Monday, July 29, 2019

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين الشيخ الشريف ناصر بن الحسن الحسيني السبتي الكيلاني

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين الشيخ الشريف ناصر بن الحسن الحسيني السبتي الكيلاني

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين الشيخ الشريف ناصر بن الحسن الحسيني السبتي الكيلاني

كتاب مجمع البحرين في شرح الفصين ويسمى حكم الفصوص وحكم الفتوحات الشيخ الشريف ناصر بن الحسن الحسيني السبتي الكيلاني
شرح الفص الآدمي
قال المصنف رضي الله عنه : ( و لما اقتضاه لذاته كان واجبا  به . و لما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم و صفة، ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح للحادث و إن كان واجب الوجود و لكن وجوبه بغيره لا بنفسه .)
قال الشارح رضي الله عنه :
(و لما اقتضاه بذاته كان واجبا به ). فإن للعالم أحكاما لولا تعريفه تعالى إيانا بها ما عرفناها و ذلك أنه إذا اتبعنا رسوله فيما جاءنا به من الطاعة أحبنا، و أرضيناه فرضي عنا .
قال تعالى: "رضِي اللّهُ عنْـهُمْ" [ المجادلة: 22]، و إذا خالفنا و لم نمتثل أمره أسخطناه و أغضبناه، و كذلك إذا دعونا أجابنا، فالدعاء من أثره، و الإجابة من أثرنا لتعلموا أنه ما ظهر شيء إلا من صورة ما هو عليه مؤثر و متأثر، فإذا فهمت هذا المساق علمت معنى: التفت الساق بالساق، و عرفت الأمر هكذا على الإطلاق فافهم .
(  و لما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته) لا لأمر عرضي اقتضى أن يكون على صورته .
قال الله تعالى: "قلْ كُلٌّ  يعْملُ على شاكلتهِ " [ الإسراء: 84] .
ورد في الخبر الصحيح : "إن الله خلق آدم على صورته". رواه الشيخان البخاري و مسلم رضي الله عنهما .
أي لما كان استناد المحدث إلى المحدث من اقتضاء ذاتي من المحدث الفاعل، و ذلك لأنه متصوّر الحق تعالى لما جاء في الحديث ذكر الصورة، فعلمنا أن الله تعالى إنما أراد خلقه على الصورة من حيث أنه يتصوّر إلا من حيث ما يعلمه من غير تصور.
فكل ما يتصوّره المتصورون فهو عينه لا غيره كان من كان لأنه ليس بخارج عنه، ولا بد للعالم أن يكون متصوّرا له على ما تظهر عينه إذ لم يبق في الإمكان معنى إلا و قد ظهر في العالم متصور، ولا خفاء أن الشكل و الصورة يألف شكله و صورته و هو الإنسان الكامل الذي لا يماثل في ليس كمثله  شيء، و هو محل الجمع لصورة الحضرة الإلهية و لصورة العالم الكبير، و انفصل من جميع المولدات لأن جميع المولدات ما عدا الإنسان الكامل موجود عن العالم، فهو أم بغير أب كوجود عيسى عليه السلام من حيث الطبيعية، بخلاف الإنسان الكامل فإنه بين أب و أم، فافهم .
قال رضي الله عنه في الباب الثامن و الثمانين و مائتين من "الفتوحات" بعد ذكر هذه المسألة: و إنما نبهتك على هذا لئلّا تقول أن جميع المولدات وجدت بين الله و العالم و ما كان الأمر كذلك، و إلا فلا فائدة لقوله صلى الله عليه و سلم : "خلق آدم على صورته". 
ولا كما يتوهمه بعض أصحابنا بل شيوخنا من كونه ذاتا و سبع صفات، فإن ذلك غير صحيح .
فإن الإنسان الحيواني معلوم أن له الذات و الصفات، بل لكل حيوان كما للإنسان الكامل، و إن كان التفاوت بالنقصان و الزيادة و ليس الأمر في نفس الأمر كذلك، بل كان يبطل اختصاص الإنسان الكامل بالصورة، فابحث على هذا الكنز حتى يفتح الله عليك كما فتح به على من يشاء من عباده، انتهى كلامه رضي الله عنه .
و إنما خلقت على صورته حتى تطلع منك على ما أخفاه فيك من قرة أعين، بل حتى تطلع على ما في نفسه تعالى .
قال رضي الله عنه: العلم الذي يعطي السعادة للعبد هو العلم الذي يعلم ما في نفس الحق ولا يعلم ذلك أحد من خلق الله إلا بإعلام الله.
قال تعالى: "ولا يحِيطون بشيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلّا  بما شاء " [ البقرة: 255] .
قال الله تعالى عن الكامل عليه السلام: إنه قال اعترافا أو تأدبا بأدب النبوّات: "تعلمُ ما في نفْسِي" أي من حيث أنه عينها .
"ولا أعْلمُ ما فِي نفْسِك" [ المائدة: 117] من حيث أني غيرك في هذا الموطن .
يقول: المحمّدي الذي يغبطه النبيون يوم الفزع الأكبر بلا خوف و لا فزع، وأعلم ما في نفسك، وذلك إمّا من مقام من عرف نفسه فقد عرف ربه لأن نفسه استهلكت و فنيت.
وما قال ما قال إلا بلسان الذات هذا كمالهم عند البقاء، فلا يعلم ما في نفسه سواه لأن هذا لسان الولاية، و الله الولي الحميد و على ما نقول شهيد، فافهم .
وإن خرجنا عن المقصود و لكن ما خرجنا بالكلية، بل نحن ندندن حواليه، و أردت أن أظهر لك هذه الإشارة لتكون لك بشارة إن كنت من المحمّديين حتى تعرف قدر سيدك صلى اللّ ه عليه و سلم، و قدر وارثيه لتعلم معنى قوله صلى الله عليه و سلم : "أوتيت جوامع الكلم".
وقوله صلى الله عليه و سلم : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل".
كما قال القطب الوارث في هذا المقام: أوتيتم اللقب، و أوتينا ما لم تؤتوا، فافهم . 
فإن قيل: إذا كان ظهوره على الصورة، فما هذا التغير الذي يطرأ على الإنسان في نفسه، وصورة الحق لا تقبل التغير الذي يطرأ على الإنسان في نفسه؟ 
قلنا: إن الله تبارك وتعالى قال في هذا المقام: "سنفْرغُ لكُمْ أيُّه الثّقلانِ" [ الرحمن: 31] . 
و قال صلى الله عليه و سلم : "إن الحق يتجلى في أدنى صورة". رواه البخاري ومسلم  
لم يتحول عند إنكارهم إلى الصورة التي عرفوها فيها بالعلامة التي يعرفونها، فقد أضاف إلى نفسه هذا المقام وهو العلي عن مقام التغير بذاته، ولكن التجليات الإلهية في المظاهر على قدر العقائد، فيختلف باختلافها.
وبهذا الاعتبار ارتفع الاعتراض الوهمي تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا .
""أضاف المحقق قال سيدي عبد الوهاب الشعراني: يا أخي : (أن للحق تبارك وتعالى تجليين تجلي في رتبة الإطلاق حيث لا خلق، وتجلي في رتبة التقييد بعد خلق الخلق، ولكل من هذين التجليين جاءت الشرائع والأخبار الإلهية، فمن قال بتنزل الحق تعالى في مرتبة التقييد على الدوام أزلا وأبدا ?المجسمة والحلولية والقائلين بالاتحاد أخطأوا، ومن قال بعدم التنزل من مرتبة الإطلاق على الدوام أبدا كالمنزهة فقد أخطأوا، فرجع يا أخي كل كلام يعطي التنزيه إلى مرتبة الإطلاق، وكل كلام يعطي ظاهره التشبيه إلى مرتبة التقيد،  يرتفع الخلاف عندك والتعارض من جميع الآيات والأخبار) انتهى . ""
"" أضاف المحقق: أعلم يا أخي أن تجلى الإطلاق هو: كل ما أشعر بعدم وجود العالم المشار إليه بس كان الله ولا شيء معه.
وتجلي التقييد هو: كل ما أشعر بعدم وجود العالم المشار إليه بـ «كان الله ولا شيء معه.
و تجلي التقييد هو: كل ما أشعر بوجود العبد مع الرب من سائر حضرات الأسماء الإلهية .
فتجلى الإطلاق هو: تجليه تعالى في ذاته لذاته على الدوام، وذلك لا يكون إلا في حضرة الاسم (الله)، والاسم (الأحد)
و تجلي التقييد هو: تجليه تعالى لعباده في بقية الأسماء التي تطلبهم: كالرب، والخالق، والرازق، والرحمن، والمعز، والمذل، والمنتقم، وغيرها من سائر ما علمناه، وما استأثر الله بعلمه؛ فإن الرب يطلب المربوب و جودا وتقديرا في العلم الإلهين، ولا يعقل إلا معه، وكذلك الخالق وما بعدها
وأما حضرة الذات التي هي تجليه تعالى في الاسم الله أو الاسم الأحد فلا تطلب شيئا من العالم، "ومن جاهد فإنما يجاهد نفسه إن الله لغني عن العالمين" [العنكبوت:6].
ولذلك كان لا يعقل لحضرها أحكام، ولا يصح أن يؤخذ عنها بشرائع ولا أحكام؛ اذ ليس معها سواها.
وتأمل يا أخي لو يقع التجلي في رتبة التقييد ، كان التحلي في رتبة الإطلاق كما كان قبل حلق الخلق المشار إليه بـ «كان الله ولا شيء معه» من كان معه حتى بتلقي عنه شرائع، ومن كان هناك يعمل بما أو لا يعمل من أهل القبضتين. 
وأنشدوا
قد كان ربك موجودا ولا معه     …. شيء سواه ولا ماض ولا ات
فلما خلق الله تعالى الخلق وتجلى في رتبة التقيد التي هي كناية على المرآة المنطبع فيها صور الموجودات أجمع وسمي لنا نفسه بالأسماء الطالبة لأهل حضراتها.
ولا بد لك أيضا من إثبات من تحكم فيه حضرات الأسماء الإلهية: ?ـ المعز، والمنتقم، والغفور، فإن أثر هذه الأسماء في حق الحق محال .
فقد بان لك أنه تعالى من حين أظهر الخلق ما تجلى لهم قط في رتبة الإطلاق؛ لأن هذه الرتبة تنفي بذاتها وجود غيرها معها، وما تجلى بعد إظهار هم إلا في رتبة التقييد.
ومن لازم شهود أهل العقول أنفسهم معه التحييز والتحديد والحصر؛ إذ المقيد لا يشهد إلا مقيدا، وأما الإطلاق فإنما يعلم فقط بالإعلام الإلهي لا بالعقل.
ولذلك قررنا غير ما مرة أن أعلى مشاهدة العبد أن يرى إطلاق الحق تعالى وتقييد الكون، فهذا إذا حقيقة وحدته تقيدا.
فإن أصل التقييد وسيبه إنما هو التمييز ، حتى لا تختلط الحقائق، وقد صار الحق تعالى في قلب هذا الشاهد مقيدا بالإطلاق؛ لأن الإطلاق بلا مقابل لا يعقل، ولو كان التجلي في كل صورة في العالم.
وبلغنا عن الشيخ محيي الدين رحمه الله : أنه كان يقول بإدراك نجلى الإطلاق ذوقا، وهذا لا يصح إلا عند من يقول أن الحق تعالى يقبل حكم كل ممكن من حيث أنه عين الوجود.
بل ولو قيل بذلك لا يتخلص له إلا عند فنائه، لا في حال بقائه مع الحق، وحينئذ فما رأى إطلاق الحق إلا الحق، فافهم.
وإياك والغلط؛ فإنه لا حلول ولا اتحاد ولا يلحق عبد رتبة ربه أبدا، ولو صار الحق تعالی سمعه وبصره وجميع قواه فإن الحق تعالى قد أثبت عين العبد معه بالضمير في قوله في الحديث القدسي: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به»، إلى أخر النسق.
فإن قيل: إن كلام الحق تعالى قديم، وقد قال الله تعالى"هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" [الحديد: 4].
وهذا يشعر بأنا معه في الأزل، كما يقول بذلك الفلاسفة.
قلنا: التحقيق أن العالم كله قدم في العلم الإلهي حادث في الظهور .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولا شيء معه»،
وأجمع المحققون على أن المراد بـ (كان) الوجود، لا أنها على صورة (كان) التي هي من الأفعال الماضية، فهو حرف وجودي، لا فعل يطلب الزمان، كما يتوهمه بعضهم.
حتى أنهم أدرجوا في الحديث: (وهو الآن على ما عليه كان)؛ لتخيلهم أن تصريفها كتصريف الأفعال.
 ?ان ويكون وكائن ومكون، فمعنى الحديث: الله موجود ولا شيء معه في حضرة ذاته: أي ما ثم من وجوده واجب لذاته، إلا هو وحده. ""
فلمّا كان الإنسان على الصورة اقتضى أن يكون سريع التغيير كثير الخواطر، فلا يزال يتقلب في كل نفس لو ظهرت لرأيت عجبا لكونه على صورة الأصل .
و هو كل يوم هو في شأن، فمن المحال ثبوت العالم زمانين على حالة واحدة، فلا يزال يتقلب في كل آن، يسمّي الخواطر بحكم الأصل الذي كل يوم هو في شأن، فأصل التغيير من تغيير الأصل الذي يمدّه، و ذلك لما علمنا أنه الدهر، و أن صفة الدهر الحول القلب .
و في الحديث الصحيح : "إنه تعالى يتحوّل في الصور فيعرف و ينكر". ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب والمباركفوري في التحفة.
قال الشيخ رضي الله عنه: لما رأيت اختلاف عيني و لم يستقر لي أصل، فطلبت الإقالة من وجودي . 
فقال: أما ترضى أن تكون مثلي و ليس كمثله شيء، انتهى كلامه .
فأثر الانتقالات في الأحوال من أثر كونه تعالى كل يوم هو في شأن .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: و لا يشهدها كشفا إلا أصحاب الأحوال، و لا يشهدها حالا إلا أهل السياحات، ولا يشهدها علما إلا القائلون بتحدد الأعراض في كل زمان و هم طائفة من أهل الكلام القائلون بأن الأعراض لا تبقي زمانين، فافهم .
( فيما ينسب إليه تعالى من كل شي ء ): أي فيما يجوز أن ينسب إليه إمّا في أول الأمر كالاسم فإن له الأسماء، و إمّا ثانيا  كالصفة فإن له بعد نسبتها إلينا .
فلهذا قال رضي الله عنه: (من اسم )، قال الله تعالى: "لهُ الْأسْماءُ الحُسْنى يسبِّحُ لهُ ما في السّماواتِ والْأرضِ و هُو العزيزُ الحكِيمُ" [ الحشر: 24] أثبت لنفسه الأسماء .
قال رضي الله عنه في الباب الثامن و الثلاثين و ثلاثمائة من "الفتوحات": أعلم الخلق بالله صلى الله عليه و سلم من هذا المقام : "لا أحصي ثناء عليك"الحديث لأن الثناء بالأسماء و أسماؤه الحسنى لا تحصى، فالثناء عليه لا يحصى، والألسنة تكلّ فيها و تعيي.
وأمّا الثناء من حيث التسبيح تنحصر، و تحصى، و لا تكلّ به الألسنة و لا تعني لأنه نفي عن كل وصف لا إثبات فيه .
( و صفة) و هي من النسب التي لا يجوز أن ينسب إليه تعالى في أول الأمر، بل تنسب إليه بعد نسبة ذلك إلينا .
قال الله تعالى: "سُبْحان ربِّك رب العِزِّة عمّا يصِفُون" [ الصافات: 180] أطلق و لم يقيد بصفة دون صفة، و العزة المنع من الوصول إليه  شيء من الثناء عليه .
قال الإمام الغزالي رحمه الله في بعض تصانيفه إشارة إلى هذا المقام .
والمعنى: إن الناس ينزهونه عن نقائض الصفات، و أنا أنزهه عن كمالها .
أما ترى أن بعض العلماء تنبهوا لهذا المعنى، و إن لم يلم مرضى علماء الرسوم و لكن هو حق من وجه، و ذلك أنهم لما رأوا أن المشاركة بين الحق و الخلق ما يصح حتى في إطلاق الألفاظ عليه .
فإذا قيل لهم: إنه موجود، قالوا: ليس بمعدوم.
و إذا قيل: إنه عالم، قالوا: ليس بجاهل .
و هكذا جمع الصفات الثبوتية، فإن الحادث موصوف به و لا مشاركة، فافهم .
قال رضي الله عنه في حضرة الحضرات من "الفتوحات": فإن الأصل التعري و التنزيه و التبري عن الصفات مطلقا و لا سيما في الله .
إذا كان أبو يزيد رضي الله عنه يقول: لا صفة لي فالحق أولى أن يطلق عن التقييد بالصفات لغنائه عن العالم لأن الصفات إنما تطلب الأكوان، فلو كان في الحق ما يطلب العالم لم يصح كونه غنيا عمّا هو طالب، فافهم .
و ذكر رضي الله عنه في الباب الثامن و الثلاثين و ثلاثمائة من "الفتوحات" : فانظر حكمة الله تعالى في كونه لم يحصل له صفة في كتبه، بل نزه نفسه عن الوصف .
فقال: "وللّهِ الْأسْماءُ الحُسْنى" [ الأعراف: 180] فجعلها اسما، ولم يجعلها نعوتا وصفاتا ولكن هي لنا نعوت وصفات يثني علينا بها.
قال تعالى: "بالمُؤْمِنين رؤُفٌ رحِيمٌ" [ التوبة: 128] و أذن لنا بالتخلق في الأسماء الحسنى و هو عين ما قلنا، ثم أثنينا به عليه لأنه حميد و له عواقب الثناء، فأثنى الله على نفسه بها .
و قال : "إن الكبرياء ردائي" ، وهي صفة عبده و هو رداؤه، فإنه من منزل ثناء الحق على نفسه بغناه عن خلقه بخلقه، فافهم .
إن هذا عين ما سيقوله رضي الله عنه في المتن بعد سطرين .
و هو قوله: فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف، و هكذا الأمر لما كان استناد المستند إلى المستند لذاته، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من الأسماء.
و هو التخلق بأخلاق الله تعالى و إحصاء الأسماء الحسنى، و فيما لا ينسب إليه كالصفات لأنه تعالى جمع له التقييد و الإطلاق، كما جمع لنفسه بين التنزيه و التشبيه، فقال تعالى: "ليس كمِثلهِ شيْءٌ" [ الشورى: 12] .
و من هذا المقام قال أبو يزيد قدّس سره لما قيل له كيف أصبحت؟
فقال: لا صباح لي و لا مساء، إنما الصباح و المساء لمن تقيد بالصفة و أنا لا صفة لي، فوصف نفسه بعدم التقيد بالصفات، فإذا كانت الصفة قيدا لا يقبله العبد المقيد، فكيف تطلق على المطلق الحقيقي، و هو رضي الله عنه أشار بهذا إلى التجرد الحقيقي، فافهم . 
( غير الوجوب الذاتي) ما استفاده من أحد فإنه وصف ذاتي لا يفارقه أبدا . 
قال رضي الله عنه في الفتوحات الباب التاسع و الستين و ثلاثمائة: إن كل حكم في العالم لا بد أن يستند إلى نعت إلهيّ، إلا النعت الذاتي التي يستحقه الحق الذاتي و به كان غنيا، و النعت للعالم بالاستحقاق و به كان فقيرا، بل عبدا . 
و من هذا الذوق قيل: الفقير لا يحتاج فافهم، فإن المحل ما يحتمل البسط فإن ذلك: أي اقتضاؤه لذاته لا يصح في الحادث، و إن كان واجب الوجود: أي من كونه حادثا لا يصح له هذا، و إن كان يصح له وجوب الوجود من وجه آخر . 
( و لكن وجوبه بغيره لا بنفسه ): أي من حيث أنه حادث بخلاف ما نحن بصدد بيانه، فإنه من اقتضاء ذاتي من الوجه الحق، فهو واجب بوجوبه لإيجابه، فإن الذاتيات لا تفارق الذات بوجه من الوجوه و إلا يلزم خلاف المفروض، فافهم . 
قال رضي الله عنه في "الفتوحات" في الاسم الحق: إن للحق وجوب الوجود بنفسه، و للخلق وجوب الوجود لا أقول بغيره، فإن الغير ما له عين و إن كان له حكم كالنسب لا عين لها و لها الحكم . 

قال الشيخ المصنف رضي الله عنه : [ ثم ليعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته، أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث و ذكر أنه تعالى أرانا آياته فيه . فاستدللنا بنا عليه فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوب الخاص الذاتي  ] .
قال الشارح رضي الله عنه :
( ثم لتعلم) لما ذكر رضي الله عنه الرابطة التي هي من المناسبة الصورية، و أي مناسبة أعلى و أتم أن يكون على الصورة، فأراد أن يذكر لوازمها . 
( إنه لما كان الأمر على ما قلنا من  ظهوره بصورته) أما ترى الحق تعالى ما تسمّى باسم، و لا وصف نفسه بوصف إلا و الخلق يتصف بهما بحسب ما تعطيه حقيقة الموصوف .
و إنما تقدّمت في الحق بالوجود، و تأخّرت في الخلق لتأخره فيه، فيقال في الحق: إنه ذات توصف بأنه حي عالم قادر، و يقال في العالم: إنه حي عالم قادر بلا خلاف من أحد، و العلم و الحياة و القدرة على حقيقة في العقل .
( أحالنا الله تعالى في العلم به على النظر في الحادث) آخر علمنا به عن علمنا بالحوادث لنعلم أن علمنا بالحوادث أصل للعلم بالأصل، فافهم .
أما ترى قوله صلى الله عليه و سلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه". 
فيه إشارة خفية إلى ذلك و هو لب المعارف الإلهية، حيث جعل الأصل فرعا والفرع أصلا، فافهم ولا يمكنني إظهاره أكثر من هذا.
قال صلى الله عليه و سلم : "أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه". 
فجعلك دليلا عليه، و جعل معرفتك بك دليلا على معرفتك به إمّا بطريق وصفك بما وصف به نفسه، و إمّا بطريق الافتقار الذي أتت عليه في وجودك، و إمّا بالأمرين لا بد من ذلك، فافهم .
قال رضي الله عنه في الفتوحات الباب الخامس و السبعين و ثلاثمائة: و قد ذكرت هذه المسألة في محل آخر، و لكن أذكرها هنا بضرورة داعية إليها، و هي أن الأصل التقييد لا الإطلاق في محل، فإن الوجود مقيد بالضرورة .
و لذلك كل ما دخل في الوجود مثناة، فالإطلاق الصحيح إنما يرجع لمن في قوته أن يتقيد بكل صورة، و لا يطرأ عليه ضرورة من ذلك التقييد، و ليس هذا إلا لمن تحقق بالمداراة .
و الله يقول: "وهُو معكُمْ أين ما كُنْتُمْ " [ الحديد: 4]، و هو أشرف الحالات لمن عرف ميزانها، و هو واحد فرد، و أين ذلك الواحد الفرد؟ فافهم، انتهى كلامه رضي الله عنه .
ورد في الحديث : "بعثت لمداراة الناس". رواه البيهقي عن جابر رضي الله عنه .
و فيه إشارة إلى ما ذكرناه من المداراة، فلمّا أحالنا في العلم به تعالى على النظر في الحادث، فعلمنا أنا مطلوبون له لا لأنفسنا و أعياننا لأن الدليل مطلوب للمدلول لا لنفسه، و لهذا لا يجتمع الدليل و المدلول أبدا، فلا يجتمع الحق و الخلق أبدا في وجه من الوجوه إذا جاء الحق زهق الباطل، فالعبد عبد لنفسه، و الرب ربّ لنفسه، فالموجود موجود، و المعدوم معدوم .
و ذكر أنه أرانا آياته فيه: أي في الحادث، و هو قوله تعالى: "سنريهِمْ آياتنا فِي الْآفاقِ وفي أنْـفُسِهِمْ حتّى يتبيّن لهُمْ أنّهُ الحق أو لمْ يكْفِ بربِّك أنّهُ على كُل شيْءٍ شهِيدٌ" [ فصلت: 53]، فأحالنا على الآفاق وهو ما خرج عنا من الحوادث وعلى أنفسنا، وهو ما نحن عليه وبه من حيث الحدوث .
قال تعالى: "وفي أنْـفُسِكُمْ أفلا تُـبْصِرُون" [ الذاريات: 21]، فإذا وقفنا، وعثرنا على الأمرين معا حينئذ عرفناه، فتبين لنا أنه الحق .
قال صاحب ذوق :
في كلّ شيء له آية       ..... تدلّ على أنه واحد
و العارف يقول في هذا المقام: ففي كل شيء لذاته تدل على أنه عينه، و لكن دلالة الأمرين: أي الآفاق والأنفس مجموعا أتم و أعلى لحكمة سيظهرها لك إن شاء الله تعالى .
و هي: أنا إذا نظرنا في نفوسنا ابتداء لم نعلم هي يعطي النظر فيها ما يعطي النظر في الآفاق علما بالله أم لا يعطيه نفوسنا، فإذا نظرنا في نفوسنا حصل لنا من العلم به ما يحصل للناظر في الآفاق، فإذا نظرنا جميعا ظهرت لنا حقيقة الأمر بلا مراء و شك، فافهم .
و أما الشارع صلى الله عليه و سلم فلما علم أن النفس جامعة لحقائق العلم فإنها مختصّة و منتخبة منه فجمعك عليك حرصا منه على كمال أمته كما شهد الله تعالى .
فقال تعالى: "حريصٌ عليْكُمْ" [ التوبة: 128] حتى تقرب الدلالة فتقول معجلا بالعلم بالله، فتستعد لمعرفته بك .
فقال صلى الله عليه و سلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه وأعرفكم بنفسه أعرفكم بربه".
فإنه عليه السلام أحالك على نفسك لما علم أنك ستكون من المتبعين المحبين المحبوبين فيكون الحق قوّاك، فتعلمه به لا بك .
وهذا السوق من ذوق قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الخبر عني، فيقول: اتل عليّ به قرآنا إنه والله بمثل القرآن وأكثر" .
ذكره رضي الله عنه في باب تاسع عشر و خمسمائة من "الفتوحات" .
و قال رضي الله عنه: أو أكثر في رفع المنزلة، و في رواية: "أيحسب أحدكم متكئا على أريكته أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن إلا و أني و الله قد أمرت و وعظت و نهيت عن أشياء إنها كمثل القرآن أو أكثر"  الحديث رواه أبو داود، و البيهقي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه .
و أما الحق تعالى فذكر الآفاق حذرا عليك ما ذكرناه أنه قد بقي في الآفاق ما يعطي من العلم باللّه ما لا تعطيه نفسك، فأحالك على الآفاق .
فإذا عرفت عين الدلالة منه على الله تعالى ثم نظرت في نفسك من العلم بالله فلم يبق لك شبهة تدخل عليك فتطابق الأصلين، و تقرأ الكتابين فلا يخرج  شيء من البين، فافهم .
و ليس إلا افتقارنا إليه في الوجود و توقف وجودنا عليه لإمكاننا و غناه عن مثل ما افتقرنا إليه .
فاستدللنا بنا عليه، قال الله تعالى: "وفي أنْـفُسِكُمْ أ فلا تُـبْصِرُون" [ الذاريات : . [21
و قال صلى الله عليه و سلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
فاستدللنا بأنفسنا عليه فإنه ما ظهر إلا بنا، و ما بطن إلا بنا، و ما صحّت الأولية إلا بنا، و ما ثبتت الآخرية إلا بنا، فإنا كل شيء وهو بنا عليم، ذكره رضي الله عنه في الخزائن من "الفتوحات".
إن من أعجب العجاب أن بالإنسان استتر الأمر فلم يشهدوا و بالإنسان ظهر حتى عرف فجمع الإنسان بين حجاب و ظهور، فهو المظهر الساتر المعروف المتنكّر .
قال الشيخ عبد الله الأنصاري قدّس سره في بعض مناجاته: إلهي ما فعلت في أوليائك كل من طلبهم وجدك، و من لم يركما عرفهم صيرتني مرآة من يبغيك، من يراني يراك و أرباب الحجاب .
قلت فيهم: "وتراهُمْ ينْظرُون إليْك وهُمْ لا يـبْصِرُون" [ الأعراف: 198] انتهى كلامه قدّس سره.
قال رضي الله عنه: إن أصل وجود العلم بالله العلم بالنفس، فالعلم بالله حكم العلم بالنفس الذي هو أصله، و العلم بالنفس بحر لا ساحل له عند العلماء بالنفس، فلا يتناهى العلم بالله .
أما ترى قوله صلى الله عليه و سلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" .
إمّا أحال المحال على المحال، و إمّا حقق أنه من عرف الأصل فقد عرف الفرع و هما محتملان من محتملات معاني كلمة جوامع الكلم، فافهم هذا الذي أحلناه يعطيك استعداد الكشف الإلهي .
قال رضي الله عنه: ذهب بعض أصحاب الأفكار إلى أن العلم بالله أصل في العلم بالنفس و لا يصح ذلك أبدا في علم الحق خاصة و هو مقدم، و أصل بالمرتبة لا بالوجود فإنه بالوجود عين علمه بنفسه عين بالعالم إلا بأمر زائد، و إن كان بالرتبة أصل فما هو بالوجود .
كما يقول صاحب النظر العقلي في تقدم العلة على المعلول: إذا تساويا في الوجود كحركة اليد و حركة المفتاح، فمعلوم أن رتبة العلة مقدّم على رتبة المعلول عقلا لا وجودا.
و كذلك المتضايفان من حيث ما هما متضايفان و هو أتم فيما يزيد فإن  كل واحد منهما علة و معلول لمن قامت به الإضافة، فكل واحد علة لمن هو له معلول، و معلول لمن هو له علة، و من حيث أعيانهما لا علة و لا معلول، فافهم .
( فما وصفناه بوصف) و إنما قال رضي الله عنه: بوصف، و ما قال: بصفة للنكتة التي قد ذكرناها سابقا و هي: إن الصفة يعقل منها أمر زائد و عين زائدة، و الوصف ليس كذلك بل هو نسبة خاصة لا عين لها هكذا ذكره رضي الله عنه في »الفتوحات« .
( إلا كنا نحن ذلك الوصف) لأن ذواتنا أوصاف قائمة على عين واحدة .
قال تعالى إشارة إلى ذلك المقام: "هُمْ درجاتٌ عِنْد اللّهِ" [ آل عمران: 163]
و لم يقل: لهم درجات، فجعلهم أعيان الدرجات لأنهم كلمات الكمالات الذاتية و اعيانها .
قال رضي الله عنه: إني رأيت الشيخ أبا أحمد قدّس سره بمرسيه، و سأله إنسان عن اسم الله الأعظم، فرماه بحصاة يشير إليه أنك اسم الله الأعظم.
فإذا رأيت المدّعي يثني على الله بأسمائه التنزيهية و التشبيهية و لا شاهدها و لا حسّ آثار الحق فيه، و من عمي عن نفسه التي هي أقرب إليه، فهو عن غيره أعمى و أضل سبيلا فافهم.
ذكره رضي الله عنه في الباب الثامن و الثلاثين و مائتين من "الفتوحات" .
( إلا الوجوب الخاص الذاتي) لا العام الشامل للوجوب بالصبر، فإنه يتصف الحادث و الصفات فإنه ما  وصفنا به و ما كنا بذلك لأنه ذاتي و للكون و الجعل ليس فيه محال.
فافهم هذا المبهم حتى تفرق بين اليهم و المبهم، أظهر و أخفى، عرا و كسا، حسبنا الله و كفى كما هو عادة الأمناء الأدباء يفهمه من يفهمه، و يجهله من يجهله .
لأننا من حيث عياننا ما نظهر بهذا الوصف، فإنه وصف خاص ذاتي للقديم الذي له الغناء الذاتي و الممكن في كل حال عدمه و وجوده.
مفتقر محتاج احتياج الفرع إلى الأصل، أصل الوجود مرة و افتقار استمراره أخرى، فلا يزال فقيرا محتاجا في حال عدمه و وجوده، بل الإمكان حكم وهمي لا معقول لا في الإلهيات، و لا في المسمّى ممكنا فإنه لا يعقل هذا المسمى أبدا ألا من حجاب حالة اختيار لا يعقل إلا و لا ترجيح .
و هذا غير واقع عقلا لكن يقع وهما و الوهم حكم عدمي فما ثم إلا واجب بذاته و واجب به، فمشيئة الأشياء واحدة و إذا زال الإمكان زال الاختيار، و ما بقى سوى عين واحدة و ما عندها إلا أمر واحد في الأشياء كلمح البصر، ذكر هذه المسألة في الباب الثامن و الستين و ثلاثمائة من "الفتوحات" فافهم .
وهذا غير واقع عقلا لكن يقع وهما و الوهم حكم عدمي فما ثم إلا واجب بذاته و واجب به، فمشيئة الأشياء واحدة و إذا زال الإمكان زال الاختيار، وما بقى سوى عين واحدة و ما عندها إلا أمر واحد في الأشياء كلمح البصر، ذكر هذه المسألة في الباب الثامن والستين وثلاثمائة من "الفتوحات" فافهم .
فإني أردفت لك أصلا بعد أصل، أرداف زمر بعد زمر، و إشارة بعد إشارة و سوقنا في سوق البيان و على أرض العبارة ممهدة لا ترى فيها عوجا و لا أمتا حرجا فارجع البصر هل ترى من تفاوت، ثم ارجع البصر كرتين هل ترى من فطور فافهم .



قال الشيخ المصنف رضي الله عنه : [ فلمّا علمناه بنا و منا نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا، و بذلك وردت الأخبار الإلهية على ألسنة التراجم إلينا، فوصف نفسه لنا بنا: فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا و إذا شهدنا شهد نفسه . ]
قال الشارح رضي الله عنه :
( فلما علمناه بنا ): أي بأنفسنا لأنه عيننا اعلم أولا أنه بالتحقيق الأتم و الكشف الأوسع الأعم أنه تعالى كما ترى يعلم، و  كيف لا؟
إن الله تعالى خلق المعرفة المحدّثة به لكمال مرتبة العرفان و مرتبة الوجود .
و قال تعالى: "وما خلقْتُ الجِنّ والِإنس إلّا ليعْبدُونِ" [ الذاريات: 56] .
قال الراسخ في العلم: أي إلا ليعرفون، و قال: أعلم الخلق بالله صلى الله عليه و سلم "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
أثبت مكان هذه المعرفة، و لم تكمل تلك المرتبة، تلك المرتبة الكمالية العرفانية إلا بتعلق العلم الحادث بالله على صورة ما تعلق به العلم المحدث به، ما تعلق إلا بما هو المعلوم عليه في نفسه، و الذي هو عين كل صورة فهو عالم بكل صورة من علمه بنفسه.
و لا يتصف بالعجز عن العلم به إلا من أخذ العلم عن دليل، و إمّا من أخذ العلم به عنه تعالى لا عن دليله، فهو لا يعجز عن حصول العلم بالله، فإنه ما حاول أمر العجز عنه، بل أنه علم موهوب من لدن حكيم عليم .
قال تعالى: "وعلّم آدم الْأسْماء كُلّها" [ البقرة: 31] و من اسم الذات فقد علم بشهادة الله تعالى لأنه عين الذات مثل الواحد و الأحد و الله عند أهل الظاهر.
و قد بسطنا هذا المعنى في شرح آية الكرسي بسطا يعني للمتعند الكنود، فإني جعلته بمنزلة الكشف و الشهود .
ثم اعلم ثانيا أنه لا يصح العلم لأحد إلا لمن عرف الأشياء بذاته لا بأمر زائد و كل من عرف شيئا بأمر زائد على ذاته هو مقلد لعلوم النظر يعني: هو يعلم بذلك الوجه المخصوص الذي يعطيه الأمر الزائد لذلك الزائد فيما أعطاه، و ما في الوجود من علم الأشياء بذاته إلا واحد و كل ما سوى ذلك الواحد فعلمه بالأشياء تقليد، فلنقلد الله و لا سيما في العلم بالله .
ينبغي للعاقل الناصح نفسه إذا أراد أن يعرف الله أن يقلد الله فيما أخبر به عن نفسه في كتبه على السنة، تراجمه صلوات الله عليهم بالوقوف على الآداب الشرعية المشروعة عسى أن يحبه، و إذا أحبه يكون سمعه و بصره و جميع قواه، فيعرف الأمور كلها بالله، و يعرف الله بالله فلا يدخل في علمه شبهة و لا ريب، و أنت قد عرفت أنه لا مزيل لهذا الداء العضال إلا أن يكون الحق عين قواه و هو سبحانه عالم بذاته و أنه لعالم بذاته لا بأمر زائد فافهم .
فقد نبهتك على أمر ما أطرق سمعك، فإن العلماء من أهل النظر يتخيلون أنهم علماء بما أعطاهم النظر و الحس و العقل، و ليس كذلك لما فهمته إن كنت فاهما من مقدمة كتابنا أن هذا النوع من العلم خارج عن طور العقل، فلا يدركه مستقلا فافهم .
فقوله رضي الله عنه:
(علمناه به) لأنه ظاهر بنا فعلمناه بعلمنا بأنفسنا، كما ورد في الخبر: "من عرف نفسه فقد عرف ربه". 
( ومنا ): أي من صفات أنفسنا لا من خارج عنا، فعلمنا المورد و المصدر و الأصل و الفرع .
( منا نسبنا إليه) ذاتا واسما من الأسماء التنزيهية و التشبيهية إلينا مما قبله العقل ومما لا يقبله العقل إلا بضرب من التأويل.
اعلم أن الأسماء الكونية قد وسم الحق بها نفسه كالاستهزاء و النسيان و التعجب و الضحك و الخدعة و الغضب، والأسماء الإلهية قد سمّاها تعالى الكون بها كالرؤف الرحيم، فأسماء الكون إذا نسبتها إلى الحق هل هي خلق أو استحقاق؟
فاعلم أن العبد من حيث أنه عبد لا يستحق شيئا لأنه من حيث عينه باطل ليس بحق أصلا، و الحق هو الذي يستحق بالحق، فجميع الأسماء في العالم و متخيل أنه حق للعبد هي حق الله تعالى، و أنه ليس للعبد سوى عينه، و عينه عدم فلا حق له و لا استحقاق، فافهم .
فإنه ما ثم مسمّى وجودي إلا الله و الأعيان معدومة في عين ما ظهر فيها، فقد اندرج في هذا الوصل إن فهمت جميع المعارف على تقاسيمها، فافهم فإنه عظيم الجدوى عزيز المثال جدا .
و بذلك وردت الإخبارات الإلهية على السنة التراجم إلينا، فإنه تعالى وصف نفسه في كتابه و على السنة رسله بما وصف به المخلوقات المحدثات من المجيء والنزول والإتيان والوجه والعين و السمع و البصر و اليد و القدم و الأصابع و الذراع و البشيش و التعجب و الضحك و الرضى و الكراهة و التردد مما لا يقبلها العقل إلا بضرب من التأويل .
إمّا أن تكون هذه النسب في جنابه تعالى حقا ثم نعتنا به، و إمّا أن يكون لنا حقا، و نعت نفسه بها توصيلا لنا بها و خبره بها صدق و لا كذب، فإن كنا نحن فيه الأصل فهو مكتسب، و إن كان هو الأصل فقد كسبنا أباها، و هذا من أغمض نتائج العلم بالله فإنه أضاف نعوت المحدثات كلها بإخباره إخبارا قديما أزليا .
و منها قوله تعالى: "ولنبْـلوّنكُمْ حتّى نعْلم المُجاهِدِين مِنْكُمْ والصّابرين ونبْـلوا أخْبارُكمْ" [محمد: 31].
قال رضي الله عنه في منصات الأعراس من "الفتوحات" في المنصة الثالثة :
تجلي العبد في أسماء الكون، و تجلى له في أسمائه الحسنى، فيتخيل في تجليه بأسماء الكون أنه نزول من الحق في حقّه و لم يكن ذلك في أفقه، بل أن الكل أسماؤه الحسنى و أن العبد لا اسم له، حتى أن اسم العبد ليس له، و أنه متخلق به كسائر الأسماء الحسنى.
قال رضي الله عنه: إن هذا نهاية الكشف لربه و غايتها و كانت غاية أبي يزيد قدّس سره دونها .
فإن غايته ما قاله عن نفسه أنه قال لربه: يا رب بماذا أتقرب إليك؟
قال: بما ليس لي، قال: يا رب ما ليس لك و كل  شيء لك؟
فقال: الذلة و الافتقار .
فهذا خطه قدّس سره من ربه، ورآه غاية فإنه غايته لا الغاية و هذه طريقة أخرى ما رأيتها لأحد من الأولياء ذوقا إلا الأنبياء و الرسل خاصة صلوات الله عليهم أجمعين، و قليل من صفوة .
قال تعالى: قليلٌ مِنْ عِبادِي الشّكُورُ" [ سبأ: 13] .
قال رضي الله عنه في الفتوحات الباب التاسع و أربعمائة: إن الله تعالى أطلعني على أن جميع ما يتسمّى به العبد و يحق له النعت به و إطلاق الاسم عليه لا فرق بينه و بين ما ينعت به من الأسماء الحسنى فالكل أسماء إلهية، و هذا علم أمنّ الله به علينا مع مشاركتنا لهم قدّس سرهم فيما ذهبوا إليه، انتهى كلامه رضي الله عنه .
أي بإلحاق سفاسفها بها فتكون كلها مكارم لأنه ما ثم مسمّى وجود إلا الله فهو المسمّى بكل اسم، والموصوف بكل وصف، و المنعوت بكل نعت .
قال تعالى: " سُبْحان ربِّك رب العِزِّة عمّا يصِفُون" [ الصافات: 180] من أن يكون له شريك في الأسماء و الصفات كلها، فالكل أسماء الله الحسنى و لا غير حتى يكون له اسم أو وصف أو صفة، و الأعيان ما شمّت رائحة الوجود، فافهم .
فإن ما فوق هذه المعرفة معرفة و لا يعلم ذلك إلا العلماء الأمناء، وأن الأسماء و الصفات كلها  و التنبيه على ذلك قوله تعالى: "ليس لك مِن الْأمْرِ شيْءٌ" [ آل عمران: 128] فوصف نفسه لنا بنا و نحن له صفاته النفسية .
قال تعالى على لسان عباده:" إّنك كُنْت بنا بصِيرًاً" [ طه: 35] و هو البصير بنا .
قد ورد في الخبر بهم أراد بعض الأولياء : "تنصرون و هو الناصر، و بهم ترزقون و هو الرازق" .
فتعرف إلينا بنا، و أحالنا في المعرفة به علينا فإذا علمناه بنا عرفنا نفوسنا و نحن له صفات، فلتعلم أنك ما حكمت على معروفك إلا بك، فما عرفت سواك فافهم .
و فيه سرا آخر أخفي منه و هو أن الصفات النفسية إذا رفعتها ارتفع الموصوف بها، و لم يبق له عين لا في الوجود العيني و لا في الوجود العقلي حيث ما رفعتها فافهم، فإنك ما تسمع مثال هذا أبدا إلا من شخص سبل نفسه و عرضه .
كان صلى الله عليه و سلم يقول : "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا أصبح يقول: 
اللهم إني قد وهبت نفسي و عرضي لك فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه ولا يضرب من ضربه" رواه أنس رضي الله عنه . رواه أبو داود والبيهقي في الشعب.
( فإذا شهدناه ): أي الحق تعالى من حيث أنه مرآة العالم، (شهدنا    نفوسنا فيها) لأننا ظاهرون في الوجود .
( وإذ شهدنا) من أن تكون له كالمرايا، (شهد نفسه فينا) لأنه الطاهر فينا فالكل مراء و الكل مشهود . قال تعالى: "و شاهِدٍ و مشْهُودٍ" [ البروج: 3] .
هذا هو شهود الخلق في الحق و شهود الحق في الخلق .
أو نقول: فإذا شهدناه بوصفه شهدنا نفوسنا، فإنها عين وصفه، و إذا شهدنا شهد 
الحق تعالى نفسه: أي ذاته التي تعينت و ظهرت بصورنا أن الله خلق آدم على صورته فافهم .


قال الشيخ المصنف رضي الله عنه : [ و لا نشك أنا كثيرون بالشخص و النوع و أنا و إن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثمة فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، و لو لا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد . فكذلك أيضا، و إن وصفناه بما وصف نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق . وليس إلا افتقارنا إليه في الوجود وتوقف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه.فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم.] .
قال الشارح رضي الله عنه :
( و لا تشك أنا ): أي أهل العالم كثيرون بالشخص و النوع لأنك أشخاص غير متناهية تحت أنواع متناهية .
( و إن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا) تلك الحقيقة الواحدة في الواحدية لأن أفراد الجنس مثلا على كثرتها و عدم تناهيها يجمعنا النوع الكلي و هو الإنسانية و لكن لو لم يكن في كل فرد فرد معنى آخر زائد عن الأصل الكلي لما اختلفت الأفراد و الأشخاص باللوازم الشخصية و الخواص.
( فتعلم قطعا أن ثمة فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض) كما تميزت الأنواع بعضها عن بعض، و لو لا ذلك التمييز ما كانت الكثرة في الوحدة: أي ما ظهرت الكثرة موجودا في العالم مع أن الأصل واحد، فعرفنا به أن التمييز الفارق ظهور العالم و صوره المتكثرة المتنوعة مع أن الأصل واحد، فكذلك أيضا: أي الحال في الإلهيات كثرة مع الفرقان في عين واحدة .
( و إن وصفنا ): أي الحق تعالى بما وصف به نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق لما شبه، أو لا .
حيث قال رضي الله عنه: فوصف نفسه لنا بنا، فأراد أن ينزهه هنا ليجمع بين الحسنين التنزيه و التشبيه كما هو عادة الأولياء و سنن الأنبياء عليهم السلام، فأثبت الفارق .
و ذلك أنه لما قيل في الإنسان الكامل أنه على الصورة فما نقصه من الكمال  شيء، و بقي حكم وجوب الوجود للتمييز بين الحق و العالم إذ لا يرتفع ذلك: أي التمييز بين الحق و الإنسان بوجوب الوجود من حيث أنه إنسان و لا يصح له فيه قدم، فافهم .
و له تمييز آخر ذكره رضي الله عنه في "الفتوحات ": و ذلك أن الحق يتقلب في الأحوال و لا تتقلب عليه الأحوال لأنه يستحيل أن يكون للمحال عليه .
و أمّا تقلب الحق في الأحوال فمعلوم بالاستواء و النزول و المعية و الضحك و الفرح و الرضا، و كل حال وصف به نفسه فهو يتقلب فيها بالحكم و هو التحول في الصور، فهذا الفرق بيننا و بين الحق تعالى و هو أوضح الفروق و أعلاها أن يكون الفروق بالحدود الذاتية التي بها يتميز الحق و الخلق و حدود الكون بأسره هو الحد الذاتي بواجب الوجود، هذا المشهد غاية العارفين و أهل الرؤية .
قال تعالى: "و فوق  كُل ذِي عِلْمٍ عليمٌ" [ يوسف: 76] فالعلماء بالله فوق هذا الكشف و المشهد، فإنهم في هذا المقام على حكم الحق فيه كما يرى المحجوب فينكرون النكرة، و يعرفون المعرفة و الحدود الذاتية عندهم للأشياء كالعامة، فافهم . 
فإنهم أهل تمييز و صحو، و أمّا أهل الرؤية قدّس سرهم يحافظون على هذا المقام لسرعة نقلته من قلوبهم، فإن من لم يستصحب الرؤية دائما مع الأنفاس لا يكون من هؤلاء الرجال . 
و هذا مقام من يقول غير الله قط، و أمّا من عرف الحق، و الحق سمعه و بصره و جميع قواه عليه هذه الرؤية لأنه بقواه يرى الأشياء كما هي، و يعلم الأمر كما هو فعرف بالحق و الخلق، و يرى الحدود الذاتية الفارقة للذوات حقا و خلقا . 
قال رضي الله عنه في الفتوحات الباب الحادي و الخمسين و ثلاثمائة: إن من لهذا المقام فلا يحاد به أحد في علمه بالله، فهذا هو العالم المميز بالحد الذاتي و العالم الفارق الذي لا نقال عنه، فافهم. 
( و ليس إلا افتقارنا إليه في الوجود، و توقف وجودنا عليه لا مكاننا) . 
قال الله تعالى: "يا أيُّها النّاسُ أنْـتمُ الفُقراءُ إلى اللّهِ" [ فاطر: 15] فافهم.
أنه وصفنا بما وصف به نفسه، توهم الاشتراك و هو لا اشتراك فيه، فإن الرتبة قد ميزته فيقبل كل واحد ذلك الإطلاق على تعطيه الرتبة التي يتميز بها فإنا نعلم قطعا أن الأسماء الإلهية التي بأيدينا تطلق علينا . 
كما قال تعالى في حق النبي صلى الله عليه و سلم:بالمُؤْمِنين رؤُفٌ رحِيمٌ" [ التوبة: 128] كما تطلق على الحق تعالى أن نسبة تلك الأسماء التي وقع الاشتراك في اللفظ بها إلى الله غير نسبتها إلينا، فما انفصل عنا إلا بربوبيته، و ما انفصلنا عنه إلا بعبوديتنا فمن لزم منا رتبته فما جني على نفسه، بل أعطي الأمر حقه فقد بان لك الحق تعالى و بان لك الخلق، فتل ما شئت . 
فالفارق من جهة الحق الوجوب الذاتي ومن جهة العبد الافتقار، وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه.
قال تعالى: "و اللّهُ هُو الغني الحمِيدُ" [ فاطر: 15] .
و قال تعالى: "و اعْلمُوا أنّ اللّه غني حمِيدٌ" [ البقرة: 267] .
و قال تعالى: "فِإنّ اللّه غني عنِ العالمِين" [ آل عمران: 97] للدلالة عليه لظهوره بنفسه للعالم، فاستغنى أن يعرف بالعالم ولا يدل عليه الغير، بل هو الدليل على نفسه بظهوره لخلقه، فمنهم من عرفه و ميزه من خلقه، و منهم من معارفيه فلم يدر ما هو كأبي يزيد قدّس سره فإنه علم أن ثمة تميزا و لكن ما عرف ما هو حتى سأل .
وقال: يا ربّ بماذا أتقرب إليك؟ فقال تعالى: بما ليس لي، فقال: يا رب وما ليس لك وكل شيء لك؟ .
فقال تعالى: الذلة والافتقار حتى سكن ما عنده قدّس سره وهذه المحتملات الثلاثة من محتملات كلمة جمع جوامع الكلم صلى الله عليه و سلم .فإنه قال : "من عرف نفسه فقد عرف ربه"  .
أمّا تعليق محال على محال هذا من مقام الحيرة، و أمّا من مقام العلم بصحو و تميز كالمحققين من الكمّل .
وأمّا من مقام العرفان أنه ما يرى الغير، فإذا عرف نفسه بهذا الاعتبار فهو عين معرفة الرب، فافهم .
وهنا لسان آخر وذوق غير ذلك الذوق من أذواقه رضي الله عنه، قال تعالى: "وذ كرْ فِإنّ الذكْرى تنفعُ المُؤْمِنين" [ الذاريات: 55].
فاعلم أن الله تعالى غنيّ عن العالمين بالعالمين كما يقال في صاحب المال: إن الله غني عن المال بالمال، فهو الموجب له الغنى .
وهي مسألة دقيقة لطيفة الكشف فإن  الشيء لا يفتقر إلى نفسه فهو الغني عن نفسه بنفسه .
قال تعالى: " يا أيُّها النّاسُ أنْـتمُ الفُقراءُ إلى اللّهِ و اللّهُ هُو الغنِي الحمِيدُ" [ فاطر: 15] .
الذي يرجع إليه عواقب الثناء، و ما يثني الأبناء من وجودنا، و أمّا تنزيهه عما يجوز علينا، فما وقع إلينا عليه تعالى إلا بنا، فهو غنيّ عنا فلا بد منا بثبوت هذا الغنى له بقاء، و من أراد أن يقرب عليه تصور هذه المسألة فلينظر إلى ما سمّي به نفسه سبحانه من كل اسم يطلبنا فلا بد منا.
فلهذا لم يمكن الغنى إلا بنا إذا حكم الألوهية بالمألوه، وحكم الربوبية بالمربوب والمريد بالمراد، والقادر بالمقدور، والقول بالمقول وهكذا الأمر.
(فبهذا ): أي بهذا الغنى الذاتي، و عدم الاحتياج بالوجود لأن الوجود عينه و الشي ء لا يكون مفتقر إلى نفسه، فإنه غني عن نفسه بنفسه، فلو كان فقيرا يلزم أن يكون الشيء الواحد من حيث ما هو غني و هو محال، و إن كان الاسم الإلهي المغني، هو معطي الغنى للعبد، فهو الغني بالله عنه .
أخبر تعالى أنه:كُلّ يوْم هُو فِي شأنٍ" [ الرحمن: 29] و العالم شؤونه، و هو متحول فيه و به، و أخبر أنه يوم القيامة يوم عموم الكشف و العيان .
قال تعالى: " لكل امْرئٍ مِنْـهُمْ يوْمئذٍ شأنٌ يُـغنيهِ " [ عبس: 37] فالكل يحمد الله مستغني به عنه كالحق أنه الغني عن العالمين.
و لكنّ العلم بالله داهية دهماء و فتنة عمياء صماء فإنه يعطي، الزهو على عباد الله، و يورث الجهل بالعالم و بنفسه.
 كما قال صاحب الجنيد قدّس سره حين عطس، و قال: الحمد لله.
فقال له حينئذأكمل بقول رب العالمين .
قال: ما العالم حتى نقرنه مع الله؟
وإن كان هذا القول قول صاحب حال و لكن ناقص العيار لأن الله تعالى قد قارن معه، و قارن رب العالمين و هو تعالى حكيم عليم ما خاطب العالم إلا بالقول الأتم، فبتنوع خطابه ليتسع الأمر و يعم .
فالفقر ذاتي، و الغنى أمر عرضّي و من لا علم له يغيب عن الأمر الذاتي لشهود الأمر العرضي، فافهم .
وأسند الغني إلى الغنى عن العالمين لتكون أديبا فإن العبد عبد فقير تحت أمر سيده، و الله هو الغني الحميد، فافهم .
( صحّ له الأزل) و هو نفي الأولية بمعنى: افتتاح الوجود عن عدم، و نسبة الأزل إلى الله تعالى كنسبة الزمان إلينا و هو نعت سلبي لا عين له، فيكون  كالزمان نسبة متوهمة الوجود لا موجودة لأن كلّ شيء تفرضه يصحّ عنه السؤال بمتى، و متى سؤال عن زمان فلا بد أن يكون الزمان أمرا متوهما لا موجودا و لهذا أطلقه الحق على نفسه .
قال تعالى: " و كان اللّهُ بكُل شيْءٍ عليماً " [ الأحزاب: 40] .
ورد في الخبر عن صاحبي :  "أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق و أمثالهما". 
فعرفنا أن هذه الصيغ ما تحتها أمر وجودي و إلا ما صحّ تنزيه الحق عن التقييد الزماني إذا كان حكم الزمان بقيده .
أما ترى تذيل الحديث المشهور :  "كان الله و لم يكن معه  شيء". 
فذيله عارف بقوله: و الآن كما  كان، فتوهم في الحديث زمانا، و قال: و الآن كما كان .
(و القدم الذاتي) و إنما قلنا: الذاتي لأن الأرواح القاهرة و الأعيان لها القدم و لكن بالزمان لا بالذات الذي: أي القدم .


قال الشيخ قدس الله سره : [فلا تنسب إليه الأولية مع كونه الأول ولهذا قيل فيه الآخر. فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد لم يصح أن يكون الآخر للمقيد، لأنه لا آخر للممكن، لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها. وإنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا، فهو الآخر في عين أوليته، والأول في عين آخريته.]
( انتفت الأولية التي افتتاح الوجود عن عدم فلا ينسب إليه ): أي الأولية بهذا المعنى فهو افتتاح الوجود عن العدم مع كونه الأول و لكن بمعنى آخر، و هو كونه مبدأ لما سواه، كما أنّ آخريته عبارة عن  كونه يرجع إليه عواقب الأمور .
قال تعالى: "إنّ إلى ربِّك ُّالرجْعى"  [ العلق: 8] .
و قال: "وأنّ إلى ربِّك المُنْتهى"  [ النجم: 42] .
اعلم أنّ معقولية الأولية للواجب المطلق نسبة وصفية لا يعقل لها العقل سوى استناد الممكن إليه، فيكون أولا بهذا الاعتبار، و لو قدّر عدم وجود الممكن قوة و فعلا لانتفت هذه النسبة الأولية إذ لا تجد متعلقا .
و أمّا معقولية الأولية للواجب الوجود بالغير نسبة سلبية عن وجود كون الوجوب المطلق، فهو أوّل بكل مقيد إذ يستحيل أن يكون هناك قدم لأحد فافهم .
( و لهذا ): أي لأن أوليته ليست أولية افتتاح الوجود من العدم .
( قيل فيه: الآخر فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد لم يصح أن يكون الآخر للمقيد لا أنه لا آخر للممكن لأنّ الممكنات غير متناهية) لعدم تناهي الحقائق، و عدم تناهيها لعدم تناهي أعيانها الثابتة، وهي المعلومات الإلهية، والتناهي في المعلومات محال .
قال رضي الله عنه في الباب الثالث و الثمانين و ثلاثمائة من "الفتوحات ": إني علمت أنّ في العالم من  يقول بانتهاء علم الله تعالى في خلقه، و إنّ الممكنات متناهية و أنّ الأمر لا بد أن يلحق بالعدم و الدّثور، و يبقى الحق حقّا لنفسه و لا عالم  .
و رأيت بهذا قائلا بمكة المشرفة معتقدا له من أهل السوس من بلاد المغرب، حجّ معنا و خدمنا، و كان يصر على هذا المذهب حتى صرّح عندنا و لا قدرت على ردّه و لا أدري بعد فراقه هل رجع أو مات عليه؟
و كان لديه علوم جمة و فضل إلا أنه لم يكن له دين، و إنما كان يقيمه صورة عصمة لدمه و ليس في الجهل أعظم من هذا الجهل، عصمنا الله و إياكم منه .
( فلا آخر لها ): أي دنيا و أخرى، إنما قلنا ذلك حتى لا يلزم الفساد المتوهم علينا فافهم .
و إنما كان آخر الرجوع الأمر كله إليه) قال تعالى: "ألا إلى اللّهِ تصِيرُ الْأمُورُ" [ الشورى: 53] "و إليْهِ تُـرجعون" [ البقرة: 245] عمّ هذا النص الشريف ما حمد، و ما ذمّ و ما ثمّة إلا محمود، قال تعالى: "للّهِ الْأمْرُ مِنْ قبْلُ و مِنْ بعْدُ" [ الروم: 4] و هكذا الأمر، فافهم .
( بعد نسبة ذلك ): أي الأمر كالصفات على ما قررناه أنها تؤخذ بعد نسبة تلك الصفات (إلينا )، و بهذا يتحقق معنى الرجوع لأن الوجود و توابعه له تعالى بالأصالة .
( فهو الآخر في عين أوليته و الأول في عين آخريته ): أي إذا كان الأول و الآخر لهذين الاعتبارين المذكورين صحّ عند العقل أن يقول: إنه الأول في عين آخريته، و الآخر في عين أوليته، و لا جمع للأضداد التي لم تجتمع فإنّ له شروطا حتى يحكم العقل عليه بعدم الاجتماع منها: وحدة العين و  وحدة النسبة و الاعتبار من جميع الوجوه، و في مسألتنا هذه أنه أوّل بمعنى: إنه مبدأ كل  شيء و آخر كلّ شيء بمعنى رجوع كلّ شيء إليه، فجمع الأولية في عين الآخرية بالاعتبارين و لا ضد فافهم، فإذا عرفت هذا اعلم أنه .
قال الشارح الجامي قدّس سره في بيان هذا المتن: جمع بإطلاق هويته بين الأضداد، و هو ظاهر بها أزل الآزال و أبد الآباد، انتهى كلامه .
كأنه أعطي هذا القول حكم النص حيث قال: هو الأول و الآخر و الظاهر الباطن أنه الأول في عين الأول، في عين الآخرية، في عين الأولية، من جميع الأضداد التي يرميها العقل، و يراها صاحب الكشف بالشهود .
و من هذا المذاق ما نقل عن الخراز قدّس سره: عرفت الله بجمع الأضداد لأنه لو كانت معقولية الأولية و الآخرية إلى الحق تعالى كمعقولية نسبتهما إلينا، لما كان ذلك مدحا في الجناب الإلهي و لا استعظمه العارف بالله و بحقائق الأسماء حتى قال: عرفت الله به ثم تلا: "هُو الْأوّلُ والْآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وهُو بكُل شيْءٍ عليمٌ" [ الحديد: 3] .
فإنّ العبد يصل إذا تحقق بالحق إلى أن ينسب الأضداد من عين واحدة و نسبة واحدة كالحق تعالى و لا يختلف النسب، و هذا المدرك عزيز المنال، صعب الارتقاء، يتعذّر تصوّره على من لا أنس له بالعلوم الإلهية التي يعطيها الكشف و التجلي، ولا يخفي أنّ هذا ذوق غير الذوق الذي نحن في معرض بيانه .
فإنّ الأولية في عين الآخرية اللتين نحن بصدد بيانهما ليس من عين واحدة و نسبة واحدة، حتى يكون من محالات العقل بل إنما ذكرها رضي الله عنه لتأنيس العاقل وصاحب النظر والفكر، فإنه ما يخالف ذوقهم وأصلهم .
ثمّ لتعلم بعد ما علمت فيما تقدّم أنّ الأوصاف مشتركة، أراد رضي الله عنه أن ينبه بكيفية الاستدلال، فإنه تعالى أرانا آيات أسمائه وصفاته في العالم وفينا، و جعل فينا ما نعرفه به لنستدل بناءا عليه، و يتمكّن السالك من الوصول إليه فلو لم يصف نفسه بنعوتنا ما عرفناه، فهو المعروف في الحالين و الموصوف بالنعتين، و بهذا من كل شيء زوجين ليكون لأحد
الزوجين العلو و التأثير و هو الذكر، و للآخر السفالة و الانفعال والتأثير وهو الأنثي ليظهر ما بينهما إذا اجتمعا وجود أعيان ذلك النوع على صورتهما .

قال الشيخ قدس الله سره : [ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا. ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.]
قال الشارح رضي الله عنه :
ثم لتعلم إنّ الحق وصف نفسه بأنه ظاهر و باطن فأوجد العالم عالم غيب و شهادة) .
قال الله تعالى: "هُو اللّهُ الّذِي لا إله إلّا هُو عالمُ الغيْبِ والشّهادةِ هُو الرّحْمنُ الرّحِيمُ" [ الحشر: 22] .
و قال تعالى: "هُو الْأوّلُ والْآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وهُو بكُل شيْءٍ عليمٌ" [ الحديد: 3] فعلم المحقّقون من خاصته، و المعتني بهم من أهل قربه و كرامته بما كشف لهم، و أطلعهم عليه من  أسرار وجوده أولا.
وبما أخبر ثانيا: إنّ المراتب و إن كثرت فإنها ترجع إلى هاتين المرتبتين و هما الغيب والشهادة والحقيقة جامعة بينهما، فكل شيء له ظاهر، فهو صورته و شهادته وباطن، وهو روحه وغيبه.
فنسبته جميع الصور على اختلاف أنواعها الخفية و الجلية إلى الاسم الظاهر المنعوت بالشهادة، ونسبة جميع المعاني و الحقائق المجردة التي هي أصول لما ظهر من الصور الجزئية المتعينة، أو أسباب و شروط كيف شئت؟
قلت: إلى الغيب و الاسم الباطن، فإذا عرفت هذا .
فنسبته جميع الصور على اختلاف أنواعها الخفية والجلية إلى الاسم الظاهر المنعوت بالشهادة، و نسبة جميع المعاني و الحقائق المجردة التي هي أصول لما ظهر من الصور الجزئية المتعينة، أو أسباب و شروط كيف شئت؟ قلت: إلى الغيب والاسم الباطن، فإذا عرفت هذا.
فاعلم أنّ العالم عالمان ما ثم ثالث عالم يدركه الحس وهو: المعبر عنه بالشهادة، وعالم لا يدركه الحس وهو: المعبر عنه بعالم الغيب المطلق.
فإن كان مغيبا في وقت للحسّ فلا يسمّى ذلك غيبا، و إنما الغيب ما لا يمكن أن يدركه الحس أصلا لكن يعقل بالعقل إمّا بالدليل القاطع، و إمّا بالخبر الصادق و هو إدراك الإيمان، فالشهادة مدركها الحس و هو طريق العلم ما هو عين العلم، و ذلك يختص بكل ما سوى الله ممن له إدراك حسّي، و الغيب مدرك العلم عينه فافهم .
فهذا الغيب الذي أثبتناه: هو الغيب المطلق الحقيقي الذي لا يظهر لأحد أصلا و لا لمن ارتضى من رسول لأنه حضرة ذاته و هويته تعالت و تقدّست عن أن يحاط و أن يتعلق بها بها الإدراك أصلا من حيث هي هي، فإنه من المتفق عليه أن حقيقته لا تحاط بالعلم و لا تتقيد بالوصف، سبحانك! ما عرفناك حق معرفتك .
و هذا القدر من المعرفة المتعلقة بهذا الغيب المطلق إنما هي معرفة إجمالية حاصلة بالكشف الأجليّ و التعريف الإلهيّ الأعلى الذي لا واسطة فيه غير نفس التجلي المتعين من هذه الحضرة الغيبية المطلقة الغير متعينة فالغيب المتعلق صار دليلا على الغيب المطلق لأنه الأصل، فالمتعين منه دليل عليه من حيث غير متعين، فكان هو الدليل و المدلول .
قال تعالى إشارة إلى هذا المقام: أي الغيب المتعين المقيد عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا .
قال تعالى: عالمُ الغيْبِ فلا يظهِرُ على  غيْبهِ أحداً إلّا منِ ارتضى مِنْ رسُولٍ فِإنّهُ يسْلكُ مِنْ بيْنِ يديهِ ومِنْ خلْفِهِ رصداً "[ الجن: 26، 27] .
و إنما قلنا بالغيب الحقيقي المطلق لأنه رضي الله عنه ذكره في الباب السابع و الأربعين و أربعمائة من "الفتوحات ": إن له في نفسه ما لا يصح أن يعلم أصلا هو الذي له بنفسه المشار إليه بقوله: "اللّه غني عنِ العالمِين" [ آل عمران: 97] .
فقوله تعالى: "عالمُ الغيْبِ والشّهادةِ " [ الحشر: 22] أراد الغيب بالنسبة إلينا و إلا لا غيب له، و الذي هو غيب بالنسبة إلينا بحلم الشهادة له تعالى.
أو نقول: إنه عالم الغيب أو عالم بأنه غيب لا يصح أن يعلم أصلا .
قال رضي الله عنه: و هذا الذي نبهناك عليه من العلم بالله ما أظهرناه اختبارا و لكن حكم الخبر علينا، فتحفّظ و لا تغفل عنه فإنه يعلمك الأدب مع الله، انتهى كلامه رضي الله عنه .
هذا هو الغيب الحقيقي و بقية الغيوب كلها إضافي، فافهم .
فإن الإنسان إذا أراد إدراك الغيب و الشهادة الإضافيين اللذين نحن بصدد بيانهما، و أراد أن يتميز في علميهما، فينبغي ألا يقيد نفسه إلا بالله وحده و هو التقييد الذاتي الذي لا يصح له الإنفكاك عنه جملة واحدة و هي عبودية صرفة محضة لا تقبل الحرية أبدا .
فإذا قيده بالله الذي "خلقهُ فقدّرُه ثمّ  السّبيل يسّرُه" [ عبس: 19، 20] .
فلا يقف إلا في البرزخ و هو المقام المتوهّم بين عالم الشهادة و الغيب مطلعا على الطرفين كأصحاب الأعراف فلا يخرج منها شيء إلا و هو مطلع عليه، فإذا وقف في هذا المقام و هو محل العثور على الطرفين.
استشرف على الغيبين الغيب الذي يوجد منه، واستشرف على عالم الشهادة لأنه إذا وقف في المقام المتوهّم على أنه معتنى به حيث شغله الله تعالى بمطالعة الانفعالات عنه تعالى.
و إيجاد الأعيان من قدرته تعالى، و اتصافها بالوجود في حضرة إمكانها، و ما أخرجها منها، و لا حال بينها و بين موطنها، و لكنه كساها خلقة الوجود و حلة الظهور، فاتصفت بهما بعد أن كانت موصوفة بالعدم مع ثبوت العين في الحالتين.
و بقي الكلام في ذلك الوجود الذي كساه الحقّ فيك الآمر و هو كالصورة التي في المرآة ما هي عين الرائي و لا غير عينه، و لكنه المحلّ المرئي مع الرائي، والمواجهة أعطت هذا الحكم الذي تراه، فعلمت المرآة والرائي والصورة الحادثة بينهما، فأدركت بالغيب الباطن و بالشهادة الظاهر، وحصل المقصود .
وهنا مبحث آخر وهو من لطائف العلم بالله، فأذكره لك :
لا يفوتك علما فإنه ورد في الخبر : "إن أفضل الهدية و أكمل العطية الكلمة من كلام الحكمة يسمعها العبد ثم يعلمها أخاه خير له من عبادة سنة على نيتها"  رواه تمام، و ابن عساكر رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
فاعلم أيدك الله و إيانا بروح منه أن العالم ينقسم إلى: ظاهر و إلى باطن .
فـ (الظاهر) هو عالم الشهادة، و (الباطن) هو عالم الغيب، وقد سمّى الله تعالى الباطن بالأمر والظاهر بالخلق، وقال: "ألا لهُ الخلْقُ والْأمْرُ" [ الأعراف: 54] . وقال تعالى: " قلِ ُّالروحُ مِنْ أمْرِ ربِّي" [ الإسراء: 85] .
فـ (عالم الأمر) هو عالم الغيب الذي هو الأسماء الذاتية، و يليها أمهات أسماء الألوهية و توابعها، و كل واحد منها حجاب عن الآخر، وصف نفسه تعالى باعتبار هاتين العالمين: أي الظاهر و الباطن، أو الغيب و الشهادة .
بأن له الحجب النورية التي هي الأرواح، و الظلمانية التي هي الأجسام، فكل واحد منهما حجاب عن الآخر، فإذا اعتبرتهما خلقا و أمرا، و لطيفا و كثيفا إنما اعتبرتهما من حيث الأسماء، و هي سلسلة الترتيب و الوسائط المتكثرة .
فبهذا الوجه يكثر الوجود و هو ظاهر الخلافة التي منه تكثر، و أمّا إذا اعتبرتهما أي العالمين الخلق الأمر، و إن شئت قلت:
عالم الغيب و الشهادة حقّا أعني من الوجه الخاص زالت الكثرة و ارتفعت الوسائط، و ذلك باعتبار أن (الاسم) عين المسمّى، و (الذات) هي السارية في الكل كتعين الأسماء من حيث عدم التغاير، فاتحدّ الكل من حيث أن الساري في الكل هو الذات، فهذا باطن الخلافة، و التجلي منه تجلّ أقدس .
و على هذا صحّ أن القرآن غير مخلوق من حيث ارتفاع الوسائط، و من حيث الإضافة إلى الاسم الذي عين المسمّى، فصحّ له الوحدة مع تكثر الألفاظ و الحروف و الآيات و السور، و بذلك تكثر في وحدته و لم يوصف بالمخلوقية مع التكثر لأنه ظهور الذات في المراتب بلا كيف.
فالعالمان الغيب و الشهادة أو الخلق و الأمر إذا أضيفا إلى الذات بلا واسطة بطريق الوجه الخاص فهما واحد.
و إذا أضيفا إلى الأسماء فالشهادة: الخلق، و الغيب: الأمر، فبهذا الاعتبار قلنا:
إن الإنسان الكامل له الأخذ من الله تعالى بواسطة باعتبار الإضافة إلى الاسم، و بلا واسطة باعتبار الأخذ من الوجه الخاص.
وإنما قلنا: الوجه الخاص لأنه مخصوص بالإنسان الكامل من دون الموجودات كالملك وغيره، فإن له الإطلاق في الأخذ و غيره لكل منهم مقام معلوم لا يتعدّون مقاماتهم و ذلك لأن الإنسان الكامل كل الوجود، فافهم .
( لندرك الباطن بغيبنا، و الظاهر بشهادتنا)
فلمّا أراد تعالى ظهورنا بالصورة: أي بصورة الحق و لها الغيب و الشهادة، فأوجدنا ذا غيب و شهادة ذا جسم و روح فعالم الجسوم شهادتنا، و عالم الأرواح غيبنا فالكون كله جسم و روح و بهما قامت نشأة الوجود، فالعالم للحق كالجسم للروح فلا يعرف الحق إلا من العالم كما لا تعرف الروح إلا من الجسم .
"" أضاف المحقق : قال سيدي محمد وفا في المعاريج: وأما الأرواح فإنها مخلوقة من النور الإفاضي العرشي، ولها التقدم في الخلق على الأجساد بألفي عام ما شهد به الخبر النبوي.
وأما الأرواح النورانية السعيدة فإنها تعرج إلى مقامها العلى، ومحلها البهی، ضمنها لطيفي الجسم النوراني، والهيكل الإنسان.
فأرواح السعداء ظاهرة أنوارها، باطنة نفوسها، مستهلكة الأجسام ضمن الأرواح، فالأجسام باطن الأرواح في دار البرزخ، ودار المحشر.
وفي دار الدنيا جسم ظاهر ، والروح باطن.
فالأرواح النورانية في داري الدنيا والبرزخ، يكشف بعضها بعضا، ويشهد بعضها البعض لما بينهن من المناسبة والتعارف.
وقد نبه رسول الله على ذلك بقوله: «خلق الله الأرواح أجناد مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
وكذلك النفوس في مجانستها و مناسبتها، فالأرواح أنوار للسعداء، وظلم للأشقياء، وأجسام السعداء منعمة بتنعيم نفوسها، وأجسام الأشقياء والعذاب مشترك بين النفوس والأجسام، وهذا ظهر لهذا، وهذا بطن هذا.
فإنتشار البشرية ظهور صفات النفس الطبيعية، التي لا انفكاك للصفة الآدمية الإنسانية منها، ولا خروج لها منها، وهذا أمر الله تبارك وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول : " قل إنما أنا بشر مثلكم فامتثل أمر ربه عز وجل وقال: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنا إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشتركين" (فصلت: 6).
كما أمر "من الله عز وجل" قال صلى الله عليه وسلم  ولم يقل: (إنما أنا بشر مثلكم).
فهو مأمور ببلاغ ما ينزل إليه من ربه كما أنزل، من غير زيادة ولا نقصان.
قال الله تبارك وتعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا تهدي القوم الكافرين" [المائدة: 67] .
فأجسام الأصفياء و المرسلين والأنبياء والصديقين والصالحين نورانية.
و نفوس الأشقياء و أرواحهم وأجسامهم مظلمة، فإنها هابطة في الدركات إلى أسفل سافلين. ع?س نفوس السعداء؛ فإنها عارجة إلى عليين. فالطبيعة أثر الترابية، والبشرية أثر الطبيعة.
فهي سماء الطبيعة، ولها النشور من الحشر بالخروج إلى فضاء البسط.
فالحشر صفة قبض، والنشر صفة بسط.
والله يقبض ويبسط فالنفوس بالتزكية تخرج من حشرها إلى نشرها البسطي النوري، والنفس الشقية ترد على عقبها، فتدس من نشرها، وتحشر في عوالم طبيعتها.
قال الله تعالى: "قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها" [لشمس: 9، 10] . ""
فإنا لما نظرنا فيه، و رأينا صورته مع بقائها تزول عنها أحكام كنا نشاهدها من الجسم و صورته من إدراك المحسوسات و المعاني، فعلمنا أن وراء هذا الظاهر معنى آخر هو الذي أعطى أحكام الإدراكات معرفتنا غيبنا بشهادتنا، و سمّيناه روحا لهذا الجسم الظاهر، و كذلك ما علمنا أن لنا أمرا يحرّك أرواحنا كما كانت الأرواح تحرّك أجسامنا و هو روح الأرواح يحكم فيها بما يشاء حتى نظرنا في أنفسنا، و عرفنا منها و بها ربنا .
و بهذا أخبر الوحي النبوي : “من عرف نفسه فقد عرف ربه”. 
و قال تعالى: "سنريهِمْ آياتنا في الْآفاقِ وفي أنْـفُسِهِمْ حتّى يتبيّن لهُمْ أنّهُ الحق أولمْ يكْفِ بربِّك أنّهُ على كُل شيْءٍ شهِيدٌ" [ فصلت: 53] .
حتى عرفنا الغيب بالغيب، و الشهادة بالشهادة، فمن جمع هذين العلمين فظهر بالصورتين، و علم علم الغيب و الشهادة قال تعالى: "وهُو بكُل شيْءٍ عليمٌ" [ الحديد: 3] .
قال تعالى: "عالمُ الغيْبِ فلا يظهِرُ على غيْبهِ أحداً * إلّا منِ ارتضى مِنْ رسُولٍ فِإنّهُ يسْلكُ مِنْ بيْنِ يديهِ ومِنْ خلْفِهِ رصداً " [ الجن: 26، 27] .
لتعلم أنه تعالى بالحكم الذي صحّت به  الربوبية الموجبة للمكاسبة الرابطة بينه و بين خلقه أثر في العالم من الأحوال، فيتصف تعالى عند ذلك بالرضا و السخط .
( ووصف نفسه بالرضا و الغضب) و هما من الصفات التشبيهية لأن للعالم مع الحقّ أحكاما لو لا تعريفه إيانا ما عرفنا، و ذلك إذا اتبعنا رسوله فيما جاءنا به من الطاعة أحبنا و أرضيناه فرضي عنا .
قال تعالى: "رضِي اللّهُ عنْـهُمْ ورضُوا عنْهُ وأعدّ لهُمْ جنّاتٍ تجْري تحتها الْأنهارُ خالدِين فيها أبداً ذلك الفوْزُ العظِيمُ" [ التوبة:  . [100
و إذا خالفوه و لم يمتثل أمره أخبر أنهم أسخطوه و أغضبوه، فغضب الله عليهم، فالرضى أثر الطاعة، و الغضب أثر العصيان، فافهم .
( وأوجد العالم ذا خوف و رجاء) بسبب المناسبة التي بينه و بين الحق و بها كان خلفا له و منسوبا إليه، فارتبط به تعالى ارتباط منفعل عن فاعل، فخرج العالم على صورته، فيتحوّل بتحولها فإذا تحوّلت بصورة الرضا أثرت فيه، فتحوّل بصورة النعيم، و إذا تحوّلت بصورة الغضب أثّ رت فيه فتحوّل بصورة العذاب .
وهكذا الأمر في الوجود إنما غير الأسلوب المطلوب ههنا، وما قال: ذا رضا وغضب تنبيها على المقصود الأولى الذي هو بيان الارتباط من الجانبين حتى لا تنسى، أما ترى الأبيات الثلاث الآتية بعد هذا؟ فإنه ذكر فيها الارتباط، فافهم مع أن المقصود حاصل بهذا فيما نحن بصدد بيانه الآن و هو العلم به تعالى بالمقايسة لأن الرضا و الغضب لو لم يكن ذوق الراجي و الخائف فما خاف و ما ارتجى، فأثبت باللازم مع ملاحظة أخرى، فافهم .
( فأوجدنا على هيبة و أنس الهيبة) من أثر الجمال، و الأنس من أثر الجلال، و لما  كان الجمال مهوبا، فأوجدنا قابلا للهيبة حتى نهاب منه، و لما وصف نفسه بالحياء من عبده إذا لقيه، فقام الحياء لله مقام الهيبة في مخلوق، فأوجدنا قابلا للأنس، و أرسل حجاب الجلال بيننا و بينه ليرتفع عنا أثر هيبة الجمال، و تكون النشأة جامعة للصفتين .
هذا البيان بطريق اللف والنشر المرتبين على ذوق الشيخ رضي الله عنه، فإنه قال في بعض رسائله: إن أكثر هذا التصرف جعلوا الأنس بالجمال مربوطا، والهيبة بالجلال منوطا، وليس كما قالوه.
وهو أيضا كما قالوه بوجه، وما ذلك إلا أن الجلال والجمال وصفان لله تعالى، والهيبة والأنس وصفان للإنسان، فإذا شاهدت حقائق العارفين الجلال هبت وانقبضت، وإذا شاهدت الجمال أنست وانبسطت فجعلوا الجلال للقهر، والجمال للرحمة، وحكموا في ذلك بما وجدوه في أنفسهم.
و أريد إن شاء الله تعالى أن أبين هاتين الحقيقتين على قدر ما يساعدني به في العبارة، فأقول أولا: إن (الجدال لله تعالى) معنى يرجع إليه، و هو الذي يمنعنا من المعرفة به تعالى .
و (الجمال) معنى يرجع منه إلينا، وهو الذي أعطانا هذه المعرفة وزنا "لنزن بها المعاني في" و التنزلات و المشاهدات و الأحوال .
و له فينا أمران: الهيبة و الأنس، و ذلك أن لهذا الجمال علوّا و دنوّا فـ (العلوّ ) يسمّيه جلال الجمال، و فيه يتكلم العارفون، و هو الذي يتجلى لهم، و يتخيلون أنهم يتكلمون في الجلال الأوّل الذي ذكرناه، و هذا جلال الجمال قد اقترن معه منا الأنس .
و الجمال الذي هو الدنو قد اقترنت معه منا الهيبة، فإذا تجلى لنا جلال الجمال أنسنا، و لو لا ذلك لهلكنا، فإن الجلال و الهيبة لا يبقى لسلطانهما  شيء، فقابل ذلك 
الجلال منه بالأنس منا لتكون في المشاهدة على الاعتدال حتى نفعل ما نرى، و لا نذهل، و إذا تجلى لنا الجمال متنا فإن الجمال مباسطة الحق لنا، و الجلال عزته عنا، فيقابل بسطه معنا في جماله بالهيبة، فإن البسط مع البسط يؤدي إلى سوء الأدب، و سوء الأدب في الحضرة سبب الطرد و البعد .
و لهذا قال المحققون ممن عرف هذا المعنى و حضره: قف على البساط و إياك و الانبساط
فكشف أصحابنا صحيح، و حكمهم بأن الجلال يقبضهم و الجمال يبسطهم غلط، و إذا كان الكشف صحيحا فلا نبالي فهذا هو الجلال و الجمال  كما تعطيه الحقائق، انتهى كلامه رضي الله عنه .
أو نقول بعكس الأول أنه أوجدنا على هيبة حتى نرى عظمة الجلال تدركنا الهيبة لما نرى أنفسنا عليها من الافتقاد و البعد عن إلتفات ما يعطيه مقام العظمة، و من هذه الحضرة كانت الألوهية، 
فيعلم سرنا لما فينا من نسبة الباطن، و جهرنا لما فينا من نسبة الظاهر، فعظم ذلك في نفس الرائي .
أما الأنس فلأن السامع إذا أخذ الجلال على العظمة أدركه القنوط عن اللحوق لما يرى في نفسه الافتقار و البعد، فيزيل الله هذا القنوط عن وهمه بظهور الجمال، فإنه جميل يحب الجمال، فجامل و وهب و أعطى و جاد و امتنّ به من جزيل الهبات و المنح، و آنسه فاستأنس به فأزال الله حكم القابض و نسخه بحكم الباسط و ظهر بصورة كل شي ء إلى عباده في طلب الكرم منهم إلى الظهور بصفة الحاجة و أيّ أنس أكبر من هذا! فافهم .
و الجميل يتبع الجليل و يلازمه، قال تعالى: "و يبقى وجْهُ ربِّك ذو الجلالِ والِإكْراِم" [الرحمن: 27] .
قال تعالى: "تبارك اسْمُ ربِّك ذِي الجلالِ والِإكْراِم" [ الرحمن: 78] ربما يجدون في نفوسهم حرجا، و هيبة من عظمة الجليل، فإن الله أحرجهم بإقران الجميل و الأنس و الإكرام بالجلال اعتناءا بهم فلهذا قارن رضي الله عنه بين الجمال و الجلال و أحكامهما، و قدّم الهيبة و أخرّ الأنس لأن الاعتبار بالخواتيم، فافهم .
( و هكذا جميع ما ينسب إليه تعالى) و يسمّى به من الأسماء المتقابلة، و أوجد فينا مثلها، و بين لنا أن في أرض العالم نجدين نجد التنزيه، و نجد التشبيه و هما عالمان متقابلان في العلوّ، و إن لكل سرّ في العالم وجهين بحكم القبضين من اليدين، و لا بد من الدارين، و لا بد من برزخ بين كل اثنتين .
قال تعالى: "ومِنْ كُل شيْءٍ خلقنا  زوْجيْنِ" [ الذاريات: 49] لأنه مخلوق عن صفتين إرادة و قول و هما اللذان شهدهما كلّ مخلوق من الحقّ، فإن العالم نتيجة، و النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين و هذا هو التناسل كوجود الابن بين الأبوين على صورة الأبوين، فافهم .
و هذا كله حتميّ بنا لا بأمر خارج عنا لأن  الشيء لا يعرف إلا بما به الاشتراك إلا بما به الامتياز، فافهم .
( فعبر عن هاتين الصفتين و النسبتين المتقابلتين) تقابل تنزيه و تشبيه باليدين، و ما هو إلا عين جمعه بين الصورتين صورة العالم، و صورة الحق و هما يد الحق إذ بهما يتمّ الوجود و تكمل الأفعال و الآثار للربوبية، كما باليدين يتمكّن الإنسان من الأخذ و المنع.
قال تعالى: "يداهُ مبْسُوطتانِ" [ المائدة: 64]: أي في العطاء و المنع .
و في الحديث : "الصدقة تقع في يد الرحمن" . كناية عن الأخذ و القبول اللتين توجهتا منه أي: من الحق تعالى . ( على خلق الإنسان الكامل) .
قال تعالى: "ما منعك أنْ تسْجُد لما خلقْتُ بيديّ  أسْتكْبرْت أمْ كُنْت مِن العالين" [ ص: 75] .
و إنما خصّ الإنسان الكامل لأن غيره ما خلق إلا بقول (كن فكان) كالملائكة عليهم السلام .
ورد في الحديث الصحيح : " إنّ الملائكة عليهم السلام قالوا: ربنا خلقتنا و ما خلقت بني آدم فجعلتهم يأكلون الطعام و يشربون الشراب و يلبسون الثياب و يأتون النساء و يركبون الدواب و ينامون و يستريحون و لم تجعل لنا من ذلك شيئا، فاجعل لهم الدنيا و لنا الآخرة.
فقال تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي و نفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان"  رواه ابن عساكر .
اعلم أن للحق في مشاهدة عباده إياه نسبتين: نسبة تنزيه، و نسبة تشبيه فنسبة التنزيه تجليه في: "ليس كمِثلهِ شيْءٌ" [ الشورى: 11].
و النسبة الأخرى تجليه في قوله صلى الله عليه و سلم : "إن تعبد الله كأنك تراه".
و قوله صلى الله عليه و سلم : "إن الله في قبلة المصلي".
و قوله تعالى:" فأينما تولُّوا فثمّ وجْهُ اللّهِ" [ البقرة: 115] ذاته .
و الأحاديث الواردة لو لم تستصحب بمعانيها الموضوعة لها المفهومة من الاصطلاح، فما معنى قوله تعالى: " و ما أرسلْنا مِنْ رسُولٍ إلّا بلِسانِ قوْمِهِ" [ إبراهيم: 4].
فما وقعت الفائدة بذلك عند المخاطب لها خصوص العموم من الناس، فإذا تقرّر عندك هاتين النسبتين للحق المشروعتين و أنت المطلوب بالتوجّه بقلبك و بعبادتك إلى هاتين النسبتين، فلا تعدل عنهما إن كنت ناصحا نفسك.
فإن الإنسان ما جمع الحقائق المذكورة إلا بهاتين النسبتين، فلمّا توجّهت هاتان النسبتان فخرج بنو آدم لهذا على ثلاث مراتب :
( كامل) و هو الجامع للنسبتين.
أو (واقف) مع دليل عقله و نظره و فكره و هو المنزه خاصة.
أو (مشبه) بما أعطاه اللفظ الوارد، و لا رابع لهم .
فـ (الاعتدال و الكمال) هو القول بالأمرين و الاتصاف بالوجهين أعني الظهور بحقائق الأسماء الإلهية الوجوبية في حقائق الصفات الكونية على الكشف و العيان، فلا تزال حقيته في خليقته حاكمة على خليقته شهودا و كشفا بل ذوقا محقّقا .
و أما (الانحراف) فإمّا تنزيه، و إمّا تشبيه فهو لا جهلوا و هو لا جهلوا، حيث فاز بالحق أهل الاعتدال، فافهم أمة وسط بين غنى و فقر لا يتركه الفقر أن يطغى، و لا يتركه الغنى أن يغنى فقد تعرى بهذين الحكمين عن هاتين الصفتين، أما ترى أنه تعالى جعل له عينين لينظر بالواحدة إلى الغنى الذاتي من كونه غنيا عن العالمين فلا يراه في  شيء لأنه لا يرى شيئا، بل و لا يرى نفسه كما في التجلي في لا شيء، فإن المقام مقام فناء كل شيء كان ما كان، و هذا هو الغنى الذاتي، و هو نهاية الكامل، و حظه في الاتصاف بالصفات التنزيهية.
و ينظر بالعين الأخرى افتقاره الذاتي إلى كلّ شيء من حيث ما هي الأشياء، أسماء الحق تعالى لا من حيث أعيانها، فلا يرى أفقر من نفسه إلى العالم لأنه مسخرته، ولو لا افتقاره إليه لما سخر له لأن المسخر حكيم عليم، و هو نهاية الكامل، وحظه في الاتصاف بالصفات التشبيهية فإذا اتصفت فقلدت ربك منزها مشبها و كل ذلك أنت لأنهما تجليان إلهيان وأنت جامعهما .
( لكونه الجامع لحقائق العالم و مفرداته) اللام تعليل المتوجّه باليدين لأن الإنسان الكامل بجميع حقائق العالم، وهي الأمور الكلية المعقولة التي لها الآثار، و الأحكام على مفردات الأعيان الخارجية لأن أحدية جمع الجميع علما و عينا .
قال رضي الله عنه في "الفتوحات": إن الحقائق التي جمعها الإنسان فكان من جمعيتها الإنسان انتهى كلامه رضي الله عنه.
فجمع له بين يديه، و أعطاه جميع نسبته و تجلى له في الأسماء كلها جماليا، و لكن لا يعلم ذلك إلا الراسخون، إن الراسخ في العلم والكشف يرى و يعلم أن العلم بأنواعه و أفراده أجزاؤه .
و مع هذا واحد في نفسه و أحديته، ولم يحكم عليه النسب بالتعداد الانقسام في ذاته من حيث حقيقته و لطيفته، و يقابل بذاته الحق من حيث نسبته التنزيهية، وبذلك الوجه يقابل الحق تعالى من حيث التشبيه و لا له وجهان متغايران كالحق سبحانه أنه الموصوف بهاتين الصفتين، و هو واحد في نفسه و أحديته و هذا الكمال المطلق متفاوت بين الأنبياء الأولياء من الأناسي صلوات الله عليهم أجمعين المستغرق له في كل عصر بالذات، والمرتبة و العلم، والحال و الفعل في جميع الأسماء و الصفات الإلهية، و الحقائق الكونية، و الأحكام الكلية و الجزئية .
فجمع له بين يديه، و أعطاه جميع نسبته و تجلى له في الأسماء كلها جماليا، و لكن لا يعلم ذلك إلا الراسخون، إن الراسخ في العلم و الكشف يرى و يعلم أن العلم بأنواعه و أفراده أجزاؤه و مع هذا واحد في نفسه و أحديته، و لم يحكم عليه النسب بالتعداد الانقسام في ذاته من حيث حقيقته و لطيفته، و يقابل بذاته الحق من حيث نسبته التنزيهية.
و بذلك الوجه يقابل الحق تعالى من حيث التشبيه و لا له وجهان متغايران كالحق سبحانه أنه الموصوف بهاتين الصفتين، و هو واحد في نفسه و أحديته و هذا الكمال المطلق متفاوت بين الأنبياء الأولياء من الأناسي صلوات الله عليهم أجمعين المستغرق له في كل عصر بالذات، و المرتبة و العلم، و الحال و الفعل في جميع الأسماء و الصفات الإلهية، و الحقائق الكونية، و الأحكام الكلية و الجزئية .
و هو من حيث أنه برزخ البرازخ الجامع بين الغيب الذاتي المطلق الواجب و بين أحكام الألوهية و الكونية و الإمكانية هو خليفة الله و خليفة الخليفة المسمّى ب (القطب) و لمن دونه تكون الخلافة على قدره و يشير إليه قوله صلى الله عليه و سلم : "كلكم راع"  الحديث فافهم .
فالعالم و هو ما سوى الله تعالى على اختلاف أنواعه و أشخاصه روحا و مثالا و جسما شهادة لأنها من أحكام الظاهر، و الخليفة من حيث أنه خليفة لا من حيث أنه إنسان غيب حقيقيّ من أحكام الباطن لأنه سرّ العالم.
والسر من ثنائه أن يكون غيبا. فلو ظهر لم يكن سرا حقيقيا، و قد قلنا أنه سرّ العالم و هو أحدية جمعه و هو روح العالم و مدبره و هويته لا تزال غيبا "فلا يظهِرُ على غيْبهِ أحداً" [ الجن: 26] أبدا .
هذا وهنا إشارات لا يمكن إظهارها، وأسرار لا يقبل إبرازها، ومن هذا المقام ما ورد عن بعض المجاذيب العقلاء: إنه سكر و باح و قال: أما عرفته؟ وأمّا هو ما أعرفه هل عرفني أم لا؟
يشير إلى هذا الغيب المطلق، فافهم .
فهو يعلم غيب ربه، يعلم غيبه بنفسه، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه .
قال تعالى: "عالمُ الغيْبِ فلا يظهِرُ على غيْبهِ أحداً . إلّا منِ ارتضى مِنْ رسُولٍ فِإنّهُ يسْلكُ مِنْ بيْنِ يديهِ ومِنْ خلْفِهِ رصداً" [ الجن: 26، 27] .
قال تعالى: "وعلّم آدم الْأسْماء  كُلّها" [ البقرة: 31] و منها (الاسم الباطن) 
و هو الغيب، و لهذا: أي لأجل عزة المرتبة بحجب السلطان لأن المرتبة أمر اعتباريّ لا عين لها في الخارج، فهو مستور عن أعين الشهادة لعزة المنصب بالمشاكلة .


قال الشيخ المصنف رضي الله عنه : [ فالعالم شهادة والخليفة غيب، ولذا تحجب السلطان. ووصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية وهي الأجسام الطبيعية، والنورية وهي الأرواح اللطيفة. فالعالم بين كثيف ولطيف، وهو عين الحجاب على نفسه، فلا يدرك الحق إدراكه نفسه. فلا فلا يزال في حجاب لا يرفع مع علمه بأنه متميز عن موجده بافتقاره. ولكن لا حظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق، فلا يدركه أبدا.]
قال الشيخ الشارح رضي اللّه عنه :
(فالعالم شهادة والخليفة غيب، ولذا تحجب السلطان.)
كما ورد في الخبر الصحيح : "إن لله تعالى سبعين ألف حجاب أو سبعين حجابا من شك الراوي من نور و ظلمة لو كشفها لأحرقت، سبحان وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"  .
اعلم أن الحجب منها: (حجب عناية) مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " إن لله سبعين ألف حجاب  الحديث" .
ومنها (حجب نقمة و عذاب) مثل قوله تعالى : "كلّا إنّـهُمْ عنْ ربِّهِمْ يوْمئذٍ لمحْجُوبون" [ المطففين: 15] .
و إن اللّه تعالى لما خلق الحجب، و لا بد فلو لم يحجب لما كانت حجبا، و خلق الله تعالى هذه الحجب على نوعين معنوية و مادية .
و خلق (الحجب المادية) على نوعين كثيفة و لطيفة .
و (الحجب اللطيفة) على نوعين شفافة و غير شفافة .
فـ (الحجب الكثيفة) لا يدرك البصر سواها ما فيها و ما ورائها، و يحصل له الالتباس إذا أدرك ما فيها و يقول كما قيل :
رقّ القلوب و رقت الخمر   .... فتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر و لا قدح .....      و كأنما قدح و لا خمر
و أمّا المرئي في الأجسام الصقيلة فلا يدرك موضع الصور منها، و لا يدرك ما ورائها، و يدرك الصور الغائبة عن أعين المدرك بها لا فيها .
فـ (الصور المرتبة) حجاب بين البصر و الصقيل و هو صور لا يقال فيها لطيفة و لا كثيفة، و تشهدها الأبصار كثيفة، و تتغير أشكالها بتغير شكل الصقيل، و يتموج بتموّجه، و يتحرك بتحركه بل بحركته، و يسكن بسكونه فما في الجود إلا حجب مسدلة، و الإدراكات متعلقها الحجب، و لها الأثر في صاحب العين المدرك لها، و أما الحجب المعنوية فأعظم الحجب حجابان حجاب الجهل و حجاب حسيّ، و هو رؤيتك أنانيتك، فما جعل حجابا عليك سواك و هو أكثف الحجب  .
فأنت حجاب القلب عن سرّ    .... و لولاك لم يطبع عليه ختامه  
فافهم فإن الأمور كلها أمثال و عبر .
قال تعالى:فاعْتبرُوا يا أولي الْأ بصارِ" [ الحشر: 2] فافهم .
فـ (الحجب الظلمانية) و هي الأجسام الطبيعية يشير رضي الله عنه إلى بيان الحديث المذكور حيث جعل صلى الله عليه و سلم الحجب من نور و ظلمة،
و(النورية ): أي الحجب النورية و هي الأرواح اللطيفة و الأجساد اللطيفة النورية
أي (الحجب النورية) و هي الأرواح اللطيفة و الأجساد اللطيفة النورية .
فهذه هي الحجب التي وردت في الحديث أنهما من نور و ظلمة.
فمن الظلمة وقع التنزيه، فنفينا عنه صفات المحدثات فلم نره.
فنحن جعلنا الحجب على أعيننا بهذا النظر، ومن النور هو ظهوره لنا حتى نشهده وننكر أنه هو كما وقع التجلي في القيامة. فيشهده العارف في صور الممكنات وينكره المحجوب.
فهو الظاهر للعارف والباطن للمحجوب دنیا وآخره، وكون الحجاب نورا من أعز المعارف؛ إذ لا يتمكّن النور أن يكون حجابا مستورا، فإنه لذاته يخرق الحجب و يهتك الأستار .
فـ (العالم) الذي هو عين السرّ على نفسه بين (حجاب كثيف) و (حجاب لطيف ).
و ليس العالم سوى هذه الأجسام و الأجساد كثيفها و لطيفها و هو عين الحجاب على نفسه، و انحجب بعينه و تقيده عن الأصل المطلق الذي لا يتقيد بالتقييد، كما لا يتقيد بالإطلاق، فافهم . 
فلا يدرك الحق سبحانه: أي العالم لا يدركه تعالى من حيث إطلاقه إدراكه تقسه: أي مثل إدراكه تعالى نفسه، وذاته تعالى و هو مطلق لأن المقيد لا يدرك المطلق لعدم المناسبة، فلا يدرك المطلق إلّا المطلق، و العالم مقيد فلا يدرك الحق المطلق، فلا يزال أي العالم في حجاب لا يرفع: 
منحتها الصفات و الأسماء  ..... أن ترى دون برقع اسما
قد تسمّت بهم و ليسوا ......      فالمسمى أولئك الأسماء
و ذلك لتقييد العالم و عدم إطلاقه، و إطلاق الحقّ تعالى و عدم تقيده، و المقيد لا يدرك المطلق أبدا . 
قال تعالى: " وما مِنّا إلّا لهُ مقامٌ معْلومٌ" [ الصافات: 164] لأن الإطلاق مشرف على التقييد لا بالعكس، فيعلمنا و لا نعلمه، و يدركنا و لا تدركه.
و أيضا أن ( المطلق) له أن يقيد نفسه إن شاء . ومن هذا المقام أوجب على نفسه الرحمة، فيدرك المقيد بإدراكه لنفسه بخلاف المقيد لا يصح أن يرجع مطلقا بوجه من الوجوه ما دامت عينه، فإن القيد صفة نفسه له فلا يفارقها أبدا . 
هذا حكم العالم من حيث أنه عالم لا حكم الإنسان الكامل فإنه مخلوق على الصورة يا أهل يثرب لا مقام لكم، فافهم . 
( مع علمه بأنه متميز عن موجده بافتقاره) فـ (الحجاب) مسدل مع العلم بالتميز لأن علمه ما تعدى نفسه من حيث لوازمه الذاتية، فلا أفاد في إدراك الحق تعالى شيئا، و لكن أي و إن كان له العلم بالتميز عن موجده بافتقاره.
و لكن لا حظّ له في (الوجوب الذاتي لوجود الحق سبحانه ): أي و لو ميزه لم يميزه إلّا بما هو عليه في نفسه لا بما في نفس الحق و هو الوجوب الذاتي . 


قال الشيخ رضي الله عنه : [فلا يزال الحق من هذه الحقيقة غير معلوم علم ذوق وشهود، لأنه لا قدم للحادث في ذلك. فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا. ولهذا قال لإبليس: «ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي»؟ وما هو إلا عين جمعه بين الصورتين: صورة العالم وصورة الحق، وهما يدا الحق. وإبليس جزء من العالم لم تحصل له هذه الجمعية.]
قال الشارح رضي الله عنه : فلا يزال الحق من هذه الحقيقة غير معلوم علم ذوق وشهود، لأنه لا قدم للحادث في ذلك .
""إضافة الجامع : يقول الحافظ البرسي : ذات الحق غير معلوم بالحقيقة ، وذات الحق أولى بالتنزيه عن الكيفية ، فمنه إليك قوله : هو ، ومنك إليه قولك : هو.أهـ
ويقول الشيخ الأكبر في الباب الثامن والخمسون وخمسمائة  : والكلام في ذات الله عندنا محجور بقوله "ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ " من باب الإشارة وإن كان له مدخل في التفسير أيضا ولا يقع في مثل هذا إلا جاهل بالأمر وفي "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "ما يقع به الاستغناء لو فهموه .
وما رأينا أحدا ممن يدعي فيه أنه من فحول العلماء من أي صنف كان من أصناف النظار إلا وقد تكلم في ذات الحق غير أهل الله من تحقق منهم بالله.
فإنهم ما تعرضوا لشيء من ذلك لأنهم رأوه عين الوجود كما أشهدهم فهم يتكلمون عن شهود فلا يسلبون ولا ينفون ولا يشبهون. أهـ ""
( فما جمع الله لآدم بين يديه ): أي يدي تنزيه و تشبيه، و إن شئت قلت: يدي وجوب و إمكان، و قدم و حدوث .
( إلا تشريفا و تكريما له) فإنه جاز الشرف بكلتا يديه، و إنه حادث أزليّ .
( و لهذا ): أي و لهذا التشريف قال تعالى لإبليس توبيخا و زجرا: "ما منعك أنْ تسْجُد لما خلقْتُ بيديّ " [ ص: 75]: أي يدي تنزيه و تشبيه من حيث التشريف بقرينه الحال حين عرفه بذلك لإبليس لما ادعى الشرف على آدم بنشأته قال: " قال يا إبليسُ ما منعك أنْ تسْجُد لما خلقْتُ بيديّ  أسْتكْبرْت أمْ كُنْت مِن العالين" [ صّ : 75] .
فلا بد من النسبتين بحيث يصحّ بهما التشريف لخلافتي و إلا ذلك سائغ في غيره كالإنسان الحيواني (و ما هو ): أي ليس هذا التشريف، و هو الخلق إلا عين جمعه بين الصورتين (صورة العالم) و (صورة الحق) و تحقّقه بهما و هما: يدا الحق يد تنزيه و يد تشبيه .
أحدهما فاعلة معطية، و أحدهما قابلة آخذة، و كلتا يديه يمين مباركة، فافهم .
و (إبليس) و كان اسمه حارث فأبلسه الله تعالى و طرده من رحمته، و طرد رحمته منه، فسمّي إبليسا: أي طريدا .
( جزء من العالم لم يحصل له هذه الجمعية) لأنه مظهر اسم المضل، و آدم عليه السّلام مظهر لاسم الله الجامع لجميع الأسماء الظاهرة في المظاهر المسمّاة بالعالم، و الاسم المضل من جملة تلك الأسماء، و اللبس على إبليس حقيقة الأمر لجهله بنفسه.
فظنه أنه الشرف من حيث النشأة العنصرية، ثم ظن أن أشرف الاستقصات النار فرتب بالفكر الفاسد على هذا الوهم الكاسد الأقيسة الباطلة و المقدمات العاطلة في نفسه و توهّم منها النتيجة، و امتنع عن السجود حين أمره الله تعالى و ما اكتفى بمجرد الامتناع و كان أستر له بل فضح نفسه عند العلماء بإظهار استدلاله، و جمع بين الجهل و سوء الأدب لخفته و طيشه .
و قال تعالى: "قال أنا خيْـرٌ مِنْهُ خلقتني مِنْ نارٍ و خلقْتهُ مِنْ طِينٍ" [ الأعراف : 12] .
و هذه أول معارضة ظهرت من إبليس في صنعة الجدال، فإنه جادل ربه و ما أحسن في جداله لأنه ما أعطي حقه إن الحق تعالى  أراد بقوله: "ما منعك أنْ تسْجُد لما خلقْتُ بيديّ"  [ صّ : 75]: أي يد تنزيه و تشبيه، وإن شئت قلت يد وجوب وإمكان، أو يد بخلاف سائر العالم ملكا و فلكا.
قال تعالى: "إذا أراد شيْئاً أنْ يقُول لهُ كُنْ فيكُونُ" [ يس: 82] فهو مجموع العالم أجزاءه و له شرف الكلية على الأجزاء، و على الأجزاء أن يطيعوه و لا يعصوا له أمرا، فأمر بهذه الحكم البالغة له سجدة إلا طاعة، و الانقياد له إظهارا لشرفه على الخلق المخلق سيما الملائكة عليهم السلام لأنه كل الوجود، فما فهم اللعين هذه المقدمات المطوية و  الأسرار الوجودية، و حمّل الخطاب على غير محله حسدا من عنده فجادل و عارض و تطاول.
و ذلك أنه لما فهم من لحن المخاطبة و القول إثبات الشرف لآدم، و ما علم أيّ شرف يوجب أن يطاع، و ينقاد بهذه السجدة، فادّعى بطريق المعارضة لنفسه الشرف، و استدلّ بأنه خلق من نار، و ظنّ أنه أعلى الاستقصات من حيث المكان.
و لم يعلم أن الطين أشرف الاستقصات فإن له الثبات و القرار، و للنار الطيش و التهتك و الاستكبار، و ما أعتبر أن التبن في الماء فوق التبر في المكان، فغفل عن المكانة أو استكبر وعاند و استكثر من الحسد، فعوتب .
استكبرت و عاندت أم كنت من العالين في الاحتجاج، و لك حجة في قولك و دعواك، فهذا لسان تبكيت و تعريض، و كان الأمر كما قلنا ظهر من آدم التمكين و الثبات والتوجّه في الأمور والأناة، و التدبر و إصابة الفكر و النظر في العواقب، و ظهر منه قلة الأدب و الجهل و التهتك و الطيش و الخفة، فإنه من مارج و هو نار مختلط بالهواء فله الخفة و عدم القرار و الاستكبار.

قال الشيخ قدس الله سره : [ولهذا كان آدم خليفة فإن لم يكن ظاهرا بصورة من استخلفه فيما استخلفه فيه فما هو خليفة، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها- لأن استنادها إليه فلا بد أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه- وإلا فليس بخليفة عليهم. فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل، فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى.]
قال الشارح رضي الله عنه :
(ولهذا ): أي لحصول هذه الجمعية، و هي جمع النسبتين .
( كان آدم خليفة) وأعطاه الله تعالى من القوة بحيث أنه ينظر في النظرة الواحدة إلى الحضرتين، فيتلقّى من الحق، و يلقي إلى الخلق من حيث أنه حق خلق في مقام جمع الأضداد و منزله، و يكون بين هاتين النسبتين كالبرزخ يقابل كل نسبة منها بذاته.
فإنه لا ينقسم في ذاته فيقابل بعينيه التي قابل بها أحدهما الأخرى، و ما ثمة إلا ذاته كالجوهر الفرد بين الجوهرين أو الجسمين يقابل كل واحد منهما بذاته لأنه لا ينقسم، فلا يكون له جهتان مختلفان في حكم العقل.
و إن كان الوهم يتخيل ذلك لأن حقيقة البرزخ ألا يكون فيه برزخ و هو الذي يلتقي أمرين بينهما بذاته، فإن التقى الواحد منهما بوجه غير الوجه الذي يلتقي به الآخر، فلا بد أن يكون ما ينهما برزخ حتى يفرّق بين الوجهين حتى لا يلتقيان فإذا ليس ببرزخ .
قال تعالى: "بينهُما برْزخٌ لا يبْغِيانِ" [ الرحمن: 20] إشارة إلى ما ذكرناه، فإذا كان اللغة الوجه الذي يلتقي به الآخر فذلك هو البرزخ الحقيقي، فيكون فاصلا بين الشيئين مع وحدة الوجه .
فـ (البرزخ) يعلم بالحواس لأن ما له عين في الخارج و لا يدرك و يعقل و لا يشهد .
ذكره رضي الله عنه في الباب الثاني و الثمانين و ثلاثمائة من "الفتوحات":
فهكذا رتبة الإنسان الكامل من حيث حقيقته و لطيفته يقابل بوجه الحقّ من حيث نسبة التنزيه، و بذلك الوجه بعينه يقابل نسبة الحق من حيث نسبة التشبيه.
و كما أن الحق الذي هو الموصوف بهاتين النسبتين واحد في نفسه، و أحديته و لم يحكم عليه هاتان النسبتان بالتعداد و التكاثر في ذاته.
كذلك العبد الكامل الخليفة في مقابلة الحق واحدة، و العين من العبد واحدة، و لكن عين العبد ثبوتية ما برحت من أصلها لأن الأعيان ما شمت رائحة الوجود، و لكن كساها الحق حلة وجوده فحينها باطن وجوده، و وجودها موجدها، فما ظهر إلا الحق تعالى و لا غير حتى يظهر، فافهم .
( فإن لم يكن ظاهرا بصورة ما استخلفه فيما استخلفه فيه ما هو خليفة) .
اعلم أن الحكم في الأشياء كلها و الأمور جميعها، إنما هو للمراتب لا للأعيان، و لها النصب و العزل كانت ما كانت، وأعظم المراتب و أعلاها هو (الألوهية).
أنزلها العبودية فما ثمة الأمر ثبتان، فما ثمة إلا ربّ و عبد، و لكن للألوهية أحكام مختصة به لا يقتضي الغير، بل بنفسه لنفسه و هي كوجوب ذاته لذاته، و الحكم بغناه عن العالم، و نعوت الجلال كلها، و نفي المماثلة و أحكام ما يقتضي بذاتها عين الغير كالكرم و الجود و الرحمة.
فلا بد من عين عبد، و العبد في المرتبة العبودية فمرتبة العبد تطلب أحكامها من كونه عبدا العبد من طينة مولاه، فلا بد أن يكون ظاهرا بصورته خصوصا إذا استخلفه.
فلا بد أن يخلع عليه من استخلفه من صفاته ما تطلبه مرتبة الخلافة لأنه إن لم يظهر بصورة من استخلفه فلا يتمشّى له حكم في أمثاله، و ليس ظهوره بصورة من استخلفه سوى ما تعطيه مرتبة السيادة فأعطته رتبة الخلافة و رتبة العبودية لا يمكن أن يصرفها إلا في سيده الذي استخلفه كما أن له أحكاما لا يصرفها إلا فيمن استخلف عليه.
و الخلافة صغرى و كبرى فـ (أكبرها) التي لا أكبر منها الأمانة الكبرى على العالم.
و(أصغرها) خلافة الشخص على نفسه و التي بينهما ينطلق عليها صغرى بالنسبة إلى ما فوقها و هي بعينها كبرى بالنظر إلى ما تحتها، و أما تأثير العبد من كونه عبدا في سيده فهو قيام السيد بمصالح عبده لينفي عليه حكم السيادة، و أما التأثير الذي  يكون للعبد من كونه خليفة فيمن استخلفه كان المستخلف من كان فهو أن يبقى له عين من استخلفه لينفد حكمه فيه أيضا، فإن لم يكن كذلك فليس بخليفة .
هذا قوله رضي الله عنه(فإن لم يكن ظاهرا بصورته فما هو خليفة) .
قال رضي الله عنه: فإذا أراد الله تعالى تعظيم عبد من عباده عدل به عن منزلته، و كساه خلعته، و أعطاه أسماه، و جعله خليفة في خلقه، و ملكه زمام الأمر، و كمل الغاشية بين يديه، و أعطي الحكم له ليعطي مرتبة حقها، فإن الحضرة في الوقت له، و الوقت وقته، و الحكم للوقت في كل حاكم  كان من كان .
ألا ترى الحق أنه يقول عن نفسه أنه: "كُلّ  يوْم هُو في شأنٍ" [ الرحمن: 29] فهو يحسب الوقت لأنه لا يعطي إلا بحسب القابل فالقبول وقته حتى تجري الأمور على الحكمة .
قال صلى الله عليه و سلم : " لا يؤمن الرجل في سلطان أحد و لا يعقد على كريمته إلا بإذنه" .
فإن الخليفة إذا دخل أحد من رعيته، فـ (الأدب الإلهي) المعتاد يحكم عليه بأن يقبل حكم صاحب الدار، فحيث ما أقعده يقعد ما دام في سلطانه.
و ذلك من حكم المنزل عليه، و جعل الرئيس مرؤوسا، أما ترى وجود العالم ما ظهر إلا بإظهار الحق إيجاده، ثم تأخّر المتقدم، و تقدّم المتأخر، فلم يظهر للعلم بالله عين حتى أظهر به العلم بالعالم، قال صلى الله عليه و سلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" .
فإن الأمر لا يظهر إلا بما تواطئوا عليه، و إذ ظهر لهم فعلا، فلم يظهر لهم إلا بما ألفوه في عادلتهم، و هذا من عاداتهم، و هذا من عاداتهم.
ذكره رضي الله عنه في الباب الحادي  و الثلاثين و أربعمائة من "الفتوحات" :
و إن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا و من ( الرعايا) العقل الأول: و هو الوجود الأول الإبداعي .
و كذلك النفس: هو الوجود الانبعاثي فلهما وجوب الوجود بالغير فيزيلان الاستناد إلى الوجوب الذاتي، فكيف يكون؟
و إن لم يكن الخليفة بهذا الوصف، فأني يمكنه ذلك.
فافهم أن الخلفاء كالحبوب من الحبة، و النوى من النواة، فيعطي كل حبة ما أعطت الحبة الأصلية لاختصاصها بالصورة على الكمال، و هذا من لباب العلم بالله الذي أعطاه كشف أهل الكشف و الشهود، فمن كان عارفا بمواقع خطاب الإلهيين و تنبيهاتهم و إشارتهم فقد عرفوه حقيقة الأمر لأنهم يدعون إلى الله على بصيرة و لهم فصل الخطاب .
قال تعالى: "و على اللّهِ قصْدُ السّبيلِ " [ سورة النحل: 9] .
فإذا عرفت ما أوردناه في هذا المبحث، وقفت على الأسرار الإلهية وعلمت مرتبة عباد الله الذين هم بهذه المثابة أين تنتهي المرتبة بهم؟ فافهم .
( التي استخلف عليها) لأن استنادها إليه فلا بد أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه و احتياج الوجوب بالغير للاستناد إلىالوجوب الذاتي ظاهر، فافهم .
و يشير إلى هذا المعنى قوله رضي الله عنه في الباب الأربعين من "الفتوحات" :
و عندي أن العالم هو عين العلة و المعلول و ما أقول إن الحق علة له كما انتصر له بعض النظار يعني: الإمام الغزالي فإن ذلك غاية الجهل بالأمر.
فإن القائل بذلك ما عرف الوجود و لا من هو الموجود فلا بد أن ينتهي الأمر إلى واجب الوجود الذي هو نهاية العلل.
وإلا يلزم الدود و التسلسل على رأيهم و إلا فليس بخليفة عليهم فخلق على صورته و مكّنه بالصورة من إطلاق جميع أسمائه فردا فردا أو بعضا بعضا.
ولا ينطلق عليه مجموع الأسماء معا في الكلمة الواحدة، يتميز الرب من العبد الكامل فما من اسم من الأسماء الحسنى و كل أسماء الله الحسنى ألا و للعبد الكامل أن يظهر بها، كما له أن يدعو سيده بها بلا تخصيص ولا تخصص .
أمّا وجوب الوجود فقد أظهرت لك شأنه إن كنت فاهما غير مرة، و أما الغنى الذاتي .
فاعلم أنه رضي الله عنه قال في الباب التاسع و السبعين و ثلاثمائة: إنه في الخبر الصحيح و النص الصريح أن العبد يصل إلى مقام يكون الحق تعالى من حيث هويته جميع قواه، و هو سبحانه الغنيّ لذاته الذي يمكن إزالته عنه فإذا أقام الله عبده في هذا المقام فقد أعطاه صفة الغنىّ عن كل شيء لأن هويته هو عين قوي هذا العبد .
و ليس ذلك من تقاسيم الأعطيات إلا الإيثار فقد أثر بما هو له لهويته التي هي عين العبد، و هذا من بعض محتملات ما ذكر من القوم و هو أن الفقير لا يحتاج إلى الله لأنه فان في نفسه باق بالغنى على الإطلاق .
قال رضي الله عنه: و هذا من علوم الأسرار التي لا يمكن بسط التعريف فيها إلا بالإيماء لأهلها أشجعهم للعمل عليها فإنه في غاية من الخوف لقبولها و كيف الاتصاف بها ؟ فافهم و تحفّظ .
فإنها أخت مسألة وجوب الوجود في الغرابة و الندرة التي لا تجدها في كتب الصوفية لأنها دون ذوق المحققين المتصفين بالإطلاق فافهم .
قال سيدنا الشارح رضي الله عنه :
( فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل) فإن له الجمع بين الصورتين، فهو الأول من حيث الصورة لأنه خلق على صورته و الآخر من حيث الصورة لأنه خلق على صورته و الآخر من حيث الصورة الكونية، و الظاهر بالصورتين من حيث الخلافة و الباطن من حيث صورته لأنه على صورة الرحمن بخلاف العالم فإنه لا يقبل هذه الجمعية فافهم .
( فأنشأ صورية الظاهرة من حقائق العالم و صوره) و هي الحقائق الكلية و مقر ذاته فإن الصورة للأعيان الخارجية من حيث الأفراد و الأشخاص .
قال رضي الله عنه: إن جميع العالم برز من العدم إلى الوجود إلا الإنسان الكامل وحده،
فإنه ظهر من وجود إلى وجود، من وجود فرق إلى وجود جمع.
فتغير الحال عليه من افتراق إلى اجتماع.
و العالم تغير عليه الحال من عدم إلى وجود، فبين الإنسان والعالم كبين الوجود و العدم .
فلهذا قال تعالى: "ليس كمِثلهِ شيْءٌ" [ الشورى: 11] من العالم فافهم .
( و أنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى) .
ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان البخاري و مسلم رحمهما الله :
"إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه إن الله خلق آدم على صورته" .
بإعادة الضمير إلى آدم لم يبطل المعنى المراد يعني: خلق آدم على صورته: أي صورة آدم التي كانت في العلم بمعنى طابقت صورته الحسية صورته العلمية .
لأن المثال الذي وجد العالم عليه هو العلم القائم بنفس الحق، فإنه سبحانه علمنا بنفسه و أوجدنا على حد ما علمنا و نحن على هذا الشكل المعين.
و لا شك أن مثل الشكل هو القائم بعلم الحق تعالى و لو لم يكن الأمر هكذا إلا أخذنا هذا الشكل بالاتفاق لا عن قصد و ليس كذلك.
ولو لا الشكل في نفسه تعالى ما أوجدنا عليه و لو لم يأخذ هذا الشكل من غيره لأنه ثبت كان الله ولا شيء معه إلا أن يكون ما برز عليه في نفسه من الصورة علمه.
فعلمه بنا علمه بنفسه، و علمه بنفسه أزلا عن عدم فعلمه بنا كذلك، فنحن كذلك.
فمثالنا الذي عين علمه بنا قديم بقدم الحق لأنه وصف له و لا تقوم بنفسه الحوادث جلّ الله عن ذلك فافهم .
فإنه له من لباب العارف، فلمّا أنشأ صورته على صورته فللإنسان في كل حضرة إلهية نصيب لمن عقل و عرف لأنه صورته .


قال الشيخ قدس الله سره : [ولذلك قال فيه «كنت سمعه وبصره» ما قال كنت عينه وأذنه: ففرق بين الصورتين. وهكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود. ولكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة، فما فاز إلا بالمجموع.
ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود، كما أنه لو لا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية.]
قال الشارح رضي الله عنه :
( و لذلك ): أي لأنه على صورته من حيث الباطن، قال فيه: أي في الإنسان الكامل الذي على الصورة من مقام قرب النوافل .
ورد : ( " كنت سمعه و بصره") . إشارة إلى كينونة القوى لا الجوارح، و إن كانت الأخرى صحيحة لأن تخصيص الشيء لا ينفي ما عداه فإن قيل من  كان الحق سمعه و بصره و قواه، يدرك كل مبصر و يسمع كل مسمع و لا يغيب عنه شيء لأنه ناظر بالحق و سامع به و الحق لا يعزب عنه شيء .
قلنا: صدقت ولكن فرق بين المقام و الحال فالحال ظل زائل فعند حصوله صحّ له هذا الكشف في ذلك الزمان و لمّا رفع عنه رجح عنه بنظر يقين، خلق بإمداد حق لا بحق فيكون حكمه حكم خواص الخلق له الكشف الجزئي لا الكلي و لا يدرك بعد رفع الكشف هل بقيت الأمور على ما كانت عليه إن انتقلت عن ذلك؟ فافهم.
ذكره رضي الله عنه في خمسة و أربعين و ثلاثمائة من "الفتوحات":
و أمّا حكم صاحب المقام غير هذا الحكم و التفاوت بحسب المقام أما الذي لا يقيده المقام و الحال، بل على تجرده فهو شرف على الحالين، و حكمه حكم المطلق على الإطلاق  و هو صاحب المرتبة الخلافية بالاستحقاق فافهم .
و لا تقس الناس بنفسك و لا تزن الأحوال و العطايا بميزانك فإنه يتحرّم عليك فافهم
ما قال: كنت عينه و أذنه، و أن يكون من تتمة الحديث أو من حديث آخر، 
و يده التي يبطش بها، و رجله التي يسعى بها"
، و لكن هنا ما أراد إلا من حيث القوى التي هي من أعمال الباطن .
فلهذا استدل بقوله : "كنت سمعه و بصره" ، ولم يقل(أذنه وعينه) لأنهما من أعمال الظاهر وقد تجيء أحكامه .
و ذكر رضي الله عنه في الفص الهودي: إن هويته هي عين الجوارح و لكن ما أخذ الشيخ رضي الله عنه هنا من كينونة القوى الباطنة لا من حيث الجوارح و الظاهر، فإنه من حيث الجوارح اعتبره رضي الله عنه في مسألتنا أنه مأخوذ من العالم حقائقه و مفرداته، فافهم .
أن هذا الاعتبار غير الاعتبار الثاني فإن له رضي الله عنه [ألسنا غير مكررة ]، هذا منها .
ففرق: أي الحق تعالى بقوله :  "كنت سمعه و بصره" .
و أراد به جميع القوى بين (الصورتين ):أي الظاهرة و الباطنة من تركيب الأجسام و الأجساد كما في الروحانيين و صورته الباطنة من تركيب المعاني و القوى الروحية و الحسية
و الأول من كثائف العالم.
والثاني من لطائفها .
كما قررناه أن العالم بين كثيف و لطيف فكان الحق تعالى عين اللطائف من العبد و الكثائف منه كما من العالم كما عرفته سابقا على التفصيل المذكور و هكذا هو في كل موجود من العالم:
أي هكذا الأمر في العالم أن كل شيء ظاهرا و باطنا
والحق تعالى باطن كل شيء من العالم من حيث اللطائف،
و ظاهر كل شيء من حيث العالم، من حيث الكثائف بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود باستعداده و قابليته .
فإن من المظاهر من يعلم هذا و من المظاهر ما لم يعلم: أي أنه مظهر الحق، و أنه قد ظهر فيه  كل شيء و علامة من يعلم أنه مظهر الحق و ظهر فيه كل شيء أن يكون له مظاهر حيث شاء من الكون كقضيب ألبان.
فإنه كان له مظاهر فيما شاء من الكون لا حيث شاء، و من الرجال من يكون له الظهور فيما شاء و حيث ما شاء، فهو يعرف حقيقة ما قلناه ذوقا لأنه كل  شيء وفي كل شيء هذا أتم الأذواق، وهو ذوق خاتم النبوة لأنه قال : "فتجلى لي كل شيء وعرفت"  حديث صحيح رواه الترمذي .
و ذوق الوارث الكامل، الفرد الخاتم، فإنه قال: إني انفردت بهذا الكشف من بين أصحابي و إخواني فافهم .
و لكن ليس لأحد من العالم قوة ظهور أحكام مجموع ما للخليفة، فإن المجموعية ظهرت فيها أكثر مما ظهر في العالم أعلاه و أسفله فما فاز إلا بالمجموع.
أي ما فاز الكامل إلا بكونه جامع الحقيقتين حقية و خلقية.
ثم أراد رضي الله عنه أن يذكر سر ظهوره في كل موجود فقال:
(ولولا سريان سر الحق تعالى في الموجودات كلها بالصورة) أي بجملتها (ما كان للعالم وجود) لا روحا ولا جسما.
و سريان سر الوجود في الكل بالكل، و لكن الاختلاف من القوابل، فكمال الظهور في الإنسان الكامل لكمال قبوله، و كمال قبوله لكمال جمعيته و صفاء مرآته .

(كما أنه لو لا تلك الحقائق المعقولة الكلية ) التي ذكرناها في أول الحكمة على سبيل التمثيل و هي: الحقائق المعقولة المعدومة العين الموجودة الأحكام، أراد رضي الله عنه بهذه التذكرة أن لا تنسى حكمها و أثرها و هي معدومة العين، (ما ظهر حكم في الموجودات العينية) الخارجية أصلا .


قال الشيخ المصنف رضي الله عنه :
و من هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده:
فالكل مفتقر ما الكل مستغن ... هذا هو الحق قد قلناه لا نكني
فإن ذكرت غنيا لا افتقار به ... فقد علمت الذي بقولنا نعني
فالكل بالكل مربوط فليس له ... عنه انفصال خذوا ما قلته عني  
قال الشيخ الشارح رضي الله عنه :
( و من هذه الحقيقة ): أي حقيقة لو لم تكن لم يكن كان الافتقار من العالم إلى الحق تعالى في وجوده: أي لو لم يكن الوجود ساريا في العالم ما كان العالم و إذا ارتفع المدد، ينعدم العالم و يرجع إلى أصله، فالعالم محتاج إلى الوجود دائما أبدا و الوجود لا تظهر أحكامه إلا في العالم، كما أن الرعية تحتاج إلى السلطان، و السلطان ما يظهر سلطانه إلا على الرعية فلا يكون السلطان إلا بالرعية .
فإنّ الرب بلا مربوب لم يعقل، كما أن المربوب بلا رب لم يكن، و قد أعطي حكم التضايف ذلك فافهم .
و لما كان الافتقار كالافتقار، و الغنى كالغنى قال رضي الله عنه شعر إلا أنه إشعار و تنبيه :
فالكلّ مفتقر ما الكلّ مستغنى   ..... هذا هو الحق قد قلناه لا تكنى
فإن ذكرت غنيا لا افتقار به .....      فقد علمت الذي من قولنا تعيى
الكلّ بالكلّ مربوط فليس له .....     عنه انفصال خذوا ما قلت عني
قال تعالى: " إنّك كُنْت بنا بصِيرًاً " [ طه: 35] .
قال رضي الله عنه في الباب الموفي أربعمائة من "الفتوحات ": إنّه بنا عليم و بنا بصير، فلو لم أكن بمن كان عليما بصيرا و أنا أعطيته العلم لأنّ العلم تابع المعلوم و أنا المعلوم، كما هو أعطاني الوجود و أنا المعلوم المعدوم .
قال تعالى: و هُو معكُمْ أين ما كُنْتمْ [ الحديد: 4] فالله في هذه المعية، يتبع العبد كان كما نحن نتبعه حيث ظهرنا بالحكم و نحن وقوف .
حتى يظهر أمر يعطي حكما خاصا في الوجود فنتبعه فيه فارتبطت الأمور و التفّت الساق بالساق، و قد اعترف لي بذلك الساق .
حيث قسم الصلاة بيني و بينه على السواء لأنه علم أني له كما أنه لي .
قال تعالى: "وأوْفوا بعهْدِي أوفِ بعهْدكُمْ" [ البقرة: 40] فهو زينتي بهويته، فهو سمعي وبصري من قرب النوافل و أنا زينته، فظهر بي اقتداره و نفوذ أحكامه و سلطان مشيئته من قرب الفرائض، فلو لم أكن لم تكن للملك زينة، فلولاه لما كنا ولولا نحن ما كان، فأبدانا وأخفى وأبدى هو وأخفانا فأظهرنا ليظهر هو سرارا ثم إعلانا، كما نطلبه لوجود أعياننا بطلينا لوجود مظاهره فلا مظهر له إلا نحن و لا ظهور لنا إلا به .
فيه عرفنا نفوسنا وعرفناه، وبنا تتحقق عين ما يستحقه إلا له، فالأمر متوقف على الأمرين فيه نحن و هو بنا بصيرا بل إن الله تعالى أطلع خواصّه على أنّ حاجة الأسماء إلى التأثير في أعيان الممكنات أعظم من حاجة الممكنات إلى ظهور الأثر، وذلك لأن الأسماء لها في ظهور الآثار السلطان و العزة، والممكنات قد يحصل فيها أثر فتضرّر به وهو على خطر، فبقاؤها على حالة العدم أحبّ إليها لو خيرت .
أما ترى قوله تعالى: "ويقُولُ الكافرُ يا ليْتني كُنْتُ تراباً" [ النبأ: 40] فإنها في مشاهدة ثبوتية حالية خالية عن الأغيار ملتذة بالتذاذ ثبوتي، فافهم .
بل الافتقار من الجانبين من حيث المرتبتين إنما هو من حيث الأثر.
فإنه ثبت بالذوق الصحيح و الكشف التام الصريح أنه لا يؤثر مؤثر كان حتى يتأثر فأول ما يظهر حكم الانفعال في الفاعل ثم يسري منه إلى من يكون محلا لأثرة، ذكره الشيخ صدر الدين القونوي في شرحه على الفاتحة .
وهكذا نجد في التجربة، فإنه إذا ورد الغذاء على المعدة فيؤثر فيها أولا، فإذا تأثر و انهضم أثر في المعدة بالتبريد أو بالتسخين، و التغذية و التنمية بل هكذا الشاهد في المحسوسات كالسراج و الدهن فإن أوله يطغى النار و آخره يشعل.
فهذا عين ما قلناه من الأثر: أن المختلفات فيهما فكل واحد مؤثر و متأثر، فافهم .
هكذا في معنى البيت فالكل مفتقر ما، و الكل مستغن بالاعتبارات التي ذكرنا .
ما هذا سر الأمر من حيث الانفعال، و أمّا سر الأمر من حيث الاحتياج فهذا اندراج العبودة في السيادة، فإن العبودة: عبارة عن نسبة جامعة عن نسبتيّ الفقر و الانفعال، و المتضايفان: أي العبد و السيد، كما توقف معرفة كل واحد منها و ظهوره على الآخر، علم أنه لا غني لأحدهما عن الآخر .
و يشير إلى هذا الذوق كلام سيدنا علي رضي الله عنه و نهج البلاغة حيث قال فيه:
فلو أن الباطل فيه خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، و لو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه السنة المعاندين، و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه و ينجو الذين سبقت لهم من الله  الحسنى،انتهى كلامه رضي الله عنه. فلا بد من الأمرين فافهم.


قال الشيخ المصنف رضي الله عنه :
[ فقد علمت حكمة نشأة آدم أعني صورته الظاهرة. وقد علمت نشأة روح آدم أعني صورته الباطنة، فهو الحق الخلق.  وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي به استحق الخلافة. فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني. ]
قال الشيخ الشارح رضي الله عنه :
فقد علمت حكمة نشأة جسد ابن آدم أعني: صورتها الظاهرة، فإن نشأته الصورية من حقائق العالم و صوره، وقد علمت نشأة روح آدم على صورته الباطنة إنما هو على الصورة .
قال الشارح القيصري رحمه الله: إن حكمة نشأة رتبته وهي المجموع لأن صورته الباطنة وحدها كما سيجيء في المتن.
فهو يجمع الصورتين الحق في الخلق: أي حق من حيث الباطن وخلق من حيث الظاهر وقد علمت نشأة رتبته: أي الخلافة وهي كالبرزخ بين الصورتين، وبكونه أنه مجموع استشرف على الطرفين كالبرزخ، ورأى نفسه بهذه المثابة، فرأى في نفسه أحكام النقيضين ذوقا، من حيث أنها ذات خليفة فهي الذات الخلافية لا ذات الخلق و لا ذات الحق .
ومن هذا المقام قال الخراز قدّس سره: عرفت الله بجمع الأضداد
يعني: في نفسه ذوقا يشير إلى التحقيق بهذا المقام وبه كملت الصورة الإلهية وفيه شوهدت، فهو حسبه كما هو حسبه، ولهذا المقام أحكام متداخلة، وأسرار غامضة متعانقة .
قال تعالى: "إنّ اللّه على  كُل شيْءٍ قدِيرٌ" [ آل عمران: 165]، فعلمنا به أن العقول قاصرة عن إدراك إطلاق هذه الآية :
ليس على الله بمستنكر   ..... أن يجمع العالم في واحد
و أن الله قادر على جميع الأضداد، بل هو جامع الأضداد فجمع الخليقة بأحكامه الظاهرة أحكام المستخلف عليه، و بأحكامه الباطنة أحكام المستخلف.
فجمع بين مقامي الاستفاضة والإفاضة، و التأثير و التأثر، و الفعل و الانفعال، فتمّ أمر الخلافة بهذا العبد الكامل المخلوق على الصورة الجامع لجميع الحقائق إلا مكانة بالأصالة و الوجوبية الإلهية بالنيابة، و هو المظهر الأكمل القويم و المجلى الأجل الأجمل في أحسن تقويم .
فلهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: ما في الإمكان أبدع من هذا العلم لكمال وجود الحقائق كلها فيه، و هو العبد الذي يسمى خليفة و نائبا .
وهو غياب عزيز جعله الحق موضع أسراره و محل تجلياته، و هو الذي يعطي النزول و الاستواء المعية و الفرح و الضحك، وما يفهم منه من أدوات التشبيه.
قال تعالى:" وهُو الّذِي فِي السّماءِ إلهٌ وفي الْأرضِ" [ الزخرف: 84] و كان آدم أول خليفة و نائب منه في الأرض .
قال تعالى: "وإذْ قال ربُّك للْملائكةِ إنِّي جاعِلٌ في الْأرضِ خليفةً قالوا أتجْعلُ فِيها منْ يُـفْسِدُ فيها و يسْفِكُ ِّ الدماء ونحْنُ نسبِّحُ بحمْدِك ونقدسُ لك قال إنّي أعْلمُ ما لا تعْلمُون" [ البقرة: 30]
وعلمه ما لم يعلم من علوم التأثيرات التي تكون من الأسماء الإلهية التي تختص بالأرض حيث كانت خلافته فيها، و له الأثر الكامل في جميع الكائنات.
و له المشيئة التامة في جميع الموجودات فإنه إقامة الظاهر بالاسم الظاهر، و إعطاؤه علم الأسماء من حيث ما هي عليه من الخواص و التأثيرات التي تكون عنها الانفعالات، فيتصرف بها في العالم الأعلى و الأسفل .
قال رضي الله عنه في "الفتوحات ": اختلف أصحابنا هل يصح أن يكون منه في الوجود شخصان فصاعدا؟ أو لا يكون إلا شخص واحد انتهى كلامه .
و نقول: قال تعالى: "إنّ اللّه لا يغفِرُ أنْ يشْرك بهِ ويغْفِرُ ما دُون ذلك" [ النساء: 48] فافهم .
قال رضي الله عنه شعرا وحكمة :
وما الناس إلا واحد بعد    .....  واحد حرام على الأدوار شخصّان يوجد .
قال الشارح القيصري قدّس سره في بيان هذا المتن:
إنما جعل الخلافة بالمجموع لأنه بالنشأة الروحانية أخذ من الله، و بالنشأة الجسمانية بلغ إلى الخلق و بالمجموع يتم دولته انتهى كلامه.
و هذا خلاف اقتضاء المتن السابق بل خلاف تفسيره السابق لأنه قال الشيخ رضي الله عنه: فهو الحق .
و قال الشارح: و هو الحق باعتبار روحه، و الخلق باعتبار جسمه، فكيف يقول أخذ من الله و أثبت أنه عينه؟!
بل الصواب أن يقال: إنه أخذ مستفيض من حيث إنه خلق مفيد مفيض من حيث إنه حق فما جني ثمرة غرسه إلا من شجرة نفسه فافهم.
فلمّا قرر رضي الله عنه أن آدم هو الخليفة بالاستحقاق يريد أن يبين أن الخليفة على صورة المستخلف، و المستخلف ذات ظهرت منها المرتبة وهي الألوهية لأنها من اقتضاء ذاتي، وظهرت منها صور العالم كله أعلاه وأسفله فلذلك ينبغي أن يكون هذا الخليفة .
فقال: (فآدم و هو الإنسان) المفرد في كل إنسان، و لكن كانت في آدم أتم وأقدم لأنه كان ولا مثل له، ثم بعد ذلك استشاق منه الأمثال.
فخرجت على صورته، كما انتشل هو من العالم، و من الأسماء الإلهية فخرج على صورة العالم و صورة الحقية، فوقع الاشتراك بين الأناسي في أشياء و انفرد كل شخص بأمر يمتاز به عن غيره، و هذا الإنسان المفرد يقابل ذاته الحضرة الإلهية.
وقد خلقه الله تعالى من حيث شكله وأعضائه على جهات ست ظهرت منه، فهو في العالم كالنقطة في المحيط، وهو من الحق كالباطن، ومن العالم كالظاهر، ومن القصد كالأول، ومن النشأة كالآخر فهو أول بالقصد آخر بالنشأة، و ظاهر بالصورة، و باطن بالروح.
كما أنه خلقه تعالى من حيث طبيعته و صورة جسمه من أربع، فله التربيع من طبيعته إذا كان مجموع الأربعة الأركان، و أنشأ جسده ذا أبعاد ثلاثة من طول وعرض وعمق، فأشبه الحضرة الإلهية ذاتا وصفاتا وأفعالا، فافهم .
و لكن جعل الله تعالى هذا الإنسان المفرد خليفة عن الإنسان الكل الأول الأقدم، فالإنسان المفرد ظل الله في خلقه من خلفه فعن ذلك، هو خليفة، و الكمّل هم خلفاء عن مستخلف واحد .
قال تعالى: "هُو الّذِي جعلكُمْ خلا ئف في الْأرضِ" [ فاطر: 39] .
قال القيصري رحمه الله تعالى: فآدم في الحقيقة هو النفس الواحدة، و هو العقل الأول و ليس كذلك لأن آدم الذي نحن بصدد بيانه من أول الكتاب إلى هنا آدم، من حيث إنه خليفة لا من حيث أنه إنسان فهو مجموع العالم مع الزيادة و العقل من بعض قواه بل العقل الأول ثم النفس الكل.
وهكذا على الترتيب .
فافهم حتى تعرف رتبة كلام الشيخ رضي الله عنه من بين الذواق .
قال القيصري رحمه الله تعالى: فآدم في الحقيقة هو النفس الواحدة، و هو العقل الأول و ليس كذلك لأن آدم الذي نحن بصدد بيانه من أول الكتاب إلى هنا آدم.
من حيث إنه خليفة لا من حيث أنه إنسان فهو مجموع العالم مع الزيادة و العقل من بعض قواه بل العقل الأول ثم النفس الكل، و هكذا على الترتيب فافهم حتى تعرف رتبة كلام الشيخ رضي الله عنه من بين الذواق ،
و أمّا من قال: إنه آدم أبو البشر خالف كلام الشيخ، وهو الشارح الجامي رضي الله عنه حيث قال في نفس الفصوص: إن مرادي من آدم هو النوع الإنساني .
قال في "الفتوحات ": إنه أصل هذا النوع الإنساني، و أن هذه الحقيقة في كل إنسان كامل، و لكن امتاز آدم بالأولية كما سبق ذكره آنفا فافهم .
فإنه ما أراد في النفس (هو النفس الواحدة) من حيث الحقيقة لها أحدية الجمع وبها استحق الخلافة، فإنها من مقام برزخي التي خلق منها هذا النوع الإنساني.
فإن هذا النوع الإنساني من حيث أنه نوع كالعقل الأول، و جرد آدم من حيث أنه خليفة فبثّ منهما أفرادا كثيرة ذكورا و إناثا.
فكما ظهرت من الذات المرتبة، و منها ظهرت صور العالم مؤثرات و متأثرات، كذلك آدم الخليفة ذات ومرتبة، و بث منهما أفرادا كثيرة ذكورا و إناثا و هو قوله: أي ما قلنا: إن الأصل نفس واحدة، و خلق منها كثيرا هو عين ما قاله سبحانه: "يا أيُّها النّاسُ" [ البقرة: 21] .
في هذا الخطاب إشارة لطيفة، و هي أن الناس المخاطبين بهذا الخطاب كلهم بعدوا عن مواطنهم، و نسوا مقتضى ذواتهم لأن النداء دعاء على رأس البعد و بوح بعين العلم و الحجاب لا الكشف، و ذلك أن الإنسان إذا رأى في نفسه هذا الكمال الذي قررناه في المباحث السابقة فخيف عليه أن يزهو على مقتضى النشأة لأنها مقتضى النشأة لأنها مقتضى ذلك بل أنه مشتق من النسيان يخاف أن ينسي عبوديته .
قال تعالى:" كلّا إنّ الِإنسان ليطغى"  [ العلق: 6] . "أنْ رآهُ اسْتغنى"  [ العلق: 7] بل أن الله تعالى خلقه على صورته، و كان في قوة الإنسان من أجل الصورة أن ينسى عبوديته و لذلك وصف الإنسان بالنسيان فقال في آدم فنسي والنسيان نعت إلهي، فما نسي إلا من كونه على الصورة .
"أنْ رآهُ اسْتغنى"  [ العلق: 7] بل أن الله تعالى خلقه على صورته، و كان في قوة الإنسان من أجل الصورة أن ينسى عبوديته و لذلك وصف الإنسان بالنسيان فقال في آدم فنسي و النسيان نعت إلهي، فما نسي إلا من كونه على الصورة .
قال الله تعالى: "نسُوا اللّه فنسِيهُمْ" [ التوبة: 67] كما يليق بجلاله.
فلمّا علم الله أن هذا العبد للقوة الإلهية التي معه يبعد عن مقتضى النشأة و لا بد يدّعي في نعوت ما هو حق الله تعالى لأن الدعوى صفة إلهية و العبد مخلوق على الصورة .
قال تعالى: "إنّني أنا اللّهُ لا إله إلّا أنا فاعْبدْني" [ طه: 14] .
فادّعى العبد أنه لا إله إلا هو وهي دعوى صادقة، و من ادّعى دعوى صادقة لم يتوجه عليه حجة و كان له السلطان على كل من ادّعى عليه دعواه.
لأن الشدة، و الغلبة، و القهر، فإنها لا تقاوم فغار من المشاركة وحجر عليه بعض النعوت، وقال: من يتعدى هذه الحدود كالعظمة، والكبرياء، والجبروت فتضمنه .
و قال تعالى: "كذلك يطبعُ اللّهُ على كُل قلْبِ مُتكبِّرٍ جبّارٍ" [ غافر: 35] .
فهو عين الغيرة . 
"" أضاف المحقق :الغيرة غيرة في الحق لتعدي الحدود.
والغيرة تشعر بثبوت الغير، ومشاهدته، ومن حيثية الغيرة تظهر لفواحش.
والغيرة إنما تظهر عند رؤية المنكر والفواحش، والأغيار الثابتة، فكثرتها إما نسب، وأحوال مختلفة معقولة قائمة بعين واحدة، لا وجود لها إلا في تلك العين.
وإما أثار استعدادات المظاهر في الظاهر فيها، فعلى التقديرين لا وجود في الأغيار مع ثبوت حكمها في العين الظاهرة بها.
فخذ من هذا التقريب من أين ثبوت نشأت الفواحش؟ ولم حرمت؟
والإنسان مأمور بأن يجعل نفسه وقاية للظاهر فيه، و الغيرة محمودة ومذمومة،
فالمحمودة: هي التي اتصف بها الحق، والرسل، وصالحو المؤمنين على أنها مرموزة في الطبع فلا بد منها.
و غيرة تطلق بإزاء كتمان الأسرار :
الأولى غيرة في الحق، وهذه غيرة على الحق، وهذه حالة الأولياء الأصفياء الذي يسعون في ستر أحوالهم ومقامهم على الخلق فلا يتميزون بعادهم وعبادهم عن العامة.
وغيرة الحق صفته على أوليائه وهم الضائن
وهذه غيرة من الحق، ولهم خلف حجب العوائد الواصلة الدائمة، و عندية الحق معهم تقتضي أن يكون التمييز بين الظاهر، والظاهر أخفى، فهم عنده ?هو عندهم، فأخفي العين في العين.""
أما ترى أنه جعله خليفة في الأرض لا في السماء مع وجوده على الصورة ، لأنه ربما يطغى و يقول: أنا ربكم الأعلى و لو طغى ما وقع الإنس و ما خلق إلا للإنس به فبهذه الاعتبارات نزّلهم بمنزلة من خرج عن الحضرة فناداهم .
وقال: يا أيها الناس، ولم يقل: يا أيها المؤمنون أو غيره من الألفاظ، للإشعار بالنشأة منهم و الاعتذار عنهم .
قال رضي الله عنه في كتاب القدس في مناصحة النفس: فالقوي منا المتمكن هو الذي يخرق حجاب سره يعني: مرتبة الخلافة الجمعية العامة الكبريائية بينه و بين رب.
أي لا يرى ألوهية نفسه، بل يشاهد ألوهية ربه دون ألوهيته، فيتعبد فيعرف عبوديته، فحينئذ يكون أقوى العالم و أشده لرفعه ذلك الحجاب الأقوى .
فتكون منزلته أعلى وقوته أعظم، وهناك يتميز ويتحارى مع العالم في الرفعة و الانحطاط، و هناك راتب مبلغ العارفين العالمين .
و أمّ ا هذا المدرك الذي أومأنا إليه فبعيد أن تسمعه من غير هذه الرسالة على درج هذا التحقيق .
ثم قال رضي الله عنه: و أمّا قبل أن تحرقه فإنه يثمر لك ما أثمر للجبارين .
قال تعالى فيهم: "كذلك يطبعُ اللّهُ على كُل قلْبِ مُتكبِّرٍ جبّارٍ" [ غافر: 35] ختم عليه بالشفاء، فإذا خرقت حجاب الجمع العام الكبريائي استودعه فيك منه فنفدت من ورائه إلى عبوديتك، عاينت ألوهية الحق المقدسة، فوجدته و لم تشرك به شيئا .
قال تعالى: "إنّ اللّه لا يغْفِرُ أنْ يشْرك بهِ" [ النساء: 48] و هنا يجوز يهلك فيها عالم  كثير من أهل طريقتنا لعدم ذلك التحقيق، و وقوفهم مع سر الجمعية، فحجبتهم الرئاسة عن استيفاء العبودية، و الخدمة فافهم .
فلما كان دواء هذا الداء العضال التقوى فأمره بالتقوى، و قال تعالى: "إنْ تتّـقُوا اللّه يجْعلْ لكُمْ فُـرْقاناً ويكفرْ عنْكُمْ سيِّئاتكُمْ ويغفِرْ لكُمْ واللّهُ ذو الفضْلِ العظِيمِ" [ الأنفال: 29]: أي لتفرقوا بين الحق و الباطل .
و قال الله تعالى: "واتّـقُوا اللّه ويعلِّمُكُمُ اللّهُ واللّهُ بكُل شيْءٍ عليمٌ" [ البقرة : 282]، جعل التقوى طريقتنا إلى حصول العلم النافع .
والتقوى أن يجعل الله وقاية له في الخير كله، فإن الحق تعالى عين الوجود، و الوجود فخير محض، و يجعل نفسه وقاية الله في الشر، فإنه عدم، والعدم شر كله .
وأشار إلى هذا الأدب معلم الخير صلى الله عليه وسلم حيث قال : "والخير كله بيدك، والشر ليس إليك"  و لو لم يئس نفسه و لو أدخله الجوّاد في الميزان .
و قال: إنه خلقه على صورته، فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا، و صفة، و فعلا، فلا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن ما يوزن به الذهب المسكوك هو سنجة حديد، إذا وزنت نفسك بهذا الميزان عرفت نفسك و هو ميزان الشريعة و معرفة النفس، وزال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات و أنت ذات أنك موصوف بالعلم و الحياة، و هو الحي العالم، و لكن أنت فقير محتاج، و هو الله الغني و هو الوجود، و أنت المعدوم المفقود، و كل من ادّعى الربوبية من كلمة فرعون إلى قول الإنسان: لو لا قلت كذا كان كذا، و لو لا همتي كان كذا .
و هذه كلها علل و أمراض من داء سر الألوهية، و كل واحدة من هذه الأصناف يعاقب و يعاتب على قدره، فهذه أدواء  كثيرة و دوائها التقوى .



 قال الشيخ المصنف رضي الله عنه :
[وهو قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء». فقوله اتقوا ربكم اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم، وهو ربكم، وقاية لكم: فإن الأمر ذم وحمد: فكونوا وقايته في الذم واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين.]
قال رضي الله عنه: أعظم الفتن التي أفتن الله تعالى بها الإنسان الكامل تعريفه إياه بأنه خلقه على الصورة ليرى هل يقف مع عبوديته؟        
و سواء داء مكانه، أو يزهو الأجل مكانه، و مكانة صورته، فإنه تعالى ما أظهر الصورة المثلية في هذه النشأة على التشريف فقط، بل هي شرف وابتلاء، من ظهر يحكم الصورة على الكمال، أن يخرق حجاب سر الجمعية العامة الكبريائية حتى يشاهد ألوهية ربه دون ألوهيته، فقد حان الشرف بكلتا يديه، فإن الصورة الإلهية الكاملة لا يلحقها ذما بكل وجه .
وهذا هو أول قدم في الشريعة، فإن الشارع أول ما أتى به لا إله إلا الله، فلا يجيبه إلا من خرق سرّ الجمعية العامة الكبريائية منه، و بهذا ينتفي الاشتراك و يتبين أهل لا إله إلا الله على حسب رفع حجابهم، فمن الجماعة من يقولها ابتداءا من غير نظر و هو الإمام، و منهم من يقول معه بعد رؤية الدليل، فهذا جاهل بنفسه فإن لا إله إلا من مدركات العقل بالنور الإلهي توقفه على الدليل دليل على التقليد و فقد ذلك النور، و لكن قد يستعد بإجابته و لو بعد حين .
قال تعالى: "لا يسْتوي مِنْكُمْ منْ أنفق مِنْ قبْلِ الفتْحِ وقاتل أولئك أعْظمُ درجةً مِن الّذِين نأفقُوا مِنْ بعْدُ و قاتلوا وكُلًّا  وعد اللّهُ الحُسْنى واللّهُ بما تعْملون خبيرٌ" [ الحديد: 10] فافهم .
و من نقض هذا المقام الكمالي خرج مع فرعون و النمرود، و كان في حقه مكرا إلهيا، من حيث لا يشعر فلهذا قال صلى الله عليه وسلم : "إنها في الآخرة مندمة" لما يتعين على صاحبها حقوقا، و قد جعلنا رعاة .
فقال صلى الله عليه و سلم : "كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته" .
فمن جمعت له الصورة بكمالها، وهو يخرق حجاب السر الجمعي كما قلناه آنفا، فلم يسأل فإن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، هذا كله إذا كانت الخلافة بالتجلي، أما إذا كانت الخلافة بالتعريف الإلهي فإن متعلقه السمع وهو خير، وهذا الأمر آخر، ولا كلامنا فيه، فافهم .
ثم نرجع و نقول فلما كان هذا الإمكان إمكان النقص والنسيان في الإنسان فيه أمره بالتقوى .
و قال عزّ و جل: "ومنْ يتّقِ اللّه يجْعلْ لهُ مخْرجاً [ الطلاق: 2] .
حتى يخرج العبودة مخرج الألوهة علما و كشفا، و تجمع السيادة في عين العبودية، و العبودية في عين السيادة، يكون عبدا ربا خلقا حقا، فظهر بالأصالة بين الطرفين وهما طرفا نقيض، فجمع الضدين، بل يكون عين الضدين على صورة من أنشأه.
فإنه على الصورة، فإنه حينئذ رزقه الله علم الفرقان، ويقف بذاته على القرآن هذا هو استظهار القرآن، وهذا لباس التقوى لباسا يوارى سوءاتكم، وهذا أدب يلبسكم لباس الأدباء .
قال تعالى: " ذلك خيْـرٌ ذلك مِنْ آياتِ اللّهِ لعلّهُمْ يذّكّرون" [ الأعراف: 27] فالمتقي يتولى الله تعليمه، فلا تدخل في علمه شبهة و لا مراءا، و كمال هذا لمن أخا بين الإيمان والعيان، ويعمل بمقتضى الإيمان مع العيان، كما قيل في بيان العارف و تعريفه: إن لا يطغى نور معرفته نور درعه .
ورد في الخبر ما أشار به إلى هذا المقام صلى الله عليه و سلم : "إنما الإيمان بمنزلة القميص يقمصه الرجل مرة و ينزعه مرة أخرى". رواه الحكيم و ابن مردويه عن عتبة بن خالد بن معدان عن أبيه عن جده رضي الله عنه، فإنه يتقمّص به حين يتعمّل بالإيمان و ينزعه حين الكشف، و ما يجمعهما إلا الأقوياء، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه: أنا الذي و آخيت بين الإيمان و العيان، و كمال هذا المقام ختم بالختمين .
أما ترى أنه صلى الله عليه و سلم وآله و سلم كان يحكمهم بالشاهدين، وهو عالم بحقيقة الأمر، وأشار إلى هذا بطرف خفي في قوله في حكاية مشهورة وهو : "لولا الإيمان لكان لي ولها أمر"   رواه الطبراني عن ابن عباس .
و ورد في الحديث : " لو رجمت أحدا بغير بينة لرجمت هذه". رواه البخاري و مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ذكره في جمع الجوامع .
قال تعالى: "رّبكُمُ الّذِي خلقكُمْ مِنْ نفْسٍ واحِدةٍ" [ النساء: 1] وهى نفس آدم أبو البشر عليه السلام، يخاطب الحق ما تفزع منه .
قال تعالى: "وما أمْرنا إلّا واحِدةٌ" [ القمر: 50] وهى أمره .
و قال صلى الله عليه و سلم : "إنّ ربكم واحد كما إنّ أباكم واحد".
لما كان حواء عين آدم لأنه عين ضلعه، فما كان إلا أب واحد في صورتين مختلفتين كما هو التجلي في تكرار العدد، فعين حواء عين آدم انفصال اليمين عن الشمال و هو عين زيد .
و قال الله تعالى: "و رفع أبوْيهِ على العرْشِ" [ يوسف: 100] . سمّاها أبي و ليس أبوك إلا من أنت عنه .
و قال رضي الله عنه في الباب العاشر من "الفتوحات" في آدم، ثم فصل عنه أبا ثانيا، فافهم .
قال تعالى: "وخلق مِنْها  زوْجها" [ النساء: 1] وهى حواء .
قال تعالى: "و مِنْ آياتهِ أنْ خلق لكُمْ مِنْ أنْـفُسِكُمْ أزواجاً لتسْكُنوا إليْها" [ الروم: 21] .
و ما أنشأ الله تعالى من كل شيء زوجين إلا ليعرف الله العالم بفضل نشأة الإنسان الكامل ليعلم أن فضله ليس بالجعل الكامل ليعلم أن فضله ليس بالجعل .
فإن الذي هو الإنسان الكامل ظهر به ازدواج من لا يقبل لذاته الازدواج ما هو بالجعل، فضمن الوجود الإنسان الكامل الظاهر بالصورة، فصار الصورة بالصورة روحين فخلق آدم علي صورته فظهر في الوجود صورتان متماثلتان كصورة الناظر في المرآة ما هي عينه و لا هي غيره و لكن حقيقة الجسم الصقيل أعطى ذلك، فافهم .
فإنه لب المعارف، فلمّا أراد سبحانه إيجاد التناسل و التوالد و النكاح الصوري في دار الدنيا للاستئناس فاستخرج من ضلع آدم عليه السلام من أقصره حواء عليهما السلام، فقصرت بذلك عن درجة الرجل، و للرجال .
قال تعالى: "و للرجالِ عليْهِنّ درجةٌ" [ البقرة: 228] و هي درجة التقدم و الكلية في رتبة الوجود، فما تلحق بهم أبدا .
قال تعالي عزّ و جل: " الرجالُ قوّامُون على النِّساءِ" [ النساء: 35] قيام الكل علي الجزء، وللقيوم درجة التقدم والشرف .
أمّا السرّ الذي خلق منها زوجها إلا من خارج، حتى لا يخرج الأمر منه أصلا، و يكون الأمر منه إليه كالأصل و غيره منه عليه حتى لا يستأنس بالغير، و هكذا الأمر في الأصل أنه ما أظهر عينا للغير حتى لا يكون للغير عين، فافهم .
هذا سرّ الحديث المشهور في الغيرة الإلهية أنه قال صلى الله عليه و سلم : "إنّ سعدا لغيور و أنا أغير منه و الله أغير مني"  فالغيرة صفته كما قال، فافهم .
قال تعالى: ("وبثّ مِنْـهُما رجالًا كثيرًاً و نساءً") [ النساء: 1] فلمّا كان آدم نفسا واحدة و حواء خلقت منها فبثّ منهما، و أوجد، و نشر بنكاح صوري رجالا كثيرا و نساء  .
قال تعالى: "فلا تعْلمُ نفْسٌ ما أخْفِي لهُمْ مِنْ قُـرِّة أعْينٍ" [ السجدة: 17] .
إنما أخّر النساء لتأخرها في الخلق و في الرتبة، يقال: نسأت الشيء إذا أخرته، ذكره في الصحاح و ذلك لأنها في مرتبة الانفعال، و لها التأخّر عن رتبة الفاعل.
وهكذا الأمر في العالم و إيجاده خلق في نفس واحدة، وهي نفس القلم الأعلى والروح الأعظم الأسنى وهو أول خلق إبداعي نفس النفس الكل وهي أول خلق انبعاثي كانبعاث حواء من آدم عليهما السلام في عالم الأجرام ليكون محلا للولادة المعنوية المحسوسة المشهودة لأهلها.
وكانت مما ألقي إليها من الإلقاء الأقدس الروحاني الطبيعة و الهباء جميعا، فكانت أول أم ولدت توأمين، كما كانت حواء عليها السلام.
فأول ما ألقت هو الطبيعة أخ وأخت لأب واحد وأم واحدة، فأنكح الطبيعة الهباء، كما كانت في أولاد آدم وحواء فولدت بينهما صورة الجسم الكل، وهو أول جسم ظهر في الوجود فكان أبوه الطبيعة و الهباء أمه.
وهي الهباء جوهرة مثبتة في جميع الصورة أثاثها، و ما من صورة إلا هي فيها، و إنما قلنا الذكور و الإناث، و أردنا الصورة الفاعلة و المنفعلة لأن الأمر لا يخلو من هاتين القوتين .
فأول الآباء العلوية معلوم: أي القلم الأعلى .
وأول الأمهات السفلية شبيه المعدوم الممكن، فهذا أب ساري الأبوة، و هذه أم سارية الأمومة.
والنكاح و الازدواج سار في كل  شيء والأولاد والنتيجة دائمة أبدا دنيا و آخرة .
فالمولدات أمور مختلفة لا تنحصر أشخاصها الطبيعة و العنصرية أبدا لأن الله تعالى قد وصفها على أمزجة مختلفة لمعان مقصودة لا تحصل إلا بها، و إنا و إن كنا عن أصل واحد، و لكن جعلنا مختلفين لحكمة لا تخفى على الواقفين .
قال تعالى: "ولا يزالون مُخْتلِفِين" [ هود: 118] و لذلك خلقهم، فمنا الطيب و الخبيث الواسع و الضيق، نظم حضرة الشيخ رضي الله عنه شعر :
فالأصل فرد و الفروع كثيرة     ...... فالحقّ أصل و الكيان فروع
فافهم .
وهكذا في المعاني في إنتاج العلوم إنما هو بمقدمتين موضوع التالي عين محمول المقدم، فإذا وقع بينهما نكاح معنوي وهو نسبة مخصوصة تعطي صحة النتيجة و حرية الأولاد كتكرار حد الوسط و غيره من شروط الصحة .
لقوله تعالى: "وتلك الْأمثالُ نضْربها للنّاسِ لعلّهُمْ يتفكّرُون" [ الحشر: 21] بل العالم كله بما فيه ضرب للأمثال للذين آمنوا ليعلموا منه أنه هو فجعله عليه، و أمرنا بالنظر فيه كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم، فإن قيل ما من شي ء في الوجود إلا و له استناد إلى الإلهيات، فإن العالم ظل و قوله تعالى: " ألمْ تر إلى ربِّك  كيف مدّ الظِّلّ" [ الفرقان: 45] .
كما ورد في الخبر : "السلطان ظل الله في أرضه" .
و قال في هذا المعنى رضي الله عنه في الباب الرابع و الستين و ثلاثمائة في معرفة منزل السرّين: لم سمّي هذا المنزل منزل السرّين؟
وهو سرّ عجيب أن الشيء الواحد تثنية نفسه لا غيره في المحسوس و المعقول، فأمّا في المعقول فآدم ثناه ما فتح من ضلعه القصير من صورة حواء، فكان واحد في عينه فثناه نفسه و صار زوجا، و ليست سوى نفسه التي بها قيل فيه:  إنه واحد .
وأمّا في المعقول فالألوهية ليست غير ذاته، و معقول الألوهية خلاف معقول كونه ذاتا، فثنت الألوهية ذات الحق تعالى و ليست سوى عينها فكانت في الحس من آدم و من ثناه من ذاته رجالا و نساءا على صورة الزوجين .
كذلك بثّ من ذات الحق و كونه إلها للعالم على صورة هذين المعقولين صور كثيرة، أسماء مؤثرة و أسماء متأثرة ذكورا و إناثا.
فالعالم لتوالد أجزائه على صور مؤثر و مؤثر فيه فاعل و منفعل، كما جرى في المحسوس فإن الله تعالى ما خلق من آدم و حواء عليهما السلام أرضا و سماءا، بل ما خلق منهما الأمثال في الصورة و الحكم لأن الأصل واحد و ما ثناه سوى نفسه و لا ظهرت كثرة إلا من عينه الواحدة.
فكان له كل شيء من العالم يدل على أنه واحد فإن الوجود بثّ منه صورا كثيرة، و هي نسب أحكام الأعيان و استعدادات الممكنات في عين الوجود الواحد.
والنسب هي صورة الحقائق الأسمائية الفاعلية التي كثرت من نكاحاتها المعنوية في الحقائق الكونية، و كثرت منها صور النسب الواقعة بلفظ النسب بفتحتين، و هو مشتق من النسبة، فافهم .
وبثّ نسبا مؤثرة و متأثرة ذكورا و إناثا، وهذه هي النسبة الإلهية التي يرفعها يوم القيامة كما ورد في الخبر الصحيح : "اليوم أضع نسبهم وأرفع نسبي" 
وأمّا الإنسان الكامل من حيث طبيعته الحاضرة للمواليد كلها هو بمنزلة الأنثى لزوج معروف غير منكور.
وله ثلاث حالات معه قبول الولد و المخاض و الولادة.
فيعرف في كل نفس ما يلقي إليه فيه ربه و ما يخرج منه إلى ربه و ما فيه مما ألقي فيه من ربه، فإنه مأمور بمراقبة أحواله مع الله تعالى في هذه الثلاث المراتب، فالمحقق العارف يعرف زوجه و يعرف أنه بنكاح لا بسفاح بوليّ و شاهدين مع تلاوة:
"ولمْ يكُنْ لهُ كُفُوًاً أحدٌ" [ الإخلاص: 4] غيره فيعرف ما يلد و من يقتل ولده إذا ولد و من يربيه فلهذا السرّ : أي لأجل أنه أنثى لا يكون الكامل الفرد تحت الكامل لأن الفوقية للرجولية، و ليس فيهم رجل .
قال رضي الله عنه من هذا الذوق في بعض أشعاره يناجي فيها ربه :
إنا إناث لما فينا نولده فلنح  ..... مد الله ما في الكون من رجل
فنسمّى هذه الطائفة بالأفراد فافهم .
فإن المعارف الإلهية على هذا النمط و الأسلوب لا نجدها في غير كتب الشيخ رضي الله عنه فقوله تعالى: "اتّـقُوا رّبكُمُ" [النساء:1] والاتقاء بمعنى جعل الشيء وقاية يندرج بها عن إصابة أسهم الحوادث و المكاره و الأسوأ، فلمّا ذكر رضي الله عنه التقوى يريد بيان التقوى، فإنها أقسام: تقوى الله، و تقوى النار، و تقوى الحدود .
وأمّا التقوى الذين نحن بصدد بيانها هي: تقوى الله، فاعلم أنار الله تعالى بصائرنا و أصلح لنا سرائرنا و خلص من الشبه أدلتنا أنه لما امتنّ الله علينا بالاسم الرحمن، فأخرجنا من الشر الذي هو العدم إلى الخير الذي هو الوجود، فينبغي أن لا ننسى أصلنا حتى لا ننسى فضله .
ورد في الخبر : "إنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهل الفضل"  رواه أنس .
فمن جهل بنفسه و نسى أصله فهو بالغير أجهل، و هذا داء ينبغي له دواء قبل الداء، كما هو عادة الحكماء الإلهيين، فكان الله حفظ صحة آدم قبل قيام العلة به من ألطف الطب و يسمّى هذا الفعل عند الأطباء: الاستظهار، و أمر الله تعالى بالتقوى .
كما ذكرناه أنزل الدواء قبل الداء، فمن تحسّى منه برئ بإذن الله، فأراد رضي الله عنه أن يذكر جنس الدواء، و يحرر أوزانها و يقرر أوقاتها، كما دأب الحكيم العليم .
فقال رضي الله عنه: اجعلوا: أي بالإسناد إليكم (ما ظهر منكم ) من الفواحش و المذام (وقاية لربكم) الذي هو باطنكم، كما فعل الأديب الإلهي إبراهيم عليه و على نبينا السلام حيث أسند المرض إلى نفسه .
وقال تعالى: "و إذا مرضْتُ فهُو يشْفِينِ" [ الشعراء: 80] .
( واجعلوا ما بطن منكم و هو ربكم وقاية لكم)
فإن ظاهركم خلق و باطنهم حق فاسد، و الخير كله من المحامد إلى باطنكم، كما جعلتم ظاهركم وقاية باطنكم في إسناد الشر، فاجعلوا باطنكم وقاية ظاهركم في إسناد الخير .
لما ورد في الخبر الصحيح أنّ الله تعالى يحب أن يمدح و في  حديث طويل :
" وما من أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك وعد الجنة"  رواه الحاكم في المستدرك عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه .
فالحق المحامد إليه، كما تلحق المذام إلى نفسك، كما هو فعل الأدباء، وهو قوله تعالى: "و إذا مرضْتُ فهُو يشْفِينِ" [ الشعراء: 80].
وإنما عرّفنا الله تعالى بأهل الأدب و حكى لنا حكايته عليه السلام حتى نتأدّب بآدابه تعليما لنا و تنبيها و تعظيما له و تنويها .
قال تعالى: "ثمّ أوحيْنا إليْك أنِ اتّبعْ مِلّة إبراهِيم حنيفاً " [ النحل: 123] فلهذا كان صلى الله عليه و سلم يقول في الأدعية المأثورة معلما لنا : "والخير كله بيديك و الشر ليس إليك"  فافهم .
(فإن الأمر) الصادر منكم إمّا (ذم)، فهو لكم وأنكم سواد الوجه في الدّارين كل يشاكله عمله.
وإمّا (حمد)، له الحمد في الآخرة والأولى. ""
وأخيرا علم الخلق به صلى الله عليه وسلم أن الحمد لله على كل حال ما قيده بشيء حتى الأمر في جميع الأحوال سواء كان بواسطة أو بغير واسطة.
وإن شئت قلت في الجمع أو الفرق، فإن له عواقب الثناء وذلك لأن الحمد هو الثناء.
والثناء على قسمين:
ثناء عليه بما هو له كالثناء بالتسبيح،
وثناء عليه بما يكون منه و هو الشكر على من أسبغ النعماء و إلا لا .
والعبد و ما في يده لمولاه فلا يملك شيئا حتى يكون الحمد بما هو له، و لا يخرج منه شيئا، فإن خروج الشيء عن الشيء فرع أن يكون له شيء، وقد قلنا أنه ليس له من الأمر شيء، فالحمد لله كله له، فافهم .
(فكونوا وقايته في الذّم ) فتكونوا كالوقاية من أسنة المكاره وسنان اللسان، وأضيفوا كل مكروه إليكم فداءا له .
(و اجعلوه وقايتكم في الحمد ): أي ألحقوا الوجود و الخير كله إلى ربكم ليكون الخلاص لكم الخلاص من شرور الزهو والظهور.
قال تعالى: "لنْ ينال اللّه لحُومُها ولا دِماؤُها ولكِنْ ينالهُ التّـقْوى مِنْكُمْ" [ الحج: 37] فالظاهر متقي و الباطن متقي فالكل متقي و هو الكل أنه .
قال تعالى: "أهْلُ التّـقْوى وأهْلُ المغْفِرِة" [ المدثر: 56] هذا حقيقة أعوذ بك منك، فافهم .
( تكونوا أدباء عالمين ): أي تكونوا جامعين الخير كله، و جماع الخير أن تقف مواقفك و لا تتعدّى طورك، و لا تجعل بنفسك لله اسما وصفة، ولا تسمّيه إلا بما سمّاه نفسه و لا تضيف إليه إلا بما أضاف الله إلى نفسه و يكون معه على توفيق التوفيق، فما أسند إلى نفسه تسند إليها، فتسند الخير إليه كما أسنده إلى نفسه.
قال تعالى: "ما أصابك مِنْ حسنةٍ فمِن اللّهِ" [ النساء: 79] .
وقال تعالى في الشر: "وما أصابك مِنْ سيِّئةٍ فمِنْ نفْسِك" [ النساء: 79]
ثم قال: "قلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ" [ النساء: 78]: أي أن التعريف من عند الله، بأن هذا من عند الله و هذا شر من عنده تعالى .
ثم قال في حق من جهل هذه الأحكام و التعريف: "هؤلاءِ القوْم لا يكادُون يفقهُون حدِيثاً" [ النساء: 78].
أي ما حدّثتهم به فإني قلت : هذا من عند الله و هذا من النفس، فرفعت الإيهام واحتمال الإيهام، فلمّا قلت كل من عند الله، فعلم العالم بالله أني أريد الحكم، والإعلام بذلك أنه من عند الله لا عين الشر و السوء فإذا علمت هذا .
فاعلم أن الأديب ينقسم إلى أربعة أقسام في اصطلاح أهل الله رضي الله عنهم :
أدب الشريعة و هو الأدب الإلهي الذي يتولى الله تعليمه بالوحي و الإلهام و التعريف، و به أدب نبيه صلى الله عليه و سلم، و به أدّبنا نبيه صلى الله عليه و سلم، ومن هذا المقام قال صلى الله عليه و سلم : "إن الله أدبني فأحسن تأديبي"  فهو المؤدّب .
وأدب الطريقة و الخدمة، فقد شرع ما كيفية المعاملة معه خاصة دون الخلق .
قال تعالى"وما آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ وما نهاكُمْ عنْهُ فانتهُوا واتّـقُوا اللّه إنّ اللّه شدِيدُ العِقابِ" [ الحشر: 7] .
وقال صلى الله عليه و سلم "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".  رواه ابن مسعود رضي الله عنه .
هذا من أحسن التأديب منه.
وأدب الحق هو: الأدب مع الحق في اتباعه حيث وجد و ظهر، فلو ظهر عند الأصغر سنا و رتبة فيتبعه و لا يأنفه و يقبله و لا يرده و لا يكون ممن قال تعالى: "و إذا قيل لهُ اتّقِ اللّه أخذتهُ العِزُّة بالِإثمِ" [ البقرة:  . [206
وهذان القسمان لو كانا يدخلان في القسم الأول من وجه فإن أدب الشريعة كالأم و لو كان لهما بعض خصوصيات تختص بهما .
أدب الحقيقة و هو: ترك الأدب بفنائك عن نفسك و ردّك الأمر كله إلى الله، و الذي نحن بصدد بيانه أدب النبوّات على ذوق حكم النصوص و حكمها .
وهو أن لا يتعدى علمك في الأشياء علمه تعالى فيها، و هو الموافقة و إن أعطاك علمك خلاف ذلك، لا سيما فيما أضافه الحق إلى نفسه و إلى خلقه فأضفها إلى من أضافها الله.
وأنزل علمك لعلمه، فإنه العليم و أنت العالم، فلا ترجّح على علمه من حيث قيام الدليل لك على أنه لا فاعل إلا الله تعالى و في أدب الحقيقة .
قال تعالى: " بلْ للّهِ الْأمْرُ جمِيعاً " [ الرعد: 31] .
و قال تعالى: "قلْ إنّ الْأمر كُلّهُ للّهِ" [ آل عمران: 154] .
و قال تعالى: "ليس لك مِن الْأمْرِ شيْءٌ" [ آل عمران: 128] .
و قال تعالى: "قلْ كُلٌّ  مِنْ عِنْدِ اللّهِ" [ النساء: 78] .
و قال له موسى عليه السلام: "إنْ هِي إلّا فتْنتك" [ الأعراف: 155] .
وكما ورد عن الصدّيق الأكبر رضي الله عنه أنه قال: "الطبيب أمرضني" أسند المرض إلى الحق بخلاف ما فعل الخليل عليه السلام : "فأردْتُ أنْ أعِيبها" [ الكهف: 7] .
قال تعالى:" فأراد ربُّك أنْ يبْـلغا أشُدّهُما" [ الكهف: 82] .
فالتارك للأدب أديب من حيث الكشف و الشهور يعاين جريان المقادير قبل وقوعها.
كما قال: ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله، فنزل من الحق إلى الخلق .
فاعلم أن لله تعالى تجليين:
تجلّ نفسك عنك و عن أحكامك، فما يرى صاحب هذا التجليّ سوى الحق.
و تجلّ بنفيك معك و مع أحكامك، و من أحكامك ملازمة الأدب في الأخذ و العطاء.
فمثل هذا التجليّ أسأل الله ما دمت في دار التكليف فإذا انتقلت إلى غير هذا الموطن، فكن بحسب الموطن تكن أديبا و بأحكام المواطن عليما.
فإذا قمت في كل موطن باستحقاقه تحمدك المواطن، و المواطن شهداء عدل عند الله فإنها لا تشهد إلا بالصدق، و قد نصحتك فاعمل تكن أديبا فإن لكل موطن أدبا مختصا به، فكل وقت له حال بنطقه، و كل حال له معنى يحققه، فلا تخلط و كن من فصل الخطاب، و الله هو الهادي الوهاب عالمين بحقائق الأمور كما هي هي و آدابها .

قوله رضي الله عنه: عالمين حال أن تكوّنوا أدبا، حال كونكم عالمين بأن الأمر لله جميعا، فيدخلون في رحمته الواسعة التي قال فيها: "فسأكْتبها للّذِين يتّـقُون" [ الأعراف : 156].


قال الشيخ رضي الله عنه : [ثم إنه سبحانه وتعالى أطلعه على ما أودع فيه وجعل ذلك في قبضتيه: القبضة الواحدة فيها العالم، والقبضة الأخرى فيها آدم وبنوه وبين مراتبهم فيه. قال رضي الله عنه: ولما أطلعني الله سبحانه وتعالى في سري على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر. جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي لا ما وقفت عليه، فإن ذلك لا يسعه كتاب ولا العالم الموجود الآن. فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:]
ثم أنه تعالى: أي بعد ما خلق الله تعالى آدم الخليفة الذي جمع من حيث الطبيعة حقائق العالم بأسرها، و حصر قوابلها بأجمعها أعلاه.
و كان أسفله (أطلعه ): أي أعثر آدم الخليفة من حيث أنه خليفة لا من حيث أنه إنسان، و كان ذلك بعد الخلافة و الإمامة الكبرى، و الاطلاع إمّا بتعريف إلهيّ، أو بتجلي إلهيّ و هو اطلاعه على نفسه و على عينه الثابتة الجامعة لجميع الحقائق الكونية .
ومن كرامات القلب معرفة الكون قبل أن يكون، و هذا هو العلم الخفي الذي فوق العلم السري و فوقه علم أخفى و فوق الأخفى أخفى إلى الأخفى الذي استأثره الله دون خلقه.
فالأخفى الأول: عمى عنه كل مخلوق ما عدا هذا الشخص الذي أطلعه الله عليه كرامة منه به، و لا يلتفت إلى من يقول: إنّ كل إنسان له سرّ يخصه لا يعلمه أحد معه إلا الله تعالى هيهات! و أين اللوح و القلم، نعم لكل إنسان سر مسلم ذوقا لا يعلمه أحد من جنسه و لا الأكثر من غير جنسه، و يعلمه هذا الذي أكرمه الله تعالى بقوله: "و فوق كُل ذِي عِلْمٍ عليمٌ" [ يوسف: 76]، فافهم .
ذكره الشيخ رضي الله عنه في "مواقع النجوم" على ما أودع فيه من حقائق العالم عموما، كما في قبضة شماله، و من حقيقة نفسه و نبيه من حيث أنه إنسان لا من حيث أنه خليفة خصوصا كما في قبضة يمينه، و جعل ذلك عطف على قوله أودع : أي جعل ذلك الوديعة .
( في قبضته ): أي قبضتي آدم و هما قبضتا اليمين و الشمال .
قال تعالى:" و مِنْ كُل شيْءٍ خلقنا زوْجيْنِ لعلّكُمْ تذكّرون" [ الذاريات: 49] .
إن هذا من حكم القبضتين، فالقبضة على الحقيقة .
قوله تعالى: "اللّهُ بكُل شيْءٍ مُحِيطاً" [ النساء: 126] و من أحاط به فقد حكم عليه لأنه ليس له منقذ مع وجود الإحاطة، و هكذا الخليفة فهو قابض لجميع العوالم، و لا يخرج من قبضة إحاطته  شيء، حتى آدم الإنسانيّ أبا البشر و ذلك لأن آدم من حيث العنصرية جزاء من أجزاء العالم كسائر العوالم فالكل من أجزائه و صورة ذلك أنه ما من موجود سوى الله إلا و هو مرتبط بنسبة إلهية، و حقيقة ربانية تسمّى أسماءا حسنى، و كل ممكن في قبضة حقيقة إلهية و كلها في قبضة الكامل الخليفة، بإقباض الله إياه فالكل في القبضة، فافهم .
ثم فصّل ما في القبضتين باعتبار اليدين أصحاب اليمين و أصحاب الشمال فقيل فيهما: أهل الجنة وأهل النار، هو لا للجنة ولا أبالي، و هو لا للنار و لا أبالي.
قال رضي الله عنه: فلمّا رأيت آدم في الإسراء فقلت له يمين الحق يقضي بالسعادة قال: نعم فقد فرق الحقّ بين أصحاب اليمين و أصحاب الشمال
فقال لي: يا ولدي ذلك يمين أبيك و شماله، انتهى كلامه رضي الله عنه.
و جعل (القبضة الواحدة فيها العالم ) سعيده و شقيه فى شماله، و إنما قال العالم مطلقا لأنه سعيد و شقيّ .
لما ورد في الأخبار الصحيحة "إنّ جبل أحد مثلا من جبال الجنة".
، و جبل عير على وزن زيد و هو جبل في المدينة المشرّفة من جبال جهنم، و هكذا حكم السعادة و الشقاوة سار في العالم حتى في الأمكنة و الأزمنة كالمتمكنين، و القبضة الأخرى فيه آدم و بنوه: أي من هذه القبضة من آدم الخليفة، فيها آدم أبو البشر و بنوه .
فلمّا كانت هذه القبضة من أثر مزج العجز الأوّل الإلهيّ، الذي دخلت أحكامه بعضها في بعض من كل قبضة في أختها، اختلطت أحكام السعادة و الشقاوة و الطيب و الخبيث بحكم الجمعية التي فيه .
و ذلك لأنّ الصّفات قبل المزج لا تتصف بالشقاوة و لا بالسعادة لذاتها، و الذوات كذلك قبل الامتزاج لم تكن قبله، فقيل هذا سعيد و هذا شقيّ و هذا طيب و هذا خبيث، فانظر ما أحدث الامتزاج كسواد الحبر و المداد بامتزاج العفص و الزاج، فكل الآفات من التركيب و المزاج، و جميع المصائب من الامتزاج و اختلاط الأمشاج، و نهاية الأمر و غاية السالك التخلص من التركيب و الرجوع إلى البساطة الأصلية، و السّبك و الفّك عن هذه القيود العارضة المتعارضة .
كما قال أبو يزيد قدّس سره: إنه لا صفة له، يشير إلى السّبك و التخلص على حكم الامتزاج لأنه أقيم في كل معقولية بساطته، و لم ير مركبا مخلا للبساطة الأصلية، و لكن هذا حال جائز و ظل زائل، فما ثمّ ة إلا مرّكّب يقبل الصّفات إمّا السعادة أو الشقاوة بحسب ما يقتضي مزجته و تركيبه، فما في العالم إلا سعيد أو شقي، و قد بين أسباب الخير و السعادة و طرقها و أسباب الشر و الشقاوة و طرقها .
لقوله تعالى: "فألهمها فجُورها وتقْواها" [ الشمس: 8] يميز الخبيث من الطيب، فافهم .
فلمّا تداخلت أحكام القبضتين، و جهلت الأحوال تفاضلت الرجال باستخراج الخبيث من الطيب، و تميز الطيب من الخبيث، فأراد تعالى الفرقان بين الطبقات و رؤية الغايات في البدايات بتخليص المزج و تميز أهل القبضتين حتى ينفرد كلّ بعالمه، و يتميز الطائع من العاصي لتميز المراتب بأربابها، فكل أحد يعرف حاله و ماله و عاجله و آجله، و كلّ أحد يعرف ماله عنده و ما عليه من عنده، بل تعلم من أنت و من هو، كما انفرد العالم و آدم من قبضتيّ الحق و من هذا المقام .
قال تعالى: "ليمِيز اللّهُ الخبيث مِن الطّيِّبِ ويجْعل الخبيث بعضهُ على  بعْضٍ فيركُمهُ جمِيعاً فيجْعلهُ في جهنّم أولئك هُمُ الخاسِرُون " [ الأنفال: 37] .
فمن بقى فيه شيء من هذه المزجة غير متخلص، و مات عليها لم يحشر يوم القيامة من الآمنين، و لكنّ منهم من يتخلص في الحساب، ومنهم بشفاعة الشافعين و أما من تخلص في دار الدنيا فيحشر من الآمنين لقوله تعالي: "لا خوْفٌ عليْهِمْ ولاهُمْ يحْزُنون" [ البقرة: 62] جعلنا الله من المخلصين المتخلصين آمين .
و إنما قلنا إنه رضي الله عنه أراد بالقبضة قبضة آدم لأنه القابض المقبوض و بيان ذلك أنه قابض من حيث أنه خليفة و مقبوض من حيث إنه إنسان، و حقيقة من الحقائق .
قال رضي الله عنه في الباب السابع و ثلاثمائة من "الفتوحات ": فلمّا أراد الله أسرى بي ليريني من آياتي في أسمائه من أسمائي أزالني عن مكاني، و عرج بي على براق إمكاني، فلم أر أراضي أركاني، فالتفت آدم فإذا أنا بين يديه و عن يمينه في نسيم نبيه عيني فقلت له: هذا أنا فضحك، فقلت: فأنا بين يديك و عن يمينك.
قال: نعم هكذا رأيت نفسي بين يديه
فقلت له: فما كان في اليد المقبوضة الأخرى،
قال: العالم . فإذا فهمت هذا فأرجع،
و أقول في بيان النص الشريف: إنّ للكامل أن يرى لطيفته ناظرة إلى مرّكّبها العنصري، و هو متبدّد في العناصر فيشاهد ذاته العنصرية قبل وجودها و خلقها و تركيبها، كما للحق أن يراها قبل الوجود و له السّراج: أي التحلية و عدم المانع و الإطلاق في كل موطن و مقام لأن له صورا في كل موجود من عقل و نفس و طبيعة و عرش و كرسيّ، و هكذا في جميع الموجودات لأنه مرّكّب من الكل و الجميع أجزاؤه .
و من هذا المقام : "كنت نبيا، و آدم بين الماء و الطين".
بل أنه يرى في صورته الكمالية صورة حقيقية التي هو بها هو لأنه جامع للعوالم كلها، و صورته العنصرية بالنسبة إليه من جملة العوالم، فيرى نفسه خارجا عما يرى غيره من هذا القبيل قوله ما ورد في الخبر عنه صلى الله عليه و سلم في الإسراء :
" إنه دخل فإذا آدم عليه السلام وعن يمينه أشخاص بنيه السعداء وعن شماله أشخاص بنيه الأشقياء فرأى صورته صلى الله عليه و سلم في الذين عن يمين آدم فشكر الله" 
وعلم عند ذلك كيف يكون الإنسان في مكانين و هو عينه لا غيره فكان له كالصورة المرئية و الصور المرئيات في المرآة و المرائي.
ذكره رضي الله عنه في الباب التاسع و الستين و ثلاثمائة من "الفتوحات".
و هذا العلم لا يدرك بالعقل و هذا من علوم التجليات التي تجمع الأضداد بل يرى الأضداد عينه .
قال رضي الله عنه في الباب الخامس و ثلاثمائة من "الفتوحات":
للإنسان في كل عالم من عالم الأرواح و الأعيان الثابتة و عالم الخيال، و غيرها صورة بل في كل مقام و علمه بصورته إن كان صاحب الكشف بل في كل مقام، و كما أنّ لنا صورة و وجودا في صورته، و وجوده كذلك له صورة و وجوده من صورنا وجودنا، كما في الميثاق كان معنا من صورة ظهوره، فشهد معنا كما شهدنا، فهذا آدم و ذريته صور قائمة في قبضة الحق، و هذا آدم خارج عن تلك القبضة و عن تلك اليد، فهو يصير صورته العنصرية، و صورة ذريته و بنيه في يده، و هو خارج عنها .
ثم قال رضي الله عنه: فاعرف ذلك و أكثر من هذا التأنيس ما أقدر لك عليه فلا تكن ممن قال فيهم عزّ و جل: "صُم بكْمٌ عُمْيٌ فهُمْ لا يعْقِلون" [ البقرة: 171] .
و قال تعالى: "إنّ شرّ الدّواب عِنْد اللّهِ الصم البكْمُ الّذِين لايعْقِلون" [ الأنفال: 22] .
و أخذ الله الصور من ظهر آدم، و آدم فيهم و أشهدهم على أنفسهم بحضرة الملأ الأعلى و الصور التي لهم في كل محل لقوله تعالي: "ألسْتُ بربِّكُمْ قالوا بلى"  [ الأعراف: 172] .
فالإنسان عالم بجميع الأمور الخفية فيه من حيث روحه المدبر، و هو لا يعلم أنه يعلم، قال تعالى: "فلا تعْلمُ نفْسٌ ما أخْفِي لهُمْ مِنْ قُـرِّة أعْينٍ جزاءً بما كانوا يعْملون" [ السجدة: 17] .
فهو الناسي و الساهي، و الأحوال و المقامات و المنازل تذكره، وهو رجل يدري ولا يدري أنه يدري .
ومن هذا المقام قال صلى الله عليه و سلم : "الحكمة ضالة المؤمن" .
وقال تعالى: "وذ كرْ فِإنّ  الذكْرى نتفعُ المُؤْمِنين" [الذاريات: 55] .
( و بين مراتبهم ): أي بين الله تعالى مراتب العالم سوى الإنسان أو مرتبة نفسه من حيث أنه إنسان، و مراتب بنيه أو المجموع فيه: أي في ذلك الاطلاع أو في آدم الخليفة أو في الوجود الحق و ذلك لأن العالم بالنسبة إلى الكامل سواء كان نفسه أو بنوه أو غيرهما بمنزلة الأجزاء كلها، و تبين له جزء جزء على مراتبها لأنها منها بمنزلة النفس، و منها بمنزلة القوي، و منها بمنزلة الحواس، و منها الحواس منها بمنزلة الظاهرة و من الظاهرة منها بمنزلة السمع، و منها بمنزلة البصر، و منها بمنزلة الشم و الذوق و اللمس، و منها بمنزلة الحواس الباطنة، و منها بمنزلة الأعضاء، و منها بمنزلة العضّلات، و منها بمنزلة الزينة كالشّعر، كما ذكرناه سابقا أن الملائكة بمنزلة القوي، و قس على هذا الأمر كله .
و من كان بنفسه في نفسه بهذه الشهود و الأتم، إلا و في اطلع على الكل بحسب مراتبهم، و بمعرفته بنفسه على هذا الأسلوب عرف الله .
و هذا تصديق قوله صلى الله عليه و سلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه"
فإنه عين المجموع، و هذا من علم المضاهاة فإنه رأى نفسه واحدة العين كثيرة المظاهر، وحده في عين كثرة، و عرف ربه أنه واحد كثير، فعرف مراتب الكثرة في عين  الوحدة، و سراية الوحدة في الكثرة، و علم نفسه أنه بمنزلة حبه، أوجد الحق منها أوراقا و أغصانا و أزهارا و أصولا و عروقا و بذورا كثيرة .
فظهرت الكثرة في الصورة عن عين واحدة، و هي عينها و غيرها بالشخص و هذا هو المراد من إيجاد العالم .
قال تعالى"وما خلقْتُ الجِنّ والِإنس إلّا  ليعْبدُونِ" [ الذاريات: 56] :
أي ليعرفون أنّ الكثرة ناشئة عن الوحدة الحقيقية والنشأة الآخرة نشأة في بعض الأحكام، نشأت البرازخ غيبا أو شهادة، فترى نفسك فيها و هي واحدة في صور كثيرة و أماكن مختلفة في الآن الواحد، فيرى نفسه أنه هو ليس غيره في الكل، و هكذا يكون يوم القيامة فإنّ النبي صلى الله عليه و سلم يطلبه الناس في مواطن القيامة، فيجدونه من حيث طلبهم في كل موطن يقتضيه ذلك الطلب، في الوقت الذي يجده الطالب الآخر في المواطن الأخرى بعينه فسببه ما ذكرناه، فافهم .
و أما كيفية الاطلاع و البيان، فقد يكون بالتعريف الإلهيّ كالخلافة فإنها قد تكون بالتعريف، كما قال تعالى في آدم عليه السلام: "إنِّي جاعِلٌ فِي الْأرضِ خلِيفةً " [ البقرة: 30].
و قال لداود عليه السلام: "إنّا جعلناك خليفةً" [ صّ : 26]، و قال لإبراهيم عليه السلام: "إنِّي جاعِلك للنّاسِ إماماً"[ البقرة: 124] .
قد يكون: أي بالتجلي الإلهيّ وهو أتم من التعريف فإنّ متعلق التعريف السّمع وهو خبر إلهيّ بواسطة أو بلا واسطة .
و قد يكون الاطلاع و البيان بالتجلي و هو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب بعد الستر، و لا يكون أبدا إلا بالتحقق و أنّ يكون حقّ اليقين و لا يلقى التخلق .
فبين مراتبهم و درجاتهم حتى علم ما علم، و ذلك أنه تعالى لما علمه الأسماء التي أودع فيه و جعل في قبضتيه عليه السلام، و هو الأسماء الكونية و كل اسم من العالم علامة على حقيقة معقولة مخصوصة به ليست للآخر.
و كذلك وجوده العنصري و وجود بنيه في خروجهم من آدم الخليفة إلى الوجود العيني فإنه كثير يطلب تلك الأسماء الكثيرة، و هم مسمياتها و إن كانت العين واحدة فهي كثيرة كما أن العالم من حيث أنه عالم واحد و هو كثير بالأحكام و الأشخاص، فاجتبى إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب .
و ما ذكرنا هنا نعتا و لا حالا بل ذكر الأمرين اجتباءا و بداية فافهم هذه الإشارة .
و لما خرج بنوه فنظر إلى شخص من أخويهم فسئل عنه؟
فقيل: هذا ولدك داود عليه السلام كما في الخبر المشهور، فعلم بهذا الاطلاع و الأداة كل المسميات بطلسم اسمه، فإن الاسم طلسمه على المسمّى من علم الحروف و كيفية وضعها، كما أنعم الله على داود بإعطاء اسم ليس فيه حرف من حروف الاتصال .
وهي الحروف التي من شأنها أن تتصل بما بعدها فقطعه عن العالم بذلك، وسمّاه بذلك الاسم إخبارا لنا عنه عليه السلام بتجرّده وانقطاعه، وأعطي محمدا صلى الله عليه وسلم اسما بحروف الاتصال و الانفصال الاختصاصي لأنه حكيم عليم ما يضع الأشياء إلا في موضعها فيستخرجه العارف بوضع الحروف، فإن الأسماء تنزل من السماء فما وضع شيئا على شيء إلا بالحكمة، فالوجود كله ما انتظم منه شيء بشيء إلا للمناسبة ظاهرة أو باطنة صورية أو معنوية إذا طلبها الحكيم المراقب وجدها .
قال رضي الله عنه في مواقع النجوم: إن معرفة مثل هذه المناسبات من مقام خواص أهل الطريقة رضوان الله عليهم و هي غامضة جدا .
و لقد أشار أبو يزيد السهيلي إلى هذا المقام في كتاب: “المعارف و الإعلام” الذي له باسم النبي صلى الله عليه و سلم محمد و أحمد، و تكلم على المناسبة التي بين أفعال النبي صلى الله عليه و سلم و أخلاقه صلى الله عليه و سلم و بين معانيها .
و القائلون بهذه المناسبات عظماء أهل المراقبة والأدب و لا يكون هذا العلم إلا بعد كشف علمي و مشهد ملكوتي، و لا سيما الآمنين من طريقتنا  كشيبان الراعي، و أبي يزيد البسطامي، و من لقينا من المشايخ كالعربيني و أحمد المرسي و عبد الله البرجاني و جماعة منهم انتهى كلامه رضي الله عنه .
فعلم آدم مرتبة كل مسمّى من اسمه لا من خارج، و إنما قلنا أن الاطلاع تعريفي لأن الأخذ كان من ظهره يعني: ظهر الغيب عليه السلام و هو غيب له و أخذه في الميثاق أيضا من ظهره، فما نحن على يقين من ذلك أي من أنه كان بالكشف فأخذنا أقل المراتب مع احتمال ذلك، فإن قبضه لا مقطوع و لا ممنوع .
قال رضي الله عنه في هذا المبحث: عبدا وقف على علم ذلك باليقين و يخبر به انتهى كلامه .
و أما الخلافة بالتجلي فهو مخصوص سيد البشر صلى الله عليه و سلم وهو مظهر حقيقة الاسم الموفي مائة، وهم اسم الذات.
أما ترى طلب هذا الظهور من الأنبياء كداود عليه السلام فخوطب بخطاب تسعة و تسعين نعجة إشارة إلى تحققه بتسعة وتسعين اسما.
و طلبه الموفي مائة قيل: إنه لأخيك محمد صلى الله عليه و سلم و الطلب ليس في محل، و حين طلب موسى عليه السلام خوطب، فقال تعالى: “فخُذْ ما آتيْتك وكُنْ مِن الشّاكرين” [ الأعراف: 144] .
و كم تطاولت الأعناق لهذه المرتبة، و ضربت من دونها و خوطب بالصدّ و القلى .
قال الشيخ ابن الفارض قدّس سره من هذا المقام إشارة إلى هذا الصد بيت :
و لا تقربوا مال اليتيم إشارة ....      لكفّ يد صدّت له إذ تصدّت.
وكان أمية بن الصلت في الأيام الجاهلية يترشح للنبوة قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان من شأنه أنه قال لأخته: ها أنا أنام فاصنعي طعاما.
قالت: فبينما هو نائم إذ رأيت وقد نزل طائران من النافذة فشق أحدهما صدره، ثم أخرج نكتة سوداء فقال أحدهما: أوعي؟
قال الآخر: نعم، و على علوم الأولين
فقال: أدرك
فقال: لا
فقال: ردّوا قواده إليه فليست النبوة له إنما هي لسلالة عبد المطلب
قالت: فلمّا انتبه أخبرته بالقصة فبكي وقال متمثلا بأبيات، ثم انصدعت كبده فمات،
فانظر إلى لمن يبلغ به أهله و الأمر محتوم فافهم  .
و كان آدم أبو البشر حامل الأسماء و نبينا صلى الله عليه و سلم حامل معانيها .
فلهذا قال رضي الله عنه: إن الأمم السابقة ما وقفوا من الاسم الأعظم إلا على حروفه أو على معناه ، بخلاف المحمديين فإنهم جمعوا بين الحروف والمعان .
وأشار إلى هذا المعنى سيدنا قطب الوقت محيي الدين عبد القادر الكيلاني في سكره حاكيا عن المرتبة المحمدية و المحمديين:
معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب و أوتينا ما لم تؤتوا.  ذكره رضي اللّه عنه في "الفتوحات" .
وذكر فيها: إن اثنى عشر نبيا صلوات الله عليهم أجمعين صاموا نهارهم و قاموا لياليهم مع طول أعمارهم سؤالا و رغبة و رجاءا أن يكونوا من أمته، فافهم .
"وقد رميت بك على الطريق لتعلم ما الأمر عليه و لما أطلعني الله تعالى اعلم أن الاطلاعات من كرامات القلوب و لها مراتب بحسب صفاء القلوب و جلائها". 
ومن كراماتها اطلاع الحق تعالى عبده الكامل على ما أودع في العالم الأكبر من الأسرار، ثم أين حظه في نفسه من ذلك السر؟
حتى يعرف أين البحر فيه و أين البر و أين الشجر و أين السماء و الكواكب و الأقاليم و مكة و القدس و يثرب وآدم أبو البشر و موسى و عيسى و هارون، كما يعرف أيضا في ذاته الدجّال و يأجوج و مأجوج و الدابة المكلمة .
وهكذا بحيث لا يخرج منه شيء من الموجودات ولا أريد حصرها وإنما أريد أنّ كل ما عرفه من العالم الكبير لتصحيح كتابه الخاص به ذوقا.
وفوق هذا أن يطلعه الله تعالى على هذه الأسرار بعكس المرتبة الأولى، فيكون في هذه يقابل العالم مع ذاته فيعرف  الشيء في نفسه أولا، ثم بعد ذلك ينظر ما يقابله في العالم من خارج .
فالأول طالب في نفسه ما وجد خارجا عنه،
والثاني طالب في الخارج عنه ما وجده في ذاته، وهذه الكرامة أشرف وأسبق في الرحموتيات:
ومنها أن يطلعه الله تعالى على هذه الأشياء في الكتابين معا من غير تقديم ولا تأخير كالصورة في المرآة مع الناظر .
هذا غاية المشيئة الأزلية و ظهور المرادات القديمة الأولية لأنه رأى أعيان الأسماء 
مرايا لوجوده  تارة، و رأى الوجود مرآة الأعيان تارة، و جمع بين الروايتين تارة أخرى، في كون جامع حاضر وعلى لسان صاحب هذا المقام.
قال الشيخ العارف ابن الفارض :
و لولاي لم يوجد وجود ولم .....     شهود و لم تعهد عهود بذمّة
و هنا مقامان:
الأول أن يكون العالم مرآته.
والثاني أن يكون هو للعالم مرايا .وهو المقام الأعلى والمدرك الأقصى والمجلي الأعم الأسني .
قال: العالم يرى فيها نفسه و لا يراها أصلا كالمرآة حين ترى صورتك فيها فإنك حينئذ ما تراها فيكشف العالم و لا يكشفه العالم، فهذا قلب الخاتم الأتم لو تسأل الأيام عنه ما عرفته و لو طلب له مكان لم يعقل له مكان .
وهذا هو وارث الحق حقا، و صاحب هذه الكرامة المحمدية صدقا ليس له مقام فيدرك، و حال فيكشف .
ومن هذا المقام أشار في الكتاب العزيز: "يا أهْل يثرب لا مُقام لكُمْ فارجِعوا" [ الأحزاب: 13]: أي لتربية أرباب المقامات، فإنّ الأمر غير متناه و له تأثير في العالم من غير تعيين و نوى في كشفه ما يغنيك عن وصفة في سري .
أشار إلى أن تجليه رضي الله عنه كان سريا: أي ذاتيا اعلم أن سر كل شيء عبارة عن حقيقته، فحقيقة كل شيء سره: أي (لما أطلعني الله تعالى على ما أودع في هذا الوالد الأكبر في سري) و حقيقتي، فما عرفت أمرا زائدا على نفسي بل عرفتها بمعرفة نفسية كمالية جامعة، وعرفتها بتفاصيلها لا في الخارج .
يشير رضي الله عنه إلى تحقيق التحقيق و تشريف التجلي المحقق في هذا الاطلاع يعني: ما كان الاطلاع بالأخبار الإلهي و لا باعتبار القبضتين كاطلاع آدم بل كان بالكشف السري و بالشهود الذوقي و الوجدان النفسي: أي لا بمجرد الكشف و شهدت ما أودع في هذا الوالد الأكبر ذوقا و يقينا باطلاعي على نفسي وسري وحقيقتي وأشرفت على ما فيها.
ما أخفيت فيها من قرة أعين إشراقا وإطلاعا ذوقيا .
ومن هذا المقام قال العارف باللّه الشيخ بن الفارض قدس سره، شعر :
ولا تحسبنّ الأمر عني  فما ...... ساد إلا داخل في عبوديتي
و قوله رضي الله عنه الأكبر من مقام قوله تعالى: "لخلْقُ السّماواتِ والْأرضِ أكْبرُ مِنْ خلْقِ النّاسِ" [ غافر: 57] .
لكون الإنسان متولد عن تأثيرات سماوية و تأثيرات أرضية فيهما له كالأبوين رفع الله مقدارهما تعليما لنا حتى نفعل هكذا مع الأبوين .
ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا: أي أنه أكبر من حيث الفاعلية و التأثير و الأبوة فإن قيل كيف قال العارف :
وإني و إن كنتّ ابن آدم        ..... فلي فيه معني شاهد بأبوّة
قلنا: هذا لسان إدلال و شطح، و صاحبه صاحب سكر .
أما ترى قوله صلى الله عليه و سلم كيف يقول في الشك : "أنا أولى بالشك من إبراهيم" .
في قوله: " فلمّا جنّ  عليْهِ اللّيْلُ  رأى كوكباً قال هذا  ربِّي" [ الأنعام: 76]، ربي على سبيل الشك حجة على الكفار حفظا لرتبة الأبوّة مع الكمال الفائق فافهم وتأدّب، "و صاحِبْـهُما في ُّ الدنيا معْرُوفاً" [ لقمان: 15].
وأما اطلاعاته رضي الله عنه فعلى إنما شتي منها كما ذكرته سابقا، و منها ما ذكره في "الفتوحات "، في الباب الثالث والستون وأربعمائة: إني رأيت جميع الأنبياء و الرسل عليهم السلام كلهم مشاهدة عين و كلمت منهم هودا أخا عاد دون الجماعة .
ورأيت المؤمنين كلهم مشاهدة عين من كان منهم، و من يكون إلى يوم القيامة، أظهرهم الله تعالى في صعيد واحد في زمانين مختلفين، و صاحبت من الرسل و انتفعت بها غير سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم جماعة منهم :
إبراهيم الخليل صلى الله عليه و سلم، قرأت عليه القرآن
وعيسى تبت على يديه،
وموسي أعطاني علم الكشف و الوضوح، و علمت تقليب الليل و النهار، فلمّا حصل عندي زال الليل و بقى النهار، في اليوم كله فلم تغرب لي شمس ولا طلعت، فكانت لي بشرى من الله تعالى أنه لا حظّ لي في الشقاء في الآخرة .
وعاشرت من الرسل محمدا وإبراهيم وموسى و عيسى و هودا و داود صلوات الله عليهم أجمعين، و ما بقى من الأنبياء فروية لا صحبة انتهى كلامه رضي الله عنه .
و في قوله سري يعني: أطلعني في كوني سرا إشارة لطيفة إلى تحققه بالحقيقة السرية التي أشار إليه صلى الله عليه و سلم بأن الولد سر أبيه و الذي كان له سرا فظهر على الولد بل الولد الأكبر، فافهم .
فإن استكثرت أيها  الطالب المتأمّل ما  ذكرته عن الإنسان الكامل بل إنسان الإنسان الكامل، بل عين إنسان الإنسان الكامل، بل روح الكل، روح الرّوح الكل وحقيقته، فأنت معذور فإن فهمك يعجز عن إدراك أمثال هذا لكن كما قيل :
إذا رأت عين العيون فتوحه .....      نسخ العيان عجائب الأخبار
فإذا آمنت بالقرآن فإن الله تعالى قال: "إنّ اللّه على كُل شيْءٍ قدِيرٌ" [ آل عمران: 165] .
وهذه آية من آياته بل هو من آيات أشراط الساعة، فإنه طلوع شمس من مغربها و كفى بذلك عبرة و آية، فافهم .
و تكتم تسلم، فإن أردت بيانه أكثر من هذا، فاعلم أولا أن هذا جائز شرعا و عقلا بالنسبة إلى الحق، فإنه تعالى يرى ما في الأزل و الأبد في آن واحد.
كما يعلم ما كان و ما يكون قبل أن يكون، فيجوز أن يميز الله عبدا من عباده بهذا الاختصاص رؤية و علما، فإن الله تعالى فعّال لما يريد و أنه على كل شيء قدير .
ولا شك أن هذا شيء وهو قادر عليه، فهو من المقدورات وما بقي بيننا أمر مبهم إلا أن نقول هذا الأمر واقع أم لا فهانت المسألة .
ورد في الخبر الصحيح و النص الصريح أنه صلى الله عليه و سلم قال : 
"مثلت لي أمتي في الماء والطين وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم لأسماء كلها" ذكره الديلمي عن أبي رافع .
وقال صلى الله عليه و سلم: في حديث طويل : "فتجلى لي كل شيء وعرفت فعرفت تأنيسا".
اعلم أنّ القلب له بابان باب إلى عالم الملكوت و باب إلى عالم الشهادة و على كل باب إمام، فالإمام الذي هو بباب الملكوت قارع ذلك حتى يفتح له و لا بد أن يفتح.
فإذا فتح ظهر عند فتحه طريقان واضحان طريق إلى الأرواح وقف على أسراره و يصير صاحبا لهم وسميرا.
وإن سلك على طريق اللوح يعرف ما ذكرناه لأنه قد ارتقم فيه علم ما كان و ما يكون، و ما كان لو شاء الله أن يكون كيف يكون.
فيقابله بذات قلبه فيرتقم فيه على حسب كشفه و استعداده .
والمشاهد لهذا المقام ساكن الجوارح لا يتحرك له عضوا أصلا إلا عينه لغلبة المقام عليه، و هنا يقع التفاضل بين أهل الطريقة.
فمنهم من لا يزال عاكفا على اللوح أبدا لا ينتفع به، و منهم من يشهده تارة، و منهم من يترك فيما سطر قبل و يرتقي إلى النظر فيما يسطر.
و هنا مرتبتان منهم من ينظر فيما يسطر أعني: ماذا يسطر؟ و منهم من ينظر في كيفية تخطيط القلم، و كيف تقع العلوم من الدواة التي هي النون مجملة، و ينثرها على سطح اللوح مفصّلة، فإن تحكم صاحب هذا المقام لم يفهم منه كلام أصلا لإجماله .
و منهم من ينظر اليمين .
و منهم من ينظرها من حيث هي هي: أي من حيث أن اليمين عين ذاته تعالى، وهذه أسنا المراتب والمقامات و أعلاها، و ليس ورائها مقام و لا منزل يتعالى.
و في هذه المقامات يقع التفاضل بين أصحابها، فللرسول منها شرب، وللنبيّ  شرب، و للصّوفي الوارث المحقّق شرب .
قال تعالى: "قدْ علم  كُل أناسٍ مشْربهُمْ" [ الأعراف: 160] و لكل مقام أدب يخصه و شاهد حال يشهد له بصدق المقام .
قال تعالى: "كُلٌّ  قدْ علِم صلاتهُ و تسْبيحهُ " [ النور: 42] .
و للخاتم المحمدي فيه يد الأخذ و العطاء و إطلاق التصرف فيها كما يشاء، فافهم لأن المساواة في إفادة العلم، فإن علمه بالعالم من علمه بنفسه، و علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد و الفرق بينهما أنّ علم هذا العبد الوارث المحمدي عطية و عناية سبقت من الله تعالى له الحسنى من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله تعالى على الأعيان الثابتة في حال عدمها .
و إنما قلنا بسبق العناية لأنها نسبة ذاتية لا صورة لها حتى يقع عليه اطلاع مخلوق ، فصاحب هذا العلم هو أعلى عالم بالله ليس كمثله شيء، فإنه أعطاه العلم و المعرفة بالتجلي فكملت معرفته بالله فنزه و شبه اقتداءا بسنن سيده و مولاه، فإنه نزه و شبه في آية بل نصفها .
وقال: " ليس كمِثلهِ شيْءٌ وهُو السّمِيعُ البصِيرُ" [ الشورى: 11] .
وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل بالأصالة، ولخاتم الأولياء الوارث الأخذ عن الأصل المشاهد المشرف على المراتب و المقامات، كذلك وهو حسنة من حسنات خاتم الرسالة و النبوة المقدم على الأسماء الإلهية في فتح باب الشفاعة .
لقوله تعالى:" لقدْ كان لكُمْ في رسُولِ اللّهِ أسْوةٌ حسنةٌ لمنْ كان يرجُوا اللّه" [ الأحزاب: 21] .
فالخاتم الحارث الراجي الوارث يقول: كما قال سيده و سنده :
و في الخبر: " أما لكم فيّ أسوة"  الحديث رواه أبو قتادة رضي الله عنه.
"كنت وليا و آدم بين الماء و الطين"
فمن فهم المراتب و المقامات لم يعسر عليه قبول أمثال هذا .
فخزائن الأعطيات مختومة بختام الفاتح، فما يخرجها إلا بقدر معلوم فلهذا قال :
( جعلت هذا الكتاب منه ): أي أظهرت فيه من هذه الحقائق الغير المتناهية ما حدّ لي: أي ما حدّ لي رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ما وقفت عليه، و الوقوف من الكمّل مختلف باختلاف وسع الكمّل، فمنهم من يشهد الحكم و يزنها في الشئون الإلهية المشهودة له، و لا يشهدها إلا عند تكوينها في الخارج في عالم الأرواح لا عالم الحس .
خاصة و منهم من يشهد قبل ظهورها في الحس و هو التكوين، و الآخر يشهده في الإمام المبين و هو اللوح المحفوظ، و هذا أعلى من الأول و أما على الشهود و أتمه الذي كلامنا فيه و نحن بصدد بيانه، و هو أنه يزنها قبل أن يكون الحق فيها، و هو الذي يشاهد أعيان الممكنات في حال عدمها .
كما يشهدها الحق في قوله: "و فوق كُل ذِي عِلْمٍ عليمٌ" [ يوسف: 76] .
و هذا أعلى المدارك و أتمها و أعزها، قال: علمه بالأشياء بمنزلة علم الله تعالى بها لأن الأخذ من معدن واحد و هذا: أي الخليفة شرب الخاتم الفاتح، فإنّ ذلك لا يسعه كتاب و لا العالم الموجود الآن لأن المتناهي لا يسع غير المتناهي: أي عادة و إنما قلنا عادة لأنه قد يسع كرامة كما وسع القلب ربه .
و من دون ذلك الذوق يقول أبو يزيد البسطامي قدّس سره: العرش و ما فيه مائة ألف ألف مرة لو أبقي في زاوية قلب العارف ما أحسّ به هذا وسعه قدس سره في المحسوسات، فافهم .
و التأنيس في كيفية الاطلاع على غير المتناهي :
أولا: من قرب النوافل حيث يكون الحق قواه فيدرك غير المتناهي بغير المتناهي .
و ثانيا: من حيث قرب الفرائض، فإنّ المدرك هنا حق به .
فإن قلت: هل يمكن إدراك غير المتناهي بالقوة المتناهية الحادثة أم لا؟!
و إذا كان من الممكنات، هل هو واقع أم لا؟!
و إذا كان واقعا هل مخصوص ببعض دون بعض أم لا؟ !
مع أن حقيقة العلم  تستدعي الإحاطة و حقيقة غير المتناهي تمنع الإحاطة، و قلتم إن قلب الحقائق من الحالات، فمن تعلق العلم به يلزم أحد الحالين إما قلب حقيقة العلم و إما أن يكون غير المتناهي متناهيا و قد فرضناه متناه يقول: فاعلم أولا أنه تعالى قال: "ولا يحِيطون بشيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلّا  بما شاء" [ البقرة: 255] علق أمر الإحاطة بالمشيئة .
و قال صلى الله عليه و سلم : "أوتيت جوامع الكلم و كلمات الله لا تنفد".
و قال صلى الله عليه و سلم في حديث صحيح : "علمت علم الأولين والآخرين". 
و ليس لأفراد الأولين و الآخرين نهاية دنيا و أخرى، فافهم .
و آدم عليه السلام شهد الله له بأنه علم آدم الأسماء كلها و قال صلى الله عليه وسلم :
"علمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها " . ذكره الديلمي عن أبي رافع
والأسماء إلهية غير متناهية، فإذا عرفت هذا، فاعلم أنه رضي الله عنه قال في الباب السادس و الأربعين من "الفتوحات " : واختلف أصحابنا في العلم المحدّث (بفتح الدال) هل يتعلق بما لا يتناهى من المعلومات أم لا؟
فمن منع أن نعرف ذات الله سبحانه منع من ذلك و من لم يمنع من ذلك لم يمنع حصوله .
فإن قلت هذا التفصيل مبهم ما عرفت الحق منهما، و ما مذهب الشيخ رضي الله عنه من بينهما .
قلنا: قال رضي الله عنه في "الفتوحات" : إن الله تعالى علق الإحاطة بالمشيئة، فما شاء الله كان.
وقد يمكن أن يقع بل وقد يصح أن يقع بمشيئة الاشتراك مع الحق تعالى في العلم بمعلوم ما، و من المعلومات العلم بالعلم، أخبر سبحانه أنه يعلم ولا يعلم منه إلا ما أعلمه إذا شاء لمن شاء بقدر ما شاء .
وذكر رضي الله عنه في الباب السابع و التسعين و مائتين: إن العبد أقامه الحق في وقت ما في مقام تعلق العلم بما لا يتناهى وليس بمحال عندنا، انتهى كلامه.
فقوله صلى الله عليه وسلم : "إن لي مع الله وقتا" الحديث .
"" أضاف المحقق : قال سيدي عبد الكريم الجيلي في الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية : فالأنبياء والأولياء والملائكة وسائر المقربين من سائر الموجودات ليس عندهم من المعرفة الذاتية ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي هو قلب الوجود هو الذي عنده الوسع الذاتي للمعرفة الذاتية، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «لي وقت مع ربي لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل» اهـ.



وذكر الشيخ في هذا المؤلف العظيم اتصاف سيدنا صلى الله عليه وسلم بجميع الأسماء الحسنى، وجعل يذكر الأدلة على تلك الكمالات" .أهـ ""
يمكن أن يكون إشارة إلى ذلك الوقت فافهم .
"" أضاف المحقق : الوقت : عبارة عن حالك، وهو ما يقتضيه استعدادك لغير مجهول، في زمن الحال الذي لا تعلق له بالماضي والمستقبل فلا يظهر فيك من شؤون الحق الذي هو عليها، في الآن، إلا بما يطلبه استعدادا، فالحكم للاستعداد و شأن الحق محكوم عليه.
هذا هو مذهب التحقيق، فظهور الحق في الأعيان بحسب ما يعطيه استعدادها، فلذلك ينبوع فيها فيض وجود الحق، وهو في نفسه على وحدته الذاتية، وإطلاقه و تجرده، و تقدسه غني عن العالمين.
فالوقت هو الحاكم والسلطان، فإنه يحكم على العبد فيمضه على ما يقتضيه استعدادا، ويحكم على الحق بإفاضة ما سأله العبد منه بلسان استعداده في زمن الحال.
إذ من شأن الجواد التزام توفيقه استحقاق الاستعدادت كما ينبغي.
وفي قوله تعالى: "وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة". تأييد لهذا التحقيق ومن كان بحسب ما خاطبه به الشرع في كل حال، فهو في الحقيقة صاحب وقته، فإنه قام بحقه، ومن كان هكذا فهو عند ربه من السعداء.  ""
أما قولك: إن العلم حقيقة تطلب الإحاطة و إن لم تحط، يلزم جوار قلب الحقائق فلا نسلم أنه حقيقة من الحقائق الوجودية حتى يلزم المحال، بل هو نسبة بين العالم و المعلوم، و النسبة من الاعتبارات العدمية فلا محال، فافهم .
وإن سلمنا أنه حقيقة من الحقائق فلم لا يجوز أن يكون مثله مثل وسعة القلب الذي يسع الحق الغير متناهي و هو منتاه. وقد ثبت ذلك بالخبر الصحيح من الله
مع أنّ الشيخ رضي الله عنه قال: إن الاقتصار غير لازم عندنا في كل شيء بل أوجد الله تعالى ما يريد في أي محل يريد، ذكره رضي الله عنه في الباب السابع و السبعين و مائتين من " الفتوحات" .
و لا يعلم ما قلناه إلا من وسع الحقّ قلبه كما ورد في الخبر الصحيح أن الحق يقول: " ما وسعني أرضي و لا سمائي و وسعني قلب عبدي " الحديث.
فإذا المتناهي وسع غير المتناهي، و قس عليه العلم المحيط على المعلومات الغير المتناهية، فإن قلت .
قال تعالى"وما أوتيتمْ مِن العِلْمِ إلّا  قليلًا "[ الإسراء: 85] وهو الذي أثبته علم كثير بل غير متناه فما التوفيق بينهما قلنا .
قال الشيخ رضي الله عنه في الباب السادس و الأربعين من "الفتوحات " : إن القليل من الاستقلال: أي ما أعطيتم من العلم إلا ما تستقلون بحمله، انتهى كلامه رضي الله عنه .
أو يكون الاستثناء عن المخاطبين من أوتيتم: أي ما أوتيتم من العلم إلا قليلا منكم .
قال تعالى: "قلْ ربِّي أعْلمُ بعِدّ تهِمْ ما يعْلمُهُمْ إلّا قليلٌ" [ الكهف: 22] .
قال ابن عباس رضي الله عنه: أنا من القليل، وورد عن العلماء: اللهم اجعلنا من القليلين، فافهم.
خاطبه به الشرع في كل حال، فهو في الحقيقة صاحب وقته، فإنه قام بحقه، و من كان هكذا فهو عند ربه من السعداء.
و يحتمل أن يكون الآية خطابا على اليهود حين مرّ صلى الله عليه و سلم بنفر من اليهود فسألوه عن الرّوح، فأنزل الله الآية و قال آخرها: "وما أوتيتمْ مِن العِلْمِ إلّا  قليلًا" [ الإسراء: 85] و العلم بمعنى المعلومات و يساعد تفسيرنا هذا قراءة الأعمش وهو قوله :
"و ما أوتيتمْ مِن العِلْمِ إلّا  قليلًا" [ الإسراء: 85] . فيكون العلم بمعنى المعلومات، كما قلنا آنفا عن الأعمش هكذا في قراءتنا رواه البخاري في صحيحه وكيف لا ؟
والمحمّديون أوتوا ما لم تؤتوا، وهم الحكماء الإلهيين.
قال تعالى: "ومنْ يـؤْت الحِكْمة فقدْ أوتي خيْرًاً كثيرًاً" [ البقرة: 269] و هل الحكمة غير العلم؟ بل هي خصوص العلم للخصوص، وخصوص الخصوص.
و من هذا المشرب ما قال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدّس سره: أوتينا ما لم تؤتوا، يشير إلى هذا العلم الخاص العام التام الذي يؤخذ من المعدن الأصلي الذاتي بلا واسطة مع أنه كلما أعطاك في الدنيا و الآخرة جمعا و فرادى من الخير، كالعلم و غيره فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده تعالى.
فإن الذي عنده لا نهاية لها على التتابع والتتالي، يظهر و كل ما حصل لك من ذلك فهو متناه لحصوله في الوجود و نسبة ما يتناهى إلى ما لا يتناهى قليل بل أقل القليل وما لا يتناهى ما يمكن حصوله في الوجود .


فلهذا قال رضي الله عنه: و لا العالم الموجود إلا هذا من توفيق التوفيق، فافهم .
قال رضي الله عنه في الباب السابع و التسعين و مائتين من "الفتوحات " : 
إن الله قد أودع في الإنسان علم كل  شيء ثم حال بينه و بين أن يدرك ما عنده مما أودع فيه و هو من الأسرار الإلهية التي ينكرها العقل و يجهلها جملة واحدة .
و قال فيها رضي الله عنه: بهذا العلم انفردت من دون الجماعة و لا أدري هل عثر عليه أحد غيري أم لا، انتهى كلامه .
يشير إلى هذا الكشف و العلم الخاص أقول و الله أعلم أنه ورد في الخبر في حديث طويل: 
"  إنّ الحقّ وضع كفّه بين كتفيّ فوجدت برد أنامله بين ثدييّ فتجلى لي كلّ شيء وعرفت ......الحديث" رواه الترمذي حسن صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه و هذا من هذا الذوق انفرد به الختم الوارث المحمدي بيان ذلك .
اعلم أيدك الله و إيانا بروح منه، أنّ الحقّ تعالى قد جعل كل فرد من أفراد العالم علامة و دليلا على أمر خاص مثله، فمن حيث وجوده المتعين هو: علامة على نسبة من نسب الألوهية المسمّاة أسماء الذي هذا الشي ء الدال مظهر له.
ومن حيث عينه الثابتة فهو:
 دليل على عين ثابتة مثله، ومن حيث كونه عينا ثابتة متصفة بوجود متعين هو: علامة على مثله من الأعيان المتصفة بالوجود .
فالأجزاء من حيث أجزاء علامة على أجزاء مثلها، و من حيث مجموعها و ما يتضمنه كل جزء من المعنى الكل هي علامة على الأمر الكلي الجامع لها، و الوجود المطلق الذي يتعين منه وجودها .
وجعل أيضا مجموع العالم الكبير من حيث ظاهره علامة و دليلا على روحه و معناه و جعل جملة صور العالم و أرواحه علامة على الألوهية الجامعة للأسماء والنسب وعلى مجموع العالم.
و جعل الإنسان الكامل المجموعة من حيث صورته و روحه و معناه و مرتبته علامة تامة و دليلا دالا عليه سبحانه دلالة كاملة.
و كل ما عدا الحق و الإنسان الكامل فليس كونه علامة على ما دل عليه شرطا ضروريا مطرد الحكم لا يمكن معرفة ذلك الشيء بدونه، بل ذلك بالنسبة إلى أكثر العالم والحكم الغالب بخلاف الحق تعالى .
والإنسان الكامل قد يعلم بكل منهما كل شيء ولا يعلم أحدهما إلا بالآخر وبنفسه وموجب ذلك أن الإنسان هو:
نسخة من كل شيء، ففي قوله و مرتبته أن يدل على كل شيء بما فيه من ذلك الشيء، فقد يغني في الدلالة على كل شيء عن كل شيء .
و هذا الأمر في الجناب الإلهيّ عن شأنه، فإن الحق محيط بكل شيء، فمن عرف كل شيء في ضمنه أو بالالتزام.
فمن عباده تعالى: من يكون عرف نفسه فقد عرف ربه وعرف الأشياء بربه، وقد يكون عرف نفسه وعرف الأشياء بنفسه، ويكون ممن عرف نفسه وعرف الأشياء بنفسه لأن عينها هذا أتم ما يكون في الإلهيين، فافهم المراد .
وهنا مبحث آخر، وهو: إن العلم هل يقبل القلة والكثرة؟
أو هو معنى من المعاني فلا يقبل القسمة، بل له أحدية العين لا يتجزأ ولا يقبل القلة والكثرة .
مع أنه قال تعالى: "و ما أوتيتمْ مِن العِلْمِ إلّا  قليلًا" [ الإسراء: 85] فانقسم، و قال تعالى"و قلْ  رب زدْني عِلْماً" [ طه:  . [114
قلنا المراد من العلم في الآية المعلومات، ذكره رضي الله عنه في الباب السادس و الأربعين من "الفتوحات "، فما انقسم ولا دخل تحت القلة والكثرة.


وقال رضي الله عنه في كتابه المسمّى بكتاب المعرفة: إن العلم عندنا واحد لا أقول أن لكل معلوم علما فإني لا أشترط فيه التعلق بكل المعلومات بل له صلاحية التعلق و إنما قلنا بوحدانيته إذ لو كان لكل معلوم علم و المعلومات لا نهاية لها محال، انتهى كلامه رضي الله عنه، فافهم .
و اجمع المشرب الأول بالثاني تكن عليما، فإن فوق كل ذي علم عليم فلا يكون هذا إلا لمن يكون العلم عين ذاته، فافهم .
ولولا قصور المدارك ما احتجت إلى هذه التنبيهات كلها لأنها كالعلاوة الخارجة عن المقصود، فافهم و أمعن النظر فيما مضى .
و الحقّ أخّر الكلام بأوله و أجمع النكت المبثوثة فيه لتكون عليما فهما، فإن ما كل عليم فهم .
أما ترى قال الله تعالى: "ففهّمْناها سُليْمان وكُلًّا آتيْنا حُكْماً وعِلْماً" [ الأنبياء : 79]، فافهم .


قال الشيخ المصنف رضي الله عنه :
[فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه و سلم :
حكمة إلهية في كلمة آدمية، وهو هذا الباب.
ثم حكمة نفثية في كلمة شيئية.
ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية.
ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية.
ثم حكمة مهيمية  في كلمة إبراهيمية.
ثم حكمة حقية في كلمة إسحاقية.
ثم حكمة علية في كلمة إسماعيلية.
ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية.
ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية.
ثم حكمة أحدية في كلمة هودية.
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية.
ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية.
ثم حكمة ملكية في كلمة لوطية.
ثم حكمة قدرية في كلمة عزيرية.
ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية.
ثم حكمة وجودية في كلمة داودية.
ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية.
ثم حكمة غيبية في كلمة أيوبية.
ثم حكمة جلالية في كلمة يحياوية.
ثم حكمة مالكية في كلمة زكرياوية.
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية.
ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية.
ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية.
ثم حكمة علوية في كلمة موسوية.
ثم حكمة صمدية  في كلمة خالدية.
ثم حكمة فردية  في كلمة محمدية.
و فص كل حكمة الكلمة التي نسب إليها. فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب.
فامتثلت على ما رسم لي، و وقفت عند ما حد لي، و لو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك والله الموقف لا رب غيره. ومن  ذلك :
قال الشيخ الشارح رضي الله عنه :
( فما شهدّته مما نودعه في هذا الكتاب كما حدّه لي رسول الله صلى الله عليه و سلم ): أي فمن بعض ما شهدّته هو مما نودعه في هذا الكتاب، و هو المحدود من واضع الحدود صلى الله عليه و سلم حتى لو رام رضي الله عنه في أجزاء النص الذي نحن فيه و بيانه يحي في محله إن شاء الله تعالى .
و نحن إن شاء الله آمنون في البيان من الخطأ و الزلل و الله المستعان، و الحمد لله حكمة إلهية في كلمة آدمية، و هو هذا الباب الذي مضى آنفا .
و الحكمة: وضع الشي ء في محله، و الإلهية هي: النسبة إلى حضرة المرتبة الجامعة، و الكلمة هي: العين المقصودة، و الآدمية هي: حضرة الناسوت فهو ظهور المرتبة في الكلمة و بطون العبودية فيها، هذا هو الظهور بالصورة علما و وجودا، فافهم .
( ثم حكمة نفثية في كلمة شيثية )، ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية، ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية، ثم حكمة مهيمن في كلمة إبراهيمية، ثم حكمة حقية في كل كلمة إسحاقية، ثم حكمة عليه في كلمة إسماعيلية، ثم حكمة روحية في  كلمة يعقوبية، ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية . ثم حكمة أحدية في كلمة هودية،
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية، ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية، ثم حكمة ملكية في  كلمة لوطية، ثم حكمة قدرية في كلمة عزيزية، ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية، ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية، ثم حكمة وجودية في كلمة داودية، ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية، ثم حكمة عينية في كلمة أيوبية، ثم حكمة جلالته في  كلمة يحياوية . ثم حكمة مالكية في كلمة زكرياوية،
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية، ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية، ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية ، ثم حكمة علوية في كلمة موسوية، ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية، ثم حكمة فردية في كلمة محمّدية، صلى الله عليهم أجمعين و سلم تسليما .
و نصّ كل حكمة الكلمة المنسوبة إليها، و قد عرفت سابقا معنى النص و الحكمة و الكلمة و النسبة معروفة، فلا يحتاج إلى بيان آخر .

قال الشيخ رضي الله عنه : [فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب.
فامتثلت ما رسم لي، ووقفت عند ما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك والله الموفق لا رب غيره. ومن ذلك:]
( فاقتصرت ): أي بالأمر لأنه حد له و وسم له رضي الله عنه، و إنما قال: فاقتصرت و لم يقل: فاقتصر لي كما هو المناسب لقوله رضي الله عنه: حد لي و وسم لي إشارة إلى أنه كان صاحب صحو تام مختار مجبور .
فالأمر وقع بالاختبار في عين الجبر على ما ذكرته من هذه (الحكم) التي لا يسعها كتاب، و لا العالم الموجود فإنه رضي الله عنه ما ذكر منها إلا قدرا معلوما محدودا .
( في هذا الكتاب ): أي كتاب فصوص الحكم الذي لا ريب فيه على ما ثبت في ( أمّ الكتاب ): يعني النفس الكلي الذي هو اللوح المحفوظ .
قال تعالى: "وإنّهُ في أم الكِتابِ لد ينا لعلي حكِيمٌ" [ الزخرف: 4]: أي ما ثبت أنه سيظهر حكمه .
و حكمه في الخارج فإنه تقدير العزيز الحكيم، و أم الكتاب هو: الحضرة العلمية التي تخرج من بطنها نتائج العلوم و المعارف إلى الظهور بقدر معلوم، أشار رضي الله عنه بهذه العبارة إلى أن الأمر الشريف النبوي كان بمقتضى القضاء المبرم، و هو أم الكتاب .
حكمه في الخارج فإنه تقدير العزيز الحكيم، و أم الكتاب هو: الحضرة العلمية التي تخرج من بطنها نتائج العلوم و المعارف إلى الظهور بقدر معلوم، أشار رضي الله عنه بهذه العبارة إلى أن الأمر الشريف النبوي كان بمقتضى القضاء المبرم، و هو أم الكتاب .
فالأمر كان حتما مقضيا (فامتثلت) لأنه لا يسعه إلا الامتثال، فإن الأمر على كشف و عيان .
( على ما رسم لي و وقفت عند ما حدّ لي) يصح أن يكون الفعلان مجهولين: أي رسم و حدّ، و أن يكونا معلومين .
و في قوله: (امتثلت، و وقفت )، يشير إلى صحوه و علمه أنه امتثل الأمر و وقف على حدوده ما زاد و لا نقص .
( و لو رمت زيادة على ذلك ما استطعت) فما رام الزيادة، (فإن الحضرة تمنع من ذلك) و ذلك لأن العيان أعطى أن الأمر الخارج إلى الظهور: أي قدر منها فلم يتعلق الخاطر بأمر محال .
"" أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ""رواه البخاري ومسلم واحمد والترمذي واب ماجة وابن حبان وغيرهم
( و الله الموفق التوفيق )، جعل الأسباب موافقة للتسبب (لا ربّ غيره) أين الغير حتى يكون ربا؟! . 
ليس سوى الله، و الله ما في الوجود .

..

واتساب

No comments:

Post a Comment