Wednesday, July 24, 2019

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي
كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية

قال رضي الله عنه : (لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها ، و إن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله ، لكونه متصفا بالوجود، و يظهر به سره إليه: فإن رؤية الشي ء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له.
و قد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة.
و من شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه.)
"فص: في اللغة، عبارة عن ملتقى الحكم الإلهية المشتملة على قوسي الأحدية والواحدية، فالملتقى هو الوحدة الصرفة التي هي القلب المحمدي وقلب كل نبي قبله، والحكمة هي العلم بوضع الأشياء موضعها.
والإلهية هي مرتبة جامعة لجميع الأشياء، والكلمة هي العين الفاضلة الجامعة الفاصلة المانعة كأعيان الأنبياء عليهم السلام، والأدمية هي المنسوبة إلى آدم عليه السلام حقيقة الحقائق الإنسانية، وأراد رضي الله عنه بآدم وجود العالم الإنساني."
(لما) أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بحقائق الأسماء الإلهية، وظهوراتها بصورها وآثارها ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى آدم أبي البشر اللي حيث علم الأسماء كلها، وهي الأسماء الإلهية والكونية بظهورها فيه، واطلاعه على ما ظهر فيه لما جواب الشرط، وهو أوجد آدم محذوف بقرينة قوله.
فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، (شاء الحق تعالی) اختار هذا اللفظ لثبوت معناه لله عز وجل في كل حال من غير توقف على أمر بخلاف بعض أسمائه تعالى الدالة على النسب؛ فإن اعتبارها يتوقف على المنتسبين، وإن كان الكل قديما في الواقع (من حيث أسمائه) لا الذات وحدها.
فإنه باعتباره غني عن العالمين، فالتجلي الذاتي لا بد وأن يكون مع اسم، وإن لم يلتفت إليه، والأسماء تطلب الظهور في المظاهر الكونية من حيث تضمنها النسب، ووصف الأسماء بقوله: (الحسنی)؛ لأن التجلي، وإن كان باسم جلالي؛ فهو أيضا من حيث الظهور له جمال.
ولذلك قيل: لكل جلال جمال هو دنوه من المظاهر وتأنسه بها، وبقوله: (التي لا يبلغها الإحصاء) أشار إلى أن لكل كلي وجزئي من العالم اسما خاصا إلهيا يؤتيه، ولا نهاية لها، وأراد الله عز وجل أن يظهر بها في الكون الجامع مجتمعة كاملة يحصل لظهوره بها إجمال بعد التفصيل، وهو الظهور في الأكوان المتفرقة القاصرة. (أن يرى أعيانها) أي: صورها الكاملة
كأنها أعياها لكمال هذا المظهر الذي هو في غاية الصقالة بحيث تتم مطابقة الصور الظاهرة فيه لدى الصورة بخلاف سائر المظاهر .
(وإن شئت قلت) لما شاء الحق من حيث أسمائه الحسنى (أن يرى عينه)؛ لأنها عند اجتماعها لا تغاير الذات مغایرتها عند افتراقها لعدم اعتبار مفهوماتها المتغايرة حينئذ يكون لها أحدية الجمع بالرجوع إلى الإجمال بعد التفصيل
(في كون) أي: موجود حادث (جامع) لأسرار الأسماء الإلهية والكونية بحيث
(يحصر الأمر) أي: شأن الظهور الإلهي من جميع وجوهه (لكونه متصفا بالوجود) أي: وجوه ظهوراته في أسمائه، وسائر مظاهره، وفي أكثر النسخ «بالوجود) أي: بصورته الكاملة التي كأنها نفسه، فاجتمعت وجوه ظهوراته في ظهوره فيه، (ويظهر به سره إليه) أي: وشاء أيضا أن يجعله عارفا بسه، وهو الذات والصفات بجعله مظهرا الصور الأسماء الإلهية وآثارها كلها التي كانت فيه بالقوة بحيث يصير الكل سرا واحدا بعد التفرق في العالم ليعود إلى وحدته التي كان عليها في مرتبة الذات.
وهذه المعرفة مقصودة بالذات كما قال: "كنت كنزا مخفيا؛ فأحببت أن أعرف".
ثم أشار إلى تعليل ذلك بقوله: (فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه، في أمر آخر يكون له كالمرآة؛ فإنه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه، مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل، ولا تجليه له)
أي: إنما شاء الحق من حيث أسمائه الحسنى، أن يرى أعيانها أو عينه في الأكوان الجزئية، أو في كون جامع؛ لأنه تعالى، وإن كان يرى ذاته وأسمائه وصفاته في الأزل .
فتلك الرؤية، وإن كانت كما له يستغني بها عن رؤية أخرى، فليست مثل رؤيته ذاته وأسمائه وصفاته في الأكوان الجزئية متفرقة، أو في الكون الجامع مجتمعة، فإن الرؤية فيها تختلف باختلاف المظاهر، كما تختلف صورة أحدنا في المرآة استقامة، واعوجاجا، واستدارة، واستطالة.
وهي كمال آخر الظهورها مستغن عنه بالنظر إلى الذات والأسماء والصفات من حيث تعلقها بالذات؛ فهي غیر مستكملة بها في أنفسها بل في ظهوراتها، ومن شأن الكامل التكميل.
على أنه يجوز أن يقال: إنها كمال الأسماء من حيث تعلقها بالأكوان، وظهور صورها وآثارها، وهي وإن كانت كاملة أزلية؛ ففيها جهة إمكان من حيث إنها غير قائمة بأنفسها بل بالذات، وهي باعتبار ذلك تطلب الكمالات الإمكانية؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ثم أشار الى سبب ظهوره في الكون الجامع كآدم بعد ظهوره في العالم.
فقال: (وقد كان الحق) قبل خلق آدم (أوجد العالم كله وجود شبح مستو، لا روح فيه) "لفقد عين الإنسان الذي هو إنسان العين، والذي لم يكن شيئا مذكورا".
أما كونه كالشبح المستوى فباعتبار انتظام بعض أجزائه ببعض.
وإفاضة الأرواح الغير الإنسانية على الأجسام مثل انتظام أمر المركبات العنصرية مستوية المزاج، وإفاضة الأرواح المناسبة لها، وأما كونه لا روح فيه مع ذلك فباعتبار عدم ما هو المقصود بالذات من خلقه، وهو الكون الجامع لظهورات الأسماء والصفات على نهج الاجتماع كما كان في الذات.
وإنما أوجد الحق العالم قبل كذلك؛ لأن الجمعية تفتقر إلى الأجزاء، فأوجد أجزاء العالم؛ ليكون كالأجزاء لتلك الجمعية.
ويكون العالم كالبدن الجامع للأجزاء، وتكون الجمعية بمنزلة الروح للبدن، إذ هذه الجمعية هي المقصودة؛ لأن المعرفة التامة المقصودة من خلق العالم لا تحصل بدونها، إذ لا يعرف أحد ما ليس فيه.
(فكان) العالم قبل آدم كمرآة غير مجلوة، أما كونه كالمرآة فلشموله على صور الأسماء بحيث تصح إفاضة روح الجمعية عليها شمول المرأة على الأجزاء القابلة لفيضان صور الأشياء عليها، وأما كونه
(كمرآة غير مجلوة )؛ فلأنه وإن ظهر في بعض أجزائه الأرواح المناسبة لها لم تظهر فيه الروح المقصود بالذات الذي هو صورة الجمعية الإلهية.
"قال رضي الله عنه : غير مجلوة أراد بعدم جلائها احتجابها بذاتها، فلا ترى نفسها إلا بعينها لا بعين الرب ، فأوجد آدم على صورة الكون: أي جميع الكائنات غيبا باطنا وظاهرا شهادة؛ ليقابل بغيبه الغيب، وبشهادته الشهادة ليتجلى له بجميع الأسماء، وينظر للكون ببصر وبصيرة الله فافهم."
(ومن شأن الحكم الإلهي) وهو القضاء الأزلي الذي أعطى كل شيء خلقه أي: قدر لكل مستحق حقه (أنه ما سوى محلا) أي: ما سوی مزاج شيء من الفلكيات أو العنصريات (إلا ولا بد أن يقبل روحا إلهيا) أي: فائضا من جنابه بحسب ما يليق بذلك المحل كالقوى المعدنية والنباتية والحيوانية، فكذلك العالم إذا تم تسويته لم يكن له بد من قبول الروح المقصود من خلقه.
وهو الإنسان الكامل (عبر عنه) أي: عن ذلك الحكم الإلهي بإفاضة الروح اللائق بالمحل (بالنفخ) أي: بنفخ الإله الروح (فيه)؛ لأن حصل له من النفس الرحماني الذي تنفس به عن آثار الأسماء التي كانت فيها بالقوة.
فكانت تلك الآثار قبل ظهورها المطلوب للأسماء كالكرب لها فأخرجها عن الباطن إخراج الهواء عنه دفعا لذلك الكرب.
وبهذا أول قوله تعالى: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " [الحجر: 29].
وذلك لتعذر النفخ الحقيقي، وهو إخراج الهواء عن جوف النافخ إلى محل الاشتعال، فالمراد إفاضة الروح الموجب اشتعال المحل بنوره المشابه للنار في التأثير والإشراق.
وما هو إلا لحصول الاستعداد من تلك الصورة المساة لقبول الفيض التكلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال، وما بقي ثمة إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه.
قال رضي الله عنه :  و ما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال.
و ما بقي إلا قابل، و القابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس.
فالأمر كله منه، ابتداؤه وانتهاؤه، «وإليه يرجع الأمر كله»، كما ابتدأ منه.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة، و كانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم «بالإنسان الكبير».
فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية و الحسية التي في النشأة الإنسانية.
فكل قوة منها محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها، و أن فيها، فيما تزعم، الأهلية لكل منصب عال و منزلة رفيعة عند الله، لما عندها من الجمعية الإلهية مما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي، و إلى جانب حقيقة الحقائق، و- في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف- إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه و أسفله.)
ثم أشار إلى تعليل اقتضاء التسوية لقبول الروح الإلهي بقوله: "وما هو" أي: ليس تسوية المحل بمعنی تساوي تقادير الأجزاء، وطبائعها على ما يوهمه اللفظ.
وإلا كان روح كل مثل روح الأخر من كل وجه للاتفاق على أن اختلاف الأرواح بحسب اختلاف الأمزجة .
بل (ما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض) أي: قبول الروح بطريق فيضان نور الشمس على المحل القابل لنورها، وليس بانفصال شيء منها، وانتقاله إلى المحل بل بحدوث ما يناسب نورها في ذلك المحل.
فكذلك فيض الروح أثر (التجلي الدائم الذي لم يزل، ولا يزال) قبل حدوث هذا المحل؛ فليس التجلي حادثا بحدوث المحل بل ظهور أثر التجلي فيه يتوقف على حصوله، وتسويته توقف فيضان الصور على المرآة على تصقیلها وتسوية أجزائها، وإن كانت تلك الصور موجودة قبل المرآة.
وهذه الروح حاصلة في كل صورة فلكية أو عنصرية، إذ لا تخلو عن القوى المحركة بالطبع، أو الإرادة بل كل شيء يسبح بحمده، ولكن لا يفقه غير أهل الكشف تسبيحه، وكما أن لكل جزء من العالم روحا يدبره، فكذا لمجموعة لا بد من روح يدبرها، وهو المقصود بالذات، وهو الإنسان الكامل.
ثم استشعر سؤالا: وهو أنكم قد خصصتم التجلي بفيضان الروح؛ فمن أين فيضان القابل؟
فإن كان من التجلي؛ فلا بد له من تسوية المحل، ولا يحل قبل القابل، وإن كان من غيره بطلت قاعدة التوحيد.
فقال: (وما بقي) أي: بعد البحث عن فيضان الروح (إلا قابل) أي: بحث فيضان القابل للأرواح المذكورة الأجزاء العالم الكبير أو الإنسان.
ثم أجاب عنه فقال: (والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس)، وهو الفيض الحاصل من التجلي الإلهي بالأسماء لا واسطة القوابل الظاهرة، بخلاف فيضان الأرواح بواسطة هذه القوابل فإنه مقدس، وأما القوابل الباطنة أعني: الأعيان الثابتة فلا تعد وسائط لعدميتها، ولا من الفيض إذ لا معنى له سوى إشراق نور الوجود كفیضان نور الشمس على المحل القابل له، ولو كانت من الفيض لكانت مجعولة وحمل القابل عليها في الكتاب مخل بالنظم على ما لا يخفى.
وإنما كان فيض الروح مقدسا مع براءته عن المواد الجسمانية المظلمة باعتبار تعلقه بالجسم المظلم لا في نفسه، فإنه أقدس من فيض القوابل أيضا فافهم، فإنه مزلة للقدم.
وإذا كان فيضان الأرواح والقوابل منه (فالأمر) أي: أمر الفيض (كله منه ابتداؤه) بفيضان القوابل الظاهرة.
(وانتهاؤه) بفيضان الأرواح المكملة لتلك القوابل، ( وإليه يرجع الأمر كله) أي: إلى تجليه يرجع فيضان الوجود على الأرواح، وقوابلها حال البقاء.
(كما ابتدأ ) الفيضان أول زمان حدوثها (منه)، وإذا كان العالم كالشبح المسوى بلا روح فكان كمرآة غير مجلوة، وكل شبح مسوي كمرآة غير قابل للروح بالجلاء. (فاقتضى الأمر) الإلهي، وهو الجود المفيض على كل مستحق حقه، وقد استحق العالم الروح المدبر فيه الذي يحصل به جلاؤه (جلاء مرآة العالم) بفيضان الروح المدير لمجموعه، وهو الإنسان الكامل النازل من العالم منزلة المصقل للمرآة.
(فكان آدم عين جلاء تلك المرآة) بتدبيره إياها تدبير المصقل للمرأة في تكميل نظامها، (وروح تلك الصورة) الحافظ لها.
ولذلك إذا خرج الإنسان الكامل من الدنيا خربت خراب الميت على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، كيف وهو المقصود من وجودها كالروح من وجود البدن لما فيه من الجمعية المطلوبة للحق تعالى في الظهور.
ثم استشعر سؤالا: وهو أنه لم لا تكون الملائكة هي الأرواح المدبرة لكل العالم، مع أن روحانيتها أعظم وأقوى من روحانية الإنسان فلا يكون العالم قبل آدم كشبح مسوي بلا روح، ولا كمرآة غير مجلوة مع وجودها؟
فأجاب بقوله: (وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة)، يعني أن الملائكة ليست هي الأرواح المدبرة لكل العالم من كل الوجوه.
بل لكل منهم مقام معلوم أي: تصرف خاص في جزء من أجزاء العالم أو في كله على وجه خاص فأشبهوا القوى الحيوانية. في الاختصاص بالمقام المعلوم، فهم بعض قوى تلك الصورة الكلية للعالم، وإن كانت أرواحا لبعض أجزائه ثم بين الصورة بقوله: (التي هي صورة العالم) لئلا يتوهم أن المراد: صورة آدم، وأن الملائكة بعض قواها.
"" كشبح مسوي بلا روح أي: المنزه عن الجعل والتأثير؛ وذلك لأن المراتب كلها إلهية بالأصالة، وظهرت أحكامها باقتضاء ذاتي، فالأمر قبول ذاتي، وحصول استعدادي، وظهور، وبروز له تعالى لذاته بذاته لا غير. وقبول هذا لازم لفهم سريان النور الأزلي والفيض الألهي الساري في الوجود كله، فافهم.
أن هذه المسألة من أساس معارف الشيخ رضى الله عنه  ولا تغفل عنها، ولا تأخذ عنها بدلا فإنها كشف أوسع الكشوف، وإن اعترضوا علينا بذكر هذه المسألة، فليس بأقل منع جرى على طلل، "وأن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم"، والله المستعان، فافهم.""
ثم أشار إلى أن الصورة الكلية للعالم أيضا تحتاج إلى القوى كالإنسان بقوله: (المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير) ؛ لشموله على ما في الإنسان مع التفصيل والإنسان عالم صغير؛ لشموله على ما في العالم الإجمال، والمفصل أكبر من المجمل لاعتبار الكثرة في أجزائه.
وفيه إشارة إلى أن الإنسان الكامل يتصرف في كل العالم كأنه بدنه كما يتصرف كل إنسان في بدنه الخاص لكن تصرفه في بدنه بقوی بدنه، وتصرفه في العالم بواسطة الملائكة.
فلذلك قال: (فكانت الملائكة) التي هي قوى العالم له أي: للإنسان الكامل المتصرف في كل العالم (كالقوى الروحانية)، وهي القوى العقلية المدركة للكليات، و كالقوى (الحسية التي هي النشأة الإنسانية) عند تصرف روحه في بدنه.
فأخذ الأنبياء العلوم من الملائكة كأخذها من قوى أبدانهم.
ويدل على أن تصرفهم في العالم بالملائكة انتصار نبينا صلى الله عليه وسلم بهم يوم بدر.
ثم أشار إلى أن الملائكة، وإن كانت كالقوى؛ فإنها تتوهم أنها كالأرواح الكلية مع الرد عليهم بأن دعوتهم الكمال لأنفسهم مثل دعوى القوى الإنسانية إياه لأنفسها، فقال:(وكل قوة) منها أي: من قوى العالم والإنسان (محجوبة بنفسها) ترى الكمال لأنفسها وأفعالها من الإدراكات، وغيرها (لا ترى أفضل من ذاتها).
ولذلك اعترضت الملائكة على آدم، ولا ينقاد الوهم للعقل، ولا العقل للوهم، و«إن» بالكسر على أن الجملة حالية، وبالفتح على أنه عطف على قوله: "بنفسها"
أي: ومحجوبة (بأن فيها) أي: في تلك القوى فيما تزعم «ما» مصدرية، والجار والمجرور متعلق بقوله: «فیها».
(الأهلية لكل منصب عال) كالخلافة، والتصرف في كل العالم.
(ومنزلة رفيعة عند الله) من تحصيل المعارف الإلهية على الكمال مع العبادة التامة (لما) هو متعلق بقوله: «محجوبة» أي: بقوله لا ترى أي: بقوله تزعم (عندها) أي: في أنفسها أو قوابلها (من الجمعية الإلهية) أي: من جمع الله تعالی فيها.
(بين ما يرجع من ذلك) أي: مما عندها (إلى الجناب الإلهي) أي: عالم الأسماء باعتبار ظهورها في ذلك، وبين ما يرجع (إلى جانب حقيقة الحقائق) عالم الإمكان المشتمل على حقائق الممكنات، وهذا يعم كل قوة في العالم أو الإنسان.
ثم أشار إلى ما يختص بالقوى الإنسانية؛ فقال: وبين ما يرجع (في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف) أي: في نشأة الإنسان الحاملة الأهلية كل منصب عال، ومنزلة رفيعة، ذكر ذلك مبالغة في التعجب من احتجاجها بأنفسها مع كونها في هذه النشأة (إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية)؛ فإن هذه القوى الروحانية في الإنسان، إنما حصلت من امتزاج الطبائع العنصرية، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والفلكية فيه.
فلذلك قيد الطبيعة بالكلية، ثم صرح بقوله: (التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه وأسفله)، وهذا هو الذي أكد احتجابها إذ بذلك نظرت أنها جامعة للأسرار الإلهية والكونية لكنه غلط إذا لو تم جمعها التم تصرفها في العالم كتصرف روح الإنسان الكامل فيه.
"" قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات المكية باب السادس والمائتين  : أما أنوار الطبيعة فهي أنوار يكشف بها صاحبها ما تعطيه الطبيعة من الصور في الهباء وما تعطيه من الصور في الصورة العامة التي هي صورة الجسم الكل وهذه الأنوار إذا حصلت على الكمال تعلق علم صاحبها بما لا يتناهى وهو عزيز الوقوع عندنا وأما عند غيرنا فهو ممنوع الوقوع عقلا حتى إن ذلك في الإله مختلف فيه عندهم وما رأينا أحدا حصل له على الكمال ولا سمعنا عنه ولا حصل لنا وإن ادعاها إنسان فهي دعوى لا يقوم عليها دليل أصلا مع إمكان حصول ذلك وأنوار الطبيعة مندرجة في كل ما سوى الحق وهي نفس الرحمن الذي نفس الله به عن الأسماء الإلهية وأدرجها الله في الأفلاك والأركان وما يتولد من الأشخاص إلى ما لا يتناهى.""
قال رضى الله عنه : (وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكري، بل هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه.
فسمي هذا المذكور إنساناً و خليفة، فأما إنسانيته فلعموم نشأته و حصره الحقائق كلّها.
وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر، و هو المعبَّر عنه بالبصر. فلهذا سمي إنساناً فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم.
فهو الإنسان الحادث الأزلي و النشء الدائم الأبدي، و الكلمة الفاصلة الجامعة ، قيام العالم بوجوده، فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم، و هو محل النقش و العلامة التي بها يختم بها الملك على خزانته.
وسماه خليفة من أجل هذا، لأنه تعالى الحافظ به خلقَه كما يحفظ الختم الخزائن.
فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه فاستخلفه في حفظ الملك فلا يزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل.
أَلَا تراه إذا زال و فُكَّ من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها و خرج ما كان فيها و التحق بعضه ببعض، و انتقل الأمر إلى الآخرة فكان خَتْماً على خزانة الآخرة ختماً أبديّاً ؟
فظهر جميع ما في الصور الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، وبه قامت الحجة للَّه تعالى على الملائكة.
فتحفَّظْ فقد وعظك اللَّه بغيرك، سأنظر من أين أُتي على من أُتي عليه.)
ثم أشار إلى أنه لا يمكن إقامة البرهان العقلي على رجوع بعض ما عندها إلى الجناب الإلهي، وبعضه إلى جانب حقيقة الحقائق، وبعضه إلى الطبيعة الكلية.
فقال: (وهذا لا يعرفه عقل)، وإن كان لا ينكره أيضا (بطریق نظر فكري) بترتيب المقدمات (بل هذا الفن من الإدراك) أي: إدراك مرجع الموجودات من الحضرات المذكورة (لا يكون إلا عن كشف إلهي) بأن ترفع حجب القلب بتصقيله، فيجاري به المبادئ العالية المنتقشة بالعلوم بل العلم الأزلي .
(منه يعرف ما أصل صور العالم) أي: مرجعها من الحضرات المذكورة (القابلة) تلك الصور (لأرواحه) أي: أرواح العالم الكبير والصغير من النفوس السماوية والمعدنية والنباتية والحيوانية والإنسانية وقواها.
ووصف الصور بذلك يشير إلى أنه كان الواجب على القوى أن تنظر في الصور القابلة أن لها أيضا هذه الجمعية مع أنها ليست مقصودة بذاتها بل بأرواحها، فلا يكون لها فضل بل هذه القوى باعتبار هذه الجمعية غايتها أن تساوي تلك الصور، فافهم؛ فإنه مزلة للقدم.
وإذا كان جمعية ما سوى آدم وأولاده قاصرة، وإن بلغوا من العظمة ما بلغوا، ولا بد من الجمعية الكاملة فكانت لآدم وأولاده، (فسمي هذا المذكور) أي: آدم
(إنسانا وخليفة فأما إنسانيته) أي: كونه مسمى بالإنسان (فلعموم نشأته) أي: شمول خلقته ظهورات الأسماء والصفات الإلهية، (وحصره الحقائق) أي: أسرار سائر الموجودات فهو مؤنس لهما، ولما تم فيه معنى الأنس اشتق منه صيغة المبالغة، وهي الإنسان.
وأيضا لتسميته إنسانا وجه آخر، (وهو) أنه (للحق بمنزلة إنسان العين من العين) أي: بمنزلة البصر للحق، فإن إنسان العين: هو (الذي يكون به النظر) أي: إدراك المبصرات للعين (وهو) أي: الذي يكون به للعين النظر، (والمعبر عنه بالبصر) الذي هو القوة المدركة للمبصرات، وهو إنسان العين.
فلهذا أي: فلوجود هذا المعنى في الإنسان من حيث إنه مقصود بالذات من خلق العالم.
" اعلم أنه ليس المراد أن الواجب في حقه تعالی جسم له عين، وأن آدم إنسانها، فإنه لا يقوله عاقل فضلا عن عارف، وإنما أراد الله بحكمته عبدا إنسانا كاملا يكون خليفة له سبحانه لتصريف وإدارة بعض أمور الكون التي سوف يستخلفه عليها,وأما كونه سبحانه وتعالى في عالم القدم يرى الأشياء قبل  ظهورها؛ فهذا منه؛ لأنه من عالم القدم حيث هذا يكون لآدم حال كونه صورة مخزونة في العلم الإلهي، وليس هذا له حال كونه جسما عنصريا."
وفي تقديم الجار والمجرور، وإعادة لفظ «سمي» إشارة إلى أن هذا الوجه الكامل الذي لا ينبغي أن يعتبر معه غيره سمي إنسائا كأنه هو بصر الحق بعينه، (فإنه به نظر الحق إلى خلقه)؛ لأن خلقه من مقدماته أو متمماته (فرحمهم) ليوقف ذاته أو كماله عليهم .
فالإنسان: هو العلة الغائية من إيجادهم، وإذا كان هو العلة الغائية (فهو الإنسان الحادث الأزلي) إذ العلة الغائية متأخرة في الواقع عن سائر العلل متقدمة عليها في ذهن الفاعل كالجلوس على السرير متقدم في ذهن النجار على سائر علل السرير، ومتأخر عن تمامه في الواقع.
فالإنسان من حيث تأخره في الواقع عن سائر الموجودات حادث قريب الحدوث، ومن حيث تقدمه في العلم الإلهي رتبة عليها أقدم منها. "اعلم أنه لا إشكال في هذا ولا كفر، ولا زلل ولا خلل.
أما أزلية هذا الإنسان : فباعتبار صورة حقيقته العلمية فى أراده الله خلقه وإيجاده ليكون خليفته ويدير ما يوكله اليه  .
وأما حدوثه : فباعتبار وقت خلقه وإظهاره إلى العالم المحسوس عالم الشهود .
فلا زلل ولا خلل في قوله: الحادث الأزل فهو الحادث بخلقه وإظهاره الأزل فى علم الله سبحانه."
(والنشؤ الدائم الأبدي)؛ لأن الحكيم إذا ظفر بمطلوبه بعد ترتیب مقدمات كثيرة لا يعدمه بالكلية.
بل غاية ما يفعل به أن ينقله من مقام إلى آخر، (والكلمة الفاصلة الجامعة)، فإنه من حيث جمعيته الأسرار الإلهية والكونية أشبه الكلمة في جمعها للحروف.
ومن حيث إنه مقصود بالذات انفصل عما عداه مع أنه جمع مقاصد كل ما عداه فصارت فاصلة جامعة.
وإذا كان هو المقصود من خلق العالم وروحه، (فتم العالم لوجوده)، إذ ما ليس بمقصود بالذات لا يتم بدونه، وكذا الجسم لا يتم بدون الروح.
وإذا كان تمام العالم به (فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم) به يتم الخاتم، وإذا كان كفص الخاتم، وفص الخاتم محل النقش (الذي) به يعلم الملك ما يختم من خزائنه.
(فهو) أي: الإنسان (محل النقش والعلامة) أي: محل النقش صورة الجمعية الإلهية التي يعلم بها ما يختم من خزائن العالم المملوء بصور أسمائه الحسنى كما أن فص الخاتم الملك محل العلامة (التي بها يختم الملك على خزائنه) ليحفظها.
وكذلك الحق حفظ بعلامة نقش جمعيته خزائن العالم.
(وسماه) أي: المذكور وهو آدم (خليفة من أجل هذا) أي: من أجل حفظه الخزائن العالم مع احتجاب الحق عنها كحفظ الحق إياها بدون الحجاب، وهذا هو فعل الخليفة في حفظ المدينة عند غيبة الملك عنها.
وإليه الإشارة بقوله: (لأنه) أي: المذكور، وهو آدم (الحافظ به خلقه) الذي هو صدر تجليات أسمائه بكونه مقصودا منها، وهو يحتاج إليها من حيث إنها مقدماته أو متمماته .
(كما يحفظ الختم) أي: ختم الملك بنقش فص خاتمه (الخزائن) لا من حيث إنه ختم بل من حيث إنه قائم مقام حضور الملك .
(فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها)، لإخراج ما فيها من المخزونات (إلا بإذنه).
فكذلك ما دام ختم الحق على خزائن العالم لا يجسر أحد من الأسماء القهرية، ومظاهرها على فتح خزائن العالم لإخراج ما فيه إلا بإذن الاسم الأعظم الذي هو رب الإنسان الكامل.
فلما كان له استعداد الختم على خزائن العالم (فاستخلفه في حفظ العالم) بتدبيره إياه بما تحقق به من حقائق الأسماء الإلهية اللطيفة.
(فلا يزال العالم) الدنيوي (محفوظا) عن الهلاك الكلى، (ما دام فيه هذا الإنسان) الذي هو ختم على خزائن عالم الدنيا.
""فكما أن الفص محل النقش، كذلك الإنسان الكامل محل ظهور صور الأسماء الإلهية، وكما أن في الفص علامة تدل على صاحب الخاتم، كذلك العالم بمنزلة الخاتم، وفصه الإنسان الكامل، وفيه علامة تدل على الحق تعالی؛ لظهور جميع أسمائه فيه الدالة عليه.""
وقد ورد"لا تقوم الساعة ما دام يقال في الأرض: الله الله".  وهو اسم الذات المستجمع جميع الصفات فلا ينطق به على ما هو عليه إلا الإنسان (الكامل) بقدر الطاقة البشرية.
ثم استدل على أن حفظ العالم بسببه بقوله: (ألا تراه) أي: الإنسان الكامل (إذا زال) عن عالم الدنيا (وفك) ختمه (من خزانة الدنيا، لم يبق فيها ما اختزنه الحق تعالی فيها)؛ التجاسر الأسماء القهرية ومظاهرها على فتحها (وإخراج ما فيها) إلى العدم، أو إلى البرزخ، أو الأخرة .
(والتحق بعضه ببعضه) في الخروج فانشقت السماء، وطمست الكواكب، وسجرت البحار، وبست الجبال، ودكت الأرض، وصعقت، الحيوانات، (وانتقل الأمر) أي: أمر التجلي الإلهي على سبيل الجمعية والتفرقة جميعا (إلى الآخرة)؛ بسبب انتقال الإنسان الكامل إليها، فكان الإنسان هو (ختما على خزانة الآخرة) ليحفظها (ختما أبدا) لعدم انتقاله إلى عالم وراءها.
ولما كان الإنسان محل نقش الجمعية الإلهية (فظهر جميع ما في الصورة الإلهية) من ظهوره (بأسمائه) في العالم على سبيل التفرقة اجتمعت (في هذه النشأة الإنسانية فحازت) هذه النشأة (رتبة الإحاطة) بأسرار الكائنات، (والجمع) لما تفرق من الأسماء الإلهية في العالم (بهذا الوجود) الذي هو صورة وجود الحق والخلق جميعا.
(وبه) أي: بكونه محيطا جامعا (قامت الحجة) أي: حجة (الحق على الملائكة) ، القائلين على نهج الاعتراض: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" البقرة :30.
"وعلم آدم الأسماء لها ثم عرضهم على الملائكة" البقرة: 31.
فألزمهم الحجة بجمعيته للأسماء الإلهية، والكونية بالوقوف على أسرارها وخواصها بعد تحققه بها.
ثم قال لهم بعد إلزام الحجة:" إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" [البقرة : 33].
وإذا كانت حجة الحق قائمة على كل من نازعه، وإن بلغ كالملائكة (فتحفظ) عن منازعته (فقد وعظك الله بغيرك) بإقامة الحجة على غيرك، وتوبيخه إياه.
وكذا تحفظ عن مخالفته، فقد وعظك الله بما فعل بغيرك، وهو إبليس وأتباعه، (وانظر من أين أتي) بالهلاك الكلي (على من أتي عليه)، وهو إبليس حيث خالف أمرا من أوامره فأحبط عليه عمل ثمانين ألف سنة لحق به بالملائكة فأخرج عن الملائكة إلى حيث صار مقدم الأشقياء وقدوتهم.
قال رضى الله عنه : (فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة، و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية، فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته، و ليس للملائكة جمعية آدم، و لا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها، و سبحت الحق بها و قدسته،
وما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها، فما سبحته بها و لا قدسته تقديس آدم.
فغلب عليها ما ذكرناه، وحكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة: «أتجعل فيها من يفسد فيها»؟
وليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم.
فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق.
فلولا أن نشأتهم تعطي ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه وهم لا يشعرون.
فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، و لو علموا لعصموا.
ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التسبيح والتقديس.
و عند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة عليها، فما سبحت ربها بها و لا قدسته عنها تقديس آدم و تسبيحه.
فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده ونتعلم الأدب مع الله تعالى فلا ندعي ما نحن متحققون به وحاوون عليه بالتقييد، فكيف أن نطلق في الدعوى فنعم بها ما ليس لنا بحال ولا نحن منه على علم فنفتضح؟
فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء.
ثم نرجع إلى الحكمة فنقول: اعلم أن الأمور الكلية و إن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة- لا تزال- عن الوجود العيني.)
ثم أشار إلى إن نزاع الحق و مخالفته إنما ينشأن عن الجهل بأسراره في أفعاله وأحكامه؛ فقال: (وإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة) من إحاطته بأسرار الخلق وجمعه ما تفرق من ظهورات أسماء الحق.
(ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية) التي تقتضيها جمعية الذات للأسماء، وهي لا تتأتى إلا من المظهر الجامع الأسرارها، وكيف تقف الملائكة على ذلك؟!
(فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته) أي: مسلم أدرك مثاله من ذاته أي: ما تمثل من الغير في ذاته.
(وليس للملائكة جمعية آدم) فتدركها من ذواتهم، (ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها) أي: نشأة آدم إذ لم توجد تلك الأسماء قبل آدم في غيره حتى تتمثل في إدراكات الملائكة، وما عبدت الملائكة الحق بتلك الأسماء المخصوصة فضلا عن العبادة الذاتية، إذ ما (سبحت الحق بها، وقدسته) .
"أي ما وقفت مع الأسماء التنزيهية المخصوصة بهم أيضا؛ لأنها لو وقفت ما اعترضت. أنهم وقفوا مع مقتضى ذواتهم، ولم يقفوا مع مقتضى ذات الخليفة، ولا مقتضى عبادتهم الذاتية إلإلهية؛ لعدم وقوفهم، واطلاعهم بالذاتیات وذلك لعدم علمهم بذات الحق تعالى، فافهم."

ثم أشار إلى أن جهلهم كان مركبا فقال: (وما علمت) الملائكة (أن الله أسماء ما وصل علمها إليها) أي: إلى تلك الأسماء (فما سبحته) أي: الملائكة الحق (بها) أي: بذكر تلك الأسماء (ولا قدسته) بل كانوا يظنون أنهم أحاطوا علما بأسمائه، وسبحوه بكل اسم وقدسوه به، ولذلك أطلقوا في دعوى التسبيح والتقديس (فغلب عليها) أي: على الملائكة (ما ذكرناه) أي: لا من كون كل منهم محجوبا بنفسه.
(وحكم عليها هذا الحال) أي: الجهل المركب الموجب لظن احاطتهم بالأسماء الإلهية، وبما في الأكوان من أسراره مع جهلهم لجمعية آدم، واختصاصه ببعض الأسماء الإلهية.
وهي التي لم يصل علمهم إليها بل رأوه قاصرا عن تجلي الأسماء الإلهية التي تجلت فيهم، فقالت: (من حيث النشأة ) الجسمانية لأدم المشتملة على العناصر المتقابلة الطبائع التي بها الكون، والفساد المشتملة على الشهوة والغضب بما فيها من الهواء والنار ("أتجعل فيها") أي: في الأرض ("من يفسد فيها") بطلب شهواته، ويسفك الدماء بثوران غضبه.
ثم زاد عليهم الشيخ فه بقوله: (وليس) أي: فساد آدم وأولاده (إلا النزاع) مع الحق بالاعتراض عليه فيما لا تبلغه عقولهم، والسخط بقضائه فيما لا يوافق طباعهم، ومخالفة أوامره ونواهيه.
(وهو) أي: النزاع المعبر عنه بالفساد فيه قول الملائكة الذين طعنوا به في حق آدم (عين) أي: مثل (ما وقع منهم) مع الحق حيث اعترضوا عليه، وإذا كان طعنهم في آدم نزاعا مع الحق، وهم سابقون على أدم في ذلك.
(فما قالوه في حق آدم) من الفساد (هو عين ما هم فيه) الآن من النزاع (مع الحق) سابقون على أدم فيه، فهم أولى بذلك الطعن.
ثم إنهم لما طعنوا في أدم بما رأوا فيه من مبدأ الفساد، وقد سبقوه في استحقاق ذلك الطعن، وهو حادث لا بد له من سبب هو مبدؤه فلا بد فيهم من مبدأ الفساد أيضا، وهو الجهل المركب والحجاب المذكوران.
(فلولا أن نشأتهم تعطي ذلك) النزاع مع الحق (ما قالوا في آدم ما قالوه) ، من نسبة الفساد إليه مع أن النزاع مع الحق أعظم أنواعه (وهم لا يشعرون).
أن ما طعنوا في حق آدم نزاع مع الحق، ولا أنه فساد ناشئ من نشأتهم؛ فهذا جهل آخر مركب فيهم (فلو عرفوا نفوسهم لعلموا) ما في نشأتها من الجهل، والحجاب اللذين هما من مبادئ الفساد؛ فلذلك وقع منهم النزاع مع الحق، والدليل على ذلك: أنهم (لو علموا) أن الفساد الذي طعنوا به في حق آدم غير ما هم فيه "ما هم عليه وفيه الآن بالطعن والنزاع مع الحق سبحانه في آدم " (لعصموا) عن هذا الطعن، وسلموا عن النزاع مع الحق الذي هو أعظم أنواع الفساد.
(ثم) أي: بعدما ذكرنا ما فيهم من الجهل المركب والحجاب والنزاع مع الحق؛ ففيهم جهل آخر مركب أشد منه، وفساد آخر: وهو أنهم (لم يقفوا) أي: لم يقتصروا (مع التجريح) أي: تجريح آدم بنسبة الفساد إليه مع أنه عين ما هم فيه (حتى زادوا في الدعوى) أي: دعوى الكمال المطلق لأنفسهم (بما هم) أي: بسبب ما هم (عليه من التسبيح والتقديس)، فقالوا: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" [البقرة:30].
فأطلقوا كأنهم يحيطون بوجوه التسبيح والتقديس.
ولم تتم لهم هذه الدعوى إذ (عند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة تقف عليها فما سبحت ربها) أي: بذكرها والعمل بمقتضاها، (ولا قدسته) تقديسا صادرا عنها أي: عن معرفتها (تقدیس آدم وتسبيحه)؛ فهو المسبح المقدس على الكمال والإطلاق دونهم، وإذا كان حال المعترض على الحق والمنازع له هكذا.
(فوصف) أي: بين (الحق لنا) أي: لوعظنا واعتبرنا (ما جرى) بينه وبين ملائكته مع إلزامه إياهم حجته البالغة (لنقف عنده) بالتأمل فيه، ونعتبر بذلك نزاعنا مع الحق في مخالفة أوامره ونواهيه "والجدل مع الحق بما نعلمه"، (ونتعلم الأدب مع الله تعالی)؛ فلا نعترض عليه في شيء من أفعاله وأحكامه، ولا نجرح أحدا من عباده بذكر نقصه مع دعوى الكمال لأنفسنا.
(فلا ندعي ما نحن متحققون به وحاوون عليه) دعوى مقرونة (بالتقييد) بمقدار ما تحققنا به وحوينا عليه مخافة تعدي الدعوى إلى ما وراءه .
(فكيف) يسوغ لنا (أن نطلق في الدعوى فنعم بها) أي: بتلك الدعوى إثبات (ما ليس لنا بحال) من الكمال، (ولا نحن منه على علم) فضلا عن الحال (فنفتضح؟) كما افتضحت الملائكة بتلك الدعوى بذكرها في الكتاب الذي لا يزال الجمهور يتلوه في الأمصار والأغوار إلى يوم القيامة.
(فهذا) أي: بيان ما جرى بينه وبين الملائكة: هو (التعريف الإلهي) لما تقتضيه حضرة الحق من الأدب (مما أدب الحق به عباده العلماء) لئلا يدعوا ما وراء علمهم.
(الأمناء) لئلا يخونوا في أوامره ونواهيه وسائر أحكامه (الخلفاء) لئلا ينقضوا عهوده ومواثيقه في إقامة حدوده وأحكامه.
فإن قيل: هذا يشعر بعدم عصمة الملائكة، وقد دلت النصوص مثل: "لا يسبقونه بالقول وهم بأمره  يعملون" [الأنبياء: 27]، "لا يعون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " [التحريم: 6]، ولولا عصمتهم فلا ثقة بهم فيما يأتون به من الوحي.
قلنا: النصوص العامة قابلة للتخصيص، فيجوز أن يخصص بما ورد منهم في حق آدم عليه السلام ، ولا يدل على عصمتهم عن ذنب لا يعلمون أنه ذنب، والوثوق إنما يزول إذا صدر عنهم ذنب بعد علمهم بكونه ذنبا، ولكنهم يعاتبون على ذلك لئلا يتجاسروا في الأمور، وقد جوز المحققون السهو على الأنبياء مع أنهم يعاتبون عليها؛ فلنجوز مثل ذلك على الملائكة؛ فافهم.

(ثم) أي: بعد بيان ما جرى بين الله تعالى، وبين الملائكة من شأن آدم عليه السلام (نرجع إلى الحكمة) أي: بيان العلم اليقيني المتعلق بكيفية ظهور الحق بأسمائه وصفاته في العالم الكبير والصغير بعد تقديم مقدمة البيان ارتباط كل منهما بالآخر بعد بيان ارتباط الأمور الموجودة بالمعقولة، وكون كل منهما ظاهرا في الآخر.
(فنقول: اعلم أن الأمور الكلية) كالإنسان والحياة والعلم، (وإن لم يكن لها) باعتبار تقيدها بالكلية (وجود في عينها) أي: في الواقع (فهي معقولة) أي: موجودة في العقل؛ لأنها
(معلومة بلا شك في الذهن)، وإن تشكك نفاة الوجود الذهني في ذلك بناء على أن العلم إضافة للعالم إلى المعلوم عندهم لا حصول صورة الشيء في العقل؛ فهي من حيث (هي) كلية معقولة (باطنه لا تزل عن الوجود الغيبي) بالغين المعجمة، والباء الموحدة.
قال رضى الله عنه : (ولها الحكم و الأثر في كل ما له وجود عيني، بل هو عينها لا غيرها أعني أعيان الموجودات العينية، و لم تزل عن كونها معقولة في نفسها.
فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتها.
فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل، ولا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به عن أن تكون معقولة.
وسواء كان ذلك الوجود العيني مؤقتا أو غير مؤقت، نسبة المؤقت و غير المؤقت إلى هذا الأمر الكلي المعقول نسبة واحدة.)
ثم أشار إلى أنها وإن كانت معقولات صرفة وباطنة؛ فلها جهة ظهور وارتباط بالموجودات العينية، فقال: (ولها الحكم) على كل ما له وجود عيني كزيد وعلمه وحياته.
فيقال: إنه إنسان وعلم وحياة، ولها (الأثر) أيضا (في كل ما له وجود عيني) كأن يقال: زيد عالم؛ لأن علمه جعله عالما، فقد ظهر الأمر الكلي لا بقيد الكلية في الوجود العيني، وأثر فيه أيضا، ثم بالغ في بيان ذلك الظهور.
فقال: (بل هو) الأمر الكلي لا بقيد الكلية بل باعتبار أنه طبيعة من الطبائع أي: حقيقة من الحقائق (عينها لا غيرها)، فإن الإنسانية عين زيد، وإن العلم عين علم زيد، وإن لم يكن زيد وعلمه عين الإنسانية الكلية، والعلم الكلی.
فلذا قال: (أعني أعيان الموجودات الغيبية) لئلا يتوهم أن المرادات الموجود الغيبي عين الأمور الكلية هذا وجه ظهورها مع أن لها بطونا أيضا.
وذلك أنها مع ظهورها (لم تزل عن كونها مصقولة في نفسها) من حيث هي كلية فاجتمع فيها الظهور والبطون باعتبارین :
اعتبار قيد الكلية.
واعتبار أنها طبيعة من الطبائع.
(فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات) حيث اعتبر فيها أنها طبيعة من الطبائع (كما هي الباطنة من حيث معقوليتها)، حيث اعتبر فيها قيد الكلية.
فلما جاز البطون والظهور على الأمور التي لا وجود لها في الخارج أصلا أو مستقلا بل جاز اتحادها بالموجودات الخارجية؛ ففي الأمر المحقق المستقل أولى، وإذا كان (لهذه الأمور الكلية) أثر في الموجودات العينية، (فاستناد كل موجود عيني) لا باعتبار تحققها في أنفسها بل باعتبار أنها (التي لا يمكن رفعها عن العقل).
فالوجود العقلي بها صار سبا لاستناد غيرها إليها، وإذا كان الوجود العقلي صالحا لسبية استناد الأمور الموجودة إليها فاستناد بعض الموجودات إلى بعض كان بطريق الأولى.
ثم أشار إلى أن الاستناد إليها في تحقق الموجودات العينية؛ فإن ذلك الاستناد إنما يتصور إلى الموجود الخارجي.
فقال: وهذه الأمور الكلية (لا يمكن وجودها في العين)، وإن كانت عين الموجودات العينية من وجه، ولها الأثر فيها (وجودا تزول به عن أن تكون معقولة) فالاستناد إليها لا يكفي في التحقيق الخارجي، وإنما هو استناد الموجود إلى الوجود.
ثم أشار إلى أن الأمور المعقولة، وإن لم تزل عن كونها معقولة موجودة في العقل أزلا وأبدا فنسبة الحوادث وغيرها إليها سواء.
ليتوسل ذلك إلى أن استناد الحوادث اليومية وغيرها إلى الواجب الأزلي على السوية لا كما يقوله الفلاسفة من استناد الحوادث اليومية إلى الحركات السماوية.
فقال: (وسواء كان ذلك موجود العيني مؤقتا أو غير مؤقت)، فإنهما لا يتفاوتان بالنسبة إليه بل لكون نسبة غير المؤقت بلا واسطة، ونسبة الأخر: وهو المؤقت بواسطة أو وسائط، بل ( نسبة المؤقت) كالحوادث اليومية، (وغير المؤقت).
كما يقال: الله حي عالم (إلى هذا الأمر الكلي المعقول نسبة واحدة) قيد بالمعقول لئلا يتوهم أن المراد الكلي الطبيعي من حيث هو في ضمن الموجود الجزئي.
فإنه ليس مستندا للكل؛ بل لذلك الجزئي، وإنما كانت نسبة المؤقت وغير المؤقت إلى هذا الأمر الكلي نسبة واحدة؛ لأن استنادهما إليه ليس بطريق العلية حتى يلزم من أزلية العلة أزلية المعلول.
وهكذا ليس استناد الموجودات إلى الحق استناد إلى العلة بل علة وجود الحوادث تعلق إرادة الحق وقدرته بهم، وللاهتمام بيان أن استناد الكلي إلى الأمر الكلي على السوية قال: نسبة المؤقت وغير المؤقت بالإظهار مع الاستغناء عنه بالإضمار.
قال رضى الله عنه : (غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، كنسبة العلم إلى العالم، والحياة إلى الحي.
فالحياة حقيقة معقولة و العلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة، كما أن الحياة متميزة عنه.
ثم نقول في الحق تعالى إن له علما وحياة فهو الحي العالم.
ونقول في الملك إن له حياة وعلما فهو العالم والحي.
ونقول في الإنسان إن له حياة وعلما فهو الحي العالم.
وحقيقة العلم واحدة، وحقيقة الحياة واحدة، ونسبتها إلى العالم والحي نسبة واحدة.
ونقول في علم الحق إنه قديم، و في علم الإنسان إنه محدث.
فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة،)
ثم أشار إلى أنها، وإن كان لها الحكم، والأثر في كل ما له وجود عيني، فلكل ما له وجود حكم.
وأثر في الأمر الكلي أيضا؛ ليتوسل بذلك إلى أن للأعيان الثابتة للموجودات أيضا حكما على الحق في حكمه عليها.
فقال: (غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه) أثر،(وحكم من الموجودات العينية بحسب ما تقتضيه حقائق تلك الموجودات العينية).
كما يقال: علم الله قديم، وعلم الملك والإنسان حادث فتم الارتباط من الجانبين، وصح ظهور كل منهما في الآخر بالحكم والأثر؛ فليقس على هذا ارتباط العالم والإنسان مع الحق من الجانبين.
وإنما لم يقل: حقائقها لئلا يتوهم عود الضمير إلى حقائق الأمور الكلية، ثم مثل أثر الأمور الكلية في الموجودات العينية باعتبار وجودها في الذهن مستد؟ عليه بتميزها، إذ لا تميز للمعدوم المطلق.
بقوله: (كنسبة العلم إلى العالم، والحياة إلى الحي) أورد مثالين ليميز بينهما حتى يتم استدلاله على وجودهما في الذهن.
وأشار إليه بقوله: (فالحياة حقيقة معقولة، والعلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة) بحقيقة العلم موجودة في الذهن.
(ثم نقول): لبيان استواء نسبة الموقت وغير المؤقت إلى حقيقة العلم والحياة (في الحق تعالی، إن له حياة، وعلما).
واستدل عليه بقوله: (فهو الحي العالم) ؛ وذلك لأن المشتق لا يصدق كما هي حياة متميزة عنه بحقيقتها أيضا موجودة في الذهن بدون المصدر.
(ونقول: في الملك إن له حياة، وعلما، فهو الحي العالم، ونقول في الإنسان: إن له حياة وعلما؛ فهو الحي العالم)
أعاد قوله: فهو الحي العالم، ليكون دليلا استقرائيا على أن كل حي عالم له حياة، وعلم نفيا لقول الفلاسفة والمعتزلة: أنه تعالى حي عالم بلا حياة وعلم.
ثم أشار إلى وحدة الحقيقة الكلية للحياة والعلم في حياة كل حي، وعلم كل عالم؛ ليتوسل بذلك إلى أن الوجود واحد ظهر في كل الموجودات، وأن نسبة الموجودات إليه نسبة واحدة.
فقال: (وحقيقة العلم) في الكل أي: في علم الحق والإنسان والملك حقيقة واحدة وحقيقة الحياة في الكل حقيقة (واحدة ونسبتها) أي: نسبة حقيقة العلم وحقيقة
الحياة (إلى العالم والحي)، أي: إلى علم كل عالم وحياة كل حي (نسبة واحدة) فلم تتغير وحدة الحقيقة الكلية بكثرة المظاهر، ولم تتكثر النسب بالنظر إلى الحقيقة الكلية، وإن تكثرت بالنظر إلى الموجودات.
(ونقول) لبيان رجوع الحكم والأثر من الموجودات العينية إلى المعقولات الكلية عند ظهورها فيها (في علم الحق إنه قديم، وفي علم الإنسان إنه محدث، فانظر ما أحدثته الإضافة) أي: إضافة العلم إلى الحق القديم والإنسان الحادث (من الحكم) بالقدم والحدوث (في هذه الحقيقة المعقولة).
التي ليس لها ذلك قبل ظهورها فيها، فكذلك ظهور الحق في مرتبة التعين الأول والثاني أوجب الحكم بالوجوب والقدم، وفي العالم والإنسان بالإمكان والحدوث لا في ذاته بل في صورته.
قال رضى الله عنه : (وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات و الموجودات العينية.
فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه عالم، حكم الموصوف به على العلم أنه حادث في حق الحادث، قديم في حق القديم.
فصار كل واحد محكوما به محكوما عليه.
ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم، كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني.
فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزي فإن ذلك محال عليها، فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص من هذا النوع الخاص لم تتفصل
ولم تتعدد بتعدد الأشخاص ولا برحت معقولة.
وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني وبين من ليس له وجود عيني قد ثبت، وهي نسب عدمية، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنه على كل حال بينها جامع- وهو الوجود العيني- وهناك فما ثم جامع.
وقد وجد الارتباط بعدم الجامع فبالجامع أقوى وأحق.)
(وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات) من الأمور الكلية، وبين الموجودات العينية برجوع حكم كل منها إلى الآخر، (فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه)(علم حكم الموصوف به) ، وهو الموجود العيني الذي قام به العلم (على العلم بأنه حادث في حق ) الموصوف (الحادث) كالإنسان (قديم في حق القديم)، وهو الله تعالی.
فصار كل واحد من العلم والموصوف به (محكوم به، ومحكوما عليه) فكذلك الحق مع الأعيان بحكم الحق عليها بما علم منها، وهي تحكم عليه بأن يحكم عليها بما علم منها بلسان الاستعداد الذي مخالفته توجب مخالفة الحكمة ويخل بالوجود الإلهي.
ثم أشار إلى ما يدل على أن نزاهة الحق ووحدته لا تبطلان بالظهور في الحوادث الكثيرة، كما لا تبطل نزاهة الأمور الكلية و وحدتها بانتسابها إلى الموجودات العينية فقال: (ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة) أي: موجودة في العقل (فإنها معدومة العين) لكنها مع عدميتها في العين (موجودة الحكم) في الموجودات العينية، (كما هي محكوم عليها) من جهة الموجودات العينية.
(إذا نسبت إلى الموجود العيني فتقبل) الأمور الكلية (الحكم) الخارجي (في الأعيان الموجودة) بأنها قديمة أو حادثة مع نزاهتها عن ذلك في أنفسها.
فكذلك الحق بحسب ظهوره يقبل أحكام المظاهر مع تنزيهه عن كونه محلا للأحكام الحادثة، (ولا تقبل) تلك الأمور الكلية (التفصيل) أي: التكثر بالإفراد إذ لا وجود للأمور الكلية من حيث هي كلية في ضمن الجزئيات، وإنما الموجود منها في الجزئيات الطبيعة من حيث هي، (ولا تقبل) تلك الأمور الكلية (التجزئ) أيضا أي: التكثر بالأجزاء، (فإن كل ذلك محال عليها) أما التفصيل فلما ذكرنا، وأما التجزئ فلوحدتها وبساطتها على أنها منزهة عن الأحكام الخارجية.
فإنها لا تلحق من حيث هي خارجية الأمور المعقولة من حيث هي معقولة، وإن كانت الأمور المعقولة موجودة في الموجودات العينية بحيث إنها طبائع، فإنها أيضا لا تتجزئ .
(فإنها بذاتها) أي: باعتبار كونها طبائع (في كل موصوف بها) لا بطريق التجزئ، ولا بطريق التفصيل (كالإنسانية)، فإنها (في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص) الإنساني (لم تتفصل) بالإفراد والأجزاء، وإلا لم يصدق على أحد منها أنه إنسان بل إن فيه شيئا من الإنسانية.
ولذلك (لم تتعدد) الإنسانية من حيث هي كلية (بتعدد الأشخاص) حتى يقال: بأن في كل شخص لحصة من الإنسانية الكلية، فإن ذلك باطل؛ لأنها من حيث أنها كلية لا توجد في الخارج، وذلك أنها (لا برحت معقولة)، وتعدد الأشخاص أمر خارجی، فهكذا تعلق الحق بالخلق لا يوجب تكثره بالإفراد، ولا بالأجزاء ولا يبطل نزاهته عن كونه محل الحوادث أو حالا فيها.
ثم بين الارتباط العام بين كل الموجودات؛ ليتوصل بذلك إلى المقصود وهو الارتباط بين الحق والخلق؛ فقال: (وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني، وبين من ليس له وجود عینی قد ثبت) بظهور كل منهما في الآخر، ثم استشعر سواء لا بأنه كيف يتصور الارتباط بين الأمر العقلي والموجود العيني مع أن الارتباط امر وجودي؛ لأنه نقيض اللا ارتباط فقال: (وهي) الرابطة (نسبة عدمية) ، إما كونها نسبة؛ فلأنها تعلق عقلي محض، وإما أنها عدمية؛ فلأنها من باب الإضافات التي لا وجود لها سيما إذا كان أحد طرفيها عدميا، وكونها نقيض اللا ارتباط لا يقتضي وجودها في الخارج، بل غاية ذلك الوجود الذهني (فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل؛ لأنه) أي: الشأن
(على كل حال)، أي: سواء كان أحدهما علة للآخر أم لا، وسواء كان أحدهما الحق، والآخر الخلق أو كلاهما الخلق بينهما أي: بين كل موجودين (جامع) محقق يرتبط به أحدهما بالآخر (وهو) أي: ذلك الجامع هو (الوجود العيني) لاشتراكه بين كل موجودين.
(وهناك) أي: في الأمور المعقولة والموجودات العينية (فما ثمة) أي: بينهما (جامع) محقق (وقد وجد الارتباط) بين الأمور الكلية، والموجودات العينية بظهور حكم كل منهما، وأثره في الآخر (بعدم الجامع) المحقق بل بالنسبة العدمية والجامع أي: فوجود الارتباط في الموجودات العينية بعضها ببعض مع تحقق (الجامع أقوي وأحق)، وهذا هو الارتباط العام فيما بين كل موجودين.
قال رضى الله عنه : (ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه و افتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه. فوجوده من غيره، فهو مرتبط به ارتباط افتقار.
ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر، و هو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه.
ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به.
ولما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شي ء من اسم و صفة ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح في الحادث و إن كان واجب الوجود و لكن وجوبه بغيره لا بنفسه.)
ثم رجع إلى المقصود، وهو بيان الارتباط بين الحق والخلق، فقال: (ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه)؛ لأن المشتق لا يوجد بدون أصله، وكل ما ثبت حدوثه ثبت (افتقاره إلى محدث)؛ لأنه الذي أحدثه بأن أرجح وجوده على عدمه بعد استوائها بالنسبة إليه، (لإمكانه لنفسه) فلا تقتضي نفسه رجحان أحد فطرف الوجود، إنما يترجح بأمر وجودي يرجحه.
وطرف العدم إما بترجیحه إياه، أو بعدم ترجیحه طرف الوجود لا بنفسه، وإذا كان ذلك (فوجوده من غيره)، إذ لا يصح أن يكون الأمر المرجح طرف الوجود ذات الممكن، وإلا كان مرجحا لوجوده قبل وجوده؛ بل لم يكن حينئذ ذاته ذات الممكن؛ بل ذات الواجب.
(فهو) أي: فالمحدث (مرتبط به) أي: بذلك الغير الذي رجح طرف وجوده (ارتباط افتقار) أي: ارتباط هو افتقاره إليه في ترجيح طرف وجوده، فهذا هو الجامع المحقق الذي هو الرابط الخاص إما كونه جامعا؛ فلأنه الوجود العيني الذي في كل واحد منهما، وإما كونه الرابط الخاص، فلأن وجود أحدهما لما لم يكن نفسه لم يكن له بد من اكتسابه ممن له بذاته.
"هذا هو الواقع كما في الإلهيات كالعلم فإنه أمر نسبي، وآثاره وأحكامه ظاهرة في الخارج، فافهم
فإذا فهمت ما ذكرنا عرفت بلا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه فإذا ثبت حدوثه، ثبت افتقاره، وافتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه، فوجوده من غيره فهو مرتبط به ارتباط افتقار، ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته، غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر، فإذا ارتبط الأمران كما قلنا، فلا بد من جامع كما ذكرناه. "
فالحاصل أن الرابط هاهنا هو الوجود مع اعتبار عليه أخرى بين الوجوديين، وهو كون أحدهما مفتقرا، والآخر مفتقرا إليه، وإليه أشار بقوله: (ولا بد وأن يكون المستند إليه) أي: الذي استند إليه وجود المحدث بمعنى أنه حصل منه.
(واجب الوجود لذاته)، وإلا افتقر إلى غيره؛ فإن كان أيضا غير واجب افتقر إلى ثالث، وهلم جرا، فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى واجب الوجود لذاته، فإن ذلك بقطع التسلسل المحال؛ لأنه إذا كان واجب الوجود لذاته، كان (غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر) إلى غيره في وجوده وصفاته.
ثم أشار إلى إن واجب الوجود لذاته : هو الذي أفاد الوجود لكل موجود لا لواسطة، وإن لم يلزم التسلسل عند انتهاء الوسائط إلى الواجب بالذات، إذ هو الأولى بذلك لكماله ونقص غيره لإمكانه فغايته أن يكون سبا لإفاضة الواجب الوجود لا مبدأ بنفسه.
فقال: (وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث) قريبا كان أو بعيدا، (فانتسب) وجوده (إليه) لا إلى الواسطة المفتقرة إلى الغير، هذا وجه ارتباط المحدث بالواجب على النهج الخاص.
ثم أشار إلى وجه ارتباط الواجب بالمحدث بظهوره فيه، فقال: (ولما كان استناده) أي: الحادث (إلى من ظهر) الحادث (عنه لذاته) بلا واسطة أمر آخر حتى يقال : يحتمل أخذ صورة الواسطة المغايرة لصورة الأصل (اقتضى) استناده إليه لذاته (أن يكون) هذا الحادث (على صورته)؛ لأن صورة الفرع تابعة لصورة الأصل على ما هو العادة المشهورة.
فالحادث شارك الحق في الصورة الوجودية، ولوازمها مشاركة صورة الإنسان الظاهرة في المرأة للإنسان المجازي لها.
وليس المراد الاشتراك في الصورة الحسية بل المراد في الصورة المعنوية، وهو الاشتراك بينهما (فيما ينسب إليه) أي: إلى من ظهر عنه (من كل شيء من اسم) دال على الذات وحده، ومع صفة (وصفة ماعدا) الوصف الذي هو
(الوجوب الذاتي؛ فإن) ظهور (ذلك لا يصح في الحادث)؛ لأن لازمه هو الافتقار الذاتي ينافي هذا الوصف، (وإن كان) الحادث، إنما (واجب الوجود) من حيث إن موجده أوجب له الوجود، وإن وجوده ضروري حال كونه موجودا، وهي الضرورة المسماة بالضرورة لشرط المحمود (لكن وجوبه بغيره لا بنفسه)، فليس هذا الوجوب لوجود الحادث صورة للوجوب الذاتي الذي هو وصف الحق، بل غايته أنه صورة للوجوب من حيث أنه وجوب في الجملة.
قال رضى الله عنه : (ثم لتعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته، أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث وذكر أنه أرانا آياته فيه فاستدللنا بنا عليه.
فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوب الخاص الذاتي.
فلما علمناه بنا ومنا نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا.
وبذلك وردت الإخبارات الإلهية على ألسنة التراجم إلينا.
فوصف نفسه لنا بنا: فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا، و إذا شهدنا شهد نفسه.)
(ثم) أي: بعد العلم بالارتباط بين الحق والخلق من الجانبين أعني: افتقار الحادث إلى المحدث، وظهور المحدث بصورته المعنوية في الحادث؛ (ليعلم أنه لما كان الأمر) أي: أمر الارتباط من جانب الحق (علی ما قلناه من ظهوره) أي: الحق (بصورته المعنوية في الحادث.
(أحالنا تعالى في العلم به) أي: بذاته وصفاته (على النظر في الحادث)، فإنه يدل بذاته من حيث افتقاره إلى الواجب على ذات الواجب، وعلى صفاته التي بها تعلقه بالعالم.
ويدل أيضا بصفاته بحيث إنها مظاهر صفات الحق على صفاته كما دل بوجوده من حيث صورة وجوده الحق على وجوده، وذلك أنه (ذكر) في كتابه الكريم (أنه أرانا آیاته) أي: دلائل ذاته وصفاته (فيه) أي: في الحادث حيث قال: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" [فصلت: 53].
(فاستند بنا) أي: بذواتنا وصفاتنا من حيث حدوثنا، وكوننا على صورته (عليه) أي: على كل واحد من ذاته وصفاته، (وما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف) أي: مظاهره (إلا الوجوب الذاتي) فإنا وإن وصفنا الحق به فلسنا مظاهره لكونه الوصف (الخاص بالحق، وإن علمنا اختصاصه به من افتقارنا إليه مع استحالة التسلسل اللازم على تقدير عدم كونه واجبا بالذات.
(فلما علمناه بنا) أي: بما ظهر فينا من صفاته القابلة للظهور فينا (ومنا) أي: وعلمنا بعض أوصافه كوجوبه الذاتي من افتقارنا للزوم التسلسل على تقدير عدمه (نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا) إما بطريق الحقيقة.
وذلك فيما يليق به مما لا ينافي الوجوب الذاتي كالحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة والسمع والبصر، والكلام أو بطريق المجاز، إما بإرادة الغاية كالرضا والغضب، أو بوجه آخر كالجوع والعطش والمرض، وغير ذلك مما وردت به الأخبار النبوية، كما قال: (وبذلك وردت الأخبار الإلهية على ألسنة التراجم إلينا)، وهم الأنبياء عليهم السلام، مثل: " مرضت فلم تعدني، و جعت فلم تطعمني، وعطشت فلم تسقني"، "الله يستهزئ بهم" [البقرة: 15] "سخر الله منهم" [التوبة: 79]، و"ضحك الله مما فعلنا البارحة"، "وأقرضوا الله قرضا حسنا" [الحديد: 18].
ولا حاجة إلى تأويلات من لا وقوف له على هذا المشرب مع بعدها.
وفي قوله: (إلينا) أي: الواصلة إلينا بإيصال الرسل إشارة إلى جواز إفشائها، وإن كانت شنيعة بحسب الظاهر، لكن يقال للعامة: إنها من المتشابهات التي يجب الإيمان بها، وتفويض تأويلها إلى الله تعالى، وإذا كانت الأخبار الإلهية واردة بذلك على السنة التراجم.
(فوصف) أي: بين الحق (نفسه لنا بنا) أي: بظهوره فينا بصور أسمائه، أو آثارها، أو ما يتعلق بها إذ لولا ذلك لم يكن للحادث أن يعرف القديم مع بعد ما بينهما من المناسبة، ولما ظهر فينا صرنا مرآته، ولما لم يكن لنا من الوجود سوى صورته الظاهرة في أعياننا، ولا ثبوت لها إلا في علمه.
فهو مرآتنا (فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا) بما فيها من جمعية أسراره؛ لأنه مرآتنا، (وإذا شهدنا) الحق (شهد نفسه) أي: صور أسمائه أو أثارها، أو ما يتعلق بها فينا؛ لأنا مرآته بعد ما كان يشهد نفسه في نفسه.
ثم أشار إلى أن الظاهر في الكل، وإن كان واحد فلا يلزم وحدة تلك الصور الظاهرة لذلك الواحد ولا اتفاقها.
بل يجوز تكثرها واختلافها بحسب تكثر المرايا واختلافها، وقدم لذلك التمثيل بالأمور المعقولة مع الموجودات العينية؛ ليتوسل بذلك إلى بيان افتراق صور ظهور الحق في أنفسها، وفيما بينها وبين الحق.


قال رضى الله عنه : (ولا نشك أنا كثيرون بالشخص و النوع، و أنا و إن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، و لولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد.
فكذلك أيضا، وإن وصفنا بما وصف نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق، وليس إلا افتقارنا إليه في الوجود وتوقف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه.
فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم.
فلا تنسب إليه الأولية مع كونه الأول.)
فقال: (ولا نشك أنا) أي: المحدثات (كثيرون بالتشخيص) أي: المحدثات (وإن كنا على حقيقة واحدة) نوعية أو جنسية (فنعلم قطعا أن ثمة) أي: في الواقع بين كل فرد فرد، ونوع نوع (فارقا) من الأعراض المشخصة، أو الفصول المميزة (به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض) و الأنواع بعضها عن بعض لكن لم يتعرض لتميز الأنواع لا يستلزم تميز الأشخاص إياه.
وإنما قال : بعضها عن بعض لئلا يتوهم أن المراد تميز أشخاص نوع عن أشخاص نوع آخر، (ولولا ذلك) الفارق بين الأفراد والأنواع (ما كانت) أي: حصلت (الكثرة في الواحد) النوعي أو الجنسي.
فهذا استدلال بالكثرة في الحقيقة الواحدة على وجود الفارق، وإذا عرفت هذا فيما بين الأشخاص والأنواع التي هي صور حقيقة الواحدة النوعية أو الجنسية مع أنها حقيقة معقولة.
(فكذلك أيضا وإن وصفناه) نحن الحق بسبب ظهوره فينا (بما وصف به نفسه) بحيث يطابق وصفنا إياه، وصفة نفسه (من جميع الوجوه فلا بد من فارق) بين أوصافنا وأوصافه.
(وليس) ذلك الفارق بالنسبة إلى الكل (إلا افتقارنا إليه) أي: (في الوجود)، وذلك الافتقار (توقف وجود)، الماهية من توقف صورة المرأة على محاذاة ذي الصورة إياها.
وذلك التوقف (لإمكاننا، وغناه) أي: الحق (عن مثل ما افتقرنا إليه) أي: في الوجود وإلا كان ظهوره في المظاهر يتوقف، وهي ثبوت المظاهر في نفسها أي: بالفناء الذاتي (صح) أنه لا يجتمع هو، واستمرار الوجود في الماضي بحيث لا ينقطع فيه أصلا؟ لأنه لما لا يفتقر في وجوده إلى غيره فوجوده مقتضى ذاته، فاستمر باستمراره الثابت، وصح له (القدم)، وهي هكذا استمرار الوجود في الماضي بحيث لا ينقطع فيه أصلا بل
(الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم)؛ لأنها بهذا المعنى ماهية للفناء الذاتي ؛ لأن ما افتتح وجوده عن عدم فمقتضي وجوده إما ذاته، ولا يتغير مقتضى الذات أو غيره فيفتقر إلى الغير.
وإنما قيد انتفاء الأولية بهذا المعنى لثبوت الأولية له بمعنی سبق وجوده على الكل، وبمعنی كونه يستند إليه الكل في الابتداء إلا أن الشيخ رضي الله عنه لم يعتبر الأول من المعنيين.
لأن الأول بذلك المعنى لا يقابل الأخر، بل اعتبر المعنى الثاني؛ فقال: (فلا تنسب إليه الأولية) بمعنی: افتتاح الوجود عن عدم (مع كونه الأول) بمعنی: استناد الكل إليه في البداية، أو يعني سبق وجوده على الكل .
إلا أن الشيخ لم یعنی ما ذكرت، لكنه لم يصرح بمنعه لصحته، وقد صرح بمنع كونه أول بمعنی افتتاح الوجود لبطلانه من كل وجه؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
قال رضى الله عنه : (ولهذا قيل فيه الآخر.
فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد لم يصح أن يكون الآخر للمقيد، لأنه لا آخر للممكن، لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها.
و إنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا، فهو الآخر في عين أوليته، والأول في عين آخريته.
ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن ، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا و الظاهر بشهادتنا.
ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه.
ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس.)
(وهذا) أي: ويكون أوليته ليست افتتاح الوجود عن عدم (قيل: فيه الآخر) وآخريته حينئذ ليست بمعنى انتهاء وجوده بعد انتهاء وجود الممكنات بل آخريته بمعنی: بقاء وجوده بعدما فني ما فني إلى الأبد.
ولكن هذا المعنى ليس على الإطلاق، فلذا لم يعتبره الشيخ رضي الله عنه و بمعنى: أنه يستند إليه الكل في النهاية أي: في البقاء ثم استدل على أن أوليته و آخريته ليست بمعنی افتتاح الوجود عن عدم واختنامه به .
بقوله: (فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد) أي: بمعنى أن وجوده في الماضي مقيد بزمان مخصوص سابق على زمان افتتاح وجود سائر الموجودات كانت آخريته أيضا أخرية وجود التقييد، وهو أن وجوده في المستقبل مقيد بزمان مخصوص ينتهي عنده، ويأتي ذلك الزمان بعد زمان انقطاع وجود سائر الموجودات لكن كونه آخر بهذا المعنى باطل.
لأنه (لم يصح أن يكون الحق هو الآخر المقيد) أي: للممكن الذي تقيد وجوده بزمان مخصوص ينقطع بانقطاعه؛ لأنه إنما يتحقق عند انقطاع زمان جميع الممكنات لكنه محال؛ (لأنه لا آخر للمكن؛ لأن الممكنات غير متناهية) لاتفاق أهل التحقيق على أن الأمور الأخروية لا تتناهى.
وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على بقاء الأرواح الإنسانية على الأبد، وإذا كانت الممكنات غير متناهية كان زمانا غير منقطع حتى يأتي بعد انقطاعه زمان ينقطع فيه زمان الحق.
وإنما استدل بهذا الدليل؛ ليشير إلى إن الحق على تقدير كونه ممكنا لا يصح في شأنه هذا المعنى؛ فكيف عند كونه واجب الوجود؛ فافهم فإنه مزلة للقدم.
(وإنما كان آخرا لرجوع الأمر) أي: أمر الوجود (كله إليه) أما وجوده، فلأنه لذاته، وأما وجودنا؛ فلأنه ظله وصورته، ولا قيام له بذاته فهو بالحقيقة منسوب إليه (بعد نسبته إلينا)، والظاهر، واعتبر رضي الله عنه في الآخر معنى البقاء بعد فناء ما فني؛ لأنه ليس على الإطلاق، ولا هو مخصوص بالفناء الذاتي على نسب.
وإذا كان أوليته وأخريته بمعنی كونه مستند إليه لكل في الماضي والمستقبل مع أنه لا يجرى عليه الزمان، ولا ماض في حقه، ولا مستقبل؛ (فهو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته) فاتحد فيه الأبد بالأزل، وصدق في حقه السرمد، وهو اتصال الأزل بالأبد.
والحاصل أن الوجوب الذاتي أوجب له الفناء الذاتي، والأزل والقدم، والأزلية بمعنی: كونه مستند إليه للكل في البداية والأخروية بمعنی: كونه مستند إليه في النهاية.
(ثم) أي: بعدما علمت أنه ظهر فينا بصفات لا تختص بالوجوب الذاتي إما بصورها، أو آثارها، أو ما يتعلق بها (ليعلم أن الحق وصف نفسه) أي: بين من أوصافه في كتابة الكريم (أنه ظاهر و باطن) حيث قال: "هو الأول والأخر والظاهر والباطن" [الحديد: 3].
ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن بد من ظهورهما في العالم، وإن كان يتوهم أن ظهور الظاهر كتحصيل الحاصل، وأن ظهور الباطن كالجمع بين النقيضين (فأوجد العالم) الكبير والصغير (عالم غيب) الأرواح الإنسانية والملائكة، (وعالم شهادة) الأجسام الفلكية والعنصرية، وأعراضها.
(فندرك الباطن) أي: باطن الحق ( بغيبنا، وندرك الظاهر بشهادتنا)، وهذا هو لظهورها بالصورة، ولتعلم أيضا أنه (وصف نفسه بالرضا والغضب) بحيث قال: "رضي الله عنهم ورضوا عنه" [المجادلة:22].
"لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" [الفتح: 18].
وقال: "وغضب الله عليه ولعنه" [النساء: 93]، وقال: "فعليهم غضب من الله" [النحل: 16].
[right]ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن لهما بد من الظهور وبصورهما وآثارهما أو ما يتعلق بآثارهما (فأوجد العالم) لظهور ما يتعلق بآثارهما (ذا خوف ورجاء فنخاف) أثار (غضبه، ونرجو) أثر (رضاه) ولم يتعرض لظهور صورهما وآثارهما لوضوحه.

ولتعلم أيضا أنه (وصف نفسه بأنه جميل ذو جلال) والجمال من صفات اللطف، والجلال من صفات القهر ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن بد من ظهورهما بصورهما وآثارهما أو متعلقهما، (فأوجدنا) لظهور آثارهما (على هيبة) من الحلال (وأنس) من الجمال قدم الجميل أولا؛ لأنه أقرب إلينا؛ لأن دنو الحق من الخلق به، ثم عكس في مثال يشعر بأصالة الجلال.

قال رضى الله عنه : (وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به.
فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.
فالعالم شهادة والخليفة غيب، ولذا تحجب السلطان.
ووصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية وهي الأجسام الطبيعية، والنورية وهي الأرواح اللطيفة.
فالعالم بين كثيف ولطيف، وهو عين الحجاب على نفسه، فلا يدرك الحق إدراكه نفسه.
فلا يزال في حجاب لا يرفع مع علمه بأنه متميز عن موجده بافتقاره إليه.
ولكن لا حظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق، فلا يدركه أبدا.
فلا يزال الحق من هذه الحقيقة غير معلوم علم ذوق وشهود، لأنه لا قدم للحادث في ذلك.
فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا.
ولهذا قال لإبليس: «ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي»؟
وما هو إلا عين جمعه بين الصورتين: صورة العالم وصورة الحق، وهما يدا الحق.
وإبليس جزء من العالم لم تحصل له هذه الجمعية.)
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالی) أي: يوصف به من الأوصاف التي تتضمن النسب، (و یسمی به) من الأسماء التي لا تتضمن النسب، لكن ما لا يكون من خواص الوجوب الذاتي لا بد وأن يظهر فينا بصورته أو أثره ، أو ما يتعلق به ولما كانت هذه الأسماء والصفات متعلقة بالعوالم التي لا بد من التقابل فيها لتكون أزواجا، ويبقى الحق فردا بلا زوج.
كما أشار إليه ولك بقوله: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها" [يس: 36]، لم يكن من التقابل في الأسماء والصفات، وكان الحق هو الموجد لها بواسطة تلك الأسماء والصفات، فهي له کالأيدي.
(فعبر عن هاتين الصفتين) المتقابلتين كالظهور، والبطون، والرضا، والغضب، والجمال، والجلال وغير ذلك مما لا يختص بالوجوب الذاتي )باليدين( استعارة من يدي الإنسان اللتين هما فعله مع تخالفهما في الوضع، والتأثير كتخالف الأسماء الإلهية في المفهوم، والتأثر.
ووصفهما بقوله: (اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل) ليشير إلى أن ذلك تفسير لقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" [ص: 75].
وفيه على القول من فسرهما بالإرادة والقدرة إذ لا اختصاص لهما على ذلك التقدير بأدم؛ فلا يكون حجة على إبليس؛ لأنه تعالى إنما احتج بذلك عليه (لكونه الجامع لحقائق العالم) أي: كلياته (ومفرداته) أي: جزئياته وحقائق العالم ومفرداته متقابلة في الأسماء المتوجهة إليه أيضا متقابلة، ولكنها مع تقابلها اجتمعت فيه فصارت كالمتحدة بخلافها في العالم الكبير.
"الكلام تعليل المتوجه باليدين؛ لأن الإنسان الكامل يجمع حقائق العالم، وهي الأمور الكلية المعقولة التي لها الآثار، والأحكام على مفردات الأعيان الخارجية؛ لأن أحدية جمع الجميع علما وعينا.
قال رضي الله عنه في «الفتوحات»:  لما كان المقصود من العالم الإنسان الكامل كان من العالم أيضا الإنسان الحيوان المشبه للكامل في النشأة الطبيعية وكانت الحقائق التي جمعها الإنسان متبددة في العالم فناداها الحق من جميع العالم فاجتمعت فكان من جمعيتها الإنسان فهو خزانتها فوجوه العالم مصروفة إلى هذه الخزانة الإنسانية لترى ما ظهر عن نداء الحق بجميع هذه الحقائق فرأت صورة منتصبة القامة مستقيمة الحركة معينة الجهات وما رأى أحد من العالم مثل هذه الصورة الإنسانية ومن ذلك الوقت تصورت الأرواح النارية والملائكة في صورة الإنسان وهو قوله تعالى :"فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا"وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" أهـ."
فلذلك قال: (فالعالم) أي: الكبير من حيث اشتماله على صور الأسماء المتقابلة متفرقة منفصلة (شهادة)؛ لأن العلم التفصيلي يشاهد فيه أجزاء المعلوم، وصفاته واحدة بعد واحدة .
والخليفة من حيث اشتماله على صور الأسماء المتقابلة مجتمعة محملة غيب إذ لا يشاهد في العالم الإجمالي أجزاء المعلوم، ولا صفاته واحدة بعد واحدة؛ ولهذا أي: هو لأجل أن (الخليفة) الحقيقي (غيب يحجب) عن نظر العامة (السلطان) الذي هو: الخليفة الظاهر لتكون الصورة على نهج الأصل، ولهذا لا يعرف الخليفة الحقيقي من لم يبلغ مرتبته إلا باعتبار ظاهر صورته.
وإنما كان الخليفة غيبا ليناسب به الحق، إذ (وصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية، وهي الأجسام العنصرية)، قيد الأجسام بها لكمال معنى الحجابية فيها؛ لأن تبدل الصور فيها يدل دلالة واضحة على أن لها مادة استترت بصورتها، فلما صار بعضها حجابا على بعضها فهي أولى بكونها حجابا على غيرها والسماوات السبع عنده من الأجسام العنصرية بخلاف تلك المنازل وتلك البروج والعرش والكرسي.
ثم وصفها بقوله: (الكثيفة)؛ لأن الكثافة تدل على الظلمة ووصف نفسه أيضا بالحجب النورانية: (وهي الأرواح اللطيفة) فإنها لما كانت أنوارا قريبة منا حجبت ما وراءها من الأنوار عن العقل واللطافة تدل على نورانیتها.
وهذا إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" .
فجعل رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قول الله تعالى؛ لأنه لا "ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3، 4].
 ومعنی احتجاب حق بها أنه تعالى أظهر صورها وآثارها، وأخفى من ورائها أفعاله وصفاته وأسماءه، وهذه الحجب لا بد من تحققها في حق الخليفة أيضا؛ فإنه يتصرف أيضا بهذه الأجسام والأرواح كأنها جسمه وقواه؛ فهو محتجب وراءها احتجاب روح الإنسان وراء أعضائه وقواه؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
(فالعالم بين كثيف ولطيف) وإذا كانت الكثافة ظلمة واللطافة نورا، وهما حجابان فالعالم كله حجاب لا متردد بطريق الحصر بين كثيف هي أجسام العالم كله عنصرا أو غيره، وإن كان بعضه اللطف من بعض ولطيف هي أرواحه.
وهذا الحجاب ليس بالنسبة إلى الحق يمنعه من إدراك ما في العالم أو ما وراءه، لو فرض بل (وهو عين الحجاب على نفسه) يمنعه من إدراك الحق الإدراك الكامل، ولا ينبغي أن يعرض بينه وبين الحق حجاب آخر، كما هو المتعارف في الحجب الظاهرة من الأجسام، (فلا يدرك العالم الحق مثل إدراك نفسه)؛ لأنه إنما يتم إدراکه برفع الحجاب، وهو نفسه فإذا رفع نفسه فمن يدرك الحق منه.
(فلا يزال) العالم في (حجاب) عن الحق (لا يرفع) عنه؛ لأنه ما بقي فهو في حجاب نفسه، وإذا رفع فهو في حجاب العدم هذا (مع) حجاب آخر لمن يعلم منه هو حجاب (علمه بأنه متميز عن موجده)، والتمييز مباينة توجب البعد الموجب للجهل، مع أن ذلك التميز (بافتقاره إليه)، فلا يدركه ما لم يرتفع عنه حجاب افتقاره إليه بالوجوب الذاتي.
(ولكن لاحظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق)، وإن فني وجوده في وجود الحق، وبقي به (فلا يدركه أبدا) لا حال الفناء والبقاء، ولا بدونهما.
(فلا يزال الحق من هذه الحقيقة)  أي: من هذا الوجه الذي هو الوجوب الذاتي (غير معلوم علم ذوق وشهود) بل غايته أن يعلم بعلم التصور الذي هو حجاب، وإن علم بالذوق والشهود من وجه آخر كان الفناء، والبقاء لكن لا يمكن من هذا الوجه أعني: الوجوب الذاتي.
(لأنه لا قدم للحادث في ذلك) الوجه، ولا يعرف أحد ذوقا وشهودا ما ليس فيه؛ لوجوب اتصاف الذائق بصفة المذوق، وانتفاش محل الشهود من الشاهد بصورة المشهود.
ولما كان العالم حجابا عن الحق يمنع عن ظهوره بأفعاله الدالة على أسمائه ، وصفاته الدالة على ذاته، ولا فاعل غيره فهو يفعل بالعالم أجسامه، وأرواحه في الظاهر كما يفعل بأسمائه وصفاته في الباطن.
فهما أيضا يدان للحق بينهما تقابل مثل التقابل بين الأسماء الإلهية، والحقائق الكونية وليده من الأسماء المتقابلة، لما توجهت على خلقة أدم صار جامعا الحقائق العالم المتقابلة ومفردات.
كذلك فقد اجتمعت فيه هاتان اليدان أيضا، وهما أشل مما تقدم، فحمل القرآن عليه أولى (فما جمع) ابنه (لآدم بين يديه إلا تشریفا) أي: لأعضاء الخلافة التي هي غاية الشرف؛ لأنه ناسب بهما الحق، والخلق فصار مستعدا؛ لأن يستفيض من الأول، ويفيض على الثاني.
ولهذا التشريف فضل آدم على التحمل، وصار مستحقا لسجود الملائكة له حتى الزم حجبة الحق على إبليس حيث قال لإبليس: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " [ص: 75].
(وما هو) أي: التشريف الملزم حجة الحق على إبليس (إلا عين جمعه بين الصورتين صورة العالم، وصورة الحق)؛ ليناسبهما فيستحق خلافة الحق على الخلق.
(وهما) أي: الصورتان (يدا الحق)، إما صورة الحق: وهي أسماؤه فهي المؤثرة في الباطن، وإما صورة العالم؛ فهي المؤثرة في الظاهر حتى أن المنفعل منه فاعل للقبول، وهو نوع من التأثير والتقابل بینهما أتم؛ لشمولهما تقابل الأسماء الإلهية، والحقائق الكونية مع اعتبار تقابل آخر بين تلك الأسماء والحقائق.
(وإبليس جزء من العالم) فليس له من الفضيلة ما يتمسك بها من الإباءة عن السجود، ولم يطلع على هذه الجمعية.
إذ (لم تحصل له هذه الجمعية)، فاعتبر نفسه جزءا من العالم وهو النار، وآخر لأدم، وهو التراب؛ فقال: "خلقتني من نار وخلقته من طين" [ص: 76].

قال رضى الله عنه : (ولهذا كان آدم خليفة فإن لم يكن ظاهرا بصورة من استخلفه فيما استخلفه فيه فما هو خليفة، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها- لأن استنادها إليه فلا بد أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه- وإلا فليس بخليفة عليهم.
فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل، فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم و صوره و أنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى.)
(وهذا) أي: ولأجل تشریف الحق آدم بالجمع بين يديه اللتين هما صورتا الحق والخلق (كان آدم خليفة) للحق على الخلق.
ثم بين كون الخلافة منوطة بذلك بقوله: (فإن لم يكن) أي: آدم (ظاهرا بصورة من استخلفه)، وهو الحق تعالى لا في كل ما في الحق حتى الوجوب الذاتي.
بل (فيما استخلفه فيه) أي: في الأمر الذي جعله خليفة فيه، وهو أن يتحقق بالأسماء الظاهرة في العالم، وسائر ما يقبل الظهور من الأسماء؛ ليستفيض بذلك من الحق، فيفيض إلى الخلق (فما هو خليفة)، إذ لا يقوم مقام الأصل بدونه، كما لا تقوم المرأة مقام الشمس في إفاضة النور على الجدار بدون أن يتصور بصورة الشمس، هذا بيان وجوب ظهوره بصورة الأصل.
وأما بیان وجوب ظهوره بصورة من استخلف عليه؛ فهو قوله: (وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها) بوجود حقائقها فيه الطالبة لكمالاتها مع قصور مناسبتها مع الحق تعالى، فما هو خليفة عليها، حذف هذا الجواب بقرينة ما بعدها لأنه لولا تلك الحقائق فيه، لم يستحق أو الفيض الذي يفيض عليها؛ لأن الفيض منوط بالقابل، وتلك الحقائق هي القابلة.
ولكنها قاصرة عن تحصيل ذلك الفيض بأنفسها؛ لأنها غير مقصودة بالذات فتطلب فيضها من الخليفة؛ (لأن استنادها إليه) من حيث هو مقصود بالذات.
وهي مقصودة لأجله، وهو كامل المناسبة مع الحق، ومعها أيضا لما فيه من الجمعية مع شائبة التفرقة من جهة ما فيه من الإجمال بعد التفصيل؛ ولذلك اختص کل قوة منه بأمر خاص لا يوجد في غيره، وإذا كان استناد الكل إليه في أنواع الفيض المختلفة التي يختص كل نوع بحقيقة تطلبه،(فلا بد أن يقوم بجميع ما تحتاج) الرعايا (إليه) بتحقق حقائقها فيه حتى يستفيض ما يستحق كل حقيقة منها، ثم يفيض على كل منها ما يستحق.
(وإلا) أي: وإن لم يقم بجميع ما تحتاج إليه الرعايا (فليس بخليفة عليهم)، بل إنما تتصور خلافته على من يقوم بحاجته دون غيره؛ لكنه يكون قاصرا على ذلك التقدير؛ فلا تتم مناسبته مع الحق، فإن استفاض بتلك المناسبة القاصرة فحقائق العالم كذلك فلا يحتاج
إلى الخليفة، وإذا كان كذلك (فما صحت الخلافة) الموصلة للفيض الإلهي (إلا للإنسان الكامل) الجامع لما تحتاج إليه الرعايا، وما تشتمل عليه خزائن الأسماء الإلهية.
وإذا كانت الخلافة تتم بمناسبة الطرفين، ومناسبة الحق تتم بالجمعية، ومناسبة الخلق بالتفرقة، جمع فيه بين الصورتين مع التفرقة بينهما.
(فأنشأ صورته الظاهرة) أي: الجسمية (من حقائق العالم)، أي: كلياته وصوره لا من حيث هي صور للأسماء الإلهية، فإن الأجسام هي أجسام ليست صورا للأسماء الإلهية.
إذ ليس لها صورة حسية، وإن كانت صورا لها من حيث الوجود، وبعض المعاني القائمة بها، فالصورة الظاهرة للإنسان من حقائق العالم، (وصوره) من حيث هي آثار الأسماء الإلهية، أو ما يتعلق بها، وأخذ الإنسان صور الأسماء الإلهية ليس بواسطة العالم بل بالذات.
(وأنشأ صورته الباطنة) الروحية، وما يفيض منها من القوى المدركة، والمحركة (على صورته تعالی)، وهي الصورة المعنوية، وفيها الجمعية إذ جعله حيا، عالما، مريدا، قادرا، سميعا بصيرا، متکلما




قال رضى الله عنه : (و لذلك قال فيه «كنت سمعه و بصره» ما قال كنت عينه و أذنه: ففرق بين الصورتين.

و هكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود.

و لكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة، فما فاز إلا بالمجموع.
و لو لا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود، كما أنه لو لا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية.)
(ولذلك) أي: ولأجل اختصاص الباطن بصورة الحق (قال فيه: «كنت سمعه وبصره») يعني سمعه و بصره في الكمال بحيث يسمع حاجات الكل، ویری استحقاقاتهم كأنه عين سمعي، وبصري اللذين ليس غيري، فكأني سمعه وبصره، فنسب صورة سمعه وبصره اللذين هما من الصورة الباطنة إلى ذاته؛ لكون صورته تعالى معنوية.
(وما قال: "كنت عينه وأذنه") اللذين هما من الصور الظاهرة (ففرق بين الصورتين) اللتين جمعهما في أدم بنسبة إحداهما إلى ذاته دون الأخرى؛ ليحصل فيه مع الجمعية الافتراق؛ ليناسب الحق والخلق جميعا، وهذا كالصريح بأن الأجسام من حيث هي أجسام ليست صورة الحق، وإن كانت من حيث الوجود، وبعض المعاني القائمة بها صور الحق وأسمائه، كما أشار إليه بقوله: (وهكذا) أي: كما ظهر الحق في آدم بصورته المعنوية كذا (هو) ظاهر بصورته المعنوية من جهة الذات والأسماء في كل موجود من العالم الكبير (بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود)، وإن لم تكن أجسامه وأعراضها المحسوسة صورا لذاته وأسمائه، بل باعتبار وجودها و بعض المعاني القائمة بها، لكن تلك الصور الإلهية فيها لا تكفي في استفاضة الفيض؛ لأنه منوط بالجمعية، وليست لغير الإنسان الكامل.
وإليه الإشارة بقوله: (ولكن ليس لأحد) من العالم (مجموع ما للخليفة) من صورة الحق ذاته وأسمائه، وإذا كان جميع ما في العالم مع اشتماله على صورة الحق، ومناسبته إياه بها لا يصلح للاستفاضة، مع أنه لا بد من الفيض؛ لعموم الجود الإلهي، ولا بد من المناسبة التامة التي للخليفة الذي هو الإنسان الكامل.
(فما فاز) برتبة الخلافة على الكل (إلا بالمجموع)، إذ لو جاز استفاضة من كمل صورة اسم بذاته، لجاز الفيض بالأصالة على ما ليس بمقصود بالذات.
واستدل على أن الحق ظاهر بصورته المعنوية في كل موجود من حيث الوجود. ومن حيث بعض المعاني القائمة به بقوله: (فلولا سريان الحق في الموجودات) أي: سريان إشراق نوره على بواطن الموجودات.
بحيث (يظهر فيها بالصورة) سريان نور الشمس في المرآة بظهور صورتها فيها من غير أن ينفصل من الشمس شيء، ولا يحل منه في المرأة (لما كان للعالم وجود)، إذ أصله العدم.
وهو وإن كان ممكنا يستوي الوجود والعدم بالنسبة إليه، فيكفي عدم ترجيح الوجود مرجحا لعدمه، كما أنه لا نور في المرأة بدون إشراق نور الشمس عليها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "الله نور السموات والأرض" [النور: 35].
وهذا ما قاله الإمام حجة الإسلام الغزالي في «مشكاة الأنوار وحقيقة الحقائق»، ومن هاهنا ترقی العارفون من حضيض المجاز إلى بقاع الحقيقة، واستكملوا معارجهم فرأوا بالمشاهدة العينية أن ليس في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، وأن" كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88].
لا أنه يصير هالك في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلا وأبدا، ولا يتصور إلآ كذلك.
فإن كل شيء سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض، وإذا اعتبرت من الوجه الذي سرى الوجود إليها من الأول الأحق، وأي موجود إلا في ذاته بل من الوجه الذي يلي موجده، فيكون الموجود وجه الله فقط.
ثم شبه ظهور الحق في الموجودات بظهور الحقائق الكلية في الموجودات العينية .
إشعارا بأنه لا يستلزم الحلول والاتحاد، وأن وجود الموجودات متوقف على وجوده تعالى وظهوره فيها توقف أحكام الموجودات العينية على تلك الحقائق الكلية.
فقال: (كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة) كالحياة والعلم (ما ظهر حكم في الموجودات العينية) لامتناع الحكم على شيء بأنه حي عالم بدون تصور الحياة والعلم.
قال رضى الله عنه : (و من هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده.
فالكل مفتقر ما الكل مستغن ... هذا هو الحق قد قلناه لا نكني
فإن ذكرت غنيا لا افتقار به ... فقد علمت الذي بقولنا نعني
فالكل بالكل مربوط فليس له ... عنه انفصال خذوا ما قلته عني
فقد علمت حكمة نشأة آدم أعني صورته الظاهرة.
و قد علمت نشأة روح آدم أعني صورته الباطنة، فهو الحق الخلق.
و قد علمت نشأة رتبته و هي المجموع الذي به استحق الخلافة.
فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني.
و هو قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا و نساء».
فقوله اتقوا ربكم اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، و اجعلوا ما بطن منكم، و هو ربكم،
وقاية لكم: فإن الأمر ذم و حمد: فكونوا وقايته في الذم و اجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين.
ثم إنه سبحانه و تعالى أطلعه على ما أودع فيه و جعل ذلك في قبضتيه:
القبضة الواحدة فيها العالم، و القبضة الأخرى فيها آدم و بنوه.
و بين مراتبهم فيه.)
فقال: (ومن هذه الحقيقة) (')، أي: سريان إشراق نور الحق في الموجودات بالصورة التحقق بالوجود مع إمكانها، (كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده) سواء فرض قديما بالزمان أو حادثا.
"حقيقة الافتقار من العالم إلى الحق تعالى الموجد في وجوده:
أي لو لم يكن الحق سبحانه الموجد ساريا في العالم ما كان العالم , وإذا ارتفع المدد، ينعدم العالم ويرجع إلى أصله، فالعالم محتاج إلى الحق سبحانه الموجد دائما أبدا .
والحق سبحانه لا تظهر أحكامه إلا في العالم، كما أن الرعية تحتاج إلى السلطان، والسلطان ما يظهر سلطانه إلا على الرعية فلا يكون السلطان إلا بالرعية.
إن الرب بلا مربوب لا يعقل، كما أن المربوب بلا رب لا يكن، فافهم."
فالعالم بهذا الافتقار لا يتحد بالحق لغناه في ذلك، وإن افتقر في الظهور بالمظاهر إليه لكنه مستغن عن ذلك الظهور إذ لا كمال له فيه بخلاف العالم، فإن افتقاره إلى الحق في تحصيل الكمال له.
وبقوله: "في وجوده"  قد أشار إلى افتقار الحق إليه في الظهور لكنه لم يصرح به الآن؛ لأنه كالافتقار من حيث استغناؤه عن ذلك الظهور، لكنه أشار إليه بقوله: (فالكل) أي: كل واحد من الخلق والحق في الوجود والظهور (مفتقر) إلى الأخر.
ولما كان نسبة الافتقار إلى الحق شنيعا عند العامة أكده بقوله: (ما الكل مستغن) ضرورة أن الربوبية تفتقر إلى المربوب و الخالق إلى الخلق والرازق إلى المرزوق لكن هذا الافتقار بحسب الظهور عند إرادته مع الاستغناء عنه فهو كالضرورة لشرط المحمول في قولنا: زيد قائم بالضرورة مادام قائما، وقد دخل في هذا افتقار الموجودات العينية إلى الحقائق الكلية وافتقارها إلى الموجودات.
ثم قال: (هذا هو الحق قد قلناه لا نكني)، أي: ليس نسبة الافتقار إلى الحق بطريق المجاز بناء على أن الافتقار بحسب الظهور، ليس بافتقار حقيقي للاستغناء عن ذلك الظهور، فنسبته إليه بطريق المجاز.
فقال: هذا ليس بطريق المجاز؛ لأن كماله يقتضي تكميل يستحق التكميل فهو افتقار حقيقي في مقتضى الكمال الوجودي، وإن لم يتوقف عليه شيء من كمالاته الذاتية والأسمائية من حيث تعلق الأسماء بالذات.
ثم قال: (فإن ذكرت غنيا لا افتقار به) وهو الذات الإلهية والأسماء من حيث نسبتها إلى الذات واستدللت عليه بقوله تعالى: "والله الغنى وأن الفقراء" [محمد:38]، وإجماع الملك على أنه الغني المطلق؛ فلا يرد علينا، (فقد علمت الذي بقولنا نعني) هو افتقار الحق في ظهور ذاته وصفاته في المظاهر لا في وجودها وكمالاتها في أنفسها.
ثم صح بالمقصود من اعتبار هذا الافتقار، فقال: (فالكل بالكل مرتبط) ارتباطا موجبا لقرب كل واحد من الأخر، (فليس له) أي: لكل واحد (عنه) أي: عن الأخر
(انفصال) أي: استغناء وعدم ارتباط.
(خذوا ما قلته عني) إن لم يكن لكم استقلال ذوق بذلك، فلا بأس لمن لا يتم له الذوق في أمران يقلد من علم كماله منه إلى أن يكمل له الذوق فيه فقلدوني.
ولا تقلدوا من خالفني بمنع القول بالافتقار من جانب الحق مطلقا حتى في الظهور في المظاهر مع أنه لا ضرر فيه.
وإن الافتقار الممتنع في حقه تعالى هو ما ينافي الوجوب الذاتي، وهو الافتقار في الوجود والكمالات الذاتية.
وأما الكمالات الظهورية؛ فلا ينافي في الافتقار فيها ذلك، وإذا علمت أن الخليفة لا به وإن يكون جامعا بين صورتي الحق والخلق مع لزوم الاجتماع المطلق في إحداهما وشوب التفرقة في الأخرى ليناسب بذلك الحق والخلق.
(فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم أعني: صورته الظاهرة)، وهي الجسم وأعراضها المحسوسة، ولإدخالها قيد الجسد بالصورة الظاهرة لئلا يتوهم أن المراد نفس الجسم لا غير، وتلك الحكمة استعداده لإفاضة الكمالات على الخلق، وكونه خليفة عليهم، (وقد علمت) حكمة (نشأة روح آدم أعني صورته الباطنة) قيد الروح بها ليشير إلى أنه ليس من قبل الأجسام.
وليدخل فيه القوى إذ لا يقال لها روح، لكنها داخلة في الصورة الباطنة والحكمة في ذلك استعداده للاستفاضة من الحق بما فيه من الجمعية الأسمائية، وإذا كان هو المفيض والمستفيض بالصورتين المذكورين؛
(فهو الحق الخلق) أي: تام النسبة بهما لكمال صورهما فيه مع فعلهما فكأنه عينهما، فلذلك صح كونه خليفة منه عليهم.
وفيه إشارة إلى أنه، وإن بلغ بقدر الطاقة البشرية؛ فلا بد وأن يصدق عليه لفظ الخلق إذ لا يصير واجب الوجود لكنه قد يطلق عليه في التسمية الصوفية لفظ الحق باعتبار كمال ظهور صورته فيه.
كما نقل عن الحلاج من قوله: أنا الحق .
وعن أبي يزيد أنه: سبحاني ما أعظم شأني، وحاشا هما من دعوى الربوبية لأنفسهما، فإن ذلك ظاهر الاستحالة؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ثم أشار إلى أنه وإن كان فيه الصورتان اللتان هما الإفاضة والاستفاضة وبينهما اجتماع من وجه، وافتراق من وجه، وخلافته من حيث الاجتماع لا الافتراق.
فقال: (وقد علمت نشأة رتبته، وهي المجموع الذي به استحق الخلافة).
وفيه الإشارة إلى أن الإنسان إنما يصير إنسانا عند صيرورته خليفة للحق على خلقه يتصرف بباطنه على بواطنهم وبظاهره على ظواهرهم حتى يصير بحيث يتصرف بمجموعه في مجموعهم.
وإلى أن الخليفة من لا يحجبه الحق عن الخلق، ولا الخلق عن الحق، وإذا كانت الخلافة بالمجموعية، والمجموعية تقتضي وحدة وكثرة وهما وحدة الهيئة المجموعية، وكثرة تفصيل الأجزاء الداخلة في تلك الهيئة.
(فآدم) من حيث ما فيه من وحدة الهيئة المجموعية "من حيث الحقيقة لها أحدية الجمع وبها استحق الخلافة، فإنها من مقام برزخي التي خلق منها هذا النوع الإنساني؛ فإن هذا النوع الإنساني من حيث إنه نوع كالعقل الأول، وجد آدم من حيث إنه خليفة فبث منهما أفرادا كثيرة ذكورا وإناثا، فكما ظهرت من الذات المرتبة، ومنها ظهرت صور العالم مؤثرات ومتأثرات، كذلك آدم الخليفة ذات ومرتبة، وبث منهما أفرادا كثيرة ذكورا وإناثا .
وهو قوله: أي ما قلنا: إن الأصل نفس واحدة، وخلق منها كثيرا."
(هو النفس الواحدة ) ومن حيث ما فيه من الكثرة بنفسه هي (التي خلق منها هذا النوع الإنساني) أي: إفراده كلها، وكانت داخلة في هيئة المجموعية.
وهذا (وهو معنى قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا ونساء " [النساء: 1])، من حيث إن نفسه كانت مشتملة على صورتين صورة الحق وهي الفاعلة، وصورة الخلق وهي القابلة، والزوج هي الصورة القابلة الكلية، "وبث منهما" من حيث اشتمال صورته على الأسماء الكثيرة الإلهية والحقائق الكثيرة الكونية، "رجالأ كثيرا ونساء"، فالرجال مظاهر الأسماء الإلهية من حيث الفاعلية، والنساء مظاهر الحقائق الكونية من حيث القابلية.
وإن كان كل منهما مظاهر الأسماء الإلهية والحقائق الكونية جميعا من جهات أخر والتقوى من الوقاية، وهي لإطلاقها وقاية من الظاهر الذي هو مجموع الصورتين من حيث أن الصورة في المرآة لا بد وأن تكون ظاهرة.
وإن كانت الأمر باطن ظهر في مرآة معنوية، وإن كان في تلك الصورة أيضا خفاء كالأرواح للباطن المطلق الذي هو الحق ووقاية من الباطن المذكور للظاهر الذي هو مجموع الصورتين، وهو الإنسان، وللظاهر الذي هو العالم.
(فقوله: "اتقوا ربكم" اجعلوا ما ظهر منكم) من مجموع الصورتين أو من سورة العالم (وقاية لربكم) بنسبة النقائض إلى ذلك الظاهر، (واجعلوا ما بطن منكم) أي: ما ترجع إليه صورتكم الباطنة، (وهو ربكم) الذي فاض منه الصورة الروحانية عليكم وعلى العالم (وقاية لكم) بنسبة الكمالات إلى ذلك الباطن المطلق الذي ترجع إليه صورتكم الباطنة.
ثم علل ذلك بقوله: (فإن الأمر) أي: الأمر ما ينسب إليكم من النقائض والكمالات، (ذم وحمد فكونوا وقايته في الذم)، فانسبوه إلى أنفسكم لا إليه، (واجعلوا وقايتكم في الحمد)، فانسبوه إليه لا إلى أنفسكم.
(تكونوا أدباء) أي: مراعين للأدب بنسبة الكمال إلى الرب، والنقص إلى أنفسكم (عالمين) بحقائق الأشياء، فإن الحقيقة الإلهية تقتضي الكمالات، والحقيقة الكونية تقتضي النقائص.
ولذلك ورد: "من وجد خيرا؛ فليحمد الله، ومن وجد الآخر، فلا يلومن إلا نفسه".
ولا شك أن نسبة خلق الخنزير والقاذورات إلى الله تعالی سوء أدب؛ فكيف لا يسوء في نسبة قبائح أفعال الإنسان إليه؟
وإن كان الكل مخلوقا له تعالى، لكنه إنما خلقه بحسب اقتضاء أعيان الحوادث ذلك، (ثم) أي: بعد إن جمع الله في آدم بين يديه فجعله جامگا الصورة الحق والخلق على سبيل الاجتماع والتفرقة جامعا بينهما في حقه (إنه تعالى أطلعه على ما أودع فيه) ذلك الاطلاع مقصود للحق بالذات، كما أشار إليه بقوله: "فأحببت أن أعرف".
ولا يتأتى قبل ذلك إذ لا يعلم أحد ما ليس فيه ولتتأتى منه الاستفاضة والإفاضة مع الشعور كالأصل ولذلك (جعل ذلك) أي: ما أودع فيه (في قبضتيه) أي: قبضتي آدم وإنما جعلهما قبضتين لاعتبار التفرقة في أحدهما والجمعية (في الأخرى القبضة الأخرى فيها آدم وبنوه) يتصرف فيهم بقواه وقوتهم بالجمع، وإن كانت جمعيته لا تخلوا عن التفرقة وتفرقته عن الجمعية.
ولما توقف التصرف على النهج الأكمل فيهم على الشعور باستعداداتهم، واستحقاقاتهم (بین مراتبهم فيه)أي: في أدم بإخراج الذر من ظهره ثم الذر من كل ذر خرج منه إلى آخر ما يكون من أولاده؛ فأعطاها الحياة بإفاضة نور الروح عليها، ثم أنطقهم ببلی . ثم رد الذر إلى ظهر آدم والأرواح إلى مقارها ليعرف آدم ما يستحق كل من أولاده.
فلذلك ورد: "أنه يقال له يوم القيامة: أخرج بعث النار، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين".
قال رضى الله عنه : (وإنما يعرف ذلك منهم لما رأي في أول فطرتهم، وجعل ذلك حجة عليهم أيضا، إذا كشف عنهم الحجب فيتذكرون ما جرى عليهم؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم. .
قال رضي الله عنه: ولما أطلعني الله سبحانه و تعالى في سري على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر.
جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي لا ما وقفت عليه، فإن ذلك لا يسعه كتاب و لا العالم الموجود الآن.
فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حكمة إلهية في كلمة آدمية، و هو هذا الباب.
ثم حكمة نفثية في كلمة شيئية.
ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية.
ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية.
ثم حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية.
ثم حكمة حقية في كلمة إسحاقية.
ثم حكمة علية في كلمة إسماعيلية.
ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية.
ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية.
ثم حكمة أحدية في كلمة هودية.
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية.
ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية.
ثم حكمة ملكية في كلمة لوطية.
ثم حكمة قدرية في كلمة عزيرية.
ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية.
ثم حكمة وجودية في كلمة داودية.
ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية.
ثم حكمة غيبية في كلمة أيوبية.
ثم حكمة جلالية في كلمة يحياوية.
ثم حكمة مالكية في كلمة زكرياوية.
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية.
ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية.
ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية.
ثم حكمة علوية في كلمة موسوية.
ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية.
ثم حكمة فردية في كلمة محمدية.
وفص كل حكمة الكلمة التي تنسب إليها.
فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب. فامتثلت ما رسم لي، ووقفت عند ما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك و الله الموفق لا رب غيره.
و من ذلك:   )
(ولما أطلعني الله في سري) أي: روحي المنور بنور ربه عند محاذاته للعلم الأزلي بغاية صفائه واتساعه للانتقاش بما فيه (على ما أودع في هذا الإمام) بدؤه الكل في تحصيل الفضائل الإنسانية (الوالد الأكبر) الذي تولدت منه الكمالات الإنسانية كما تولدت منه الأفراد الإنسانية؛ فهو الوالد حسا ومعنى.
وأما الفضائل المخصوصة بمحمد صلى الله عليه وسلم  ؛ فليست من جهة الإنسانية بل من حقيقته المخصوصة به (جعلت في هذا الكتاب منه ما ) أي: ما حده (لي) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه إشارة إلى إن المذكور في الكتاب ليس مأخوذا عن المنام وحده بل عن الاطلاع الإلهي.
وإنما المتعلق بالمنام تحديد ما فيه (لا ما وقفت عليه) لمحاذاة سرى للعلم الأزلي (فإن ذلك لا يسعه كتاب)، وإن بلغ من طول الحجم ما بلغ فضلا عن هذا المختصر بل (ولا) يسعه (العالم الموجود الآن)؛ لأن متناه في ذاته ومدة بقائه.
وكلمات الله التي وقفت عليها بمحاذاة سرى للعلم الأزلي مما أودع في آدم الجامع للحقائق الإلهية والكونية غير متناهية : "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" [الكهف: 19].
وإذا كان لا يسع لما اطلعت عليه كتاب ولا العالم الموجود الآن (فمما) خبر مقدم لقوله حكمة (شاهدته) ما بيان لما في (فمما نودع في هذا الكتاب كما)
يتعلق بقوله: «نودع» (حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . .
وفيه إشارة إلى أنه لما تعذر أيراد الكل مما شاهدته في الكتاب، فبالضرورة أخذت ما حده لي رسول الله و للإيداع فيه (حكمة إلهية) أي: علم يقيني يتعلق بظهورات الأسماء الإلهية (في كلمة آدمية) أي: حقيقة جامعة منسوبة إلى آدم أبي البشر العلي
وفيه إشارة إلى أنه وإن اقتصر فيه على ما حده له رسول الله.
فهو أمر جامع على وجه الإجمال لما ظهر في الحقيقة الجامعة، وفيه إشارة إلى أن المشاهد أمور جليلة من جملتها المذكور في هذا الفص.
ثم قال: وهو أي: ما حده لي رسول الله للإيداع في هذا الكتاب من الحكمة الإلهية في الكلمة الآدمية هذا الباب الذي إذا فتح انفتح عن خزائن العلوم الغيبية.

.

واتساب

No comments:

Post a Comment