تتفطَّن بها لذلك الوجه الشهادي . فإنّ عادا على ما نبّهت عليه آنفا هم الماشون على صراط العادات التي إنّما يسوقهم إليها الأهوية الدبوريّة من خلف الطبيعة .
ولا يخفى أنّ المسترشدين منهم لمّا رأوا تلك العوارض المحسوسة المظلَّة لهم 
قالوا : هذا العارض سيفيض علينا بعد امتزاجات وترتيبات معدّة علوما يغتذي حقيقتنا بها .
وذلك هم أهل النظر ، المستدلَّون بالصنع على الصانع .
قال رضي الله عنه : ( فظنّوا خيرا باللَّه ) وهو إفاضة ما يستحصل منه أغذيتهم وأقواتهم ، ( وهو عند ظنّ عبده به ، فأضرب لهم الحقّ عن هذا القول ) . 
"قال الله تعالى :  وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) سورة الأحقاف

بقوله : " بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ به " ( وأخبرهم بما هو أتمّ وأعلى في القرب ) والخيريّة ( فإنّه إذا أمطرهم فذلك ) أوّلا ( حظَّ الأرض ) يعني استعداداتهم وآلاتها من الجوارح الظاهرة.
( و ) ثانيا ( سقى الحبّة ) من العلوم الأوّلية التي بها تنوط رقيقة الحبّ .
( فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلَّا عن بعد ) من تركيب الأوّليّات وثواني الامتزاجات ثمّ التفطَّنات ( فقال لهم " بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ به رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ " [ 46 / 24 ] .
تأويل العذاب في حقّ قوم عاد
قال رضي الله عنه : (فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة لهم ، فإنّ بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة ) الهيولانيّة الكثيفة التي هي منبع كلّ شرّ ، ومثار كلّ ظلمة ، إلى العالم العقلي الذي هو مستنزه العوالم ومستروحها أجمع .
( والمسالك الوعرة ) وهي المشاعر ومقتضياتها المتخالفة الخشنة ، ذات أغوار وأنجاد ، ملاءمة ومنافرة ( والسدف المدلهمّة ) من العوائد الرسميّة والحجب العادية ، المتراكمة المتحتّمة الانقياد عند كل طائفة وجمع من الأمم . فإنّ « السدفة » - لغة - هي اختلاط الظلمة والنور .
قال رضي الله عنه : ( وفي هذه الريح ) المريحة لهم عن لوازم التعيّن ومقتضياته ( عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه ) كما قيل :
أنا صبّ ، ودمع عينيّ صبّ   .... عذّبوا ، فالعذاب في الحبّ عذب
قال رضي الله عنه : ( إلَّا أنّه يوجعهم لفرقة المألوف ) وهي مؤلمة من حيث أنّه تفرّق اتّصال ، فهو "عَذابٌ أَلِيمٌ " ، ( فباشرهم العذاب ، فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيّلوه ) من الإمطار والإفاضة وما يترتّب على ذلك مما يؤول إلى ما ينفعهم .
( فدمّرت " كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها " ) من العلائق العائقة عن بلوغهم إلى الكمال .
قال رضي الله عنه : ( " فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ " [ 46 / 25 ] وهي جثثهم ) الأصليّة الوجوديّة الجوهريّة   دون الجعليّة الكونيّة الوهميّة ، وهي ( التي عمّرتها أرواحهم الحقّية ) الوجوديّة بمجرّد انتسابها إليها .
قال رضي الله عنه : ( فزالت حقّية هذه النسبة الخاصّة ) وهي نسبة روح الوجود إلى هذه التفرقة الكونيّة التشخّصية ، التي بها عمرت جثثهم بنسبة الأرواح .
قال رضي الله عنه : ( وبقيت على هياكلهم ، الحياة الخاصّة بهم ) وهي الحياة العامّة الجوهريّة الوجوديّة التي بها حيّت الجمادات الواصلة إليها ، دون المشخّصة الكونيّة العرضيّة ، وتلك الحياة الوجوديّة هي التي قال : إنّها (من الحقّ التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل ، وعذبات الأسواط والأفخاذ)
واستشعار الوجه الشهادي من هذا لا يخفى على من له ذوق المقامات الحسّية ،
كما قال ابن الفارض في تائيته :
فلو كوشف العوّاد بي وتحقّقوا   ..... من اللوح ما منّي الصبابة أبقت
لما شاهدت منّي بصائرهم سوى .....  تخلَّل روح بين أثواب ميّت
وأيضا قال ابن الفارض في لاميّته :
وعنوان ما فيها لقيت وما به    ..... شقيت وفي قولي اختصرت ولم أغل
خفيت ضني حتّى لقد ضلّ عائدي  ..... وكيف يرى العوّاد من لا له ظلّ
وما عثرت عين على أثري ولم  ...... تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل 
( وقد ورد النصّ الإلهي بهذا كلَّه ) بعضه في الآيات المنزلة القرآنيّة ، وبعضه في الأحاديث النبويّة الصحيحة .
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ  [الأنعام : 151]" و " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ  [الأعراف :33 ]"
ثمّ إنّ اختلاف مدارك القوم من النصّ الذي لا يحتمل غيره ، وعدم فهمهم المقصود منه لا بدّ له من سبب ، كشف عن ذلك السبب بقوله : ( إلَّا أنّه تعالى وصف نفسه بالغيرة ، ومن غيرته حرّم الفواحش ، وليس الفحش إلَّا ما ظهر ) فإنّ الفحش هو السوء إذا جاوز الحدّ في الإفشاء .
( وأمّا فحش ما بطن فهو لمن ظهر له ) ذلك السرّ المتبطَّن .
قال رضي الله عنه : ( فلما حرّم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه ) وتظهر في المدارك ، فإنّ الأعيان أنفسها ليست محرّمة ، بل ارتكابها بالجوارح وإظهارها في المشاعر.
( و ) تلك الحقيقة الممنوعة ( هي أنّه عين الأشياء ) مع ما فيها من التفاوت بالقرب إلى الذات والبعد عنه ( فسترها بالغيرة ) التي وصف الحقّ نفسه بها .
( وهو أنت ) ، فإنّه الساتر نفسه بالغيرة ، المشتقّة ( من الغير ) .
قال رضي الله عنه : ( فالغير ) بهذا المعنى ( يقول : " السمع سمع زيد " ) ساترا للحقّ بالغيرة .
قال رضي الله عنه : ( والعارف يقول : « السمع عين الحقّ » ) لعدم حكم الغيرة المشتقّة من الغيرة على العارف ، كما قال ابن الفارض  :
أغار عليها أن أهيم بحبّها    ..... وأعرف مقداري فأنكر غيرتي
قال رضي الله عنه : (وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء ، فما كلّ أحد عرف الحقّ ، فتفاضل الناس ، وتميّزت المراتب ، فبان الفاضل والمفضول ) .
رؤية ابن العربي الأنبياء عليهم السّلام في مبشرته ومكالمته مع هود عليه السّلام  
وإذ قد تبيّن في هذا الفصّ من العلوم ما هو حظَّ أهل الخصوص من الكمّل الختمي ، استشعر سبب تلك الخصوصيّة وما هو المبدء لها قائلا : ( واعلم أنّه لما أطلعني الحقّ وأشهدني أعيان رسله عليهم السّلام وأنبيائه كلَّهم - البشريين - ) لأنّه رآهم في مبشرته .
قال رضي الله عنه : ( من آدم إلى محمّد عليهم السّلام أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة ) وهي مدينة بالمغرب "بالأندلس" كان ساكنا بها .
 ( سنة ستّ وثمانين وخمسمائة ، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلَّا هود عليه السّلام ) وذلك لعلوّ كشفه وشهوده الغائي ، وكمال اختصاصه بالقرب الذاتي وميله إلى طرف الولاية وختمها .
قال رضي الله عنه : ( فإنّه أخبرني ) بقوّة تلك الرقيقة الاختصاصيّة ( بسبب جمعيّتهم ) ، وهو احتظاؤه من الكمال الختمي وانتماؤه إلى حضرته الجمعيّة الشهوديّة الأكمليّة التي من آثارها تسطير هذا الكتاب وإبرازها للناقدين من اولي الألباب.
ولذلك من رؤية تلك المبشّرة إلى أوان تأليفه هذا تمام ميعاد الميقات ، وهو أربعين ( 333 ) وذلك لأنّ التثليث الذي هو صورة الجمعيّة الناتجة ، والازدواج الناكح الفاتح ، قد ظهر فيه بكماله وتثلَّث .
قال رضي الله عنه : ( ورأيته رجلا ضخما في الرجال ) لكمال سعته في العلوم ( حسن الصورة ) لقرب نسبته إلى أمر الصورة وتمام كشفها عليه - على ما يظهر من شهوده في الآية .
 ( لطيف المحاورة ) لظرافته وقرب ذوقه إلى ذوق ظرفاء الزمان كما عرفت ،(عارفا بالأمور) - أي حدود تفاصيل الأشياء وخصوصيّاتها - ( كاشفا لها) .
قال رضي الله عنه : (ودليلي على كشفه لها قوله : " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ") [ 11 / 56 ] .
حيث أسند أخذ نواصي الدوابّ أعني زمام أفعال ما يدبّ على عرض أرض الكثرة ، التي هي نهاية أمرها إلى هو ، وهو أوّل ما يطلع من كنه الكمون ومبدأ آثار الوحدة الإطلاقيّة الذاتيّة .
قال رضي الله عنه : ( وأيّ بشارة للخلق أعظم من هذه ) أنّه في أقاصي ما ينتهي إليه دركات بعده - وهو أفعاله - تراه قريبا إلى الحقّ ، صادرا منه من حيث الوحدة الذاتيّة والهويّة الإطلاقيّة التي لا مجال للبعد هناك أصلا .
قال رضي الله عنه : (ثمّ من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن ) العربي المبين أمر الحقائق على ما هي عليه ، معربا عن كنهه ، مطابقا لما رآه في مشهده الذي أقيم فيه شاهدا على حقيّته .
مدارج النبي الخاتم صلَّى الله عليه وآله
وهاهنا نكتة حكميّة لا بدّ من ذوقها حتّى يتحقّق الأمر ، وهي أنّ الخاتم في إظهار ما عليه الأمر له ثلاثة مدارج بحسب ما قدّر لقدره الرفيع من المناصب :
الأوّل موطنه الختمي النبوي الأحدي الجمعي ، الذي من آثار كماله نزول الكلام القرآني العربي ، الجامع لأذواق الرسل والأنبياء أجمع ، ولما في موطنه من الإطلاق الأحدي الجمعي لا يضيق أمر نزوله ذلك عن توسّط الرسالة ، وتخلَّل ما فيها من الكثرة ، وهو المقام المحمّدي ( 92 ) والذي يلوّح ما فيه أولا مما يدلّ على الصبابة والمحبّة .
والثاني موطنه الولائي الخصوصي الأحدي الذي لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، ومن آثار كماله ظهور الكلام القدسيّ عنه بدون توسّط ولا تخلَّل ، وهو المقام الأحمدي ( 53 ) والذي يلوّح عليه ما نبّه أوّلا مما يدلّ على الستر والجنّة .
والثالث موطنه الرسالي الإبلاغي الآتي بما يكمل الخلائق كلَّها ، وهو المقام المحمودي ( 98 ) ومما يلوّح عليه ما فيه أوّلا من الصحّة النسبيّة التي هي مقتضى حكم التبليغ.
فلذلك لمّا بيّن الحكمة الأحديّة المذكورة بما في القرآن العربي على لسان هود - وهو الأوّل من أقسام الكلام - كمّلها بالثاني منها قائلا :
بيان الحكمة الأحدية في الكلام الختمي صلَّى الله عليه وآله
قال رضي الله عنه : (ثمّ تمّمها الجامع للكل محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بما أخبر به عن الحقّ ) ووجه تتميمه صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك أنّه إنّما علم من الكشف الهودي أنّ أفعال الخلق التي هي أنزل المراتب وأبعدها - في قبضة إحاطة الحقّ ، آخذا بناصيتها ، ولا يخفى ما فيه بعد من اعتبار حكم النسبة القاضية بالتفرقة .
وأمّا عبارة الحديث القدسي الصادر منه صلَّى الله عليه وسلَّم فهي كاشفة عن تمام الوحدة الذاتيّة التي لا مجال للنسبة فيها أصلا ، فإنّه قد نصّ فيه ( بأنّه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان ، أي هو عين الحواسّ ) الجسمانيّة الظاهرة في الكون .
قال رضي الله عنه : ( والقوى الروحانيّة ) المتبطَّنة عن الكون كالحسّ المشترك والخيال والذكر والفكر ( أقرب ) إلى الوجود الحقّ ( من الحواس) .
قال رضي الله عنه : ( فاكتفى بالأبعد المحدود ) المعلوم حدوده وجدانا وذوقا (عن الأقرب المجهول الحدّ ، فترجم الحقّ لنا عن نبيّه هود مقالته لقومه - بشرى لنا - وترجم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله مقالته بشرى ) لأهل الخصوص منّا .
قال رضي الله عنه : ( فكمّل العلم في صدور الذين أوتوا العلم ، " وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ") [ 29 / 47 ]   منهم ( فإنّهم يسترونها ) بالإخفاء عن المسترشدين .
قال رضي الله عنه : ( وإن عرفوها ) وتحقّقوا بالتوحيد الذاتي ( حسدا منهم ) في أن يصل إليه غيره ( ونفاسة )
لتلك المنقبة العزيزة ( وظلما ) على الطالبين كما لا يخفى على من له أدنى تنبّه أنّ الكافر على هذا التأويل لا يمكن أن يكون كفّار أهل الكتاب كيف ذلك وقد صرف الكفر عن حقيقته الشرعيّة إلى اللغويّة ، وهو مجرّد الستر .
التنزيه في عين التشبيه
ثمّ إنّه لما بالغ في تحقيق طرف التشبيه ، إلى أنّ آل أمره إلى التحديد ، أخذ في تحقيق ذلك بما يظهر منه كمال التنزيه قائلا :
قال رضي الله عنه : ( وما رأينا قطَّ من عند الله في حقّه تعالى آية في آية أنزلها ، أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه إلَّا بالتحديد ، تنزيها كان ) مؤدى ذلك الإخبار كما سيجيء بيانه في قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " (  أو غير تنزيه ) كما في الآيات والأخبار الدالَّة على تنزّله في المراتب. 
قال رضي الله عنه : ( أوّلها العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء ) فبتبيّن الفوق والتحت منه حدّده مكانا ، وبقوله : ( فكان الحقّ فيه قبل أن يخلق الخلق ) حدّده زمانا ( ثمّ ذكر ) في مدارج تلك التنزّلات ( أنّه استوى على العرش ، فهذا أيضا تحديد ثمّ ذكر أنّه ينزل إلى السماء الدنيا ، فهذا تحديد ثمّ ذكر أنّه "في السَّماءِ " ( إِله ٌ " وَ أنّه  " في الأَرْضِ" )  إِله ٌ ) [ 43 / 84 ] .
قال رضي الله عنه : ( وأنّه معنا أينما كنّا ) وفي عبارته هذه إشارة إلى أنّ ترتيب التنزّلات الوجوديّة إلى الأرض ، ثمّ فيها ترتيب آخر على أرضها الإظهاري ، إلى أن يكون عين المظاهر ، وإليه أشار بقوله : (إلى أن أخبرنا أنّه أعيننا)  في حديث النوافل ، فهذا منتهى المراتب
  قال رضي الله عنه : ( ونحن محدودون ، فما وصف نفسه ) حيث أخبرنا بأنّه عيننا ( إلَّا بالحد ) هذا في الآيات والأخبار الدالَّة على طرف التشبيه ، وتنزّله في مراتب الظهور والإظهار .

وأمّا ما يدلّ على التنزيه منها ، فإليه أشار بقوله : ( وقوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " [ 42 / 11 ] حدّ أيضا إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة ) بمعنى المثل - كما سيجيء تحقيقه - وهو يدلّ على التحديد ، فإنّه إنّما يدلّ على أنّه ليس مثل المحدود ويمتاز عنه .
قال رضي الله عنه : ( ومن تميّز عن المحدود ، فهو محدود بكونه : ليس عين هذا المحدود - فالإطلاق عن التقييد  تقييد ) لأنّه مقابل له ، ممتاز عنه ، وكلّ مقابل وممتاز فهو مقيّد ( والمطلق مقيّد بالإطلاق لمن فهم ) معنى الإطلاق - وقد بينّا ذلك غير مرّة . هذا إن جعلنا الكاف زائدة .
قال رضي الله عنه : ( وإن جعلنا الكاف للصفة ) بمعنى المثل ، فإن أخذنا على ما هو الظاهر من هذا التركيب وهو حظَّ العامّة منه من إثبات المثل ونفي أن يكون شيء مثله ( فقد حدّدناه ) .

قال رضي الله عنه : ( وإن أخذنا " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " )  على ما هو استعمال البلغاء وخواصّ الخطباء (على نفي المثل) فإنّهم إذا أرادوا تنزيه المحمود أو الممدوح عن وصف ، ينفون ذلك الوصف ويبعّدونه عن مثله .
كما في قولهم : « مثلك لا يبخل » أدبا وإغراقا في تبيين تلك النزاهة ، وإشعارا بأنّ في المحمود من الأوصاف الكماليّة ما ينفي ذاك الوصف حيثما كان في نظائره وأشباهه ، وهذا ضرب من الاستدلال على نفي الشيئية والوجود عن مثل الحقّ بأن من هو نظيره منزّه عن هذا الوصف .
فلذلك قال رضي الله عنه : ( تحقّقنا بالمفهوم ) أي بما هو مفهوم الخاصّة من البلغاء عن هذا التركيب .
( وبالإخبار الصحيح ) مما يدلّ عليه ظاهرا ويصل إليه فهوم العامّة ( أنّه عين الأشياء ، الأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها ) على تكثّر صنوفها وتنوّع جزئيّاتها .
فإنّ الحدود منها ما هي ذاتيّة للشيء ، وهو ما ينتهي إليه الشيء ذاته ، كمدركات قواه وأفعال جوارحه ، ومنها ما هي عرضيّة له .
كالسطوح المكانيّة والآنات الزمانيّة التي ينتهي إليه الشيء بأعراضه وأحواله ، ومنها ما هي جامعة لهما ، كاشفة عن الكلّ وهي الأعداد وصورها الحرفيّة.
وعلم من تحقيق معنى الحدّ هذا وتبيين أقسامه وجه دخل هذا الكلام في الفصّ الهودي والحكمة الأحديّة ، فإنّك قد نبّهت في التلويحات السابقة أن "الدال "  إذا ظهر بـ « حاء » حقيقة الحق إنّما يدلّ على كنه غايات الشيء ونهايته ، فإذا ظهر في ضمن « ألف » ابتداء الوجود هو " الأحد " كما أنّه إذا جمعهما « ميم » منتهى العلم هو « الحمد » .

 فالحمد هو العلم بحدود الأشياء على اختلاف أنواعها وتكثّر صنوفها ، فإنّها حدود الحقّ .
قال رضي الله عنه : ( فهو محدود بحدّ كلّ محدود ، فما يحدّ الشيء إلَّا ) حدّه ذلك ( هو حدّ الحقّ ) .
والذي يلوّح عليه أن حد ( اال ) كل شيء هو لبّه المرئي فيه ، هذا إن أخذ من بيّناته ما هو أول ، وإن تعمّق فيها يظهر ما هو أبين .

الإنسان الكبير
قال رضي الله عنه : ( فهو الساري في مسمّى المخلوقات ) الماديّة ( والمبدعات ) المجرّدة ، ( ولو لم يكن الأمر كذلك ما صحّ الوجود ) لشيء ، ضرورة نفي الوجود عمّا يماثل الحقّ ويقابله (فهو عين الوجود) الظاهر الذي به يوجد الكلّ ، ( فهو " عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ " [ 11 / 57 ] بذاته ) وما بالذات من الشيء لا تكلَّف له في إصداره ، ولا ثقالة له منه في احتماله ، فلا يثقله ( ولا يؤده حفظ شيء ).  " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا " [ فاطر : 41]
قال رضي الله عنه : ( فحفظه تعالى للأشياء كلَّها حفظه لصورته أن يكون الشيء ) على ( غير صورته ) ، فإنّه لم لو يحفظه ذلك لكان الشيء على غير صورته مقابلا له ومماثلا ، وذلك محال عقلا وذوقا ، فإنّ الأشياء ظاهر الحقّ وصورته ، وهو بالذات حافظ له أن يكون غير صورته .
( ولا يصحّ ) بالنظر العقلي والشهود الذوقي ( إلَّا هذا ) على ما لا يخفى ( فهو الشاهد من الشاهد ، والمشهود من المشهود ) ، فلا مدرك ولا مدرك في المعنى والصورة إلَّا هو .
قال رضي الله عنه : ( فالعالم صورته ، وهو روح العالم المدبّر له ) بهويّته ( فهو الإنسان الكبير) .
قال رضي الله عنه : ( فهو الكون ) بالكثرة الكيانيّة .
( كلَّه . وهو الواحد ) بالوحدة الوجوديّة ( الذي ) ( قام كوني بكونه ) وإطلاق الكون هاهنا على وجوده باعتبار كثرته النسبيّة الأسمائيّة ضرورة وجوب مناسبة الغذاء للمغتذي.
( ولذا قلت نغتذي ) فإنّ الغذاء ما به يتقوّم المغتذي .
قال رضي الله عنه : ( فوجودي غذاؤه ) باعتبار وحدته ليناسب المتغذي ( وبه نحن نحتذي ) ونغتذي في غذائه المغتذي .
ثم استشعر أنّه إذا كان قيام كونه بكون الحق فكيف يتمكَّن من تعوّذه واجتنابه عن البعض ،
وقال :( فبه منه إن نظر ت بوجه ) وهو هذا التوحيد الذاتي الذي فيه يتكلَّم ( تعوّذي ) كما أفصح عنه الحضرة الختميّة بقوله : « نعوذ بك منك » وعن وجوهه الأسمائي والأفعالي بقوله : "نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقابك " .
وإذا تقرّر أن حدود الأشياء ونهاياتها وصورها وغاياتها المستخرجة من مكامن القوة إلى مجالي الفعل كلها صورة الحق ، وهي منطوية فيه ، مقتضية للظهور والبروز انطواء الكلمات في باطن المتكلم المقتضية للتكلم بها والتنفّس بإظهارها .
ولذلك عبّر عن ذلك الاقتضاء بالكرب قائلا : ( ولهذا الكرب تنفّس ، فنسب النفس إلى الرحمن ، لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية ، من إيجاد صور العالم التي قلنا ) الصورة ( هي ظاهر الحق ، إذ هو الظاهر ، وهو باطنها ، إذ هو الباطن ) ومما يلوّح على هذا تلويحا بيّنا أن « هي » هو هاء الهويّة الظاهرة على ياء الغيب ، و « هو » هو الياء منه فقط .

النفس الرحماني وظهور العالم فيها
قال رضي الله عنه : (و"هُوَ الأَوَّلُ " إذ كان ولا هي ، وهو " الآخِرُ " إذ كان عينها عند ظهورها فالآخر عين الظاهر ، والباطن عين الأوّل ) فظهر أن الحدود كلَّها عين هويّة الحقّ ( "وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ")  [ 57 / 3 ] لأنّه بنفسه عليم ) لأنّ حدود الأشياء ظاهرها وباطنها نفس هويّة الحقّ وعينها في الحضرة العليميّة والهويّة الأحديّة التي لا يتميّز المعلوم عن العالم ، فلا صورة هناك لشيء إلَّا للحقّ ، ولا نسب إلَّا له . 
قال رضي الله عنه : ( فلمّا أوجد الصور في النفس ) الرحماني الذي به انبسط عن الكرب الذي من تراكم النسب والصور في الباطن ( وظهر سلطان النسب المعبّر عنها بالأسماء ، صحّ النسب الإلهي للعالم ) ضرورة امتياز المعلوم حينئذ عن العالم ، والموجود عن الوجود ، وفتح باب لام التفصيل المنخفض كلّ الانخفاض في العليم ، وصحّة نسبة الموجودات والمعلومات مطلقا أن يكون إلى الله الحقّ . 
قال رضي الله عنه : ( فانتسبوا إليه تعالى ) بعبوديّتهم له ومخلوقيّتهم ومرزوقيّتهم ( فقال : اليوم ) أي حيث يظهر أمر النسبة عند تمايز المنتسبين ، ويطلع شمس الإظهار من أفق غيبه .
( أضع نسبكم وأرفع نسبى . أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم ) الذي كنتم عليه في يوم لا نسبة ولا المنتسبين ( وأردّكم إلى انتسابكم إليّ ) لتكونوا عبيدي ومظاهري ، فاعبدوا ما ظهر بكم .
ثمّ إذ قد علم أن يوم الظهور والإظهار إنّما اقتضى قهرمان أمر نسبة العبيد إلى الحق ، وقطع انتسابهم إلى أنفسهم - فإنّ ذلك مما ينفي إنفاذ حكم النسبة - فأخذ في تفصيل تلك النسبة - فإنّ من المحقّقين من شاهد نسبة العبيد إلى الحقّ نسبة الباطن إلى الظاهر .
ومنهم من شاهدها بالعكس  قائلا : أين المتّقون ؟

للمتّقي اعتباران
قال رضي الله عنه : (أين المتّقون ؟ أي الذين اتّخذوا الله وقاية ،فكان الحقّ ظاهرهم ،أي عين صورهم الظاهرة ) لوقايته لهم ( وهو أعظم الناس ) قدر الشهود صورته أعظم ما في الوجود ( وأحقّه ) شهودا ، أي الواقع أظهر مطابقة لشهوده من شهود غيرهم ، وهو ظاهر.
( وأقواه ) حجّة ( عند الجميع ) وذلك أنّ الظاهر أنزل المراتب ، فهو أشمل ، فسائر الحجج تثبت مدعاه .
قال رضي الله عنه : ( وقد يكون المتّقي من جعل نفسه وقاية للحقّ بصورته ) وهو أن يكون الحقّ باطنه ، وهو ظاهر الحقّ لوقايته له
قال رضي الله عنه : ( إذ هويّة الحقّ قوى العبد فجعل مسمّى العبد وقاية لمسمّى الحقّ على الشهود ) عن أن ينتسب إلى الحقّ جهل أو شيء من نقائص الأوصاف الكونيّة فجعل مرجع ذلك كلَّها إلى العبد .
قال رضي الله عنه : ( حتّى يتميّز العالم ) ومن يوصف بالأوصاف الكماليّة ( عن غير العالم ) ممن ينتسب إليه النقائص ويوصف بها ( " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ " [ 39 / 9 ] وهم الناظرون في لبّ الشيء ) ، المطَّلعون على غايته وحدّه .
قال رضي الله عنه : ( الذي هو المطلوب من الشيء ) وأنت قد نبّهت على ما بين اللبّ والحدّ من النسب الدالَّة التلويحيّة .
( فما سبق مقصّر ) واقف بين الأوساط ( مجدّا ) واصلا إلى حدّه ( كذلك لا يماثل أجير) يعمل بجعل هو يحرّكه وهو مجعوله ( عبدا ) يسوقه ويجرّه الفواتح والخواتم ، كما سبق في بحث السائق والآخذ بالناصية .
قال رضي الله عنه : ( وإذا كان الحقّ وقاية للعبد بوجه ، والعبد وقاية للحق بوجه ) بناء على ما في المشهد الجمعيّ الختميّ ، من الجمع بين المشاهد والأذواق كلَّها ، والختم بتمامها .
( فقل في الكون ما شئت إن شئت قلت : « هو الخلق » ) كما في مشهد المتّقين ، الذي جعلوا صورتهم وقاية للحق ، وإنّما قدم هذه الطائفة لكثرتها وغلبتها .
قال رضي الله عنه : ( وإن شئت قلت : « هو الحق » ) - كما هو مشهد المتّقين الذين اتّخذوا الله وقاية لهم .
( وإن شئت قلت : "هو الحقّ الخلق ") كما هو في المشهد الإطلاقي الختمي .

للهويّة الإطلاقيّة وجهان
ثمّ هاهنا نكتة لها كثير دخل فيه ، وهي أنّ للهويّة الإطلاقيّة التي هي مشهد الورثة الختميّة وجهين ظاهرين ولازمين بيّنين ، يظهر بهما في مجالي الوجود ومواطن الشهود :
أحدهما الإحاطة التامّة المقتضية لأن يكون عين الأشياء ، وقد عبّر عن ذلك عبارة الكاشف عنها أنّه « مع كلّ شيء لا بمقارنة » وهذا مبدأ الأوصاف الوجوديّة وقد لوّح عليه هاء « هو » رقما.
والآخر العلوّ فيها وعنها ، وهو أن لا يكون شيء يحيط بها  أو يقابلها في تلك الإحاطة ، وهو وجه تماميّتها ، وذلك يقتضي أن لا يكون عين شيء من الأشياء ، بل غيره .
كما عبّر عنه في تلك العبارة بأنّه  : " غير كلّ شيء لا بمزايلة " وهذا مبدأ الأوصاف السلبيّة ، وهو أبطن وأقرب إلى الذات ، وقد لوّح عليه واو «هو» عقدا .
فمنهم من غلبه الأوّل ، ومنهم من الغالب عليه هو الثاني ، وإليه أشار 

بقوله : ( وإن شئت قلت : لا حقّ من كلّ وجه ، ولا خلق من كلّ وجه ) كما هو ذوق بعض الشاهدين ذلك المشهد ، فإنّك قد عرفت في طيّ هذه النكتة الحكميّة ما يطلعك على ما للمعنى الإطلاقي من الوجهين ، وأنّ العدمي منهما أقرب إلى الذات وأعلى .
( وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك ) كما هو ذوق بعض الحائرين في سطوات تموّجات بحر الذات ، الضالَّين في أنوار هدايتها :ما بين ضال المنحني وظلاله
ضلّ المتيّم واهتدى بضلاله ( فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب ) وتبيينك غايات أذواق الكمّل وحدود مراقيهم ، ( ولولا التحديد ما أخبرت الرسل ) عند الكشف عما ينبئ ما عليه الحقّ في نفسه ( بتحوّل الحقّ في الصور ، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه ) . 
أمّا الملازمة الأولى فظاهرة ، إذ الصورة هي إحاطة حدّ أو حدود ، فهي تستلزمه ضرورة ، وأمّا الثانية فلما مرّ من أن مقابل المحدود لا بدّ وأن يكون محدودا ، كما أنّ مقابل المقيّد مقيّد بالإطلاق كما سبق تحقيقه آنفا وهذان هما الحدّان للإطلاق كما تذكَّرته آنفا . 

( فلا تنظر العين إلَّا إليه ولا يقع الحكم ) في نفي المنظوريّة عنه ( إلَّا عليه )
( فنحن له ) نبيّن ( وبه ) ظهر ، حال كوننا ( في يديه ) مخففين ومختفين في ثنوية المتقابلين ( وفي كلّ حال ) من الإخفاء والإظهار ( فإنّا لديه ) وذلك لما في القرب من الوحدة الإطلاقيّة ما ليس في الاتحاد ، ولذلك تراها ظاهرة بالوجهين .

أقسام الناس ومراتبهم في شهود الوحدة
( ولهذا ) الذي في الهويّة الإطلاقيّة من الوجهين ( ينكر ويعرف ، وينزّه ويوصف فمن رأى الحقّ منه فيه بعينه : فذلك العارف ) لشهوده الوحدة الجمعيّة والهويّة الإطلاقيّة بإطلاقها .
قال رضي الله عنه : ( ومن رأى الحقّ منه فيه بعين نفسه :  فذلك غير العارف ) لشهوده الوحدة ليس بإطلاقها .
قال رضي الله عنه : ( ومن لم ير الحقّ لا منه  ولا فيه ، وانتظر أن يراه بعين نفسه : فذلك الجاهل ) فإنّ حظَّه من المشهد الجمعي الختمي هو الانتظار ، ليس إلَّا ولذلك ترى سائر الأمم حظَّهم من السعة الساعة الإطلاقيّة هو انتظار ظهور الخاتم ، معبّرا عن اسمه بما أفصح عنه لسان مرتبتهم ، وناطقة عقيدتهم ، ضرورة شمول نسبة الكلّ ، وعدم بلوغ رقيقة قربهم وراء الانتظار .
قال رضي الله عنه : ( وبالجملة ، فلا بدّ لكلّ شخص من عقيدة في ربّه ) ورقيقة نسبية ( يرجع بها إليه ويطلبه فيها ، فإذا تجلَّى له الحقّ فيها عرفه وأقرّ به ، وإن تجلَّى له في غيرها نكره وتعوّذ منه ، وأساء الأدب عليه في نفس الأمر ) ضرورة إنكاره له في بعض مجاليه ومظاهره .
قال رضي الله عنه : ( وهو عند نفسه أنّه قد تأدّب معه ) ونزّهه ( فلا يعتقد معتقد ) من ذوي العقائد الجزئيّة - تقليديّة كانت أو نظريّة ( إلها إلَّا بما جعل في نفسه ) من الصورة التي عقدها من إمامه الذي تقلَّده أو ساق إليها نظره .
قال رضي الله عنه : ( فالإله في الاعتقادات بالجعل ) من المعتقد وما يصوّرون به بواطنهم ونفوسهم ( فما رأوا إلَّا نفوسهم وما جعلوا فيها ) من الصور .
قال رضي الله عنه :  (فانظر مراتب الناس في العلم باللَّه تعالى هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة ) كما نبّهت عليه من رؤية الحقّ كلّ أحد في سعة ساعته ، على ما عليه نفسه من الصور ، إمّا انشراحا علميا من الحقّ ، أو عقدا تقليديّا جعليّا من نفسه ، وهذا لا يمكن له أن يجاوز ذلك الصورة المحصورة إلى غيرها في تلك السعة .
قال رضي الله عنه : ( وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك ) وهو العقد الذي جعله عليه تعمّلا وتكلَّفا ، تقليدا لمن حسن ظنّه به ، فطاب له قبوله عنه .
قال رضي الله عنه : ( فإيّاك أن تتقيّد بقيد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير ) ضرورة أنّ ما تكفر به من صور الحقّ كثير بالنسبة إلى ذلك العقد المخصوص .
قال رضي الله عنه : ( بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه ) في نفسه ، فإنّه في نفسه مطلق ، وهو قد اعتقده مقيّدا مخصوصا ، فيكون الفائت منه حينئذ العلم كلَّه .

أينما وليت فثمّ وجه الله 
قال رضي الله عنه : (فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلَّها ، فإنّ الإله تعالى أوسع وأعظم أن يحصره عقد دون عقد ، فإنّه يقول : " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " [ 2 / 115 ] وما ذكر أينا من أين ، وذكر أنّ ثمّ وجه الله - ووجه الشيء حقيقته - فنبّه بهذا قلوب العالمين لئلا يشغلهم العوارض)
من الصور العقديّة التي عليها جمهور الأمم ، فإنّها شاغلة للإنسان ، لتمدّنه بالطبع ، وضرورة تشاركه لبني نوعه ( في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا ) الإطلاق الذاتي ، ( فإنّه لا يدري العبد في أيّ نفس يقبض ) عن هذا الموطن الإطلاقي والنشأة الطبيعيّة الكلَّية ( فقد يقبض في وقت غفلة ، فلا يستوي مع من قبض على حضور ) .
ثمّ أخذ يبيّن مبدأ ما عليه الجمهور من العوارض الشاغلة ، والعقائد العائقة قائلا : ( ثمّ إنّ العبد الكامل مع علمه بهذا ) الوجه الإطلاقي ( يلزم في الصورة الظاهرة ) وما هي عليه من حكم الكون وقهرمان القيد ( والحال المقيّدة ) من العوارض المشخّصة الزمانيّة وتطوّراتها المكانيّة.

قال رضي الله عنه : ( التوجّه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ،ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته) وهو من آثار تقيّد العبد وتشخّصه زمانا ومكانا.
قال رضي الله عنه : (وهو بعض مراتب وجه الحقّ من : " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " فشطر المسجد الحرام منها) أي من تلك المراتب وجزئيّاتها ( ففيه وجه الله ، ولكن لا تقل « هو هنا فقط » ) .

كما قيل :
لا تقل دارها بشرقي نجد   ..... كلّ نجد للعامريّة دار
فلها منزل على كلّ ماء   ...... وعلى كلّ دمنة آثار
قال رضي الله عنه : ( بل قف عندما أدركت ) من الإطلاق ، ( والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام ) خاصّة ، وفاء بحقّ العبوديّة من الإذعان والانقياد .
( والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأينية الخاصّة ) وفاء بحقّ كمال العبوديّة ، وبيّن أنّ كلّ ما يقصده المتحرّك فهو المتوجّه إليه - سواء كان شرحيّة صدريّة ، أو عقديّة عقليّة ، أو كونيّة طبيعيّة ، أو ظهوريّة جوهريّة ، أو حاليّة عرضيّة نمويّة كميّة ، أو استحاليّة كيفيّة ، أو انتقاليّة أينيّة - وهذا أظهر أقسام الحركة وأنزل مراتبها.
ولذلك قال : ( بل هي من جملة أينيّات ) أي منسوبات إلى الأين ، وهي سائر أقسام الحركة وأصنافها ( ما تولى متول إليها ) على ما هو المستفاد من العموم في "أَيْنَ ما".
قال رضي الله عنه : ( فقد بان لك عن الله أنّه في أينية كلّ وجهة ، وما ثمّ ) في الأينيّات ( إلَّا الاعتقادات ) فإنّها أصل سائر الحركات والأينيّات ، ( فالكلّ ) من المعتقدين ( مصيب ) في اعتقاده ، لأنّه ممّا تولَّى إليه متولي .
قال رضي الله عنه : ( وكلّ مصيب مأجور ، وكلّ مأجور سعيد ، وكلّ سعيد مرضيّ عنه وإن شقي زمانا  في الدار الآخرة ) باعتبار إدراكه الأمور الغير الملائمة المنافرة لمقتضى زمانه .
قال رضي الله عنه : ( فقد مرض وتألَّم أهل العناية - مع علمنا بأنّهم سعداء أهل حقّ - في الحياة الدنيا ) .

نعيم أهل جهنّم
قال رضي الله عنه : ( فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار يسمّى" جهنّم " ) وأنت قد عرفت من قريب ما يختصّ به أهل جهنّم من الملائمات الخاصّة بأهل القرب ، فاستشعر ذلك قائلا رضي الله عنه : ( ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنّه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاصّ بهم ، إمّا بفقد ألم كانوا يجدونه )
مما يمنعهم عن إدراك ما هم عليه من القرب ، كالتوهّمات والخيالات العائقة عن إدراك الأمر على ما هو عليه ( فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم ، أو يكون نعيم مستقلّ زائد ) على فقد المؤلم ، ذلك مما يثمره أطوار أدوار الزمان على أفنان الوقت ، ( كنعيم أهل الجنان في الجنان والله أعلم ) .

تمهيد للفصّ الآتي
وإذ قد بيّن في الفصّ الهودي أمر الطريق وما هو عليه من الاستقامة والاستواء واتّفاق السالكين كلَّها فيه على منهج الصواب ومسلك السداد :
ناسب أن يستردف ذلك بما يكشف عمّا به يتحقّق السلوك على ذلك الصراط المستقيم.
ومنه تصدر الحركة في منهجه القويم ، وعمّا به تتخالف المذاهب وتتباين الطرق والشوارع فقال : عن حكمة فاتحية في كلمة صالحية.
.

التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment