Sunday, July 28, 2019

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية .كتاب شرح كلمات فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربى أ.محمود محمود الغراب

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية .كتاب شرح كلمات فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربى أ.محمود محمود الغراب

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية .كتاب شرح كلمات فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربى أ.محمود محمود الغراب

شرح أ.محمود محمود الغراب 1405 هـ على كلمات فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي رضي الله عنه

فداء  نبي ذبح  لقربان ...   وأين ثؤاج الكبش من نوس إنسان
وعظمه  الله العظيم  عناية ... بنا  أو به لا أدر من أي ميزان
_______________________________
1 ۔ المناسبة (*)
المناسبة في هذه الحكمة هي أنه عالم الخيال عالم حقيقي وهو حق كله وإنما يقع الخطأ في تأويل وتعبير الرؤيا التي هي جزء من عالم الخيال ، ولما كان الجمهور من العلماء يذهب إلى أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام لذلك سميت الحكمة حقية لأنها جاءت في حق إسحاق عليه السلام .
أما مذهب الشيخ في هذا الموضوع فهو مخالف لما عليه الجمهور ويثبت أن إسماعيل عليه السلام هو الذبيح .
فيقول في كتاب الإسفار عن نتائج الأسفار ، في سفر الهداية ، وهو سفر إبراهيم الخليل عليه السلام ، ما هذا نصه : لما بشر في إجابة دعائه في قوله « رب هب لي من الصالحين » ابتلى فيما بشر به لأنه سأل من الله سواه ، والله غيور ،فابتلاه بذبحه وهو أشد عليه من ابتلائه بنفسه.
وذلك أنه ليس له في نفسه منازع سوى نفسه.
فبادنی خاطر يردها ، فيقل جهاده ، وابتلاؤه بذبح ابنه ليس كذلك.
لكثرة المنازعين فيه ، فيكون جهاده أقوى ، ولما ابتلى بذبح ما سأله من ربه ، وتحقق نسبة الابتلاء وصار بحكم الواقعة، فكأنه قد ذبح وإن كان حيا.
بشر پاسحاق عليه السلام من غير سؤال.
فجمع له ( أي لإبراهيم عليه السلام) بين الفداء وبين البدل مع بقاء المبدل منه، فجمع له بين الكسب والوهب ، فالذبح مكسوب من جهة السؤال وموهوب من جهة الفداء .
فإن فداءه لم يكن مسؤولا ، وإسحاق موهوب، ولما كان إسماعيل قد جمع له بين الكسب والوهب في العطاء ، فكان مكسوبا موهوبا لأبيه ، فكانت حقيقة كاملة.
لذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم في صلبه ، بل لكون، محمد صلى الله عليه وسلم في صلبه صح الكمال والتمام الإسماعيل ، فكانت في شريعتنا ضحايانا فداء لنا من النار.

ص 91

ولا شك أن البدن أعظم قيمة ... وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان
فيا ليت شعري كيف ناب بذاته ... شخيص كبيش عن خليفة رحمان
ألم تدر أن الأمر فيه مرتب ... وفاء لإرباح ونقص لخسران؟
فلا خلق أعلى من جماد وبعده ... نبات على قدر يكون وأوزان
وذو الحس بعد النبت والكل عارف ... بخلاف كشفا وإيضاح برهان
وأما المسمى آدما فمقيد ... بعقل وفكر أو قلادة إيمان
___________________________________
2 - أربعة الأبيات الأولى موجودة في الفتوحات ج 1 ص 596
3  - شرف الجماد
قال تعالى : "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله"، الآية ، وصف الحق الجبل بالخشية ، وعين وصفه بالخشية عين وصفه بالعلم بما أنزل عليه .
قال تعالى : "إنما يخشى الله من عباده العلماء" ، فهذه الآية تشير إلى شرف الجماد على الإنسان ، أترى خشوعه وتصدعه لجهله ما أنزل عليه ؟
لا والله إلا بقوة علمه بذلك وقدره ، ألا تراه عز وجل يقول في هذه الآية « وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون » .
فإنهم إذا تفكروا في ذلك علموا شرف غيرهم عليهم ، فإن شهادة الله بمقدار المشهود له بالتعظيم كالواقع منه ، لأنه قول حق .
قال تعالى: "وإن منها لما يهبط من خشية الله" ، فإن الحجارة عبيد محققون ، ما خرجوا عن أصولهم في نشأتهم ، فالحجر يهرب من مزاحمة الربوبية في العلو فيهبط من خشية الله ، ومن خشي فقد علم من يخشى .
ووصفها الله تعالى بالقساوة ، وذلك لقوتها في مقام العبودية فلا تتزلزل عن ذاتها ، لأنها لا تحب مفارقة موطنها لما لها فيه من العلم والحياة اللتين هما أشرف الصفات.
وهذه الآية تدل على أن الله أخذ بأكثر أبصار جنس الإنس والجان عن إدراك النفوس المديرة الناطقة التي تسمى جمادا ونباتا وحيوانا ، وكشف لبعض الناس عن ذلك ، فإن الخشبية المنعوت بها الأحجار هي التي أدتها إلى الهبوط ، وهو التواضع من الرفعة التي أعطاها الله .
ف ج 1  / 529 ، 710 -  ج 2 / 228 ، 552

ص 92

بذا قال سهل والمحقق مثلنا ... لأنا وإياهم بمنزل إحسان
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته ... يقول بقولي في خفاء وإعلان
ولا تلتفت قولا يخالف قولنا ... ولا تبذر السمراء في أرض عميان
هم الصم والبكم الذين أتى بهم ... لأسماعنا المعصوم في نص قرآن
اعلم أيدنا الله وإياك أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لابنه: «إني أرى في المنام أني أذبحك» والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها.
وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام فصدق إبراهيم الرؤيا، ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله تعالى وهو لا يشعر.
فالتجلي الصوري في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله تعالى بتلك الصورة.
ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في تعبير الرؤيا:
«أصبت بعضا وأخطأت بعضا» فسأله أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه وما أخطأ فلم يفعل.
وقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين ناداه:
«أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا» وما قال له صدقت في الرؤيا أنه ابنك: لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤيا تطلب التعبير.
ولذلك قال العزيز «إن كنتم للرؤيا تعبرون».
ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر.
فكانت البقر سنين في المحل والخصب.
فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه، وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده، وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده ففداه
_______________________________________
4 -  لا أعلى في الإنسان من الصفة الجمادية
قال سهل بن عبد الله التستري ، لا أعلى في الإنسان من الصفة الجمادية ، فلا أعلى منها في الإنسان ثم بعدها النباتية ثم بعدها الحيوانية ، وهي أعظم تصريف في الجهات من النبات .
ف ح 1 / 710
5 ، 6  - المنام وحضرة الخيال
النوم جامع أمر ليس يجمعه   ..... غير المنام ففكر فيه واعتبر
أن الخيال له حكم وسلطنة   ..... على الوجودين من معنى ومن صور
وليس يدرك في غير المنام ولا   ..... تبدو له صور في حضرة السور
يختص بالصاد لا بالسين حضرته   ..... فهو المحيط بما في الغيب من صور
من لا يكيف يأبى النوم يحصره   ..... بالكيف والكم للتحديد بالعبر

ص 93

لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام: ما هو فداء في نفس الأمر عند الله.
فصور الحس الذبح وصور الخيال ابن إبراهيم عليه السلام.
فلو رأى الكبش في الخيال لعبره بابنه أو بأمر آخر.
ثم قال «إن هذا لهو البلاء المبين» أي الاختبار المبين أي الظاهر يعني الاختبار في العلم: هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا؟
لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير: فغفل فما وفى الموطن حقه، وصدق الرؤيا لهذا السبب كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند، سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه عليه السلام قال: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي» فرآه تقي بن مخلد وسقاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا لبنا فصدق تقي بن مخلد رؤياه فاستقاء فقاء لبنا.
ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما. فحرمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب.
ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي في المنام بقدح لبن: «فشربته حتى خرج الري من أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر».  قيل ما أولته يا رسول الله؟
_______________________________

فالنوم حالة تنقل العبد من مشاهدة عالم الحس إلى البرزخ ، فإذا نام الإنسان نظر بالبصر بالوجه الذي له إلى عالم الخيال ، وهو أكمل العالم فلا أكمل منه ، هو أصل مصدر العالم ، له الوجود الحقيقي والتحكم في الأمور كلها .
يجسد المعاني ويرد ما ليس قائما بنفسه قائما بنفسه ، وما لا صورة له يجعل له صورة ، ويرد المحال ممكنا ، ويتصرف في الأمور كيف يشاء ، فالخيال له قدرة على المحال .
واعلم أن مبدأ الوحي الرؤيا الصادقة ، وما هي أضغاث أحلام، وهي لا تكون إلا في حال النوم ، والرؤيا ثلاث :
منها بشری .
ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيرتقم في خياله .
والرؤيا الثالثة من الشيطان ، فمن اعتبر الرؤيا يرى امرا هائلا ، وتبين له مالا يدركه من غير هذا الوجه .
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح في أصحابه سألهم :
هل رأى أحد منكم رؤيا ؟
لأنها نبوة ، فكان يحب أن يشهدها في أمته ، وكل رؤيا صادقة ولا تخطيء، فاذا أخطأت الرؤيا فالرؤيا ما أخطأت .
ولكن العابر الذي يعبرها هو المخطىء، حيث لم يعرف ما المراد بتلك الصورة ، ألا تراه مع ما قال لأبي بكر حين عبر رؤيا الشخص المذكور ، أصبت بعضا وأخطأت بعضا ،

ص  94 

قال العلم، وما تركه لبنا على  صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤيا وما تقتضيه من التعبير.
وقد علم أن صورة النبي صلى الله عليه وسلم التي شاهدها الحس أنها في المدينة مدفونة، وأن صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه.
كل روح بهذه المثابة فتتجسد له روح النبي في المنام بصورة جسده كما مات عليه لا يخرم منه شيء.
فهو محمد صلى الله عليه وسلم المرئي من حيث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى الله عليه وسلم عصما من الله في حق الرائي.
ولهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمره أو ينهاه عنه أو يخبره كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان فإن أعصاه شيئا فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها.
وبهذا القدر وعليه اعتمد إبراهيم عليه السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالعابر للرؤيا هو الذي له جزء من أجزاء النبوة ، حيث علم ما أريد بتلك الصورة ، فقد يكون الرائي هو الذي يراها لنفسه وقد يراها له غيره.
والعابر هو صاحب علم تعبير الرؤيا ، فلا يعلم مرتبة الخيال إلا الله ، ثم أهله من نبي أو ولي مختص، غير هذين فلا يعرف قدر.
هذه المرتبة ، والعلم بها أول مقامات النبوة ،ولهذا كان رسول الله لا إذا أصبح وجلس مجلسه بين أصحابه يقول لهم "هل فيكم من رأى رؤيا ؟".
وذلك ليرى ما أحدث الله البارحة في العالم ، أو ما يحدثه في المستقبل وقد أوحي به إلى هذا الرائي في منامه ، إما صریح وحي وما وهي في صورة يعلمها الرائي ولا بعلم ما أريد بها، فيعبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع لما أراد الله بها.
في ج 1/ 307  - ج 2 / 183 ، 375 ، 367 ، 380  - ج 3 / 38 ، 507.

7 -  رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام (*)
المبشرات إن جاءت إلى العبد من الله في رؤياه على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كان حكما تعبد نفسه به . ولابد، بشرط أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصورة الجسدية التي كان عليها في الدنيا كما نقل إليه من الوجه الذي صح عنه .
حتى إنه إنه رأى رسول الله لا يراه مكسور الثنية العليا ، فإن لم يره بهذا الأثر فما هو ذاك ، وإن

ص 95

وبقي بن مخلد. ولما كان للرؤيا هذان الوجهان.
وعلمنا الله: فيما فعل بإبراهيم وما قال له: الأدب لما يعطيه مقام النبوة، علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أن نعبر تلك الصورة بالحق المشروع إما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو هما معا.
وإن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما نرى الحق في الآخرة سواء.
فللواحد الرحمن في كل موطن ... من الصور ما يخفي وما هو ظاهر
فإن قلت هذا الحق قد تك صادقا ... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر
وما حكمه في موطن دون موطن ... ولكنه بالحق للخلق سافر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحقق أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه شیخا أو شابا مغايرا للصورة التي كان عليها في الدنيا ومات عليها .
ورآه في حسن أزيد مما وصف له ، أو قبح صورة ، أو يرى الرائي إساءة أدب في نفسه معه ، فذلك كله الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما هو رسول الله .
فيكون ما رآه هذا الرائي عين الشرع ما في البقعة التي يراه فيها عند ولاة أمور الناس ، وإما أن يرجع ما يراه إلى حال الرائي ، أو إلى المجموع .
غير ذلك فلا يكون فيكون تغير صورته صلى الله عليه وسلم  مع عين إعلامه وخطابه إياه بما هو الأمر عليه في حقه أو حق ولاة العصر بالموضع الذي يراه فيه.
فإن جاءه بحكم في هذه الصورة فلا يأخذ به إن اقتضى ذلك نسخ حكم ثابت بالخبر المنقول الصحيح المعمول به ، وكل ما أتى به من العلوم والأسرار مما عدا التحليل والتحريم فلا تحجير عليه فيما يأخذه منها .
الا في العقائد ولا في غيرها ، وذلك بخلاف حكمه لو رآه صلى الله عليه وسلم  على صورته فيلزمه الأخذ به ولا يلزم غير ذلك ، فمن رآه صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه في اليقظة ما لم تتغير عليه الصورة ، فإن الشيطان لا يتمثل على صورته أصلا .
فهو "صلى الله عليه وسلم " معصوم الصورة حيا وميتا ، فمن رآه فقد رآه في أي صورة رآه .
هذا يخالف ما جاء في هذه الفقرة من قوله : « لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى الله عليه وسلم عصمة من الله في حق الرائي »،ف ج 4 / 27.

ص 96

إذا ما تجلى للعيون ترده ... عقول ببرهان عليه تثابر
ويقبل في مجلي العقول وفي الذي ... يسمى خيالا والصحيح النواظر
_____________________________
8 - رؤية الحق تعالى في صورة
ما أوسع حضرة الخيال ، فيها يظهر وجود المحال ، بل لا يظهر فيها على التحقيق إلا وجود المحال .
فإن الواجب الوجود وهو الله تعالى لا يقبل الصور وقد ظهر بالصور في هذه الحضرة ، فقد قبل المحال الوجود الوجود في هذه الحضرة .
فما قبل شيء من المحدثات صور الحق سوى الخيال ، فما أوجد الله أعظم من الخيال منزلة ولا أعم حكما ، يسري حكمه في جميع الموجودات والمعدومات ، من محال وغيره .
فليس للقدرة الإلهية فيما أوجدته أعظم وجودا من الخيال ، فيه ظهرت القدرة الإلهية والاقتدار الإلهي ، وهو حضرة المجلى الإلهي في القيامة وفي الاعتقادات .
فالخيال من جملة ما خلق الله ، وهو رحم يصور الله فيه ما يشاء ، فظهر لنا سبحانه فيه بأسمائه وصفاته صورة ، فإن المواطن تحكم بنفسها على كل ما ظهر فيها .
فمن مر على موطن انصبغ به ، والدليل الواضح في ذلك رؤيتك الله تعالى في النوم وهو موطن الخيال ، فلا ترى الحق فيه إلا صورة جسدية .
كانت تلك الصورة ما كانت ، فهذا حكم الوطن حكم عليك في الحق أنك لا تراه إلا كذا ، والحكم على الله أبدا بحسب الصورة التي يتجلى فيها .
فما يصح لتلك الصورة من الصفة التي تقبلها فإن الحق يوصف بها ويصف بها نفسه.
وهذا في العموم إذا رأى الحق أحد في المنام في صورة أي صورة كانت حصل عليه ما تستلزمه تلك الصورة التي رآه فيها من الصفات.
وهذا ما لا ينكره أحد في النوم ، واعلم أن للحق سبحانه في القلوب تجليين :
التجلي الأول في الكثائف وهو تجليه في الصور التي تدركها الأبصار والخيال ، مثل رؤية الحق في النوم ، ويعرف أنه الحق ولا يشك الرائي .
وكذلك في الكشف ، ويقول له عابر الرؤيا حقا رأيت ، وهو في الخيال المتصل ، فيظهر تجلي الحق في الصور التي ينكر فيها أو يرى في النوم ، فيرى الحق في صورة الخلق بسبب

ص 97

يقول أبو يزيد في هذا المقام لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها.
وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام. بل أقول لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه.
فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلأ ارتوى.
وقد قال ذلك أبو يزيد. ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا:
يا خالق الأشياء في نفسه ... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه فيه ... بك فأنت الضيق الواسع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حضرة الخيال ، فإن صاحب الرؤيا إذا رأى ربه تعالی كفاحا في منامه في أي صورة يراه ، فيقول رأيت ربي في صورة كذا وكذا .
ويصدق مع قوله « ليس كمثله شيء » فنفى عنه المماثلة في قبول التجلي في الصور كلها التي لا نهاية لها لنفسه ، فإن كل ما سواه تعالی ممن له التجلي في الصور لا يتجلى لشيء منها لنفسه .
وإنما يتجلى فيها بمشيئة خالقه وتكوينه ، وفي نسبة الصور لله يقال في أي صورة شاء ظهر من غير جعل جاعل .
والتجلي الآخر في حال التخيل في عبادتك ، فإنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى ، وقد صح عنه أنه قال لجبريل عليه السلام « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه » ، فهذا تنزيل خيالي ، فأدخل سبحانه نفسه في التخيل من أجل كاف التشبيه ، فإن الإحسان عيان وفي منزلة كأنه عیان.
الفتوحات:  ج 1 / 383 ، 384  ج 2 / 124 ، 312 ، 472  ج 3 / 507 ، 508 ، 538 ج 4 / 19 ، 108 ، 200 .

9 -  وذلك أن قلبا وسع القديم كيف يحس بالمحدث موجودا ، فكان أبو يزيد في هذا القول تحت حكم الاسم الواسع ، فما فاض عنه شيء ، وذلك أنه تحقق .
بقوله « وسعني قلب عبدي » فلما وسع الحق قلبه ، وسع قلبه كل شيء ، إذ لا يكون شيء إلا عن الحق ، فلا تكون صورة شيء إلا في قلبه ، يعني في قلب ذلك العبد الذي وسع الحق .

ص 98

لو أن ما قد خلق الله ما لاح ... بقلبي فجره الساطع
من وسع الحق فما ضاق عن ... خلق فكيف الأمر يا سامع؟
بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام.
والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة و لكن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
10 - الخيال هو الواسع الضيق
شرح الأبيات - قوله « يا خالق الأشياء » يعني به الخيال
لما كان الخيال يصور من يستحيل عليه بالدليل العقلي الصورة والتصور ، لهذا كان واسعا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اعبد الله كأنك تراه » « والله في قبلة المصلي » أي تخيله في قبلتك وأنت تواجهه لتراقبه وتستحي منه وتلزم الأدب معه.
وأما ما في الخيال من الضيق فإنه ليس في وسع الخيال أن يقبل أمرا من الأمور الحسية والمعنوية والنسب والإضافة وجلال الله وذاته إلا بالصورة .
ولو رام أن يدرك شيئا من غير صورة لم تعط حقيقته ذلك ، فمن هنا هو ضيق في غاية الضيق ، فإنه لا يجرد المعاني عن المواد أصلا .
ولهذا كان الحس أقرب شيء إليه ، فإنه من الحس أخذ الصور ، وفي الصور الحسية يجلي المعاني ، فهذا من ضيقه .
فالخيال أوسع المعلومات ومع هذه السعة العظيمة التي يحكم بها على كل شيء عجز أن يقبل المعاني مجردة عن المواد كما هي في ذاتها .
فيرى العلم في صورة لبن أو عسل ، ويرى الإسلام في صورة قبة وعمد ، ويرى القرآن في صورة سمن وعسل ، ويرى الدين في صورة قيد ، ویری الحق في صورة إنسان وفي صورة نور ، فهو الواسع الضيق.
أما قوله في البيت الأخير فهو عود إلى قول أبي يزيد ، فكيف الأمر يا سامع ؟!
الفتوحات : ج 1 / 36.
11 - ما لا قدرة للانسان ولا قوة له عليه أن يكون منه في الحس هنا في الدار الدنيا ، فإنه يقوى على إيجاده خيالا في نفسه .
ف ج 4 /  282

ص 99

لا تزال الهمة تحفظه. ولا يئودها حفظه، أي حفظ ما خلقته.
فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق، إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا، بل لا بد من حضرة يشهدها.
فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة، وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا.
فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت جميع الصور بحفظه

_______________________________
12 - الفعل بالهمة والتحول في الصور
يشترك الإنسان الحيوان مع الكامل في الأدوات الصناعية التي بها يتوصل إلى مصنوع ما مما يفعل بالأيدي ، ويزيد الكامل عليه بالفعل بالهمة ، فأدواته همته ، وهي له بمنزلة الإرادة الإلهية إذا توجهت على إيجاد شيء .
فمن المحال أن لا يكون ذلك الشيء المراد ، وليس الفعل بالهمة محسوسة في الدنيا لكل أحد، وهو لغير الولي كصاحب الهمة والغرانية بإفريقية .
ولكن ما تكون بسرعة تكوين الشيء في الدار الآخرة ، وهذا في الدنيا نادر شاذ كقضيب البان وغيره ، وهو في الدار الآخرة للجميع ، ففي قوة الإنسان ما ليس في قوة عالم الغيب .
فإن في قوة الإنسان من حيث روحه التمثل في غير صورته في عالم الشهادة ، فيظهر الإنسان في أي صورة شاء من صور بني آدم أمثاله .
وفي صور الحيوانات والنبات والحجر ، فإن الإنسان في هذا الطريق يعطى من القوة ما يظهر به في هذه النشأة كما يظهر في النشأة الآخرة التي يظهر فيها على أي صورة شاء .
ولكن لا يصل كل واحد إلى معرفة هذا الأصل ، فقد أعلمنا الحق أن هذه النشأة تعطي القبول لأي صورة كانت ، فإذا علم الإنسان بالكشف الإلهي أنه على أصل وحقيقة تقبل الصور ، فيتعمل في تحصيل أمر يتوصل به إلى معرفة الأمر .
فإذا فتح له فيه ظهر في عالم الشهادة في أي صورة من عالم الشهادة شاء ، وظهر في عالم الغيب والملكوت في أي صورة من صوره شاء.
غير أن الفرق بيننا وبين عالم الغيب أن الإنسان إذا تروحن وظهر للروحانيين في عالم الغيب يعرفون أنه جسم تروحن ، والناس في عالم الشهادة إذا أبصروا روحا تجسد لا يعلمون أنه روح تجسد ابتداء حتى يعرفوا بذلك .

ص 100

تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم ولا في الخصوص.
وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق، فإن الحق لا يغفل والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء.
فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول «أنا الحق»، ولكن ما حفظه لها حفظ الحق: وقد بينا الفرق. ومن حيث ما غفل عن صورة ما وحضرتها فقد تميز العبد من الحق. ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظه صورة واحدة
_______________________________
واعلم أن النفس الناطقة التي هي روح الإنسان المسماة زيدا لا يستحيل عليها أن تدبر صورتين جسميتين فصاعدا إلى آلاف الصور الجسية ، وكل صورة هي زید عینها ، ليست غير زيد .
ولو اختلفت الصورة أو تشابهت لكان المرئي المشهود عين زبد، كما تقول في جسم زيد الواحد مع اختلاف أعضائه في الصورة من رأس وجبين وحاجب وعين ووجنة وخد وأنف وفم وعنق ويد ورجل وغير ذلك من جميع أعضائه.
أي شيء شاهدت منه تقول فيه رأيت زيدا ، وتصدق ، كذلك تلك الصور إذا رفعت ويدبرها روح واحد.
إلا أن الخلل وقع هنا عند الرؤية لعدم اتصال الصور اتصال الأعضاء في الجسم الواحد ، فلو شاهد الاتصال الذي بين الصور ، لقال في كل صورة شهدها هذا زيد ، كما يفعل المكاشف إذا شاهد نفسه في كل طبقة من طباق الأفلاك، لأن له في كل فلك صورة ، تدبر تلك الصور روح واحدة ، وهي روح زید مثلا .
فالروح الواحد يدبر أجساما متعددة إذا كان له الاقتدار على ذلك ، ويكون ذلك في الدنيا للولي بخرق العادة ، وفي الآخرة نشأة الإنسان تعطي ذلك ، وكان قضيب البان ممن له هذه القوة ولذي النون المصري كما يدبر الروح الواحد سائر أعضاء البدن من بد ورجل وسمع و بصر وغير ذلك .
وكما تؤاخذ النفس بأفعال الجوارح على ما يقع منها ، كذلك الأجساد الكثيرة التي يدبرها روح واحد ، أي شيء وقع منها يسأل عنه ذلك الروح الواحد، وإن كان عين ما يقع من هذا الجسم من الفعل متل ما يقع من الجسم الآخر .
فيكون ما يلزمه من المؤاخذة على فعل أحد الجسمين يلزمه على فعل الآخر وإن كان مثله ، وإنما سمي الأبدال أبدلا لكونهم إذا فارقوا

ص 101

منها في الحضرة التي ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين.
وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب:
فهي يتيمة الدهر وفريدته. فإياك أن تغفل عنها فإن تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها مع الصورة، مثلها مثل الكتاب الذي قال الله فيه «ما فرطنا في الكتاب من شيء» فهو الجامع للواقع وغير الواقع
________________________
موضعا ويريدون أن يخلقوا بدلا منهم في ذلك الموضع الأمر يرونه مصلحة وقربة . يتركون به شخصا على صورته .
لا يشك أحد ممن أدرك رؤية ذلك الشخص أنه عين ذلك الرجل وليس هو ، بل هو شخص روحاني بتركه بدله بالقصد على علم منه.
فكل من له هذه القوة فهو البدل ، فمن كان تتنوع عليه المقامات والأحوال ويظهر في كل صورة من صور العالم ، له التروحن إذا شاء والتحول في الصور .
وإذا كان البشر بهذه النشأة الترابية العنصرية له قوة التحول في الصور في عين الرائي وهو على صورته ، فهذا التحول في الأرواح أقربه.
واعلم أن أصل هذا الأمر الذي ذكرته ، إنما هو من العلم الإلهي في التجلي الإلهي ، فمن هناك ظهر هذا الأمر في عالم الغيب والشهادة ، إذ كان العالم بجملته والإنسان بنسخته والملك بقوته على صورة مقام التجلي في الصور المختلفة.
ولا يعرف حقيقة تلك الصور التي يقع التحول فيها على الحقيقة إلا من له مقام التحول في أي صورة شاء وإن لم يظهر بها.
وليس ذلك المقام إلا للعبد المحض الخالص، فإنه لا يعطيه مقام العبودية أن يتشبه بشيء من صفات سیده جملة واحدة.
حتى إنه يبلغ من قوته في التحقق بالعبودية أنه يفنی وینسی ويستهلك عن معرفة القوة التي هو عليها من التحول في الصور ، بحيث أن لا يعرف ذلك من نفسه.
تسليما لمقام سيده إذ وصف نفسه بذلك ، ولولا هذا الأصل الإلهي وأن الحق له هذا وهو في نفسه عليه ، ما صح أن تكون هذه الحقيقة في العالم.
إذ يستحيل أن يكون العالم في أمر لا يستند إلى حقيقة إلهية في صورته التي يكون عليها في ذلك الأمر .
الفتوحات : ج 1/ 182 ، 259 ، 621  - ج 2 / 7 ، 14 ، 333 ، 495 - ج 3 / 42 ، 43 ، 44 ، 298 .


ص 102

البيت الأول : « فوقتا يكون العبد ربا بلا شك » أي يكون سيدا قال يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن " اذكرني عند ربك" .
البيت الثاني : الشطر الأول يشير إلى قول الحق في الحديث القدسي « ووسعني قلب عبدي المؤمن » .
ويشير الشطر الثاني إلى مسؤولية الخلافة من قوله تعالى : « وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا »
البيت الثالث : الشطر الأول يشير إلى تحقق العبد بمقام العبودية وهو قوله تعالى :" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " .
والشطر الثاني يشير إلى الحديث القدسي « عبدي كن لي كما أريد أكن لك كما تريد » وإلى قوله تعالى : « لهم ما يشاؤون عند ربهم » .
البيت الرابع : يشير إلى مسؤولية مقام الخلافة .
البيت الخامس : يؤكده ما روي عن سليمان عليه السلام أنه طلب من الحق أن يوكل إليه أرزاق خلقه فأجابه إلى طلبه ، فخرجت له دابة صغيرة من البحر فالتهمت جميع ما كان أعده على شاطىء البحر من مائدة لدواب البر والطير ، ثم قالت له ، أكمل لي رزقي .
البيت السادس : « فكن عبد رب » أي كن عبدا محضا للرب الحق، « لا تكن رب عبده » أي سيدا لعبده والضمير في عبده يعود على كلمة « الرب » الأولى وهو الإله الحق.

ص 103
.

واتساب

No comments:

Post a Comment