Wednesday, July 31, 2019

03  - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

03  - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

قوله: (اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد، فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب.)
قلت: لما قال فص حكمة سبوحية تكلم في معنى السبوح وهو المنزه، فشرع في تحقيق التنزيه وسمى صاحبه إما جاهلا وإما صاحب سوء أدب.
أما جهله، فمن جهة أن يقول إن الله تعالى منزه عن كل صفة تشاركه في التسمية بها خلقه ، فيلزم هذا القائل أحد أمرين:
إما أن لا يتسمى الحق تعالی أنه سميع بصير متكلم بل ولا حي عالم مريد قادر، فإن هذه الأسماء يصح إطلاقها على خلقه.
أو ينفي هذه الصفات عن خلقه وذلك ممنوع لأن الشريعة المطهرة جاءت على وفق التسمية بهذه الأسماء لخلقه.
اللهم إلا أن يقولوا: إن هذه الأسماء من الأسماء المشتركة.
فيقال لهم: سلمنا ذلك لكن هل يفهم منها حالة إطلاقها على الحق جل جلاله ما كان من وضع واضع اللغة أو غيره؟
فإن كان هو بعينه، فالتنزيه مناف لما دل عليه الوضع.
أو لا يكون معناها ما دل عليه الوضع اللغوي؟
 فلا يكون قد خاطبنا باللسان العربي وقد قال تعالى: " بلسان عربي مبين" (الشعراء: 195).
هذا إذا تكلمنا معهم بمبلغ عقولهم فهم جهال, وإن تكلمنا بما يقتضيه الشهود، فالحق تعالی موصوف بهذه الصفات ولا يخلو منه مكان ولا زمان.
فقول القائل في التنزيه: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا وسط، أو أن يقال إنه لا يرى كما يقوله المعتزلة ومن تابعهم لا في الدنيا ولا في الآخرة فهم جاهلون بالله تعالى، فإن الحق خلاف ما قالوه.
قال: وإما أن يكون صاحب سوء أدب، وهولاء، الذين هم أصحاب سوء الأدب، على قسمين:
"القسم الأول :" إما أن يقولوا على الله تعالى من تنزيهه ما يتحققون خلافه فلا يكون ما قالوه تنزيها بل كفرا، وهذا القسم قليل أن يوجد.
القسم الثاني: أن يروا من يعتقد نفي الصفات التي أثبتها لنفسه عنه تعالى فيوافقونهم في القول تملقا ونفاقا وهم يعتقدون الحق ويظهرون خلافه، فإذن المنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب.
قوله رضي الله عنه : (ولكن إذا أطلقاه وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك، فقد أساء الأدب وأكذب الحق تعالی والرسل، صلوات الله عليهم، وهو لا يشعر، ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت. وهو كمن آمن بعض وکفر ببعض، ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطفت في الحق تعالی بما نطقت إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول، وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان. )
قال رضي الله عنه : (فإن للحق في كل خلق ظهورا فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته وهويته، وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنی روح ما ظهر، فهو الباطن فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدير للصورة. فيؤخذ في حد الإنسان مثلا ظاهره وباطنه، وكذلك كل محدود. فالحق تعالی محدود بكل حد.)
قلت: إذا أطلقه المذكوران، وهما الجاهل وصاحب سوء الأدب، أي إذا أطلقاه وقالا به، فنقول للمؤمن منهم بالشرائع: وقوفك عند التنزيه إن لم ترى غیره فقد أساءت الأدب.
لاستلزام ما قلت به تکذیب الحق تعالی ورسله الكرام وأنت لا تشعر لأنك سددت باب الصفات التي وردت عن الله تعالى على ألسنة رسله.
وسددت باب ما اقتضاه الكشف والشهود، فإن من انشق حسه ورأي بظاهره ظاهر الحق تعالى من حيث دخول ظاهريته في ظاهر الحق حتى لا يرى الحق إلا الحق تعالى، ومن سد البابين المذكورين فهو على غاية من سوء الأدب.
فأما سوء الأدب الخاص، برد ما جاءت به الرسل عن الله تعالی فذلك أنها أتت بها على العموم في المفهوم الأول يعني بلا تأويل بل على ظاهره .
وذلك هو مفهوم العموم أي العامة، لأن الرسل، عليهم السلام، أمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، فكلامه تعالى على قدر عقول العامة، فهو محمول على مفهومهم. فمن خالف ذلك فقد أساء الأدب على الله تعالی.
وأما سوء الأدب المختص بما إذا حمل ما جاءت به الرسل من الصفات على مفهوم الخصوص، فهو أن يحمل الصفات على كل مفهوم مفهوم مما يحتمله اللفظ في تلك اللغة التي جاءت بها الرسل الكرام.
قال: وذلك لأن للحق تعالى في الخلق ظهورا، فهو الظاهر في كل مفهوم فإذن لا يتخصص مفهوم دون مفهوم آخر بالحمل عليه حتى لو كان المفهوم في لغة مثلا مغايرا للمفهوم في لغة أخرى حمل المعنى على كل واحد من المفهومین ولم يضر اختلاف اللغتين ، فكيف إذا كانت اللغة واحدة فأحرى أن يحمل على كل مفهوم من مفهوماتها.
ثم استطرد الشيخ، رضي الله عنه، في الكلام بذكر الباطن في قوله: وهو الباطن عن كل فهم، فإن هذا معنى آخر غير ما كان فيه، فإن كلامه في ذم من اعتمد التنويه فقط وذكر الباطن هو مناسب لمن اعتمد التنزیه فقط .
فكان حقه أن لا يذكره لكن أراد أن أن يذكر ذلك، ليستثني القائلين: بأن العالم صورته وهويته جامعين لذلك مع أن يروا أنه بالمعنی روح ما ظهر فهو الباطن، فنسبته لما ظهر من العالم نسبة الروح المدير للصورة وحينئذ كيف كان القائل، فهو صادق، لأنه إن نزه صادف الحق من حيث باطن العالم، وإن شبه صادف الحق من حيث ظاهر الحق.
وقوله: فيؤخذ في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره وكذلك كل محدود والمراد أن الجميع حق فيكون المحدود ليس هو غير الحق فيكون الحق محدودا بكل حد.
قوله رضي الله عنه : (وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا تعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته.
فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة، وهذا محال حصوله: فحد الحق محال. وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه.
ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه بالوصفين على الإجمال- لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور- فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل.)
قلت: هذا الكلام ظاهر مما سلف، وليفهم أنه يعني أن من حصره في الصفات كالحنابلة وغيرهم فيما ينقل عنهم أنه جاهل وذلك معروف.
 قال: ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوصفين على الإجمال فقد عرفه، ثم أجاب عن سؤال مقدر.
كأن قائلا قال له: فلم لا يعلم على التفصيل؟
فقال: لأنه يستحيل ذلك لعدم الاحاطة بما في العالم من الصور وأقحم في الكلام أن الانسان أيضا إنما عرف نفسه على الاجمال لا على التفصيل.
قوله رضي الله عنه : ولذلك ربط النبي، صلى الله عليه وسلم، معرفة الحق بمعرفة النفس
فقال: «من عرف نفسه عرف ربه» وقال تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق" وهو ما خرج عنك "وفي أنفسهم" وهو عينك و"حتى يتبين لهم" أي للناظر و"أنه الحق" (فصلت: 53) من حيث أنك صورته وهو روحك.
فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدير الصورة جسدك.
والحد يشمل الظاهر والباطن منك، فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدير لها لم تبق إنسانا.
ولكن يقال فيها: إنها صورة تشبه صورة الإنسان " جسد أو جثة "، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة. ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة.
قلت: جميع هذا الفصل ظاهر لا يحتاج إلى شرح
قوله: وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيا.
وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثنی بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها، كذلك جعل الله صورة العالم تسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور.
فالكل ألسنة للحق ناطقة بالثناء على الحق.
ولذلك قال: "الحمد لله رب العالمين" (الفاتحة: 2) أي إليه يرجع عواقب الثناء، فهو المثنى والمثنى عليه.
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا وإن قلت بالتشبيه كنت محددا وإن قلت بالأمرين کنت مسددا وكنت إماما في المعارف سیدا .
فمن قال بالإشفاع كان مشركا . ومن قال بالإفراد كان موحدا فإياك والتشبيه إن کنت ثانيا . وإياك والتنزيه إن کنت مفردا. فما أنت هو بل أنت هو وتراه في عين الأمور مسرحا ومقيدا.
قلت: بالغ الشيخ في التصريح بهذا المعنى وأكد فيه وبين أن الإنسان إذا أثنى على عقله ونفسه، فهو نظير تسبيح العالم الكبير ربه، تبارك وتعالى.
ولكن لا تفقهون تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور. وهذا واضح وأبيات الشعر مفهومة المعنى مما ذكر.
قوله رضي الله عنه : قال الله تعالى: "ليس كمثله شيء" فنزه، وهو السميع البصير" (الشورى: 11) فشبه.
وقال تعالى: "ليس كمثله شيء" فشبه وثني وهو السميع البصير فنزه وأفرد.
 لو أن نوحا، عليه السلام، جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارا ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا" (نوح: 10) وقال: "دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" (نوح: 5-6) .
وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته.
فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن.
ولهذا ما يختص بالقرآن إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران: 110).
فـ "لیس كمثله شیء" فجمع الأمرين في أمر واحد.
فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.
و نوح، عليه السلام، دعا قومه ليلا من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها غيب. ونهارا دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وحسهم، وما جمع في الدعوة مثل "ليس كمثله شيء" فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا.
ثم قال عن نفسه إذ دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، لذلك "جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم" (نوح: 7) وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك.
ففي "ليس كمثله شیء" إثبات المثل و نفيه، وبهذا قال عن نفسه، صلى الله عليه وسلم، إنه أوتي جوامع الكلم. فما دعا محمد صلى الله عليه وسلم، قومه ليلا ونهارا، بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل.
فقال نوح في حكمته لقومه: " يرسل السماء عليكم مدرارا" (نوح: 11) وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري، و يمددكم بأمواله أي بما يميل بكم إليه فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه.
فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف. فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم وعالم.
وولده وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري، والأمر موقوف علمه على المشاهدة، بعيد عن نتائج الفكر. "إلا خسارا"(الإسراء: 82) . "فما ربحت تجارتهم" (البقرة: 16) فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم، وهو في المحمديين
"وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" (الحديد: 7) وفي نوح "ألا تتخذوا من دوني من دوني وكيلا" آية 2 الإسراء.
فأثبت الملك لهم والوكالة الله فيهم. فهم مستخلفون فيه.
فالملك لله وهو وكيلهم، فالملك لهم وذلك ملك الاستخلاف. وبهذا كان الحق تعالی مالك الملك كما قال الترمذي، رحمه الله تعالی.
" مكروا مكرا كبارا" 22 سورة نوح.  لأن الدعوة إلى الله تعالی مکر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية .
"أدعوا إلى الله" 108 یوسف. فهذا عين المكر، على بصيرة فنبه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرا كما دعاهم.
قال رضي الله عنه :"فجاء المحمدی وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسمائه.
فقال: "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا" 80 مریم. " .
فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقین. فقالوا في مكرهم: " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء.
فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله.
في المحمديين: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" 23 الإسراء. أي حكم.
فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة کالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية.
فما عبد غير الله في كل معبود، فالأدنى من تخيل فيه الألوهية فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره.
ولهذا قال تعالى: " قل سموهم" 33 الرعد. فلو سموهم لسموهم حجرا وشجرا وکوکبا.
ولو قيل لهم: من عبدتم؟
لقالوا إلها ما كانوا يقولون: الله ولا الإله.
والأعلى ما تخيل، بل قال: هذا مجلي إلهى فينبغي تعظيمه فلا يقتصر.
فالأدنى صاحب التخيل يقول: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " 3 الزمر. والأعلى العالم يقول: "فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) " سورة الحج. حيث ظهر "وبشر المخبتين"  (الحج: 34). الذين خبت نار طبیعتهم، فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة.
"وقد أضلوا كثيرا" أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب.
"ولا تزد الظالمين" (نوح: 24 ) لأنفسهم. المصطفين الذين أورثوا الكتاب، أول الثلاثة.
فقدمه على المقتصد والسابق " إلا ضلالا" (نوح: 24 ) إلا حيرة المحمدی " زدني فيك تحيرا". "كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا" (لبقرة: 20).
فالمحير له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه،
قال رضي الله عنه : وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه غايته، فله من وإلى وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه "من"، ولا غاية فيحكم عليه «إلى»، فله الوجود الأتم وهو المؤتی جوامع الكلم والحكم.
"مما خطيئاتهم" فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، وهو الحيرة، "فأدخلوا نارا" (نوح: 20) في عين الماء وفي المحمديين. "وإذا البحار سجرت" (الصف: 6) سجرت من التنور إذا أوقدته من،
فلم يجدوا لهم "من دون الله أنصارا" (نوح: 20 ) فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد.
فلو أخرجهم إلى السيف، سیف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله.
"قال نوح رب" ما قال إلهي، فإن الرب له الثبوت والإله يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن. فأراد بالرب ثبوت التلوين إذ لا يصح إلا هو.
"لا تذر على الأرض" (نوح: 26) . يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها.
المحمدی "لو دليتم بحبل لهبط على الله".
"له ما في السماوات وما في الأرض" (البقرة: 255) وإذا دفنت فيها فأنت فيها وهي ظرفك "وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم" تارة أخرى" (طه: 55) لاختلاف الوجوه.
"من الكافرين الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم" (نوح: 7) طلبا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم والغفر الستر. "ديارا" (نوح: 26) أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة.
"إنك إن تذرهم" أي تدعهم و تتركهم "يضلوا عبادك" أي يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا، فهم العبيد الأرباب.
"ولا يلدوا" أي ما ينتجون ولا يظهرون "إلا فاجرا" أي مظهرا ما ستر،
"كفارا" (نوح: 27) أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد.
 "رب اغفر لي" أي استرني واستر من أجلى فيجهل مقامی وقدری کما جهل قدرك
في قولك: "وما قدروا الله حق قدره" (الأنعام: 91 " ولوالدي" من کنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة.
"ولمن دخل بيتي" أي قلبي " مؤمنا" مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها. وللمؤمنين من العقول "والمؤمنات" من النفوس.
ولا تريد الظالمين من الظلمات أهل الغيب المكتنفین خلف الحجب الظلمانية.
إلا "تبارا" (نوح: 28) أي هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم وفي المحمديين. "وكل شيء هالك إلا وجهه" (القصص: 88) والتبار الهلاك.
ومن أراد أن يقف على أسرار نوح فعليه بالترقي في فلك يوح، وهو في التنزلات الموصلية لنا والله يقول الحق.
قلت: قوله،"ليس كمثله شيء" فنزه هنا وجعل الكاف زائدة فافهم.
وقوله: "وهو السميع البصير" (الشورى: 11) شبه، لأنه وصف الحق تعالی بالسمع والبصر وهي قد يطلق على العين والأذن.
قوله: قال تعالى: "ليس كمثله شيء" فشبه وهنا جعل الكاف زائدة، فكأنه قال: ليس مثل مثله شيء فأثبت له مثلا لا يشبه ذلك المثل شيء .
ولذلك قال: وثني قوله: "وهو السميع البصير" فنزه وأفرد هنا حمل السمع والبصر على معاني أسمائه تعالى، فالسمع والبصر هنا لا يطلق على الأذن والعين بل على معاني الأسماء الإلهية .
ولذلك قال: و افرد و بالإفراد يقع التنزيه فلذلك قال فنزه وافرد.
قوله: ولو أن نوحا، عليه السلام، جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، يعني أن محمدا رسول الله جاء بالدعوتين: التنزيه والتشبيه، وهذا مبني على ما قرر من مفهوم قوله تعالى: "ليس كمثله شيء " فإنه عين حمل الآية على الأمرين معا، فجمع نبينا، عليه الصلاة والسلام، في دعوته.
وأما نوح، عليه السلام، فذكر رضي الله عنه : أنه ما جمع لهم وسنبين كيف ذلك .
وهو قوله:  فدعاهم جهارا، أي إلى التشبيه الذي تقدم ذكره لأنه الظاهر فناسب أن يقال في الدعاء إليه جهارا.
قال:  ثم دعاهم أسرارا، أي إلى حضرة التنزيه الذي تقدم ذكره أيضا لأنه الباطن فناسب أن يقال في الدعاء إليه أسرارا.
ثم قال لهم نوح: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا" فخاطبهم بما لا يناسب حالهم وإلى هذا أشار، رضي الله عنه: والذي لا يناسب حالهم هو كونه فرق الدعوة فدعا مرة إلى اسمه الظاهر، تعالى، ومرة إلى اسمه الباطن، تعالى.
فلما لم يجيبوه وصف حالهم معه وحاله معهم، فقال: "دعوت قومي ليلا ونهارا (نوح: 5) . 
أي ظاهرا مرة وهو قوله: نهارا وباطنا مرة وهو قوله: لیلا أي إلى الاسم الظاهر مرة وإلى الاسم الباطن مرة "فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" (نوح: 6).
وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته بكونهم جعلوا أصابعهم في آذانهم.
قال وإنما تصامموا عن دعوته، لأنهم علموا ما يجب عليهم إن هم سمعوها أي يتعين عليهم الطاعة، فسدوا آذانهم عن سماع دعوته حتى لا يقع عليهم لسان الذم.
قال: فعلم العلماء ما أشار إليه نوح، عليه السلام، من الثناء عليهم بلسان الذم، يعني أنه عذرهم وعلم أن مستندهم في سد آذانهم عن سماع دعوته أنه صحيح.
فكأنه قال: إنهم فعلوا ما يجب عليهم فعله ولم يدخلوا تحت ما يجب عليهم ما لا يلزمهم من اجابة دعوته المفترقة الجهات، وهذا الكلام صعب.
قال: لأنهم كانوا أهل قرآن وهو إنما أتاهم بالفرقان فلا جرم ما أجابوه.
وقول الشيخ، رضي الله عنه: فإن الأمر قرآن لا فرقان، يعني أن الحق هو الجمع بين الظاهر والباطن في الدعوة إلى التنزيه والتشبيه، والمراد هنا بالقرآن الجمع، لأنه مشتق من المصدر الذي اشتق منه قولك: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، فكأنه قال: الأمر جمع لا فرقان ، إذا كان الفرقان هو ضد الجمع وهو مثل فرق يفرق فرقا وفرقانا.
فقال الشيخ، رضي الله عنه: الأمر الإلهي قرآن لا فرقان ثم أخذ في تعريفنا مرتبة كل واحد من الاسمين المذكورين.
قال: ومن أقيم في القرآن وهو حضرة التوحيد لا يصغي إلى من دعاه إلى الفرق وإن كان الفرق في الجمع.
فلذلك قال رضي الله عنه: وإن كان فيه فإن القرآن يتضمن الفرقان بمعنى أن تفصيل الوحدانية هو بالأحدية وفي ضمنها وفي التفصيل يظهر الفرقان لكن يرجع بالأحدية كما ذكرنا، وأما الفرقان فلا يتضمن القرآن، لأن الفرقان صفة مسلوب عن موجب، والايجاب والسلب لا يجتمعان في الأقوال والأضداد لا تجتمع في الموصوفات ، إذا تحقق التناقض والتضاد.
قال: فالجمع اختص بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران: 110) في «ليس كمثله شيء" فجمع الأمر في أمر وأحد، يعني أن قوله تعالى: "ليس كمثله شيء" هو جامع المعنيين:
أحدهما أن يكون الكاف زايدة وهو معنی التنزيه
والثاني أن يكون الكاف غير زائدة ، وهو معنى التشبيه والكلمة واحدة، فاجتمع فيها الأمران كما هو الأمر في نفسه مجموعا في نشأة الإنسان الكامل.
قال: فلو أن نوحا أتي بمثل هذه الآية أجابوه أي يجمع الأمر في كلمة واحدة.
قوله: فإنه شبه ونزه في نصف آية، قلت: يعني قوله: "ليس كمثله شئ" .
قوله: ونوح دعا قومه إلى قوله: لیلا في نهار ونهارا في ليل، قلت: هذا الكلام ظاهر.
وقوله: إن نوحا دعاهم ليغفر لهم وما دعاهم ليكشف لهم، فكأنه قال إن استعدادهم كان يطلب الكشف، والمغفرة مشتقة من الغفر وهو الستر ومنه اشتق المغفر الذي يستر في الحرب فما احبوا الستر لأنه حجاب فمطلوبهم كان الكشف.
واعلم أن قوله عنهم في معنى قوله تعالى: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا" (نوح: 10) أي ستارا.
أنه إنما خص المعارف بأنها عقلية في قوله: "يرسل السماء علیکم مدرارا" (نوح: 11) وفسر ذلك بالمعارف العقلية والاعتبارية ولم يقل: إنها معارف إلهية كشفية لأن الغفر مشتق منه ما يدل على الستر.
والمعارف الإلهية لا تكون مع الستر الذي هو الحجاب، وإنما الذي يكون من المعارف مع الستر هي المعارف العقلية والاعتبارات الفكرية.
فلذلك فسر قوله تعالى: "يرسل السماء عليكم مدرارا" (نوح: 11) بالمعارف العقلية لأنها جواب قوله تعالى: "فاستغفروا" والاستغفار هو طلب الاستتار كما تقدم.
ثم فسر الأموال في قوله تعالى: "ويمددكم بأموال وبنين" (نوح: 12) بأنها ما يميل بهم إليه وجرت عادة أهل الطريق أن يستمعوا في كلام الله تعالی بل وفي كلام كل متکلم أمورا تقتضيها مراتبهم من الكشف والشهود الجزئي والكلي.
ولا يلتفتون إلى كونها مخالفة لمفهوم العموم بعد أن يصح لهم نسبتها إلى الحق بطریق کشفي .
وليس لمن سلم إليهم أحوالهم أن ينكر عليهم بعد ذلك فإن الانکار بعد التسليم لا يقبل فإنه إنما سلم لهم في الكل لا في الكلي العام .
حتى يقال: إن وجود العام لا يستلزم الخاص.
وأما أن صورتهم هي التي يرونها فيه تعالى فلأن صور العالم كله هي صور معلومات الله تعالى وما في العلم شيء هو خارج عنه وإلا كان العلم ظرفا للمعلومات والذات المقدسة لا تغاير العلم.
فيلزم أن تكون الذات المقدسية ظرفا لغيرها وذلك ممنوع. فإذن إنما رأوا صورتهم فيه بمعنى لا يوجب الظرفية بل إذا رأوا صورتهم في علمه وليس علمه غيره فقد رأوا صورتهم فيه.
قوله: وولده، أي نتيجة فكرهم، لأنا قد قررنا أن معارفهم فكرية لأجل الاستغفار المستلزم للستر والستر من لوازم الفكر والفكر من لوازم الستر .
وفسر قوله تعالى: "إلا خسارا" بأن تجارتهم لم تربح لأن نتائج الفكر ما أدت إلى الحقيقة، فإذن عين ما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم لم يكن ملكا لهم
قال: وهو ملك المحمديين ملك الاستخلاف، فيصرفوا عن إذن صحيح وإن كان قد قرر لقوم نوح أن الملك حقيقة لهم لقوله تعالى: "ألا تتخذوا من دوني وكيلا" (الإسراء: 2) .فأثبت الملك لهم والله وكيل فقط.
 واعلم أن المستخلفين فهم أعظم درجة من المستخلفين فيما في أيديهم لكن قال رضي الله عنه، هنا: إن نسبة الملك إليهم مجاز وهو إليه حقيقة، لكن لما استخلفهم فيه استحقوا أن يكون الملك لهم وهو وكيلهم فيه، فالملك لهم وهو ملك الاستخلاف أيضا.
قوله: وبهذا كان الحق تعالی مالك الملك، لأنه ملکه حقيقة والذي نسبه الشيخ، رضي الله عنه، إلى الترمذي في قوله: "مكروا مكرا كبارا" (نوح: 22) .
فقد فسره بأن الدعوة إلى الله تعالی مكر من الله ومن الرسول بالمدعو.
وذلك لأن الدعوة تقتضي أن المدعو كان على غير هدى من الله تعالى من كل وجه وليس كذلك . بل إنما كان على غير هدى من الله تعالى من جهة الاسم الهادي وقد كان على هدى من الله تعالى بالهداية العامة.
و استنادهم فيها إلى الاسم المضل لا من كل وجه بل إذا اعتبرنا هداية الاسم الهادي، أما إذا اعتبرنا هداية الذات التي فوق الأسماء والصفات فلا ضلال والذات إليها المرجع والمآل.
فالدعوة تناقضها في أحكامها، فتكون الدعوة مكرا بالمدعو، ومن عرف أحكام الأسماء الإلهية لم يستصعب هذه المعاني وقد شرحت ما تضمنه الكتاب العزيز من الأسماء و اقتصرت منها على ما أورده الغزالي والبيهقي وابن برجان رحمهم الله عليهم، فكانت مائة وستة وأربعين اسما كشفت عن قناع معاني الأسماء بما لم يذكره أحد قبلي.
قال رضي الله عنه: إن قوله: "أدعو إلى الله" هو عين المكر. قال: وقوله "على بصيرة " (يوسف: 108) إشارة إلى أن الأمر له كله.


قال: فأجابوه مكرا كما دعاهم مکرا، ثم قال: من المحمديين ، أنه علم أن الدعوة من اسمه الهادي والمدعو هو من تبع الاسم المضل، فمن كانت نسبته في الحقيقة إلى الاسم الهادي وصورة الدعوة عامة لتعذر الإتيان بها خاصة لكل فرد فرد.
ثم شبه رضي الله عنه، هذه القصة بمضمون قوله تعالى: «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا" (مريم: 85) فجاء بحرف «إلى» التي هي للغاية وقرنها بالاسم الرحمن ولكن لما ذكر المتقين علمنا أن المحشركان من حضرة الاسم المنتقم، فإنه هو الذي يتقي منه ولا يكون الاتقاء من الاسم الرحمن.
فإذن المحشر كان من حضرة اسم إلى حضرة اسم وإذا اعتبرت الهوية لم يكن هناك حشر فمعاني الحشر على قاعدته هو مكر.
ثم عاد إلى قوم نوح وبين أنهم إنما أجابوا الداعي مكرا أيضا بما ذكر من نسبتهم لمن قال : "لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا" (نوح: 23).
فكأنه قال: إنهم صرحوا بما كانوا واخفوه حالة مكرهم في الاجابة إذ قد علموا أن هذه التي دعوها آلهة هي عندهم ظهورات إلهية. والشيخ، رضي الله عنه، يسمى الظهورات مظاهر ومجالي، بناء على قاعدته من الإقرار بالأعيان الثابتة .
وأما عنده من يري أن الشيء قبل وجوده ليس له ذات وهو صاحب المواقف، رضي الله عنه، وغيره من الأكابر، فهو يسميها ظهورات وبين القولين بون عظيم لمن يعرف غوره.
والجميع حق لعود مقاصدهم في التوحيد إلى ما لا يختلف، فتعود إلى معنى ما أشار إليه، رضي الله عنه، من أن هذه التي عددوها إنما هي مظاهر للحق تعالى، فلا جرم قالوا: "لا تذرن آلهتكم".
قال: لأنهم لو تركوها لجهلوا من الحق تعالى على قدر ما تركوه منها. قال وقد يكون مجهولا في أكثر المحمديين مع تلاوتهم قوله تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" (الإسراء: 23) . والقضاء حكم فقد حكم أن لا تعبد سواه، فما عبد أحد غيره تعالي غيرة منه ذاتية، وبين ذلك بقوله: وإن التفريق والكثرة کالأعضاء في الصورة المحسوسة و كالقوى المعنوية في الصورة الروحانية
ثم أخذ يبين اعتبارات القائلين بعبادة الأصنام وجعل منهم الأعلى والأدنى التفاوت عقولهم في الاعتبارات .
فقال: فالأدنى وهو الضعيف النظر من تخيل في الأصنام الألوهة، قال ولولا هذه التخيل ما أقدم على عبادة الحجر ونحوه مع حقارة الحجر عنده ومن أجل الحقارة ورد في الكتاب العزيز توبيخا لهم بما تقرر عندهم أنهم غالطون "خأطئون".
وهو قوله تعالى: "قل سموهم" فإنهم إذا سموهم قالوا حجر أو شجر أو كوكب، فإنهم عبدوا الأصنام المتخذة من الحجارة والأصنام المتخذة من الخشب والأصنام التي هي کواکب، فقد عبدوا هذه الأنواع فطالبهم الرسول بأن يسموهم ليحصل لهم الإفحام لكن عذرهم أنهم تخيلوا أنهم آلهة لا حجارة وخشب وكواكب.



فلو قيل لهم في صنم وأحد مثلا: من عبدتم؟
لقالوا: آلها !. ولا كانوا يقولون الله ولا الإله
إذ ليسوا جاهلين بمرتبة معبودهم الحق الذي هو الله تعالى أو الإله الحق وهو الله تعالی
ثم أخذ يبين حال من هو أعلى مقاما من هؤلاء الذين تخيلوا أن هذه الأصنام آلهة.
فقال: والأعلى ما تخیل وهم الذين هم أفضل عقلا من أولئك قال فإنهم ما تخيلوا بل قالوا: هو مجلي " إلهي ينبغي تعظيمه فما اقتصروا على ما اقتصروا عليه أولئك الذين سماهم أدنى.
ثم أخذ يشرح حال هذا الأدنى بقوله: فالأدنى صاحب التخيل لما لم تعبد بالأصنام أنها الله تعالی لكن اعتقد أنها آلهة.
فكأن سائلا سأل فقال إذا لم تعتقد أنها الله تعالى فلأي شيء تعبدها؟
فكان جواب السؤال المقدر أن يقول"ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"(الزمر:3).
ثم رجع إلى الأعلى عقلا من هذا، فقال: والأعلى العالم يقول: "فإلهكم إله واحد له أسلموا وبشر المخبتين" (الحج: 34).

ثم أخذ يبين حال المخبتين، فقال: هم الذين خبت نار طبيعتهم أي خمدت حتى قالوا في كل صنم من الأصنام: إنه إله ولم يقولوا: طبيعة حجر أو خشب أو كوكب.
ثم أخذ يبين حال هؤلاء وهو الأدنون، فعظمهم في تفسير قوله تعالى فيهم: وقد أضلوا كثيرا" (نوح: 24) أي حيروهم إذ كان هؤلاء المذكورون يرون الوحدة في عين الكثرة فصرحوا بما رأوه.


 فأضلوا بذلك قوما کثيرين ممن لا يرى الوحدة في عين الكثرة بل يرى الكثرة ولا يرى الوحدة لقصورهم في الإدراك.
فقد حيروهم إذن بالوجوه الثابتة للواحد، فإنه ما يتكثر بالوجوه كما لا يتكثر الشخص الواحد بأنه نصف الإثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة. 
وكذلك إلى غير النهاية وبأنه أب لزيد وأخ لعمرو وولد لخالد وأشباه ذلك، فهذه وأمور أخرى مما لا يتناهى هي وجوه كلها لا تكثر الواحد.
ثم أخذ في اعتبار قوله "ولا تزد الظالمين" ففسر الظالمين بالذين وضعوا أنفسهم في بعض الاعتبارات في غير موضعها وهم خلفاء الله الكمل لأنهم الذين أورثوا الكتاب.


قال: وهم أول الثلاثة ويعني بالثلاثة قوله تعالى: "فمنهم ظالم لنفسه" وهؤلاء هم الأولون لأنهم قدموا على الفريقين الذين ذكروا بعدهم وهم المقتصد والسابق بالخيرات .
ثم أخذ يفسر قوله تعالى: "ضلالا" من قوله: "لا تزد الظالمين إلا ضلالا" فأشار إلى الضلال هنا بأنه الحيرة في الحق تعالى من قوله، عليه السلام: «رب زدني فيك تحيرا " فإن لم يكن هذا حديثا عن محمد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، فقد قاله المحمديون وهم أمته، عليه السلام.
قال: وقوله تعالى: "كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا" هو عنوان ما كانوا فيه من الحيرة وهذا هو كمالهم لأنهم محمديون وإليهم انتهى الكمال.


قال: وسبب حيرة المحمديين الدور والحركة الدورية التي ظاهرها الأفلاك وحركاتها، وباطنها دور حركة بواطنهم عليهم إذ ليس ورائهم مطمح يشتاقون إليه لقيامهم بمعاني الاستخلاف الإلهي وذلك هو معنى القطبية الكبرى
قال: وأما صاحب الطريق المستطيل وهو السالك إلى جهة واحدة فإنه مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه كمن ولده على كتفه وهو يسأل عنه.
قال: ومن هذه حاله هو صاحب خيال وإلى الخيال رجوعها فهو غايته فله بداية وله نهاية.
وإلى هذا المعنى أشار، رضي الله عنه، بقوله: فله من وإلى وما بينهما، فإن «من» هي لابتداء الغاية و«إلى» هي لانتهاء الغاية.
قال: وأما صاحب الحركة الدورية وهم المحمديون فليس لهم ابتداء فتلزمهم «من»، ولا لهم غاية فتحكم عليهم «إلى»، فلهم الوجود الأتم ولذلك أوتي، عليه السلام، جوامع الكلم وكذلك ورثته. وتعني بالحكم ما وافق لفظه معناه من غير خلل.
ثم أخذ بعظم أقدار من قبل فيهم: مما خطياتهم أغرقوا، وعبر عن الخطيئة بالخطوة التي خطت بهم إلى بحبوحة بحر الفناء في الله فغرقوا في ذلك البحر فحصل لهم العلم بالله تعالى من عين الحياة . فيه فادخلوا نارا في عين الماء وإنما سمي النار عين الماء لأن الشهود يقتضي ذلك.
قال النفري رضي الله عنه: «أوقفني في النار، فرأيت جيم الجنة جيم جهنم، فرأيت ما به يعذب عين ما به ينعم» ، ويجوز أن يحصل العطش الذي يتجدد لأهل الشهود في نفس الري.


وفي ذلك يقول شيخنا عبد القادر الجيلي فيما نقل لي عنه في قصيدة مذهبة وللأغيار مدهيه وهي شعر:
يرون أمرا أعطى الجمال قياده   …. فأصبح لا يلوى على اللوم والعتب
فلو أضحت السبع البحار مدامة   ….. يطوف عليه كأسها لم يقل حسبي
فهذا المعنى يجوز أن يحمل عليه في مذهب الصوفية قوله تعالى: "مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا" وليس ذلك بجائز على مذهب العلماء، رضي الله عنهم.
ولي من جملة قصيدة في هذا المعنى :
وهو الوجود المستمر بذاته    ….. في نهج متفق الشؤون محکوم
يعطيك ریا ضمنه عطش به  ….. اسمعت بالمرحوم والمحروم
قد ضاق من سعة به ذرعا      ….. ففي إقامة الموجود کالمعدوم
قال رضي الله عنه، استشهادا لوجود النار في الماء بقوله تعالى: "وإذا البحار سجرت" (التكوير: 6) والبحار هي ماء وقد وصفها بصفة النار في قوله
"سجرت" والدليل على أنها صفة النار قولهم: سجرت التنور إذا أوقدت فيه النار، فصح قوله: إن قوله: فأدخلوا نارا أنها نار في ماء.
ثم أخذ يبين معنى قوله: "فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا" (نوح: 25) وحمله على أنهم وجدوا الله ناصرا لهم لا سواه تعالى، فكأنه قال إنه نصرهم الله تعالى وهو مخالف لما قاله أئمة التفسير، إذا هو سالك فيما ذكره مسالك أهل الطريق.
ولذلك رأى أن نصره تعالى لهم هو أنهم هلكوا فيه إلى الأبد ومعنى هلاكهم إلى الأبد. أنهم راوه وحده ليس معه غيره أزلا وأبدا، فشهدوا أن ما معه غيره وهم محو فيه وهذا المحو يعرفه أهله.
قال: فلو نزل بهم لحجبهم بطبائع أجسامهم فكانوا بذلك نازلين في سيف هذا البحر وسيف البحر هو الساحل.
ثم أنه أورد على نفسه تقدیر سؤال كأن قائلا قال له: فهذا السيف الذي هو الساحل إذا أنزلهم الحق تعالى إليه هل يخرجون بذلك عنه؟
فقال في الجواب: لا بل هو الله .
واضرب بقوله: «بل» عن قوله الله وبالله فإن ذلك يقال في مراتب محو به وهو هنا سمح بذكر الحقيقة على ما هي عليه.
ثم أخذ يذكر قول نوح، عليه السلام: «رب»، قال: وخص الرب لأنه مضائف للمربوب، وأما الإله المشتق من الوله فما فيه تقييد، فأما لو اشتقه من الإلهة التي هي العبادة لكان بمعنى الرب واشتقاق الآلهة في قوله تعالى في بعض الروايات: ويذرك وآلهتك في موضوع قوله: "ويذرك وآلهتك " (الأعراف: 127) فالاشتقاق من الوله يقتضي التنوع الذي به تحصل الحيرة وهي الوله
ثم شرع في تقرير قوله: "لا تذر على الأرض" (نوح: 26) وقصده أن يعظم أقدارهم في دخولهم في باطن التوحيد ثم استشهد بما نقله المحمديون من قولهم: إنه، عليه السلام، قال "لو دليتم بحبل لهبط على الله."


ثم أخذ يبين معنى قوله تعالى: "وفيها نعیدکم" بالغيبة في الوحدانية "ومنها تخرجکم"(طه: 55) بالظهور إلى اسمه الظاهر.
قال: لاختلاف الوجوه، وهو جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا قال له : فإذا لم يكن هناك إلا الحق فما معنى تعید کم ونخرجكم، وحقيقة الوحدانية يقتضي أن لا خروج ولا إعادة؟
فقال إن الأسماء الإلهية منها الظاهرة ومنها الباطنة وهذه من الوجوه.
فكأنه قال: إن ذلك إنما كان الاختلاف اعتبارات الأسماء الإلهية وإليها استند؛ الكافرون الذين "استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم» (نوح: 7) طلبا للستر لما طلبهم ليغفر لهم أي يسترهم.
ثم أخذ يبين معنى قوله: "لا تذر على الأرض من الکافرین دیارآ" (نوح: 29) أحدا يسكن الديار قال: حتى إذا أخذهم إليه كلهم عمت المنفعة بجميعهم كما عمت الدعوة جميعهم.


ثم أخذ يبين معنى قوله تعالى«إنك إن تذرهم» (نوح: 27) وتتركهم ولا تغمرهم بالوحدانية يضلوا عبادك فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية.
وسبب ذلك أن من غمره التوحيد ينسى الفرق الأسمائي، فأما إن تركهم وشركهم دعوا الناس إلى الفرق، فأضلوهم بإخراجهم عن العبودية إلى تحقق أنهم عين الأرباب بل عین الرب .
وذلك هو نظرهم إلى أنفسهم أي يرون حقيقة أنفسهم، فيجدونها ليست غیر معبودهم، فينتقلون إلى الربوبية من العبودية ولذلك ذکر "عبادك" في قوله: "يضلوا عبادك" ولم يقل: يضلوا خلقك.
ثم انتقل إلى معنى قوله: "ولا يلدوا" (نوح: 27)، معناه: ولا يظهرون إلا فاجرا أي مظهرا من قولك فجرت النهر ونحوه، فإن الظهور يلزمه والكفار هو الذي يتكرر منه الكفر وهو الستر . والمراد هنا ستر خاص وهو ستر ما أظهره بفجوره کالانكار بعد الإقرار .
ثم شرع في معنى قوله تعالى: "رب اغفر لی" (نوح: 28) ففسره بمعنی استرني، لأن الغفر هو الستر وفسر الوالدين بالعقل والطبيعة، أما العقل فللأسماء الإلهية، وأما الطبيعة فلعالم جسمه، ومجموعهما هو والده، وفسر البيت بالقلب، وفسر المؤمن بالمصدق وهو على وفق اللغة، وخص المؤمنين بالعقول لأنها أعلى والمؤمنات بالنفوس لأنها دونها والعقل فاعل في النفس فهو الذكر وهي الأنثى کنسبة القلم الأعلى من اللوح المحفوظ.
وأردف ذلك ببيان حال الظالمين، واشتق أسمائهم من الظلمات، وفسر حالهم بأنهم حجبوا بالحق عن ادراك نفوسهم، فهو هلاك لهم لأنهم لا يعرفون نفوسهم.
واستدل بحال بعض المحمديين في نزول الآية فيهم مخبرة لهم أنه "كل شيء هالك إلا وجهه" (القصص: 88) .


والهالك: المعدوم، والمستثنى من العدم يكون موجودا، فالموجود هو وجهه الكريم وقال: "إن في فلك يوحوهي الشمس أسرار نوح وفلك يوح هو السماء الرابعة والله الهادي.
.
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment