Saturday, July 27, 2019

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية .شرح الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية .شرح الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية .شرح الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي

شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن ابن أحمد ابن محمد الجامي على متن فصوص الحكم للشيخ الأكبر

الفص الإبراهيمي
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: (إنما سمي الخليل خليلا بتخلله وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية ؛قال الشاعر: )
 بسم الله الرحمن الرحيم
فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية
إنما خص الحكمة المهيمية بالكلمة الإبراهيمية لأن التهييم من الهيمان وهو صفة تقتضي عدم انحياز صاحبها إلى جهة بعينها بل إلى المحبوب في أي جهة كان لا على التعيين .
وهذه الصفة تحققت أولا في الملائكة المهيمين تجلى لهم الحق سبحانه في جلال جماله فهاموا فيه وغابوا عن سوى الحق حتى عن أنفسهم.
وثانيا من كمل الأنبياء في إبراهيم عليه السلام حيث غلب عليه محبة الحق حتى تبرأ عن أبيه في الحق وعن قومه وتصدى لذبح ابنه في سبيل الله .
وخرج عن جميع ماله مع كثرته المشهورة لله سبحانه ، وإنما قرنها بالحكمة القدوسية، لأنه وجب أن يذكر بعد الصفات التنزيهية السلبية أحكام الصفات النبوية ومراتبها.
وأول مظاهرها : الإنسانية، لتكمیل مرتبة المعرفة بالذات فإن السلوب لا تفيد معرفة تامة أصلا.
وكان الخليل عليه السلام أول مرآة ظهرت بها أحكام الصفات الإلهية الثبوتية.
وأول من حاز التخلق بها، فله أولية الظهور بالصفات الإلهية الثبوتية بمعنى أنه بحقيقته كسائر الذات بالصفات.
وهذه المناسبة ورد في الصحيح أن أول من يكسی يوم القيامة من الخلق إبراهيم عليه السلام ، لأنه الجزاء الوفاق. رواه البخاري ومسلم وغيرهم
(إنما سمي الخليل) يعني إبراهيم عليه السلام (خليلا لتخلله وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية) .
والمراد بتخلله الصفات الإلهية وحصرها إياها دخوله حضراتها وقيامه بمظهریانها واستيعابه إياها بحيث لا يشذ شيء منها بشرط أن تكون ظهور تلك الصفات فيه علی وجه يكون على جهة الإطلاق.
والحقية فيها غالبة على جهة التشييد والخلقية ، واستشهد لما ذكره من التخلل على وجه الاستيعاب وفي وجه التسمية بها.

قال الشيخ رضي الله عنه : (قد تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمي الخليل خليلا
كما يتخلل اللون المتلون، فيكون العرض بحيث جوهره ما هو كالمكان والمتمكن، أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السلام. و كل حكم يصح من ذلك، فإن لكل حكم موطنا يظهر به لا يتعداه.)
( قد تخللت مسلك الروح مني)، أي دخلت من حيث محبتك جميع مسالك روحي من القوى والأعضاء بحيث لم يبق شيء منها لم يصل إليه (وبه) أي بسبب هذا التخلل (سمي الخلیل) كائنا من كان (خليلا).
ثم لما كان التخلل المذكور في وجه التسمية أمرا معقولا مثله في صورة محسوسة، ولم يكتف بالتمثيل العقلي المفهوم من البيت المستشهد به توضيحا للطالبين.
فقال : (كما بتخلل اللون) الذي هو عرض (المتلون) الذي هو جوهر يحل فيه ذلك العرض حلول السريان (فيكون)، أي بوجد (العرض بحيث) يوجد (جوهره) الذي هو قائم به حال فيه .فلا يحل جزء من أجزاء الجوهر من العرض فيستغرق العرض جميع أجزائه .
(ما هو)، أي ليس ذلك التخلي المماثل لتختل اللون المتلون (كالمكان والمتمكن)، أي كالتخلل الواقع بين المكان والمتمكن بأن يكون بين سطحيهما تماس من غير امتزاج واستيعاب.
وإنما نفى الشيخ رضي الله عنه مماثلة تخلل العبد وجود الحق و صفاته عن تداخل المتمكن المكان مع أن الحق سبحانه كما أنه منزه عن أن يكون بذاته وصفة ظرفا لشيء أو مظروفا له .
كذلك منزه عن أن يحل شيء أو يحله شيء حلول السريان، لأن المقصود من هذا التمثيل تصویر كمال الإحاطة والاستيعاب.
وهو في الصورة الأولى لا الثانية (أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم) أي صورته الوجودية الروحانية أو الجمسانية الدنيوية والأخروية .
وفي بعض النسخ و لتخلل الحق بالواو وقالوا وبناء على أنه عليه السلام جامعا بين التخللین , او بناء على أن أحدهما يكفي في وجه التسمية.
(وكل حكم) عطف على قوله : وجود صورة إبراهيم أي وتتخلله كل حكم (وأثر يصح) ظهوره و انتشاؤه (من ذلك)، أي من وجود صورته في أي موطن كان وذلك بأن يتصف سبحانه بنك الحكم والأثر في ذلك الموطن وإنما قيد الحكم بالصحة وما ذكره مطلق.
(فإن لكل حكم) يتصف به العبد ويتخلله الحق سبحانه (موطنا) باعتبار خصوصیات الصور الوجودية (يظهر) ذلك الحكم (به)، أي بهذا الموطن فالباء للسببية أو بمعنى في (لا يتعداه) إلى موطن آخر فلا يتخلل في موطن كل صورة كل الأحكام .
بل كل حكم يصح منها في ذلك الموطن كالأحكام المذمومة مثلا.
فإن موطن ظهورها إنما هي النشأة الدنيوية لا يتعداها إلى موطن النشأة الروحانية ولا إلى موطن النشأة الأخروية.
ففي هذين الموطنين لا يتخلل الحق سبحانه تلك الأحكام المذمومة، فإنها لا تتعدى موطن النشأة الجسمانية الدنيوية إليهما.
ثم نور رضي الله عنه تخلل الحق بوجود الحق و اتصافه بصفانه بقوله :

قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟
ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها و كلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق. )
(ألا ترى أن الحق يظهر ) من حيث تعينه وتقيده بالظهور في عين العبد.
(بصفات المحدثات) يعني الصفات التي لا تصبح ظهوره سبحانه بها إلا في هذه النشأة الدنيوية (وأخبر بذلك) الظهور (عن نفسه) كما قال سبحانه : "الله يهزئ بهم" [البقرة : 15]،  "ومكر الله " [آل عمران : 54] "ومرضت فلم تعدني". رواه مسلم وابن حبان وغيرهم
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة:
يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.؟
قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمین !
قائل : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟
أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده .
يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني؟
قال يا رب و كيف أطعمك وأنت رب العالمين!
قال أما علمت أنه أستطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي .
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني ؟
قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين !
قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي. "
(وبصفات النقص وبصفات الذم) ولكن يكون ذلك النقص والذم بالنسبة إلى غيره لا إليه سبحانه كما سبق تقرير ذلك.
ومن تخلل العبد وجود الحق بقوله : (ألا ترى المخلوق)، يعني الإنسان الكامل (يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها) تخلف وتحقق سوى الوجوب الذاتي فإنه لا قدم للحادث فيه (وكلها)، أي كل صفات الحق (حق)، أي ثابت (للحق سبحانه) باعتبار تعین وجوده بها .
ولما كان المفهوم من أول الفص إلى ههنا أن العبد يتخلل تارة صفات الحق سبحانه والحق يتخلل تارة صفات العبد فلكل منهما صفات تغایر صفات الآخر أراد أن ينبه على أن صفات العبد أيضا واجعة إلى الحق فإنه بعض من صور شؤونه وصفاته بعض من صفاته .
فأشار أولا إلى رجوع المحامد إليه بقوله تعالى:

قال الشيخ رضي الله عنه : («الحمد لله»: فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد و محمود. «و إليه يرجع الأمر كله» فعم ما ذم و حمد، و ما ثم إلا محمود و مذموم. اعلم أنه ما تخلل شي ء شيئا إلا كان محمولا فيه.  فالمتخلل اسم فاعل محجوب بالمتخلل- اسم مفعول. فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور. وهو غذاء له كالماء يتخلل الصوفة فتربو به وتتسع. فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق سمعه و بصره و جميع نسبه و إدراكاته. وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، فالحق سمع الخلق و بصره و يده و رجله و جميع قواه كما ورد في الخبر الصحيح. )
(" الحمد لله" )(الفاتحة : 2]، أي الحمد الشامل كل حامدية به ومحمودية ملك لله تعالی مختص به لا يتجاوز إلى غيره .
(فرجعت إليه سبحانه عواقب الثناء) انتهاء وإن كان متعلقة بغير ابتداء (من كل حامد ومحمود).
وأشار ثانية إلى رجوع المحامد والمذام كلها إليه بقوله سبحانه :("وإليه ترجع الأمر كله" [هود: ۱۲۳] فعم).
أي هذا القول منه تعالى، أو الأمر الراجع إليه المفهوم من هذا القول (ما ذم) من الأمور (وما حمد) منها (وما ثمة)، أي في الواقع (إلا أمر محمود أو مذموم) فلا يكون أمر في الواقع إلا ويرجع إليه .
ثم إنه رضي الله عنه لما ذكر التخللين المذكورين في وجه تسمية الخليل خلية أراد أن يشير إلى أن :
أحدهما نتيجة قرب الفرائض
والأخر نتيجة قرب النوافل.
فقال : (اعلم أنه ما تخلل شيء شيئا إلا كان) الشيء المتخلل اسم فاعل (محمولا فيه)، أي في المتخلل اسم مفعول، أي مستور.
(بالمتخلل اسم مفعول فإسم المفعول هو الظاهر واسم الفاعل هو) الباطن المستور. وهو أي الباطن (غذاء له)، أي للظاهر لاختفائه كالغذاء في الظاهر ويقوي الظاهر به ، ثم أورد رضي الله عنه مثالا محسوسة للتوضيح فقال : (كالماء يتخلل الصوفة فتربو) أي تزداد الصوفة (به) ، أي بالماء (وتتسع)، أي تمتد في الأطراف
فإن كان الحق هو الظاهر في نظر العبد المتجلى له بأن براه ظاهرة بالفعل والتأثير ويرى الأحكام والآثار مستندة إليه لا إلى نفسه .
(فالخلق) يعني ذلك العبد المنجلي له (مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق) وصفاته (من سمعه وبصره وجميع نسبه من الإرادة والقدرة وغيرهما (وإدراكاته).أي علمه المتعدد بتعدد متعلقاته.
وهذا نتيجة قرب الفرائض (وإن كان الخلق) يعني العبد المتجلى له (هو الظاهر) بذلك الاستناد (فالحق مستور باطن فيه) لا يستند إليه شيء في نظره إلا بالآلية. (فالحق سمع الخلق وبصره و یده ورجله وجميع قواه)، وجوارحه وهذا نتيجة قرب النوافل (كما ورد في الخبر الصحيح)
من أنه صلى الله عليه وسلم قال إشارة إلى قرب الفرائض إن الله قال على لسان عبده"سمع الله لمن حمده " رواه البخاري ومسلم . وقال: "هذه يد الله وهذه يد عثمان" رواه النسائي فى السنن ووافقه الألباني وابن تيمية
، وأشار إلى يده ومع أنه صلى الله عليه وسلم قال : حكاية عن الله سبحانه إشارة إلى قرب النوافل "لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل" الحديث رواه البخاري .
""قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته .""

قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم تكن إلها. وهذه النسب أحدثتها أعياننا: فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، )
(ثم إن الذات) الإلهية (لو تعرت)، أي تجردت (عن النسب المسماة بالأسماء والصفات اللاحقة للذات بقياسها إلى أعيان العالم واستعداداتها ولم يكن إلها) .
فإن الإلهية عبارة عن مرتبة أحدية جمع هذه النسب التي هي الأسماء والصفات، فلو لم نعتبر هذه النسب لم يبق إلا الذات الإلهية التي لا يشار إليها بوجه من الوجوه وانتفت مرتبتها التي هي الإلهية .
(وهذه النسب أحدثتها أعياننا)، فإنه لا يتحقق إلا بالمتناسبين فلكل منهما دخل في تحققها وإن لم يستقل وهذا هو المراد بإحداثها، و المراد بالأعيان أعم من أن تكون ثابتة علمية أو موجودة عينية .
فإن بعض هذه النسب نلحق الذات بالنسبة إلى الأعيان الثابتة وبعضها يلحقها بالنسبة إلى الأعيان الخارجية (فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها)، أي جعلناه بعبوديتنا وكوننا محل تصرفه بحيث اتصف بالنسب الإلهية وإطلاق لفظ المألوه على العبد .
خلاف ما يقوله المفسرون من أن الإله بمعنى المألوه و هو المعبود وكأنه رضي الله عنه لاحظ في الإله بمعنى التأثير والتصرف فيما سواه .
فلا جرم يكون اسم المفعول منه هو العبد والمفسرون لما لاحظوا فيه معنى استحقاق من سواه لعبادته وعبوديته لا يكون اسم المفعول منه عندهم إلا المعبود .

قال الشيخ رضي الله عنه : (فلا يعرف حتى نعرف. قال عليه السلام: «من عرف نفسه عرف ربه» وهو أعلم الخلق بالله.
فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الله من غير نظر في العالم وهذا غلط. )
(فلا يعرف الحق) سبحانه من حيث مرتبة الإلهية (حتى نعرف) نحن من حيث مرتبة عبوديتنا ومألوهيتنا ، أي يمتد عدم معرفته إلا حين وجود معرفتنا أنفسنا وينتفي ضدها، في حين تعرف نحن يعرف هو.
(قال : من عرف نفسه عرف ربه وهو أعلم الخلق بالله.) فالأمر على ما هو أخبر عنه سبحانه .
وبعدما عرفت هذا (فإن بعض الحكماء وأبا حامد) الغزالي (ادعوا أنه يعرف ألله من غير نظر في العالم)، أي من غير استدلال به عليه استدلالا بالمؤثر على الأثر.
أو من غير ملاحظة له سواء كان بالاستدلال أو بغيره كما في المتضايفين.
(وهذا غلط منهم)، لأنه إن كان المراد الثاني فلا شك أن الألوهية معنی نسبي فلا يمكن تعقلها بدون المنتسبين .
الذين أحدهما : العالم
وإن كان المراد الأول فقيل : وجه الغلط أن طريق أهل النظر إما الاستدلال بالأثر على المؤثر أو بالمؤثر على الأثر .
ولا مؤثر للحق سبحانه "لا مؤثر فى الحق سبحانه" يستدل به عليه ، فإنحصر طريق معرفته في الاستدلال بالأثر على المؤثر.
والأثر هو العالم فلا يعرف من غير نظر في العالم.
ونوقش فيه بأن الكلام في مرتبة الألوهية لا في الذات البحت، ويمكن الاستدلال على المرتبة بالمؤثر فيها الذي هو الذات البحت.
بأن تعرف أولا الذات ثم بعض الصفات كوجوب الوجود مثلا ، وتفرع عليه سائر الصفات كما فعلوا ذلك .
وعلى مجموع الذات والصفات إلا بأمر واحد كما صدرت بحسب الواقع، فتعرف مرتبة الألوهية من غير استدلال بالعالم عليها وإن كان لا بد فيه من ملاحظة العالم. ويمكن أن يجاب عنه بأن معرفة الذات البحت يستدل بها على مرتبة الألوهية من غير نظر في العالم بالاستدلال عليها غير معلومة بل عدمها معلوم عند أهل النظر.
فالحكم بصحة معرفة تلك المرتبة من غیر نظر في العالم يكون غلطا غير صحيح. "لكن" نعم يصح ذلك في طريق أهل الكشف .
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "عرفت الأشياء بربي" حين قيل له : بم عرفت الله؟ " استشهد به ابن تيمية فى الفتاوى الكبرى و درء تعارض العقل مع النقل وفى غيرها.ونصه "عرفت الأشياء بربي وما عرفت ربي بالأشياء""
وكأنه إلى ذلك يشير الشيخ رضي الله عنه حيث

قال الشيخ رضي الله عنه : (نعم تعرف ذات قديمة أزلية لا يعرف أنها إله حتى يعرف المألوه. فهو الدليل عليه.
ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه و على ألوهيته، و أن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه ، وأنه يتنوع و يتصور بحسب حقائق هذه الأعيان و أحوالها،)
يقول: (نعم تعرف) من غير نظر في العالم (ذات قديمة أزلية لكن لا يعرف أنها إله حتى يعرف المألوه) ويستدل به على ألوهيته (فهو) أي المألوه (الدليل عليه)، أي على الإله من حيث هو إله ولذلك سمي عالما من العلامة التي هي الدليل.
(ثم بعدها في ثاني الحال) وفي بعض النسخ في ثاني حال بدون اللام أي بعد أن عرفت بمألوهيتك الإله وتوجهت إليه بكليتك تنفتح عين بصيرتك، بنور الكشف. (يعطيك) هذا الكشف الواقع في مقام الجمع بعد الفرق .
(أن الحق نفسه) باعتبار صور تعیناته و تقيداته (كان عين الدليل على نفسه) باعتبار مرتبة إطلاقه فإن كل تعين بالضرورة مسبوق باللاتعين . كذلك هو بخصوصياته التعينية عين الدليل على نسب (ألوهيته) .
فإن خصوص كل تعين يقتضي نسبة خاصة وصفة معينة .
(وإن العالم) عطف على قوله : وأن الحق عطف تفسير يعني ويعطيك الكشف أن العالم بجميع حقائقه الموجودة فيه .
(ليس إلا تجليه) الوجودي بالفيض المقدس .
(في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها)، أي وجود تلك الأعيان .
(بدونه) أي بدون ذلك التجلي الوجودي.
فالأعيان الموجودة ليست إلا تجلياته سبحانه فيها.
ولا فرق بينها وبين الحق إلا بالتقييد والإطلاق والمقید عین المطلق من وجه فهو سبحانه عین الدليل على نفسه .
(و) كذلك يعطيك الكشف (أنه) يعني العالم (بتنوع) أنواعا مختلفة (ويتصور) بفتح الياء يقبل صورة متباينة .
(بحسب) تنوعات (حقائق هذه الأعيان) الثابتة المتنوعة بحسب تنوعات النسب الألوهية.
(و) بحسب تنوعات (أحوالها) فهو سبحانه باعتبار تنوعات ظهوره في صور العالم دليل على نسبة ألوهيته كما كان من حيث نفس تجليه فيها دليلا على نفسه .
اعلم أن المشهود في هذا انكشف ليس إلا الحق سبحانه بتجلياته المختلفة المتنوعة بحسب اختلافات المجالي وتنوعات المراني .
فيشهد الوجود الحق الواحد بسبب انصباغه بأحكام المجالي والمرائي متعدد متكثرة.
وهذا الشهود على نوعين :
أحدهما : أن يشهد المشاهد الوجود الحق في أعيان الوجودات الخارجية وهي مظاهر للحق موجودة في أعيانها ظهر الحي فيها بحسبها نحوا من الظهور وضربا من التجلي،
وثانيهما : أن يشهد المشاهد الوجود الحق في مجالي الأعيان الثابتة ومراتبها وهي غير موجودة في أعيانها بل هي على عدمها الأصلى ووجودها العلمي ظهر الوجود الحق بها مختلف الصور.
فعلی هذا : يكون المراد بوجودها في قوله : يستحيل وجودها بدون ظهور أحكامها وآثارها في الوجود الحق لا وجودها في نفسها .  فإنها ما شمت رائحة الوجود في كشف هذه المشاهد .

قال الشيخ رضي الله عنه : (و هذا بعد العلم به منا أنه إله لنا. ثم يأتي الكشف الآخر فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضا، و يتميز بعضنا عن بعض.
فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا، و منا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. و بالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا، )
(وهذا) الكشف كما نبهنا أولا إنما يحصل لنا (بعد العلم به سبحانه منا أنه إله لنا) مؤثر فينا بأسمائه الوجودية و نحن عبید به متأثرون عن تلك الأسماء محتاجون إليها وجودة وبقاء.
فإنه لو لم نعلمه بالألوهية كيف يتيسر لنا التوجه إليه بالكلية المفضي إلى ذلك الكشف والاطلاع.
ثم يأتي بعد هذا الكشف (الكشف الآخر) و هو كشف مقام الفرق بعد الجمع ويسمى جمع الجمع باعتبار أنه يجمع الجمع مع الفرق فيظهر لك صورنا فيه.
أي في الحق سبحانه و مرآة وجوده (فيظهر بعضنا البعض) في مرآة الوجود (الحق فيعرف بعضنا بعضا ويتميز).
أي يفترق (بعضنا عن بعض) بحيث لا يقع بينهما رابطة معرفة على طبق التفارق والتناكر الواقعين في عالم الأرواح موافقين لما كان في استعداداتنا في الحضرة العلمية .
وإذا عرفت بعضنا بعضا سواء كانت هذه المعرفة في منام الفرق قبل الجمع أو بعده (فمنا من يعرف أن في) مرآة الوجود (الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا) ، أي لبعضنا ببعض وهؤلاء هم أرباب الكشف الثاني الذي هو مقام الفرق بعد الجمع و مشهودهم صور الأعيان الثابتة وأمثلتها في مرآة الوجود الحق من غير انتقالنا من العلم إلى العين .
ولكن أثرت في مرآة الوجود الحق حيث قبولها وصلاحيتها لا بأمر تلك الأعيان صورا وأمثله يحسبها الجاهل موجودات عينية .
(ومنا من يجهل تلك الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة) المتعلقة (بنا) بأن يعرف بعضنا بعضا و هي حضرة الوجود الحق التي هي كالمراة لنا فهم يرون صورة الفرق ويعرفونها متميزة بعضها عن بعض ولكن لا يعرفون أنها ظهرت في مرآة وجود الحق .
وهؤلاء المحجوبون الجاهلون بالأمر على ما هو عليه ولهذا استعاذ رضي الله عنه عن حالهم (فقال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وبالكشفين معا)، أي بمقتضى كل واحد من هذين الكشفين على انفراده ، فمعنى المعية اشتراكهما في هذا الحكم لا عدم استقلال واحد واحد منهما (ما بحكم) الحق تعالی (علينا إلا بنا لا بل نحن نحكم علينا بنا) أما بالكشف الأولى فلا نافية تجليات الوجود الحق المتعينة بمقتضيات أعياننا الثابتة فالحاكم علينا بالوجود وتوابعه هو الحق سبحانه بتلك التجليات .
لكن كما تقتضيه أعياننا فلا يحكم علينا إلا بنا بل هذا الحكم أيضا مما نطلبه بلسان استعداداتنا، فمتى لم نحكم عليه تعالى بإجراء الأحكام علينا ثم يجرها علينا ، فبالحقيقة نحن نحكم علينا بنا.
وأما بالكشف الثاني فلا نافية صور أعيان ظهورنا في مرآة الوجود الحق ولا تظهر هذه المرأة إلا كما تقتضيه أعياننا .
فهو لا يحكم علينا بالظهور وأحكامه إلا بنا.

قال الشيخ رضي الله عنه : (، لا، بل نحن نحكم علينا بنا و لكن فيه، و لذلك قال «فلله الحجة البالغة»: يعني على المحجوبين إذ قالوا للحق لم فعلت بنا كذا و كذا مما لا يوافق أغراضهم، «فيكشف لهم عن ساق»: و هو الأمر الذي كشفه العارفون هنا، فيرون أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه فعله و أن ذلك منهم، فإنه ما علمهم إلا على ما هم عليه، فتدحض حجتهم و تبقى الحجة لله تعالى البالغة.  فإن قلت فما فائدة قوله تعالى : )
(بل نحن) نطلب منه بلسان استعداداتنا أن يحكم علينا بهذا الحكم فبالحقيقة نحن (نحكم علينا بنا) .
(ولكن) هذا الحكم في هاتين الصورتين لا يكون إلا (فيه) أي في الحق ومرآة وجوده المطلق فإنا ما لم تظهر فيه لم نوجد وما لم نوجد لم يجر علينا أحكامنا وأحوالنا.
ولذلك قال تعالى : ("فلله الحجة") [الأنعام:149 ]. ( يعني على المحجوبين)، الذين تم تنكشف لهم حقيقة الأمر على ما هو عليه (إذا قالوا) يوم القيامة (للحق تعالى لم فعلت بنا كذا وكذا).
وأجريت علينا أعمالا مخصوصة أدتنا إلى هذه الشدائد وذكروا أمورا (مما لا توافق أغراضهم فيكشف لهم) على البناء للمفعول أو الفاعل وإرجاع الضمير إلى الحق.
(عن ساق) أي عن أمر شديد ساق ، وهو أن ذلك من مقتضيات أعمالهم على خلاف ما توهموه .
(وهو)، أي الساق هو الأمر الذي كشفه العارفون، أي علموه ظاهرة مكشوفا (هنا) أي في الدنيا (فيرون) المحجوبون (أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه) حال الحجاب.
(أنه فعله بهم) مما لا يوافق أغراضهم ( يرون أن ذلك)، أي ما ادعوه أنه فعله بهم منتشیء (منهم).
أي من أعيانهم الثابتة واستعداداتها الغيبية الأزلية وقابليتها الوجودية الأبدية (فإنه) ما فعل بهم إلا كما علمهم .
(ما علمهم إلا على ما هم عليه) في حال ثبوت أعيانهم (فتندحض حجتهم)، أي تبطل حجة المحجوبين على الله تعالى .
(وتبقى الحجة الله تعالى البالغة عليهم فإن قلت) : إذا كان عين الممكن قابلا للشيء ونقيضه لكان فائدة قوله : فلو شاء لهداكم أجمعين ظاهره وهي أن ترجيح أحد النقيضين إنما هو بنسبة الحق واختياره .
وإن كان نسبتهما إلى عين الممكن واحدة وأما إذا كان عين الممكن تقتضي قبول أحد النقيضين دون الأخر .ولا يمكن أن يتخلف منه مقتضاه. 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( «فلو شاء لهداكم أجمعين» قلنا «لو شاء» لو حرف امتناع لامتناع: فما شاء إلا ما هو الأمر عليه. و لكن عين الممكن قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل العقل، و أي الحكمين المعقولين وقع، ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته. و معنى «لهداكم لبين لكم: و ما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه: فمنهم العالم و الجاهل. فما شاء ، فما هداهم أجمعين، و لا يشاء، و كذلك «إن يشأ»: فهل يشاء؟ هذا ما لا يكون.)   
(فما فائدة قوله : فلو شاء لهداكم أجمعين)، أما المعنى المستفاد منه (قلنا) قوله : لو شاء (لو) فيه (حرف امتناع لامتناع) أي يدل على امتناع التالي لامتناع المقدم.
ففائدة الآية امتناع هداية الكل لا لامتناع تعلق مشيئته سبحانه بها "لهداكم" ، وإنما امتنع تعلق مشيئته سبحانه بها لأن الأعيان متفاوتة الاستعداد بعضها قابلة للهداية وبعضها غير قابلة للهداية.
وعلمه سبحانه تابع للأعيان لا يتعلق بها إلا على ما هي عليه في أنفسها ومشيئته تابعة للعلم "الإلهي".
(فما شاء إلا ما هو الأمر عليه) فكل عين اقتضت الهداية تعلقت مشيئته بهدايتها ولا يمكن خلاف ذلك في نفس الأمر .
وإن جوزه العقل كما أشار إليه رضي الله عنه بقوله :
(ولكن عين الممكن قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل العقل)، وذلك لأن العقل قاصر عن إدراك ما هو الأمر عليه في نفسه.
(وأي الحكمين المعقولين) الذين جوزهما العقل (وقع) فلا محالة .
(فذلك) الحكم (هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته) في المرتبة العلمية (ومعنى قوله "لهداكم" لبين لكم) الأمر على ما هو عليه في نفسه . فيصير معنی الآية : أمتناع بيان الأمر على ما هو عليه لكل أحد . لامتناع تعلق مشيئته سبحانه به.
ثم بين رضي الله عنه امتناع تعلق مشيئته تعالى ببيان الأمر لكل أحد .
بقوله : (وما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه)، لأن عين بعض الممكنات لا يقتضي ذلك الفتح، فلا يتعلق المشبه به فلا ينفتح عين بصيرته فلا يدرك الأمر على ما هو عليه .
(فمنهم العالم) الذي يقتضي عينه أن يتعلق المشبه ببيان الأمر له ومنهم الجاهل الذي لا يقتضي عينه ذلك.
ثم ذكر رضي الله عنه نتيجة هذه المقدمات بقوله: (فما شاء) أي من الأزل إلى الآن هداية الجميع (فما هداكم أجمعين ولا يشاء)، أي من الآن إلى الأبد أيضا هداية الجميع فلا يهديهم أجمعين أبدا.
(وكذلك)، أي مثل قوله : لو شاء. قوله : (إن يشأ) المختص بزمان الاستقبال في
قوله تعالى : "إن يشأ يذهبكم "وأمثاله في إفادة امتناع أمر لامتناع المشيئة .
(فهل يشاء)، أي هل تتعلق مشيئته المستفادة من قوله : "إن يشأ" مما أفاد امتناع تعلقها به.
(هذا ما لا يكون) أبدا ، لأن مقتضى الأعيان لا تتبدل . 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمشيئته أحدية التعلق و هي نسبة تابعة للعلم والعلم نسبة تابعة للمعلوم و المعلوم أنت و أحوالك. فليس للعلم أثر في المعلوم، بل للمعلوم أثر في العلم فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه.
و إنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون و ما أعطاه النظر العقلي، ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف. و لذلك كثر المؤمنون و قل العارفون أصحاب الكشوف.
«و ما منا إلا له مقام معلوم»: و هو ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك)
(فمشيئته أحدية المتعلق)، لا يتعلق إلا بأحد النقيضين وبين ذلك بقوله : (وهي نسبة) أي وذلك لأن المشيئة نسبة (تابعة للعلم) لا تتعلق إلا بما يقتضي العلم تعلقها به .
(والعلم نسبة تابعة للمعلوم) لا يتعلق به إلا على ما هو عليه في نفسه .
(والمعلوم أنت وأحوالك) وأنت لم تتغير عما كنت عليه في حال ثبوتك .
ولما كان المتوهم أن يتوهم ههنا أن نتعلم تأثيرا في المعلوم فيمكن أن تستند مقتضيات الأعيان إلى العلم بها إلى نفسها .



دفعه رضي الله عنه بما يتفرع على تبعيته للمعلوم أعني قوله :
(فليس للعلم أثر في المعلوم بل للمعلوم أثر في العلم) وفي بعض النسخ في العالم والأول أنسب.
(فيعطيه)، أي أثر المعلوم في العلم أن يعطيه (من نفسه ما هو عليه في عينه) فيجعله مطابقا تابعا له في هيئة التطابق .
ولما كان المفهوم و المتبادر من قوله :" فلو شاء لهداكم أجمعين" [الأنعام: 149 ].
تساوي الهداية و عدمها إلى جميع المخاطبين , وترجيح أحد الجانبين بمحض مشیئته  سبحانه لامتناع تعلق المشيئة بهداية الجميع كما ذكره رضي الله عنه .
اعتذر بقوله (وإنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ)، أي توافق (عليه المخاطبون) المحجوبون المقتدرون بطور العقل .
(و) بحسب (ما أعطاه النظر العقلي ما ورد) ذلك (الخطاب) بحسب معناه الظاهر ومفهومه المتبادر (على) طبق (ما يعطيه الكشف) لعدم وفاء استعدادات الكل بذلك.
(ولذلك كثر المؤمنون) المصدقون بما هو الظاهر المتبادر من الخطابات الإلهية (وقل العارفون أصحاب الكشوف) الفائزون بإدراك المراد منها على ما هو عليه.
(وما منا إلا له مقام معلوم) و مرتبة معينة في علم الله تعالى لا يتعداها ولا يتجاوز عنها.
فمن كان مقامه مضيق العقل يبقى أبدا محبوسا فيه .
ومن كان مقامه متسع الكشف يترقی دائما في مدارجه و مراقيه .

(وهو) أي المقام المعلوم (ما كنت)، أي مقام كنت ملتبسا (به في) حال (ثبوتك) في الحضرة العلمية (ثم ظهرت) متلبسا (به في وجودك العيني) الخارجي مطابقة في الحضرة العلمية.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( هذا إن ثبت أن لك وجودا. فإن ثبت أن الوجود للحق لا لك، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق. و إن ثبت أنك الموجود فالحكم لك بلا شك. و إن كان الحاكم الحق، فليس له إلا إفاضة الوجود عليك و الحكم لك عليك. فلا تحمد إلا نفسك و لا تذم إلا نفسك، و ما يبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك.
فأنت غذاؤه بالأحكام، ... و هو غذاؤك بالوجود. فتعين عليه ما تعين عليك. فالأمر منه إليك ومنك إليه.)

(هذا)، أي ظهورك في وجودك لما كنت به في ثبوتك لنا يصح (إن ثبت أن لك وجودا) على أن يكون وجود الحق سبحانه مرآة الأعيان والظاهر فيها الأعيان.
(فإن ثبت أن الوجود للحق لا لك) بأن تكون الأعيان مرئي لوجود الحق فيكون الظاهر هو الوجود الحق لا الأعيان التي هي كالمرائي له.
(فالحكم لك)، أي الحاكم بها على وجودك أنت من حيث عينك الثابتة (بلا شك) ولكن (في وجود الحق) فقد أخذ الحق تعالی من علمه بك.
(وإن ثبت) عندك (أنك الموجود) بالوجود الفائض (فالحكم) أيضا (لك بلا شك) فالحكم في الصورتين لك تارة على وجود الحق وتارة على وجودك .
(وإن كان الحاكم الحق) واعتبر كونه حاكما (فليس له سبحانه إلا إفاضة الوجود عليك) و على أحوالك لا اتحاد حكم أو أثر لا تقتضيه عينك والحكم بخصوصية كل حكم وأثر .
(لكن) من حيث عينك الثابتة لا للحق , فإنه لا حكم للمطلق بخصوصيات الأحكام (عليك) في وجودك العيني لا عليه إلا من حيث ظهوره فيك واتحاده بك "سريانه فيك" .
(فلا تحمد) في المحامد (إلا نفسك ولا تذم) في المذام أيضا (إلا نفسك)، فإن كل ما يصدر عنك من المحامد والمذام إنما هو مما تقتضيه عينك .

وتطلب من الحق سبحانه إفاضة الوجود عليها فكل المحامد و المذام راجعة إليك.
(وما يبقى للحق) سبحانه (إلا حمد إفاضة الوجود) عني عينك الثابتة و على أحوال عينك .
(لأن ذلك) إلى إفاضة (الوجود له)، أي الحق سبحانه (لا لك)، لأن ما لا وجود له في حد ذاته كيف يفيد الوجود على غيره .
(فأنت غذاؤه بالأحكام) حين احتفيت فيه وأعطيته أحكامك، وذلك إذا كان الموجود المشهود هو الحق سبحانه والأعيان مرائي له .
(وهو غذاؤك بالوجود) حين اختفی بوجوده فيك اختفاء الغذاء في المغتذي وأعطاك أحكامه وذلك إذا كان الموجود هو الأعيان فوجود الحق مرآة لها (فتعين عليه ما تعين عليك) (فالأمر) تارة صادر (منه) اتحادة وإيجابا متوجه (إليك و) تارة صادرة منك بلسان الحال والقول والفعل متوجه (إليه).
ولما أثبت المشاركة بين الحق سبحانه وبين العبد أراد أن يبين ما به يمتاز عنه فقال : فكما أنت غذاء له فهو أيضا غذاؤك , كما أنك تحكم عليه فهو أيضا يحكم عليك.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( غير أنك تسمى مكلفا و ما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك و بما أنت عليه. و لا يسمى مكلفا: اسم مفعول.
فيحمدني و أحمده ... و يعبدني و أعبده
ففي حال أقر به ... و في الأعيان أجحده
فيعرفني و أنكره ... و أعرفه فأشهده
فأنى بالغنى و أنا ... أساعده فأسعده؟)
(غير أنك تسمى مكلفا) اسم مفعول لتكليفه إياك (و) لكنه (ما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك وبما أنت عليه).
يعني ما كلف الحق سبحانه إلا بما قلت له بلسان حالك وبتان ما أنت عليه من الاستعداد كلفني به ، فبالحقيقة ما كلفك إلا نفسك.
فالجار والمجرور في قوله : بحالك، وقوله : بما أنت متعلق بالقول لا بالتكليف (ولا يسمى) هو سبحانه (مكلفا اسم مفعول) بل هذا الاسم مختص بك.
شعر: (فيحمدني) بإفاضة الوجود على وإظهاره كمالاتي بها أولا وثانية علي بكلامه حين يثني على عباده على اختلاف درجات ثنائنا وبالنسبة عبادة ثالثا.
(وأحمده) بجميع السنتي انفولية والحالية والفعلية .
(ويعبدني)، أي يعطيني فيما أطلب منه بلسان حالي و استعدادي من الوجود وتوابعه (فاعبده) "وهذا لايكون الا عند التلون والتقلب في التجليات" .
شكرا لعبادته لي "هوالآن يتكلم الآن بلسان الحق مخاطبا نفسه العبد وكل العباد - ظاهره حق وباطنه عبد ".
وعبادتي له "هو الآن يتكلم بلسانه كعبد وككل العباد  مخاطبا الحق - ظاهره عبد وباطنه حق " ,في الظاهر إقامة حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه . وفي الباطن قبول تجلياته الذائية والأسمائية.
وكان إطلاق العبادة على الحق سبحانه وتعالى بناء على المشاكلة وإلا فالشيخ رضي الله عنه كما يعلم من مؤلفاته من الأدباء المتمكنین لا المغلوبين.

(ففي حال)، أي حال تجليه في المراتب الإلهية (أقر به وفي حال)، أي حال تجليه في الأعيان الكونية (أجحده) وأنكره لاتصافها بما ينافي المرتبة الإلهية .
كان هذا بلسان الإلهية كان هذا بلسان حال المحجوبين وإلا فصاحب الشهود يراه في كل شيء ويقر به .
(فيعرفني) في جميع المواطن (وأنكره) النكرة ضد المعرفة , وقد نكرت الرجل بالكسر نكرة ونكورا و أنكرته و استنكرته، كله بمعنى .
فقوله : أنكره إما بفتح الكاف من التنكر أو بكسرها من الإنكار بمعناه لا بمعنى الجحود في بعضها، أي لا أعرفه .
(و) ویعد ما أنكره (أعرفه) برفع الحجب (فأشهده) شهودا عيانيا في المجالي التفصيلية .
(فاني)، أي من أين يتصف (بالعين) مطلقا (وأنا أساعده وأسعده)، أي أنصره وأعينه في ظهور كماله الأسمائي فثبوت ألعين له إنما هو باعتبار الكمال الذاتي لا مطلقا.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( لذاك الحق أوجدني ... فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحديث لنا ... و حقق في مقصده
و لما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سمي خليلا لذلك سن القرى ، و جعله ابن مسرة مع ميكائيل للأرزاق ، و بالأرزاق يكون تغذي المرزوقين. )
(كذلك) الإسعاد و المساعدة (الحق أوجدني فأعلمه) في نفسي وهو إشارة إلى مرتبة الكمال (فأوجده) بما أعلمه في نفوس الطالبين وأسرار المريدين, صورة مطابقة كما هو عليه في العين. وذلك إشارة إلى مرتبة التكميل.
ولا يبعد أن يقال معنى أوجده اجعله متمثلا بين عيني في العبادة . إذ بذلك جاء الحديث النبوي أعني قوله :"أعبد الله كأنك تراه"  . مصنف أبي شيبة,والطبراني في الكبير, والنسائى وأحمد والبيهقي وأبو داود في الزهد وغيرهم

قال الشیخ رضی الله عنه ، كأنك إشارة إلى موطن الخيال .
وفي بعض النسخ كذلك الحق بالكاف، أي كما أساعده وأسعده أوجدني الحق سبحانه فأعلمه فأوجده (بنا)، أي بالمعنى المذكور، وهو أن الحق سبحانه إنما أوجدني لأسعده في ظهور الكمال أسمائي الذي أعمدته العلم والمعرفة.
(جاء الحديث) القدسي المشهور منبها (لنا) على غاية إيجاده إيانا وهو "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" . ذكره العجلوني في كشف الخفاء والسيوطي في الدر المنتثرة و السخاوي في المقاصد الحسنة والزركشي.
(وحقق في مقصده) الذي هو هذه الغاية وهي معرفته سبحانه والعلم به.
(ولما كان للخليل عليه السلام هذه المرتبة التي بها يسمى إبراهيم خليلا)، وهي تخلله وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية تخلل الرزق ذات المرزوقين بحيث لا يبقى فيها شيء إلا تخلله.
(لذلك)، أي لكونه صاحب تلك المرتبة (سن القري) الذي من لوازمه إيصال الرزق إلى المرزوقين .
(وجعله)، أي الخليل عليه السلام (ابن مسرة الجيلي) وهو كما قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات من أكبر أهل الطريق علم وحالا وكثيرة، والقرا المذكورون في قوله تعالى: "ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" [الحاقة : 17 ] أربعة منهم الملائكة .
واختلف فيهم وفي الأنبياء الذين معهم أيضا، فجعل ابن مسرة إبراهيم (مع میكائیل ملك الأرزاق وبالأرزاق يكون تغذي المرزوقين) عليهما السلام 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه شيء إلا تخلله، فإن الغذاء يسري في جميع أجزاء المغتذي كلها وما هنالك أجزاء فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها بالأسماء فتظهر بها ذاته جل وعلا.
فنحن له كما ثبتت ... أدلتنا ونحن لنا
وليس له سوى كوني ... فنحن له كنحن بنا)
( فإذا تخلل الرزق) الذي هو الغذاء للمرزوق . (ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه)، أي في المرزوق ( شيء) من الأجزاء (إلا تخلله) الرزق.
(فإن الغذاء) بسبب هذا التخلل المستوعب (يسري في جميع أجزاء المتغذي به كلها وما هناك) .
أي في الجناب الإلهي (أجزاء) لتنزيهه و تنزهه بقدسه عن التركيب (فلا بد أن يتخلل) الخليل عليه السلام (جميع المقامات الإلهية) والمراتب الربانية (المعبر عنها بالأسماء).
فإنها لذلك الجناب بمنزلة الأجزاء للمتغذي به (فتظهر) منصوب معطوف على يتخلل.
أي لا بد أن يتخلل الخليل جميع المقامات والأسماء فتظهر (بها)، أي بتلك المقامات والأسماء التي تخللها الخليل واتصف بها (ذاته جل وعلا) في مظهرية الخليل عليه السلام وجواب لما.

أما قوله : لذلك من القرى أو هو تأكيد لعلية مدخول لما لجوابه .
وجوابه قوله : فلا بد أن يتخلل بها (فنحن) معشر المتخللين جميع المقامات والأسماء الإلهية تخلل الرزق أجزاء المرزوق مظاهر (له) سبحانه ظهرت فينا ذاته متلبسة بتلك الأسماء والمقامات .

(كما ثبتت) وتحققت (أدلتنا) الكشفية الوحدانية الدالة على ما قلنا .
(ونحن) باعتبار أعياننا الوجودية العينية مظاهر (لنا) أيضا باعتبار أعياننا الثابتة، فإن مظهريتنا تئذات الإلهية إنما تجلت أولا بصور أعياننا الثابتة تم بواسطتها بصورة أعياننا الخارجية.
(وليس له) مظهر كامل تام المضاهاة مع الظاهر فيه (سوی كوني).
أي الكون الجامع الذي هو باعتبار جمعيته حقيقة آدم .
وباعتبار تفصيله حقيقة العالم وإنما أضافه إلى نفسه لأنه تمام حقیقته الكلية .
(فنحن) من حيث أعياننا الموجودة في العين مظاهر (له) أي للحق سبحانه (كنحن) من هذه الحيثية متلبس (بنا) من حيث أعياننا الثابتة المظهرية .
فكما نحن من هذه الحيثية مظاهر لأعياننا الثابتة , لذلك نحن من هذه الحيثية مظاهر الوجود الحق سبحانه .
ويمكن أن يتكلف ويقال : كلمة بنا في الأصل ممدودة حففت لضرورة الشعر كالأنا في البيت الأخير.
والمراد به المظهر فإن المظهر للظاهر مثل بناء يسكن فيه.

وقوله : "نحن" مبتدأ و"بنا" خبره . والكاف في قوله : كنحن لإفادة تشبیه الحق سبحانه بأعياننا الثابتة في كون ذواتنا الخارجية مظاهر لكل واحد منها .
يعني نحن بأعياننا الموجودة في العين للحق سبحانه بنا، أي مظهر كما لأعياننا الثابتة في العلم،
قال الشيخ مؤيد الدين الجندي : يقولون لون الماء لون إنائه، أنا الآن من ماء إناء بلا لون .
(والله يقول الحق) بلسان غيره في سائر الحقائق فلا إنكار عليه إذا تكلم بمثل هذا المقال.
""قديما قالوا حديث: "ألسنة الخلق أقلام الحق" و حديث :"قال ذُكر الدجال عند عبد الله بن مسعود فقال لا تكثروا ذكره فإن الأمر إذا قضى في السماء كان أسرع من نزوله إلى الأرض أن يطير على ألسنة الناس".رواه الطبراني في الكبير""

(وهو يهذي السبيل) الموصل إلى فهمها وقبولها لمن يشاء من الخلائق فلا اختيار لمن ألحد طريق الهداية والضلال."ألحد : أنكر وتعامى عن".

نهاية الفص الإبراهيمي
.
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment