Friday, July 26, 2019

08 - فصّ حكمة روحيّة في كلمة يعقوبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

08 - فصّ حكمة روحيّة في كلمة يعقوبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

08 - فصّ حكمة روحيّة في كلمة يعقوبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

ولذلك قال تعالى على لسانه : " لا تَيْأَسُوا من رَوْحِ الله " [ 12 / 87 ] ، و " إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ "  [ 12 / 94 ] .
وبيّن أنّ أتمّ ما يظهر به الانبساط الوجودي المستتبع للطائف العلميّة هي الأوضاع الدينيّة والأحكام الشرعيّة ، فإنّها مع كونها هي المقوّمة للصورة الانبساطيّة ، والهيئة الجمعيّة الانتظاميّة التي بها قامت العين في الخارج متشخّصة بالفعل ، منطوية أيضا على جملة من الحقائق ، كاشفة عنها ، لذلك أخذ في هذا الفصّ يبيّن أمر الدين بأقسامه وأحكامه ، في قوله :

الدين دينان
قال رضي الله عنه : (الدين دينان : دين عند الله وعند من عرّفه الحقّ) بوسيلة الوحي من الأنبياء والرسل ،(ومن عرّفه من عرّفه الحقّ ) بوسيلة الفكر والإلهام ، والكشف من الوارثين لهم .
قال رضي الله عنه : ( ودين عند الخلق ) مما واطأ عليه خيار الناس وحكماؤهم من الأوضاع المستحسنة المستجلبة للمكارم ، الموافقة للحكم الخاصّة ، المطابقة لمصلحة العامّة ، ( وقد اعتبره الله ) بلسان الخاتم صلى الله عليه وسلم، المعرب عن الحكم والمصالح كلَّها ، فإنّه ما لم يعتبره كذلك فهو من العادات الرديئة المردية التي تتبعها الغواشي المظلمة المضلَّة .
"إشارة إلى الآية الكريمة : " وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّه ِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ" [الحديد : 27].
قال رضي الله عنه : ( فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العليّة على دين الخلق .
فقال تعالى : " وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ".سورة البقرة
(بيّن أوضاعكم المرغوبة وعاداتكم المطبوعة من أفعالكم الاختياريّة ، التي تخرجكم عن مشتهياتكم المتفرقة وتجمعكم فيها جمعا " فَلا تَمُوتُنَّ " اختياريّا كان بالفطام عن تلك العادات ، أو اضطراريّا بالانفطام عن مطلق الطبيعيّات وانقطاع أحكامها" إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " [ البقرة: 123 ].
( أي منقادون إليه ) ظاهرا بلزوم الاعتقاد والإخلاص فيه ، وإلزام الجوارح بالعكوف على مقتضاه ، وباطنا بالتدبّر في جزئيّات أوضاعه واستكشاف لطائف المعارف ودقائق الحقائق منها جملة كافية .
قال رضي الله عنه : ( وجاء « الدين » بالألف واللام للتعريف والعهد ، فهو دين معروف معلوم ) ضرورة أنّ الغاية التي هي الحقيقة الآدميّة لما كانت معلومة معروفة في الأزل .
فكذلك الطريقة الموصلة إياها إلى كمالها المتمّمة لها ، لا بدّ وأن تكون معلومة معروفة ، وإلى ذلك في القرآن الكريم إشارة : ( وهو قوله تعالى : " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ " [ 3 / 19 ] وهو الانقياد ) - كما عرفت - ظاهرا وباطنا .
قال رضي الله عنه : ( فالدين عبارة عن انقيادك والذي من عند الله هو الشرع الذي انقدت أنت إليه ) ، فالانتساب إليه تعالى هو الذي يسمّيه الشرع ، وإلَّا ( فالدين الانقياد والناموس ) أي المستور المضنون به على غير الكمّل ، فإنّ ناموس الرجل هو صاحب سرّه الذي يخصّه بما يستره عن غيره .
وذلك ( هو الشرع الذي شرّعه الله ) للعامّة بحسب التعلَّق به أفعالا ، وللخاصّة بحسب التعلَّق والتخلَّق أفعالا وأوصافا ، ولخلَّص الخاصّة بحسب التعلَّق والتخلَّق والتحقّق أفعالا وأوصافا واستكشافا عمّا ينطويه من الحقائق المضنون بها.
قال رضي الله عنه : ( فمن اتّصف بالانقياد لما شرّعه الله له فذلك الذي قام بالدين وأقامه - أي : أنشأه - كما تقيم الصلاة ) فإنّ الإذعان والانقياد إنّما هو إعداد الجوارح والقوى الفعّالة لارتكاب الواجبات والكفّ عن المحرّمات ، وليس ذلك سوى فعل من أفعال العبد .
( فالعبد هو المنشئ للدين ، والحقّ هو الواضع للأحكام ) من الوجوب والتحريم ، المستدعي للإتيان أو الكفّ ، ( والانقياد ) والإذعان لهما ( عين فعلك فالدين من فعلك ، فما سعدت ) واتّصفت بكمال العبوديّة ( إلَّا بما كان منك ) .

قال رضي الله عنه : ( فكما أثبت السعادة ) التي هي كمال العبوديّة ( لك ما كان فعلك ، كذلك ما أثبت الأسماء الإلهيّة ) التي هي كمال الالوهيّة الأسمائيّة ( إلَّا أفعاله ، وهي أنت ) يعني العين باعتبار تفرقته في ثنويّة الخطاب وثبوته فيه عيانا ( وهي المحدثات ) .
قال رضي الله عنه : ( فبآثاره سمّي إلها ، وبآثارك سمّيت سعيدا ، فأنزلك الله منزلته إذا أقمت الدين ، وأنقدت إلى ما شرّعه لك ) فكمّلت نفسك بأفعالك ، كما كمّل الله نفسه بك وهو عين فعله ( وسأبسط في ذلك - إن شاء الله - ما تقع به الفائدة بعد أن تبيّن الدين الذي عند الخلق ، الذي اعتبره الله ) فهو أيضا لله .
( فالدين كلَّه لله ، وكلَّه منك ) - لأنّه فعلك - ( لا منه ، إلَّا بحكم الأصالة ) ، فإنّ الكلّ بذلك الحكم  منه إليه " كُلٌّ من عِنْدِ الله "، لا تفرقة هناك أصلا .

الدين الذي وضعه الخلق واعتبره الله تعالى
وأمّا بيان اعتباره تعالى ذلك الدين : فإنّه ( قال تعالى " وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها " [ الحديد : 27 ] ، وهي النواميس الحكميّة ) والأسرار المضنونة الخاصّة ،( التي لم يجيء الرسول المعلوم بها ) - أي لم يجيء بتلك النواميس ( في العامّة من عند الله ) .
ولا يتوهّم أنّ عدم مجيء الرسول بها مطلقا ، بل ( بالطريقة الخاصّة المعلومة في العرف ) الشرعي التي هو مسلك أئمّة الفقهاء والمجتهدين في استنباط الأحكام فإنّ الرسول الخاتم عند التحقيق لا بدّ وأن يجيء بسائر الأسرار والحكم كما سلف بيانه ولكن لا على الطريقة المعلومة في العرف العاميّ لعدم بلوغ مدارك أهل ذلك العرف إليه .
ولا بدّ له من التنزّل إلى مقامهم ، والتكلَّم على مقادير عقولهم وأفهامهم ، وعلى ذلك العرف
قال رضي الله عنه :  : ( فلمّا وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي ) وهو الانتهاج إلى الغاية الكماليّة ، أعني النظم الوجودي والسلوك الشهودي الذي هو وجهة الحركة الكماليّة الإنسانيّة.
قال رضي الله عنه : ( اعتبرها الله اعتبار ما شرّعه من عنده تعالى ، وما كتبها الله عليهم ) كتابة إلزام وإيجاب - لما عرفت آنفا -
( ولما فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون ) مورد ذلك الرحمة ، ولا مصدر تلك العناية فإنّهم رأوا أن المعارف والعلوم إنّما استحصلوها من الفكر والنظر ، وليس للانتساب بالكمّل من الورثة الختميّة التي للأنبياء والأولياء له دخل في ذلك وقد اقتبس هذا المعنى من قوله تعالى :" وَجَعَلْنا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوه ُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها " [ الحديد : 27 ] .
قال رضي الله عنه : ( جعل في قلوبهم تعظيم ما شرّعوه ، يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبويّة ) الموضوعة للعامّة ، ليكون شكرا وفاقا ، بإزاء تلك العناية الخاصّة الخفيّة عندهم مورد نزولها وفيضانها .
فإنّ ذلك عبادة زائدة - على ما ألزمهم بها - من عند أنفسهم تبرّعا ، كسنن المتصوّفة من الإسلاميّين وغيرهم من سائر الملل.
ولذلك وصف الطريقة المذكورة في أكثر النسخ بقوله : ( المعروفة بالتعريف الإلهي فقال ) مفصحا عن ذلك المعنى : ( " فَما رَعَوْها " هؤلاء الذين شرّعوها ) - بوضعهم تلك الرهبانيّة الناموسيّة - ( وشرّعت لهم ) بالتزام أحكامها - ( " حَقَّ رِعايَتِها " . " إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ الله " ولذلك اعتقدوا ) الرضوان برعاية تلك الرهبانيّة .
فتكون الاستثناء على هذا التقدير متّصلا ، ففسّر الآية على المعنى إظهارا لذلك ، فإنّ ظاهر الآية  على ما عليه العامة أنّ الاستثناء منقطع والمعنى على ذلك أيضا مشوّش ، فلذلك عدل عمّا هو الظاهر من التركيب ، وجعل الاستثناء عن قوله " فَما رَعَوْها " مع تقدّمه ، فإنّ ذلك غير بعيد على قانون ذوي الألباب ، الذين لا يلتفتون إلى الرسوم الاصطلاحيّة الجعليّة .
( " فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا " بها " مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ " ) وهو الرضوان ، ( " وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ " أي من هؤلاء الذين شرّع فيهم هذه العبادة " فاسِقُونَ "  [ الحديد : 27 ] أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقّها .
(ومن لم ينقد إليها لم ينقد إليه مشرّعه بما يرضيه لكن الأمر ) على ما عليه حقيقته في نفسه ( يقتضي الانقياد ) ، إذ لا يلزم من عدم انقياد المشرّع إليه بما يرضيه عدم انقياده إليه مطلقا ، فإنّه لا بدّ للأمر مطلقا من الانقياد .

الدين هو الجزاء
قال رضي الله عنه : ( وبيانه أنّ المكلَّف إمّا منقاد بالموافقة ، وإمّا مخالف فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه ) وظهور أمره ( وأمّا المخالف : فإنّه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله ) - فإنّ الحكم إنّما هو لصرافة القابليّة الأصليّة الذاتيّة كما سبق تحقيقه .
( أحد الأمرين : إمّا التجاوز والعفو ، وإمّا الأخذ على ذلك . ولا بدّ من أحدهما ، لأنّ الأمر حقّ في نفسه ) وهو يقتضي ذلك ، ومقتضى الحقّ حقّ .
قال رضي الله عنه : ( فعلى كلّ حال - قد صحّ انقياد الحقّ إلى عبده لأفعاله ، وما هو عليه من الحال فالحال هو المؤثّر ، فمن هنا كان الدين جزاء ، أي معاوضة بما يسرّ أو بما لا يسرّ فيما يسرّ " رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ُ " [ 58 / 22 ] هذا جزاء بما يسر ) للمكلَّف الموافق .
(" وَمن يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْه ُ عَذاباً " [ 25 / 19 ] هذا جزاء بما لا يسرّ ) للمكلَّف المخالف.
(" وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ " [ 46 / 16 ] هذا جزاء ) بما يسرّ للمكلَّف المخالف ( فصحّ أن الدين هو الجزاء ) .
قال رضي الله عنه : (وكما أنّ الدين هو الإسلام ، والإسلام عين الانقياد ، فقد انقاد إلى ما يسرّ وإلى ما لا يسرّ - وهو الجزاء) - فيكون الدين كلا معنييه مرادا ، مستقيما إرادته هاهنا .

لا يصل إلى العبد شيء عن غير ذاته
قال رضي الله عنه : ( هذا لسان الظاهر في هذا الباب ) حيث فصّل المكلَّف ، وقسّم المكلَّفين إلى الموافقين منهم والمخالفين ، وبيّن للكلّ ما لهم من الدين ( وأمّا سرّه وباطنه فإنّه تجلَّى في مرآة وجود الحقّ ، فلا يعود على الممكنات من الحق إلَّا ما تعطيه ذواتهم في أحوالها ) فإنّ المرآة إنّما تعطي ما على الرائي من الأوضاع والهيئات وتحوّلهم في تلك الأوضاع في مراقي السعادة تارة ، ومهاوي الشقاوة أخرى ، بحسب تطوّرهم في الأحوال.
قال رضي الله عنه : ( فإنّ لهم في كلّ حال صورة ، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم ، فيختلف التجلَّي لاختلاف الحال ، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون ) عليه بالذات ( فما أعطاه الخير سواه ) .
وإذ قد تقرّر على أصولهم أنّ الشرّ من حيث أنّه شرّ لا يقبل الوجود ، فإنّ ما يقال له « الشرّ » عرفا إنّما هو باعتبار نسبته إلى الخير ومضادّته المظهرة إيّاه - كما قيل: « فبضدّها تتبيّن الأشياء » .
وقال المتنبي:
ونديمهم وبهم عرفنا فَضلهُ ... وبِضدها تتبين الأشياءُ
وينبّه على هذه النكتة حيث قال : ( ولا أعطاه ضدّ الخير غيره ) .
وما قال : « ولا أعطاه الشرّ » فإنّه من حيث هو شرّ غير قابل لأن يكون معطى .
فظهر أنّه لا شيء ممّا هو سبب نعيم العبد وعذابه خارجا عن ذاته .
قال رضي الله عنه : ( بل هو منعم ذاته ومعذّبها ، ولا يذمنّ إلَّا نفسه ، ولا يحمدنّ إلَّا نفسه ، فللَّه الحجّة البالغة في علمه بهم ، إذ العلم يتّبع المعلوم ) .
وهذا السرّ وإن انطوى فيه كثير من متفرّقات أحكام الأكوان ومتوهّمات أعيان عوالم الإمكان ، ولكن ما أفصح عن التوحيد الذاتي خالصا عن شوائب الثنويّة والتقابل حيث أثبت المعلوم بإزاء العالم ، والظلّ بإزاء الشمس ، والكثرة بإزاء الوحدة - فلا بدّ مما يفصح عن ذلك السرّ حتّى يتمّ البيان.
كما  قال العارف التلمساني :
لما انتهت عيني إلى أحبابها ....   شاهدت صرف الراح عين حبابها
"" صرف الراح : كناية عن حضرة الهوية الصرفة المحيطة القاهرة ، وحبابها عن الصور التي تجلت وتصورت بها ""
ثمّ إنّه ما جاوز صاحب المشهد هذا بعد عن مفترق المتقابلين ، وهو المعبّر عنه بـ " قابَ قَوْسَيْنِ " ، والذي يناسب طور كتابه هذا إنّما هو المشهد الختمي ، المعبّر عنه بـ " أَوْ أَدْنى " [ 53 / 9 ] وهو الذي لا تغاير هناك ولا نسبة أصلا ، وإلى ذلك أشار بقوله : ليس في الوجود إلا الحقّ تعالى وتجلَّياته
قال رضي الله عنه : (ثمّ السرّ الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة : أنّ الممكنات على أصلها من العدم ، وليس وجود إلَّا وجود الحقّ بصور أحوال ما هي عليه ، أي الممكنات في أنفسها وأعيانها ) .
فلئن قيل : إذا ثبت أنّ الممكنات على عدمها الأصلي ، فكيف يتصوّر لها أحوال يظهر الحقّ بصورها ؟
قلنا  : إنّ الممكنات إذا لوحظت من حيث أنفسها وأعيانها - أي ذواتها  و أصالتها فهي الاعتبارات المسمّاة بالشؤون الذاتيّة ، وهي عين الذات ، وإنّما يقال لها « الممكن » إذا لوحظت خارجة عن الوجود الحقّ ، مقابلة له وكأنّا بيّنا زيادة بيان لهذه المسئلة في كتاب « التمهيد »  فليطالب ثمّة .

الثواب والعقاب
قال رضي الله عنه : ( فقد علمت من يلتذّ ومن يتألَّم ، وما يعقب كلّ حال من الأحوال ، وبه سمّي عقوبة وعقابا ، وهو شائع في الخير والشرّ ،غير أنّ العرف سمّاه في الخير « ثوابا » وفي الشرّ « عقابا ») فإن عقب الشيء آخره ، ولذلك يقال للولد : عقب .
وبهذه النسبة خصّص بحث الدين بالفصّ اليعقوبي ، الذي هو آخر الآباء في هذه السلسلة ، فإنّ « اليعقوب » في أصل اللغة هو ذكر الحجلة لما له من عقب الجري.
"الحجل : طائرٌ في حجم الحمام من رتبة الدَّجاجيّات ، ومنه أنواع عدة ، أحمرُ المنقار والرجلين ، طيَّب اللحم "
الدين هو العادة
قال رضي الله عنه : ( وبهذا سمّي - أو شرح الدين ) الذي هو الجزاء - ( بـ « العادة » ، لأنه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله ) من الصور الملائمة وغير الملائمة - على ما سبق تفصيله.
قال رضي الله عنه : ( فالدين : العادة .
قال الشاعر :
كدينك من امّ الحويرث قبلها أي : عادتك .ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله، وهذا) العود بعينه ( ليس ثمّ ) أي في الدين ، ( فإنّ العادة تكرار ) ولا تكرار في الوجود أصلا .
( لكن العادة حقيقة ) بمعنى التكرار ( معقولة ) ، فلا يأباه العقل ظاهرا ، ( والتشابه في الصور موجود ) كما في المتّحدين بالنوع والمتماثلين من أفراده ، فيتصور العادة حينئذ بحقيقتها كما في الأفراد الإنسانيّة مثلا .
قال رضي الله عنه : (فنحن نعلم أنّ زيدا عين عمرو في الإنسانيّة ، وما عادة الإنسانيّة إذ لو عادت تكثّرت) الإنسانيّة ( وهي حقيقة واحدة ) غير متكثّرة ، ( والواحد لا يتكثّر في نفسه ونعلم أن زيدا ليس عين عمرو في الشخصيّة ، فشخص زيد ليس شخص عمرو ، مع تحقيق وجود الشخصيّة بما هي شخصيّة في الاثنين ) أي مع اعتبار معنى التشخّص فيهما ، فإنّه معنى واحد لا تكثّر فيه بنفسه كالحقيقة بعينها .
قال رضي الله عنه : ( فيقول في الحسّ « عادت » لهذا الشبه ) الواقع بينهما من عروض
هذا التشخّص الواحد ، ومن حيث تماثلهما في أصل الحقيقة .
قال رضي الله عنه : ( ونقول في الحكم الصحيح ) العقلي : ( « لم تعد » ) من حيث أنّ العائد بالذات غير البادئ ، على ما دلّ عليه برهان امتناع إعادة المعدوم بعينه .
قال رضي الله عنه : ( فما ثمّ عادة بوجه ، وثمّ عادة بوجه ) فقد جمع في حكمه هذين الطرفين ، وإنّما خصّ ذلك في الحسّ لأنّ مرجع الاشتباه بين المتمايزات ومورده ذلك ، ومن ثمة يرى العقل يغلطه في كثير من المواضع.
ولذلك وصف الحكم العقلي بالصحّة ( كما أنّ ثمّ جزاء بوجه ) حيث أنّ العقاب بما يستعقبه أفعال العبد وأحواله فهو العوض لها وجزاؤها ، ( وما ثمّ جزاء بوجه ) حيث أنّ كلّ حال مستقلّ في طروّها للعبد بنفسها (فإنّ الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن) ممّا يقتضيها الممكن بذاته ، وهي الأمور المتغايرة بالذات ، فليس بينها ما يستعقب بعضها بعضا ، من النسب الارتباطيّة والرقيقة الاتحاديّة بهذا الاعتبار .
وملخّص هذا الكلام أنّ الدين الذي هو من أحكام الأعيان الممكنة جامع للطرفين ، كالأعيان بعينها ، فإنّها من وجه عدم محض ، ومن وجه آخر أحوال وأحكام يتصوّر بها الوجود ، فلها وجود بهذا الوجه  . 
قال رضي الله عنه : (وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن - أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي ، لا أنّهم  جهلوها) ، وإلَّا لم يكن لهم علم بالشأن أصلا - وإنّما أغفلوا عن إيضاحها (فإنّها من سرّ القدر المتحكَّم في الخلائق) إذ ما من مخلوق إلَّا وهو مجبور تحت حكم قابليّته الأصليّة الذي يتّبعه التجلَّي .
وأعيان علماء ذلك الشأن ما حكمت قابلياتها وما طلبت ألسنة استعداداتهم إيضاح تلك المسئلة على ما ينبغي .

خدمة الرسل عليهم السّلام
وبيان ذلك ما أشار إليه بقوله : (واعلم أنّه كما يقال في الطبيب : « إنّه خادم الطبيعة »)
فيمن يستعلجه ويعالجه (كذلك يقال في الرسل والورثة) الذين هم العلماء بالشأن المذكور :
قال رضي الله عنه : (انّهم خادمو الأمر الإلهي في العموم) ممّا يتعلَّق بأنفسهم من الأحكام الخاصّة بهم ، ومما يتعلَّق بالأمم المتعلَّقة بهم مما يختصّ بهم (وهم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات ، وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم) وباقي الأعيان هم المخدومون في حال ثبوت أعيانهم .
قال رضي الله عنه : (فانظر ما أعجب هذا) حيث وقع أحوال الممكنات مخدومة - وهي خادمة بعينها - وحيث وقع الأشرف خادما ، والأخسّ مخدوما في أصل القابليّة ( إلَّا أن ) لهذه الخدمة تفصيلا لا بدّ من الوقوف عليه عند الاستطلاع لما يراد من هذا البحث هاهنا .
وهو أنّ ( الخادم المطلوب هنا إنّما هو واقف عند مرسوم مخدومه إمّا بالحال أو بالقول .
فإنّ الطبيب إنّما يصحّ أن يقال فيه : ) « إنه بالفعل ( خادم الطبيعة » لو مشى بحكم المساعدة لها ) فيما تريد في إصلاحها حالا أو قولا .
قال رضي الله عنه : ( فإنّ الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصّا به سمّى « مريضا » ، فلو ساعدها الطبيب خدمة ) في إبقاء ذلك المزاج له.
قال رضي الله عنه : ( لزاد في كميّة المرض بها أيضا ، وإنّما يردعها طلبا للصحة ، والصحّة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج ) الذي هو مبدأ الانحراف عن نهج الاستقامة والاعتدال الصحيح .
قال رضي الله عنه : ( فإذن ليس الطبيب بخادم للطبيعة ) مطلقا ( وإنّما هو  خادم لها من
حيث أنّه لا يصلح جسم المريض ولا يغيّر ذلك المزاج الَّا بالطبيعة أيضا ) كما أنّ الخدمة للأعيان الممكنة من أحوال أعيان الرسل .
قال رضي الله عنه : ( ففي حقّها يشفي من وجه خاصّ غير عامّ ) وذلك هو معاونة الطبيعة في إنشاء مزاج يقيمه على إصلاحه واعتداله بالطبيعة ، فخدمته مختصّة بهذا الوجه ( لأنّ العموم لا يصحّ  في مثل هذه المسئلة ) .
قال رضي الله عنه : ( فالطبيب خادم ، لا خادم - أعني للطبيعة - ) فهو أيضا ذو طرفين ( كذلك الرسل والورثة في خدمة الحقّ ) فإنّهم يخدمون الأمر الإلهي لا من جميع الوجوه ، بل من جهة الإصلاح ومساعدته للوصول إلى موقف الإسعاد .
قال رضي الله عنه : ( وأمر الحقّ على وجهين في الحكم في أحوال المكلَّفين ) فإنّه قد سلف لك في مطلع الكتاب أنّ للأمر الإلهي مدرجتين في النزول :
إحداهما من عرش الذات نحو تحصيل الأعيان بلا واسطة الرسل وهو المسمّى بالمشيّئة  والحاصل منه هو الشيء .
والثانية من علم الرسل نحو تبيين أحكام تلك الأعيان وخواصّها ، وهو المسمّى بالتشريع والحاصل منه هو الشرع .
والكل من المدرجة الأولى ، لكن خدمة الأنبياء والرسل إنّما تتعلَّق بما يعرض أحوال المكلَّفين منها من الأحكام ، وخدمتهم أيضا من تلك المدرجة .
وإليه أشار بقوله : ( فيجري الأمر من العبد بحسب ما تقتضيه إرادة الحقّ ، وتتعلَّق إرادة
الحقّ به بحسب ما يقتضي به علم الحقّ على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته ، فما ظهر ) الأمر الحقّ التابع للعلم ( إلَّا بصورته ) أي بصورة المعلوم .

الرسل خادمو الأمر الإلهي ، لا إرادته تعالى
قال رضي الله عنه : ( فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي ) - مما يتعلَّق منه بأحوال المكلفين - ( بالإرادة ) التي ظهرت بذلك الرسول وتعلَّقت به ، لما عرفت من شمول المدرجة الأولى للكلّ ، ( لا خادم الإرادة ) فإنّ الإرادة حكمها شامل للإسعاد والإشقاء ، وخدمة الرسل إنّما تتوجّه نحو إسعاد العبيد والمكلَّفين فقط .
قال رضي الله عنه : ( فهو يردّ عليه به طلبا لسعادة المكلَّف ) كما يردّ الطبيب على الطبيعة بها طلبا لصحّة المستعلج ، أي يردّ على الأمر المراد بذلك الأمر أيضا ، عند النصيحة بكفّهم عمّا يتوجّهون إليه بأنفسهم وذواتهم .
قال رضي الله عنه : ( فلو خدم الإرادة الإلهيّة ما نصح ، وما نصح إلَّا بها - أعني بالإرادة ) كما أنّ الطبيب ما ردّ الطبيعة الخارجة عن الاعتدال في أمزجة المرضى إلَّا بالطبيعة .
قال رضي الله عنه : ( فالرسول والوارث طبيب اخراوي «للنفوس ، منقاد لأمر الله حين أمره ، فينظر في أمره تعالى ، وينظر في إرادته تعالى ، فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ، ولا يكون إلَّا ما يريد ، ولهذا كان الأمر ) - أي وقع من الأنبياء أمر أممهم - ( فأراد الأمر فوقع ، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور ، فلم يقع من المأمور ، فسمّي مخالفة ومعصية ) .
قول رسول الله صلَّى الله عليه وآله : شيبتني سورة هود
( فالرسول مبلَّغ ) للأمر المحتمل لما يوافق الإرادة ويخالفها ، فيسعد ويشقي به  ( ولهذا قال  : « شيّبتنى هود وأخواتها » لما تحوي عليه من قوله : " فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ "  [ 11 / 112 ] ) من وجوب دعوة الأمم كلَّها ، ومن جملتهم من تعلَّقت الإرادة بأن لا يقع منه المأمور به .
فإنّ طلب وقوع المأمور به منه مع مخالفته للمراد ، يكون تكليفا بالمحال وطلبا لما يمتنع حصوله ( فشيّبه " كَما أُمِرْتَ ".
فإنّه لا يدري هل امر بما يوافق الإرادة - فيقع - أو بما يخالف الإرادة  فلا يقع . ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلَّا بعد وقوع المراد - إلَّا من كشف الله عين بصيرته ، فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه ، فيحكم عند ذلك بما يراه ، وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات ) صافية لهم ( لا يكون مستصحبا ) في سائر الأوقات .
وليس مما يختصّ بنيله الأنبياء ، فلا يلتفتون إليه كلّ الالتفات فإنّه ليس في معرفة الجزئيّات وتصفّح سماتها من الكمال ما يعتدّ به ولهذا ( قال ) النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم
( " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ " [ 46 / 9 ] ، فصرّح بالحجاب وليس المقصود إلَّا أن يطَّلع في أمر خاصّ ) من الكمال الذي لا شركة لأحد فيه ( لا غير ) ذلك من المآرب المتنوعة التي لأفراد نوعه .

التمهيد للفصّ اليوسفي الآتي
ثمّ إنّه قد اتّضح لك - حيث تكلَّمنا على كيفيّة نضد الفصوص أنّ الكلمة اليوسفيّة هي التي تمّت بها إحدى الحركات الوجوديّة في هذا النوع الكماليّ الإنسانيّ .

وهي التي تتوجّه فيها نحو ظهور كمالاته الصوريّة التي في مخارج الخارج على المشاعر الشاعرة ، وذلك إنّما يتحقّق بالنور الظاهر بنفسه ، المظهر لسواه ، ولذلك خصّها بالحكمة النوريّة ، فإنّ النور على اصطلاحهم ظاهر الوجود ، فقال :
فصّ حكمة نوريّة في كلمة يوسفيّة.

.



.

التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment