Friday, August 2, 2019

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السابع فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية
(1) فص الحكمة العلية في الكلمة الإسماعيلية
(1) يشرح هذا الفص بعض نواحي العلاقة بين الحق و الخلق- أو بين الواحد و الكثير- و هو الموضوع الذي أشار إليه المؤلف في أواخر الفص السابق.
و لكنه يزيده هنا تفصيلًا بالإضافة إلى الأسماء الإلهية التي يطلق عليها اسم الأرباب، و ما يقابل هذه الأسماء من مظاهر العالم الخارجي، و هي ما يطلق عليه اسم العبيد. و في خلال مناقشته لهذا الموضوع يشير المؤلف- لا سيما في الأبيات الواردة في آخر الفص- إلى بعض آرائه الهامة في مسألة الثواب و العقاب و النعيم و الشقاء في الدار الآخرة.
إن الموجود الذي نطلق عليه اسم «اللَّه» أحديٌّ بذاته كلٌ بأسمائه: أعني أننا إذا نظرنا إليه من حيث ذاته حكمنا بواحديته و وحدته، و إذا نظرنا إليه من ناحية ظهوره في الموجودات بصورة الأسماء، حكمنا بكثرته. و هذا هو معنى «كل» إذ الكل هو المجموع المؤلف: أي الواحد الذي يحتوي الكثرة.
و قد سبق أن ذكرنا أن كل موجود إنما هو مجلى أو مظهر من مظاهر الحق في صور اسم أو أكثر من اسم من الأسماء الإلهية، بل ذكرنا أن العالم الذي هو جماع الموجودات كلها هو عين الأسماء التي سمَّى اللَّه بها نفسه و سميناه نحن بها.
و نزيد هنا أن كل اسم خاص من الأسماء التي تظهر في موجود من الموجودات هو «ربّ» هذا الموجود.
و لكنا قلنا إن كل اسم إلهي هو في الوقت نفسه عين الذات الإلهية لا غيرها، و على هذا كان كل موجود مظهراً لربه الخاص (الذي هو الاسم الإلهي) و مظهراً للذات الإلهية المسماة بهذا الاسم. و يستحيل أن يكون أي موجود من الموجودات المتعينة المتكثرة مظهراً للحق الذي هو «الكل» أو مظهراً لجميع الأسماء الإلهية (الأرباب). و لهذا قال «و كل موجود فما له من اللَّه إلا ربُّه خاصةً: يستحيل أن يكون له «الكل».

(2) «فأحديته مجموع كله بالقوة».
(2) الضمير في كله عائد إلى «مسمَّى اللَّه»: أي فأحدية مسمى اللَّه هي عبارة عن كونه مجموع الأسماء الإلهية كلها المتعينة فيه بالقوة. و قلنا المتعينة فيه بالقوة دون الفعل لأنها كالكليات لا تتعين بالفعل إلا في مظاهرها الخارجية التي هي الموجودات.
فهي موجودة في الذات الإلهية بالقوة و الإجمال و في العالم الواقعي بالفعل و التفصيل و إليه الإشارة بقول القائل:
كل الجمال غذاء وجهك  ..... مجملًا لكنه في العالمين مفصل
و في استعمال كلمة الأحدية بالنسبة لمسمى اللَّه الجامع لجميع الأسماء خروج على الاصطلاح الذي جرى عليه المؤلف في مواضع أخرى، إذ أنه يقصر صفة «الأحدية» على وحدة الذات المجردة عن جميع الأسماء و الصفات، و يستعمل «الواحدية» لوصف الذات المتصفة بالأسماء و الصفات، و يتكلم عن حضرتين: حضرة الأحدية و حضرة الواحدية. 
و حضرة الواحدية هذه هي أيضاً حضرة الأعيان الثابتة التي تجلى فيها الحق لنفسه في صور أعيان هذه هي أيضاً حضرة الأعيان الثابتة التي تجلى فيها الحق لنفسه في صور أعيان الممكنات الثابتة: و هي التجلي العلمي و الفيض الأقدس الذي أشرنا إليه (قارن الفص الأول).
و مما يدل على أنه يقصر الوصف بالأحدية على الذات الإلهية قوله في الجملة السابقة «و أما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم لأنه لا يقال لواحد منها شي ء و لآخر منها شي ء لأنها لا تقبل التبعيض». فالحق من حيث ذاته لا يوجد على سبيل التجزئة و التبعيض في أي شي ء لأن هذا يتنافى مع وحدته المطلقة.

(3) «و لهذا قال سهْل إن للربوبية سراً و هو «أنت»، يخاطب كل عين، لو ظهر لبطلت الربوبية».
(3) كلمة ظهر هنا بمعنى زال لا بمعنى وضح أو برز أو خرج إلى الوجود. و للكلمة هذا المعنى في اللغة العربية كما أن لها المعنى الثاني.
قال الشاعر:
و عيَّرها الواشون أني أحبها و تلك ....  شكاة ظاهر عنك عارها أي زائل.
قارن شرح القيصري (ص 153 - 154) و بالي (ص 130).
و المراد «بأنت» عالم الخلق إذ «أنت» ضمير المخاطب و هو إشارة إلى الظاهر: و لذلك رمزوا لعالم الغيب بهو الذي هو ضمير الغائب. و يصح أن يكون المراد ب «أنت» الأعيان الثابت للموجودات. و سواء أريد عالم الخلق الظاهر أو أعيان الموجودات الثابتة، فالربوبية صفة تزول عن الحق إذا زال أثرها و هو المربوبون. و قد سبق أن قلنا إن الأسماء الإلهية هي الأرباب المتجلية في الأشياء.
فالربوبية إذن هي حضرة الأفعال: أو المجال الذي تظهر فيه آثار الأسماء الإلهية.
فهي قائمة ما قامت الموجودات أو ما قامت أعيانها الثابتة، كما أن العلة قائمة ما قام معلولها: فإن زال المعلول زالت علته (على فرض عدم وجود علة غيرها).
و لكن أعيان الموجودات الثابتة لا تزول عن الوجود أبداً و إن زالت صورها الخارجية العارضة. إذن لن تزول الربوبية عن الحق.
و قد أشار ابن العربي  إلى هذا المعنى في الفص الخامس عشر في قوله:
فلولاه و لولانا ..... لما كان الذي كانا
أي فلو لا الحق الذي هو علة وجودنا، و لولانا أي لو لا أعياننا التي هي علة ظهوره لما وُجد هذا النظام الكوني على النحو الذي وُجد عليه، و لما سمي الحق حقاً و لا رباً.

(4) «و كذا كل موجود عند ربه مرضي»
(4) كل موجود- من حيث هو مظهر لاسم من الأسماء الإلهية (رب من الأرباب) مرضي عند ذلك الرب، و كيف لا يكون مرضياً عند ربه و هو سر ربوبيته؟
و لا فرق في ذلك بين من يظهر بصور العاصي و من يظهر بصورة المطيع، و من يظهر بصورة الكافر و من يظهر بصورة المؤمن، لأن للَّه نوعين من الصفات:
صفات الجمال و صفات الجلال. فللعصاة و الكفار و نحوهم أربابُهم كالجبار و القهار و المضل و المعذب و هي ظاهرة فيهم. 
و للطائعين و المؤمنين و نحوهم أربابهم كالهادي و الرحيم و الودود و هي ظاهرة فيهم.
يجب إذن أن نفرّق بين كون العبد مرضياً عند ربه، و كونه مرضياً في نظر الدين أو الأخلاق، لأنه يكفي في الرضا الأول أن يكون فعل العبد مظهراً من المظاهر التي يتحقق فيها معنى اسم من الأسماء الإلهية مهما كان ذلك الفعل. و يلزم للرضا الثاني أن يأتي فعل العبد مطابقاً لأمر من أمور الدين أو قانون من قوانين الأخلاق. 
و لا تناقض بين الاثنين في رأي المؤلف: أي لا تناقض بين أن يكون العاصي مرضياً عند ربه الخاص و غير مرضي عنه في نظر الدين أو العرف أو الأخلاق.
و قد شرحنا وجهاً من وجوه هذه النظرية في كلامنا عن نظرية ابن العربي  في جبرية الأفعال و ما ذكره عن الأمر التكويني و الأمر التكليفي (الفص الخامس التعليق السابع) و سيأتي تفصيل ذلك في الفص السابع عشر.
و من ناحية أخرى لا تعارض بين أن يكون العبد مرضياً عند ربّ من الأرباب غير مرضي عند ربّ آخر، لأن كل موجود يأخذ مربوبيته من الكل الأسمائي بحسب ما يناسبه و يلائم طبيعته و استعداده. 
و لذلك تظهر الأسماء الإلهية في الموجودات بحسب ما تقتضيه طبيعة أعيان الموجودات ذاتها.

(5) «و لهذا منع أهل اللَّه التجلي في الأحدية».
(5) كل ما هو موجود في عالم الظواهر إنما هو مجلى أو مظهر للواحد الحق: أي هو صورة جزئية للكل المطلق.
و لذا لا يقال في أي موجود إنه الحق إطلاقاً و إنما يقال إن الحق تجلى فيه في صورة من صوره التي لا تحصى. أما الأحدية الذاتية فلا يقع فيها التجلي أبداً: أي أن الحق لا يظهر بأحديته في أي شي ء. بل إن من التناقض أن تقول إنني شاهدت الحق في أحديته، لأن المشاهدة نسبة بين طرفين:
مشاهِد و مشاهَد، و هذه النسبة تتنافى مع الوحدة. فما دام للأنا وجود فالاثنينية- لا الأحدية- موجودة. و لهذا كله ينكر ابن العربي  إدراك الوحدة الوجودية في هذا العالم، و من الحمق في نظره أن نقول إن العبد في حال الفناء يصير «حقاً» لأنه لا صيرورة في مذهبه إذ الصيرورة تقتضي الاثنينية و الاثنينية تناقض الوحدة.
فمذهب وحدة الوجود الذي يقول به ابن العربي  إذن دعوى تؤيدها فطرة العقل أكثر مما يؤيدها الذوق الصوفي. هو لا يقول إن الوجود وحدة لأن ذلك ينكشف له في حاله، فقد رأينا أنه يقرر استحالة تجلي الحق في الوحدة، و إنما يعتبر القول بالوحدة الوجودية أولية من أوليات العقل غنية عن الدليل. 
أما التجربة الصوفية فحال تتحقق فيها ذوقاً بوحدتك الذاتية مع الحق. فالقضية الأولى و الأساسية في مذهبه هي أن الوجود كله واحد و هو وجود الحق. أما إذا ذكرت أنك تشاهد الحق أو تتحد به أو تفنى عن نفسك فيه، أو ما شاكل ذلك من العبارات، فإنك واقع لا محالة في الاثنينية. 
و ما دام الناس يتكلمون عن الحق و يصفونه، و يتكلمون عن أنفسهم و عن إدراكهم للحق، فهم اثنينيون، و لكن الشعور باثنينية الذات المدركة و الموضوع المدرَك شي ء، و القول باثنينيتهما شي ء آخر. و ابن العربي  إن سلّم بالأول لا يسلم بالثاني.
ثم هو يوضح استحالة تجلي الحق في الأحدية بما لا مزيد عليه في العبارة التالية فيقول: إن نظرت الحق به أي إن اعتبرت وجودك هو وجود الحق و أسقطت وجودك الخاص، كان الحق هو الناظر لنفسه و كان حكمك لا معنى له. و إن اعتبرت الوجودين- و هو معنى قوله و إن نظرته بك- زالت الأحدية. 
و كذلك إذا اعتبرت الوجودين- وجوده و وجودك- و قلت إنك نظرته بك، ثم به (في حال فنائك فيه) و هو معنى قوله: «و إن نظرته به و بك» زالت الأحدية أيضاً.
قارن ذلك بالتعليق الثاني عشر في الفص الأول، و التعليق العاشر في الفص السادس.

(6) «فَفَضَل اسماعيل غيره من الأعيان ... إلى قوله جنتي التي بها سِتْري».
(6) لم يفضل اسماعيل غيره من أعيان الموجودات إلا بأن اللَّه تعالى نص على أنه مرضيٌ عند ربه في قوله: «وَ كانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» (س 19 آية 56) و إلا فكل موجود مرضي عند ربه كما قدمنا.
و كل نفس مطمئنةٌ راضية بربها مرضية عنده. و إذن لا يخاطب اللَّه تعالى في قوله «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً» نفساً دون نفس، و إنما يخاطب النفوس جميعاً، بل الموجودات جميعاً. 
ألم يأمرها أن ترجع إلى ربها الخاص الظاهر فيها لا إلى اللَّه الذي هو الكل؟ 
و أ ليس ربها هذا هو الذي دعاها فلبته و عرفته من الكل؟ 
ثم قال لها: «فَادْخُلِي فِي عِبادِي» أي عبادي الذين عرفوا أربابهم فصاروا راضين بهم مرضيين عندهم بأفعالهم، و لم يطلبوا إلا ما يفيض عليهم من هؤلاء الأرباب. 
و قال: «وَ ادْخُلِي جَنَّتِي». يقول ابن العربي  «جنتي التي بها سِتري» فيأخذ كلمة الجنة على أنها مشتقة من «جَنَّ» بمعنى ستر.
فجنة الحق في كل متعيّن من الموجودات هي الصورة التي تختفي فيها ذاته و تستتر.
و لهذا قال «و ليس جنتي سواك، فأنت تسترني بذاتك».
و قد أمر اللَّه كل نفس مطمئنة- و هي النفس التي تعلم نسبتها إليه و نسبته إليها على وجه الحقيقة- أن تدخل جنته: أي أمرها أن تعود إلى صورتها فتنظر فيها و تتأمل ما فيها من الحق الذي تخفيه و تستره، فتحقق انها الصورة التي تجلت فيها صفات الحق و أسماؤه. و هذا معنى قولهم: «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه»، و معنى الحديث «خلق اللَّه آدم على صورته».
هذه هي الجنة في عرف ابن العربي : هي السعادة العظمى التي يدركها الإنسان عند ما ينزل إلى أعماق نفسه و يتأمل صورته فتنكشف له وحدة الحق و الخلق. 
هي إدراك القديم من خلال الحادث، و الخالد من خلال المتغير الفاني. هي إدراك عظمة الوجود و جماله و كماله خلال النظر إلى صورة المرآة. و لكنها جنة العارف لا جنة المؤمن لأن نعيمها عقلي روحي صرف، راجع إلى معرفة العارف بمدى قربه من
الحق، لا: بل إلى تحققه بالوحدة الذاتية بينه و بين الحق.

(7) «فلا أُعرَف إلا بك كما أنك لا تكون إلا بي ... - إلى قوله- من حيث أنت»
(7) لا يعرف الحق سبحانه من حيث ذاته، فهي الكنز المخفي الذي أشرنا إليه مراراً، و انما يعرف من حيث صفاته و أسماؤه متجلية في صفحة الوجود، فلا يعرف أحد من اللَّه إلا بقدر ما يعرف من الوجود، و يجهل كل واحد من اللَّه بقدر ما يجهل من الوجود.
فمعرفة الحق إذن متوقفة على العارف، و وجود العارف متوقف على الحق. فالخلق إذن معروف، و لكنه من ناحية أخرى مجهول لا يُعرف و لا يمكن أن يُعرَف و تلك الناحية هي ذاته التي هي ذات الحق. و في هذا يقول: «و أنا لا أعرف، فأنت لا تعرف».
أما المعرفتان اللتان يشير إليهما فهما:
أولًا: معرفة الحق عن طريق الخلق- و هي التي يسميها المؤلف «معرفة به من حيث أنت» و هذه هي معرفة الفلاسفة و النظار المتكلمين.
ثانياً: معرفة الحق عن طريق الخلق في الحق- و هي التي يسميها «معرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت» و هي معرفة أهل الكشف و الذوق من الصوفية.
ففي الأولى يتأمل الإنسان في نفسه من حيث هو موجود ممكن الوجود، فيقف على صفاتها التي هي الحدوث و الفناء و الافتقار و التغير و نحو ذلك. 
و بمقابلة هذه الصفات بما يجب أن يتصف به الحق واجب الوجود من الصفات، يستنتج هذه الصفات و ينسبها إلى الحق. 
فالوجود الإنساني ممكن، إذن يلزم أن يكون وجود الحق واجباً لذاته. و وجود الإنسان متغير فانٍ، إذن يلزم أن يكون وجود الحق أزلياً غير متغير. 
و النفس الإنسانية مصدر الشر، إذن يجب أن تكون طبيعة الحق خيراً محضاً و هكذا. 
و لكن هذا هو العلم الأدنى باللَّه، و العلم الذي لا يشبع عاطفة و لا يرضي روحاً متعطشة و إن أقنع العقل من بعض الوجوه. 
بل إنه لا يقنع العقل و لا يبعث الطمأنينة في القلب لأنه سلسلة من صفات السلب، و المعرفة السلبية معرفة بلا شيء.
أما المعرفة الثانية فهي أكمل المعرفتين إذ هي وليدة النظر في النفس و استكناه صفاتها، ثم التحقق بأنها صورة خاصة أو مجلى خاص من مجالي الحق، و أن فيها- من هذه الحيثية- قد تجلت كل الصفات الكمالية للحق.
فالمعرفة الأولى هي معرفة الإنسان بالحق عن طريق معرفته بنفسه، و الثانية هي معرفة الإنسان بالحق عن طريق معرفته بنفسه التي يتجلى فيها الحق. 
و في الأولى يعرف الإنسان نفسه على أنها خلق فقط. أما في الثانية فيعرفها على أنها خلق و حق معاً.

(8) «فأنت عبد و أنت رب» الأبيات.
(8) هذه نتيجة لازمة لما سبق. لكل موجود- بما في ذلك الإنسان- ناحيتان:
ناحية العبودية و ناحية الربوبية. فهو عبد بمعنى أنه المحل الذي يظهر فيه حكم رب من الأرباب (الأسماء الإلهية). و يعرف كل عبد ربه الخاص بالنظر إلى ذاته الخاصة و التأمل في صفاتها. و هذه هي المعرفة الأولى التي أشرنا إليها سابقاً.
و لكنه من ناحية أخرى رب لربه: و هذا معنى قوله: «و أنت رب لمن له فيه أنت عبد». 
و ذلك لظهور حكم العبد في الرب - أي في الاسم الإلهي المتجلي فيه. 
هذا إذا فهمنا كلمة «رب» بالمعنى الذي يستعملها فيه ابن العربي  غالباً و هو أي اسم من الأسماء الإلهية. 
و لكن هناك معنى آخر به نستطيع أن نسمي الإنسان أو أي موجود من الموجودات عبداً و رباً معاً. 
و يظهر أن هذا المعنى هو المشار إليه في البيتين الباقيين. 
الإنسان رب من حيث هويته التي هي إحدى تعينات هوية الحق، و هو عبد من حيث انه مخاطب بلسان الشرع: و هو المشار إليه بخطاب العهد في قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى!» (قرآن س 7 آية 171).
فمن وجهة نظر أصحاب وحدة الوجود كل إنسان- بل كل موجود «رب»: و من جهة نظر الشرع كل موجود سوى اللَّه «عبد».
أما قوله «فكل عقد عليه شخص يحله من سواه عقد» فمعناه أن كل عبد يعتقد اعتقاداً خاصاً في ربه يستمده من النظر في نفسه، و بذلك اختلفت الاعتقادات في الأرباب كما اختلفت الأرباب. و لكن الاعتقادات كلها صور من معتقد واحد: كما أن الأرباب كلها صور في مرآة رب الأرباب. قال ابن العربي  يشير إلى العقيدة الصحيحة التي يعتبرها أساساً لكل العقائد:
عقد الخلائق في الإله عقائداً .... و أنا اعتقدت جميع ما عقدوه

(9) «فتقابلت الحضرتان تقابل الأمثال و الأمثال أضداد».
(9) المراد بالحضرتين حضرتا العبودية و الربوبية. و قد تقابلتا تقابل الأمثال من حيث أنهما اشتركتا في الوجود الإلهي و إن اختلفتا بالتعين و الاعتبار و كذلك اشتركتا في أن كلا منهما راضية مرضية.
أما قوله «و الأمثال أضداد» فمعناه أن المثلين لا يمكن أن يتفقا في جميع الصفات و إلا كانا شيئاً واحداً، بل لا بد من تغايرهما من وجه من الوجوه. فكل مثلين إذن متحدان من ناحية، متغايران من ناحية أخرى، و هذا هو معنى تقابلهما بالتضاد. و لذلك لم نقل إن العبد رب و إن الرب عبد إطلاقاً، بل بينا جهة الاعتبار و وضحنا جانب العبودية و جانب الربوبية في كل حالة.
و لكنه بعد أن أثبت وجود الأمثال و الأضداد في عالم الكثرة أراد أن ينفيهما في عالم الوحدة، فقال «فما ثم مثل» أي فما توجد مماثلة حقيقية بين حضرتي الربوبية و العبودية لتمايزهما.
و لما كان الوجود منحصراً في هاتين الحضرتين قال فما في الوجود مثل: أي فما في الوجود الحقيقي مماثلة، كما أنه ليس فيه تضاد لأن التضاد نوع من التماثل لاشتراك الضدين في الضدية. و خلص من ذلك كله إلى أن الوجود كله حقيقة واحدة و الحقيقة الواحدة لا تضاد فيها.
و لهذا قال: فلم يبق إلا «الحق» لم يبق كائن فما ثم موصول و ما ثم بائن بذا جاء برهان العيان فما أرى بعيني إلا عينه إذ أعاين أي لم يبق إلا «الواحد الحق» الذي لا كثرة فيه و كل كائن سواه لا وجود له. و لذا قال لا شي ء موصول بآخر بالمماثلة، و لا شي ء بائن (مختلف) عن غيره بالمغايرة. هذا هو الذي يؤيده الشهود القلبي و تعاينه عين البصيرة. أما الذي يبقى على التمييز بين العبد و الرب، و يقول بالمغايرة بينهما، فهو الجاهل بحقيقة الأمر المحجوب عن مشاهدة الوحدة، الخائف من أن يكون هو الحق:
و هو معنى قوله: "ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ" أن يكونه لعلمه بالتمييز».

(10) «و لا يُلقَى عليك الوحي في غير و لا تلقِي».
(10) إذا كان الوجود واحداً لا فرق بين حقه و خلقه و لا بين ربه و عبده فما معنى الثنوية في الوحي؟
أي ما معنى قولنا ان الوحي ينزل من الحق إلى الخلق أو من الرب إلى العبد؟ 
لا نزول و لا وساطة في النزول في مذهب ابن العربي ، فما يلقَى الوحي في غير ذات الحق و لا من غير ذات الحق، أو كما يقولون، لا يلقى الوحي إلا من مقام الجمع إلى مقام التفصيل. الوحي إذن انبعاث من ذات النفس الإنسانية و كشف عن أعماقها، أو هو فيض من الروح الكلي الساري في جميع النفوس الجزئية المتحد بها على الدوام.
و ليس ابن العربي  أقل حرصاً في تشبثه بوحدة عالم الروح من أفلوطين (راجع تساعيات أفلوطين ترجمة ما كِنَّا مجلد 3 ص 13 - 14). بل هو أقوى من سلفه في القول بهذا المعنى و أبعد من التناقض لأنه لا يقرر وحدة النفوس فحسب، بل وحدة الوجود كله.
و قد كان ابن العربي أشد ما يكون صراحة عند ما نفى الوحي- بل كل المعارف الباطنية- بطريق الوساطة في قوله في الفص الشيثي «فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقى إليه ما لم يكن عنده من المعارف، و تمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده، فتلك الصورة عينه لا غيره: فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه، كالصورة الظاهرة منه في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره، إلا أن المحل أو الحضرة التي رأى فيها صورة نفسه تلقى إليه، ينقلب من وجه لحقيقة تلك الحضرة».
و كان كذلك اشد ما يكون جرأة عند ما فسر ظهور جبريل للنبي صلى اللَّه عليه و سلم بأنه لم يكن سوى تصوير و خلق من خيال النبي، كما يصور خيال المحب و يجسد أمامه محبوبه فيخاطبه و يناجيه و يسمع كلامه، و هو في الحقيقة لا يخاطب إلا نفسه و لا يسمع إلا كلامه. قال في الفتوحات المكية (في الجزء الثاني ص 429) «و لقد بلغ بي قوة الخيال أن كان حبي يجسد لي محبوبي من خارج لعيني، كما كان يتجسد جبريل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم، فلا أقدر أنظر إليه، و يخاطبني و أصغي إليه و أفهم عنه».

(11) «قد زال الإمكان في حق الحق لما فيه من طلب المرجح» إلى آخر الأبيات.
(11) في القرآن آيات كثيرة تدل على الوعد و الوعيد على السواء. فقد وعد اللَّه عباده المتقين نعيم الجنة.
و وعد الكفار و العاصين عذاب جهنم. فإمكان وفائه تعالى بوعيده مساو تماماً لإمكان وفائه بوعده.
و لكن ابن العربي يذهب إلى أن الممكن هو الوفاء بالوعد دون الوعيد: لأنه لكي يتحقق أي أمر ممكن لا بد من وجود مرجح- إذ الممكنُ وجودُه و عدمُه سواء.
فإذا وجد فلا بد من وجود مرجح لوجوده على عدم وجوده. و ليس للوفاء بالوعيد مرجح إلا المعصية:
و لكن اللَّه قد غفر لعباده جميع معاصيهم في قوله: «وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ»، و قوله: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» (س 39 آية 54) و نحوهما.
و إذا زال المرجح الوحيد لإمكان الوفاء بالوعيد زال ذلك الإمكان نفسه.
و لهذا قال: فلم يبق إلا صادق الوعد وحده و ما لوعيد الحق عين تُعَايَنُ نعم سيكون في الدار الآخرة جنة و نار، و لكن مآل الجميع فيهما إلى النعيم، و إن اختلف نعيم دار الشقاء عن نعيم دار السعادة بحسب تجلي الحق لأهل كل من الدارين (و قد ذكرنا معنى الجنة و معنى تجلي الحق فيها فيما مضى: راجع التعليق السادس من هذا الفص).
ستكون النار إذن برداً و سلاماً كنار إبراهيم، و سيكون عذابها عذوبة كما يقول، و سيكون حظ أهل النار نوعاً من أنواع النعيم.
و لكن أمراً واحداً يجب أن نلتفت إليه و هو أن ابن العربي  مع قوله بالسعادة الأبدية لكل إنسان، يفرق بين درجات هذه السعادة و بين طبقات المنعمين بها على حسب درجات معرفتهم باللَّه. فأهل النار مع ما هم فيه من النعيم معذبون بآلام الحجاب.
و أهل الجنة في أرقى درجات النعيم لمعرفتهم الكاملة باللَّه. و جنة كل إنسان و ناره درجته من هذه المعرفة.
.
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment