Thursday, August 1, 2019

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

(1) «شيث».
(1) رأينا في الفص السابق أن المراد بآدم هو الصورة الإلهية الجامعة لكل حقائق الوجود، و أن الحق سبحانه لما أحب أن يُعرف تجلى لنفسه في نفسه في هذه الصورة التي كانت بمثابة المرآة و رأى جميع كمالاته فيها فجعلها الغاية من الوجود و خلق العالم الأكبر من أجلها. 
فآدم بهذا المعنى هو الحق متجلياً بصورة العالم المعقول و حاوياً في نفسه جميع صفات عالم الممكنات.
و هنا نرى ابن عربي يرمز بشيث ابن آدم إلى تَجَلٍ آخر للحق: و هو تجليه في صورة المبدأ الخالق الذي يمنح الوجود لكل موجود- أو باصطلاح المؤلف- يظهر في وجود كل موجود. و لما كان من طبيعة الحق أن يخلق- أي أن الخلق فعل ضروري له- و الخلق هنا معناه الظهور بالوجود لا الإيجاد من العدم- كان هذا التجلي الثاني- نتيجة لازمة عن التجلي الأول كما أن الابن نتيجة طبيعية و لازمة للأب.
و ليس الخلق إيجاداً من عدم كما قلنا و إنما هو ظهور أو خروج أو تجل:
و لذلك اختار له المؤلف كلمة النفخ أو النفث و سمى حكمة شيث بالحكمة النفثية.
و كلمة النفخ أو النفث تشير إلى خروج شي ء من شي ء أو فيض شي ء عن شي ء.
أما الوجود ذاته الذي يمنحه الحق لأعيان الموجودات فكثيراً ما يشار إليه «بنَفَسِ الرحمن» أو «النَّفَس الرحماني» و من هنا جاء استعمال الرحمة بمعنى منح الوجود.
(2) «العطايا و المنح الإلهية».
(2) ما ذا تكون العطايا و المنح التي يهبها اللَّه للعالَم في مذهب يقول بوحدة الوجود سوى الذات الإلهية و صفاتها؟ 
فذاته تعالى سارية في ذوات جميع الموجودات، و صفاته هي الصور الأولى المتعينة في صفات العالم الخارجي. لهذا قسم المؤلف العطايا و المنح إلى ذاتية و أسمائية. و يستوي في مذهب كهذا أن يسأل العبد ربه أن يمنحه كيت و كيت من صفات الوجود بأن يتجلى له فيها و أن لا يسأل، فإن الحق يتجلى في كل موجود بحسب الاستعداد الأزلي لذلك الموجود لا يغيّر من ذلك سؤال و لا دعاء. و كل موجود له عينه الثابتة في الأزل يظهر وجوده الخارجي بمقتضاها. هذا هو القانون العام في فلسفة ابن عربي لا يتحول عنه قيد شعرة مهما اختلفت الأساليب التي يعبر بها عنه.
من الجهل إذن السؤال أو الدعاء، فإن كل شي ء قد قدِّر أزلًا و سيكون على نحو ما قدر: طاعة أو معصية، خيراً أو شراً، حسناً أو قبحاً، اللهم إلا إذا قدر كذلك أن شيئاً ما لا ينال إلا بالسؤال أو الدعاء. أما الصوفي الكامل فلا يسأل شيئاً بل يراقب قلبه في كل آن ليقف على مدى استعداده الروحي، لأن قلب الصوفي- و هو مرآته التي التي يرى فيها تجلي الحق- يتغير في كل لحظة مع تغير التجلي الإلهي.
و اللحظة التي يكون فيها الصوفي حاضراً بقلبه مع اللَّه و يدرك فيها ناحية من نواحي استعداده الروحي هي التي يسميها الصوفية «الوقت». و لذلك قالوا: الصوفي بِحُكْم وقته، و الصوفي ابن وقته.
و من الصوفية- و هم الصنف الأدنى- من يسأل لا للاستعجال و لا غيره و إنما امتثالًا لأمر اللَّه في قوله «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»: و ليس المراد بالاستجابة منح الشي ء المسئول فيه دائماً، فإن المسئول فيه لا يتحقق إلا إذا اقتضته طبيعة الشي ء نفسه و وافق السؤال فيه الوقت المقدَّر له. أما إذا اختلف الوقت فلا استجابة إلا الاستجابة بلفظ «لبَّيك» التي يفرق ابن عربي بينها و بين الاستجابة الحقيقية التي يلزم عنها منح المطلوب.


(3) «فالاستعداد أخفى سؤال».
(3) ذكر المؤلف ثلاثة أنواع من السؤال: السؤال باللفظ أو الدعاء، و السؤال بالحال، و السؤال بالاستعداد. 
أما السؤال باللفظ فقد شرحناه و بينا أنه لا أثر له مطلقاً في الإجابة عن المسئول. و أما السؤال بالحال فراجع في الحقيقة إلى السؤال بالاستعداد، فإن الحال التي تطلب شيئاً ما تتوقف على طبيعة استعداد صاحبها، فلحال الصحة أو المرض مثلًا مطالب، و لكن الصحة و المرض يتوقفان على طبيعة الصحيح و المريض. فلم يبق بعد السؤال باللفظ إذن إلا السؤال بالاستعداد: أي ما تتطلبه طبيعة كل موجود من صفات الوجود. هذا هو السؤال بالمعنى الصحيح، و هذا هو السؤال الذي يستجيب له الحق استجابة حقيقية.
فإذا قدر لشي ء ما أزلًا أن يكون على نحو ما من الوجود و طلبت طبيعة ذلك الشي ء ما قدِّر لها، تحقق في الحال ما طلبت. و ليس ما يجري من الأحداث على مسرح الوجود إلا ذاك.
هنا تظهر جبرية ابن عربي واضحة جلية. و لكنها ليست جبرية ميكانيكية أو مادية ترجع لطبيعة جامدة غير عاقلة، بل هي نوع من الانسجام الأزلي  Pre -established harmony  الذي قال به ليبنتز. كما أنها ليست الجبرية التي قال بها غير ابن عربي من المسلمين، لأن الجبرية الاسلامية ثنوية تفترض وجود اللَّه و العالم، أما ابن عربي فيدين بحقيقة وجودية واحدة. فنظام الوجود القائم و ما طبع في جبلته من القوانين التي هي في واقع الأمر قوانين إلهية و طبيعية معاً، كل ذلك هو الذي يقرر مصير العالم في أية لحظة من لحظاته. و هذه النزعة أقرب ما تكون إلى نزعة الرواقية في إلهيّاتهم.
أما النتيجة العملية لهذا المذهب من الناحية الصوفية، فالرضا المطلق بقضاء اللَّه و قدره، و محاولة الصوفي التخلص- ما أمكنه- من ربقة العبودية الشخصية، ليحقق في نفسه الوحدة الذاتية مع الحق.


(4) «و من هنا يقول اللَّه تعالى «حَتَّى نَعْلَمَ» ... الكشف و الوجود».
(4) تشعر العبارة «حَتَّى نَعْلَمَ» - إذا أخذت على ظاهرها- بأن علم اللَّه بالأشياء غير أزلي لأنه متعلق بالموجودات الكائنة الفاسدة الموجودة في الزمان و المكان. 
و قد حاول بعض المتكلمين نفي هذا عن العلم الإلهي بأن نسبوا الحدوث في العلم للتعلق لا للعلم نفسه. أما العلم الإلهي فهو قديم. و لكن ابن عربي يرد عليهم في هذه النقطة بقوله إنهم أثبتوا صفة العلم زائدة على الذات الإلهية و جعلوا تعلق العلم بالمعلوم للعلم لا للذات. 
و لكن الذات و صفاتها شي ء واحد في نظر المحققين أمثاله (و في نظر المعتزلة أيضاً)، فالتعلق للذات المتصفة بالعلم لا للعلم. و كذلك الحال في القدرة و الإرادة و الصفات الأخرى. 
فإذا قيل تعلق علم اللَّه بكيت و كيت كان معنى ذلك تعلقت الذات الإلهية المتصفة بالعلم بكيت و كيت. 
و لكن ذات الحق هي في الواقع- في مذهبه- ذات المعلوم: و على ذلك لا يرى أن الحق يكتسب علماً بالمعلوم عند ما يظهر ذلك المعلوم في الوجود، كما لا يرى بَعْديةً زمانية في العلم الإلهي، و إن افترض قبلية و بعدية اعتبارية في الذات الإلهية التي تُصوِّرت على أنها كانت ثم أصبحت. فعلم اللَّه بالأشياء في العالم العقلي هو علمه بأعيانها الثابتة التي هي ذاته المفصلة في علمه. أي هي علمه بذاته في هذا المقام.
و علمه تعالى بالموجودات الخارجية هو نفس ذلك العلم منكشفاً له في صفحة الوجود: أو هو علم بذاته متجلياً في أعيان الموجودات، فالبعدية موجودة بهذا المعنى. و عليه يلزم أن نفهم «حَتَّى نَعْلَمَ» على ظاهرها و ألا نؤولها.


(5) «و الأمر كما قلناه و ذهبنا إليه. و قد بينا هذا في الفتوحات المكية».
(5) الأمر الذي قد بينه هو أن الحق سبحانه قد منح من ذاته و صفاته كل موجود ذي ذات و صفات. و هذا هو التجلي الإلهي: أي الظهور في الصور أو التعينات الكونية.
و لا يكون التجلي الإلهي لشي ء إلا بحسب استعداد المتجلي له، و لهذا لا يرى إنسان إلا صورته في مرآة الحق. أما الحق في ذاته فلا يُرَى و لا يُعْلَم لأنه لا يتجلى في صورة مطلقة. و قد ضرب المؤلف لهذه الرؤية الإلهية مثلًا بالمرآة و الصورة المشاهدة فيها، فإن الناظر إلى نفسه في المرآة يرى صورته هو و لا يرى جرم المرآة مهما حاول ذلك.
فكذلك الحق الذي هو مرآة الوجود لا يرى إلا صوره المتجلية في مرايا الوجود. و لكن التشبيه بالمرآة و الصورة قد استُغِلَّ في معنى آخر، فشبه الخلق بالمرآة و الحق بالصورة الظاهرة فيها.
فكما أن الحق مرآة الخلق، كذلك الخلق مرآة الحق. و في هذا يقول المؤلف: فهو (أي الحق) مرآتك في رؤيتك نفسك، و أنت مرآته في رؤيته أسماءه و ظهور أحكامها: و ليست (أي هذه الأسماء و أحكامها» سوى عينه.
أما المرجع المشار إليه في الفتوحات المكية فوارد في الجزء الأول ص 397 في الكلام عن المراة و صورتها.


(6) فالمرسلون، من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء».
(6) يعتبر ابن عربي «الولاية» أساس المراتب الروحية كلها. فكل رسول ولي و كل نبي ولي. 
و أخص صفات الولي أياً كان المعرفة: أي العلم الباطن الذي يلقى في القلب إلقاء و لا يكتسب بالعقل عن طريق البرهان، و هو مختلف عن العلم الموحى به في مسائل التشريع. 
و قد يستعمل ابن عربي كلمة «الإنسان الكامل» مرادفة لكلمة «ولي» بهذا المعنى، فالأنبياء أولياء لأنهم فوق معرفتهم الكاملة باللَّه يعلمون شيئاً من عالم الغيب. و الرسل أولياء لأنهم يجمعون بين معرفتهم الكاملة باللَّه و بين العلم الخاص بالشرائع التي أرسلوا بها.
و النبوة و الرسالة تنقطعان لأنهما مقيدتان بالزمان و المكان، أما الولاية فلا تنقطع أبداً، لأن المعرفة الكاملة باللَّه لا تحد بزمان أو مكان و لا تتوقف على أي عامل عرضي.
و هناك فرق آخر و هو أن العلم الشرعي يوحى به إلى الرسول على لسان المَلك، أما العلم الباطن عند الولي- سواء أ كان رسولًا أو نبياً أو محض ولي، فهو إرث يرثه الولي من خاتم الأولياء الذي يرثه بدوره من منبع الفيض الروحي جميعه: روح
محمد أو الحقيقة المحمدية. و خاتم الأولياء وحده من بين ورثة العلم الباطن هو الذي يأخذ علمه مباشرة عن روح محمد التي يرمز إليها الصوفية عادة باسم «القطب» و لا يقصد بالحقيقة المحمدية أو روح محمد، محمدٌ النبي بل حقيقته القديمة التي تقابل العقل الأول عند أفلاطون و «الكلمة» عند المسيحيين، و التي يقول ابن عربي إنها المقصودة في الحديث كنت نبياً و آدم بين الماء و الطين، لا بمعنى قدِّر لي أن أكون نبياً قبل خلق آدم كما يدل عليه ظاهر الحديث، بل بمعنى وجدت حقيقتي أو روحي التي هي العقل الإلهي قبل أن يوجد آدم.


(7) «و في هذا الحال الخاص تقدم (أي محمد) على الأسماء الإلهية».
(7) يقتبس الصوفية عادة في هذا المقام الحديث القائل إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم هو أول من يفتح باب الشفاعة فيشفع في الخلق، ثم الأنبياء ثم الأولياء ثم المؤمنون، و آخر من يشفع هو أرحم الراحمين». 
و إذا فهمنا أن ابن عربي يقصد بالاسم الرحمن الاسم الجامع للأسماء الإلهية كلها مستشهداً على ذلك بقوله تعالى «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ»، و إذا كانت شفاعة «الرحمن» ستكون يوم القيامة آخر الشفاعات: إذا كان كل ذلك، أدركنا كيف قدم محمد الشفيع على الأسماء الإلهية. و ليس التقدم المذكور تقدماً بالإطلاق، بل هو في هذا المقام الخاص الذي هو مقام الشفاعة. أما حكمة تأخر الاسم الرحمن فلكي تعم الشفاعة كل شي ء لقوله تعالى «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ».


(8.) «و أسماء اللَّه لا تتناهى لأنها تعلم بما يكون عنها ... أو حضرات الأسماء».
(8.) سبق أن ذكرنا في تعليقاتنا على الفص الأول كيف اعتبر ابن عربي الموجودات صفات للحق وصف بها نفسه و وصفناه نحن بها. 
و لما كانت الموجودات لا تتناهى عدداً، كانت الأسماء الإلهية التي تتجلى في هذه الموجودات لا تتناهى عدداً أيضاً.
و لكن الموجودات مع عدم تناهيها أفراداً و أشخاصاً، يمكن حصرها في عدد متناه من
الأجناس و الأنواع. و كذلك الأسماء الإلهية التي لا ينحصر عددها يمكن ردها إلى أصول عامة محصورة العدد، و هذه الأصول هي أمهات الأسماء و هي المعروفة بالأسماء الحسنى أو الحضرات الأسمائية. و معنى الحضرة هنا هو المجلى الذي يظهر فيه أثر إلهي من نوع خاص، أو هو المجال الذي يظهر فيه فعل إلهي. فحضرة الرحمن هي مجموعة المجالي التي يظهر فيها أثر للرحمة الإلهية، و إن كانت حالات الرحمة لا تتناهى عدّا لأن الكائنات المرحومة لا تتناهى عدّا. و حضرة الجبار هي المجال الذي يظهر فيه الحق بهذا الوصف و إن كانت حالات الجبروت لا تتناهى عدّا و هكذا. فالذي لا يتناهى عدّا هو فروع الأسماء أو مظاهرها لا أمهاتها.
و أهم مرجع شرح فيه ابن عربي الأسماء الإلهية و تصنيفاتها هو كتابة «إنشاء الدوائر» الذي نشره الأستاذ نيبرغ. قارن شرح القيصري على الفصوص.  المقدمة ص 11 - 15.


(9) «فما في الحضرة الإلهية لاتساعها شي ء يتكرر أصلًا».
(9) ليس في الوجود سوى ذات واحدة و عدد لا يتناهى من نسب و إضافات يكنَّى عنها بالأسماء الإلهية، و تسمى حين تظهر في الصور الخارجية باسم الموجودات أو التعينات. 
فالوحدة- و هي ما يقع فيه الاشتراك بين جميع الموجودات- ترجع إلى الذات: إلى الحق في ذاته. و الكثرة- و هي ما يقع فيه الاختلاف بين الموجودات- ترجع إلى هذه الإضافات و النسب: إلى الخلق. و لكن الحق و الخلق وجهان لوجود واحد أو حقيقة واحدة. و إذا نظرت إلى هذه الحقيقة من ناحية الكثرة أو التعدد وجدت اختلافاً كبيراً في مظاهرها و تمايزاً يكفي في تشخيص كل منها و إعطائه فرديته. و وجدت فوق ذلك أن لا واحد من هذه المظاهر عين الآخر، بل لا مظهر منها في لحظة هو عينه في اللحظة التي تليه.
و هذا هو الذي أشار إليه المؤلف بقوله «فما في الحضرة الإلهية مع اتساعها شي ء يتكرر أصلًا». كل شي ء يخلَقُ خلقاً جديداً في كل آن. فالوجود هو المسرح الأكبر الذي تتعاقب فيه الصور في الظهور عليه أبداً و أزلًا، و لا تظهر صورة منها عليه مرتين.
هذا هو الخلق الجديد الذي يشرحه المؤلف بإسهاب في الفص السادس عشر و سنعرض له في موضعه.


(10) «و هذا العلم كان علم شيث، و روحه هو الممد ... »
(10) ذكرنا في التعليق الأول على هذا الفص أن «شيث» ليس إلا رمزاً للحق في التجلي الثاني أو التجلي الأسمائي الذي ظهر فيه الحق بصورة المبدأ الخالق الذي أعطى كل موجود وجوده و أظهر فيه ما أظهر من معاني أسمائه. 
و من هنا يظهر لِمَ يعتبر ابن عربي العلم بالأسماء الإلهية و تجلياتها وقفاً على شيث الذي يستمد من روحه كل من تكلم في هذا الموضوع. يقول الصوفية إن شيث وحده هو الذي بيده مفاتيح الغيب. و ليست مفاتيح الغيب هذه إلا الأسماء الإلهية، لأنها دلالات على الغيب المطلق الذي هو الذات الإلهية: أو هي مفاتيح الكنز الخفي الذي أحب الظهور فأظهرته.


(11) «فما في أحد من اللَّه شي ء، و ما في أحد من سوى نفسه شيء».
(11) تدل هذه العبارة في ظاهرها على أن ابن عربي قد وقع في تناقض شنيع مع نفسه و أنكر في جملة واحدة ما فصله في وحدة الوجود في صفحات بل كتب.
و الحقيقة ألا تناقض في أقواله إذا وقفنا على مراميه.
قد ذكرنا في تعليقات الفص الأول أن الفيض عنده فيضان: الفيض الأقدس و هو تجلى الحق لنفسه في صور أعيان الممكنات الثابتة، أو في الصور المعقولة للوجود الممكن. و كل عين من هذه الأعيان الثابتة تحمل في نفسها مستقبل تاريخها و ما قدر لها أن تكون عند ما تتحقق بالفعل و تأخذ مكانها بين الموجودات الخارجية. فهي لا تخضع في تحققها لشي ء ما إلا لقوانينها الذاتية التي هي جزء من قوانين الوجود العيني الذي نسميه بالعالم. فهي بهذا المعنى صورة من صور الحق و وجودها العيني عند ما توجد صورة من صور وجوده. و لكن اللَّه- الذات المطلقة- ليس له من حيث إطلاقه وغناؤه الذاتي عنها وعن غيرها نسبة ما إليها و لا لها هي نسبة إليه.
فليس فيها من ذلك المطلق شي ء. و ليس فيها مما يحقق وجودها إلا طبيعتها الخاصة.
فما في موجود من الموجودات شي ء من اللَّه (المطلق) عينه على النحو الذي تعين به، و إنما وجود كل شي ء راجع إلى نفسه.
و وجود الأشياء في الصور التي هي عليها هو الفيض الثاني أو الفيض المقدس. فإذا فهمنا العبارة السابقة من ناحية صلتها بهذا الفيض، ارتفع التناقض الظاهري بينها و بين مذهب المؤلف في وحدة الوجود.
على أنه يمكن تفسير العبارة بمعنى آخر يتمشى تماماً مع مذهب ابن عربي العام و يتأيد بما أورده هو بالفص العيسوي.
و ذلك أن اللَّه عنده هو الوجود المطلق، و كل موجود من الموجودات صورة له. و الصورة- إذا أخذت في جزئيتها- ليست اللَّه في إطلاقه.
و إذن فليست الصورة هي اللَّه و إن كانت مجلى له و قد كفر الذين قالوا إن اللَّه هو المسيح عيسى بن مريم لأنهم حصروا الحق الذي لا تتناهى صوره في تلك الصورة الجزئية المعينة، و كان الأولى بهم أن يقولوا إن المسيح صورة من صور الحق التي لا تتناهى.
على أن ابن العربي لا يكتفي بنسبة التحقق في الوجود إلى ذوات الأشياء نفسها، بل ينسب إليها أيضاً كل وحي و كل علم إلهامي أو ذوقي. فلا منبع لعلم في الإنسان إلا نفسه.
و في هذا يقول: «فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقي إليه ما لم يكن عنده من المعارف، و تمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده، فتلك الصورة عينه لا غيره».
فالاستعداد الأزلي في الموجود هو الذي يعين وجوده و يكيّف ما يوحى إليه من العلم.
و إذا كان الأمر على ما وصفنا، فما معنى القول بأن اللَّه قادر على كل شي ء، و أنه فعال لما يريد؟ ما معنى الإمكان الذي يتكلم عنه المتكلمون؟
ما معنى أن الممكن هو ما يستوي وجوده و عدمه فإن شاء اللَّه أوجده و إن شاء لم يوجده؟
أليس كل شي ء مقدراً أزلًا في عينه الثابتة فإذا ظهر في الوجود كان ظهوره بحسب ما تقتضيه تلك العين؟
 ألا تتنافى هذه الجبرية العنيفة مع وجود إله مختار يفعل في الوجود ما يشاء و كيف يشاء؟
هذه أسئلة يحاول ابن العربي أن يجيب عنها في الفقرة التالية عند ما يشرح معنى الإمكان و الممكن. يقول لما ثبت عند بعض النظار أن اللَّه فعال لما يشاء، جوزوا عليه ما يناقض الحكمة و ما عليه الأمر في نفسه. فالممكن عندهم ما كان وجوده من اللَّه (واجب الوجود بالذات) و في إمكان اللَّه أن يوجده على أي نحو أراد، حتى و لو كان ذلك الوجود منافياً للحكمة و لطبيعة الوجود إطلاقاً. و لكن هذا التفسير دفع ببعض المتكلمين الآخرين إلى إنكار وجود الممكنات، و قالوا لا وجود إلا لواجب الوجود: و واجب الوجود إما واجب الوجود بذاته أو واجب الوجود بغيره. أما الممكن إطلاقاً فلا يمكن تحقق وجوده.
أما ابن عربي فقد توسط بين الأمرين و قسم الوجود إلى واجب و ممكن ثم قال إن الممكن هو واجب الوجود بالغير.
يقول «و المحقق يثبت الإمكان و يعرف حضرته، و الممكن ما هو الممكن، و من أين هو ممكن، و هو بعينه واجب الوجود بالغير، و من أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب».
و الحقيقة أن «الغَيريَّة» هنا غيرية اعتبارية، و أن واجب الوجود بالغير ليس إلا مظهراً لواجب الوجود بالذات، و أن كل ما يجري على أي شي ء من أحكام الوجود ضروري، و يستوي أن تنسب هذه الضرورة إلى العين أو إلى الذات المتجلية في صورة العين لأن الكل واحد. و لم يجب ابن عربي على الإشكال الذي أثاره نظار المتكلمين، و إنما شرح ناحية من نواحي مذهبه في وحدة الوجود.


(12) «و على قدم شيث يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني».
(12) ذهب شراح الفصوص في تفسير هذا الفص الرمزي مذاهب شتى و تضاربت فيه آراؤهم. 
فمنهم من اعتبر «آخر مولود يولد في النوع الانساني» ولداً حقيقيًّا يحمل جميع أسرار شيث على نحو ما حمل شيث أسرار آدم. و لكنهم اختلفوا بعد ذلك: فذهب بعضهم إلى أن المراد به ختم الولاية العامة الذي قالوا إنه عيسى عليه السلام.
أما ختم الولاية الخاصة (الولاية المحمدية) فهو ابن عربي نفسه على نحو ما صرح في كتاب الفتوحات المكية (الجزء الأول ص 319).
و ذهب البعض الآخر إلى أنه مطلق ولي يولد آخر الزمان، و يدعو الناس إلى اللَّه فلا تجاب دعوته لغلبة حكم الشهوة على عقول بني الإنسان في ذلك العهد.
و عليه فهو غير عيسى، لأن عيسى سينزل آخر الزمان إلى الأرض و يحكم فيها بشريعة محمد و يرد الإسلام إلى سيرته الأولى.
و هذه تفسيرات لا تشبع غلة و لا تتفق مع روح مذهب المؤلف و لا مع أسلوبه. فالأولى أن نعتبر العبارة رمزية ثم نأخذ في حل رموزها.
يبدو أن المراد بالولد الذي هو آخر ما يولد للنوع الانساني هو «القلب» (أو العقل) كما يفهمه الصوفية، و أن المراد بأخته التي ولدت معه النفسُ الانسانية، و أن المراد بالصين الذي ولد فيها الولد القرار البعيد للطبيعة البشرية أو موضع السر منها: يؤيد ذلك أن كلمة الصين استعملت في غير هذا المقام للدلالة على البعد في مثل قول النبي عليه السلام «اطلبوا العلم و لو في الصين».
و يُشير قوله «يكون رأسه عند رجليها» إلى تغلب النفس الحيوانية على القلب و قهرها له في وقت ما من أوقات تطور الإنسان. أما الناس الذين دعاهم هذا الولد إلى اللَّه فلم يستجيبوا له، فالمراد بهم قوى النفس و جنودها التي لا تخضع لسلطان العقل.
فإذا قبض اللَّه ذلك الولد إليه- و قبض مؤمني زمانه- و هي قوى الإنسان الروحية التي تستجيب لدعوته- بقي من بقي من الناس مثل البهائم. و مهما كثر النكاح بين رجالهم و نسائهم- أي بين القوى الفاعلة و القوى المنفعلة في الإنسان- فلن تستطيع أن تلد ذلك المولود لأنه من طبيعة غير طبيعتها.
و في الفقرات الأخيرة من الفص ما يشير إشارة قوية إلى أن المراد بالمولود العقل الانساني (أو القلب) الذي هو «الفصل» المميز للإنسان عن سائر أنواع الحيوان، و آخر ما ظهر في النشأة الإنسانية من القوى.
.
قبل أن تقرا لـ  د. أبو العلا عفيفي رحمه الله:
د أبو العلا عفيفي رحمه الله ليس متصوف سالك فى الله وإنما تعلم التصوف بفهم وعيون الغرب العلماني للعمل والإرتزاق ولبناء مستقبل علمي وسطهم ليحظي بتقديرهم والاعتراف به كخبير متخصص وأستاذ فى علوم و مخطوطات الشيخ الأكبر ابن العربي فى وسطهم الفلسفي والعلمي على مستوى العالم وكان له ذلك.

لكن لا ينكر فضله الكبير في البحث و جمع ومقارنة و تحقيق مخطوطات الشيخ الأكبر وتراثه العلمي فضل كبير في البحث وجمع ومقارنة وتحقيق مخطوطات الشيخ الأكبر ومحاولة شرحها جل عمره .
لكنه تشبع و إنصبغ بما تعلمه من التصوف العقلي في الغرب العلماني حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كمبردج 1930 برسالته عن "فلسفة ابن عربي الصوفية " تحت اشراف المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون.

في أن التصوف ووحدة الوجود وأصوله الآفلوطونية والغنوصية وغيرها من نتائج أفكار العقل النظري والواردات الشيطانية التي لا ضوابط حاكمة لها من قواعد وقيود الشرع الحنيف المنزل من عند الله سبحانه.
فالحق سبحانه وإن تجلي أو تنزل أو ظهر في كل شيء وعلى كل شيء وفى كل وجهه فـ هو الله الأحد الفرد الصمد لاشريك له ليس كمثله شيء.
والعبد عبد وإن تجلي الله عليه أو كلمه أو اتخذه أو وليا أو نبيا او رسولا وعلمه الأسماء كلها وجعله خليفة له يتصرف فى الأكوان فهو مازال عبدا مفتقرا إلى الله تعالى دائما في كل شيءفالرب رب وإن تنزل . و العبد عبد وإن علا.
فقراءة تعليقات د أبو العلا عفيفي عادة مهمة ولكن تجاوز عن تفسيراته وتعريفاته الفلسفية الغربية العلمانية لوحدة الوجود فهى خطأ وليس ما يريده الشيخ رضي الله عنه يقينا وكذلك كل الأئمة الأولياء الكمل منذ رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وحتى الآن والى يوم يبعثون وما بعد يوم يبعثون  .
فالعقل وحده وهو أعظم أدوات الفلاسفة في التأمل عاجزا تماما بل هو أعمى عن إدراك كل الحقائق والمخلوقات فى عالم الملك والملكوت والجبروت و اللاهوت .
كذالك السموات على ما هي عليه مفتقرا لسلطان الله لينفذ في معارجها . كذلك لمشاهدة التجليات والحضرات الإلهية لكي الأسماء والصفات والأفعال ألهية ببصر وسمع الله سبحانه  فضلا عن التأييد الإلهي للفهم عنه.
فالحق سبحانه القديم الأزلي السر و النور الساري في كل ما خلق وإلا صار للعدم. والى ذلك أعلمنا سبحانه فأشار بـالحقيقة السارية في كل شيء " لا حول ولا قوة الا بالله" وحدها الحقيقة الحاكمة ازلا وسرمدا على الوجود كله و كافية لإثبات سريان انوار قدرته وحكمته وارادته تعالى في كل شيء و كل وجهه لمن أراد الدليل وتفهم مراد الرسول والأنبياء والشيخ وكل الأولياء أن كل الكون مفتقر تعالى إليه  دائما أبدا فى كل لحظة .
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) سورة فاطر".
قال تعالى : " قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) سورة المائدة"
قال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) سورة ".
قال تعالى : "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) سورة الشورى " .
فالله سبحانه وتعالى يكلم ويخاطب من يشاء من عباده بما شاء كيفما شاء وأينما شاء ولاقيد ولاحد لهذا او يرسل رسولا عدا الوحي الذي رفعه الله سبحانه بعد خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ويعلم من يشاء بما يشاء فلا سلطان لأحد من الخلق عليه.
فالله سبحانه وتعالى النور والسر الساري في كل شيء أزلا وسرمدا خلقا وايجادا واظهارا ومحوا وإحفاء واعداما و زولا غير مفتر للشيء . وكل الكون مفتقر اليه دائما فى كل شيء.
أين كل هذا من علوم أفلاطون والغنوصية والبوذية وغيرها من تلك العلوم الشيطانية النفسية التي أوجدها ليسلبوا عقول الناس و يضيعوا أعمارهم "ليضلوا عن سبيل الله" , فمن أراد الله سبحانه أخذ آيات وشرع الله وتجرد له وأخلص له وصدق معه وينتظر ما سيفتح الله به وقتما يشاء سبحانه .
وعرضت كلامه لأهميته لاكتمال الموسوعة في إيراد أهم التفاسير المتاحة ولأن النص الأساسي للموسوعة هو الذي أورده من دراسته معتمدا على عدد كبير من المخطوطات الموثقة عن كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر رضي الله عنه.
أخيرا فطالب الحق يكفيه دليل ليعرف أما المعاند النزق أوالجاهل أو من ران على قلبه لا يكفيه الف دليل.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
.
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment