Saturday, August 3, 2019

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي
كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الهودي

قال الشيخ رضي الله عنه :
(إن لله الصراط المستقيم ... ظاهر غير خفي في العموم
في كبير وصغير عينه ... وجهول بأمور وعليم
ولهذا وسعت رحمته ... كل شيء من حقير وعظيم
"ما من دابة إلا هو الجد بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" [هود: 56].
 فكل ماش فعلى صراط الرب المستقيم.
فهو غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ولا ضالون. فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي السابقة. )
أي: ما يتزين به ويكمل العلم اليقيني المتعلق بأحدية الربوبية والألوهية والذات ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى هود التي لغلبة أحدية الربوبية عليه في دعوته لقومه إذ قال لهم: "ما من دابة إلا هو الجد بناصيتها".
 أي: بدواعيها و خواطرها التي هي كالرقائق بينها وبينه؛ فهي مقبوضة له في حركاتها الاختيارية بحيث لا نختار شيئا إلا باختياره.
"" أضاف المحقق : أعلم أن الحكمة الهودية موصوفة بالأحدية الفعلية. شرح الجامي""
فأفعالها الاختيارية أفعاله تعالى فهو الفاعل الواحد في الكل ولا ظلم في ذلك، إذا عاقبها في أفعالها القبيحة لاستقامته في إفاضته عليها تلك الأفعال والدواعي؛ لأنها مقتضيات أعيانها الثابتة "إن ربي على صراط مستقيم" [هود:56].
فلا يقبح منه شيء من حيث الإيجاد، وإن أضر بالمحل، أو يغيره كما لا يقبح من الأمر قطع السارق وإن ضربه.
وهذه الأحدية في الأفعال تسوق إلى سائر وجوهها وقد فعله الشيخ رحمه الله؛ فلذا أطلق لسان هذه الاستقامة لتصح نسبة الكل إليه مع أنه لا ينسب إليه القبيح أصلا، فقال: (إن الله الصراط المستقيم) في مشيه على مقتضيات الأعيان (ظاهر) علينا بطريق الكشف (غير خفي في العموم) أي: عامة علمنا السنة بالكلية.
 إذ يقولون: لا يقبح نسبة الكفر والمعاصي بالإيجاد إليه، وإن كانت قبيحة بالنظر إلى محالها.
ثم أشار إلى تعليل ذلك بقوله: (في كبير وصغير عينه) أي: عين تجليه الواحد الصادر عن الواحد (وجهول بأمور وعليم)؛ فإن الصغر والجهل ليس من التجلي؛ بل من صغر المرآة وكدورتها بل هو نور غير متناه جامع للكمالات.
(وهذا) أي: ولكون عينه في الكل وهو نور غير متناه جامع للكمالات، (وسعت رحمته) فيضان وجوده الذي هو خير محض حاصل من ذلك النور الجامع مع الغير المتناهي.
(كل شيء من حقير وعظيم) والحقارة من نفس الشيء لا من التجلي؛ ولذا صدق في حقه: (ما من دابة إلا هو ، ایم بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) أي: لا ظلم من جهته، ولا تحل ولا قبح لإستقامة في مشيه على مقتضياتها بحسب نواصيها التي هي الرقائق الناشئة منها الواصلة إليه.
ثم استشعر سؤالا؛ فإنه كيف يحسن فيضان شیء على عين بحسب مقتضاها إذا كان من مقتضاها جهة القبح في ذلك المفاض من الضلال، الموجب للغضب عليه والعقاب، وهل هو إلا كبيع السيف من قاطع الطريق، وإعطاء المال للمسرف القمار المنفق في المعاصي.
بل أشد منه فأجاب بأنه لما كانت ناصيته بيد من هو على الصراط المستقيم في الإفاضة؛ كان هذا القابل على الصراط المستقيم؛ (فكل ماش) من مطيع أو عاص (فعلی صراط الرب المستقيم) في القبول من حيث يقبل عطاء ربه بعد اقتضائه منه، (فهو غير المغضوب عليهم من هذا الوجه) أي: قبول ذلك من الله تعالى.
(ولا ضالون) في هذا القبول، وإنما ضلوا باعتبار اتباعهم أهوائهم المفوتة عليهم ما لنوعهم من استعداد الجهة الحسنة النافعة لهم.
لو حصلت لهم وهي التي خلق ذلك النوع لأجلها لما فيها من كمال الحكمة، فكان الضلال عارضا لهؤلاء الأفراد من ذلك النوع بالنظر إلى الأفراد المتصفة بتلك الجهة الحسنة.
(فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض) من توقفه على ذلك الضلال، بحيث لولاه لم يتحقق أصلا ومع ذلك (المآل) أي: مرجع الغضب في أصل وجوده (إلى الرحمة)؛ لأنها (التي وسعت كل شيء) حتى نفس الغضب والعذاب فوجدا بالرحمة بهما، وإن لم يكونا رحمة على المغضوب عليه المعذب، وهي: أي: الرحمة (هي السابقة) على الغضب في قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «إن رحمتي سبقت غضبي» .رواه البخاري ومسلم واحمد وغيرهم.
هي الأصل اللاحق كل شيء ما لم يلحق به الغضب، فإن ألحق به وعارضه موجب الرحمة غلبت الرحمة أيضا، ولذلك يخرج من النار كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فإذا ألحق الغضب، ولم يعارض موجب الرحمة، كان الغضب كالسابق حينئذ.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكل ما سوى الحق دابة فإنه ذو روح. وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره. فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم، فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه.
إذا دان لك الخلق ... فقد دان لك الحق
و إن دان لك الحق ... فقد لا يتبع الخلق
فحقق قولنا فيه ... فقولي كله الحق
فما في الكون موجود ... تراه ما له نطق
وما خلق تراه العين ... إلا عينه حق
ولكن مودع فيه ... لهذا صوره حق )
ثم استشعر سؤالا بأن وحدة الفاعل لو صحت في الأفعال، فلا تصح في الحركات الطبيعية والقسرية من النباتات والجمادات وغيرهما.
فقال: (وكل ما سوى الحق) ذاته له اختیار في فعله، (فإنه ذو روح) إذ له قوة تختار الحركة إلى جهة خاصة.
ولا يقال: إن تلك الحركات من أنفسها بلا شعور؛ لأنه (ما ثمة) أي: في الحيوانات (من يدب بنفسه) عندكم مع ظهور الاختيار فيه؛ فكيف يتصور ذلك في عين المختار بزعمكم، (وإنما يدب) كل حيوان (بغيره)؛ لأن اختياره من الداعية التي هي من غيره دفعا للتسلسل فليست هذه الحركة من نفس المختار، بل من غيره مع بقاء اختياره.
و (فهو) أي: المختار (يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم)؛ فهو کمشي الشخص خلف آخر.
كما قيل في معنى القدر : إنه كوضع التلميذ الصبغ على ما رسمه الأستاذ بالأسرة، والحق تعالى، وإن لم يكن متحركا بالحركة الأينية لتنزهه عن المكان، فهو لكونه على الصراط المستقيم لا بد له من حركة، (فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي
عليه)؛ فإذا تعذر المشي المتعارف فلا بد من مشي معنوي.
هو الجري على مقتضيات الأعيان، فإذا كانت الحركات الاختيارية منه تعالی فغير الاختيارية، وهي الطبيعية والقسرية أولى بذلك.
أما الطبيعة فظاهر؛ لأن القوة المحركة له ناصية مقبوضة لله تعالى، وأما القسرية؛ فلأن الله تعالى هو الذي ظهر في ذلك المتحرك بصفة القبول.
فلذلك قيل: (إذا دان) أي: انقاد بالحركة القسرية (لك الخلق فقد دان لك الحق)؛ لأن حركته القسرية أيضا بتبعيته له حيث ظهر فيه بصفة القبول، وله هذه الصفة في غير المظاهر، كما قيل: (وإن دان لك الحق فقد لا يتبع الخلق).
 كما قال تعالى: "هو الذي يقبل التوبة عن عباده" [الشورى:25] وكذا قبول الطاعات وإجابة الدعوات والله تعالى فاعل مختار، فالكل حركة اختيارية له.
وكذا للمحل على ما تبين أنها فصدق أن الكل دابة ذو روح، فإذا تعارضت عليك أقوال المحجوبين، (فحقق قولنا فيه) أي: في أمرين كل ما سواه ذو روح، وإن حركاتها الطبيعية والقسرية عن اختيار وشعور.
(فقولي كله) أي م جميع وجوهه (الحق)؛ لأنه الموافق للكشف والظاهر القرآن.
 "وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم" [الإسراء:44] "قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ" [فصلت: 21].|
والحديث: "لا يسمع صوت المؤذن حجر، ولا شجر، ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة".
ومن جهة أدلة العقل، وهو أنه إنما خلق ما خلق ليعرف وإلا كان خلقه عبثا، فالكل عارف على ما تقرر في الفص الإسحاقي.
وقول المحجوب: إنما يوافق الحس الظاهر، وإذا كان كذلك، (فما في الكون موجود تراه ما له نطق) كما نطق به القرآن، فحركاتهم اختيارية عن شعور، إن كانت بتبعية الحق.
ثم أشار إلى أنه كيف لا يكون له نطق وله في الباطن جميع صفات الحق؛ وذلك لأنه (ما خلق) ما (تراه العين) الناظرة (إلا عينه) أي: ما يعاين منه (حق) أي: صورة حق فمقتضاه أن يظهر فيه جميع صفات الحق.
(لكن) الحق (مودع) أي: مختف (فيه هذا) أي: لأجل اختفاء الحق في صورة صح أن يقال له صورة.
 أي: (صورة حق) حق بضم الحاء جمع حقه لا يظهر للناظر إلى تلك الصور صفات الحق إلا بقدر استعدادات أعيانها، فتلك الصور الحقة الساترة لما جعل فيها؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة.
فإن الله تعالى يقول : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها.
فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد. فالهوية واحدة والجوارح مختلفة.
ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح، كالماء حقيقة واحدة مختلف في الطعم باختلاف البقاع، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه.
وهذه الحكمة من علم الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه: «ومن تحت أرجلهم». فإن الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه والمشي فيه، والسعي لا يكون إلا بالأرجل.
فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط
مستقيم إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق.
«فيسوق المجرمين» وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم- وهو عين الأهواء التي كانوا عليها- إلى جهنم، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه.
فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون.
فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة.
فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب.)
ثم أشار إلى أنه كما يختفي عند تجليه في الصور يختفي عند تجليه في المشاعر ولو من الكل الذين يقال لمشاعرهم كأنها عين الحق.
 فقال: (واعلم أن العلوم الإلهية) أي: المتعلقة بذاته وصفاته وأفعاله (الذوقية) فضلا عن علم الكلام (الحاصلة لأهل الله) فضلا عما يحصل للمرتاضين من غير أهل الملة كالإشراقين .
(مختلفة باختلاف القوى الحاصلة) تلك العلوم (منها مع كونها) أي: كون تلك العلوم (ترجع إلى) تجلي (عين واحدة) على تلك القوى بحيث صارت كأنها هي تلك العين.
فإن الله تعالى يقول فيما حکی عنه النبي : (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، (فذكر) للإشارة إلى رجوعها إلى عين واحدة .
(أن هويته) باعتبار تجلي أحدية الأفعال، كأنها (هي عين الجوارح التي هي عين العبد فالهوية) أي: هوية العبد (واحدة والجوارح مختلفة) كذلك هوية الحق واحدة وتجلياته للمتجلي له الواحد بل للكل واحدة، ولكن (لكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها).
وإن كان علم الأذواق كلها ليس من مقتضى الجارحة من حيث هي جارحة بل حصل له (من عين واحدة) تنورت تلك الجارحة بها لكنه (تختلف باختلاف الجوارح) مثل اختلاف العلوم الجزئية الحاصلة لتلك الجوارح إذ غاية ما أفاد التنور بنور الحق استعدادها للكليات.
ولم يرفع حقائقها المقتضية للاختلافات بالكلية، ولا يتعد هذا الاختلاف في العلم الذوقي الكشفي الواجب مطابقته للواقع؛ فإنه (کالماء حقيقة واحدة يختلف في الطعم باختلاف البقاع فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ما في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقة) التي هو بها ماء.
وإن اختلفت أسماؤه بالعذب الفرات تارة والملح الأجاج أخرى، حيث (اختلفت طعومه) لا عن اختلاف في الحقيقة بل باختلاف البقاع والعلم الكشفي، وإن وجب مطابقته لما في الواقع، فلا يخلو عن اختلاف فيه بحسب محل الكشف من قوى المكاشفين، واستعداداتهم مع مطابقة الكلي لما في الواقع.
ثم قال: (وهذه الحكمة) أي: الأحدية مطلقا، (من علم الأرجل) أي: المشار إليه بقوله: «ورجله التي يمشي بها»؛ لأنها تحصل بعد السير في سائر الأحوال والمقامات، وبها معرفة مشي الحق والخلق على الصراط، وعلم السمع والبصر واليد يتعلق بالمسموعات والمبصرات والتصرفات في العالم.
ثم استدل على أن المراد بالرجل العلم المذكور بما أشار إليه في التنزيل، (وهو قوله تعالی): "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم ټن تهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" [المائدة: 66].
فالإشارة في الأكل الموعود (لمن أقام كتبه) وهي موجبة لكشف العلوم وحصول الأطعمة الظاهرة، لا يتوقف عليها بقوله: (ومن تحت أرجلهم) إلى حصول علم الأحدية من حيث (إن) ما تحت الرجل إلا رجل، هو (الطريق الذي هو الصراط) المستقيم في قوله: "إن ربي على صراط مستقيم" [هود: 56].
وهذا الكل إنما يحصل بعد المشي والسعي فيه، فإن الطريق الذي هو الصراط المستقيم (هو للسلوك عليه) لقطع الأحوال والمقامات، والسلوك لا يكون إلا بالمشي أو السعي فيه، (والمشي فيه والسعي لا يكون إلا بالأرجل).
فهذا العلم لا يحصل إلا بالمشي والسعي فيه بالأرجل، والمشي الكسب والسعي الجذب، فمي هذا العلم علم الرجل الأرجل، وأشير إلى حصوله بالأكل من تحت الأرجل من حيث إنه غدا روحاني يحصل بالمشي والسعي في الأحوال والمقامات بأرجل الكسب أو الجذب.
وإذا كان هذا علم الأرجل وهي من الجوارح المخصوصة التي لا يكون لها إلا علم خاص، (فلا ينتج هذا الشهود) أي: شهود الأحدية ليتجددوا فيه (في) موطن (أخذ النواصي) أي: رقائق كل الخلائق بحيث تصير مقبوضة (بيد من هو على صراط مستقيم إلا هذا الفن الخاص) من وصول الكل إلى موطن قرب الحاصل.
علم ذلك القرب من علوم الأذواق، وإن لم يكن قربا في العقل ولا في الحس والخيال في حق المجرمين، فهو
قرب في الذوق من حيث إن الصراط إنما هو للوصول إلى غاية والاستقامة تشعر بالقرب؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب الخطوط المتواصلة بين النقطتين، ("ونسوق") هذا الشهود ("المجرمين") أي: أهل المعاصي من المؤمنين والكفار إلى مقام القرب من الحق باعتبار الصفة الهلالية التامة التجلي في جهنم بمقتضى قوله تعالى: "ومن الناس من يتخذ دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذا يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب" [البقرة: 165].  
إنما ساقهم إلى هذا المقام؛ لأنهم (هم الذين استحقوا المقام) أي: مقام القرب من الحق باعتبار التجلي الجلالي القهري بمقتضى أعيانهم الثابتة الطالبة للقرب من الحق كيف ما كان، فخص المحرمون بهذا المقام؛ لأنه (الذي ساقهم) استحقاقهم (إليه بريح الدبور التي أهلكهم ) كما أشار إليه النبي : بقوله: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور». رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وإنما أهلكهم بها؛ لأنها نشأت (عن نفوسهم)، فأهلكهم (بها) أي: باقتضائها الإهلاك بتلك الريح المناسبة لأهوائهم التي بها يدبرون مطلع الحق ومشرق أنواره الجمالية وإن كانوا على الصراط المستقيم بطلب أعيانهم القرب من الحق باعتبار الصفة الجلالية الحاجبة عن نور الجمال.
(فهو يأخذ بنواصيهم) لتذهب بهم إلى ما يناسبهم من قرب الحق من الصفة القهرية الهلالية، (والريح) تساعده في ذلك الإيصال تعجيلا فيه، فهي (تسوقهم) من حيث مناسبتها لصفاتهم.
(وهي الأهواء التي كانوا عليها)، وكانت شاغله هم عن التوجه إلى مشرق أنوار الجمال الإلهي، فهي تسوقهم (إلى جهنم)؛ ذلك لأنها هي البعد الذي يقتضيه التباعد عن الحق، لكنها ليست ببعد مطلقا.
وإن (كانوا يتوهمونه) بعدا مطلقا، وإنما هي بعد عن الصفات الجمالية، وهي عين القرب من الصفات الجلالية.
فلما ساقهم إلى ذلك الموطن (من جهنم مع كونه على الصراط المستقيم حصلوا في عين القرب) الذي هو مقصد السير على الصراط المستقيم، لكنه قرب من تجلي الجلال الموجب العذاب لا من الذات؛ فإنه مستصحب أبدا، فهو كقرب العبد الأبق الجاني إذا ورد إلى مولاه مقيدا مشدودا ما بين كتفيه من ورائه.
(فزال) في نظر هذا الشهود من حيث هو مقصد السير على الصراط المستقیم (البعد) على الإطلاق، وإن كان بعدا عن تجلي الصفات الجمالية بحسب ما غلب عليهم من الأهوية، (فزال مسمی جهنم) إذ مسماها الحقيقي هو البعد المطلق عن الحق فيما يتوهم، وقد زال ذلك وإن بقى اسمها
الموجب للآلام الحسية والعقلية، (ففازوا بنعيم القرب)، إذ هو ملة كيفما كان عند أهل المحبة والشهود، لكن هؤلاء المجرمون من أهل الحجاب بمقتضى قوله: "كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ " [المطففين : 15].
لكن هذا العذاب لا يعارض تلك اللذة لو حصلا جميعا في حق أهل المحبة على أنه نعیم أيضا (من جهة الاستحقاق) لمناسبة أعمالهم؛ (لأنهم مجرمون) فكان أعمالهم مستلذة بها كما يستلذ أعيانهم الثابتة من حيث طلبها القرب الإلهي، وإن لم تستلذ بذلك أجسامهم ونفوسهم وقلوبهم وأرواحهم .
(فما أعطاهم هذا المقام) أي: مقام القرب في جهنم (الذوقي) أي: الذي لا يعرف كونه قربا إلا بالذوق المحض (اللذيذ) عند أهل الذوق من حيث ما فيه من القرب والمناسبة (من جهة المئة) حتى يلتذ بذلك منهم ما ذكرنا، بل حجبوا عن ذلك، كما قال تعالى: "فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" [الحديد: 13].
(وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من) حيث اقتضاؤها اكتساب (أعمالهم التي كانوا عليها) الموجبة للوصول إلى جهنم، وإن كان فيها مقام القرب من الحق باعتبار تجلي الجلال والقهر؛ وذلك لأنهم (كانوا في السعي في أعمالهم) الموجبة لجهنم من حيث ما فيها من الآلام الحسية والعقلية (على صراط الرب المستقيم) الموجب لتربية العبيد بالتقريب، ولو من الحضرة الهلالية القهرية.
(لأن نواصيهم) أي: رقائقهم المكتسبة من هذه الأعمال (كانت بيد من له هذه الصفة) أي: الاستقامة الموجبة للتقريب كيفما كان، وإذا كان وصولهم إلى جهنم من جهة اشتمالها على الآلام بالأهواء، وإلى ما فيها من القرب من الحضرة الجلالية بكونهم على صراط الرب المستقيم.
و (فما مشوا بنفوسهم) إلى جهة القرب من الحضرة الهلالية فيها، (وإنما مشوا بحكم الجبر) كما كانوا على صراط الرب بحكم الخير، ومن حيث الأهواء بحكم الاختيار (إلى وإن وصلوا إلى عين القرب) مع وصولهم من جهة اختيارهم الأهواء إلى عين البعد؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.

قال الشيخ رضي الله عنه : ("ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون" [الواقعة: 85] وإنما هو يصر قائله مكشوف الغطاء قصيره حديد، وما خص ما من ميت أي ما خص سعيدا في القرب من شقي، "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" [ق:16]، وما خص إنسانا من إنسان، فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الأخبار الإلهي، فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق متوهم.
فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود.
وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود. فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه.
فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها، فهي في حقه صراط مستقيم.
ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر.
فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة.
فهذا علم خاص يأتي من أسفل سافلين، لأن الأرجل هي السفل من الشخص، وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق. فمن عرف أن الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه جل وعلا تسلك وتسافر إذ لا معلوم إلا هو، وهو عين الوجود والسالك والمسافر. فلا عالم إلا هو
فمن أنت؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت.
وهو لسان حق فلا يفهمه إلا من فهمه حق، فإن للحق نسبا كثيرة و وجوها مختلفة.)
 ثم أشار إلى حصول القرب لكل ميت قبل الوصول إلى جنة أو نار بقوله تعالى: "ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون " [الواقعة: 85] لاحتجابكم بأجسامكم وقواها. 
قال رضي الله عنه : (وإنما هو يبصر؛ فإنه مکشوف الغطاء) أي: الحجاب المذكور، وإن كان قد يبقى على البعض حجب الغينات الظلمانية من الاعتقادات الفاسدة، والأخلاق الردية، والهيئات المظلمة من المعاصي الظاهرة، لكنه لا يمنعه عن رؤية الحق، (فبصره حدید)، كما قال تعالى: «و لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [ق: 22] .
لكنه إن كان في ظلمات الاعتقادات أو الأعمال الصالحة رجع أعمى كمن حبس في ظلمة مدة مديدة، وفتح له عنها فجأة عمي بصره.
فلذلك قال تعالى: "ومن كان في هذه أعمى هو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا" [الإسراء: 72]، وقال: "نحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا" [طه:124، 125] .
أي: عند كشف الغطاء بالموت الطبيعي بصيرا، قال : "قال كذلك أتتك" [طه: 126] وهي الأنوار المنيرة سلوك طريقنا فنسيتها أي: وقعتها في ظلمة النسيان أو ظلمة الأهواء المنسية لها، فكذلك اليوم تنسی. 
قال رضي الله عنه : (وما خص) في العرف وكشف الغطاء (ميتا عن ميت) في اللفظ، ولم يدل عليه أيضا عقل إذ السعادة العرفية لا توجب التمييز المذكور.
وإليه الإشارة بقوله: (أي :ما خص سعيدا في القرب من شقي)، إذ رجوع الشقي إلى العمى بعد كشف الغطاء، وكون قربه من الحضرة الجلالية كان في التمييز .
وقيل: السعيد بالعرفي؛ لأن الشقي أيضا سعید بما يحصل له من القرب والرؤية، وإن لم تنتفع بهما روحه وقلبه ونفسه وجسمه، ولكن ينتفع به عينه الثانية وسره لو كان من أهل الأسرار.
ثم أشار إلى أن القرب حاصل لكل أحد حيا أو ميتا، سعيدا أو شقا بقوله: ("ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" [ق:16] وما خص إنسانا من إنسان) أي: ما خص ما أو سعيدا من حي أو شقي، لكن قرب أهل الجنان من الحضرة الجمالية، وقرب أهل النار من الحضرة الجلالية.
وقرب الميت من رؤية الحق، وقرب كل أحد بالذات، كقرب الشمس بإشراقها على الكل، (فالقرب الإلهي) هذه الوجوه (لا خفاء في الأخبار الإلهي)، وإن اشتهر بين الخلق اختصاصه بالسعداء يوم القيامة.
قد قال تعالى: "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده، فوفاه حسابه، والله سريع الحساب " [النور: 39].
وقال: "ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق" [الأنعام: 63]، وقال:"إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم" [الغاشية 25، 26] إلى غير ذلك.
وإذا كان أقرب من حبل الوريد؛ فليس ذلك قرب الزمان والمكان والرتبة بل قرب الذات، (فلا قرب أقرب من أن تكون هويته) أي: إشراق نور وجوده (عين أعضاء العبد وقواه) بل عين العبد؛ وذلك لأنه (ليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى)، وهذا وإن ظهر في حق البعض ممن كملت محبته وصفاؤه لا بد، وأن يكون كامنا في حق الكل سواء كان فيه استعداد ظهوره أم لا، لوحدة التجلى على الكل، وإذا كان الحق في هذا القرب عين البعد.
قال رضي الله عنه : (فهو) أي: البعد (حق مشهود) أي: صورة حق يشهد (في خلق متوهم) باعتبار عينه الثابتة الباقية على عدمها.
(فالخلق) من حيث المجموع من الصورة المتجلية والعين المتوهمة (معقول والحق) أي: صورته المتجلية في العين الثابتة (محسوس)؛ لأنه (مشهود) منها شهود الصور المتجلية عند انطباعها في الحس المشترك، فالفرق من الحق لهذه الصورة من حيث كونها من إشراق نور الحق.
والعذاب لها من حيث انطباعها في العين الثابتة لا للوجود من حيث هو لعدم قبوله التغير بالتلذذ والتألم وغيرها، ولا للعين الثابتة من حيث عدميتها.
هذا (عند المؤمنين) بطريق الصوفية، (وأهل الكشف) وهم أهل (الوجود) الذين تم ظهوره فيهم فکوشف به
لهم عن الحقائق على ما هي عليه، (وما عدا هذين الصنفين) من المتكلمين والفلاسفة (فالحق عندهم معقول) لا يعرف إلا بالعقل، ولا ظهور له في شيء، وهم وإن كانوا مظاهر الحق إلا أن الظاهر منه فيهم قد يغير عما هو عليه في نفسه.
 قال رضي الله عنه : (فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج) لا يشفي كلامهم غليل عطش طلاب الحق؛ لأن أنظارهم مشوبة بالأوهام المالحة.
(والطائفة الأولى) لبقائهم على أصل الفطرة (بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ شرابه) في شربه شفاء، ولا يفتقر إلى تطویل مقدمات وهذا الاختلاف كما أنه في الماء باختلاف البقاع، وهاهنا باختلاف الطرق الموصلة لهم إلى المعارف.
(فالناس) وإن كانوا جميعا مظاهر الحق (على قسمين من الناس) أظهر للإشعار بأنهم الذين يستحقون أن يسموا بهذا الاسم (من يمشي على طريق يعرفها) لكونه مکاشفا ذا بصيرة، هي أتم المشاعر وأوضحها، (ويعرف غايتها) وهي الأحدية المستصحبة؛ (فهي في حقه طريق مستقيم) لقرب مطلوبها باستصحابه فأوجبت العذوبة.
(ومن الناس) أظهر إشعار بأنهم مغایرون للأولين من كل وجه، وإن اشتركوا في اسم الإنسانية (من يمشي على طريق يجهلها) لكونه من أرباب النظر المشوب بالأوهام، (ولا يعرف غايتها) فيزعم أنه قد قطعها، وهي مستصحبة معه، (وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر) لكنها بعدت عليهم لجهلهم، وهو الموجب للملوحة.
قال رضي الله عنه : (فالعارف) إنما كان بمنزلة العذب الفرات؛ لأنه (يدعو إلى الله على بصيرة) فيبصر المدعو أنه، وإن كان في الطريق قلة تجليات لا إلى نهاية . 
قال رضي الله عنه : (وغير العارف) إنما كان بمنزلة الملح الأجاج؛ لأنه (يدعوا إلى الله على التقليد والجهالة) فيزعم أنه مقصود في الطريق فيحصل منه له، وللمدعو ظلمة في الطريق فينقطع في الطريق.
لولا أنه مأخوذ بنواصيه على صراط الرب المستقيم، وإذا كانت ملوحة إحدى الطريقين، وعذوبة الأخرى مع اتحادهما في الإيصال إلى الغاية، إنما علمت من المثنى في طريق التركية والتصفية.
(فهذا علم خاص يأتي من أسفل السافلين) أي: من الطريقة التي هي أسفل مراتب ظهور الحق، وإن كانت أعلى الطرق وأجلاها وأقومها.
قال رضي الله عنه : (لأن الأرجل) التي بها المثنى في الطريق (هي السفل من الشخص وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق)، وقد شبه بهما أرجل الكسب وطریق التركية والتصفية، فهما مثلهما وهما مع ذلك من صور الحق باعتبار ظهوره في مراتبه العذبة منوطة بهذه المعرفة. 
"وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)"سورة المائدة
قال رضي الله عنه : (فمن عرف الحق عين الطريق) مثل عينية ما يقع على الأرض من نور الشمس لها،
قال رضي الله عنه : (عرف الأمر) أي: أمر السلوك (على ما هو عليه فإن فيه جل وعلا يسلك ويسافر) : لأنه عين الطريق (فهو) أيضا (عين السالك والمسافر) فيسلك في الله بالله كالفطرة الواقعة في البحر تسافر فيه به من إحدى جانبيه إلى الآخر، فتتم الأحدية لهذا العارف.
قال رضي الله عنه : (لا عالم) بالطريق والمقصد (إلا هو) بهذا الاعتبار.
قال رضي الله عنه : (فمن أنت؟) من حيث إنك عارف لست غیر الحق، أي: غير صورته الظاهرة في عينك.
قال رضي الله عنه : (فاعرف حقيقتك) التي هي مقصدك من السلوك وبها تحققك (وطريقتك) فإنهما عين الحق، أي: من صوره الظاهرة في مراتبه، فقد علم أن السالك والعارف والطريق والمقصد عين الحق بهذا الاعتياد.
قال رضي الله عنه : (فقد بان لك الأمر) أي: أمر الأشياء المذكورة (على لسان الترجمان)، وهو قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
ولسان الرحمن أولى بذلك (فهو لسان حق) ولا يفهم من الحق كلامه سواه، (فلا يفهمه إلا من فهمه حق)، وإنما صح في حقه أن يكون الطريق والسالك والمقصد والعالم والرحمن واللسان والفهم لكثرة نسبه واختلاف وجوهه.
قال رضي الله عنه : (فإن للحق نسبا كثيرة) أدلة إلى كل موجود نسبة وحدتها (ووجوها مختلفة) ظهرت له في مراياها، وتختلف وجوهه باختلاف ظنون عبيده به، بل قد يظهر له وجوه مختلفة في أمر واحد كما في عذاب قوم هود له لطف خفي بحسب ظنونهم به، وإن لم يظهر لهم أصلا.




قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى عادا قوم هود كيف «قالوا هذا عارض ممطرنا» فظنوا خيرا بالله تعالى وهو عند ظن عبده به.
فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقى الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم»: فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة،
  و في هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوف. فباشرهم العذاب فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه فدمرت كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقية.
فزالت حقية هذه النسبة الخاصة وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ. وقد ورد النص الإلهي بهذا كله)
وإليه الإشارة بقوله: (ألا ترى عادا قوم هود) احترز به عن عاد أرم ذات العماد كيف قالوا: "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم" [الأحقاف: 24] أي: سحابا متوجها إلى أوديتهم، قالو هذا عارض ممطرنا (فظنوا خيرا بالله) أنه يمطرهم.
وينبت لهم زروعهم، ويسقي بساتينهم، فيحصل لهم بذلك غذاؤهم (وهو عند ظن عبده به) كما ورد في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي» ؛ فعمل معهم من لطف التقريب من الحضرة الجلالية من غير إظهاره لهم، إذ كان في صورة العذاب أجل مما توقعوه منه بعد مدة.

قال رضي الله عنه : (فأضرب لهم الحق عن هذا القول) بقوله: "بل هو ما استعجلتم به" [الأحقاف: 24] (فأخبرهم) بطريق الإشارة من قوله: "ما استعجلتم به" (بما هو أتم وأعلى في القرب)، أما كونه أتم فلما فيه من رفع الحجب الجسمانية المظهرة لقرب الحق من كل أحد بأنه أقرب من حبل الوريد، وأما كونه أعلى فلكونه من قبيل التجليات ولو جلالية موحية للعمى بعد کشف الغطاء، وما توقعوه موجب لإرخاء الحجب وزيادتها، وما فيه من التجليات المطلوبة لا يحصل إلا بعد مدة مديدة.

قال رضي الله عنه : (فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقي الحبة) أولا ثم يحصل بعد مدة مديدة من ذلك الرفع، (فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد) فضلا عما تنتجه تلك النتيجة من قرب الحق بوجه ما من الجمال في الظاهر مع أنه عني الهلال في الباطن .
(فقال لهم : بل هو ما استعجلتم به)، وهو وإن كان عذابا في الظاهر إلا أن أعيانهم إنما طلبوا بذلك أن يتقربوا من حضرة الحق ولو من حيث الجلال ريح فيها عذاب أليم، فجعل ظاهره ريا معذبة.

وأشار إلى ما فيه من لطف التقريب من حضرته الجلالية بما يفهم من الريح والعذاب بطريق الاشتقاق البعيد، ولكنه أشار لأهل الأسرار لا للأشرار من طغاة الكفار.
قال رضي الله عنه : (فجعل الريح)، وإن كانت مدمرة لكل شيء بأمر ربها (إشارة) باعتبار ما تضمنت من لطن التقريب من الحضرة الجلالية (إلى ما فيها من الراحة لهم) عن الحجب الظلمانية، وإن رجعت عليهم حجب الأعمال والاعتقادات الفاسدة، (فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة) المانعة عن رؤية الحق من كل وجه.

قال رضي الله عنه : (والمسالك الوعرة) التي بها يتعوقون عن الوصول إلى مطالب أصلية لأعيانهم من التقريب إلى الحق بأي وجه كان.
(والسدف) أي: الحجب (المدلهمة) أي: المسودة للقلوب والأرواح بحيث لو سد عنهم العذاب لازدادوا ظلمة، فكان العذاب أزيد عليهم بما يكون على الحالة التي (جاءهم العذاب) فيها وهذا عين اللطف.
قال رضي الله عنه : (وفي هذه الريح عذاب) في الظاهر وهو لطف في الباطن، يشير إليه اشتقاقه البعيد من العذاب، (أي: أمر يستعذبونه إذا ذاقوه) بأسرارهم لو كانوا من أهل الأسرار، لكنهم محجوبون فإن فرض أنهم ذاقوه فهو أيضا عذاب في حقهم، كما أشار إليه بقوله.
قال رضي الله عنه : (إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوفات) أي : المشتهيات، إذ حيل بينهم وما يشتهون، ولا يذوقه حق الذوق إلا من فارق المألوفات في الدنيا، وبالجملة لما كان قريبا من التجلي الجلالي، وإن خفي عليهم أبدا، فكان الأمر أقرب إليهم في الوصول إلى مطالب أعيانهم الثابتة مما يخيلوه من لطف الفناء لهم.
ولما كان الوصول إلى الحق سواء كان من حيث تجلي الحلال أو الجمال لا يصير إلا بتدمير ما سواه في الريح يقتضيه من جهة كونها لطفا كما يقتضيه من جهة كونها عذابا،("تدمر كل شيء بأمر ربها") [الأحقاف:25]
 بقطع علامة البعض عن البعض لئلا يحجبه عن الحق، ("فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم") أي: أبدانهم التي كانت مساكن أرواحهم ساكنة بلا روح.
وذلك لأنها حية (جثثهم التي عمرتها أرواحهم الحقية) أي: الفائضة من الحق بلا واسطة مادة عمرتها بانتسابها إليها، وفيضان الحياة عليها، فادعت الحقية لأنفسها، وحجبت عن الحق (فزالت) بهذا التدمير (حقية هذه النسب الخاصة) ليرتفع حاجبها عن الحق.
وإن كان قد (بعثت على هياكلهم الخاصة بهم) لا بواسطة انتساب أرواحهم إلى أبدانهم، وهي الحياة الفائضة على كل موجود (من الحق) وهي (التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذابات الأسواط والأفخاذ وقد ورد النص الإلهي بهذا كله).
كما قال تعالى: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء" [فصلت: 21]، وقال: "وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم" [يس: 65].
وقال صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل فخذه بما عمل أهله بعده، وحتى تکلمه عذبة سوطه".رواه الحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في المصنف.
أو قال: ما يقرب من هذا، فجعل ذلك بمنزلة النص الإلهي؛ لأنه "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3، 4]. 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته «حرم الفواحش» وليس الفحش إلا ما ظهر.  وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له.
 فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة وهو أنت من الغير.
فالغير يقول السمع سمع زيد، والعارف يقول السمع عين الحق، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء. فما كل أحد عرف الحق: فتفاضل الناس وتميزت المراتب فبان الفاضل والمفضول. )
ثم أشار إلى أن هذا العذاب، وإن كان لطفا في الباطن في نظر أهل الأسرار والكشف، إلا أنه لم يظهره تعالى على المعذبين.
فقال: (إلا أنه تعالی) استثناء من قوله: فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب .
أي: أنه تعالى وإن أخبرهم بطريق الإشارة فلم يفهمهم تلك الإشارة، ولم يظهر لهم ذلك اللطف من غيرته عليهم، حيث آثروا محبة الغير عليه السلام.
وذلك لأنه تعالى (وصف نفسه) على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم  (بالغيرة) إذ قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يغار، ومن غيرته حرم الفواحش»رواه البيهقي و ابن أبي شيبة في المصنف.
لأنها شغل بالغير بالكلية بحيث يحتجب ذلك العبد عن الحق بالكلية، فيحجبه الحق عن لطفه الكائن في تجليه الجلالي.
ثم استشعر سؤالا :
بأنه كيف يتصور الفواحش في نفس الأمر مع أن الكل من تجليات الحق؟
وكيف يتصور المنع من التجليات؟
وكيف يمنع المحب من طلب تجلي المحبوب؟

فأجاب بقوله: (وليس الفحش إلا ما ظهر) أي: لا فحش في نفس التجلي، وإنما هو فيما ظهر بالتجلي من الصورة المعوجة بحسب اعوجاج الصورة الحاصل منها تسوية المرآة، والمحبوب لا يمنع من تجلي المحب، بل ينتقل من تجلي إلى تجلي آخر.

ثم استشعر سؤالا بأن هذا ينفي الفحش في الباطن، وقد قال تعالى: "قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن " [الأعراف: 33].
فأجاب بقوله: (وأما فحش ما بطن فهو لمن يظهر) بالألطاف المخفية في الفواحش الظاهرة بأن يقول الواقف عليها القاصري الأفهام: الكل من تجليات الحق أو عين الحق أو لطف الحق كامن فيها.
فيوهم جواز دعوى الربوبية لهم أو إباحة الكل من غير تفرقة بين الفواحش الظاهرة وغيرها، فتحريم تلك الفواحش الظاهرة يستلزم إظهار ذلك للقاصرين.

(فلما حرم الفواحش) الظاهرة حرم هذه الفواحش الباطنة، فالجزاء محذوف بقرينة تفسيره (أي منع أن تعرف) أحد من قاصري الأفهام (حقيقة ما ذكرنا، وهي) أي: وتلك الحقيقة أي: (عين الأشياء)، وأن الكل تجلياته لما في ذلك من الإيهام المذكور المؤدي إلى الخروج عن ربقة الإسلام بالكلية (فسترها) . 
أي: تلك الحقيقة بالغيرة التي فيه كما ستر ألطافه عن المعذبين (بالغيرة) عليهم إذ لا تظهر الأسرار للأغيار.
(وهو) أي: الساتر في الأصل بالغيرة (أنت)؛ لأن الأصل في الحق أن يظهر باللطف لسبق رحمته غضبه، فالموجب

لستر اللطف والأسرار إنما تشاء من النظر في العين (من) حيث هو (الغير) وكل شيء لا يخلو مما هو عين الحق، أي: عين إشراق نوره، ومما هو غيره.

(فالغير) منكر، (يقول: السمع سمع زيد) لا ترى الذي يرى الأعيان، (والعارف) منكر، وهو عين إشراق نور الحق عليك.
(يقول: السمع عين الحق) أي: من تجلياته، (وهكذا ما بقي من القوى) يختلف فيه الغير والعارف، (فما كل أحد) من وجوهك (عرف الحق) وإنما يعرفه ما أشرق عليك من نوره، إذ لا يحمل عطاياهم إلأ مطاياهم فالعارف يعرف اللطف، والقرب في الكل والغير يرى القهر والعذاب في البعض، وهذان الوجهان متفاوتان في كل أحد.
(فتفاضل الناس) في غلبة ظهور وجه الحق على ظهور وجه الخلق، وبالعكس في نظر العارف، وإن صار نظره أحدا إذ (تميزت المراتب) أي: مراتب الحق الواحد باعتبار ظهوره في كل واحد .
(فبان) في نطق (الفاضل) الذي غلب فيه ظهور الحق، (والمفضول) الذي غلب فيه ظهور الخلق، وهكذا يتميز عنده الفحش من غيره، بأنه من تجلي الجلال.
وما ليس بفحش بأنه من تجلي الجمال، ويتأئی منه الإنكار بالحق على الحق باعتبار مراتب تجلياته، ولا يتصور من الكامل أن يظهر فيه الفحش؛ لأن مرآته مستوية صافية؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم أنه لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ست وثمانين و خمسمائة، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، و رأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها.
ودليلي على كشفه لها قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم». وأي بشارة للخلق أعظم من هذه؟
ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن، ثم تمها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان: أي هو عين الحواس. والقوى الروحانية أقرب من الحواس. فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد.
فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا، وترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مقالته بشرى: فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم «و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون» فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم و نفاسة و ظلما.
وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه. أوله العماء )

ثم أشار إلى أن هود عليه السلام قد غلب فيه ظهور لاحق جدا فرآه أقرب من كل شيء حتى صارت حكمته أحدية، فقال: (واعلم أنه لما أطلعنى الحق) أي: أطلع روحي وقلبي بالبصيرة، وجواب الشرط «ما كلمني».
قال رضي الله عنه : (وأشهدني) أي: أشهد نفسي بطريق التمثيل في الحس المشترك عن الخيال .

"" إضافة المحقق : إن الشهود يتضمن الاطلاع، لكن الاطلاع ينقسم إلى اطلاع متمكن وغير متمكن، فالشهود المكرر في قوله: (أشهدني) هو ذو التمكين، والشهود المألوف الدائم هو العاري عن التمكين، لا كل حي شاهد في الظاهر، فإذا كرر الحي الشاهد قوله: (أشهدني) عن الشهود المتمكن اليقيني، لكن لا يطلق الشهود والمتمكن إلا عند تمكين المعرفة فليس قوله له: (أشهدني) مثل قول القائل : «أوقفني» و«أطلعني» لأن الاطلاع يطلق على تحصر البصر في قريب والدليل على ذلك أن كلما بعد عن البصر، فإن البصر لا يحكم عليه بحصر أي: لا يحيط به.  ""


قال رضي الله عنه : (أعيان) أي: أرواح (رسله وأنبيائه) عبر عن أرواحهم بالأعيان؛ لأنها لكليتها كالحقائق الصادقة على كثيرين، وذكر الأنبياء بعد الرسل إشعار بأن الأولين لعظمة نورهم راهم قبل تمام الكشف.
فلما تم رأى الباقين (كلهم) بسطوع نور الكشف (البشريين) لكونهم أكمل من رسل الملائكة والجن على قول من يزعم أن فيهم رس منهم مع بعد المناسبة معهم، فلا يكون وارا لهم (من) لدن (آدم إلى محمد صلوات الله عليهم أجمعين) .
احتراز بذلك عن علماء هذه الأمة الذين هم كأنبياء بني إسرائيل، وهم الأولياء الذين يشبه کشفهم کشف الأنبياء، فسماهم الشيخ أنبياء الأولياء مجازا (في مشهد) أي: عظیم واسع لظهور كلامهم (أقمت فيه) أي: لم يكن ذلك عن كشف، وإخبار مني بـ (قرطبة) مدينة بالمغرب.

أشار بذلك إلى كونه بعد کمال إشراق نور شمس الأحدية عليه، فإن الشمس إنما تغرب إلى المغرب بعد كمال إشراقها (سنة ست وثمانين وخمسمائة) أشار بذلك إلى أن تصنيف الكتاب كان بعد ذلك بمدة مديدة ازددت فيها كل يوم كما"، فاجتمعت تلك الكمالات فيه.
قال رضي الله عنه : (ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلأ هود عليه السلام ) لمزيد مناسبته للشيخ : (فإنه) الذي (أخبرني بسبب جمعيتهم)، ولعله بيان كونه وارثا لأسرار علومهم وأحواله (ورأيته رجلا ضخما) لعظم شأنه (في) العلم والأحوال من كمل (الرجال حسن الصورة) لكمال ظهور جمال الحق فيه.

قال رضي الله عنه : (لطيف المجاوبة) لكونه ناطقا بالحق عن الحق، (جازها بالأمور) الحقيقية في نفسه، (كاشفا لها) لقومه، ودليلي الذي استدل به (على) إثبات (كشفه لها قوله) فيما حكاه سبحانه عنه: ("ما من دابة") [هود: 56] أي: متحركة تخرج من القوة إلى الفعل.
 ("إلا هو آخذ") قابض ("بناصيتها") رفائقها ("إن ربي على صراط مستقيم") [هود:56]. فيوصلها إلى قربه في صفة الجلال أو الجمال كشف عنه لأمته ليشعرهم بأنه مع غاية قربه لا يتلذذون به لما حجتهم اعتقاداتهم الفاسدة وأعمالهم الباطلة.
(وأي بشارة أعظم للخلق من هذه؟) بأنهم يصلون إلى ثمرات اعتقاداتهم وأعمالهم، (ثم) أي: بشارة أعظم (من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه).

أي: عن هود الله كامل المعرفة في القرآن الجامع لأسرار المعارف، (ثم تممها) أي: البشارة (الجامع للكل) أي: لمعارف كل نبي مع ما خص به (محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق) من قوله: «كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه».
فبين غاية قربه (بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان أي: هو عين الحواس) بل عين الأعضاء مع عدم تجردها الموجب للبعد.
قال رضي الله عنه : (والقوى الروحانية) لتجردها (أقرب) إلى الحق (من الحواس) فضلا عن الأعضاء، (فاكتفي) في بيان غاية القرب بذكر بـ (الأبعد المحدود) مع أن الحق غير محدود في نفسه (عن الأقرب المجهول الحد).

لأنها وإن حدث بالتجرد فالتجرد عدمي، فلا يعرف به حدها فكأنه صلى الله عليه وسلم بين قربه من كل شيء بأنه عينه، ولم يوقفه على الوصول إلى غاية الصراط المستقيم كما فعله هود عليه السلام فكان قوله أتم.
قال رضي الله عنه : (فترجم الحق لنا) أهل الكمال (عن نبيه هود عليه السلام مقالته) تکميلا لها إذ كانت قاصرة حيث قالها لقومه القاصرين.
قال رضي الله عنه : (بشرى لنا) بأنها إذا كانت في حقهم على قصورهم فأنتم مع كمالكم أولى بذلك، (وترجم رسول الله )صلى الله عليه وسلم لغاية كماله وقيامه مقام ربه (عن الله مقالته) «كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه» .
قال رضي الله عنه : (بشرى) لكل شيء يقرب الحق منه، وإن كان منعه في التلذذ به حجبه، (فكمل العلم) بغاية قرب الحق بتوارد الأدلة (في صدور الذين أوتوا العلم) الكشف بالوهب لا الكسب، فلا يتزلزل بشبهة ("وما يجحد بآياتنا")، أي ما ثبت من الكتاب والسنة على هذا القرب ("إلا الكافرون") [العنكبوت: 47] الساترون لظواهرها بالكلية بتأويلات بعيدة وظواهرها قريبة لتأويلاتها.

قال رضي الله عنه : (فإنهم يسترونها وإن عرفوها) ببياننا أن تأويلاتها صحيحة قريبة من الظواهر، ولا حاجة إلى البعد عنها (حسدا منهم) أن يكون لنا السبق، (ونفاسة) أي: رغبة في تأييد ما سبقوا إليه.
قال رضي الله عنه : (وظلما) بإقامة التأويل البعيد الذي يأباه اللفظ من غير دليل قطعي على بطلان تأويلاتنا، بل غايته الفرار من تحديد الحق باعتبار ظهوره بالمحدودات وتلونه بألوانها، وقد شاهدوا من نور الشمس أنه غير محدود، ولا ملون في نفسه، ولا يتحدد ويتلون وراء الزجاجات المتلونة المحدودة.
ولا شك أن هذه الشبهة الواهية لا يمكن أن تتحمل تلك التأويلات البعيدة في النصوص الكثيرة بلا تعارض بينها.
وذلك أنه (ما رأينا قط) فيما وصل إلينا (من عند الله في حقه) باعتباراته وظهوراته الكثيرة سواء كان (في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله ) على لسان نبيه (إلينا).
وفيه إشارة إلى أن إظهار هذه الأسرار لأهلها غير ممنوع بل فيه متابعة النصوص کائنا تلك الآيات والأخبار .
قال رضي الله عنه : (فيما يرجع إليه باعتبار ذاته أو صفاته إلا بالتحديد)، وإن كان منزلها عنه باعتبار استقراره في مقر غيره سواء كان الوارد (تنزيها)، كقوله تعالى: "ليس كمثله شئ" [الشورى:11] على ما يأتي بيانه (أو غير تنزیه).

وفيه إشارة إلى أنه إذا لم تخل عنه آية التنزيه فغيرها أولى .
قال رضي الله عنه : (أوله) أي: أول ما يتصور في حقه من التحديد (العماء)، وهو: السحاب الرقيق والمراد حجاب الأسماء والصفات الساتر نور الأحدية .

"" أضاف المحقق : قال القاشاني: العماء هو الحضرة العمائية التي عرفت بأنها هي النفس الرحماني، والتعين الثاني.
وأنها هي البرزخية الهائلة بكثرتها النسبية بين الوحدة والكثرة الحقيقتين، كما عرفت ذلك فيما مر من كونها محل تفصيل الحقائق التي كانت في المرتبة الأولى شؤونة محملة في الوحدة، فسميت بهذا الاعتبار بالعماء، وهو الغيم الرقيق.
وذلك لكون هذه الحضرة برزخا حائلا بين إضافة ما في هذه الحضرة من الحقائق إلى الحق، وإلى الخلق، كما يحول العماء الذي هو الغيم الرقيق بين الناظر وبين نور الشمس. أهـ ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء. فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق. ثم ذكر أنه استوى على العرش، فهذا أيضا تحديد.
ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا فهذا تحديد. ثم ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض وأنه معنا أينما كنا إلى أن أخبرنا أنه عيننا.
ونحن محدودون، فما وصف نفسه إلا بالحد. وقوله ليس كمثله شيء حد أيضا إن أخذنا الكف زائدة لغير الصفة.
ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود. فالإطلاق عن التقيد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم.
وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا «ليس كمثله شيء» على نفي المثل تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها. فهو محدود بحد كل محدود.
فما يحد شيء إلا وهو الحق. فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود. فهو عين الوجود، «وهو على كل شيء حفيظ» بذاته، «ولا يؤده» حفظ شيء. فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشي ء غير صورته.
ولا يصح إلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود.
فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير.
فهو الكون كله ... وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه ... ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذاؤه ... وبه نحن نحتذي
فبه منه إن نظرت ... بوجه تعوذي
ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ كان و لا هي، و هو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها.
فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول، « وهو بكل شيء عليم» لأنه بنفسه عليم.
فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى . )

ووصفه بقوله: (الذي ما فوقه هواء، ولا تحته هواء) للإشعار بأنه ليس السحاب المتعارف، وأنه لم يكن للحق حينئذ تعلق بالعالم العلوي الروحاني، والسفلى الجسماني.
ولذلك (كان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق)، وذلك أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟" قال: «كان في عماء ما فوقه، وما تحته هواء ". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ففيه تحديد للحق أو تقييد له بالأسماء والصفات قبل التقييد في ظهوره في سائر الكائنات.
(ثم ذكر أنه استوى على العرش)، قال تعالى: "الرحمن على العرش استوى" [طه: 5]، (وهذا تحديد أيضا) بظهور رحمانیته في الجسم المحيط بعد تحديده بعالم الأسماء والصفات، وهذان التحديدان كلیان.
(ثم ذكر) على لسان نبيه الذي لا ينطق عن الهوى "إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3 ،4] .

(أنه ينزل إلى السماء الدنيا) قال صلى الله عليه وسلم : "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه" . رواه أحمد والدارمي والطبراني في الكبير .
وهذا تحديد جزئي بظهوره في أقرب الأفلاك منا، والأفلاك هى الأسباب القريبة في عالم الكون والفساد.
فيظهر في أقربها لتقريب هذه الأمور في حق قائم الليل، وذكر تحدید آخر بظهوره في عالم الكون والفساد، وهو (أنه معنا أينما كنا) إذ قال : " وهو معكم أين ما كنتم" [الحديد: 4].
وانتهى في ذلك (إلى أن أخبرنا) على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (أنه عيننا) حيث قال صلى الله عليه وسلم مخبرا عنه سبحانه وتعالى: "كنت سمعه وبصره ويده ولسانه".
(ونحن محدودون)، وإن بلغنا من المراتب العالية ما بلغنا، فما يكون عيننا يكون محدود بالجملة فما وصف نفسه في هذه الآيات والأخبار (إلا بالحد).
فلو قيل: إنها من المشابهات؛ فلا تجري على ظواهرها، فنقول: اتفقتم على أن (قوله: "ليس کمثله شئ") [الشورى:11]  محكم وهو دال على ما ذكرنا .
إذ قوله: "ليس کمثله شئ" (حد أيضا) على كل تقدير.
لأنه (إن أخذنا الكاف زائدة) فيكون (لغير الصفة)، أي: لغير المثلية التي منشأها الاشتراك في أخص أوصاف النفس، وعبر عن النفي بلفظ الغير إشعارا بأنها لا ينبغي بحسب الظهور، بل غايتها أن يكون فيها مغايرة ما لمن منه الظهور.
وزيادة الكاف لهذا المعنى للإشعار بأنها وإن ظهرت؛ فليست بشيء في المعنى، كالحروف الزائدة، وإنما هي مشابهة للأمور الموجودة في الحس والخيال، فهو يفيد التمييز عن كل ما عدا، ويدخل فيه المحدود فيتميز عنه.

قال رضي الله عنه : (ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين المحدود هذا)؛ لأنه تقيد بكونه ليس هذا المقيد، والتحديد ذكر القيود المميزة من الفصل والخاصة؛ (فالإطلاق عن التقييد) وإن كان نفيا للتقييد (تقييد) للإطلاق، (والمطلق) وإن أطلق عن قيد الإطلاق والتقييد (مقيد بالإطلاق) عن الضدين (لمن فهم).
(وإن جعلنا الكاف للصفة)، أي: لإثبات المثل له مع نفي المثل عن مثله، بناء على أن صور تجلياته أمثاله ولا مثل الصورة منها من كل وجه لئلا يلزم تکرر التجلي (فقد حددناه) محدود ما أثبتنا له من الأمثال.

قال رضي الله عنه : (وإن أخذنا) الكاف للصفة لا لإثبات المثل بالاعتبار المذكور، بل قلنا: ("ليس كمثله شئ") يدل (على نفي المثل) بطريق الكناية (تحققنا بالمفهوم)، فإن مفهوم نفي مثل المثل إنما يتحقق بنفي المثل.
إذ على تقدير إثبات المثل يكون نفسه مثلا لمثله، فلا يبقى مثل المثل مع ثبوت المثل.
فيقوم نفي مثل المثل مقام نفي المثل، فيدل عليه بطريقة الكناية، ونفي المثل إما بنفي الظهور أو بنفي الغير من كل وجه
والأول باطل (بالإخبار الصحيح) الدال على (أنه عين الأشياء) مثل قوله: "كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه»، "ومرضت فلم تعدني، و جعت فلم تطعمني ".
ومعلوم أنه لا عينية له إلا بالظهور فتعين أن يحمل نفي المثل على نفي الغير من كل وجه؛ لأنها لا تتصور إلا بين اثنين.
وإذا كان عين (الأشياء) بالظهور فيها (فهو محدود بحد كل) ذي باعتبار ظهوره في كل ذي حد، وإن تنزه عن الحدود في نفسه، وإلا لم يجتمع في شأنه الحدود المختلفة بخلاف (المحدودین) في أنفسهم.

قال رضي الله عنه : (فما يحد بشيء إلا وهو حد للحق) باعتبار، وصورة من صوره يميزها عما عداها، وإن لم يتميز الحق بها في ذاته، وإذا كان نفي المثل يقتضي تحديده بحدود الأشياء بدلالة الأخبار الصحيحة.
(فهو الساري) بصورته سريان الشمس بصورها في المرآة في مسمى المخلوقات المادية الكثيفة بعوارضها. وإن كان في ذاته مجردا عن المادة بريئا عن عوارضها.
(والمبدعات) المجردة عن المواد وعوارضها، وإن كان منها عن الحلول فيها والاتحاد بها من كل وجه، وكيف لا يكون ساريا.
قال رضي الله عنه : (ولو لم يكن الأمر) أي: أمر الحق (كذلك) أي: السريان بالصورة في الأشياء (ما صح الوجود) لها، إذ لا وجود لها في أنفسها لإمكانها فهو من سريان صورته مما له الوجود بذاته، ولا وجود بالذات إلا لعين الوجود، إذ غيره مفتقر إليه، فلا يجب بذاته.

قال رضي الله عنه : (فهو عين الوجود) لكن تسري صورته على الأشياء لتحفظها عن العدم، (فهو "على كل شيء حفيظ" [سبأ: 21] بذاته، ولا يؤوده حفظ) كل (شيء)، وإن لم يكن له فائدة في حفظه بالنظر إلى كمالاته الأصلية، لكن تحصل له بهذا الحفظ كمال الظهور ومنع عن غلبة العدم على الأشياء.
قال رضي الله عنه : (فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظ لصورته) التي يعشقها باعتبار ما يحصل لظهور كمال بها.
ويغار مع ذلك (أن يكون الشيء غير صورته) لكونه عاشقا لذاته غيور عن الأغيار، فيحفظ صوره بدفع صور الأغيار.
(ولا يصح) في بيان الحكمة في الحفظ (إلا هذا)، وإلا لزم أن يكون ناقصا في ذاته مستكملا بالغير فهو عين الكل، إما بذاته أو بصورته.
قال رضي الله عنه : (فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود)، وإذا كان الوجود منحصرا في ذاته وصورته، (فالعالم صورته) إذ لو كان ذاته لم تحتج إلى مدبر لكنه يحتاج إليه لإمكانه.
ولذلك (هو روح العالم المدبر له)، وإذا اجتمع في وجوده الذات التي هي الروح والصورة التي هي العالم.

قال رضي الله عنه : (فهو الإنسان الكبير) أشبه الصغير في جمعه بينهما، وإذا كان الوجود الشمول على الروح والصورة مع وحدته في ذاته؛ (فهو الكون كله) باعتبار الشمول، (وهو الواحد) باعتبار الذات (الذي قام كوني بكونه) لا بحيث يصير المجموع ذاتا واحد.
قال رضي الله عنه : (وإذا قلت: يغتذي) أن يستكمل وجوده بوجودي، فليس المراد أنه ينضم في ذاته وجودي إلى وجوده حتى يصير ذاتا واحدة.
بل ..... فيحصل له صورة فيها، (فوجودي غذاؤه) لا بطريق الانضمام إليه في ذاته، ولذلك لا يضاف إليه بل إلي، ويكمل به ظهوره بالفعل إذا (به نحن نحتذي) .
بعد أن كان في ذاته بالقوة، فظهوره بهذا الاعتبار عينه، فكل ما ظهر في الوجود كان فيه كامنا قال رضي الله عنه : (فيه منه، إن نظرت بوجه) وهو كون كل ما ظهر عينه باعتبار ما كان كامنا في ذاته.
(تعوذي) أي: استعاذتي؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بك منك".رواه الطبراني في الكبير وابن أبي شيبة في المصنف .

وإذا كان كل ما ظهر عنه كان فيه بالقوة قابلا للخروج عنه بالفعل، وفي خروجه ظهور للحق وأسمائه وراء ما له في ذاته، كان ذلك كالكرب.

قال رضي الله عنه : (وهذا الكرب) أي: الأمر الذي يشبه الكرب (تنفس) أي: أخرج ما فيه ليصير كالمستريح منه إخراج النفس هو للاستراحة عن حرارة اجتمعت في الباطن.


قال صلى الله عليه وسلم : «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن» أي: أجد النفس في حقي من جهة اليمن والقوة.رواه أحمد في المسند والطبراني في الأوسط .
قال رضي الله عنه : (فنسب النفس إلى الرحمن؛ لأنه) أي: الله تعالى (رحم به) أي: بإخراج النفس (ما طلبته النسب الإلهية) أي: الأسماء التي بها الحقيقة الموجبة لانتسابه إلى العالم مع غناه في ذاته عنه، فكان ذلك الطلب كالكرب (من إيجاد صور العالم) لا من حيث هي صور العالم المستغني عنه بل إنما طلبته.
لأنها (التي قلنا هي ظاهر الحق) أي: صور ظهوره فكأنها مطلوبة للحق أيضا إذ لظهوره يحصل به كمال وراء كمال ظهوره في ذاته، (إذ هو الظاهر) لا الأعيان، إذ لا ظهور لها من حيث هي عدم، ومع ذلك هو مستغن عن الظهور.
ولذلك قال رضي الله عنه :  (هو باطنها إذ هو الباطن)، إذ لا بطون للعدم، وكيف لا يستغني، (وهو الأول إذ كان، ولا هي) شيء فلولا غناه لم يكن له السبق.
ومع استغنائه عنها ظهر فيها إذ
قال رضي الله عنه : (هو الآخر، إذ كان) عند كونها فيه بالقوة (عينها) لكن آخريته (عند ظهورها)، إذ بذلك له يتم له الظهور من كل وجه، والآخرية تشعر بالنهاية، ولما كانت آخريته باعتبار ظهوره.

قال رضي الله عنه : (فالآخر عين الظاهر)، باعتبار مقابلة الأخر للأول، و الباطن للظاهر، (والباطن عين الأول) فتدبيره للعالم باعتبار أوليته التي بها التأثير والتدبير إنما يكون للباطن؛ لأنه بمنزلة الروح، وظهوره باعتبار آخريته لاقتضائه كما لم يكن من قبل، وهو أثر لحدوثه فيكون ظاهر کالبدن.
وقد تقدم أن ما ظهر كان عينه حال كونه فيه بالقوة فكان الأخر حينئذ عين الأول، والظاهر عين الباطن، فكان الكل واحد كما قال: ("وهو بكل شيء عليم ") [البقرة: 29]، وعلمه واحد، ولا مجال للكثرة فيه، والعالم الواحد إنما يعلم به معلوم
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال: «اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي» أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردكم إلى انتسابكم إلى.  أين المتقون؟
أي الذين اتخذوا الله وقاية فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة، وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع.
وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هوية الحق قوى العبد. فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق على الشهود حتى يتميز العالم من غير العالم.
«قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب» وهم الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء. فما سبق مقصر مجدا كذلك لا يماثل أجير عبدا.
وإذا كان الحق وقاية للحق بوجه والعبد وقاية للحق بوجه.
فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق.
وإن شئت قلت هو الحق.
 وإن شئت قلت هو الحق الخلق.
وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه.
وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب.
ولو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه.
فلا تنظر العين إلا إليه ... و لا يقع الحكم إلا عليه
فنحن له وبه في يديه ... و في كل حال فإنا لديه
لهذا ينكر ويعرف وينزه ويوصف.
فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف.
ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف.
ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل.
وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها :
فإذا تجلى له الحق فيها عرفه و أقر به، و إن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه ) 
(فقال) تعالى للأسماء: («اليوم أضع نسبكم») إلى الأعيان («وأرفع نسبي»).

""أضاف الجامع : ورد الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه تلا قول الله عز وجل "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فقال: " إن الله يقول يوم القيامة: يا أيها الناس، إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان أكرم من فلان بن فلان، وإني اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون؟ أين المتقون؟. رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان وابن حجر العسقلاني في إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة والسيوطي فى جمع الجوامع المعروف بـ «الجامع الكبير»""

"" كما وورد الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: إني جعلت نسبا (وجعلتم نسبا) ، فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأنتم تقولون: يا فلان بن فلان وأنا أكرم منك. وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟.

أورده الطبراني فى الكبير والأوسط وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية والسيوطي فى جامع الأحاديث وابن أبي اسامة فى بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث وأبو العباس شهاب الدين أحمد فى إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة. ""  
أي: أظهر انتسابكم إلى صوري وفسره بقوله: (أي: أخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم) أي: معانیکم الخاصة بكم باعتبار نسبكم إلى الأعيان.
قال رضي الله عنه : (وأردكم إلى انتسابكم إلى) أي كان لكم نسبتان: نسبة إلى ونسبة إلى الأعيان فجعلتها واحدة إحداهما باعتبار باطني، والأخرى باعتبار ظاهري لئلا يتوهم أن المراد بوضع النسب إهانته وبرفعه تعزیزه.
لأن نسبة الأسماء إلى الحق عزيزة دائما، والأخرى ذليلة دائما؛ فلا معنى لذكر ذلك.
ثم قال الشيخ رحمه الله: (أين المتقون؟) أي: الذين يعرفون انتساب الأسماء إلى الحق باعتبار انتسابها إلى صور الموجودات، إذ هم الذين رأوه ظاهر الأشياء.
وإليه الإشارة بقوله: (أي: الذين اتخذوا الله وقاية) بحيث يخفى فيه عندهم جهة الخلق بالكلية، (فكان الله ظاهرهم).
ولما أوهم أن ظهوره فيهم كظهوره في سائر الأشياء رفعه بقوله: (أي: عين صورهم الظاهرة) بحيث لا تطابق صورهم الحق بقدر الطاقة البشرية وبذلك صاروا متقين عن الشرك الخفي أيضا، وهذا أعني قوله اليوم: أضع نسبكم إلى قوله: أين المتقون اقتباس لطيف موهم مأخوذ مما يروى في الأخبار في تفسير قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" [المؤمنون:101]، ومعناه: اليوم أبطل افتخارکم بانتساب بعضكم إلى بعض، وأرفع افتخار من كان منتسبا إلى طاقته، وهم المتقون.
ولكمال ظهور الحق فيه (هو أعظم الناس) قدما أي: سبقا إلى مراتب القرب (وأحقه) أي: أتم في ظهور صفات الحق (وأقواه) في التصرف بالحق (عند الجميع) أي: عند جميع من علمه وعلم حاله، وهذا المعنى منسوب إلى الحق، ويعرف كون أسماء الحق منسوبة إليه باعتبار انتسابها إلينا أيضا.
قال رضي الله عنه : (وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق) بأن صار ظاهر الحق، وصار الحق باطنه فينسب إليه الحق، وهو لا ينسب إلى الحق، كما في قوله: «كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه».
قال رضي الله عنه : (وهوية الحق قوى العبد) فكان سمع العبد وبصره وسائر قواه ظهرت في مرآة الحق، وصورة المرأة متحدة بالمرأة سيما إذا كانت عين صورة تلك المرآة لكنها مضافة إلى ذي الصورة.
قال رضي الله عنه : (فجعل مسمى العبد)، وهو المجموع من الصورة، والعين الثابتة (وقاية لمسمی الحق)، وهو الوجود الحقيقي؛ لأن صورة المرآة تستر المرآة، والساتر وقاية على المستور، وإنما صار المسمى الحق.
لأنه (على الشهود) أي: شهود الحق غير؛ فإن فيه فلابد وأن ينعكس وقاية صورته في مرآة الحق عند مشاهدته الحق، ويصير سمعه وبصره عين الحق يشاهد الكل، ويسمع كلماتهم في مرآة الحق.
قال رضي الله عنه : (حتى يتميز) في شهوده (العالم عن غير العالم) فإن غير العالم وإن ظهرت صورته في مرآة الحق لم يصر عالما إذ الصورة لا تصير من جنس المرآة.  
وإنما جعلت قوى هذا المنفي من جنس المرأة؛ لأنها اكتسبت أولا صورة كاملة استعدت بها رؤية الحق؛ فكانت الصورة الظاهرة في مرآة الحق كأنها عين المرآة بخلاف صورة غيره.
ويدل على هذا قوله تعالى: ("قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون") [الزمر: 9]  فإنهما وإن كانا في مرآة الحق لكن ("إنما يتذكر أولوا الألباب"
[الزمر: 9] وهم الناظرون في لب الشيء)، فهؤلاء إنما صاروا متقين مشاهدين.
لأنهم لا ينظرون إلى صورهم، ولو في مرآة الحق بل إلى لب الصور، وهو الحق لأن لب الشيء عبارة عن الأمر (الذي هو المطلوب من الشيء)، فكانوا طالبين مشاهدة الحق الذي هو لب الكل، فانعكست صورهم إلى مرآة الحق، فصار نظرهم إلى صورهم بالضرورة.
قال رضي الله عنه : (فما سبق مقصر مجدا)، وإن استويا في عدم رؤية اللب لكن هذا المنفى المجد عالم باللب، والمقصر غير عالم به فلا يستويان.
قال رضي الله عنه : (كذلك لا يماثل أجير عبدا) أي: هذا المنفي المحد لما كان طالبا لرؤية اللب كان أجيرا، والمنفي الأول لما لم يكن طالبا لشيء إذ لم يبقي شيئا حتى يبقى له طلب كان عبدا، وكما لا يستوي المقصر مع المجد كذلك لا يماثل أجير عبدا.
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه)، وهو كون الحق ظاهرا في مرآة العبد.(والعبد وقاية للحق بوجه) "كون الحق" باطنا.
(فقل: في الكون) أي: الموجودات الظاهرة (ما شئت) بالاعتبارات المختلفة :
(إن شئت قلت: هو الخلق، وإن شئت قلت: هو الحق) أي: صورته ظهرت في مرأة الخلق باعتبار كون الحق وقاية.
قال رضي الله عنه : (وإن شئت قلت: هو الحق الخلق) باعتبار ظهور كل في مرآة الأخر مع عدم تميز المرأتين، فإن الأعيان إنما تثبت في علم الحق الذي لا يغايره من كل وجه.
(وإن شئت قلت: لا حق من كل وجه، ولا خلق من كل وجه) باعتبار تتميز المرآتين من وجه، وهو وجه تمایز العلم عن الذات.
قال رضي الله عنه : (وإن شئت قلت بالحيرة) بأن تقول: لا يعلم ما الظاهر، وما الباطن إذ الظاهر في مرآة صار باطنا باعتبار كونه نفس المرأة بنظر آخر.
إذا عرفت هذا (فقد بانت المطالب)، أي: مطالب كل واحد من المعنيين (بتعيينك المراتب) أي: مراتب الثبوت باعتبار ذاته وظهوراته، وأن التعيين مستلزم للتحديد، فلا بأس بذلك.
والدليل عليه أنه (لولا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه)، وهو ما ورد أن الله تعالى يتجلى يوم القيامة للخلق في صورة تنكر، فيقول: "أنا ربكم الأعلى" [النازعات:24] .
فيقولون: أعوذ بالله منك ثم يتجلى في صورة عقائدهم فيسجدون له، وإذا كان الكل من مراتب الحق مع أن له التحول في الصور ولا صورة للأعيان من حيث هي عدم.
قال رضي الله عنه : (فلا تنظر العين) في مرآة الحق والخلق (إلا إليه)، ولا يختص ذلك بالرؤية بل (لا يقع الحكم إلا عليه)، سواء كان الحكم بالرؤية أو غيرها، إذ المعدوم من حيث هو معدوم لا يثبت له حكم.
فلا حكم على الأعيان بالرؤية وغيرها، إذ المعدوم من حيث هو المعدوم لا يثبت له حكم.
فلا حكم على الأعيان بالمراتب وغيرها، إلا باعتبار ثبوتها في علمه الذي لا يغايره من كل وجه.

قال رضي الله عنه : (فنحن) أي: الأعيان ثابتون (له)، وقائمون (به)؛ الأن كثبوت العرض للجوهر وقيامه به، وذلك لأنا (في يديه) و محل تصرفه، ومتى كان من صفاته ليس محل تصرفه، و (في كل حال فإنا لدية) كما قال: "وهو معكم أين ما كنتم" [الحديد: 4] .
فكأننا ملتبسون به التباس الصفة بالموصوف، (وهذا) أي: ولكوننا لديه التبس أمره التباس الخمر بالزجاج، فتارة (ينكر)؛ فيقال: المرئي هو الحق.
وتارة (يعرف) فيقال: الوجود، إما ذاته أو صوره القائمة به الأن الكائنة فيه بالقوة قبل الآن.
قال رضي الله عنه : (وینزه) إذا أنكر فيقال: لا صورة له في ذاته، فكيف يظهر بهذه الصور، (ويوصف) الظهور إذا عرف أنه، وإن تنزه عن الصور في ذاته فله أن يتصور بأي صورة شاء كما تصور جبريل بصورة دحية الكلبي. 
وقد ورد تحول الحق في الصور، وورد أيضا: "مرضت؛ فلم تعدني، وجعت؛ فلم تطعمني"، "وكنت سمعه وبصره" .
ولا بأس بما يلزمه من شبه التماثل؛ فإنه لازم لاتصافه بصفاته من الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها، وإذا كان لا ينظر العين إلا إليه ولا يقع الحكم إلا عليه، (فمن رأى الحق منه) فيه قال رضي الله عنه : (بعينه) بأن يكون هو الرائي والمرئي وقوة البصر، (فذلك العارف) الذي عرف أن ما عداه عدم صرف لا يصلح لشيء من ذلك.

قال رضي الله عنه : (ومن رأى الحق منه) فيه (بعين نفسه فذلك غير العارف)؛ لأنه وإن كان جعله الرائي والمرئي لكن أثبت قوة البصر لنفسه، ظنا منه أنها لو كانت أيضا للحق، فهو رأي نفسه بنفسه في الأزل.
فتقول: عينه في الأول صفته، وهذا العين مظهرها كالرائي مظهر الرائي الحق، فلذلك تتفاوت الرؤيتان لا محالة.
قال رضي الله عنه : (ومن لم ير الحق منه) ولا فيه، فلم يجعله الرائي ولا المرئي الآن، (وانتظر أن يراه)
في القيامة (بعين نفسه، فذلك الجاهل) الذي منع القول بظهوره في المظاهر، وانتظر الرؤية من غير مثال في التنزيه المحض ولو حصل انعكست صورة الرائي فيحجبه، ولذلك قال تعالى:"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" [الأنعام: 103].
قال رضي الله عنه : (وبالجملة) أي: سواء كان الشخص عارفا أو غير عارف، أو جاهلا (فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه) يأخذها من العقل والنقل من الكتاب أو السنة أو الكشف : عن هواه، ولا عن تقليده الجهال.
إذ قصده من ذلك أنه (يرجع بها إليه) في عبادته (ويطلبه فيها) في دعواته، فلا ينبغي أن يتقيد من ذلك بعقد مخصوص مع ورود الشرع والكشف بالجميع.
(فإذا تجلى له الحق فيها) ، أي: في صورة عقيدته (عرفه) بقلبه (وأقر به بلسانه، فاستبشر) وإن تجلى له في غيرها أنكره بقلبه (وتعوذ منه) بلسانه.
وهو بهذا الإنكار والتعوذ (أساء الأدب عليه في نفس الأمر)؛ لأنها صورة نسبها إلی نفسه ، وقد خالفه هذا المنکر .

قال رضي الله عنه : (وهو عند نفسه)، أي: في اعتقاده (أنه قد تأدب معه) إذ نزهه عن الصور التشبيهية ، وليس من هذا القبيل الإنكار على الإنسان والشيطان في دعوت الربوبية؛ لأنهما يدعيان الربوبية لأنفسهما، والصورة المتجلي فيها إنما تدعي الربوبية لربها لا لنفسها.
فإن ادعت فهي دعوی ربها كما في شجرة موسى عليه السلام .
وكذا الإنكار على الشيطان إذا سول للإنسان في خياله صورة وزعم أنها هي الحق؛ لأن الإنكار عليه من حيث إن الحق لم يتجلى عليه في تلك الصورة بنسبتها إليه.

"" أضاف الجامع : جاء في  ذيل طبقات الحنابلة ابن رجب الحنبلي :
عن موسى ابن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه قال: سمعت والدي يقول: خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية ومكثت أياما لا أجد ماء، فاشتد بي العطش فأظلتني سحابة، ونزل عليِّ منها شيء يشبه الندى. فترويت به.
ثم رأيت نورا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، و نوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات . أو قَالَ: ما حرمت على غيرك.
 فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اخسأ يا لعين. فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان.
 ثم خاطبني وقال: يا عبد القادر، نجوت مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك. ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق.
 فقلت: لربي الفضل والمنة.
قَالَ: فقيل له: كيف علمت أنه شيطان. قَالَ: بقوله: وقد أحللت لك المحرمات.أهـ ""

إذ لو تجلى "الحق" فيها كذلك لحصل في ذلك التجلي خواص من سماع كلامه من كل جهة، وبكل حاسة، ورؤيته المتكلم والمجيب جميعا. كما حكي في قصة موسى عليه السلام ؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا يعتقد معتقد إلها إلا بما جعل في نفسه، فالإله في الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم و ما جعلوا فيها.
فانظر: مراتب الناس في العلم بالله تعالى هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة.
وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك . فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول «فأينما تولوا فثم وجه الله» وما ذكر أينا من أين.
وذكر أن ثم وجه الله، ووجه الشيء حقيقته.
فنبه بذلك قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض، فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور. )

ثم أشار إلى أنه لا وجه للإنكار على تلك الصورة من حيث هي مجعولة، (فلا يعتقد معتقد) من أهل الحق أو الباطل (إلها إلا بما جعل في نفسه) أي: أحدث صورته في نفسه، سلمنا أنه لا يحدث تلك الصورة.

ولكن (الإله) من حيث هو (في الاعتقادات) لا يكون إلا من عوارض النفس أو الروح أو القلب، فلا يكون إلا (با لجعل)؛ لأن معرضه مجعول، فالعارض أولی.
(فما رأوا) عند تجلي الحق في صورة معروفة أو منكرة (إلأ نفوسهم وما جعلوا فيها) .
كيف ولو كوشف لهم عن الحق الصریح انعكست صورهم إلى مرآته فما يرون إلا صورهم عند رؤيتهم الحق، فعلم أن التجلي لكل شخص على مقدار علمه.

قال رضي الله عنه : (فانظر مراتب الناس في العلم بالله) هو أي: ذلك العلم بحسب مراتبه (عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة)، وكيف لا (وقد أعلمتك بالسبب الموجب) لكون الرؤية على مقدار العلم.
وهو أن نفسه يتصف (لذلك) العلم ويتصور به، وتلك الصورة تنعكس إلى مرآة الحق فتراها عند رؤية الحق، وإذا كانت الرؤية يوم القيامة التي هي أقصى المطالب للكمل على مقدار العلم و صورة الاعتقاد.

"" أضاف الجامع : في ظهور الحق تعالى يوم القيامة :
أخرج الترمذي بإسناده عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:  "يجمع الله تعالى الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين
فيقول: ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ، ولصاحب التصاویر تصاویره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون .
ويبقى المسلمون، فيطلع عليهم رب العالمين فيقولألا تتبعون الناس.
فيقولون: نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نری ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم، ثم يتوارى.
ثم يطلع فيقول: ألا تتبعون الناس
فيقولون: نعوذ بالله منك، الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم  ويثبتهم، ثم يتوارى .
ثم يطلع فيقول : ألا تتبعون الناس
فيقولون: نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك الله ربنا، وهذا مكاننا حتى نرى ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم إلى آخر الحديث الطويل .ورواه البخاري ومسلم وغيرهما.""
"" وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم والنسائي بإسنادهم إلى أبي سعيد الخدري إلى أن قال: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله عز وجل من بر وفاجر .
أتاهم الله عز وجل في أدنى صورة من التي رأوه فيها .
قال : فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد
قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما کنا إليهم ولم نصاحبهم
فيقول: وأنا ربكم
فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثة حتى أن بعضهم ليكاد ينقلب .
فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها .
فيقولون: نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله عز وجل من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود.
ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله تعالی ظهره طبقة واحدة كما أراد أن يسجد على قفاه .
ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة.
قال: فيقول: "أنا ربكم "
فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة.
ويقولون: اللهم سلم، سلم .
" قيليا رسول الله، وما الجسر؟ إلى آخر الحديث.
وهناك روايات أخرى غير هذا في كتب الحديث النبوي . . أهـ ""

قال رضي الله عنه : (فإياك أن تتقيد) في اعتقادك (بعقد مخصوص) من الاعتقادات التي دل عليها الشرع أو الكشف أو العقل، (وتكفر بما سواه) مع ثبوته بأحد ما ذكر .
(فيفوتك خير كثير) من فوائد التجليات المختلفة، ومن التجلي الجامع ومن التطبيق بين دلائل العقل والشرع والكشف.
قال رضي الله عنه : ( بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه)؛ لأن هذه الدلائل كلها صادقة فمخالفة واحد منها توجب الجهل الموجب للحجاب الموجب للعذاب، والعياذ بالله من ذلك.
(فکن) معتقدا اعتقادا منطبقا (في نفسك هيولي) قبول (لصور المعتقدات) .

"" أضاف الجامع :
الـ هيول : هباء منبث وهو ما تراه في البيت من ضوء الشمس يدخل من الكوة .
و الهيولي : مادة الشيء التي يصنع منها كالخشب للكرسي وكالحديد للمسمار . كذلك الجوهر القابل لما يعرض للجسم من أشكال.
قال الشيح رضي الله عنه الهيولي : هو العنصر الأعظم ، الذي هو أصل السموات والأرض وما
بينهما ، وأصل أركانها ومادتها.
يقول الشيخ شهاب الدين السهروردي الهيولي : عبارة عن جسم يلبس تارة الصورة النارية ، وتارة الصورة الهوائية ، وتارة الصورة المائية ، وتارة الصورة الترابية.
يقول الشيخ عبد الحق بن سبعين الهيولي : هو جوهر بسيط قابل للصورة.
يقول الشيخ عبد الغني النابلسي الهيولي : هو المادة الكلية التي هي ممدة للأجسام الفلكية والعنصرية. ""
أي: معتقدات أهل الأدلة العقلية أو الشرعية أو الكشفية (كلها) دائما.
قيدنا الاعتقاد بإحدى الدلائل؛ لأن ما خالفها ليس من الاعتقادات التي فيها عقد القلب وجزمه لتزلزله بأدنى شيء، إذ لا تستند إلى دليل.
 فإن حصل فيه الجزم فهو کلا جزم، وذلك بأن يعتقد أنه في ذاته منزه عن الصور كلها، وفي الظهور يتصور بكل صورة مخصوصة.
فهذا الاعتقاد لغاية سعته أليق بالحق، فإن الإله تبارك وتعالى أوسع في التجلي (وأعظم أن يحصره عقد دون عقد)، فإن العقود بحسب علم المعتقدين وإفهامهم "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" [الإسراء: 85].
وهذا ما أشار إليه الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتاب "التوبة في بيان وجوب التوبة وفضلها" أن جماعة من العميان سمعوا أنه قد حمل إلى البلد حيوان عجيب يسمى الفيل، وما كانوا قد شاهدوا صورته، فقالوا: لا بد من معرفته باللمس الذي نقدر عليه، فيما لمسوه وقع يد بعضهم على رجله، ويد بعضهم على نابه، وبعضهم على أذنه، فقالوا: قد عرفناه !.
فلما انصرفوا سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم.
 فقال الذي لمس الرجل: إنه مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها.
 وقال الذي لمس الناب: بل هو صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه، وليس في غلظ الأسطوانة أصلا بل هو عمود.
 وقال الذي لمس الأذن هو لين وفيه خشونة، ولكن ما هو مثل عمود ولا مثل أسطوانة، وإنما هو مثل جلد غلية عريض.
فكل واحد أخبر عما أصابه من معرفة الفيل، ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل.
فاستبصر بهذا المثال، واعتبر به؛ فإنه مثال أكثر ما اختلفت فيه آراء الناس.

وهذا المعنى منصوص في الكتاب العزيز الإلهي، (فإنه تعالى يقول: "فأينما تولوا قم وجه الله") [البقرة: 115] .
وجه الاستدلال أنه (ما ذكر) للتولي إليه (اينا) متميز (من أين)، فيصح التولي والتوجه إليه في كل أين.
أي: في كل معتقد دل عليه العقل أو الشرع أو الكشف، وإنما قلنا: المراد التوجه إليه لا إلى القبلة.
لأنه (ذكر أن ثم وجه الله ووجه الشيء هو حقيقته)، فالتوجه إلى كل أين توجه إلى حقيقة الحق، فينبغي أن يقصد في التوجه إلى كل أين حقيقة الحق الظاهرة في ذلك الأين، ولكن لا يعبد الأين، ولا ما يظهر من الأرواح الشيطانية أو غيرها.
ولا يعتقد في ذلك رؤية الحق الصريح إلا بالخواص المذكورة؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
وإذا كان في كل أين وجه، والناس لا يخلون عن التوجه إلى أين، (فنبه بهذا قلوب العارفين) أن يتوجهوا إليه في كل ما يتوجهون إليه من أشغالهم.
قال رضي الله عنه : (لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا)، فيكونوا غافلين عن الحق، وربما يفاجئهم الموت على هذه الحالة.
(فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض، فربما يقع القبض في وقت غفلة)، فيقع الحجاب بينه وبين ربه.
وبالجملة (فلا يستوي مع من يقبض على حضور)، وقد ورد كما يموتون يبعثون؛ فيكون الحاضر كالمتوجه إلى الحق وغيره كالمستدبر عنه، وفيما ذكره من التنبيه.
إشارة إلى ما ذكرنا أي: أنه ليس ليعبده أهل الحق في جميع تلك الصور.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا يلزم في الصورة الظاهرة والحال المقيدة التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته، و هو بعض مراتب وجه لحق من «فأينما تولوا فثم وجه الله». فشطر المسجد الحرام منها، ففيه وجه الله.
ولكن لا تقل هو هنا فقط، بل قف عند ما أدركت و الزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام و الزم الأدب في عدم حصر
حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة، بل هي من جملة أينيات ما تولى متول إليها. فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة، و ما ثم إلا الاعتقادات.
فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضي عنه وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة.
فقد مرض وتألم أهل العناية- مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق- في الحياة الدنيا. فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم، و مع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم، أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان و الله أعلم .)

قال رضي الله عنه : (ثم إن العبد الكامل) الذي اعتقاده هیولی صور المعتقدات (مع علمه بهذا) أي: بكونه في كل أين لا يكفيه ذلك بحسب الأحوال كلها.
 بل (يلزمه في الصورة الظاهرة) وإن كان في الباطن متوجها إلى ما هو هيولى، صور المعتقدات كلها.

"" قال القاشاني الهيولى: عندهم اسم الشيء بنسبته إلى ما يظهر فيه صورة، فكل باطن يظهر فيه صورة يسمونه هيولى."
قال رضي الله عنه : (والحال المقيدة) وهي حال الصلاة في الأمن غير النافلة، حالة السير في السفر إلى مقصد معين.
قال رضي الله عنه : (التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام) لكونه أول بيت وضع للناس، أي: لعبادتهم التي خلقوا لها، وقد كان مبدأهم الترابي من تلك الجهة.
فأشبه المبدأ الروحاني، ولذلك يلزمه أن (يعتقد أن الله) ظهر (في قبلته)
ظهورا یوجب التوجه إليها في عبادة الحق، ولكن لا نعبد القبلة نفسها، ولا نعتقد ألوهيتها.
وإلا لم يختص وجوب هذا الاعتقاد (حال صلاته)، ولكن النص خصصه بها.
قال صلى الله عليه وسلم : "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصقن قبل قبلته فإن الله في قبلته ".
وفي رواية«إن أحدكم إذا قام في الصلاة، فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزق أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو يمينه" . رواه البخاري ومصنف ابن أبي شيبة و عوالي الحارث بن أبي أسامة ومسند الشاميين للطبراني و ورى مثله الحاكم.



""وفي رواية مسلم : "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب، فرأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون، ثم أقبل علينا فقال: «أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟» قال فخشعنا، ثم قال: «أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟» قال: فخشعنا، ثم قال: «أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟» قلنا: لا أينا، يا رسول الله قال: «فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا الى آخر الحديث » ورواه أحمد وابو داود وغيرهم.""

قال رضي الله عنه : (وهي) وإن كان موجبا للتوجه إليه والإيمان به (بعض مراتب وجه الحق) كسائر مراتبه الكاملة من الأنبياء والملائكة واليوم الأخر وغير ذلك مما يجب الإيمان به، ولا تكفي الاعتقادات بدونها.
لأنها داخلة (في) قوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله "  [البقرة: 115] .
لكن هذه وجوه خاصة، (فشطر المسجد الحرام منها ففيه وجه الله) بنهج خاص يمنع التوجه إلى ما سواه.
قال رضي الله عنه : (ولكن لا تقل هو هاهنا فقط)، أي: في شطر المسجد الحرام، وكذا لا تقل في تلك المظاهر الملائكة والنبوة كما قالت النصارى في المسيح والصابئون في الملائكة (بل قف عند ما أدركت) من كونه وجها خاصا يوجب التوجه.

قال رضي الله عنه : (والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام)، فلا تجعل المسجد نفس المعبود، ولا يكن كونه مظهرا خاصا موجبا للتوجه إليه لشبهة المبدأ خلاف ما يتوجه إليه عبدة الأصنام مثلا.
قال رضي الله عنه : (والزم الأدب في عدم حصر الوجه) الإلهي (في تلك الأبنية الخاصة)، أي: وإن كان له نوع اختصاص يوجب التوجه إليها في العبادة.
قال رضي الله عنه : (بل هي) أي: أبنية المسجد الحرام (من جملة أينيات ما تولى متول إليها) في طلب الحق، لكن خصت بالجذب إلى الحق دون سائر الجهات .
فإن عبادة الأصنام وغيرها من العنصريات والفلكيات إنما تجذب إلى الشياطين وإنكار النبوة و الأمور الأخروية.

وإذا ورد في القرآن: "فأينما تولوا فثم وجه الله " ؛ (فقد بان لك عن الله أنه في أينيته كل وجهة)، ومعلوم أنه منزه عن المكان والجهة. "قال تعالى : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" [الأسرار : 23 ]".
فتعين أنه (ما ثم) أي: في الأينيات أي: (الاعتقادات)، أي: الصور المعتقدة وقد علمت أن المعتقد إما يصير معتقدا عندما يوجب الجزم به من الدليل عقلي أو شرعي أو كشفي.
فالكل من المعتقدين المتولين إلى الصور قاصدين بذلك التوجه إلى الحق نفسه لا إلى الصور ولا إلى ما يظهر فيها من أرواح الشياطين وغيرها (مصيب)، وإن أخطأ بعضهم في حصر الحق في بعض الصور وهم البراهمة، أو بنفي الصفات عنه أو إثبات ما ليس من صفاته له.

قال رضي الله عنه : (وكل مصيب مأجور) بقدر إصابته إن لم يحيط أجر إصابته باعتقاد إلهية الصور، أو أرواحها أو الإخلال بالإيمان لما يجب به الإيمان فيؤجر لا محالة، وإن عوقب بما أخطأ أو باشر من الكبائر أو الصغائر.
قال رضي الله عنه : (وكل مأجور سعيد)، كيف لا (وكل سعيد مرضي عنه)، والألم يعطي الأجر، والرضا غاية السعادة، فلا تبطل سعادته الباقية بعد تعلق الرضا به.
قال رضي الله عنه : (وإن شقي زمانا) قبله (في الدار الآخرة) بما فاته من نور الاعتقاد الجامع الذي هو هیولی صور الاعتقادات كلها، وكيف تنافي هذه الشقاوة سعادته.

قال رضي الله عنه : (فقد مرض وتألم أهل العناية) وهم الأنبياء والأولياء (مع علمنا بأنهم سعداء)، وكيف لا هم (أهل الحق في الحياة الدنيا) حال ما باشرهم المرض والألم، فكيف تنافي الشقاوة السابقة السعادة اللاحقة.
فمن عباد الله المعتقدين فيه الاعتقادات المخصوصة التي دل عليها إحدى الأدلة المذكورة (من تدركهم تلك الآلام ) المسماة عذابا لما فاتهم من الاعتقاد الكامل (في دار تسمى جهنم) وراء شدائد القيامة والقبر.
وأشار بهذه العبارة إلى أنها بالنظر إلى ما يحصل لهم من السعادة الكاملة بسبب التصفية الحاصلة لهم منها، كأنها اسم لا مسمى في حقها.

قال رضي الله عنه : (فلا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه)، وإن اختلف المتكلمون فيه تكفيرهم بعضهم أيضا مع كون الكل من أهل القبلة (أنه لا يكون لهم في تلك الدار) فضلا عما يحصل لهم بغير
الخروج عنها (نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه، فارتفع عنهم) بأن يصيروا کالأموات قبيل الإخراج من النار.

قال رضي الله عنه : (فیکون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم)، وإن كان هذا كالعدم (أو يكون نعيم مستقل زائد) على دفع الألم عندما أعلموا بقرب الخروج من النار، فإنه يكون (کنعيم أهل الجنان في الجنان والله أعلم).
وليس هذا في حق المشركين والجاحدين له، أو لشيء مما يجب الإيمان به إذ كلامنا في المعتقدين في الله اعتقادا دل على إحدى الأدلة المذكورة.
والمشرك لما اعتقد ألوهية الغير؛ فإن كان من الأمور الموهمة؛ فقد اعتقد في الله هو ما اعتقده مما ليس بشيء، فكأنه لم يعتقده أصلا، وإن كان من الأمور الموجودة، ولا شك أنه حادث.
فقد اعتقد جواز كون الإله حادثا، وليس بإله فكأنه لم يعتقد إلوهيته أصلا.
والجاحد له أمره ظاهر في عدم الاعتقاد، وأما الجاحد لما يجب الإيمان به فجاحد اليوم الأخر جاحد لدوام وإلهيته عليه السلام.
وجاحد الأنبياء جاحد اليوم الأخر إذ لا يعرفه بدونهم، وجاحد الملائكة والكتب الإلهية، جاحد للنبوة وجاحد القدر جاحد للعلم الإلهي الذي به وإلهيته.

فإن سلم صحة اعتقاد الجاحد لشيء يجب الإيمان به مع ما يعارضه مما ذكرنا؛ فنقول: المراد أنهم تنحدر جلودهم حالة النضج والتبديل؛ فلا يجدون الآلام في تلك الحالة، وربما يجد بعضهم في تلك الحالة نعيما خياليا كما يراه النائم، حتى إذا بدلت جلودهم عادت الألام عليهم.
وقد صرح بذلك في «الفتوحات المكية في الباب الثاني والستين في مراتب أهل النار، وإليه يشير قوله تعالى: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب" [النساء: 56] .
فلو حصل لهم العذاب حالة النضج لم يحتج إلى التبديل، وربما يشير إليه قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك" [هود: 107] في سورة هود عليه السلام بعد قوله:
"فأما الذين شقوا في النار هم فيها زفير وشهيق خلين فيها ما دامت الشموت والأرض" [هود: 106، 107].
وربما يشير إليه أيضا قوله تعالى: "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا" [النبأ:30].
فإنه لا بد للزائد من المزيد عليه، وهو النعيم الواقع في الأزمنة القليلة المتحللة بين أزمنة العذاب الكثيرة التي لا يعقل معها أزمنة النعيم لغاية قلبها؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ولما فرغ عن بيان الحكمة الأحدية والواصل إليها، فتح ما اختزنته من الكثرة التي فيها بالقوة کالعدد في الواحد.
شرع في الحكمة الفاتحية المخرجة لما فيها بالقوة إلى الفعل؛ فقال:

.


واتساب

No comments:

Post a Comment