Monday, July 29, 2019

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين الشيخ الشريف ناصر بن الحسن الحسيني السبتي الكيلاني

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين الشيخ الشريف ناصر بن الحسن الحسيني السبتي الكيلاني

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين الشيخ الشريف ناصر بن الحسن الحسيني السبتي الكيلاني

كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين ويسمى حكم الفصوص وحكم الفتوحات الشيخ الشريف ناصر بن الحسن الحسيني السبتي الكيلاني
شرح الفص الآدمي
قال الشيخ الأكبر قدس سره :  ( لما شاء الحق سبحانه من حيث أسمائه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها وإن شئت قلت أن يرى عينه في  كون جامع يحصر الأمر كله. لكونه متصفا بالوجود، و يظهر به سره إليه ). 
قال الشارح(فص حكمة إلهية في كلمة آدمية كل ملتقى العظمين) 
فص هكذا في اللغة، فهو عبارة عن ملتقى الحكم الإلهية المشتملة على قوسي الأحدية والواحدية، فالملتقى هو الوحدة الصرفة التي هي القلب المحمّدي و قلب كل نبي قبله، و الحكمة هي العلم بوضع الأشياء موضعها، و الإلهية هي مرتبة جامعة لجميع الأشياء، و الكلمة هي العين الفاضلة الجامعة الفاصلة المانعة كأعيان الأنبياء عليهم السلام، و الآدمية هي المنسوبة إلى آدم حقيقة الحقائق الإنسانية، و أراد رضي الله عنه بآدم وجود العالم الإنساني . 
قال في الفصوص : 
( لما شاء الحق من حيث أسمائه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها و إن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع ).
(لما شاء الحق ): أي لما نظر الحق سبحانه في حضرة غيب الذات، نظر تنزه في الكمال الذاتي المطلق الذي لا يتوقف ثبوته له على أمر خارجي إذ ما ثم يخرج عنه . 
و بهذا صحّ الفناء الذاتي، فشاهد تعالى بالنظر المذكور على النحو المذكور، كمالا أخر مستحبا في غيب هويته غير الكمال الأول، و إذا رقيقة متصلة بين الكمالين اتصال تحبب تام، فكان ذلك الكمال الثاني هو الكمال الأسمائي من حيث النسبة الشهودية كمال الجلاء و استجلاء وعلم .
""إضافة المحقق : قال سيدي محمد وفا رضي الله عنه : الفناء هو اضمحلال كل متعرض متوهم لا ينتهي إلى غاية محققة، وحقيقته: صدق العدم الذاتي على كل موجود بالعرض في المجاز ،وغايته: صادق من العلم يمحق كل كاذب من الوهم وهو الهلاك الحقيقياهـ ""
إن هذا الكمال الأسمائي لا يظهر بدون الغير، فشاء ما شاء، و فعل ما أراد فالمشيئة عرش الذات.
"الكمال: التنزيه عن الصفات وآثارها. أي: عن كل ما يقيد ذات الموت، وحقيقته فيخرجها عن إطلاقها، صفة، وتجردها عن الاعتبارات مطلق إبقاؤها على الإطلاق الذاتي، والذي حكمه مع سائر القيود على السواء، وذلك هو الكمال الحقيقي، فافهم."
وإنما قلنا بالمشيئة لأنه لو كان العالم أعني وجوده لذات الحق لا للمشيئة لكان العالم مشاركا للحق في الوجود، و ليس كذلك فالمشيئة حكم لذات الحق أزلا و هي تطلب تأخر وجود العالم عن وجود الحق، فيصح حدوث العالم و ليس ذلك إلا بنسبة المشيئة و سبق العلم بوجوده، فكان وجود العالم مرجّحا على عدمه، و الوجود و المرجح ساوق الوجود الذاتي الذي لا يتصف بالترجيح في مرتبة العلم، فافهم . 
و إنما قال رضي الله عنه: شاء، و لم يقل: أراد إشارة إلى أن التوجّه كان من مرتبة الذات من الفيض الأقدس، فإن المشيئة توجّه الذات نحو حقيقة الشيء كان ما كان، والإرادة تعلق بتخصيص تخصيص أحد الجائزين من طرفي الممكن أعني:
وجوده في مقام الألوهية، فالمشيئة عين الذات و عرشها.
و قد يكون متعلقها الإرادة إذا شاء أراد، و الإرادة من الصفات الموجبة للاسم المريد المقتضي للوجود و هي عرش الألوهية.
فالمشيئة أقدم و أعم من الإرادة، فقد تتعلق المشيئة بالإرادة التي تقتضي الوجود فتتعلق بالإيجاد، و قد تعلق بالمعدوم لبقائه على أصله، فمتعلق المشيئة العدم و الوجود بخلاف الإرادة، فإن متعلقها الوجود . 

قال الله تعالى:"إنْ يشأْ يذْهِبْكُمْ أيُّها النّاسُ ويأتِ بآخرين وكان اللّهُ على لذك قدِيرًاً "[ النساء: 133] .
و قال تعالى في الإرادة: "إنّما أمْرهُ إذا أراد شيْئاً أنْ يقُول لهُ كُنْ فيكُونُ" [ يس: 82].
فلمّا كان المقام مقام الأقدم لا القديم، وتعلق. التوجّه بالأمر المعدوم.
فقال رضي الله عنهلما شاء، فافهم . 
وهنا مسألة في المشيئة في "غرائب الفتوحات" فأذكرها: فإنه رضي الله عنه ما كتب شيئا ولا ذكره إلا للاستمتاع والانتفاع . 
فاعلم ان العدم يحكم على صور الممكنات بالذهاب والرجوع إليه رجوعا ذاتيا، فالممكنات بين إعدام من العدم وإيجاد من الواجب الموجود، فحكم العدم يتوجه على ما وجد من الصور، وحكم الإيجاد من واجب الوجود، يعطي الوجود. 
فلمّا قال تعالى: "إنْ يشأْ يذْهِبْكُمْ و يأتِ بخلْقٍ جدِيدٍ" [ إبراهيم: 19]
من باب الإشارة إلى غوامض الأسرار لأولي الأفهام وهو أنه عين كل منعوت بحكم من وجود، و عدم و وجوب و إمكان و محال فما ثمة عين توصف بوصف، أو تحكم بحكم إلا و هو ذلك العين، و هذه مسألة تضمنها هذا المقام و لو لا ذلك ما ذكرنا . 
قال رضي الله عنه في الباب الثالث و السبعين و ثلاثمائة و ما تقدّم لهذا ذكر في كتاب " الفتوحات" غير هذا الموضع، و لن تراها في غيره إلا في الكتب المنزّلة من عند الله كالقرآن و غيره، و منها أخذناها بما رزقنا الله من الفهم في كلامه" انتهى كلامه رضي الله عنه . 
و هنا مسألة أخرى أذكرها لك فإنها من الغرائب و هي أنه رضي الله عنه ذكر في الوصل الخامس من الخزائن من "الفتوحات " : وليس الحق بمحل للجواز لما يطلبه الجواز من الترجيح من المرجح . فمحال على الله الاختيار في المشيئة , لأنه محال عليه الجواز .
لأنه محال أن يكون لله مرجح يرجح له أمرا دون أمر فهو المرجح لذاته .
فالمشيئة أحدية التعلق لا اختيار فيها ولهذا لا يعقل الممكن أبدا إلا مرجحا .
إلا أن الحق من كونه غفورا أرسل ستره وحجابه بين بعض عباده وبين إحالة رجوع الحق إلى نفسه في غناه عن العالم . فقال في ذلك الستر : فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. فافهم
فإذا قلنا: إن العلم تابع المعلوم و لا أثر للعلم في المعلوم، و المشيئة تابع للعلم، و الإرادة تابع المشيئة، بل عين المشيئة في الخارج، فيظهر رائحة الخير .
قال تعالى: "ما يبدّلُ القوْلُ لديّ " [ ق: 29] ما شاء الله كان، و المحال ليس بمشاء.
فكم يكن هذا القدير العزيز الحكيم، و الحكمة تمنع الحكيم أن يفعل بغير حكمة , وإلا لم يكن حكيما و هو حكيم عالم، فافهم الحق .
إنما قال رضي الله عنه: الحق، و لم يقل الله لأن المشيئة عرش الذات الحق من المقام الأقدم، و اللّه اسم المرتبة من مقام القديم وهي الألوهية، و عرشها الإرادة . قال تعالى: "فعّالٌ لما يريدُ " [ هود: 107]
""  الإرادة: وهي لوعة في القلب. يريد قدس سره: قلب من تنبه للنهوض بقدم حاله إلى وجهته العليا في الحق، وهي وجهة موليها، وهي مختاره الأصلي، ومستنده الغائي.""
وقد زاد قدس سره في معناها قيدا آخر، وهو قوله في الفتوحات المكية« و يحول بينه وبين ما كان عليه مما يحجبه عن مقصوده». .
والإرادة في الحقيقة لا تتعلق دائما بالعدم، فإنها صفة تخصص أمرا إما بحصوله، أو وجوده.
كما قال تعالى وتقدس"إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" [يس: 82]. وشيئية المراد هنا شيئية الثبوت لا شيئية الوجود.
فإن قلت: قد تتعلق الإرادة موجود لمحوه، وإعدامه.
قلت: هذه مشيئة الإرادة. كما قال تعالى : "يمحوا الله ما يشاء ويثبت" [الرعد: 39] فلو تعلقت الإرادة بالموجود لتخصيص وجوده لزم تحصيل الحاصل.
فالمراد: حالة تعلق الإرادة به معدوم قطعا. فإن العقاب، وملذوذ وحده بالعذاب، حالة تعلق الإرادة به، وكان معدوما في حقه، فخصص ذلك بإرادته ليوجد في حقه، فإذا وجد، تعلقت إرادته باستمرار ما حصل، وهو معدوم إذ ذاك .
فالإرادة إن نشأت في القلب على مقتضى غلبة الحكم القلبي فيطلقونها ويريدون ما إرادة التمني سواء تعلقت بالمطالب العالية أن الدانية.
ولذلك قال : وهي يعني إرادة التمي منه، أي: من القلب يريدون بها أيضا.
إرادة الطبع: إن نشأت من القلب على مقتضى غلبة حكم النفس عليه ، فإنها إذن تحديد إلى شبح الطبيعة القاضي بإتيانه اللذات العاجلة والآجلة أيضا، كتقييد القلب مثلا في مناهج ارتقائه بلذات، مشاهدة نتائج الأحوال في الحال، أو نتائج الأعمال، بحكم المحازاة في المال.
آذاك قال : "و متعلقها الحظ النفسي فإن علة تقييد القلب هنالك وجود اللذة، ويطلقوها و يريدون بها: إرادة الحق"
إرادة الحق: إن نشأت من القلب، على مقتضى غلبة الحق عليه، سواء كان ذلك من أحكامه الظاهرة أو الباطنة، ومتعلقها الإخلاص، والقاضي بتحقيق توحيده الذاتي، وقطع تعلقها عن السوي، بل عن الأسماء من حيث كونها مشعرة بالكثرة المعقولة، بحسب نسب إحاطاتها.
ولهذا قال علي كرم الله وجهه: «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه».  
( من حيث أسمائه الحسنى) يعني: لما شاء من حيث الأسماء و اقتضائها يرى أنوار أسمائه المصونة، و أثار أسراره المكنونة المخزونة في المظهر الجامع كما سيجيئ لا من حيث الذات البحت، فإنها لا يضاف إليها شيء سوى الغنى عن العالمين، و كان ذلك: أي ما شاء بحركة حبية، و تنفس رحماني : 
"كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لأعرف فتعرّفت بهم، فعرفوني".
أما الاسم في التحقيق، فهو التجلي المظهر لعين الممكن الثابتة في العلم، و لكن من حيث تعين ذلك التجلي المنبعث من الغيب المطلق في مرتبته، و التجلي من حيث تعينه اسم دال على الغيب المطلق الغير المتعين، و التسمية عبارة عن نفس دلالة الاسم على الأصل الذي تعين منه، و دلّ عليه، فافهم، إنه أصل عزيز شريف . 
( التي لا يبلغها الإحصاء): أي باعتبار الجزيئات الظاهرة في كل آن، فإنها غير متناهية دنيا، أو آخرة، أو فيهما، و أمّا باعتبار الكليات والأمهات، فهي محصورة كما في الخبر الصحيح: "  ومن أحصاها " الحديث خبر من صادق عن إمكان الإحصاء . 
وهكذا إذا نظرت إلى العالم مفصّلا بحقائقه، ونسبه وجدته محصور الحقائق والنسب، معلوم المنازل و الرتب متناهي الأجناس بين متماثل ومختلف وذلك لأن الأسماء هكذا وهي صور الأسماء، فافهم . 
إرادة الحق: إن نشأت من القلب، على مقتضى غلبة الحق عليه، سواء كان ذلك من أحكامه الظاهرة أو الباطنة، و متعلقها الإخلاص، و القاضي بتحقيق توحيده الذاتي، و قطع تعلقها عن السوى، بل عن الأسماء من حيث كونها مشعرة بالكثرة المعقولة، بحسب نسب إحاطاتها، ولهذا قال علي كرم الله وجهه: "و كمال الإخلاص له نفى الصفات عنه ".  
( أن يرى أعيانها ): أي أعيان الأسماء الخارجية من العلم إلى العين و هي تعيناتها، و أمّا حقائقها التي عين كل فرد من أفراد العالم منها، فمظهر اسم من الأسماء، وعين من الأعيان، وأفرادها غير متناهية كالأسماء التي لا تحصى .
و أمّا قول الشارح القيصري رحمه الله: إن المراد من الأعيان الأعيان الثابتة، فليس بظاهر لأمرين:
أحدهما: أن الأعيان الثابتة  كانت مربية له تعالى قبل مشيئة الخلق بلا أمر . 
و الثاني: أنه ما مضى ذكر الأعيان الثابتة حتى يرجع الضمير إليه لا لفظا، ولا حكما، بل الصحيح الظاهر أن الضمير إلى الأسماء، فافهم . 
( وإن شئت قلت ): أي إن شئت الترقي قلت، (أن يرى عينه ): أي ذاته فالأولى رؤية الكامل، والثانية رؤية الأكمل.
(في  كون جامع) والجامع نعت إلهي، وهو الذي لم يخرج عنه معلوم أصلا لا حق، و لا خلق، و لا يمكن، و لا واجب، و لا محال، و هو حضرة لها الدوام و البقاء، و لا تعقل إلا جامعة وما لها أثر إلا الجمع، و ما تفرق إلا ليجتمع . 
قال تعالى: "و ما تفرّق الّذِين أوتوا الكِتاب إلّا مِنْ بعْدِ ما جاءتْـهُمُ البيِّنةُ" [ البينة: 4]: أي الكتاب الجمعي . 
بينة الفرق على الجمع الشاهد على عين العيان، فذلك هو عين الجمع و الوجود، و مقام السكوت و الخمود، فافهم . 
فالكون الجامع هو جامع الضدين: أي العدم و الوجود، و الجمع و الفرق، و القدم و الحدوث، و الحقية و الخلقية و هو الإنسان الكلي الكامل لأنه برزخ بين الحق و العالم، فجمع طرفي الأضداد . 
و من هذا المقام قال الخراز قدّس سره: عرفت الله بجمع الأضداد: أي ذوقا و وجدانا.
يشير إلى التحقيق بالصورة، بل الكون الجامع هو عين الضدين . 
كما ذكر الشيخ رضي الله عنه عن شخص من أصحابه اسمه تاج الدين الأخلاطي أنه قال له حين سمع منه رضي الله عنه هذه الرواية: أي رواية الخراز.
فقال: هو عين الضدين معا و قول الخراز يوهم أن ثمة عينا ليست هي عين الضدين، لكنها تقبل الضدين معا و الأمر في نفسه ليس كذلك.
بل هو عين الضدين إذ لا عين زائدة، فالظاهر عين الباطن، و الأول عين الأخر، و كذلك الرّاد فيما نحن فيه أن الكامل كون جامع هو عين المجموع لا عين جامع للمجموع إذ لا عين زائدة قابلة جامعة، فافهم . 
( يحصر الأمر كله ): أي أمر الأسماء الإلهية كلها، أو الأمر الإلهي ذاتا، و اسما، وصفة وإنابة.
و الأولى باعتبار العبارة الأولى، وهي أن يرى أعيانها.
والثانية باعتبار العبارة الثانية وهي أن يرى عينه لكونه متعلق بقوله يحصر: أي يحصر الأمر (لكونه) الكون الجامع (متصفا) بالوجود، و كل ما اتصف بالوجود دخل تحت حيطة الحصر، فانحصر الوجود الجامع كان ما كان، فافهم .
قال الشارح الشيخ عبد الرازق الكاشي قدّس سره: إن قوله: (لكونه) علة لرؤيته تعالى عينه في الكون الجامع . 
و قال الشيخ عبد الرحمن الجامي: إن قوله: لكونه متعلق بقوله: يرى، على أنه علة مصححة للرؤية، فإن الشيء ما لم يكن موجودا لم يصح رؤيته، أطلق الكلام و لم يقيداه ، مع أن الشيخ الأكبر رضي الله عنه ذكر في هذه المسألة: إن شرط الرؤية إمكان الوجود لا الوجود . 
و صرّح رضي الله عنه بهذه المسألة في الباب السادس و الأربعين من "الفتوحات":
و قال :  فإنا لا نعلل الرؤية للأشياء أن يكون المرئي مستعدا لقبول تعلق الرؤية سواء كان معدوما، أو موجودا، أو كل ممكن مستعد للرؤية و الممكنات، و إن لم يتناهى فهي مرئية لله تعالى لا من حيث نسبة العلم، بل من نسبة أخرى تسمّى رؤية كانت ما  كانت 
قال تعالى: "ألمْ يعْلمْ بأنّ اللّه يرى" [ العلق: 14] انتهى كلامه رضي الله عنه . 
فصل  العالم مدرك الله تعالى في حال عدمه
اعلم أن العالم مدرك الله تعالى في حال عدمه، فهو معدوم العين، مدرك لله تعالى، يراه فيوجد لنفوذ الاقتدار الإلهي فيه، ففيض الوجود العيني إنما وقع على تلك المربيات لله في حال عدمها، و إنها رؤية حقيقية لا شك فيها.
و لا يتصف الحق بأنه لم يكن يراه، بل لم يزل يراه، فمن قال بقدم العالم، قال بهذا الاعتبار، و من قال بحدوثه نظر إلى تغير العالم بعينه كنفسه في كل إن لم يكن له هذا الحال قبله، ثم كان فقال بالحدوث. 
و من هنا تعلم أن علة رؤية الرأي الأشياء ليست كونها موجودة كما رأى العقلاء، فافهم، ذكره رضي الله عنه في"الفتوحات": 
( و يظهر به) من باب الأفعال منصوبا بالعطف على قوله: إن يرى عينه: أي يظهر به: أي بعين العبد لا بالحق، فإنه من مقام قرب الفرائض، و الثاني مقام قرب النوافل فالأول للعالمين، و الثاني للعارفين . 
( سره ): أي سره و حقيقته، فإنه سرّ الأسماء (إليه) إلى الكون الجامع الذي هو العبد الظاهر بصورة السيد و هو سر أن الله خلق آدم على صورته، فإن أراد أن يظهر رضي الله عنه حكمة المشيئة . 

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :  )فإن رؤية الشي ء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة فإنه تظهر له نفسه هي صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له . وقد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة. ) .   
و قال رضي الله عنه : )إن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر(، هذا دفع اعتراض متوهم، و هو أن الله تعالى أزلي الذات، و أزلي الصفات، فكان بصيرا بذاته في الأزل و لا  شيء معه، فكان يرى الأعيان في العدم في القدم . 
فأجاب رضي الله عنه بأن له تعالى الرؤية، و لكن رؤية  الشيء بنفسه كرؤية الحق الأعيان الثابتة في نفسه و ذاته في حضرة اتحاد العالم، و المعلوم، و العلم ليس كرؤية نفسه في أمر آخر. أي الذي يرى نفسه بنفسه في نفسه ليس مثل ما يرى نفسه في أمر آخر.
و إنما قال رضي الله عنه: (في أمر آخر)، و ما قال في الغير لأنه لا غير عنده، و لكن كأنه غيره من بعض الوجوه و التجلي ما خرج عن الأقدس الذاتي . 
فحاصل كلامه رضي الله عنه: إن الرؤية قد تتعلق بالمعدوم في الخارج، و قد تتعلق بالموجود فيه، فإذا تعلقت بالموجود في الخارج تعلقت بحسبه، فإنها تابعة للمرئي كالعلم فإنه تابع للمعلوم مطلقا حقا أو خلقا، فافهم .
"" قال سيدي علي وفا رضي الله عنه : إذا أفادك الحق نفسه بكشفه وبيانه فحصلت لك رؤيته والتحقق به ، فإنما رآه و تحقق به نفسه التي أفادك إياها، فهو لا يراه إلا إياه، ولا يتحقق به سواه، و كل صديق لصادقه هو، يتحقق به ويراه، فنفاة الرؤية و مثبتوها على صواب كما سمعت، فافهم.
قال تعالى : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ" [يونس: 108]، إنما يعني هنا أنا المستحق الأصيل إن عرفتم حقي الجميل الجليل، فافهم. ""
( يكون له ): أي أمر آخر يكون لذلك  الشيء في الرؤية )كالمرآة( المصقولة الصحيحة المقابلة، فإنه يرى فيها بحسبها لا بحسب الرائي.
فإنه تظهر له : أي للشيء نفسه في صورة يعطيها: أي استعداد المرآة و هي المحل المنظور فيه و هو العالم، أو الإنسان الكامل، كالوجه يرى في المرآة بحسبها مختلفة كالاستطالة و الاستدارة و غيرهما مع وحدة الوجه الناظر فيها، و ما ذلك إلا لاختلاف الاستعدادات و القابليات في ذات المرآة . 
( مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل) الذي بمنزلة المرآة و المجلي، (و لا تجليه) عطف على يظهر: أي لا يظهر له و لا تجلى من غير هذا المحل، فلمّا كان الرائي هو الحق عبر عن التقابل و التواجه بالتجلي لاستلزامه العلم.
و الشعور بالمتجلي كما هو المصطلح: أي و لا يظهر تجليه: أي تجلي الحق له: أي للمحل من غير هذا الوجه، و هو الوجود الخارجي . 
ذكر الشيخ عين القضاة قدّس سره في بعض تصانيفه عن شيخه الشيخ أحمد الغزالي: إن شيخه أبا بكر النسّاج قال في مناجاته: إلهي ما الحكمة في خلقي؟
فقال له: الحكمة في خلقك رؤيتي في مرآتك روحك، و محبتي في قلبك . 
ذكره الشيخ عبد الرحمن الجامي قدّس سره في "النفحات" . 
قال الشيخ الأكبر قدس سره: (و قد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوّى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوّة) .
( و قد كان) اعلم أن لفظ كان يعطي التقييد الزماني، و ليس المراد هنا به ذلك و لا في الإلهيات، كما قال سبحانه: "و كان اللّهُ غفُورًاً رحِيماً" [ الفرقان: 70].
و إنما المراد به: الكون الذي هو الوجود، فتحقيق كان أنه حرف وجودي لا لفعل بطلب الزمان، و لهذا لم يرد ما يعتقدون علماء الرسوم، و لا كما قيل في قوله صلى الله عليه و سلم:" كان الله و لا  شيء معه "الحديث.
و هو الآن كما كان زيادة مدرجة في الحديث ممن لا يلاحظ معنى كان في الإلهيات، و لا سيما في أمثال هذه المواضع، فلهذا أسماها و أخواتها بعض النحاة حروفا تعمل على الأفعال، و هي عند سيبويه حرف وجودي، و لو تخيل فيه الزمان لوجود التصرف من كان يكون، فهو كائن . 
هذا الذي سقناه إنما هو على قول الولي إذا قال مثل هذا اللفظ.
أو نطق به من مقام ولايته لأن مقام المرتبة التي منها بعث رسولا، فإن الرسول إذا قال مثل هذا اللفظ في المعرفة بالله من مقامه الاختصاصي فلا كلام لنا فيه، و لا ينبغي لنا أن نشرع فيما ليس بذوق لنا . 
و أمّا بلسان الولاية فنحن نترجم عنه بأعلى وجه يقتضيه حالها هذا غاية الولي في ذلك، فإذا عرفت أنه ليس المراد من لفظ  كان معنى القبلية الزمانية، بل أنه أداة توصيل تدل على نسبة يحصل بها المقصود في نفس السامع . 
فاعلم أنه رضي الله عنه يشير بقوله: قد كان إلى المساوقة لمن وقف عليها ألا يتقيد وجود الحق مع  وجود العالم بين الإيجاد و المشيئة الأزلية، و إن كانت العبارة توهم بالمسابقة، و لكن ما يقول بها عقل، و لا يقدر على إقامة البرهان على ما ادّعاه.
و إنما قلنا بالمساوقة لأن الحقائق أعطت لمن وقف عليها أن لا يتقيد وجود الحق تعالى مع وجود العالم بقبلية، و لا معيّ ة و لا بعدية .
فإن هذه كلها أحكام الزمان، و أحكام الزمان في الإلهيات قد رمت به الحقائق في وجه القائل بها: اللهم إلا أن يقول للتوصيل، و التعميم إذ ليس كل أحد أعطي الكشف على حقائق الأمور.
فلا نقول من لسان الحقائق على ما هو الأمر عليه في نفسه أن العالم موجود بعد الحق، كما لا نقول أنه موجود قبل الحق، و لا مع الحق فإن الحق هو الذي أوجده من العدم هو فاعله و موجده و مخترعه، فلا قدم له مع الحق بجميع الوجوه من الوجوه.
و لكن نقول الحق موجود بذاته، و العالم موجود به تعالى في حال لا قبل، و لا بعد، و لا مع لأنها كلها علل، و المقام مقام التنزه عن الآفات و العلل، و أين أنت من أن الزمان مقدر حركة الفلك؟ و متى كان الفلك؟
و متى كان حركته حتى يعتبر مقدارها زمانا؟
و هو من عالم الحق، و كلامنا من فوق عالم الأمر . 
فإن قال متوهّم، فمتى كان وجود العالم من وجود الحق؟
قلنا: السؤال عن متى سؤال عن زمان، و هو من عالم النسب، و عالم النسب من عالم الخلق، و هو مخلوق لله تعالى، فلا نحكم على ما فوقه . 
فانظر كيف تسأل، و إياك أن تحجبك آلات التوصيل، و أدوات التفصيل عن تحقيق المعاني الصرفة التي لا يحتملها، أو إلى الحروف و الاصطلاحات، و لا تسعها قوالب الألفاظ، و ظروف العبارات . 
و هكذا الأمر هنا في نفس الأمر، فإنه قال رضي الله عنه: لما شاء الحق تعالى، ثم قال: و كان الحق أوجد، و هما يطلبان التقدّم، و التأخّر، أو المعية، و مثل هذه وقع في التنزيل، و هو قوله: "و كان عرْشُهُ على الماءِ" [  هود: 7] . 
حتى فهموا من هذا السوق قدمهما، فإذا تقرّر هذا، فقد تبين أن هذه الألفاظ الموهمة هي من الآيات المتشابهة الواجبة التأويل، و من أدوات التعليم و التفهيم و التوصيل، و ينبغي لكل عالم على حسب فهمه، و قوة نفوذه، وحدة بصيرته و بصره أن يفهم المعاني من وراء حجاب الألفاظ، و يغالط نفسه، و لا يغالط نفسه، فافهم .
فإن الأمر أنزه أن يعبر، و أعزّ من أن يشار إليه و يفسّر، و هنا سر آخر و هو من بعض محتملاته، و هو أنه ورد في الخبر الصحيح :  " كان الله ولا شيء معه"  
ثم أدرج فيه العارف، و قال: الآن كما كان: أي لم ترجع إليه من إيجاده العالم صفة لم يكن عليها أزلا، بل كان موصوفا لنفسه، و مسمّى قبل خلقه بالأسماء التي يدعونه بها.
فلما أراد وجود العالم، فانفعلت الحقيقة الكلية المسمّاة بالهباء التي هي بمنزلة طرح الجص للبناء ليفتح فيها ما يشاء من الصور و الأشكال، و هي أول موجود العالم، فتمددت تلك الحقيقة الجصية المطروحة بمدد و ممدد ذاتي و اقتضاء أصلي أشباحا و أشكالا و صورا بلا أرواح على الحسب التقدير السابق، و تفصيله القائم بنفس الموجد الحق سبحانه.
فإن علم العالم و قدره بعلمه، و علمه تابع للمعلوم، و المعلوم عين ذاته لأنه في مقام وحدة العلم و العالم و المعلوم، فافهم هذا المبهم، و لا تخف إن ما في الوجود غيره، و كل ما في الوجود مراتب التنزلات الإلهية 
أما ترى إشارة قوله سبحانه: "إنّما قوْلنا لشيْءٍ إذا أردناهُ أنْ نقُول لهُ كُنْ فيكُونُ" [ النحل: 40] إنه تعالى أثبت له نحو وجوده ليسمع، و يطيع خطاب كن فيكون، فالقول قديم، و ثبوت  الشيء باعتبار عينه الثابتة أقدم، فافهم . 
و تحقيق هذه المسألة للأعيان الثابتة في حال عدمها وجوديا علما بالنسبة إلى الحق، و خاليا بالنسبة إلى الإنسان الكامل المتحقق بالحق: أي بمرتبته.
فيقول الحق تعالى له :  "كن فيكون" لسامع هذا الأمر الإلهي وجودا حسيا.
أي يتعلق به الحس في الوجود الحسي كما يتعلق به الخيال في الوجود الخيالي .
و هنا حارت الألباب هل الموصوف (بالوجود) المدرك بهذه الحواس هو العين الثابتة؟ أم لا؟ فافهم، ذكره رضي الله عنه في  حضرة الخالق من "الفتوحات" : 
و أيضا أن للممكن حضرية العدم، و الوجود عارض له، قال تعالى إشارة إلى هذه النكتة: "و آيةٌ لهُمُ اللّيْلُ نسْلخُ مِنْهُ النّهار" [ يس: 37]، فقدّم رتبة الليل الذي هو صورة العدم على رتبة النهار الذي هو صورة الوجود.
فحكم العدم يتوجّه على ما وجد من الصور العلمية في ثبوتها.
و حكم الإيجاد من واجب الوجود ما كان ما يكون بحسب اقتضاء الأعيان.
فالذي برز في الوجود من الصور هو علمه بالعالم، و علمه بالعالم عين علمه بنفسه، و علمه بنفسه كان أزلا أبدا .
لا عن عدم نعلمه بالعالم  كذلك، فالعالم كذلك، و لكن تقدّم الحق تعالى لأنه صفة له و صفات الحق قديمة بقدمه، فافهم . 
فإني أدرجت لك في هذا ملاك التصوف إن كنت صافيا، و فهمت في ضمن هذا السوق أن المسابقة على وزن المساوقة، و حكمها سواء و ذلك لأن الأشياء لها مواطن و أحكامها بحسبها، و ليست هذه المسألة من  مدركات العقل . 
و من أغرب أحكام هذا العالم، و أعجبها أن العقل بحكمه ضرورة على العلة، أنها لا تكون معلولة لمن هي علة له، و لا المعلول سابق العلة، هذا حكم العقل السليم المستقيم لا خفاء فيه، بخلاف العلم التجلي فإنه يحكم أن العلة تكون معلولة لمن هي علة له، و المعلول سابق العلة، و ذلك لوحدة العين، و صاحب العقل يرمي هذا الذوق، و أرباب الوهم بالذوق منه فيه . 
هذا هو جمع الأضداد الذي أشار إليه، و إلى تحققه وجه من وجوه الحق بقوله : 
عرفت الله بجميع الأضداد، ثم تلا: "هُو الْأوّلُ و الْآخِرُ و الظّاهِرُ و الباطِنُ" [ الحديد: 3] . 
و لا نقول بالاعتبارين لأنه سائغ في كل الأمور.
بل باعتبار واحد من عين واحدة، و نسبة واحدة، هذا هو الذوق الذي ذاقه أرباب الكشف و الشهود و المعتني الذي اعتنى بالقول بوحدة الوجود، هؤلاء القوم قد فارقوا المعقول، و لم تقيدهم العقول، هم الإلهيون حقا المحقّقون الذين حقّقهم الله بما أشهدهم صدقا . 
قال تعالى: "و ما رميت إذْ رميت و لكِنّ اللّه رمى"  [ الأنفال: 17] فأثبت، و نفي، و عرا و كسا حسبنا الله و كفى . 
فإذا فهمت ما قلناه إن شئت قلت بالإيجاد، و الخلوة و التأثير، أو بالظهور و البروز و الإبراز، و الإظهار فلا مناقشة في الألفاظ . 
قال تعالى: "يخْلقُ ما يشاءُ و يخْتارُ" [ القصص: 68]، "و على اللّهِ قصْدُ السّبيلِ" [ النحل: 9] . 
( الحق تعالى) إنما قال: الحق، و لم يقل: الله إذ لا يطلب الحق إلا بالحق، فالأعيان لو لا ما تستحق أن تكون مظاهرا لما ظهر الحق فيها . 
( أوجد ): أي أظهر العالم من العلم إلى العين .  اعلم أن الخلق خلقان:
خلق تقدير و هو الذي يتقدّم الأمر الإلهي كما قدّمه في قوله تعالى: "ألا لهُ الخلْقُ و الْأمْرُ" [ الأعراف: 54] . 
و خلق آخر بمعنى الإيجاد، و هو الذي يساوق الأمر الإلهي بالتكوين بين خلقين خلق تقدير، و خلق إيجاد، فمتعلق الأمر خلق الإيجاد، و متعلق خلق التقدير تعيين الوقت لإظهار عين الممكن، فيتوقف الأمر الإلهي عليه.
و هكذا تعلق علم الباري بها أزلا، فلا يوجدها إلا بصورة ما علمه في ثبوتها في حال الثبوت، فالأمر الإلهي يساوي الخلق الإيجادي في الوجود.
فعين قوله: كن عين قبول الكائن للتكوين فكان فالفاء للتعقيب، و ليس هنا تعقيب إلا في الرتبة، فافهم 
( العالم كله) العالم مأخوذ من العلامة، و هو عبارة عن كل ما سوى اللّه، و العوالم كثيرة جدا، و أمهاتها هي الحضرات الوجودية، و أول العوالم المتعينة من العماء عالم المثال المطلق، ثم عالم الرسم، ثم عالم القلم و اللوح، ثم عالم الطبيعة من حيث ظهور حكمها في الأجسام تحقيقي الهيولي و الجسم الكل، ثم العرش، ثم هكذا على الترتيب إلى أن ينتهي الأمر إلى الإنسان في عالم الدنيا، ثم عالم البرزخ، ثم عالم الحشر، ثم عالم جهنم، ثم عالم الجنان، ثم عالم الكثيب، ثم حضرة أحدية الجمع و الوجود الذي هو ينبوع جميع العوالم كلها، هكذا كاشفه صاحب الكشف الأتم، فافهم و الله الهادي و المفهم . 
( العالم كله) العالم مأخوذ من العلامة، و هو عبارة عن كل ما سوى الله، و العوالم كثيرة جدا، و أمهاتها هي الحضرات الوجودية:
و أول العوالم المتعينة من العماء عالم المثال المطلق.
ثم عالم الرسم.
ثم عالم القلم و اللوح.
ثم عالم الطبيعة من حيث ظهور حكمها في الأجسام تحقيقي الهيولي .
و الجسم الكل.
ثم العرش.
ثم هكذا على الترتيب إلى أن ينتهي الأمر إلى الإنسان في عالم الدنيا.
ثم عالم البرزخ.
ثم عالم الحشر.
ثم عالم جهنم.
ثم عالم الجنان.
ثم عالم الكثيب.
ثم حضرة أحدية الجمع و الوجود الذي هو ينبوع جميع العوالم كلها.



هكذا كاشفه صاحب الكشف الأتم، فافهم و الله الهادي و المفهم .
( وجود شبح) : أي كوجود جسم مسوى التسوية غير التعديل، لعل التسوية اعتبار كمية الأجزاء و التعديل باعتبار كيفية الأعضاء لتحصيل المزاج و هو كيفية مشابهة لا كما تبادر لبعض الأفهام، حتى أنه فسّر التسوية بالتعديل . 
أما ترى قوله تعالى:" الّذِي خلقك فسوّاك فعدلك . في أي صُورٍة ما شاء رّكبك" [الانفطار:7،8] جعل التعديل بعد التسوية لا عينها . 
و قال رضي الله عنه: إن الله ما جمع التسوية و التعديل و النفخ.
و قوله: كن إلا في الإنسان، فجعل التعديل غير التسوية، بل جعل الخلق رباعيا، فافهم . 
( لا روح فيه) لفقد عين الإنسان الذي هو إنسان العين، و لم يكن شيئا مذكورا .
( فكان كمرآة غير مجلوّة ): أي كان العالم  كله أعلاه، و أسفله كمرآة مسودّة غير مجلوّة إشارة إلى الجسم الكل الظاهر من وجود الهيولي ، و الطبيعة الكل ظلما مسودا يسمّى شبحة سوداء لهذه الظلمة الطبيعية التي فيه لأن الطبيعة ظل نفس الكل المعبر عنها بلسان الشرع باللوح المحفوظ، فإذا احتدّ إلى ذات الهيولي الكل يظهر من جوهر الهيولي، و الطبيعة جسم مظلم سمّي الجسم الكل.
تتوجّه إليه النفس بإنارته فتنشر الحياة في جميع أعضائه، فتلك عبارة عن نفخ الروح في عالم الأجسام العلوي و السفلي، فافهم.
فإن هذا ملخّص كلام الشيخ الإمام رضي الله عنه في "الفتوحات" و في غيره .
قال رضي الله عنه: غير مجلوّة أراد بعدم جلائها احتجابها بذاتها، فلا ترى نفسها إلا بعين الاتحاد لا بعين الامتياز.
فأوجد آدم على صورة الكون: أي جميع الكائنات غيبا باطنا و ظاهرا شهادة ليقابل بغيبة الغيب،و بشهادته الشهادة ليتجلى له بجميع الأسماء، فافهم. 

قال الشيخ رضي الله عته: ( ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا ويقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال.  وما بقي إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس. )
(و من شأن الحكم الإلهي) و هو قول: (كن) أنه ما سوى محلا إلا و لا بد أن يقبل روحا، فما من صورة محسوسة، أو خيالية، أو معنوية إلا و لها قبول التسوية و التعديل كما يليق بها و بمقامها، فإذا ساداها و عدلها، يسلمها إلى الرحمن، فوجّه عليها نفسه بالقبح، و روحه و هو روح الحق تعالى المشار إليه في قوله: "فِإذا سوّْيـتهُ و نفخْتُ فِيهِ مِنْ روحِي" [الحجر: 29]، و هو عين هذا النفس بفتح الفاء، فقبلته الصورة على حسب استعدادها، و قابليتها . 
و أمّا الروح، فيطلق علي معان مختلفة عند أهل الطريق، فالروح الذي نحن بصدد بيانه بمعنى ما ينفخ فيه عند كمال التسوية، و هي نفس رحماني من عالم الأمر كما قال تعالى: "قلِ ُّ الروحُ مِنْ أمْرِ ربِّي" [ الإسراء: 85] .
و إنما قال رضي الله عنه: و لا بد أن يقبل الروح، و لم يقل لا بد أن يفيض روحا لأن الأمر من القابل و ما بقي إلا قابل، فافهم . 
فإن الأمر قبول و اقتضاء كما سبق، و لا تنس الأسلوب و الساق إلهيا . 
إنما قال رضي الله عنه: إلهيا لأن الحكم صدر من مرتبة الألوهية كما قال رضي الله عنه، و من شأن الحكم الإلهي، فما ظهر ما ظهر إلا باعتبار اسمه النور، و هو عين الوجود . 
قال تعالى: "اللّهُ نورُ السّماواتِ و الْأرضِ" [ النور: 35] .
( عبر عنه ): أي عن القبول بالنفخ فيه: أي في المحل، (و ما هو ): أي القبول إلا حصول الاستعداد.
أراد رضي الله عنه التوطئة لقوله: و ما يطئ الأ قابل، فنفى التأثيرات الخارجية، فقال أولا، فكان الحق تعالى أوجد إشارة إلى مساوقة الإيجاد بالمشيئة الأزلية، فصار أزليا . 
قال: و من شأن الحكم الإلهي أن ما سواه يقبل الروح.
ثم قال: قبول الروح من (حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة) للفيض الأزلي الأبدي، فالأمر كله قبول و تأثر و استعداد (لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال). 
فقال: (و ما بقى إلا قابل، و القابل لا يكون إلا من الفيض الأقدس) المنزه عن جعل الجاعل، فالقابل من الفيض الأقدس، و القبول من الأقدس لا بإفاضة المفيض من الخارج.
و التسوية من مقتضى أحكام الأعيان باقتضاء ذاتي بلا جعل، فالقابل غير مجعول، و القبول غير مجعول، و التسوية غير مجعول، و النفخ الذي هو القبول غير مجعول، فافهم حتى تعرف الأمر.
إلى أن يؤول يزيد رضي الله عنه من هذه المقدمات أن الأمر ما يخرج عنه بل منه فيه باقتضاءات ذاتية.
و هو مذهب الشيخ رضي الله عنه كما فهمناه من كتبه، و كتاب "الفتوحات" و غيرها، و يخالف هذا كلام ما سوّاه ولا يعتمد عليه ، حتى لا ينقص عليك أصل من الأصول، و أنت ما تدري من أين جاءك؟ فافهم.
فـ رضي الله عنه عبر عن حسن القبول، و المطاوعة بالنفخ، و إفاضة الروح .
قال الشارح الجامي رضي الله عنه في قوله: عبر عنه: أي عن ذلك القبول و فيه مسامحة لأن قبول الروح لازم النفخ لا عينه، فاللائق أن يجعل عبارة عن إفاضة الروح لا عن قبوله لأن النفخ صفة النافخ لا المنفوخ فيه . 
ثم جعل قدّس سره ضمير و ما هو أيضا راجعا إلى الروح، ثم قال: و فيه مسامحة أخرى، فإذا رددت الضمائر إلى القبول سومحت هذه المسامحات بلا إشكال و لا مسامحة، و هو أوفق على ظاهر عبارة الشيخ رضي الله عنه حيث قال: عبر عنه بالنفخ، و ما هو إلا حصول الاستعداد، فإن استعارة القبول بالحصول أنسب من الإفاضة، و غيرها، بل أن  القبول هو الحصول فقط بلا أمر زائد، و هذا الواقع في نفس الأمر، فافهم . 

"" إضافة الجامع : معنى الفيض والفرق بين الفيض الأقدس والفيض المقدس :-
الفيض في اللغة :
. فاض الماء ونحوه : كثر حتى سال .
2. فاض الخير وغيره : كثر.
في الاصطلاح الصوفي
يقول الشيخ الأكبر محمد ابن العربي الطائي الحاتمي:
الفيض هو زيادة على ما يحمله المحل " .
و أضاف الشيخ قائلا : وذلك أن المحل لا يحمل إلا ما في وسعه أن يحمله ، وهو القدر والوجه الذي يحمله المخلوق وما فاض من ذلك . وهو الوجه الذي ليس في وسع المخلوق أن يحمله ، يحمله الله . فما من أمر إلا وفيه للخلق نصيب ولله نصيب . فنصيب الله أظهره التفويض ، فينزل الأمر جملة واحدة وعينا واحدة إلى الخلق ، فيقبل كل خلق منه بقدر وسعه ".

وما زاد على ذلك وفاض أنقسم الخلق فيه على قسمين :
فمنهم من جعل الفائض من ذلك إلى الله تعالى فقال : "وأفوض أمري إلى الله ".
وينسب ذلك الأمر إلى نفسه , لأنه لما جاءه ما تخيل أنه يفضل عنه وتخيل أنه يقبله كله ، فلما لم يسعه بذاته رده إلى ربه .
ومنهم : من لم يعرف ذلك فرجع إلى الفائض إلى الله من غير علم من هذا الذي حصل منه ما حصل فهو إلى الله على كل وجه وما بقي الفضل إلا فيمن يعلم ذلك فيفوض أمره إلى الله فيكون له بذلك عند الله يد .
ومنهم : من لا يعلم ذلك عند الله بذلك منزلة ولا حق بتوجه .
وأعلم أن العبد القابل أمر الله لا يقبله إلا باسم خاص إلهي ، وأن ذلك الاسم لا يتعدى حقيقته .
فهذا العبد ما قبل الأمر إلا بالله من حيث الاسم ، فما عجز العبد ولا ضاق عن حمله ، فإنه محل لظهور أثر كل أسم إلهي ، فعن الاسم الإلهي فاض لا عن العبد ، فلما فوضه بقوله : " وأفوض أمري إلى الله" ، ما عين اسما بعينه ، وإنما فوضه إلى الاسم الجامع فيتلقاه منه ما يناسب ذلك الأمر من الأسماء في خلق آخر .
فإنه ما لا يحمله زيد وضاق عنه , لكون الاسم الإلهي الذي قبله به ما أعطت حقيقته إلا ما قبل منه وقد يحمله عمر ، ولأنه أوسع من زيد ، بل لأنه أوسع من زيد ، ولكن عمرو في حكم اسم أيضا إلهي قد يكون أوسع إحاطة من الاسم الإلهي الذي كان عند زيد  .

الشيخ مصطفى بالي أفندي يقول :
المراد بـ الفيض كون الجود الإلهي سببا لحدوث أنوار الوجود في كل ماهية قابلة للوجود بلا انفصال من الله تعالى واتصال إلى الماهية القابلة كفيضان الصورة على المرآة فإن صورة الإنسان مثلا سبب لحدوث صورة تماثلها في المرآة المقابلة بمحاذاة الصورة فليس فيهما انفصال واتصال. 

الشيخ قطب الدين البكري الدمشقي يقول :
الفيض هو شراب وفي الفيض تصريح موصل الوصول. 

الشيخ أبو العباس التجاني يقول:
" الفتح عبارة عن زوال الحجاب وما بزغ بعده من حقائق المعاني المذكورة يسمى فيضا لأنه فاض بعد حبسه " . 

الدكتور عبد المنعم الحفني يقول :
الفيض هو ما يفيده التجلي الإلهي فإن ذلك التجلي هيولاني الوصف ، وإنما يتعين ويتقيد بحسب المتجلي ، فإن كان التجلي له عينا ثابتة غير موجودة يكون هذا التجلي بالنسبة إليه تجليا وجوديا فيفيد الوجود ، وإن كان المتجلى له موجودا خارجيا كالصورة المسواة يكون التجلي بالنسبة إليه بالصفات ويفيد صفة غير الوجود كصفة الحياة ونحوها . 
الدكتور حسن الشرقاوي يقول :
" يستخدم الصوفية لفظ الفيض بمعنى أن الحق تعالى يسبغ بعض نعمه على أحبائه ظاهرة وباطنة ، بفتح رباني " . 

الدكتورة نظلة الجبوري تقول :
" مفهوم الفيض : في نظر ابن العربي الطائي الحاتمي هو الحدث ، به ينتج الفضل الإلهي ، نور الوجود ، في كل جوهر يستقبل الكائن من دون أن يحصل انفصال بين الصورة المدركة في علم الله والله نفسه ، كما تستقبل المرآة صور الإنسان من دون أن ينفصل الإنسان نفسه عن وجهه المنعكس في المرآة " .
وتقول : " الفيض هو التجلي باصطلاح ابن العربي الطائي الحاتمي " . 

الباحث محمد غازي عرابي يقول : 
الفيض : هو ورود الصور في شريط الخيال و معنونة بالرموز التي يتعلم السالك تأويلها بالمقارنة . قال سبحانه : "ولنعلمه من تأويل الأحاديث".
فالفيض بدء مرحلة تعليم التأويل الذي هو من اختصاص الله عز وجل:
وليس إلا صاحب الكشف يمكنه من أن يضرب بسهم في هذا الميدان .
فلو أن عالما أراد أن يقف على أسرار علوم التأويل وتهيأ لها وجند من أجلها كل طاقاته وإمكاناته ، ثم استمر على التعليم والتهيؤ عشرات السنين لما استطاع أن يأتي بتفسير واحد من مستوى تأويل آية من آيات الله .
لذلك خصت الصوفية بهذا العلم المبارك وتميزوا به عن الآخرين .

في تنوع الفيض الإلهي يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي :
" فيض الله تعالى لا يتصور فيه مسك ولا قبض ولا انقطاع وهو يتنوع بتنوع المحال فيكون نورا في المنور وظلمة في المظلم ونون في المتوان وحركة في المتحرك وعملا في العالم وإرادة في المريد وحفاظا في المحفوظ " .

الفيض الأقدس
يقول الإمام فخر الدين بن شهريار العراقي  :
الفيض الأقدس هو المتعين به الأسماء الإلهية والأعيان الثابتة.
الشيخ عبد القادر الجزائري يقول :
الفيض الأقدس عند الطائفة العلية عبارة عن التجلي الحبي الذاتي الموجب لوجود الأشياء واستعداداتها في الحضرة العلمية ثم العينية " .

يقول الباحث محمد غازي عرابي :
الفيض الأقدس هو فيضان الأنوار القهارة في سماء الكشف الإلهي . وتدفق هذا الفيض هو النعمة التي خص الله بها عبادة الأبرار " .
الفيض الأقدس: الفيض هو التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال، أو هو كون الجود الإلهي سببا لحدوث أنوار الوجود في كل ماهية قابلة للوجود.
والفيض الأقدس: هو التجلي من الكثرة الأسمائية غير المجعولة، أو هو عبارة عن التجلي الحي الذاتي الموجب الوجود الأشياء واستعداداتها في الحضرة العلمية.
أو هو التجلي الذاتي والفيض الغيبي من غيوب الشؤون الذاتبة؛ أو هو تعين المعلومات في العلم الأزلي.
(شرح فصوص الحکم، مصطفى زادة الحنفي . وشرح فصوص الحکم، مؤید الدين الجندي)

الفيض المقدس
يقول الشريف الجرجاني :
الفيض المقدس : هو عبارة عن التجليات الأسمائية الموجبة لظهور ما يقتضيه استعدادت تلك الأعيان في الخارج .
الفيض المقدس : هو التجلي الوجودي العيني، أو وجود العلم في أعبائها، أو ثبوت الحروف المعلومات أو الأعيان الثابتة في العلم في ألواح الوجود و ارتسامها بحسب ما تعينت في صفحة أم الكتاب العلمي الأنفس،
أو هو عبارة عن التجلي الوجودي الموجب لظهور ما تقتضيه تلك الاستعدادات في الخارج .

في الفرق بين الفيض الأقدس والفيض المقدس
يقول الشيخ عبد القادر الجزائري :
الفيض المقدس مرتب على الفيض الأقدس :
فـ بالأول تحصل الأعيان الثابتة واستعداداتها الأصلية في العلم .
وبالثاني تحصل تلك الأعيان في الخارج مع لوازمها وتوابعها .
ويقول الشيخ عبد الحميد التبريزي :
رأى ذاته المقدسة مستورة بسواتر العظمة والكبرياء فأحب أن تظهر وتعرف فأبدع بفيضه الأقدس أعيان الأشياء ما كان وما يكون .
وفيضه المقدس المصون القيوم الذي قامت بأمره السماوات والأرضون.

المفيض
أولا : بمعنى الرسول  يقول الشيخ أبو مدين المغربي:
المفيض : هو اسم من اسماء النبي , وذلك لأن النفوس قبل إفاضة التوفيق للهداية من الحق بواسطته كانت بيوتا مظلمة وأقطارا سودا مدلهمة ، فلما غشيها نور هذا المفيض أضاءت وأشرقت ، كما تضيء الأقطار وتشرق إذا غشيها نور الشمس.
الشيخ كمال الدين القاشاني يقول :
المفيض : اسم من أسماء النبي , لأنه المتحقق بأسماء الله تعالى ومظهر إفاضة نور الهداية عليهم وواسطتها .
ثانيا : بالمعنى العام يقول الشيخ الأكبر محمد ابن العربي الطائي الحاتمي:
المفيض : هو خليفة الله في الأرض .  أهـ ""

و أما قول الشارح قدّس سره: فاللائق أن يجعل عبارة عن إفاضة الروح، فكيف يرجع الضمير إلى ما مضى ذكره، فإن لفظة الإفاضة ما مضى ذكرها لا لفظا و لا معنى مع أن الإفاضة لفظ مؤنث، و ضمير مذكر مع أن جل مراد الشيخ رضي الله عنه في هذا المقام منع الإفاضة الخارجية في هذا المبحث، و من تتبع كلام الشيخ علم ما قلنا .

و هذه من أمهات المسائل، فإن الأمر ليس من الخارج بل في نفسه بنفسه فيه المؤثر و فيه المتأثر و فيه الأثر، فافهم . 
( من تلك الصورة) لا من أمر خارج، (المسواة) الظاهرة بالتسوية، (لقبول الفيض) يتعلق بحصول: أي حصول الاستعداد لقبول الفيض التجلي الدائم . 
( الذي لم يزل ): أي لا أول له من الأزل، (و لا يزال ): أي إلى الأبد، (و ما بقي) بهذه التوطية التي مضت إن فهمتها . 
( ثمة إلا قابل) و ذلك لأن جميع مراتب التنزلات تنزلات ذاتية باقتضاء ذاتي، و القابل له مزاج الانفعال فأطفأ بالنفس وأشعل و أمات و أحيى، فهو الذي أضحك و أبكى، فينسب الفعل إليه و إن لم يعول عليه، و ذلك لعدم الإنصاف في تحقيق الأوصاف، فهو المجهول المعلوم، و عليه صاحب الذوق يحوم، فافهم . 

قال رضي الله عنه في "الفتوحات ": 
فما ثم مستقل بالتأثير إلا القابل لأثر إن له أثر بالقبول في نفسه كما للقادر على التأثير فيه، و من حيث أن المنفعل يطلب أن يفعل فيه ما هو طالب له، ففعل المطلوب منه ما طلبه هذا الممكن، فهو تأثير . 
هذا عين ما قال رضي الله عنه: إن الفاعل منفعل للفعل الممكن المنفعل في الواجب الفاعل، فإنه جعله أن يفعل ففعل، كما قال: أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فالدعاء أثر الإجابة، و الإجابة التأثير . 

و قال رضي الله عنه في الفص الزكريوي:
و قد ذكرنا في "الفتوحات" أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم، و سواء كان المتأثر موجود، أو معلوما و هو غريب، و مسألة نادرة، و شيء مهيب بل هي درة يتيمة ما لها من أخت و ذلك لأن الأثر للأسماء، و الأسماء ليست بأعيان موجودة، و إنما هي نسب، و هي مستند الآثار.

و هو أمر عدمي ذكره رضي الله عنه في الباب الثالث و التسعين و ثلاثمائة، فإن كنت خفت من هذه الكلمة السهلة الصعبة المنورة المظلمة، فأرجع، و أقول بلسان من يفري الحقائق، و يغزل الغزل الدقائق و يحاك الحلل الدقائق، بحيث لم يكن لأحد في مهمز، و لا لقائل في مغمز . 

إنه قال رضي الله عنه في النص الإلياسي:

إن الأمر ينقسم إلى مؤثر، و مؤثر فيه و لهما عبارتان، فالمؤثر بكل وجه و على  كل حال، و في كل حال هو الله، و المؤثر فيه بكل وجه هو العالم، فإذا ورد عليك أمثال هذا الكلام من الشيخ رضي الله عنه، فألحق كل شيء بأصله الذي يناسب مذهبه، فإن الوارد لا بد أن يكون فرعا لأصله أبدا .
و هذا المذهب: أي تأثير العدم في  الوجود سائغ في الكلمات النبوّات، و شائع بين الناس أما ترى أن النوافل أثر المحبة و الدعاء أثر الإجابة، فافهم .

أن هذا مقرّر من الشارع لا يمكن إنكاره إن كنت ذا فهم، فافهم أني أديت الأمانة بالإشارة و العبارة بالصريح و الكتابة، فلا تخف من القابلة، فإن الحق واحد في أسمائه و ذاته، فما في الوجود من جميع الوجوه إلا واحد.

 فأين التأثير؟ و أين المؤثر؟ و المؤثر فيه؟
بل ما ظهر العالم إلا بالنسب، و لا حصل القبول من العالم لما يقبله من العالم أيضا إلا بالنسب، فالموجد بالنسب، و القابل بالنسب فالحكم لها، و قد علمت نسبة النسب و هي أمر عدمي ما لها عين، فافهم . 
ذكر الشيخ رضي الله عنه هذه المسألة في الباب الثالث و التسعين و ثلاثمائة من "الفتوحات" فافهم . 

و ذلك لأن (القابل ): أي للتجليات الذاتية المنزهة عن الكثرة (لا يكون إلا من فيضه الأقدس) المنزه عن الجعل و التأثير و ذلك لأن المراتب كلها إلهية بالأصالة، و ظهرت أحكامها باقتضاء ذاتي، فالأمر قبول ذاتي، و حصول استعدادي، و ظهور، و بروز له تعالى لذاته بذاته لا غير، و قبول هذا من لوازم قبول وحدة الوجود و فروعها.
فافهم أن هذه المسألة من أساس معارف الشيخ رضي الله عنه و لا تمل عنها، و لا تأخذ عنها بدلا فإنها كشف أوسع الكشوف، و إن اعترضوا علينا بذكر هذه المسألة، فليس بأقل منع جرى على طلل، و أن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، و الله المستعان، فافهم . 



قال الشيخ المصنف رضي الله عنه:  [ و كل قوة محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها .  و أن فيها فيما تزعم، الأهلية لكل منصب عال و مرتبة رفيعة عند الله لما عندها من الجمعية الإلهية . 
بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي، و إلى جانب حقيقة الحقائق، و في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف، إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه و أسفله ] . 
قال الشيخ الشارح رضي الله عنه : 
(وكل قوة منها ): أي من الملائكة (محجوبة بنفسها) معجبة بها لتقديسها الذاتي، و هم الذين يسب حون الليل و النهار، و لا يفترون: أي ما ينزهون ذواتهم عن التقديس العرضي بالشهود الدائم و هذا مقام ما ناله أحد من البشر إلا من استصحب حقيقته من حين خلقت شهود الاسم الإلهي الذي هي عنه تكونت، فهي مقدّسة الذات عن الغفلات، فلم تشغله نشأته النورية الطبيعية عن تسبيح خالقها علىالدوام مع كونهم يختصمون من حيث النشأة، و بهذا القدر تبين فضل الملائكة على الإنسان في العبادة لكونها لا تفتر، فإن نشأتها تعطي ألا تفتر لأن تقديسها ذاتي، و شهودها دائم .
قال رضي الله عنه: ما عندي خير من جانب الحق أنه هل نال هذا المقام أحد من البشر أم لا؟
إن نال أحد قال محمد صلى الله عليه و سلم : "كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين"  .
فاستصحبه إلى أن وجد اسمه الشريف، و في حياته كان يقول : "تنام عيناي و لا ينام قلبي"  .
فكذلك موته صلى الله عليه و سلم إنما مات حسّا لا حقيقة، فاستصحبه حياة المشاهدة من الأزل إلى الأبد . 
وأما قول ذي النون حين سئل عن قوله: بلى في أخذ الميثاق فقال: إلا في أذني يشير إلى علمه بتلك الحالة، فإن كان عن استصحاب، فلم أنكره و لم أشهد له لأن الله تعالى لم يعلمني بذلك، انتهى كلامه . 
وأظن و الله أعلم أن خاتم الولاية له في هذا المقام قدم راسخ بحسن الاتباع، و له أسوة حسنة في خاتم النبوة، فافهم أنه خبر وارث، فافهم . 
(لا ترى أفضل من ذاتها) فإن أخذ الأفضل من فضل الله تعالى بقوله: هذا أفضل عندي فلا تحجبن عليه تعالى بفضل من يشاء من عباده، و إن أخذ التفضيل من حيث الكمال، فيجادلهم بالتي هي أحسن .
قال تعالى: "لقدْ خلقنا الِْإنسان في أحْسنِ تقْويمٍ" [ التين: 4] و هو تعديله على الصورة التي خصّه بها، و هي التي أعطته هذه المنزلة، فكان أحسن تقويم في حقّه لا عن مفاضلة مثل قوله: الله أكبر 
لا عن مفاضلة، بل الحسن المطلق للعبد الكامل  كالكبرياء المطلق الذي للحق سبحانه، فهو أحسن تقويم لا عن كذا فافهم . 
و إن قال تعالى فيهمالعالين [ ص: 75]، قال فينا: وأنْـتمُ الْأعْلوْن [ محمد: 35] . 
ورد في الحديث : " المؤمن أكرم على الله من الملائكة المقرّبين ". رواه ابن النجار عن حكامة عن أبيها عن أخيه مالك بن دينار عن أنس رضي الله عنه، رواه في "جمع الجوامع" . 
و في هذا التفضيل: أي تفضيل الملك على البشر، أو بالعكس، اختلف آراء الناس، و اضّطربت أفكارهم، و كثر الخلاف و العويل بما لا طائل تحته، فأذكر هنا ما يغني للمستبصر الرشيد . 
اعلم أيدك الله تعالى بروح منه أن الملك جزء من الإنسان الكامل كما سيجي ء بيانه، فالجزء من الكل .
و لا يقول العاقل: إن الجزء أشرف من الكل، فإن كان و لا بد يقال: إن أشرف أجزائه الجزء الفلاني، فإذا علمت هذا علمت مقام الملك من الإنسان، فلم يخرج عنك، و أصبت الأمر على ما هو عليه و أنصفت، و عرفت من أين أتى على من أتى عليه في باب المفاضلة . 
قال رضي الله عنه في رسالة القدس: لا تقل إنك أرفع من الملك، و لا أحط منه، فإنك في طور آخر مفردا يخصّك، و ذلك أن الله تعالى قد وهبك سر الجمعية العامة الكبريائية  
وهو الذي حجبك عن عبوديتك، و به ترأست حين قيل للملائكة: بل عباد مكرمون، فافهم ما ترأسوا قط لعدم سرّ الجمعية العامة الكبريائية من حقائقهم فكانوا عبيدا .
وبهذا صحّ لك مقام الخلافة على العامة، و به طلبت التقدم و الرئاسة، و احتجبت عن الله، فلست من نمط العالم في شي ء، و لا تتميز معهم البتة، فإنك انفصلت عنهم بسر الألوهية، فإذا تميز الإنسان مع العالم بسر الجمعية الكبريائية، فلا يقال من أشرف الملك، أو الإنسان، فإن التفاضل ما يقع إلا من جنس واحد و الإنسان قد خرج عن أن يكون جنس العالم، بل يزاحم الألوهية لوقوفه على الأسماء كلها من جهة سرّ الجمع العام الكبريائي المثبوت فيه . 
وذكر رضي الله عنه في "الفتوحات" في فضل الغني و الفقير:
إن الغنى صفة إلهية، و الفقر صفة العبد، و لا يقال أن هذا أفضل من هذا العدم المناسبة بينها، و هكذا الأمر هنا فافهم . 
وأيضا لما كان الوجود كله فاضلا مفضولا لا أدري ذلك المساواة، و إن يقال لا فاضل و لا مفضول، بل وجود شريف كامل تام لا نقص فيه . 
كما قال الإمام الغزالي رحمه الله: إنه أبدع ما يكون، و ذلك لأنه ليس في المخلوقات بأسرها على اختلاف ضروبها أمر إلا هو مستند إلى حقيقة و نسبة إلهية و لا تفاضل في الله لأن الأمر لا يفضل نفسه، فلا مفاضلة بين العالم في هذا الباب هو الذي يرجع إليه الأمر من قبل، و من بعد، و عليه عول أهل الجمع و الوجود و بهذا سمّوا أهل الجمع لأنهم أهل عين واحدة . 
قال تعالى: "وما أمْرنا إ لّا واحِدةٌ "القمر: 50] فافهم، فإذا فهمت فهم ذوق، ظهر لك ما قلته أنه بحث لا طائل تحته، فافهم ثم تنزل .
ونقول: إن للشيخ رضي الله عنه نصوصا في "الفتوحات" و في غيرها، بعضها يفهم بتفضيل البشر إلى الملك، و بعضها يوهم تفضيل الملك على البشر، والجامع بين التفضيلين ما نصّ رضي الله عنه في "الفتوحات" في وصل في فصل عزر الشهر من كتاب " الصوم ":
"إن الإنسان أكمل نشأة و الملك أكمل منزلة، كذا قال صلى الله عليه و سلم في مشهد واقعة أبصرته فيه، انتهى كلامه . 
و قال رضي الله عنه في "الفتوحات ": إن الجماعة من أصحابنا غلطوا في هذا التفضيل فإنهم فضّلوا على الإطلاق، و لم يقيدوا لعدم الكشف و الاعتناء بالنظر و الفكر، انتهى كلامه رضي الله عنه فافهم، فليت لك قلبا ما ورائه قلبا و بيانا . 
(وأن فيها ): أي ترى أن فيها، (فيما تزعم) و اعتذر لهم حيث جعلهم رضي الله عنهم بمنزلة المجتهدين الذين لهم أجر الاجتهاد، و الأهلية أهلية الشي ء لأمر إنما هو نعت ذاتي فلا يقع فيه مشاركة لغيره إلا بنسبة بعيدة، كما يقال أهل النار و أهل الجنة و هم الذين لا يخرجون منها رأسا لأنهم أهل لها، فافهم . 
( لكل منصب عال ): أي حمل الأمانة و الإمامة (ومنزلة رفيعة ): أي الخلافة، إنما قلنا الخلافة لأن الملائكة حين قالت ما قالت . 
قال الله تعالى: "وأعْلمُ ما تُـبْدُون" [ البقرة: 33]: أي من التخريج و التزكية و ما كنتم تكتمون من طلب الخلافة، يعني: أنا أعلم بمطلوبكم منكم، و حملتهم عليهم السلام على هذه الغيرة التي فطروا عليها عند الله: أي عند الاسم الجمع لجميع الأسماء مع أنه قال تعالى عنهم: "وما مِ نّا إلّا  لهُ مقامٌ معْلومٌ " [ الصافات: 164] فأين المقيد عن المطلق، فافهم .
( لما عندهم) يريد رضي الله عنه أن يعرف بوجه الاشتباه الذي حصل لها، و هو أنها زعمت أن عندها الجمعية التي هي علة الأهلية لما عندها (من الجمعية الإلهية) و هي أحدية جمع الأسماء و الصفات الوجوبية و الحقائق المظهرية الإمكانية، و الحقيقة الثابتة الطبيعية الإنسانية الدائرة بين ما يرجع كذا و يرجع كذا و يرجع كذا .
بين ما يرجع من ذلك الجناب الإلهي و جانب حقيقة الحقائق و في النشأة الطبيعية، و العنصرية الحاملة لهذه الأوصاف . 
فالحاصل أن الجمعية الإلهية دائرة بين ما يرجع إلى الأسماء الإلهية المؤثرة الفعّالة و بين ما يرجع إلى حقيقة الحقائق الكلية المنفعلة المؤثرة، و بين ما يرجع إلى ما يقتضيه الطبيعة الكل في النشأة الطبيعية و العنصرّيّة الحاملة لهذه الأوصاف و الحقائق الإمكانية الراجعة إلى الجناب الإلهي، و في أصل العبارة تقديم و تأخير و هذا تقديره و تقريره، فافهم . 
فهذه ثلاث حضرات حضرة الحقيقة المطلقة الفعالة:
وهي حضرة الوجوب.
وحضرة الحقيقة المقيدة المنفعلة القابلة للوجود من الواجب وهي حضرة الإمكان.
وحضرة أحدية جامعة بين الإطلاق و التقييد والفعل و الانفعال والتأثير والتأثر، فهي مطلقة من وجه، و مقيدة من وجه و مؤثرة من وجه ومتأثرة من وجه . 
وهذه النشأة أحدية جمع الحقيقتين، ولها مرتبة الأولية الكبرى، والآخرية العظمى وهي النشأة الطبيعية الجامعة لجميع النشآت . 
(إلى ما تقتضيه الطبيعة الكل) و هي عبارة عن أمور أربعة إذا تألفت تألفا خاصا حدث عنه ما يناسب تلك الألفة بتقدير العزيز العليم . 
قوله رضي الله عنه: الكل بدل أو عطف بيان، و في بعض النسخ بدل الكل الكلية . 
قال الشيخ رضي الله عنه في الباب الثامن و التسعين من "الفتوحات ": إن الطبيعة مرتبة معقولة لا عين لها في الوجود، فلكل معدوم العين ظاهر الحكم و الأثر، فهو على الحقيقة المعبر عنه بالغيب، فإنه من غاب في عينه فهو الغيب، و الطبيعة غائبة العين عن الوجود و عن الثبوت، فليس لها عين فيهما فهي العالم الغيب المحقق و هي معلومة لنا، كما أن المحال معلوم غير أن الطبيعة كانت مثل المحال في رفع الثبوت و الوجود عنها، فلها أثر و تظهر عنها صور، و المحال ليس  كذلك، و مفاتح هذا الغيب هي الأسماء الإلهية التي لا يعلمها إلا هو، و الأسماء الإلهية نسب غيبية لا عين لها، و الغيب لا يكون مفتاحه إلا الغيب، فبالمشيئة ظهر أثر الطبيعة و هي غيب، و المشيئة نسبة إلهية لا عين لها، فالمفتاح غيب . 
فهذا المعلوم هو القابل الذي قبل جمع الأضداد و التأثير و التأثر بمقتضى ذاتي و هو الغيب، و هو النور الساطع العام الذي به ظهر الوجود و ما له في عينه نور و لا ظهور كالضوء فإنه به ظهر كل  شيء و ليس له عين ظاهرة في الظاهر ممتازة في المرئيات فافهم، فإنه من أم الكتاب و عليه الاعتماد في جميع الفصول و الأبواب بل هو فصل الخطاب . 
قال رضي الله عنه في الباب التاسع و الثمانين و مائتين من "الفتوحات ": و لو لم تكن الطبيعة نورا في أصلها من النور لما وجدت بين النفس الكل و بين الهباء الذي هو الهيولي الكل، و بما هي في أصلها من النور قبلت جميع الصور النورية للمناسبة فانتفت ظلمتها بنور صورها، فنسب إلى الطبع الظلمة في اصطلاح العقلاء و عندنا ليس كذلك، و لو لا أن الظلمة نور ما صحّ أن يدرك، و الظلمة هي الغيب . 
فلهذا لا يدركه إلا الحق، و الطبيعة الكل قد خلقها الله تعالى دون النفس الكل و فوق الهباء .
وهو رأي الإمام الغزالي رحمه الله و لا يمكن أن تكون مرتبتها إلا هنالك، فكل جسم قبل الهباء إلى آخر موجود من الأجسام هو الطبيعي، و ما ثم عندنا إلا جسم طبيعي أو عنصري لا غير، و العناصر أجسام طبيعية و أن تولد عنها أجزاء أخر، و أمّا الهباء فجوهر مظلم ملأ الخلاء بذاته ثم تجلى له الحق تعالى باسم النور فانصبغ به ذلك الجوهر، و زال عنه حكم الظلمة هو العدم، فاتصف بالوجود فظهر لنفسه بنفسه بذلك النور و كان ظهوره به على صورة الإنسان، و بهذا يسمّيه أهل الله الإنسان الكبير و يسمّى مختصر الإنسان الصغير لأنه فيه جميع ما في العالم بالإجماع، فخرج على صورة العالم مع صغر حجمه و العالم على صورة الحق : 
و تزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم فالإنسان على صورة الحق .
وهو قوله"إن خلق آدم على صورته" فكل ذلك من آثار الله تعالى فيما خلق عليها الطبيعة . 
( التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه و أسفله) فكل ما تولد من الأجسام و الأرواح، و الملائكة، و الأنوار كلها للطبيعة عليه حكم، و لكن حكم الطبيعة ظاهر من الهباء إلى ما دونه، و أمّا ما فوق النفس الكل فلا يظهر حكم للطبيعة فيه أصلا، فالطبيعة الكل محيطة بالكل حاصرة لقوابلها من أطباع أنواع الأجسام الطبيعية الفلكية و الملكية و العنصرية من الأجسام . 
قال رضي الله عنه: إن للطبيعة أنوارا يكشف بها صاحبها ما تعطيه الطبيعة من الصور في الهباء، و ما تعطيه من الصورة العامة التي هي صور الجسم الكل، و هذه الأنوار إذا حصلت على الكمال تعلق علم صاحبها بما لا يتناهى و هو عزيز الوقوع عندنا، و أمّا عند غيرنا فممنوع عقلا حتى إن ذلك في الإلهيات مختلفة فيه عندهم . 
وقال أيضا رضي الله عنه في »الفتوحات «: و ما رأينا أحدا حصل له هذا العلم على الكمال و لا سمعنا عنه و لا حصل لنا و إن ادّعاها إنسان فهي دعوى لا يقوم عليها الدليل أصلا مع إمكان حصول ذلك، انتهى كلامه رضي الله عنه . 
فإن من عباد الله من يحصل لنفسه في بعض الأحيان عند هبوب النفحات الجودية الإلهية أحوال توجب لها الأعراض عما سوى الله، و الإقبال بوجود قلوبها بعد التفريغ التام على حضرة الغيب الإلهي المطلق في أسرع لمح البصر، فيدرك من  الأسرار الإلهية و الكونية ما شاء الحق. 
وقد تعرف تلك النفس هذه المراتب و التفاصيل أو بعضها، و قد لا تعرف مع تحققها بما حصل لها من العلم، و هذا تصديق قوله صلى الله عليه و سلم : "علمت بها علم الأولين والآخرين" 
و لو لم يكن هذا في آن واحد فما فائدة إخباره بقوله صلى الله عليه و سلم فهمت، فافهم . 
فإنهم عباد الله المكرمون المتحققون بمعرفته دون واسطة، لعلمه تعالى أن هممهم قد خرقت حجب الكون، و أنفت الأخذ عن سواه فتجلى لهم تجلي الكل في الكل . 
كما ورد في الخبر عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في حديث طويل : "وضع  كفّه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء عرفته" الحديث .  رواه الترمذي و قال: حسن صحيح عن معاذ بن جبل، ذكره السيوطي في "جمع الجوامع" و هذا من الذوق الذي ذكرناه فافهم فإنه مهم . 
و أنوار الطبيعة مندرجة في كل ما سوى الحق و هي نفس الرحمن الذي نفس الله به عن الأسماء الإلهية، و أدرجها في الأفلاك والأركان و ما يتولد منها من الأشخاص الغير المتناهية.

قال المصنف رضي الله عنه :  [ وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكريّ، بل هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه . فسمي هذا المذكور إنسانا و خليفة، فأما إنسانيته فلعموم نشأته و حصره الحقائق كلها و هو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر و هو المعبر عنه بالبصر . فإنه به نظر الحق تعالى إلى خلقه فرحمهم .] 
قال الشارح رضي الله عنه :
( و هذا لا يعرفه عقل) لأن هذه المعرفة تحتاج إلى معرفة الطبيعة، و معرفتها على ما يؤدي إليه النظر و الفكر لا يتجاوز عمّا هو موهوم علماء الرسوم من اختصاصها بالأجسام السفلية و العلوية، و هذا ما هو معرفة الطبيعة من حيث الحقيقة بل هي نهاية نظرهم، و غاية معرفتهم معرفة خواصها و لوازمها و عوارضها الذاتية لأن اللوازم الذاتية، و عوارضها لا تعرف إلا بمعرفة الذات لأنها نسب لها، فافهم . 
فما ذلك إلا الظن ، وهو لا يغني من الحق شيئا، و أن الشي ء كان ما كان ما يدركه بما يغايره في الحقيقة، و قد بسطت لك في هذا العلم قبل هذا في الفصول . 
أما ترى أن العقول اضطربت آراؤهم في الطبيعة حتى قالوا بتأثيرها، بل الطبيعيون اعتقدوا وحدانية الطبيعة، فكل ما ظهر من الموجودات الطبيعة، قالوا: هذا من الطبيعية، فوحّدوا الأمر و حصروه في الطبيعة كما وجدنا الإله في خلقه و كذلك الدهرية، و ما لهم بذلك من علم، بل يظنون بالله الظنون . 
وهنا مسألة أخرى و هي: إن الله تعالى تسمّى لنا بالدهر، و ما تسمّى بالطبيعة لأنها ليست بغير من وجد عنها عينا، فهي عين كل موجود، و طبيعي بخلاف الدهر ما هو عين الكون، و رأينا الطبيعة عين الكون، فتسمّى بالدهر للمغايرة المفهومة منه فافهم، فإن هذا من غرائب "الفتوحات المكية" . 
( بطريق نظر فكري) لأن علوم النبوّة و الولاية الصرفة، وراء طور العقل بمعنى : 
إنه ليس للعقل فيه دخول بفكر، و نظر لكن له القبول خاصة عند تسليم العقل الذي  
لم يغلب عليه شبه خيالية فكرية، يكون من ذلك فساد نظره لأن الله تعالى ما خلق للنفس آلة للإدراك غير العقل .
( بل هذا الفن ): أي هذا الضرب من (الإدراك) و هو إدراك الجمعية المذكورة في النشأة الطبيعية العنصرية، و إدراك حقائقها لا يكون إلا عن كشف إلهي: أي لا عن كشف صوري رحماني، و لا عن تعريف رباني، لهن كشف ذاتي بارتفاع حكم النسب الجزئية و الصفات الكونية التقليدية عن العارف حال تحققه بمقام قرب النوافل و بالمرتبة التي فوقها المجاوزة لها و هي مقام قرب الفرائض، و بقرب المقامين أو أدنى تنقلب كل صفة و قوة من صفات العبد و قواه إلى أخلاق إلهية، و يبقى العبد مستورا خلف حجاب عين ربه.
فينشد لسان حقيقة لا مجازا كما قيل :
تسترت عن دهري بظل جناحه .....     فعيني ترى دهري و ليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما      ...... و أين مكاني ما درين مكاني
لأنه عين الزمان و الوقت و لا وقت و لا مكان له و لا زمان، فانكشف الأمر كله له بهذا الكشف الذاتي الإلهي، (منه ): أي من هذا الكشف تعرف (ما أصل صور العالم) . 
قال رضي الله عنه : 
انظر إلى الكون في تفصيله عجبا     ....... و مرجع الكل في العقبى إلى
في الأصل متفق في الصور .......    و لا ترى الكون إلا الله بالله
فمن الكشف الإلهي تعرف صور العالم من الأعلى إلى الأدنى إنها تطورات الفيض الأقدس و تجليات الذات المقدّسة تجلت بصور العالم، و ظهرت بصور المظاهر و ذلك لأن الطبيعة قابل للأمر الإلهي و محل طهور الأعيان جسما و جسدا و الصور فيها تتكون، و عنها تظهر فالأمر 
الإلهي بلا طبيعة لا يكون و الطبيعة بلا أمر لا تكون، فالأمر في نفس الأمر متوقف على الأمرين، و ظهوره في الأمر بالأمر هو عين ظهوره في المأمور لا بأمر زائد، و لكن باختلاف الصور، و اختلافها باختلاف القوابل، فافهم . 
فإن التجلي ما زال في الأحدية و الفيض فيض الأقدس، و ما بقى إلا حكم القابل، فإن قيل: إن الله قادر على إيجاد الأشياء من غير أن ينفعل شيء آخر كالطبيعة، و غيرها قلنا: ردّ الله عليك هذا النبأ . 
وقال: " إنّما قوْلنا لشيْءٍ إذا أردناهُ أنْ نقُول لهُ كُنْ فيكُونُ" [ النحل: 40] .
فإذا ظهرت الطبيعة به، ظهرت الأجسام و الأجساد، و ظهرت بها الصور و الأشكال و الأعراض فالأبعاد و جميع القوى و الروحانية و الجسمانية وهو غير المعبر عنه بلسان الشرع العماء الذي هو للحق قبل الخلق ما تحته هواء، و ما فوقه هواء، فافهم . 
فمن عرف الله بهذه المعرفة عرف نعم الله التي أسبغها عليه الظاهرة و الباطنة، فتبرأ من المجادلة في الله بغير علم، و هي ما أعطاه الدليل النظري لا كتاب منير، و لا تعريف إلهي مستنير . 
قال تعالى عنهم: "ومِن النّاسِ منْ يجادِلُ في اللّهِ بغيْرِ عِلْمٍ "[ الحج: 3] بمجرد الفكر المخالف للكشف، و التجلي الإلهي، و لا مرتبة أنزل من هذا في الجهل، فافهم . 
وأمّا الصور التي في العالم كلها نسب و إضافات و أحوال لا موجودة و لا معدومة، و إن كانت مشهودة من وجه فليست بمشهورة من وجه آخر، و عين زمان فناء تلك الصورة عين زمان وجود الأخرى لا أنه بعد الفساد تحدث الأخرى . 
هكذا ذكر صاحب الكشف الأتم الأوفى الذي هو أولى بالتحقيق و أحرى، فماذا يرجع ما يدركه المدرك من تحول العين الواحدة :
في 
الصور في نظر الناظر؟
هل هي في نفسها على ما يدركها البصر؟
أو هي على ما هي عليه في نفسها لم تتقلب عينها؟ . 
وهذا راجع إلى ما يرى من الأعيان، ويحكم عليها أنها أعيان هل تكثرت بأعراض، أو بجواهر؟ 
فإن الصور تختلف في النظر دائما و كل منظور إليه بالبصر من الأجسام جسم، فالجسمية حكم عام و يرى فيها صورا مختلفة منها ما يكون سريع الزوال، و منها ما يعطي البطء في النظر و الجسم لا يتبدل، و ليس الموصوف بما ظهر إلا الجسم، و كذلك الصور الروحانية و التجلي الإلهي .
قال رضي الله عنه في الباب الرابع و الستين و ثلاثمائة من "الفتوحات ": إن هذا علم فيه إشكال عظيم و التخلص منه بطريق النظر الفكري عسير جدا . وأمّا بطريق الكشف وعلم التجلي، فإن العارف يرى ما أنكره العاقل بنظره، وفكره كدخول الجمل في سمّ الخياط، فإن الكاشف يراه بنظر الحس والشهادة القابلة لأرواحه . 
اختلفوا في مسألة روح صورة هذا العالم الذي هو الإنسان الكبير، و أرواح صور العالم العلوي و السفلي، فها أنا أبسطها لك من كلامه رضي الله عنه و على الله قصد السبيل . 
اعلم أيدك الله و إيانا بروح منه أن روح العالم الكبير هو الغيب الذي خرج عنه، فافهم، و يكفيك أنه المظهر الأكبر الأعلى إن عقلت، و عرفت قوله تعالى: "ألمْ تر إلى ربِّك  كيف مدّ الظِّلّ" [ الفرقان: 45] . 
و بعد أن بان لك روح العالم الكبير، فبقى لك أن تعلم أرواح صور الأعضاء للإنسان الصغير كالقدرة و هي روح اليد و السمع روح الأذن و البصر روح العين، فاعلم أن التحقيق في ذلك عند الشيخ الأكبر رضي الله عنه أن الأرواح المدبرة للصور كانت الموجودة في حضرة الإجمال كالحروف الموجودة بالقوة في المداد، فلم يتميزه لأنفسها.
فإذا كتب القلم في اللوح طهرت صورة الحروف مفصّلة بعد ما كانت مجملة متصلة في الدواة و المداد، فقيل: هذه ألف، و هذه باء و هي أرواح البسائط و قيل في أرواح الأجسام المركبة: هذا زيد، و هذا قائم . 
و يشير إلى هذه المراتب قوله تعالى: "ن والقلمِ وما يسْطرُون" [ القلم: 1] . 
فإن النون: هي مرتبة الإجمال.
و القلم: هو الكاتب،
و ما يسطرون: مراتب الأرواح البسيطة المسطرة، و لما سوّى الله تعالى صور العالم: أي عالم شاء كان الروح الكل كالقلم، و اليمين الكاتبة، و الأرواح كالمداد في القلم، و الصور كمنازل الحروف في اللوح، فنفخ الروح في صورة مميزة بصورها، فقيل: هذا زيد، و هذا عمر، و هذا فرس فمن الناس من منع ذلك، و لكل واحد وجه يستند إليه في ذلك .
و الطريقة الوسطى ما ذهبت إليه أمة وسطا كالشيخ الأكبر رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: " ثمّ أنشأناهُ خلْقاً آخر" [ المؤمنون: 14] فإنه قال فيه: و إذا سوّى الله الصورة الجسمية، فأي صورة شاء من الصور الروحية رّكّبها . 
قال الله تعالى: "في أي صُورٍة ما شاء رّكبك" [ الانفطار: 8] .
إن شاء في صورة إنسان أو حيوان أو نبات على ما قدّره العزيز الحكيم القوي العليم، فثمّ شخص الغالب عليه البلادة، فروحه تقرب إلى روح الحمار في أصل المزاج.
وهكذا الأمر كله فامتازت الأرواح بصورها فمن عرف كشفا أو تعريفا أن الصور المختلفة الظاهرة في الوجود هي أحكام استعدادات أعيان الممكنات، عرف كشفا و شهودا أو تعريفا أنه عين مظاهره لا غير . 
و بيان ذلك أنه لما أراد الله تعالى وجود الممكنات، و أمرها بالتكوين، و لم يوجد وجود يتصف به، إذا لم يكن ثمة إلا وجود الحق تعالى، فظهرت صورا في الوجود الحق، فتداخلت الصفات الإلهية و الكونية.
فوصف الحق بصفات الكون، و وصف الحق بصفات الحق.
فمن قال: ما رأيت إلا الله صدق، و من قال: ما رأيت إلا العالم ما كذب.
و من قال: ما رأيت العالم إلا و رأيت الله قبله، أو بعده، أو معه صدق.
و من قال: ما رأيت شيئا صدق لسرعة الاستحالة، وعدم الثبات، وعين الوجود، و هو عين الفساد لا أنه بعد الفساد يوجد العين . 
هذه المسألة رباعية من مسائل اجتماع الضدين فافهم،
فإذا عرفت جميع ما ذكرته، عرفت أن الذات الأحدية هي السارية في الكل بالكل .
قال صلى الله عليه و سلم مشيرا إلى هذا المقام : "لو دلي أحدكم دلوه لهبط على الله"  .
قال تعالى"و هُو الّذِي في السّماءِ إلهٌ وفي الْأرضِ إلهٌ "[ الزخرف: 84].
و كيف يدرك العقل المعقول هذا المطلق المجهول، بل أن الله قد أودع اللوح المحفوظ علمه في خلقه بما يكون منهم إلى يوم القيامة، و لو سئل اللوح ما فيك؟ أو ما خطّ فيك القلم؟ ما علم . 
قال الصدّيق الأكبر رضي الله عنه: و العجز عن درك الإدراك إدراك . 
و قال الشيخ رضي الله عنه في بعض قصائده الإلهية و هو يناجي ربه تعالى : 
و لست أدرك من  شيء ..... و كيف أدركه و أنتم فيه
فسمّي هذا المذكورأي آدم، فإنه ذكر و لم يكن شيئا مذكورا، أو الجلاء، أو الكون الجامع، و كلها ترجع إلى معنى واحد كما قيل : 
عباراتنا شتى و حسنك    .....     و كلّ إلى ذاك الجمال يشير
اعلم أنه لم يكن في الأزل شي ء يقدر به ما يكون في الأبد إلا الهو، فأراد الهو أن يرى نفسه رؤية  كمالية أسمائية كانت لهو، و تزول في حقه حكم الهو، فنظر في الأعيان الثابتة فلم ير عينا يعطي النظر إليها هذه الرتبة الإنابية إلا عين الإنسان الكامل، فإنه كان إنسان العين، و عين الإنسان فقدرها و قابلها به، فوفت له الحقائق إلا حقيقة واحدة نقصت عنه و هو أن يكون وجوده لنفسه، فتطابقت الصورتان من جميع الوجوه، و قد كان قدر تلك العين على كل ما أوجده قبل وجود الإنسان من عقل و نفس و هباء و جسم و فلك، و ملك و عنصر و مولد، فلم يعط  شيء منها رتبة كمالية أسمائية إلا الوجود الإنساني، فأعطاه مرتبة العقل الأول، و علمه ما لم يعلم . 
العقل الأول من الحقيقة الحقية التي هي الوجه الخاص له من جانب الحق، و بها زاد على جميع المخلوقات، فلم تظهر الصور الحقية إلا به، فالعقل مع عظمته جزء من الصورة و هكذا كل موجود إنما هو في البعضية، فافهم .
( إنسانا) من أنست الشي ء إذا أبصرته، قال سبحانه عن نبيه عليه السلام أنه:" آنس مِنْ جانبِ الطُّورِ نارًاً " [ القصص: 29]:
أي أبصر، و إنما قلنا: أنس بمعنى: أبصر لأنه كان به بصيرا، و هو المثال الذي في العين لغة، ذكره في القاموس . 
فسمّي الإنسان إنسانا لكونه مثال ما في العين الوجود، أو مثال ما في العين الثابت، أو مثال ما في العلم فافهم.
أو من الإنس لأنه أنس الرتبة الكمالية الأسمائية، و إنما قدمت الوجه الأول لأنه أوجه بمراد المصنف رضي الله عنه . 
ثم اعلم أنه تعالى قال: "هلْ أتى على الِإنسانِ حِينٌ مِن الدّهْرِ لمْ يكُنْ شيْئاً مذكُورًاً" [ الإنسان: 1] فإنه أحد الموجود، و أول المقصود، و أمّا تأخيره لأنه في الحقيقة حضرة التصوير، و حضرة التصوير هي آخر حضرة الخلق، و ليس ورائها حضرة للخلق، و الإبداع جملة واحدة . 
أما ترى قوله تعالى: "هُو اللّهُ الخالقُ البارئُ المُصِورُ" [ الحشر: 24] .
أخّر درجة التصوير عن درجة الخلق و الإبداع فهي المنتهي و العلم أولها، و الهوية هي المنعوتة بهذا كله، فابتدأ بقوله: هو في العلم ثم ختم بها، و قال: إن الله خلق آدم على صورته فتنبه، و على الله قصد السبيل، و هو على التحقيق . 
ألا إن التقدّم و التأخّر من مقتضى ذات الكون، و أن الأمر الإلهي الذي هو القول له وحدة العين، و الكثرة الموهومة من أعمال الوهم في عين الخيال، و الأمر في نفس الأمر ليس كما يتوهم في الحق تعالى أنه لا يقول لشي ء كن إلا إذا أراده و رأيت الموجود، و يتأخر وجود بعضها عن بعض، و كل موجود لابد أن يكون مرادا بالوجود، و لا يتكون إلا بأن يقول له:
كن على جهة الأمر، فيتوهم الإنسان، أو ذو القوة الوهمية أن الأوامر كثيرة لكل كون أمر إلهي، و لم نقل الحق إلا عند إرادة تكوينه، فبهذا الوهم عينه بتقدم الأمر الإلهي الإيجابي: أي الوجود لأن الخطاب الإلهي على لسان الرسول صلى الله عليه و سلم يقتضي ذلك العموم، فيصوّره مقدما و إن كان الدليل العقلي لا يتصوره و لا يقول به، و لكن الوهم يحصره، و يصوره كما يصور المحال، و يتوهم صورة وجودية ما لا يقع في الوجود الحسّي أبدا، و هكذا الأعيان مفصّلة في الثبوت الإمكاني، فافهم . 
إن التقدّم و التأخّر من مقتضى ذات الكون، و أن الأمر الإلهي الذي هو القول له وحدة العين، و الكثرة الموهومة من أعمال الوهم في عين الخيال، و الأمر في نفس الأمر ليس كما يتوهم في الحق تعالى أنه لا يقول لشي ء كن إلا إذا أراده و رأيت الموجود، و يتأخر وجود بعضها عن بعض، و كل موجود لابد أن يكون مرادا بالوجود، و لا يتكون إلا بأن يقول له: كن على جهة الأمر، فيتوهم الإنسان، أو ذو القوة الوهمية أن الأوامر كثيرة لكل كون أمر إلهي، و لم نقل الحق إلا عند إرادة تكوينه، فبهذا الوهم عينه بتقدم الأمر الإلهي الإيجابي: أي  الوجود لأن الخطاب الإلهي على لسان الرسول صلى الله عليه و سلم يقتضي ذلك العموم، فيصوّره مقدما و إن كان الدليل العقلي لا يتصوره و لا يقول به، و لكن الوهم يحصره، و يصوره كما يصور المحال، و يتوهم صورة وجودية ما لا يقع في الوجود الحسّي أبدا، و هكذا الأعيان مفصّلة في الثبوت الإمكاني، فافهم .
فالتقديم و التأخير في قبول الوجود باعتبار السماع من العين لا باعتبار القول لأنه واحد العين . 
قال تعالى: "و ما أمْرنا إلّا واحِدةٌ كلمْحٍ بالبصر" [ القمر: 50] .
فيتعلق بالعين الحس في الوجود الحسّي، كما تعلق به الخيال في الوجود الخيالي، و هنا حارت الألباب هل الموصوف بالوجود المدرك بهذه الإدراكات الحسية هو العين الثابتة انتقلت من حال العدم إلى حال الوجود؟ أو حكمها تعلق تعلقا خاصا ظهوريا تعلق ظهور المرائي في المرآة بعين الوجود الحق.
و هي في حال عدمها، كما هي ثابتة بنعوته بتلك الصفة، فتدرك أعيان الممكنات بعضها بعضا في عين مرآة وجود الحق، أو الأعيان الثابتة على ترتيبها الواقع عندنا في الإدراك على ما هو عليه من العدم كالمرائي، و يكون الحق الوجودي ظاهرا في تلك الأعيان، و هي له مظاهر فيدرك بعضها بعضا عند ظهور الحق تعالى فيها، فيقال قد استفادت الوجود، و ليس إلا ظهور الحق، فصاحب الكشف الأتم الأوسع يرى الاثنين صحيحين، و من يكون دونه ينكشف واحد دون واحد، و ليس هذا الكشف إلا لأهل هذه الطريقة المثلى .
و أمّا علماء الرسوم في هذه المسألة على قسمين : 
طائفة تقول: لا عين للممكن في حال العدم، وإنما عينه عين وجوده كالأشاعرة رحمهم الله تعالى. 
و طائفة أخرى قالت: إن لها أعيانا ثبوتية هي التي توجد بعد إن لم يكن، و ما لا يمكن وجوده كالمحال، و لا عين له ثابتة، و هم كالمعتزلة عفا الله عنهم .
و المحققون من أهل الله يجمعون بينهما كما سبق آنفا بيانه، يرون الأعيان في المرآة الموجود في المرائي الأعيان، فافهم . 
(و خليفة) ورد في الخبر الصحيح : "أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل". 
و هما اسمان من أسماء الله تعالى . 
قال تعالى: "إنِّي جاعِلٌ في الْأرضِ خلِيفةً قالوا أتجْعلُ  فيها منْ يـفْسِدُ فيها و يسْفِكُ ِّ الدماء و نحْنُ نسبِّحُ بحمْدِك و نقِّدسُ لك قال إنِّي أعْلمُ ما لا تعْلمُون" [ البقرة: 30].
جعل آدم خليفة، و أعطاه حكم الخلافة، والخليفة لفظة مؤنثة لأنها محل التكوين، وبها ظهر الكون، ومن هذا قال رضي الله عنه في بعض أشعاره: 
نحن إناث لما فينا نولده  فليحمد الله ما في الكون من و هي زبدة مخضة الطبيعة التي ظهرت بتحريك الأفلاك و هي روح اللبن، فإذا خرج من العالم، فالعالم يكون كالنفل لا عبرة به، فافهم . 
( و أمّا إنسانيته )، فلعموم نشأته و حضرة الحقائق كلها، و هو عين كل  شيء فبعمومه، و حصره جميع الأشياء و به كل شي ء، فأنس به كل  شيء من مقام كل شيء، كما ذكر خاتم النبوة إشارة إلى المقام الأسنى في حديث طويل : "فتجلى لي كل شيء وعرفت".  
الحديث رواه الترمذي و قال: حديث صحيح عن معاذ بن جبل ذكره السيوطي في جمع الجوامع . 
و هذا حكم الولاية المحمدية من الأسوة، فإنه ذكر رضي الله عنه في "الفتوحات" . 
و قال: لأنا توحدت بهذا المشهد دون إخواني، و بيان ذلك أن الإنسان نسخة جامعة مختصرة من الحضرة الإلهية و الكونية، فكل شي ء فيها لأن التجلي وحداني في جميع المواطن، و هو بكليته يتجلى لكل  شيء، و إن لم يكن مدركا لكل أحد للقرب المفرط، و الإدماج الذي توجبه غلبة حكم الوحدة على الكثرة، فإذا قام شي ء لشي ء في مقام المحاذاة المعنوية، و الروحانية كالمرآة، صار ذلك سببا لظهور صورة الشي ء و معناه المحاذي، و لا يظهر هذا إلا في الإنسان الكامل، و كماله لخاتم النبوة أصالة، و لخاتم الولاية المحمّدية كمالة وارثة، فافهم .
( و هو للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر، و هو) : 
أي الإنسان المذكور المعبر عنه بالبصر، فيبصر بالإنسان الكامل الكمالات الأسمائيّ ة بجملتها هذا من مقام قرب الفرائض،  كما أنه بقرب النوافل يكون الحق تعالى بصره الذي به يبصر، كذلك في هذا المقام القرب الفرائض، يبصر الحق تعالى بالإنسان الكامل، و في الأول كان الحق بصر العبد، و في الثاني العبد بصره، و به يبصر و يرحم، يشير إلى هذا المقام قوله تعالى حكاية عن أعلم الخلق بالله تعالى:"  إنّك  كُنْت بنا بصِيرًاً" [ طه: 35].
و قوله تعالى: "إنّ  رّبهُ كان بهِ بصِيرًاً " [ الانشقاق:   . [15
فهذا من إشكال المسائل كيف يوجب المعنى حكمه لغير من قام به، فتشبه هذه المسألة مسألة قرب النوافل، والوجه الجامع بين المسألتين وجود الحكم المضاف إلى المعنى في غير المحل الذي قام به ذلك المعنى، وهل البصر يختلف حكمه باختلاف المبصرين؟ أم هل يستويان؟ مثلا يقوم زيد، ويبصر به عمرو، وهذا محال عقلا. و لكن أذكر لك مسألة متفق عليها، و هي ما ورد في الخبر الصحيح بالتنبيه عليها، و شهد الكشف الصريح . 

فاعلم أن الحق سبحانه منزه عن الحلول ، و الحدوث، و أن الإنسان يبصر ببصره، و يسمع بسمعه لا بسمع غيره، و هذه قوى قائمة بجوارحه.



""قال الشيخ رضي الله عنه في نقى القول بالحول و الإتحاد ""
"" قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات المكية الباب التاسع والخمسون وخمسمائة في معرفة أسرار وحقائق من منازل مختلفة : ومن قال بالحلول فهو معلول وهو مرض لا دواء لدائه ولا طبيب يسعى في شفائه مريض الكون إذا بل أعل فإن الحدوث له لازم به وقائم فمرضه دائم لا يزال على فراشه ملقى ومن سهام نوائب زمانه غير موقى فلا يزال غرضا مائلا وهدفا نائلا فهو الصحيح العليل والكثيب المهيل علته صحيحه وألسن عباراتها بالحال عنها فصيحة فإن كان الحق قواه فقد بري ء من علته وقواه فإن الحق سمعه فانجبر صدعه وإنه بصره فقد نفذ نظره وإنه لسانه فقد فهم بيانه وإنه رجله فقد استقام ميلة وإنه يده فما يطلب من يعضده فمن عرف هذه النحل فقد بري ء من جميع العلل فالله شفاؤه وهو داؤه فالمتكبر مقصوم ومن كان الحق صفته فهو معصوم. أهـ""
"" قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات المكية الباب التاسع والخمسون وخمسمائة :
وهذا يدلك على إن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا كما تحدث صورة المرئي في المرآة ينظر الناظر فيها فهو بذلك النظر كأنه أبدعها مع كونه لا تعمل له في أسبابها ولا يدري ما يحدث فيها ولكن بمجرد النظر في المرآة ظهرت صور هذا أعطاه الحال فما لك في ذلك من التعمل إلا قصدك النظر في المرآة ونظرك فيها مثل قوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ"".

""وقال رضي الله عنه فى الإجابة على السؤال الحادي والخمسون في الباب الثالث والسبعون من الفتوحات : 
قال تعالى :"واعْبُدْ رَبَّكَ نسبة خاصة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" فتعلم من عبده ومن العابد والمعبود .
قال تعالى : "ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ "
"وأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ". "اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ " ."أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ " . "صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ " ." أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الْأُمُورُ"." وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ". " وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" ." فَاعْبُدْهُ " لا تعبد أنت فإن عبدته من حيث عرفته فنفسك عبدت وإن عبدته من حيث لم تعرفه فنسبته إلى المرتبة الإلهية عبدت وإن عبدته عينا من غير مظهر ولا ظاهر ولا ظهور بل هو هو لا أنت وأنت أنت لا هو فهو قوله فاعبده فقد عبدته وتلك المعرفة التي ما فوقها معرفة فإنها معرفة لا يشهد معروفها فسبحان من علا في نزوله ونزل في علوه ثم لم يكن واحدا منهما ولم يكن إلا هما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ." أهـ. ""

"" قال رضي الله عنه في الباب الثاني والتسعين ومائتين الفتوحات لنفي قول الحلول والإتحاد :
كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبيد فظهرت الأفعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي ولكن يختلف الحكم لأنه بوساطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه وكما ينسب النور الشمسي إلى البدر في الحس والفعل لنور البدر وهو للشمس فكذلك ينسب الفعل للخلق في الحس والفعل إنما هو لله في نفس الأمر ولاختلاف الأثر تغير الحكم النوري في الأشياء فكان ما يعطيه النور بوساطة البدر خلاف ما يعطيه بنفسه بلا واسطة كذلك يختلف الحكم في أفعال العباد ومن هنا يعرف التكليف على من توجه وبمن تعلق.
وكما تعلم عقلا إن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها وإنما كان لها مجلى وأن الصفة لا تفارق موصوفها والاسم مسماه .
كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وإنما هو مجلى له خاصة ومظهر له وكما ينسب نور الشمس إلى البدر كذلك ينسب الاقتدار إلى الخلق حساأهـ. ""

"" قال الشيخ رضي الله عنه في الباب الرابع عشر وثلاثمائة من الفتوحات :
وكيف يخرج عن إنسانيته الإنسان أو عن ملكيته الملك ولو صح هذا انقلبت الحقائق وخرج الإله عن كونه إلها وصار الحق خلقا والخلق حقا وما وثق أحد بعلم وصار الواجب ممكنا ومحالا والمحال واجبا وانفسد النظام فلا سبيل إلى قلب الحقائق وإنما يرى الناظر الأمور العرضية تعرض للشخص الواحد وتنتقل عليه الحالات ويتقلب فيها فيتخيل أنه قد خرج عنها وكيف يخرج عنها وهي تصرفه وكل حال ما هو عين الآخر فطرأ التلبيس من جهله بالصفة المميزة لكل حال عن صاحبه .أهـ "" 


ثم أن هذا الشخص يعمل بعمل زائد عن الفرض الذي افترض الله تعالى عليه من نوافل الخيرات، فينتج له هذا العمل نفي بصره، و سمعه، و جميع قواه التي كانت توجب له أحكامها، فكان ينطلق عليه من أحكامها أنه بصير إلى هذا: أنه بصير سميع إلى ذلك، فصار يسمع بالله بعد ما كان يسمع بسمعه، و يبصر بالله بعد ما كان يبصر ببصره مع العلم بأن الله تعالى تقدّس أن تكون الأشياء محلا له أو يكون هو تعالى محلا لها، فقد بصر العبد بما لم يقم به، و سمع بما لم يقم به فكان الحق سمعه، و بصره و هكذا في مسألتنا قرب الفرائض، و المناسبة بين القربين ظاهرة، و هي منشأ القياس بلا فارق، فافهم .
( فلهذا سمّي إنسانا ): أي لهذا الإبصار سمّي الإنسان إنسانا، و هو فعلان صيغة مبالغة للمبالغة فيه، فما كل عين ناظر لهذه المرتبة إلا عين الإنسان، و لو لا إنسان العين ما نظرت عين الإنسان، فبالإنسان نظر إلى الإنسان، كما أن المرآة إن  كانت تامة الخلق مجلية، فلا تكمل إلا بتجلي صورة الإنسان الناظر الذي هو العلة الغائبة فافهم .
قال رضي الله عنه في "الفتوحات ": فإذا علمت أنه ما في الوجود إلا ثلاثة أناسا :
الإنسان الأول الكل الأقدم
والإنسان العالم
والإنسان الآدمي
فانظر ما هو الأتم من هؤلاء الثلاثة ، انتهى كلامه .
( فإنه به نظر إلى خلقه فرحمهم ): أي الحق بالإنسان نظر إلى خلقه، فرحمهم كما جاء في الخبر الصحيح :  "فبهم يرحمون و الله الرحمن الرحيم".
أما ترى أن موسى عليه السلام و على نبينا صلى الله عليه و سلم كيف طلب شرح الصدر، و وزارة الأخ و هو رحمة، ثم أعقبه بقوله:" إّنك  كُنْت بنا بصِيرًاً " [ طه: 35].
فما رحمهما إلا بعد أن بصرهما بهما، فالعبد آله الرب للإبصار، و هذا من مقام قرب الفرائض، فأوجب المعنى كلمة لغير من قام به .
و من هنا برقت بارقة لمن قال من أهل النظر: إن البارئ مريد بإرادة حادثة لم تقم به تعالى لأنه ليس محل الحوادث، فخلق الإرادة لا في محل، فأراد بها، فأوجبت الإرادة حكمها لمن لم يقم به، كما ظنت المعتزلة في الكلام.
وأمّا الذي يرى أن المعاني لا توجب إلا لمن قامت به، طرأ عليه الغلط لكونه أثبت الصفات أعيانا متعددة وجودية، لا تقوم بنفسها، بل تستدعي موصوفا بها، تقوم به فيوصف بها فلو علم أن ذلك كله نسب و إضافات لا عين لها في عين واحدة، تكون تلك بالنسبة إلى كذا عالمة و إلى كذا قادرة، و إلى كذا غنية، و إلى كذا عزيزة، هكذا سائر الصفات و الأسماء، فيهون أمثال هذا عليه .
أما سمعت خبر : "كنت سمعه و بصره".  
فالعبد هو الرائي ببصره، و البصر هوية الحق، و كذلك السمع لا حال و لا محل، فإنه تعالى لا يحل في شيء، و لا يحل فيه شيء، و لابد من عين العبد، و لا بد من عين هوية الحق، فرأى بغير ما قام به فافهم، فإنه من مشكلات هذا الفن، ذكرتها بالتقريب .

قال المصنف رضي الله عنه :  [فهو الإنسان الحادث الأزلي و النشؤ الدائم الأبديّ، و الكلمة الفاصلة الجامعة .  فتم العالم بوجوده . فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم، الذي هو محل النقش و العلامة التي بها يختم الملك على خزانته، و سماه خليفة من أجل هذا . لأنه تعالى الحافظ به خلقه كما يحفظ الختم الخزائن فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه، فاستخلفه في حفظ العالم فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل.  ].

( فهو الإنسان الحادث ): أي من حيث صورته، و تعينه (الأزلي ): أي من حيث عينه و ذاته . 
أمّا الأزل نفي الأولية، و نسبة الأزل للحق كنسبة الزمان الماضي للخلق، فلهذا يقال: كان ذلك في الأزل، فحدوثه باعتبار نشأته الظاهرة الجسمانية، و أزليته باعتبار الحقيقة و الروحانية

قال رضي الله عنه : 
حقق بعقلك إن فكرت ......      نفيا لنفي و إثباتا لإثبات
من أعجب الأمر أني لم أزل  ..... و إنني مع هذا محدث الذات
و سرّ ذلك أن الإنسان الكامل منخلعا عن نفسه، مختلعا بخلعة الصور الإلهيّة .
و هو كالظل للشخص الذي لا يفارقه على كل حال غير أنه يظهر الحس تارة و يخفى تارة أخرى، فإذا خفي فهو معقول فيه، و إذا ظهر فهو مشهود بالبصر لمن يراه، فالإنسان الكامل في الحق معقول فيه كالظل إذا خفي في الشخص، فلا يظهر فلم يزل الإنسان أزلا، فلهذا كان مشهودا للحق من كونه موصوفا بأن له بصرا وهو الإنسان، فإنه معبر عنه كما ذكر في المتن. 
و على الجملة أن في العلم الأول لما تميزت عنده الحقائق المعنوية فهي: أي تلك الحقائق المجردة للحق معلومات و للخلق معقولات و لا وجود لها في الوجوب الوجودي و لا في الوجوب الإمكاني، فيظهر حكمها في الحق، فتنسب إليه، و سمّيت أسماء إلهية، فينسب إليها من نعوت الأزل ما ينسب إلى الحق تعالى، و ينسب أيضا إلى الخلق ما يظهر من حكمها فيه، فينسب إليها من نعوت الحدوث ما ينسب إلى الخلق فهي: أي الحقائق المذكورة هي الحادثة القديمة، و الأبدية الأزلية فافهم .

قال رضي الله عنه في الباب السادس و الأربعين و ثلاثمائة: إن الإنسان الكل الكامل الكلي لم يزل مع الله، فلا يزال مع الله، فهو باق ببقاء الله، و ما عدا الإنسان الكامل، فهو باق بإبقاء الله تعالى . 
و هنا مسألة أخرى أذكرها لتعريف الفرق بين الأزلين و هي:
إن الموصوفين بالأزل نفيا، أو إثباتا لا بتقدم أحدهما على الآخر لأن الأزل لا يصح فيه التقدّم و التأخّر، و لكن الفرق بينهما أن أزلية الأعيان هي دوام وجودها بدوام الحق مع افتتاح الوجود عن العدم بكونها من غيرها، و أزلية المبدع نعت سيي ينفي الأولية بمعنى افتتاح الوجود عن العين لأنه عين الوجود، فافهم . 

( و النشؤ الدائم الأبدي) و الأبد نفي الآخرية و عدم انتهائها، و كل أزلي أبدي و لا بالعكس، و أمّا النشؤ هو إنما أعم من أن يكون من النشأة الدنيوية، أو الأخروية . 
أمّا في النشأة الدنيوية فنشؤه ظاهر بدنا و روحا، إمّا بدنا في النشأة الدنيوية فلأنه دائم التحليل، فدائم الغذاء لبدل ما تحلل منه، فدائم الزيادة و النشأ و النمو . 
أمّا باعتبار الروح في النشأة الدنيوّيّة، فلأن غذاؤها العلوم و المعارف، و هما على الدوام و إن لم يظهر لكل أحد . 
قال رضي الله عنه: إن الإنسان في زيادة علم أبدا دائما من جهة ما تعطيه حواسه و تقلبات أحواله في نفسه و خواطره، فهو مزيد علوم . 
و أمّا النمو البدني من جهة الآخرة، فإن الغذاء قد ثبت بالأخبار الصحيحة و الغذاء هو ما يصير جزءا للمتغذي . 
و أمّا ما سمّي غذاء أما ترى أن الخبر الصادق كيف عين مخارج الفضلات في النشأة الأخروية إنما تخرج عرقا، و لو لا الغذاء المعتاد في دار الآخرة ما عين هذا فافهم . 
وإنما نموّه  وزيادته في الآخرة من حيث الروحانية والعلم، فقد ورد في الأخبار ما يدل عليه كحديث   الرؤية: " وإن لنا في الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت "الحديث ، ويحصل هذا من غير تقدم علم به، هذا زيادة في العلم . 
وقوله صلى الله عليه و سلم : "إنه يحمد الله في يوم القيامة عند سؤاله في الشفاعة بمحامد لم يعلمها الآن".
لأنها يقتضيها الموطن، و هذا كله نشأ و نما، و زيادة في الباطن و الظاهر في الدنيا و الآخرة، فافهم . 

( و الكلمة) و هي مجموع من الحروف العاليات، و هي روح الكامل تسمّى كلمة لأثرها في العالم، سمّي بذلك عيسى عليه السلام كلمة الله الفاصلة بين الحق و الباطل، يتميز الفرق بينهما تارة بنظر الجمع، و تارة برؤية الفرق، و تارة بالجمع بينهما .
فلهذا قال رضي الله عنه: (الجامعة) بين الحق و الباطل برؤية الجمع في الكل، و هو جمع الجمع .
ومن هذا الذوق ما حكي عن بعض المشايخ، أو الشيخ أبي مدين قدّس سره  قال رضي الله عنه :
لا تنكر الباطل في طوره   ...... فإنه بعض ظهوراته
فسدّ جفاء الفرق، و الفصل بلطف الجمع و الوصل، فافهم . 
( فتمّ العالم بوجوده) بأتم ما يكون إذ لا أكمل من صورته . 
قال الإمام الغزالي رحمه الله من هذا المشهد: ما في الإمكان أبدع ما كان، فدار العالم، و ظهر الوجود الإمكاني بين نور، و ظلمة، و طبيعة، و روح، و غيب، و شهادة، و سنن، و نفي، و إثبات . 

فما ولي من الوجود المحض كان نورا، و روحا، و ما ولي من العدم المحض، كان ظلمة، و جسما، و بالمجموع تكون الصورة، و به تحقق الكون الجامع، و المجلى المجلو الساطع، و لا ينظر الله إلا إليه و هو الحجاب الأعلى، و الستر الأزهى، و القوام الأبهى فلما حذاه حذوا معنويا على حضرة الأسماء الإلهية بعد ما حصلت فيه قواها، فظهر بها في روحه، و باطنه، فظاهر الإنسان خلق، و باطنه حق . 

قال الشارح رضي الله عنه : 
( فهو من العالم) لما وجّه وجه كونه إنسانا، أراد رضي الله عنه أن يوجّه كونه خليفة .
و قال : إن الإنسان الكامل من العالم (كفص الخاتم للخاتم و هو محل النقش و العلامة) . 
كما أن الفص محل النقش، كذلك الإنسان الكامل محل ظهور صور الأسماء الإلهية، وكما أن في الفص علامة تدل على صاحب الخاتم، كذلك العالم بمنزلة الخاتم، و فصّه الإنسان الكامل، وفيه علامة تدل على الحق تعالى لظهور جميع أسمائه فيه الدّالة عليه . 
فمن هذا ورد في الخبر: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".

قال رضي الله عنه في الفصل الثامن و مائة من "الفتوحات ": إن الإنسان الكامل يدل بذاته من أول البديهة على ربه لأنه على الصورة، انتهى كلامه رضي الله عنه . 
و قال أبو يزيد قدّس سره: من هذا الذوق إما دلّ على هويته من كلمة الله عليها، و كذلك سمّاني كلمة، انتهى كلامه رضي الله عنه . 
وقال صلى الله عليه و سلم : "إن أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله". فالكامل من أعلى العلامات التي تدل عليه.
"سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أولياء الله -تعالى قال: الذين إذا رأوا ذكر الله حنت قلوبهم إليه". المطالب العلية للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني
حديث عبد الرحمن ابن غنم: خيار عباد الله الذين إذا رأوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ". أخرجه أحمد ابن حنبل و في إتحاف المهرة للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني
( التي بها يختم الملك على خزائنه): أي العلامة التي تحفظ الملك بالختم بها ما في الخزائن من نفائس الجواهر، والعروض . 
يريد رضي الله عنه أن يمثل تمثيلا يناسب الإنسان الكامل، بل الأكمل الفرد الختم مع العالم، و يتبين فيه نسبته معه :
و عني بالتلويح مفهم ذائق   ......   غنى عن التصريح للمتعنت
فإن نسبته الأكمل الكل مع العالم نسبة الختم على الخزانة، فكما تختم الخزانة المشحونة بنفائس الجواهر التي فيها عن تناول أيدي النفود و الفناء، و لا يجسر كل أحد أن يتصرف فيها . 
كذلك الإنسان الكامل الكل، فإنه ختم به على خزائن العالم على النفاد، و لا تجسر أيدي الحوادث، و أيدي الزمان على فكّ هذا الختم بالتغير و الإنسان . 
( و سمّاه خليفة من أجل هذا ): أي من أجل أنه استخلفه، يحفظ ما في خزائن العالم و الوجود أنه حفيظ عليم، سمّاه خليفة، و الخليفة صورة مستخلفة، فما حفظ إلا بنفسه، فاحتفظت نفسه بنفسه، فبنفسه عين العلامة على نفسه، فافهم . 
( لأنه سبحانه الحافظ) خلقه من حفظ  الشيء نفسه لأن الوجود عينه، و ما في العالم سواه . 

( كما يحفظ الختم الخزائن) بالعلامة التي في الختم، و هي صورة اسمه، و الاسم عين المسمّى، و بالعين يحرس العالم . 

و الختم ثلاث:
ختم الولاية العامة الظاهرة في هذه الأمة، و هو المهدي . 
و ختم الولاية المطلقة و هو عيسى عليه السلام . 
و ختم الولاية المحمّدية، فأمّا ختم الولاية المحمّدية، و هو الختم الخاص، فيدخل في ضمنه الختمان السابقان، و إن كان مطلقين و عامين.
فهما مختومان، و تحت الختم المحمّدي، و له التحقق بالبرزخية الثابتة بين الذات و الألوهية لأن ختمية النبوّة تختص بحضرة الألوهية، و له جمع الجمع لا جامع بعده مثله و لا حائز لكل الموارث غيره، و له كمال الآخرية المستوعبة، فله حكم الكل دون سواه، فلهذا لا يعرفه غير مولاه، و هو أعلم الخلق بالله، لا يكون في زمانه، و لا بعد زمانه، أعلم بالله، و بمواقع الحكم منه، فهو و القرآن إخوان، كما أن المهدي و السيف إخوان . 
قال رضي الله عنه: علمت حديث هذا الختم المحمّدي بـ "فاس" من بلاد المغرب، و هو شعرة واحدة من جسده صلى الله عليه و سلم.
و لهذا يشعر به إجمالا، و لا يعلم تفصيلا إلا من أعلمه الله، أو من صدّقه أن عرّفه بنفسه دعواه، ذكره رضي الله عنه في الباب الثاني و الثمانين و ثلاثمائة من "الفتوحات" .

( فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه) فالختم دائما أبدا دنيا و آخرة، فإن الختمية ثابتة غيرمزالة، فافهم الإشارة تكن من أولي الألباب فإن هذا التمثيل خلاصة الخلاصة، و لباب هذا الباب فإن توهّمت فرض الإزالة في النشأة الدنيوية فهي ثابتة من وجه آخر لا محالة و هو النشأة الأخروية، فالختم دائما أبدا، فافهم . 

( فاستخلفه في حفظ العالم فلا يزال العالم محفوظا فيه ما دام فيه هذا الإنسان الكامل) الذي هو الختم الدائم الجامع السرمدي، و ذلك العبد هو المقصود من العالم النائب عن العالم كله الذي لو غفل العالم كله أعلاه، و أسفله زمنا عن ذكر الله، و ذكره هذا العبد، قام في ذلك الذكر عن العالم كله، و حفظ به على العالم وجوده، و لو غفل العبد الإنساني المذكور عن الذكر زمنا فردا لم يقم العالم مقامه في ذلك و خرب منه . 

و قال صلى الله عليه و سلم : "لا تقوم الساعة و في الأرض من يقول الله الله"  .
إشارة إلى ذلك الذكر، قال رضي الله عنه في الباب الثالث و السبعين من "الفتوحات ": إن في العالم قطبا ينظر الحق تعالى إليه، فيبقى به هذا النوع الإنساني في هذا الدار، و لو كفر الجميع و هو ذا جسم طبيعي، و روح موجود يجسّده، و حقيقته يتغذى بجسمه و روحه، و هو مجلى الحق من آدم إلى يوم القيامة .

كما أبقى الله بعد الرسول صلى الله عليه و سلم أربعة من الرسل أحياء في هذه الدار الدنيا:
و هو عيسى، و إدريس، و إلياس، و خضر عليهم السلام، و هذه المعرفة التي أبرزنا عينها للناظرين لا يعرفها من أهل طريقتنا إلا منا، فيبقى الأمر محفوظا بهؤلاء الأحياء و ثبت الدين قائما بحمد الله ما انهدم منه ركن إذا كان له حافظ يحفظه، و إن ظهر الفساد في العالم إلى أن يرث الأرض و من عليها، و هذه نكتة فاعرف قدرها، فإنك لست تراها في كلام أحد أبدا، و لو لا ما ألقى عندي في إظهارها ما أظهرتها لسرّ يعلمه الله ما أعلمنا به، و لا يعرف ما ذكرناه إلا نوّابهم خاصة لا غيرهم من الأولياء . 
فاحمدوا الله يا إخواننا حيث جعلكم الله ممن قرع سمعه أسرار الله المخبؤة في خلقه التي اختصّ الله بها من يشاء من عباده، انتهى كلامه . 

قال المصنف رضي الله عنه : [ألا تراه إذا زال و فك من خزانه الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق تعالى فيها و خرج ما كان فيها و التحق بعضه ببعضه، و انتقل الأمر إلى الآخرة فكان ختما على خزانة الآخرة ختما أبديا .
فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية فحازت رتبة الإحاطة و الجمع بهذا الوجود، و به قامت الحجة لله تعالى على الملائكة . فتحفظ فقد وعظك الله بغيرك، و انظر من أين أتي على من أتي عليه .]. 
( ألا ترى إذا زال) وجود الموضوع ليس بشرط في القضايا الشرطيات، فافهم . 
( و فك من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها، و التحق بعضه ببعض و انتقل الأمر إلى الآخرة، فكان ختما على خزانة الآخرة ختما أبديا )، فالختمية ثابتة مزالة دائما أبدا، فافهم . 
قال رضي الله عنه في الأجوبة من "الفتوحات ": فأقبل ما سبب الختم، و معناه المنع و الحجز، فافهم فكان الختم أزلا فيكون أبدا . 
اعلم أنه ما ثم أمر من الأمور يفرض بين الأمرين، أو ينسب إليه بذاته، أو غاية إلا و لا بد أن يكون له فاتحة هي مرتبة أوليته، و خاتمة هي مرتبة آخريته، و أمر ثالث يكون مرجع الحكمين إليه بجمعهما، و يتعين بهما و هكذا الإنسان و العالم.ورد في الخبر عن الفاتح الخاتم صلى الله عليه و سلم أنه قال : "أعطيت فواتح الكلم و جوامعه و خواتمه" .  عن أبي موسى رضي الله عنه ذكره في "جمع الجوامع" . 

فإذا تقرر هذا، فاعلم أنه سبحانه فتح خزانة غيبه، و ذاته، و هويته التي لا يعلمها سواه باسمه الجامع بين صفات الجمع، و التصرف، و الإطلاق، و التقييد، و الأولية و الآخرية، و الظاهرية، و الباطنية، و فتح باب معرفة ذاته و حضرة جمعه و إشهاده و تجليه الكمالي المعتلي على سائر الأسماء و الصفات بمن أظهره آخرا، و قدّره على صورته و حباه سره و سورته، و جعله خزانة مختومة حاوية على كل الخزائن و مفتاحا و هو أصل المفاتيح الأول و ينبوع الأنوار و المصابيح لا يعرفه سوى من هو مفتاحه، و يعلم هو المفاتيح التي حوتها ذاته، و اشتملت عليها عوالمه، و نشأته و أحاطت بها مراتبه، و مقاماته ما شاربه أن يراه منها، و يكشف له عنها، فإن متعلق النفي الوارد في قوله تعالى : "وعِنْدهُ مفاتحُ الغيْبِ لا يعْلمُها إلّا  هُو " [ الأنعام: 59] .

نفي أن يعرف مجموعها أو أن تعرف من حيث كونها مفاتيح، و أن يعرف لا بتعريفه و تعليمه سبحانه . 
وأما كون المفاتيح لا تعلم نفسها، أو لا تعرف بعضها بعضا، أو لا تعرف بتعريف، فلا نص فيه، فافهم . 
فلكل فاتحة خاتمة، و هي عينها هو الأول، الآخر، الظاهر، الباطن جمع النقيضين و انختم الختم على العالمين، فافهم . 
سئل خاتم النبوة صلى الله عليه و سلم متى كنت نبيا؟
قال صلى الله عليه و سلم : "كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين".  
و أشار إلى الأزل، فلو سئل خاتم الولاية المحمّدية متى كنت وليا خاتما؟ فكان يقول في جوابه: كنت وليا و آدم بين الماء و الطين: أي أزلا، و كل أزلي أبدي فيكون الختم أبدا، فافهم الإشارة .
فكل ولي و نبي كان ظهور نبوّته و ولايته مشروطا بشروط كالظهور بالبدن العنصري بخلاف خاتم النبوّة و خاتم الولاية المحمّدية، فإنهما كانا في الأزل نبيا و وليا، و لم يكن آدم شيئا مذكورا. 

فكما أن الله تعالى ختم بمحمد صلى الله عليه و سلم نبوّة الشرائع.
كذلك ختم الله بالختم المحمّدي بالولاية المحمدية
بحيث لا يحصل للمحمّدي فيض إلا من مشكاته رضي الله عنه و له أمر الولاية المحمدية من قبل و من بعد، كما أن أمر النبوّة من قبل و من بعد سواء كان قبل الوجود العنصري، أو بعده، فلا يأخذ ولي إلا من مشكاته، كما لا يأخذ نبي إلا من مشكاته صلى الله عليه و سلم و هذه هي الأسوة الحسنة . 
قال صلى الله عليه و سلم إشارة إلى هذه الأسوة : " أما لكم فيّ أسوة"الحديث رواه أبو قتادة رضي الله عنه . 
و الختم المحمّدي عبارة عن خاتم يكون على حرف قدم محمد صلى الله عليه و سلم، و أما المحمّديون بعد هذا الختم يكون على قلوب الأنبياء عليهم السلام، فلا بعده من يكون على قدمه يطأ أثره، كما لا يكون أحد على قلبه: أي على قلب محمد صلى الله عليه و سلم أبدا، هذا معنى ختم الولاية المحمّدية، و هو أعلم الخلق بالله، و لا يكون في زمانه، و لا بعد زمانه أعلم بالله، و بمواقع الحكم منه، فهو و القرآن إخوان، كما أن المهدي و السيف إخوان، و كما أن لا نبي بعد محمد صلى الله عليه و سلم، كذلك لا ولي بعد هذا الختم سلام الله عليه، فإنه خاتم أولياء الذات، و روح الكلمات التامات، و لا بد أن يرى في كشفيه ما ينبئك عن وصفه إن سلكت هذه الطريقة، و بلغت إلى هذه الحقيقة فافهم . 

قال رضي الله عنه في "الفتوحات" في أصل أسئلة الترمذي: أمّا ختم الولاية المحمّدية فهي لرجل من العرب من أكرمها أصلا و نسبا، و هو في زماننا اليوم موجود، عرفت به سنة خمس و تسعين و خمسمائة، و رأيت العلامة التي قد أخفاها الحق سبحانه فيه في عيون عباده، و كشفها لي بمدينة "فاس" حتى رأيت خاتم الولاية النبوّة المطلقة لا يعلمه كثير من الناس، و قد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقق به من الحق تعالى في سره من العلم به، انتهى كلامه رضي الله عنه .

و ما رأيت بتصريحه بهذا المعنى لنفسه أصلا إلا في مواضع قليلة منها في بيت في الباب الثالث و الأربعين من "الفتوحات" فإنه رضي الله عنه قال :  أنا ختم الولاية دون شك كورث الهاشمي مع المسيح .

و في الباب الخامس والستون وثلاثمائة في معرفة منزل أسرار "الفتوحات" قال رضي الله عنه يشير إلى مقام الخاتمي : إنما علقت نفسي مع الله أن يستعملني فيما يرضيه ولا يستعملني فيما يباعدني عنه .
وأن يخصني بمقام لا يكون لمتبع أعلى منه ولو أشركني فيه جميع من في العالم لم أتأثر لذلك فإني عبد محض لا أطلب التفوق على عباده .
بل جعل الله في نفسي من الفرح أني أتمني أن يكون العالم كله على قدم واحدة في أعلى المراتب فخصني الله بخاتمة أمر لم يخطر لي ببال فشكرت الله تعالى بالعجز عن شكره مع توفيتي في الشكر حقه .
وما ذكرت ما ذكرته من حالي للفخر لا والله وإنما ذكرته لأمرين الأمر الواحد لقوله تعالى وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وأية نعمة أعظم من هذه والأمر الآخر ليسمع صاحب همة فتحدث فيه همة لاستعمال نفسه فيما استعملتها فينال مثل هذا فيكون معي وفي درجتي فإنه لا ضيق ولا حرج. أهـ

فإن قيل: بأي صفة استحقّ بها أن يكون خاتما للولاية المحمدية.
قلنا: بتمام مكارم الأخلاق مع الله، إنما قلنا: مع الله لأن أغراض الخلق مختلفة، و لم يمكن تعميم موافقة العالم بالجميل فنظر نظر الحكيم، فلم يجد صاحبا مثل الحق، و لا صحبة أحسن من صحبته . 

و رأى أن السعادة في معاملته، فنظر إليه فرأى أنه شرع أحكاما، و حدّ حدودا فوقف عندها، فما صرف الأخلاق إلا مع سيده، فلما كان بهذه المثابة قيل فيه ما قيل في خاتم النبوة: "وإنّك لعلى  خُلقٍ عظِيمٍ" [ القلم: 4] .
قال رضي الله عنه في الباب الرابع و الثلاثين و خمسمائة من "الفتوحات ": إن هذه الآية تليت علينا تلاوة تنزل إلهي من أول السورة إلى قوله: "عتل بعْد ذلك زِنيمٍ" [ القلم: 13] انتهى كلامه. 
و مكارم الأخلاق معلومة عقلا، و عرفا، و التصرف فيها و بها معلوم شرعا، فمن اتصف بها على الوجه المشروع . 

و زاد تتميم: مكارم الأخلاق، و هو إلحاق سفسافها بها، فتكون كلها مكارم الأخلاق بالتصرف المشروع و المعقول، فقد اتصف بكل ثناء إلهي، و اتصف فلا يزال محسودا، و بالعداوة مقصودا، فافهم .
قال الشارح رضي الله عنه : 
( فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية) هذا هو التخلق بجميع الأسماء، و هو أحسن تقويم . 
و قال تعالى: "و علّم آدم الْأسْماء كُ لّها [ البقرة: 31] و لم يقل بعضها . 
و قال صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق آدم على صورته" رواه الشيخان البخاري، و مسلم . 
و في رواية :  "صورة على صورة الرحمن".

( فجازت رتبة الإحاطة و الجمع )، فجمع بين الصورة الحقية، و صورة العالم و كان برزخا بين الحق،   و الخلق مرآة منصوبة يرى الحق فيها، و يرى الخلق فيها، فمن حصّل هذه المرتبة، حصّل رتبة الكمال الذي لا أكمل منه في الإمكان . 
كما قال الإمام الغزالي رحمه الله: ما في الإمكان أبدع ما كان، و معنى رؤية الحق: فيها إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه، كما جاء في الخبر: "فبهم تنصرون والله الناصر، وبهم ترزقون و الله الرزاق، و بهم ترحمون و الله الرحمن الرحيم".

و قد ورد في القرآن: " بالمُؤْمِنين رؤُفٌ رحِيمٌ " [ التوبة: 128] . 
"و ما أرسلناك إلّا رحْمةً للْعالمِين" [ الأنبياء: 107]: أي لنرحمهم بك لأنه اسم الله الأعظم، فافهم. 
( بهذا الوجود) لأن صاحب هذا الوجود لا يرى في الوجود إلا الله، و يرى أحكام أعيان الممكنات في عين وجوده، و هذا هو النظر التام الذي لا ينال بالنظر و لكن ينال بالشهود، و هو قوله صلى الله عليه و سلم : 
"من عرف نفسه فقد عرف ربه، فمن عرف أنه لم تزل عينه في إمكانه عرف ربه بأنه الموجود و الوجود".
و به (قامت الحجة لله على الملائكة ): أي بهذا الجمع و الوجود و هو حجة الله على الملائكة . 
قال تعالى: "و علّم آدم الْأسْماء  كُلّها" [ البقرة: 31] .
يعني: الأسماء التي هي مبادئ لإيجاد العالم، و مؤثرات في حقائق الأكوان، و من جملتها الأسماء الإلهية التي توجّهت على إيجاد الملائكة و هي لا تعرفها، ثم أقام المسمّيين بهذه الأسماء، و هم مظاهر التجليات الإلهية التي هي الأسماء كالمواد الصورية للأرواح . 
فقال: "أنبئوني بأسْماءِ هؤُلاءِ إنْ كُنْتمْ صادِقين "البقرة: 31]،
يعني: الصور التي تجلى فيها الحق إن كنتم صادقين في قولكم "نسبِّحُ بحمْدِك "[ البقرة: 31]،  :
كأنه قال لهم: و هل سبحتموني بهذه الأسماء التي تقتضيها هذه التجليات التي أتجلّاها لعبادي؟

و إن كنتم صادقين في قولكم : و نقدّس ذواتنا عن الجهل بك، فهل قدّستم ذواتكم لنا من جهلكم بهذه التجليات و ما لها من الأسماء التي ينبغي أن تسبحوني بها؟ . 
فقامت عليهم الحجة في ادّعائهم الإلهية، فقالت بعد العلم: "لا عِلْم لنا إلّا ما علّمْتنا" [ البقرة: 32]، و اعترفت بالكمال الذي غاب عنها هذا . 
وقد قال تعالى لها: إنه خليفة، فكيف بها لو لم يقل لها ذلك، فلم يكن ذلك إلا لبطونه على الملائكة. 
( فتحفظ، فقد وعظك الله بغيرك) من أكبر العناية أن يعظك بغيرك، أن السعيد من وعظ بغيره و ذلك لرتبة المحبوبية و  كمال السعادة . 
(وانظر من أين أتى على من أتي عليه) مبني للمفعول، يقال: أتاه، و أتى به و أتي عليه، و هي لا تستعمل مجهولا إلا في المكاره..


قال المصنف رضي الله عنه :  ( فإن الملائكة، لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية .  فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته. و ليس للملائكة جمعية آدم. ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها و سبحت الحق بها و  قدسته، و ما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها، فما سبحته بها و لا قدسته تقديس آدم.)
قال الشارح رضي الله عنه : 
( فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليقة ): أي ما وقفت مع اقتضاء حقيقة هذه الخليقة لعدم علمها بها . 
( و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق تعالى من العباد الذاتية) و هي الانقياد الذاتي . 
حيث قال تعالى لهم"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)" سورة البقرة . 
فكان ينبغي لها السمع و الطاعة، فالتبست عليها صورة الإخبار بصورة الشهوة، فما وفقت على حد الإطاعة و الإنصات، والانقياد حتى قالت ما قالت . 
فإنه (ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته) تعريفا، أو تجليا و المعرفة الإلهية للملائكة بالتعريف لا بالتجلي كما اعترفوا بذلك، و قالوا: (لا عِلْم لنا إلّا ما علّمتنا ) . 
( و ليس للملائكة جمعية آدم) حتى يعلم مقتضى الذات، فلهذا فاتها الانقياد الذاتي بخلاف الإنسان .
أما ترى أنه عبد الحجر، و المدر، و الجماد و ما ذلك إلا من المعرفة بالاقتضاء الذاتي، و الإدراك الذوقي، و ليس للملائكة تلك المعرفة الذاتية، بل ما لها إلا تنزيه بحت، فافهم . 
"" عن جمعية آدم قال الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : جمعية آدم هي رتبة الإحاطة ، والجمع بهذا الوجود لآدم لظهور جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء فيه"".
( و لا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصّها، و سبحت الحق بها، و قدّسته) : 
أي : و هي الأسماء التشبيهية المؤثرة في الكون، فغلب عليها ما ذكرناه و هو عدم العلم و الوقوف بالأسماء والمراتب و المواطن .
وما وقفت مع الأسماء التنزيهية المخصوصة بهم أيضا لأنها لو وقفت ما اعترضت.
حاصل مجموع الكلام: إنهم ما وقفوا مع مقتضى ذواتهم، و لم يقفوا مع مقتضى ذات الخليقة، و لا مقتضى عبادة ذاتية إلهية لعدم وقوفهم، و اطلاعهم بالذاتيات و ذلك لعدم علمهم بذات الحق تعالى، فإنها ما تدرك أصلا، فإذا لم تدرك فلا تدرك ذاتياتها لأنها فرعها، فافهم . 

قال المصنف رضي الله عنه :  ( فغلب عليها ما ذكرناه، و حكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة: أتجْعلُ فيها منْ يـفْسِدُ فيها [ البقرة: الآية 30] .  و ليس إلا النزاع و هو عين ما وقع منهم فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق .  فلو لا أن نشأتهم تعطي ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه و هم لا يشعرون . فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، و لو علموا لعصموا) . 
( فغلب عليها و حكم عليها هذا الحال) و هو الغلبة المذكورة، فقالت من حيث النشأة: أي باقتضائها لأنها طبيعية تعطي التشاجر، و التخاصم، و التحالف . 
فقوله: النشأة يحتمل أن يريد بها نشأة آدم: أي حين عرفت أن نشأته عليه السلام مركبة من الأضداد من الحقائق المختلفة، و الطبائع المتنافرة، فحكمت بوقوع الفساد من ذلك لعلمها بالحقائق، و كذا وقع الأمر . 
و لكن فاتهم أن الفساد قد يكون عين الصلاح، و الإفساد عين الإصلاح، و كيف لا؟! و الفاعل ربّ حكيم عليم . 
و قد قال تعالىوَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)" سورة البقرة . 
و الرب هو المصلح لغة، فما وقفوا على مقصود الحق من خلق الخليقة، و لو لم يكن الأمر كما وقع لتعطلت من الحضرة الإلهية أسماء كثيرة لا يظهر لها حكم . 
قال صلى الله عليه و سلم :  "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم"  
فنبه فيه أن كل أمر في العالم إنما هو لإظهار حكم اسم إلهي، و إذا كان هكذا الأمر: أي كما وقع فلم يبقى في الإمكان أبدع من هذا العالم و لا أكمل، و فساده عين الصلاح، و إفساده عين الإصلاح مع أن السفك يدل على الغلبة، و العزة التي لصاحب المرتبة ذي المنعة، و القوة، و الشوكة . 
قال تعالى: "فانظرْ كيْف كان عاقبةُ المُفْسِدِين" [ الأعراف: 103] . 
قالوا: الخلافة العامة والعزة التامة، حتى قيل فيهم: "وللّهِ العزُّة ولرسُولهِ وللْمُؤْمِنين"[ المنافقين: 8].
مع أن العزة لله، فإن عزتهم عزة الحق من مقام وحدة الوجود لله جميعا، فافهم الإشارة: أي إلى أنهم عين الحق . 
يستفاد من مجموع الآيتين، فإن كنت من أهلها أقل من هذا يكفيك، و إن لم تكن من أهلها، فكل الموجود و لو كان لسانا ما يكفيك، فافهم . 
وإنما وقع الغلط من استعجالهم بهذا القول من قبل أن يعلموا حكمة الله تعالى فيه، و ما حملهم على ذلك إلا الغيرة التي فطرت عليها في جناب الله سبحانه و يحتمل أن يراد من النشأة لنشأتها: أي أنها قالت: من حيث نشأتها و مقتضائها لأنها طبيعية :  أي مخلوقة من الطينة . 
ولولا أن الملأ الأعلى له جزء من طبيعة، و يدخل من حيث هيكلها النورية المادية التشاجر، و الخصام لما اختصمت، فإن الخصام من التنافر، و التنافر من التركيب، فإذا تجرّد لا خصام، و لا نزاع . 
قال رضي الله عنه في "الفتوحات ": لا بد في نشأتها من المنازعة، و لا سيما المولد من الإمكان فإنها مولدة من مولد، فلو وقفوا مع روحانيتهم و تجردهم، فلم يقولوا ما قالوا بل يقولون: ذلك إليك تفعل ما تريد. انتهى كلامه رضي الله عنه . 
و ذلك لأن أول جسم خلقه الله تعالى الأرواح المهيمة و منهم: العقل الأول، و أمّا النفس الكل التي هي اللوح المحفوظ، فهي بواسطة العقل، فكل ملك خلق بعد هؤلاء، فداخلون تحت حكم الطبيعة، فهم من جنس أفلاكها التي خلقوا منها، و هم عمارها إلى أن ينتهي إلى ملائكة خلقت من العناصر إلى أن ينتهي إلى ما خلقت من أعمال العباد و أنفاسهم . 
قال تعالى:" أتجْعلُ فيها منْ يُـفْسِدُ فيها" [ البقرة: 31]، و هذه الأداة لا تكون إلا من الأعلى إلى الأدنى . 
كما قال تعالى:" وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) " سورة المائدة .
استفهام التقرير بما هو به عالم ليقيم الشهادة على نفسه بما ينطق به مع أنها ذات عيوب الغير، و هي بعينها فيها، و لم ترها في نفسها التي اتصفت بها في الوقت شيئا، و بعدها  شيء من حيث لم يشعر، فافهم .
( و ليس إلا النزاع) قال رضي الله عنه: المنازعة هي المخالفة، و المخالفة هي الخصام و الخصام من الطبيعة، و لا يكون إلا بين الضدين، و من هذه قالت ما قالت و رجّحت تدابيرا كونيا على تدبير إلهي و هو من أكبر الفسادات مع أنه تعالى وصف نفسه الكريمة بأنه:" يدِّبـرُ الْأمْر" [ السجدة: 5] . 
وما وصف نفسه إلا أن يعرف أنه ما يعمل شيئا إلا ما يقتضيه حكمة الوجود و أنه أنزله موضعه الذي لو لم ينزله فيه لم يوف الحكمة حقها، و هو الذي أعطي كل  شيء خلقه، ثم هدى. 
قال رضي الله عنه: أي يبين أن الله تعالى أعطى كل شيء خلقه، حتى لا يقول أحد ينبغي كذا، يقتضي كذا . 
قال تعالى: "إنِّي أعِظك أنْ تكُون مِن الجاهِلين" [ هود: 46] . 
قال رضي الله عنه من هذا المقامإن الله عصمني من القهر، فلم أنازع قط، و كل مخالفة تبدوا مني كمنازع، فهي تعليم لا نزاع، فافهم . 
( و هو عين ما وقع منهم) وقعت فيما غابت به غيرها، و نازعت في الإطاعة و الانقياد، و قالت ما قالت، و وقعت في الفساد و هم لا يشعرون، و كذلك وقع منها سفك الدماء . 
ذكر رضي الله عنه في الباب الرابع و الخمسين و مائة من "الفتوحات ":  إن الملائكة التي أنزلها الله في بدر كانوا من الملائكة، أو هم الملائكة التي قالوا في خلق آدم عليه السلام قالوا: "أتجْعلُ فِيها منْ يُـفْسِدُ فيها و يسْفِكُ ِّ الدماء" [ البقرة: 30]، فأنزلها الله سبحانه في بدر، فسفكوا، ووقعوا فيما عابوا به، انتهى كلامه رضي الله عنه . 
و لو لم تعترض الملائكة ما ابتليت بالسجود، فلما علم الحق منها السعوف و العلو على آدم عليه السلام، فأنزل بهذا العضال دواء شافيا، فأمرهم بالسجود، فلمّا تحسّوا هذا الدواء حسوا برئوا من الزهو، و علموا أنه يفعل ما يريد، و ما ابتلوا به إلا عن إغضاب دقيق خفي لا يشعر به إلا  الراسخون . 
و هكذا كل انتقام إلهي يقع بالظلم لا يكون إلا بعد إغضاب، و تحصيل معرفة الإغضاب على غاية الاستقصاء حتى يجتنبوا عنه في غاية الصعوبة، فإنه من علم الأسرار ما يعرفه كل أحد . 
و كان حذيفة اليماني صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم عالما به، فلهذا سمّي بهذا الاسم: أي صاحب السرّ، و ليس علم أنفع منه في حق الأولياء، ذكره رضي الله عنه في الباب الحادي و الأربعين و ثلاثمائة من "الفتوحات" . 
و كل ذلك من عدم العلم و الكشف بحقائق الأمور وعدم الاطلاع بأحكام القضاء و القدر . 
أما ترى اعترافها عليها السلام حين أعلمهم الله تعالى حقيقة الأمر أنها قالت : "سبحانك لاعِلْم لنا إلّا ما علّمتنا" [ البقرة: 32] . 
أمّا قولهم: "و ما مِنّا إلّا لهُ مقامٌ معْلومٌ " [ الصافات: 164] فاعتراف منهم أن لهم حدود يقفون عندها، و لا يتعدونها، ولكن لا ندري أنه وقع هذا قبله أو بعده، و ترى أكمل الخلق وجودا، و أعلمهم بالله علما، و كشفا، و شهودا مع العلم العام التام، فإنه صلى الله عليه و سلم علم علم الأولين و الآخرين أنه يقول :  "لا أدري ما يفعل بي و لا بكم". 
هذا هو الأدب المطلوب، و الاعتناء الإلهي حفظه أن يطلق الكمال لنفسه، و يدّعيه لذاته على الإطلاق مع أن له الحق، فافهم .
( فلو عرفوا نفوسهم) ورد في الخبر :  "فإن من عرف نفسه فقد عرف ربه، و من عرف ربه عرف حظه منه"  .
( لعلموا) أنهم من بعض قواه عليه السلام، (و لو علموا) أنهم من بعض قواه (لعصموا) من بركة العلم على التجريح، فإنه لا يجرح أحد نفسه . 
أو نقول: لو عرفوا نفوسهم، عرفوا ربهم، فإن  "من عرف نفسه، فقد عرف ربه، و من عرف ربه علم مواقع خطاياه، و من عرف مواقع خطاياه لعصم من الزلل".
و لكن لم يعرفوا لأن هذا النوع من العرفان مخصوص للإنسان، فلم يعلموا فما عصموا، و وقع ما وقع، فافهم . 



قال المصنف رضي الله عنه :  [ ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس و التسبيح .  و عند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة تقف عليها فما سبحت ربها بها و لا قدسته عنها تقديس آدم و تسبيحه .فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده ونتعلم الأدب مع الله تعالى فلا ندعي ما نحن متحققون به وحاوون عليه بالتقييد، فكيف أن نطلق في الدعوى فنعم بها ما ليس لنا بحال ولا نحن منه على علم فنفتضح؟] . 
قال الشارح رضي الله عنه : 
( ثم لم يقفوا مع التجريح) و هو قولهم: "منْ يُـفْسِدُ فيها و يسْفِكُ ِّ الدماء" [ البقرة: 30] . 
لم يكن ينبغي لهم ذلك لأن الله تعالى قال: "و لا يغتبْ بعْضُكُمْ بعْضاً أ يحِب أحدكُمْ أنْ يأكُل لحْم أخِيهِ ميْتاً فكرهْتمُوهُ واتّـقُوا اللّه إنّ اللّه توّابٌ رحِيمٌ " [ الحجرات: 12] . 
( حتى زادوا في الدعوى) يعني: وقفوا مع التجريح إلى أن زادوا في الدعوى و كل مدع مطالب بالبرهان على صحة دعواه فإن البينة على المدّعي، فاحتاجت إلى البينة و الشهود و الشهود و لا بد له من التزكية، فزّكّت أنفسها بلا شهود وغفلت عن قوله: " فلا تزُّكوا أنْـفُسكُمْ " [ النجم: 32] فمن التزكية و نعت في الدعاوي و التجريح من حيث لا تشعر .
( بما هم عليه من التسبيح و التقديس ) و هو قوله سبحانه: "ونحْنُ نسبِّحُ بحمْدِك ونقدسُ لك" [ البقرة: 31] . 
مع أنه تعالى أخبر: إن كل شيء يسبح بحمده، و لكن هنا فرق آخر، و هو: إن تسبيح العالم يثبت بشهادة الله تعالى . 
حيث قال: "و إنْ مِنْ شيْءٍ إلّا يسبِّحُ بحمْدِهِ" [ الإسراء: 44]: أي بحسب علمهم و قدر معرفتهم، فيكون ضمير بحمده راجعا إلى كل  شيء لأنهم قدّروا الله حق قدره، و تسبيحهم بأدعيائهم . 
وإن كان في نفس الأمر يحتمل أن يكون موافق الحق.
و لكن ما نعلم أن اختيارهم بهذا من الاتفاقات الحسنة و من التعريف الإلهي لأن المسبح أثبت على نفسه الحجاب، و لا يكون المسبح في حالة الشهود لأن الشهود فناء، و العالم لا يفتر عن التسبيح طرفة عين لأن تسبيحه ذاتي كالنفس للمتنفس، فدلّ أن العالم لا يزال محجوبا، و طلبهم بذلك التسبيح هو المشاهدة.
فخلق الإنسان على صورته و أعطاه دوام المشاهدة، و عرف الملائكة بمرتبته السنية، و أخبرهم: إن لهم بهذه الكرامة .
أما ترى قول الشيخ الأكبر رضي الله عنه في "الفتوحات" أنه قال: كل العالم يسبح غير الإنسان الكامل لأن التجلي له دائم، و حكم الشهود له لازم يا ليت شعري!
لو قالت: نسبحك بحمدنا: أي بما نحن عليه كان يخلصهم لأن كل أحد ما يسبح إلا بحمده: أي بقدر علمه و كشفه . 
قال تعالى تنبيها لذلك: "و ما قدروا اللّه حقّ قدْرهِ " [ الأنعام: 91] فافهم . 
( و عند آدم الأسماء الإلهية) من حيث التحقق و التخلق، لا من حيث التخلق، و بأنوار هذه الأسماء يظهر مسمياتها خلقا و خلقا مما يتعلق بالذات و الصفات و الأفعال في الإلهيات و مما يتعلق بأجناس الممكنات و أشخاصها جملة تفصيلا، و هذه الأنوار التي كانت لآدم خلقا حين علم جميع الأسماء، و تحقق بها حيث علم كيفية التأثير في الوجود بالأسماء كانت له بالتعليم أو بالوضع الإلهي لا بالتعليم بالاصطلاح المعتاد، و في ذلك تكون الفضيلة و الاختصاص، فقد أحضر الله تعالى أعيان المسميات، فقال تعالى: "فقال أنبئوني بأسْماءِ هؤُلاءِ إنْ كُنْتمْ صادِقين" [ البقرة: 31] .  
من جملة المسمّين أعيان الملائكة عليهم السلام فما عرفوها ذوقا، فإن علوم الأكابر ذوق، و الذوق إنما يكون عن تجلّ إلهيّ لا عن تعريف، و لا لهم هذا التجلي فلا لهم ذوقه .
فقالوا: "لا عِلْم لنا" فعلم آدم الأسماء الإيجادية كلها، و أسند إلى نفسه إيجادهم بالأسماء التي هم مظاهرها، و التي أوجد بها الملائكة المتعرضين، و استندوا إليها، فافهم . 
إن هذا تعليم الأسماء المؤثرة في الكون، و هذا هو التعليم الإلهي الذي وقع في نفس الأمر لا ما يحتمل عقلا، و يمكن و هما كما هو المتبادر لإفهام القاصرين، و الفائدة إنما هي فيما وقع لا فيما يمكن، و هذا هو الفرق بين أهل الكشف مما يقولون، و بين أهل النظر و الفكر مما يتوهمون، فافهم . 
حتى نعلم رتبة الملك عن آدم، فإنه متأثر عن مؤثر، و لآدم رتبة الإيجاد عليها فافهم . 
و هذا حيث ألاح له لوائح القدم يعني: عطاء مرتبة الوجود ، و أخرجه غير حيطة الإمكان، فجعله خلافا للملائكة فافهم . 
في صفائح العدم، و رجع قهقري بالسبك، و الفك إلى البساطة بتحليل التركيب و فناء البناء و الرسم، و ذلك رجوع بالعرفان لا بذهاب العين و الاسم . 
و ما كلّ عين بالجمال  قريرة ..... و ما كلّ من نودي يجيب
إذا ( ما لم تكن الملائكة عليها ): أي على الأسماء الإلهية التي استند إليها المشار إليهم بهؤلاء في إيجادهم و أحكامهم، كأنه تعالى يقول توبيخا لهم و تقريرا: هل سبحتموني بهذه الأسماء، و قدّستموني بها؟
حيث ادعوا نحن نسبح بحمدك، و نقدّس لك . 
( فما سبحت ربها بها ): أي بالأسماء الإيجادية التي بها الإله إله، و بها يؤثر في الكون ( و لا قدسته عنها تقديس آدم و تسبيحه) لأنه سبحه كل إنسان و هو الدليل عليه بكل برهان، و المعلم بكل الأسماء .
قال تعالى: "وعلّم آدم الْأسْماء كُلّها" [ البقرة: 31] و من جملة الأسماء التي توجّهت لإيجاد الملائكة، و بيان ذلك التجلي في الأنوار الطبيعية المختصّة بآدم عليه السلام فهو التجلي الصوري المركب، فيعطي من المعارف بحسب ما ظهر فيه من الصور وهو يعمّ الملك والفلك وغيرها . 
قال رضي الله عنه: ومن هذا التجلي نعرف صلاة كل صورة وتسبيحها، وكل قد علم صلاته وتسبيحه، وهو كشف جليل . 
و من هنا يدرك أن كل  شيء يسبح بحمده تسبيحا ذاتيا و لكن على قدر علمه بنفسه، فينزه من كل ما هو عليه من الحوادث به أعني: الحوادث المختصّة به لا مطلقا . 
و لهذا السرّ يختلف تنزيه الحق و تسبيحه، و أن تسبيح آدم تسبيح عن التسبيح و تقديس عن التقديس كما حمد الله، و سبح نفسه . 
و قال: "ليس  كمِثلهِ شيْءٌ" [ الشورى: 11] نزه و شبه في تلك الآية . 
أشار إلى هذا المعنى ما ورد في الخبر في تفسير الآية: "و سبِّحْ بحمْدِ ربِّك" [ الطور: 48]:
أي قل: سبحان الله و الحمد لله إنه صلى الله عليه و سلم جعل التسبيح بالحمد بين تنزيه و تشبيه، فافهم هذه الإشارة، فإن هذا هو تسبيحه بحمده نفسه، فتسبيحه إياه تسبيحه . 
(فوصف الحق لنا ما جرى) للملائكة من المعارضة (لتقف عنده و تتعلم الأدب مع الله تعالى) . 
ورد في الأثر المأثور :  "السعيد من وعظ بغيره" 
قيل في المثل: إياك أعني و اسمعي يا جارة . 
بل كان هذا الخبر من الله من قبيل حفظ الصحة على آدم و بنيه قبل قيام العلة، فإنه من ألطف حفظ الصحة، و هو أن يحفظ المحل قبل أن يقوم به مرض و علة لأنه كان في الاستعداد قبول المرض . 
قال تعالى: "إنِّي أعِظك أنْ تكُون مِن الجاهِلين" [ هود: 46] . 
وذكر هذه الحكاية منه تعالى لنا من أتمّ المواعظ، وأعلى المنن والاغتناء لتكون من السعد الذين وعظوا بغيرهم . 
( فلا تدّعي ما نحن متحققون به) مع أن الدعوى له حق، و التحدي به صدق كخاتم النبوّة صلى الله عليه و سلم أنه علم علم الأولين و الآخرين . 
و مع هذا قال : "لا أدري ما يفعل بي و لا بكم". لا يدّعي العلم والكشف مع العلم والكشف . 
و هكذا الولاية المحمّدية فإنه خاتم الولاية، و لا يصرّح القول بدعواه و النص عليه أصلا . 
( و حاوون عليه بالتقييد ): أي فلا ندّعيه و هو مختص بنا، و نحن مشتملون عليه أما ترى أن للإنسان الكامل ظهورا في المرتبة، و مع هذا نصب عينيه حكم ليس لك من الأمر  شيء، بل إذا ظهرت عليه أحوال.
وصدرت منه آثار وأفعال يقول: هي لله تعالى الظاهر بأسمائه، فما لنا و الدعوى فنحن لا شيء في حال كوننا مظاهر له و في غير هذا المحال، فللعبد ترك الدعوى و التبري عنه أولى، و إن كان ترك الدعوى من الدعوى، و لكن التبري من الدعوى بالدعوى أليق و أحرى، و هذا كله لتعلم شؤم الدعوى و راحة تركها .
قال رضي الله عنه في "الفتوحات ": هذا المقام يسمّى راحة الأبد و القائم فيه مستريح و هذا الذي وفى الربوبية حقها لأن الحكم للمرتبة لا للعين . 
فالزهو و الدعوى من أين؟
كالسلطان المتحكّم في المملكة إنما هي المرتبة لا عين ذلك الإنسان، أما ترى حين عزل ما يؤّوّل إليه حاله، فالناصح نفسه لا ينخدع من نفسه، و يرى أن الحكيم وضع خلافته في الأرض . 
و قال:" إنِّي جاعِلٌ في الْأرضِ خلِيفةً" [ البقرة: 30] و لم يقل: في الأرض و السماء مع أنه هكذا، كما أنه في السماء إله، و في الأرض إله حتى لم يزل في مقام الذلة و العبودية في نفسه و لا تحجبه مرتبة الخلافة بالصفات التي أمدّه بها عن رتبة عبوديته، بل منهم من الأدباء الذين يجعلون بينهم و بين نعوت الحق تعالى عند التخلق بأسمائه ما وصف به الملأ الأعلى من تلك الصفة.
فيأخذونها من حيث هي صفة لعبيد من عباد الله مطهّرين، لا من حيث هي صفة للحق أدبا مع الله تعالى حتى لا يكونوا تخلقوا بأخلاق الله تعالى، فهم لا يرجعون من مقام العبودية ولا يجدون طعما للربوبية التي تستحقها هذه الأسماء .  
و هذا الذوق في العارفين عزيز و هو من شيم الأولياء الكرماء الأخفياء الأبرياء، و هذا هو التأسّي بسيد الخلق مع سيادته يقول :  "أنا عبد و أنا بشر مثلكم".
و أيّ أسوة أعظم من هذا التأسّي لمن عقل عن الله تعالى، رحم الله امرؤ عرف قدره و لم يتعدّ طوره، فطوبى لمن كان على صورة تقتضي له المنزلة من العلو و السيادة، و لم يؤثر فيه و لا أخرجته عن عبوديته .
كما قال سيد أرباب الآداب صلى الله عليه و سلم بالأمر الإلهي و التأديب الرباني: " إنما أنا بشرٌ مِثْـلكُمْ" [ الكهف: 110] .
فتلك عصمة و حظ أ وفر، حققنا الله و إياكم بهذا المقام المطلق و الحال المحقق بمنه و فضله الحق . 
( فكيف أن تطلق في الدعوى فتعمّ بها ما ليس لنا بحال و لا نحن منه على علم فنفتضح ): أي عند الله و بين أيدي عباده العالمين بحقائق الأمور، أما ترى الإنسان الكامل و إن وصفه الحق بما وصف به نفسه من جميع الوجوه يعلم أنه لا بد من فارق و ليس إلا افتقاره إليه في الوجود، و  توقف وجوده عليه لإمكانه و غناه . 
فبهذا الاتصاف صحّ له الاتصاف بالأدب و الاقتداء، و لم يفتضح عند كشف الغطاء، و لذلك إن الأكابر منهم لا يتحدثون إلا عن مواجيدهم كل ذلك خوفا من الفضيحة بعد الكشف . 
قال الله تعالى تأديبا لعباده:" فلم تحاجون فِيما ليْس لكُمْ بهِ عِلْمٌ و اللّهُ يعْلمُ و أنْـتمْ لا تعْلمُون" [ آل عمران: 66] رفع عنهم رأسا . 
و قال تعالى: "فلا تمارِ فيهِمْ إلّا مِراءً ظاهِرًاً ولا تسْتفْتِ فِيهِمْ مِنْـهُمْ أحداً " [ الكهف: 22] . 
فالناصح نفسه اللبيب الأديب ينبغي أن يقف مع الله، و يترصّد أعلامه تعالى، فإن كان من أرباب التجلي فيترقب التجليات الإلهية بواسطة أو بغير واسطة لأن طرق العلم انحصرت بهذه المراتب حتى لا يفتضح حيث افتضح غيره و يلتحق بالسعداء الذين وعظوا بغيرهم .


قال الشيخ المصنف رضي الله عنه :  [ فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء .  ثم نرجع إلى الحكمة فنقول: اعلم أن الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة- لا تزال- عن الوجود العيني. ولها الحكم والأثر في كل ما له وجود عيني، بل هو عينها لا غيرها أعني أعيان الموجودات العينية، ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها.] . 
قال الشارح رضي الله عنه:
( فهذا التعريف الإلهي ): أي الذي عرفنا اللّ ه مما وقع من الملائكة .
و قد حكاه الله تعالى لنا حكاية و تعريفا و تأديبا مما أدّب الحق به عباده الأدباء .
( الأدب) مشتق من المأدبة و هو الاجتماع على الطعام كذلك الأدب عبارة عن جماع الخير كله . 
قال صلى الله عليه و سلم :  "إن الله أدّبني" : أي جمع فيّ جميع الخيرات لأنه قال : "فأحسن تأديبي" .
أحسن ما جمع الإنسان العلم بالله مأدبة، و الأدب بابها فمن حرم عن الباب أيس من الدخول عليها، فلا تدخلوا البيوت:
أي العلوم مثل قوله: أنا مدينة العلم إلا من أبوابها، و هي التخلق بأسماء الحق، و الوقوف على ما تقتضيه عبوديته و إن يوفى ما يستحقّه مرتبة سيده من امتثال أوامره . 
ورد في الخبر : "إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ".الحديث رواه ابن مسعود رضي الله عنه . 
فهذه المحاسن كلها كانت مجموعة فيه رضي الله عنه أحسن جماع، وبهذا ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "خلقه القرآن"
( الأمناء الخلفاء ): أي أمناء الأمانة و خلفاء الرتبة . 
قال صلى الله عليه و سلم : "إن لله أمناء" .
و قال في أبي عبيدة بن الجرّاح : "إنه أمين هذه الأمة"  .
قال رضي الله عنه: طائفة من الملامتية لا يكون الأمناء من غيرهم وهم أكابرهم فلا يعرف  
ما عندهم من الأحوال بجريهم مع الخلق بحكم العوائد، و الوقوف عند ما أمر الله به و نهى على جهة الفريضة .
و الخضر عليه السلام من الأمناء و لما عرض الله الأمانة على الإنسان و قبلها كان بحكم الأصل ظلوما جهولا، فإنه خوطب بحملها عرضا لا أمرا . 
فإن حملها جبرا كان أعين عليها مثل الأمناء، فإنهم حملوها جبرا لا عرضا، فإنهم حماهم الكشف فلا يقدرون أن يجهلوا ما علموا، و لم يريدوا أن يتميزوا عن الخلق لأنه ما قيل لهم في ذلك أظهروا شيئا منه و إلا لا تظهروه، فوقفوا على هذا الحد، فسمّوا أمناء . 
و يزيدون على سائر الطبقات بأنهم لا يعرف بعضهم بعضا بما عنده، فكل واحد منهم يتخيل في صاحبه أنه من عامة المؤمنين، و هذا ليس إلا لهذه الطائفة من الأمة خاصة هكذا ذكره رضي الله عنه في "الفتوحات" . 
( ثم نرجع إلى الحكمة و نقول) لما وقعت حكاية الملائكة جملة معترضة في بيان الحكمة التي كان رضي الله عنه بصدد بيانها، و انقطعت فرجع لتكميل بيانها، و يريد التمثيل المضروب للحقائق الكلية التي اتصف بها الحق و الخلق بها . 
فهي للحق أسماء و للخلق صفات، و هي على أصلها في المعقولية ما برحت و لا تقوم الصورة إلا في هذا المعقول، فافهم . 
( اعلم أن الأمور الكلية و إن لم يكن لها وجود في عينها ): أي من حيث أنها كلية طبيعية ليس لها وجود مستقل في الخارج، فهي معقولة بلا شك في الذهن كالعلم والحياة فإنهما معلومان فهي باطنة من حيث هي كلية . 
( لا تزول عن الوجود العيني) بالعين المهملة، و قرئ لا تزال معلوما أو مجهولا يعني: أن الأمور الكلية المطلقة، و لو لم يكن لها وجود من حيث إطلاقها و كليتها في الخارج و لكن لا تنفك عنه إذ وجودها في ضمن أفرادها، فإن الوجود الكلي الطبيعي في ضمن الأفراد كالعلم والحياة مثالهما وجود عيني باطني في العقل، و لهما وجود عيني ظاهري في الخارج . 
( و لها الحكم و الأثر في كل ما له وجود عيني ): أي الأمور الكلية المعقولة التي لا عين لها في الوجود العيني الخارجي لها الحكم و الأثر، فصار الحاكم و المؤثر أمورا عدمية معقولة ما لها عين في الخارج فعلى الحقيقة لا أثر لموجود في موجود، إنما الأثر للمعدوم في الموجود، ويظهر ذلك في أحكام المراتب كمرتبة السلطنة و مرتبة   السوقة بما يريد لمرتبة السلطنة، و ليس للسلطنة وجود بل هي مرتبة المراتب . 
و العاقل يرى و يعلم أن المتحكّم في المملكة إنما هي المرتبة لا عينه إذ لو كان لكونه إنسانا فلا فرق بينه و بين سائر الأناسي، و المرتبة كانت ما كانت أمر اعتباري لا عين لها في الوجود، فافهم : 
و الجمع حال لا وجود لعينه .....     و له التحكم ليس للآحاد
و هذه المسألة مضى لها ذكرا سابقا: إن كنت مفيقا، فهذه الأمور الكلية حاكمة على الطبائع التي تعرض لها بأن يقال لها أنها حية ذات علم و إرادة و قدرة و ترتب عليها ما يلزمها من الأفعال و الآثار التابعة لها، بل هو عينها ضمير هو يرجع إلى كل، و ضمير عينها إلى الأمور الكلية فهو إضراب و له الحكم في كل موجود . 
( بل هو عينها ): أي كل ما له  وجود عيني في الخارج هو عين الأمور الكلية و ليس بأمرين، بل أمر واحد و له اعتبار عند العقل و اعتبار في الخارج . 
مثلا تحلل الجامد، و تغيرت الصورة فتغير الاسم فتغير الحكم، فلمّا رجع جامدا رجعت الصورة في الحال، و الحال كالحال فنزلت الأحكام تخاطب الأعيان بما هي عليه من الصور و الأحوال و الأسماء، فالعين واحدة و الصور مختلفة الأحوال باختلاف الصور، فافهم .
هكذا الأمر في جميع الصور كانت ما كانت لا غيرها: أي الأمور الكلية المعقولة . 
( أعني ): أي أريد بكل ما له وجود عيني أعيان الموجودات العينية الخارجية و ذلك لأن الكلي الطبيعي عين جزئياته في الخارج، فإن الحقيقة الواحدة ظهرت بالصورة و الشخص، و هما أمران نسبيان عدميان ليس لهما وجود في الخارج، فما ظهرت الحقيقة الكلية الواحدة إلا بإطلاقها فهم من فهم، و أنكر من أنكر . 

( و لم تزل عن كونها معقولا في نفسها ): أي لم تزل تلك الأمور الكلية في كلمتها في البطون من حيث معقوليتها، و ما ظهرت لأنها مراتب و المراتب لم تتنزل عن مقامها أبدا . 



قال الشيخ رضي الله عنه :  [ فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتها .  فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل، ولا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به عن أن تكون معقولة.وسواء كان ذلك الوجود العيني مؤقتا أو غير مؤقت، نسبة المؤقت وغير المؤقت إلى هذا الأمر الكلي المعقول نسبة واحدة. ] . 
قال الشارح  رضي الله عنه: 
( فهي الظاهرة ): أي تلك الأمور الكلية من حيث أعيان الموجودات العينية الخارجية . 
( كما هي الباطنة من حيث معقوليتها) و كليتها . 
( فاستناد كل موجود عيني خارجي لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل ): و هذه الحقيقة لا تزال معقولة أبدا لا يقدر العقل على إنكارها، و لا يزال حكمها موجودا ظاهرا في كل موجود .
( و لا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به أن تكون معقولة ): لأنها مراتب و المراتب لا تزول عن مراتبها، و لا تتنزّل عن مقامها، فهذه الحقيقة الكلية جامعة للأضداد لها، و الظهور و البطون موجودة معدومة .
فكل موجود لها صورة فيه و لا صورة في ذاتها، فحكمها ليس سوى ذاتها و ذلك الحكم من آياتها تجتمع الأضداد في وصفها، فنفيها في عين إثباتها .
و هكذا الأمر في الإلهيات، فإن صورة العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا و هو تعالى جامع الأضداد بل عينها .
""أضاف الجامع يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي:
الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة - لا تزال - عن الوجود العيني ولها الحكم والأثر في كل ما له وجود عيني، بل هو عينها لا غيرها أعني أعيان الموجودات العينية، ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها. فهذه الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتها. فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل، ولا يمكن وجودها في العين … غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، كنسبة العلم إلى العالم …
هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم، كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني، فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزيء فإن ذلك محال عليها، فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص من هذا النوع الخاص، لم تتفصل، ولم تتعدد بتعدد الأشخاص، ولا برحت معقولة.أهـ ""
ذكر رضي الله عنه في "الفتوحات" عن تاج الدين الأخلاطي أنه قال حين سمع منه كلام الخراز قدّس سره أنه قال: عرفت الله بجمع الأضداد إنه يوهم كلامه أن ثمة عينا تجمع الأضداد و ليس كذلك، بل هي عين الضدين لا عين زائدة فما ثم إلا هذا فافهم .
و لمّا كان هذا الأمر الكلي المعقول لا يقيد الزمان، بل الزمان و الأزمان عنده أسوة و لا يتقيد به، أراد رضي الله عنه أن نسبته إلى الموجودات نسبة واحدة .
قال الله تعالى"و ما أمْرنا إلّا واحِدةٌ كلمْحٍ بالبصر "ِ [ القمر: 50] .
فقال: (و سواء كان ذلك الموجود العيني مؤقتا ): أي زمانيا كعالم الخلق و الشهادة، أو (غير مؤقت ): أي غير زماني كعالم الأمر و الغيب .
( نسبة  المؤقت إلى هذا الأمر الكلي المعقول نسبة واحدة) باستناد واحد، و لا يختص هذا التأثير ببعض دون بعض، بل  كلهم سواء في قبول التأثير من هذا المؤثر الكلي العقلي، و اقترانه بالزمان، و عدم اقترانه لا يتأثر فيه و ذلك لعدم تقيده:
أي الأمر بالزمان فإنه من عالم الأمر، فافهم .


قال المصنف رضي الله عنه :
[ غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، كنسبة العلم إلى العالم و الحياة إلى الحي . فالحياة حقيقة معقولة و العلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة كما أن الحياة متميزة عنه، ثم نقول في الحق تعالى: إن له حياة و علما فهو الحي العالم و نقول في الملك : إن له حياة و علما فهو الحي العالم و نقول في الإنسان: إن له حياة و علما فهو الحي العالم] .
قال الشارح رضي الله عنه: 
فلمّا أراد رضي الله عنه أن يبين كمال الارتباط بين  المعدومات و الموجودات حتى يثبت ذلك الارتباط بالملازمة بين الموجودات، فأثبت أولا ربطا قويا و هو التأثير من هذا الأمر الكل العدم على الموجودات العينية بأسرها، و أراد أن يذكر تأثيرا آخر، و ربطا آخر محدث من جهة الموجودات الخارجية فكما تكون الحقائق العقلية مؤثرة  كذلك تكون متوترة من جهة الأعيان الخارجية مبالغة لبيان الارتباط و اهتماما به، فإن الارتباط من الجانبين ما هو كالارتباط من جانب واحد، فأخذ على صورة المبالغة كما قيل في شعر :
و لا عيب فيهم غير  ....    أنّ  بهن فلول من قراع
يعني: و إن كان التأثير من الحقائق العقلية ثابتة، و الرابطة حاصلة، غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه حكم: أي أثر تتأثر به الحقائق الكلية من الموجودات العينية كنسبة العلم إلى العالم، و الحياة إلى الحي.
فكل منهما: أي من الأمر الكلي العيني و الموجود العيني كان ما كان مؤثر و متأثر و فاعل و منفعل، فافهم مراده و إشارته و ضرب مثاله رضي الله عنه سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، فافهم و لا تكن الغليظ القدم، ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون، بل لله المكر جميعا .
فالغافل المؤمن الناصح نفسه إذا سمع ممن يقول عن الله تعالى أو عن رسوله ينصت، و يصغي، و يتأدّب، و يتفهّ م .
قال تعالى: "و إذا قرئ القُرْآنُ فاسْتمِعوا لهُ و أنصِتوا لعلّكُمْ تُـرحمُون" [ الأعراف: 204] فأوقع الترجي مع هذه الصفة و كيف حال من خاصم، و عاند و رفع صوته .
قال تعالى: "إنّ أنكر الْأصْواتِ لصوْتُ الحمِيرِ" [ لقمان: 19] فالعاقل الناصح نفسه من ترك ما عنده لما جاءه من عند الله تعالى، فافهم .
فقد نبهتك على علم عظيم من لطائف إشارات الشيخ و ضرب أمثاله تشكرني عند الله و عنده رضي الله عنه: إني أرجو أن أكون من مفصّلي الألغاز بفهم إشاراته التي لا تجدها في كتب المؤلفين، و هذا كله قطرة من بحر كراماته و نقطة من فتوحاته، فما للمحبين المؤمنين إلا الفهم فيه من الله تعالى و هو الوحي الإلهي الذي أبقاه الحق لنا وراء حجاب الإيمان، فافهم .
قال تعالى: "و قلْ ر ب زدْني عِلْماً" [ طه: 114]، "و أمّا بنعْمةِ ربِّك فحدثْ" [ الضحى: 11] .
فإنه شكر تلك النعمة، و بالشكر تزيد النعم، فالحياة حقيقة معقولة كلية مؤثرة في الحي كان من كان، و العلم حقيقة معقولة  كلية مؤثرة في العالم كان من كان فافهم .
( متميزة من الحياة كما هي الحياة متميزة عنه) و كل منهما متميز عن الآخر في مرتبة التفضيل، ثم تقول عند ظهورهما في الخارج في الحق تعالى أن له علما و حياة فهو الحي العالم.
( و نقول في الملك) بضم الميم و هو بمعنى: العالم أن له حياة و علما، فهو الحي العالم، فذكر رضي الله عنه الملك في مقابلة الحق تعالى، فافهم .
( و نقول في الإنسان أن له حياة و علما فهو الحي العالم) جعل رضي الله عنه التقسيم على ذوقه رضي الله عنه حين أعرضت الشرّاح كلهم عينها و ما أتى على من أتى إلا بتصحيف الملك بالضم بالملك بالفتح، و يدل على هذا سوقهم أحكام الملك على مساق الإنسان، و قولهم: إن الحياة و العلم فيهما حادثان و ليس عينهما، فافهم .
فإذا عرفت هذا فتقول: إن العلم و الحياة و جميع الحقائق الموجودة في الخارج لها مع الذات ثلاثة أحوال :
إمّا العينية كما في الإلهيات،
و إمّا الغيرية كما في العالم و الملك،
و إمّا إلا غير و لا غير لأنه عين و غير من جميع الأضداد، بل هو عين الأضداد .
كما في الإنسان الكامل الخليفة الذي بالوجود حادث أزلي لأنه برزخ جميع الطرفين، و حاز الحدوث و القدم في الوجودين، و هكذا في العلم و الحياة لأنه جامع الأضداد .
كما قال الخراز قدّس سره"عرفت الله بجمع الأضداد" . يشير إلى التحقيق بهذه المرتبة، و هذا صفة من لا صفة له .
فإن قلت فيه: إنه حادث صدقت، و إن قلت: قديم صدقت يقبل الأضداد لأنه عين مجموع الأضداد.
و بهذه البرزخية فاز بالكل من بين العالم، و لا يقال: إنه حق مطلق لحدوثه، و لا يقال: إنه ملك و عالم لقدمه الذاتي و فوزه بالفناء الحقيقي و الوجود الدائم الأبدي .

وهذا النعت ليس لغير الإنسان الكامل، و هكذا الأمر فيه في جميع أسمائه و صفاته، فافهم .


قال المصنف رضي الله عنه : [ و حقيقة العلم واحدة، و حقيقة الحياة واحدة، و نسبتها إلى العالم و الحي نسبة واحدة، و نقول في علم الحق: إنه قديم، و في علم الإنسان: إنه محدث فانظر . ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة . وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات و الموجودات العينية ] . 
قال الشارح رضي الله عنه : ( و حقيقة العلم واحدة، و حقيقة الحياة واحدة) .
قال تعالى: "ألمْ تر أنّ اللّه أنزل مِن السّماءِ ماءً فأخْرجْنا بهِ ثمراتٍ مُخْتلِفاً ألوانها" [ فاطر: 27] .
و الماء واحد و ثمراته مختلفة باختلاف البقاع و الأشجار، و هذا مثل مضروب في أن الأمر واحد، و الاختلاف من القوابل و ذلك لعدم التكرار في التجلي، بل التجلي وحداني، و الكثرة من القوابل فالقوابل مؤثرات في الحقيقة الواحدة الكلية، هذا مر و هذا حلو، و هذا ثفه وهذا حريف، فافهم .
ومن حاد عن هذه الجادة حاد بإلحاد عن العلم الحقيقي، و ندم .
( و نسبتهما ): أي نسبة حقيقة العلم، و حقيقة الحياة إلى العالم الحي نسبة واحدة و تقول مع المساواة في النسب والإضافات في علم الحق سبحانه : إنه قديم، وفي علم الإنسان الكبير محدث.
وهكذا في الإنسان الصغير حادث أزلي قديم كما قررناه، و فيه تفنن في العبارة أنه ما جعل رضي الله عنه ثلثا مثل الأول لأن تقرير القسم الثالث فيه إشكال تام، و هو رضي الله عنه أراد مجرد التمثيل حتى يقبله كل أحد، و قد ظهر بهذا القدر فاكتفى بالوجهين و هو مثل 
قولك في الوجود: إذا نسبته إلى الحق قلت: قديما، و إذا نسبته إلى العالم قلت: محدثا، و إذا نسبت إلى الإنسان الكامل الخليفة قلت: حادثا أزليا .
و كذلك من حيث هو وصف للحق هو وصف إلهيّ، و من حيث هو وصف كونيّ هو وصف كيانيّ .
( فانظر ما أحدثته الإضافة) من الحكم و التأثير (في هذه الحقيقة المعقولة) :
فكل منهما: أي من الحقيقة الكلية التي قامت منهما مؤثرة من جهة، و متأثر من جهة بالتأثيرات المختلفة كالرأي في المرآة بتأثير المرآة من الوجه بوجه الانتقاش و الانعكاس فيها، و يتأثر الوجه منها بوجه إراءته الاستطالة، و الاستدارة التي ليست في الوجه فهما مؤثران و متأثران جميعا، فافهم .
و من مسائل النظر و الفكر أنه إذا ضربت قارورتين واحدا على واحد، فينكسر الاثنان بضربة واحدة، يلزم اجتماع التأثير و التأثر في آن واحد و بحثية واحدة، فحصل جميع النقيضين .
( وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات) الصرفة العدمية الاعتبارية المحضة (و الموجودات العينية) الخارجية.
""عن الموجودات العينية يقول الشيخ عبد الغني النابلسي الوجود العيني: هو تعين المعلومات في العلم قبل بروزها للوجود العيني. أهـ
ويقول كمال الدين القاشاني  مرآة الكون : يشيرون بها إلى وحدة الوجود العيني ، من حيث كونه مضافا ، فإنه هو المرآة لكثرة الحقائق الكونية ، ولكونها إنما تظهر به - أعني : بشعاع الوجود الوحداني المفاض - فكان هو المرآة لها ، فلهذا صارت تلك الكثرة المنطبعة في هذه المرآة ظاهرة ووجه المرآة مخفيا . أهـ "".


قال الشيخ المصنف رضي الله عنه :  [فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه إنه عالم، حكم الموصوف به على العلم بأنه حادث في حق الحادث، و قديم في حق القديم، فصار كل واحد محكوما به و محكوما عليه . و معلوم أن هذه الأمور الكلية و إن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني ] .
قال الشارح رضي الله عنه :
فكما حكم العلم على من قام به أنه يقال فيه: عالم من حيث الحقيقة الكلية حكمة الموصوف به على العالم الموجود الجزئي الخارجي بأنه حادث في حق الحادث، قديم في حق القديم، و حادث في حق الحادث القديم، فصار كل واحد من الأمر الكلي و الوجود الجزئي
(محكوما به و محكوما عليه )، فصار الأمر الكلي محكوما به باعتبار و محكوما عليه باعتبار آخر .
( و معلوم أن هذه الأمور الكلية و إن كانت معقولة فإنها معدومة العين) في الخارج (موجودة الحكم كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني) .
"" إضافة الجامع : في خصائص الأمور الكلية يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي:
الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة - لا تزال - عن الوجود العيني ولها الحكم والأثر في كل ما له وجود عيني، بل هو عينها لا غيرها أعني أعيان الموجودات العينية، ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها.
فهذه الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتها. 
فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل، ولا يمكن وجودها في العين … 
غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، كنسبة العلم إلى العالم …
هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم، كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني، فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزيء فإن ذلك محال عليها، فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص من هذا النوع الخاص، لم تتفصل، ولم تتعدد بتعدد الأشخاص، ولا برحت معقولة ".
يقول الشيخ بالي زادة أفندي: 
الأمور الكلية: أي الصفات المشتركة بين الحق والعبد التي يتحقق الارتباط بها بينهما وإن لم يكن لها وجود في عينها ".

يقول الشيخ صدر الدين القونوي
" إن الأمر الكلي ينقسم إلى ثلاث أقسام:
قسم يختص به الحق.
وقسم ينفرد به الكون.
وقسم يقع فيه الاشتراك في المقام النفسي العمائي، الذي هو السر الجامع المشار إليه ".  

* وعن العلم بالحقائق  والصور والأمهات يقول الشيخ الأكبر في الفتوحات في الباب الثاني  :
فإن الحقائق على قسمين :
1 - حقائق توجد مفردات في العقل كالحياة والعلم والنطق والحس
2 - وحقائق توجد بوجود التركيب كالسماء والعالم والإنسان والحجر .
فإن قلت فما السبب الذي جمع هذه الأمهات المتنافرة حتى ظهر من امتزاجها ما ظهر فهنا سر عجيب ومركب صعب يحرم كشفه لأنه لا يطاق حمله .
لأن العقل لا يعقله ولكن الكشف يشهده فلنسكت عنه وربما نشير إليه من بعيد في مواضع من كتابي هذا يتفطن إليه الباحث اللبيب .
ولكن أقول أراد المختار سبحانه أن يؤلفها لما سبق في علمه خلق العالم وإنها أصل أكثره أو أصله إن شئت فألفها ولم تكن موجودة في أعيانها ولكن أوجدها مؤلفة لم يوجدها مفردة ثم جمعها فإن حقائقها تأبى ذلك .
فأوجد الصورة التي هي عبارة عن تأليف حقيقتين من هذه الحقائق.
فصارت كأنها كانت موجودة متفرقة ثم ألفت فظهرت للتأليف حقيقة لم تكن في وقت الافتراق فالحقائق تعطي أن هذه الأمهات لم يكن لها وجود في عينها البتة قبل وجود الصور المركبة عنها.
فلما أوجد هذه الصور التي هي الماء والنار والهواء والأرض وجعلها سبحانه يستحيل بعضها إلى بعض . فيعود النار هواء والهواء نارا كما تقلب التاء طاء والسين صادا لأن الفلك الذي وجدت عنه الأمهات الأول عنها وجدت هذه الحروف.أهـ. ""



فقال الشيخ رضي الله عنه : ( فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة و لا تقبل التفصيل و لا التجزئ فإن ذلك محال عليها . فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص لم تنفصل و لم تتعدد بتعدد الأشخاص، و لا برحت معقولة .)
قال الشارح  رضي الله عنه : 
فتقبل الحكم و الأثر ( في الأعيان الموجودة ): أي تقبل هذه الأمور الكلية الأثر في ظهوره في الخارج في الأعيان الظاهرة .
( ولا تقبل التفصيل و التجزئ ): أي مع ظهورها في الأعيان الخارجية لا تقبل ذلك .
فإن ذلك محال عليها فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص لم يتفصّل، و لم تتعدد بتعدد الأشخاص.
(و لا برحت معقولة) لأنها مراتب و المراتب ما تنتقل و لا تزال عن مراتبها .
ومثال هذا الأمر الكلي في الحس كالبياض و السواد في كل أسود، و كذلك الإشكال و هو على حقيقته من المعقولية، و الذي وقع عليه الحس إنما هو المتلوّن و المتشكّل، هذا مثل مضروب للحقائق الكلية التي اتّصف الحق بها و الخلق بها فهي للحق اسما، و للخلق أكوان وأوصاف.
وكما قال الشيخ الأكبر في الفتوحات  الباب الثاني: "إذا نسبت إلى الموجود العيني، فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزيء فإن ذلك محال عليها، فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص من هذا النوع الخاص، لم تتفصل، ولم تتعدد بتعدد الأشخاص، ولا برحت معقولة "
فلمّا أثبت رضي الله عنه الروابط الموجودة المشهودة بين المعدومات والموجودات التي هي من أقوى الارتباطات لأنها من الجانبين بوجهين مختلفين، فإنها أربط وأضبط، فيريد أن يذكر على سبيل الملازمة، فإنها أتم في المبالغة حصول الارتباط الواقع بين الموجودات بأتمّ ما يكون في العالم حتى يبني عليه أحكام الإلهيات بملازمة الملازمة .

قال الشيخ رضي الله عنه : [و إذا كان الارتباط بين من له وجود عيني و بين من ليس له وجود عيني قد ثبت، و هي نسب عدمية، فارتباط الموجودات، بعضها ببعض أقرب أن يعقل لنه على كل حال بينها جامع وهو الوجود العيني. وهناك فما ثم جامع وقد وجد الارتباط بعدم الجامع، فبالجامع أقوى وأحق.]
( و إذا كان الارتباط بين من له وجود عيني و بين من ليس له وجود عيني قد ثبت) كما ذكره، يعني: إذا ارتبط النقيضان و هما الوجود و العدم بالقابلة، فارتباط الموجودات أقرب بالفهم و الإدراك، و ما ثم إلا ارتباط و التفاف .
قال تعالى: "والتفّ تِ السّاقُ بالسّاقِ" [ القيامة: 29]: أي أمرنا بأمره، و انعقد فلا ينحل عن عقده أبدا، و هي نسب عدمية، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنه الضمير للشأن .
( على كل حال بينهما ): أي بين الموجودين المرتبطين جامع و هو الوجود العيني و هناك: أي المعدومات و الموجودات .
( فما ثمة جامع ): أي جامع وجودي، وإلا فالجامع الثبوتي كما في الأعيان الثابتة ثابت ولا بد.
كما سترى قوله رضي الله عنه أقوى بصيغة أفعل التفضيل و أحق، فإنه جعله في مقابلة القوي الحق، فكأنه رضي الله عنه ما اعتبره: أي الجامع الثبوتي .
( وقد وجد الارتباط بعدم الجامع) الوجودي  (فبالجامع) الوجودي (أقوى و أحق)، فالارتباط ثابت في الموجودات كانت ما  كانت.

قال الشيخ رضي الله عنه :
[و لا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه و افتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه فوجوده من غيره، فهو مرتبط به ارتباط افتقار، و لا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر، و هو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فأنتسب إليه،]
قال الشارح  رضي الله عنه :
( ولا شك) لما  فرع رضي الله عنه عن التوطية و التمثيل، أراد أن يذكر الارتباط الحقيقي الواقع بين العالم و الحق، و هو لمناسبة لولاها لم يلتئم، و لم يظهر له وجود، و لم يكن له ظهور أصلا .
و لهذه المناسبة لم كان العلم من العالم على صورة المعلوم، و خرج المعلوم للزوم المطابقة بينهما لأن العلم تابع المعلوم على صورة العلم حيث العلم عين الذات في مرتبة وحدة العالم و المعلوم و العلم، و إن لم يكن كذلك فمن أين يقع التعلق و الارتباط؟
فلا تصح المنافرة من جميع الوجوه أصلا، فلا بد أن تتداخل الأمور الموجودة للارتباط الذاتي الذي في الوجود بين الأشياء كلها .
فافهم ما أشرت به إليك في هذا الارتباط، فإنه يبنى على أمر عظيم إن لم تتحققه زلت بك قدم الغرور في مهواة من التلف .
فإنه من هنا يعرف ما معنى قول من قال بحدوث العالم، و من قال بقدمه مع الإجماع بأنه ممكن، وأن كل جزء منه حادث، بل هو بجملته و أجزائه في خلق جديد، فلو لا الارتباط ما صحّ هذا أصلا، فكل حقيقة لها حكم في العالم ليس للأخرى، فنسبة العالم إلى حقيقة العلم غير نسبته إلى حقيقة القدرة، فالمعلوم غير نسبته إلى حقيقة القدرة، فالمعلوم غير المقدور .
فإذا نظرته بعين الغنى والعزة قلت: لا مناسبة بين الله تعالى و بين عباده، أين التراب، و رب الأرباب؟ .
وإذا نظرت بعين الارتباط و الاحتياج أثبت النسبة بين الله و بين العالم، فإنها موجودة في جميع الموجودات كالمربوب بالرب، و المالوه بالإله فإنهما من ألفاظ التضايف .
و ذلك لأن للحق حكمين الحكم الواحد ما له من حيث هويته إلا رفع المناسبة بينه و بين عباده، و الحكم الأخر هو الذي به صحّت الربوبية الموجبة للمناسبة بينه و بين خلقه، و بها أثر في العالم الوجود، و بها تأثر بما يحدث في العالم من الأحوال، و أين أنت عن واثق العرى و أقوى الروابط؟! .
و إذا نظرت بعين الارتباط و الاحتياج أثبت النسبة بين الله و بين العالم، فإنها موجودة في جميع الموجودات كالمربوب بالرب.
و المالوه بالإله فإنهما من ألفاظ التضايف و ذلك لأن للحق حكمين الحكم الواحد ما له من حيث هويته إلا رفع المناسبة بينه و بين عباده، و الحكم الأخر هو الذي به صحّت الربوبية الموجبة للمناسبة بينه و بين خلقه، و بها أثر في العالم الوجود، و بها تأثر بما يحدث في العالم من الأحوال، و أين أنت عن واثق العرى و أقوى الروابط؟! .
قال تعالى: "يحِّبـهُمْ و يحِبُّونهُ" [ المائدة: 54] .
هل يمكن الرابط الوثيقة أقوى من المحبة من الجانبين، وأيضا أن الحق هو الوجود والأشياء صور الوجود، فارتبط الأمر ارتباط المادة بالصورة، فلمّا كان الارتباط بين الأمر من مقتضى الجهتين فعلمنا أن كل واحد من الأمرين مرتبط بالآخر بارتباط حي الذي قائم بكل من الحق و الخلق .
قال تعالى : "أحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لأعرف" فكل واحد من المعارف و المعروف طالب و مطلوب .
ومن أغرب الغرائب أن الحق محبّ محبوب، و العبد محبوب محب، و من شأن المحبوب أن يبتلي و يتحكّم .
قال تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ "(249) سورة البقرة.
و قال الله تعالى في حديث مشهور عن عبده: "وما ترددت كترددي في قبض نفس عبد يكره الموت"  الحديث رواه أحمد وأبو نعيم و الحكيم الترمذي. 
فالكل مبتلي هذا من مقتضى كمال الجمال و الحب، فافهم، و تكتم و على هذا يقتضي هذا الأصل الأصيل.
قلنا: لا يصح الوجود و الإيجاد أصلا إلا عن أصلين:
الأصل الواحد: الاقتدار و هو الذي يلي جانب الحق،
و الأصل الثاني: القبول و هو الذي يلي جانب الممكن، فلا استقلال من أحد الأصلين بالوجود ولا بالإيجاد أصلا فالأمر المستفيد ما استفاد الوجود إلا من نفسه بقبوله إياه، و ممن نفد فيه اقتداره وهو الحق، غير أنه لا يقول في نفسه: إنه موجد نفسه .
بل يقول: إن الله أوجده و الأمر على ما ذكرناه .
فما وصف الممكن نفسه بنسبة الإيجاد إليه أعطاه الظهور بالصورة جزاء لذلك و غيره منه تعالى، فافهم .
فإني ذكرت لك هاهنا أسرارا عجيبة غريبة هائلة خذها و لا تخف، فإنا لا نترجم إلا عمّا وقع من الأمر لا عمّا يمكن فيه عقلا أو وهما .
و الفائدة إنما هي وقع لا فيما يمكن، فافهم فالخفاء كالحقائق يعني لها عين في الخارج سواء لأن الأسماء إضافات و نسب، و الإضافات و النسب ما لها عين في الخارج، بل هي أمور عدمية .
و هكذا الأعيان الخارجية أحكامها، و هنّ غائبات العين ظاهرات الأحكام و الآثار، و لم يتبرجن تبرّج الجاهلية، و يبدين زينتها إلا لأهلها، فافهم .
هذا هو الواقع كما في الإلهيات كالعلم فإنه أمر نسبي، و آثاره و أحكامه ظاهرة في الخارج، فافهم. فإذا فهمت ما ذكرنا عرفت بلا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه فإذا ثبت حدوثه، ثبت افتقاره، و افتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه، فوجوده من غيره فهو مرتبط به ارتباط افتقار، و لا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته، غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر، فإذا ارتبط الأمران كما قلنا، فلا بد من جامع كما ذكرناه، وهو الرابع .
و ليس الاقتضاء ذاتي من كل واحد من الحق و الخلق، و لا محتاج إلى أمر وجودي زائد، فارتبطا لمناسبة نفسه لأنه ما ثمة إلا حق و خلق، فلا بد أن يكون كلاهما، و من الحال أن ينفرد واحد منهما، فإن المناسبة التي قررناها من الجانبين و مع هذه المناسبة و الارتباط فما هما مثلان، بل كل واحد مثلهما ليس كمثله شي ء فلا بد أن يتميز بأمر ليس في الآخر، و هو الافتقار و الغنى فلا افتقار موجب للميل، و قبول الحركة و الغنى ليس حكمه كذلك، فارتبطا بوجه .
قال تعالى: "يا أيُّها النّاسُ أنْـتمُ الفُقراءُ إلى اللّهِ واللّهُ هُو الغني الحمِيدُ" [ فاطر: 15] جمع الله وجه الافتراق في هذه الآية، فافهم .
( وهو ): أي المستند إليه الواجب  الوجود .
( الذي أعطي الوجود بذاته لهذا الحادث، فانتسب إليه ) أي واجبا بواجب الوجود لأن الذاتيات لا تتخلف عن ذواتها، و الأشياء إذا اقتضت الأمور لذواتها لا للوازمها و إعراضها لم يصح أن تتبدل ما دامت ذواتها .
و الذوات لها الدوام في نفسها لنفسها فالمقتضى الذاتي كذلك، فإني أدرجت لك في هذه العبارة إشارات لم يسعها أواني الألفاظ و ظروف الحروف، و أدرجت فيها معان غير واهية، و تعيها أذن واعية، فافهم .
فكما أن الواجب أعطاه الوجود وجوب الوجود، كذلك الممكن أعطي الظهور لأنه به ظهر فيه كان بصيرا، و كما كان لكل واحد من الأمور الكلية الخارجية حكم و أثر على الآخر كذلك هنا .
قال الله تعالى : "جعلت الصلاة بيني و بين عبدي" .
قال صلى الله عليه و سلم في ليلة المعراج : "إنه سمع صوتا قيل له: "قف إن ربك يصلي"  فالأمر من الطرفين .
قال تعالى: "كُلٌّ  قدْ علِم صلاتهُ و تسْبيحهُ" [ النور: 41] .
قال تعالى:" فاعْبدْني وأقمِ الصّلاة لذكْري" [ طه: 14] فأثر في العبد هذا الحكم، فعبد الله و أقام الصلاة، و لذلك قال العبد: اغفر لي واعف عني، فغفر له وعفا عنه. أما ترى أن العفو من أثر الدعاء .
قال تعالى"ادْعوني أسْتجِبْ لكُمْ " [ غافر: 60] وهذا تأثير رتبة العبد في سيده و إدلاله على مولاه، و التأثر قيام السيد بمصالح عبده ليبقى عليه حكم السيادة.
ومن لم يقم بمصالح عبده، فقد عزلته المرتبة فإن المراتب لها حكم التولية، و العزل بالذات لا بالجعل كانت لمن كانت، و هذا من تمام المعرفة الموضوعة في العلم بالله في هذا المقام .
وأيضا أن للجسم في الروح آثارا معقولة لما يعطيه من علوم الأذواق ما لم يمكن أن يعلمها إلا بالذوق، و أن الروح لها آثار في الأجسام محسوسة يشهدها كل حيوان من نفسه.

كذلك العالم مع الله تعالى فيه آثار ظاهرة، و هي ما يتقلب فيه العالم و ذلك من حكم اسمه الدّهر أنه حول قلب .
.
واتساب

No comments:

Post a Comment