Saturday, January 18, 2020

18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة


شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية
وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص الكلمة اليونسيّة بالحكمة النفسيّة ما في أصل حقيقة النفس وكنه قابليّتها من أنّها ما لم تتنزّل من معارج أعالي القدس ومطالع أنوار الجبروت إلى محاوي أسافل بحور الجسم وظلمات بطون حيتان الأمزجة ، لم يحصل لها استعداد الترقّي إلى مراقي القرب ونادي الخطاب والمناداة ، حتى فاز في عين تلك الظلمات بالتوحيد التنزيهيّ في حضرة الحضور ، والتسبيح الجمعي في مجلى الخطاب ، إلى أن نفّسه الله تعالى من كربه ونجّاه من تعبه .

فعلم أن للكلمة اليونسيّة اختصاصا بمادّة حروف النفس - بفتح الفاء كانت أو بسكونها - فإنّ الجهة الامتيازيّة بين المادّتين إنما هو الفاء والواو ، وذلك تتقاربان لفظا ومخرجا .
وإنما يفترقان رقما بالاتصال الموجب للخفاء ، والانفصال الحاكم بالظهور .
ثمّ إنّك قد عرفت عند الكلام على وجه ترتيب الكتاب ونظم فصوصه على النسق المخصوص أن الكلمة اليونسيّة هي التي تمّت بها السير الكمالي ، الذي في عرض الأرض الاعتدالي الإنساني ، صوب إظهار الأوضاع الكماليّة من الصور الشرعيّة والأحكام المشعرة ،
ولذلك تراها وقد جمعت بين الرسالة إلى مائة ألف أو يزيدون وهي منتهى مراتب الإظهار وبين الاختفاء في غياهب طبقات الظلمات ، فإنّ كل متوجّه إلى طرف ما لم يصل إلى ما يقابله من الطرف الذي يضادّه في تلك الجهة المتوجّه إليها لم يتمّ له ذلك الطرف عند التحقيق.

ومن هاهنا ترى الهويّة المطلقة - التي هي موطن كل كمال وتمام - يسمّى عند القوم بمجمع الأضداد ومعتنق الأطراف .
وبيّن أن منتهى أمر هذا الإظهار المذكور هي الخلافة المترتّبة على الرسالة .
ومن جملة أحكام الخلافة وخصائصها اللازمة لها الغلبة على بني نوعه وقهرهم وقتل الأنفس منهم ، فلذلك بنى الكلام في هذا الفصّ عليه وأطنب في تحقيقه .

من يتولَّى حلّ نظام النشأة الإنسانيّة ؟
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ هذه النشأة الإنسانية بكمالها ) - عند بروز ما استجنّ في أرض قابليّتها على مزارع الإظهار ( روحا ونفسا وجسما - خلقها الله على صورته ) الجامعة بين التنزيه الذي هو مدرك الروح ، والتشبيه الذي هو مدرج الجسم ، والجامع بينهما أعني اللطيفة التي هي النفس الناطقة وهي المسمّاة بالقلب في عرفهم الخاصّ .
فإطلاق النفس هاهنا على النفس الناطقة بالعرف العامّ الذي عليه كلمة أهل النظر والحكماء وكثيرا ما يتنزّل في هذا الكتاب على عرفهم ومداركهم ، كما قد اطَّلعت عليه في الفصّ الآدمي .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يتولَّى حلّ نظامها إلا من خلقها ) ، وذلك التولية ( إمّا بيده )  كما سبق بيانه في حكم المشيئة التي هي بلا واسطة .
""أضاف المحقق :  المؤلف يتعرض لما قاله القيصري : " أو بواسطة أمره ، وهو الملك ، فسمى الملك أمرا لكونه موجودا بالأمر ، كما يسمى عالم الأرواح بالأمر " .""

كما قال : “  الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها “  [ 39 / 42 ] ( وليس ) في الحقيقة ( إلا ذلك أو بأمره ) وهو الذي بالواسطة ، أي بواسطة الرسل وأحكامهم المنزلة عليهم .

فلا يحتاج إلى أن يجعل « الأمر » بمعنى « الملك » فإنّ أمر الرسل أمره بالواسطة .
وقد حقّق آنفا أنّ الواقع في نفس الأمر لا يخلو عن الأمرين ، والكلّ تحتهما وإن كان عند التحقيق - الذي بالواسطة بيد الله ، كما سبق في بحث المشيئة تحقيقه .
وكان قوله : « وليس إلا ذلك » إشارة إلى هذا المعنى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن تولَّاها بغير أمر الله فقد ظلم نفسه ) من حيث أنه هدم صورته الكاملة ( وتعدّى حدّ الله فيها ) ومن حيث أنه حكم بالكفّ عنه ( وسعى في خراب من أمره الله بعمارته ) وهو إصلاح الصورة وإتمام أمرها . فإنّ سائر الأنبياء إنما وضعوا الأحكام لإتمام تلك الصورة وإحكام نظامها ، فإن سائر تلك الأحكام متعلقة بأفعال هذه الصورة ، والفعل تمام صورة الشخص.

 مراد الخالق إبقاء الحياة وتعميرها ، لا هدمها
قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم أنّ الشفقة على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغيرة في الله ) فإنّ الأول مبدؤه وأصله الرحمة . والثاني منشؤه القهر والغضب .
فإنّ سائر أوصاف العبد وأفعاله فرع أوصاف الحقّ وظلالها .
وقد عرفت أنّ الرحمة هو السابق حكما وإحاطة ، فهي أحقّ بالرعاية لقربها إلى الذات ، فكذلك ما يتفرّع عليها من أوصاف العبد .
ومما يؤيّد ذلك أن داود لما تمّ له أمر الخلافة والرسالة استقرّ على عرش إيالته و ( أراد داود بنيان بيت المقدس ، فبناه مرارا ، فكلَّما فرغ منه تهدّم . فشكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه : إنّ بيتي هذا ) أي البيت المقدس .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا يقوم على يدي من سفك الدماء ) وذلك لأنّ سفك الدماء مبدؤه من الغيرة ، التي إنّما تنشأ وتشتقّ من « الغير » ، وهو ينافي التقدّس .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال داود : " يا رب ألم يكن ذلك في سبيلك ؟ " . قال : « بلى ، ولكنهم أليسوا بعبادي ؟ » . قال : " يا رب فاجعل بنيانه على يدي من هو منّي " . فأوحى الله إليه : « إن ابنك سليمان يبنيه » . فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية ، وأنّ إقامتها أولى من هدمها ) .

شواهد مراعاة النشأة الإنسانيّة في الشرع
هذا ما في الأمم السالفة ، وفي شريعتنا أيضا ما يؤيّد ذلك ، ( ألا ترى عدوّ الدين ) مع كمال اهتمام واضع الدين بإقامة أحكامه ، وذلك على أنّه منوط برفع العدوّ وقمعه ، ( قد فرض فيهم الجزية والصلح ، إبقاء عليهم ، وقال : " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى الله " ) [ 8/61].

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى من وجب عليه القصاص ، كيف شرّع لوليّ الدم أخذ الفدية أو العفو ؟ فإن أبى فحينئذ يقتل ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة فرضي واحد بالدية أو عفى - وباقي الأولياء لا يريدون إلا القتل - كيف يراعى من عفى ويرجّح على من لم يعف ، فلا يقتل قصاصا ألا تراه يقول صلَّى الله عليه وسلَّم في صاحب النسعة ) ،
وهي حبل عريض كالحزام ، قيل : إنّها كانت لرجل وجد مقتولا ، فرأى وليّه النسعة في يد رجل ، فأخذ بدم صاحبه فلما قصد قتله
قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ( « إن قتله كان مثله » ) أي في الظلم ، إذ لا يثبت به القصاص شرعا .
""أخرج ابن ماجة  : « أتى رجل بقاتل وليه إلى رسول الله ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : اعف . فأبى . فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : خذ أرشك . فأبى . قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : اذهب فاقتله فإنك مثله » . ""
وفيما يثبت أيضا ، فإنّه هدم بنيان الحقّ .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا تراه يقول : “  وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها “  [ 42 / 40 ]  فجعل القصاص سيّئة ، أي يسوء ذلك الفعل ، مع كونه مشروعا ؟ “  فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه ُ عَلَى الله “  لأنّه على صورته ، فمن عفى عنه ولم يقتله فأجره على من هو على صورته لأنّه أحقّ به إذ أنشأه له).
أي الحقّ ما أنشأ هذه النشأة الكاملة العبديّة إلا لنفسه ، فإنّه ما تصوّر إلا به .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ظهر بالاسم الظاهر إلا بوجوده ، فمن راعاه إنما يراعى الحقّ ) إذ قد تقرّر غير مرّة أن العبد ممحوّ ، والعبودية ممحوّة الأثر .

مرجع الذمّ والحمد
ثمّ إنّه لما استشعر أن يقال هاهنا : كيف يصحّ أن يكون ذلك صورة الحقّ ، وهي مذمومة تارة ومحمودة أخرى ؟
نبّه على جوابه بقوله رضي الله عنه  : ( وما يذمّ الإنسان لعينه ، وإنما يذمّ الفعل منه ، وفعله ليس عينه ، وكلامنا في عينه ) أنّه صورة الحق .
فلئن قيل : الفعل له عين أيضا موجودة ، فكيف يصحّ أن يكون مرجع الذمّ - وهو العين من حيث هي - غير مذمومة ؟
قلنا : إنّ عين الفعل من حيث أنّها عين غير مذمومة ، وإنما اكتسبت ذلك من النسبة التي له إلى عين تلك الصورة ،
وأشار إلى هذا الاستكشاف بقوله رضي الله عنه : ( ولا فعل إلا لله ، ومع هذا ذمّ منها ما ذمّ ) أي ذم الفعل من العين واكتسب منها ذلك عند نسبته إليها ( وحمد ما حمد ) وفي بعض النسخ : وحمد منها .

ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ منشأ الذمّ إذا كان مجرّد نسبة الفعل إلى العين فكيف يكون الفعل منها محمودا تارة ، ومذموما أخرى ؟
فبيّن كيفية ذلك التمييز والتفصيل بقوله : ( ولسان الذمّ على جهة الغرض ) أي لغرض من الذامّ بخصوصه ، لا على جهة العموم وحفظ صورة الجمعيّة ( مذموم عند الله ولا مذموم إلا ما ذمّه الشرع ) الحافظ لتلك الصورة ، فإنّه هو الكاشف عن أحكام الأعيان وأوصافها .
إذ زمام أمر الإظهار إنّما هو بيده ، وهو الذي يتمكَّن عن إظهار بعض الأشياء بالحمد له وإخفاء الآخر بذمّه .

المشيئة والتشريع 
وبيان ذلك أنّك قد عرفت أن الأمر المقتضي لإيجاد المكوّنات - عينا كانت أو حكما - له مدرجتان في التنزل : إحداهما ذاتيّة بلا واسطة ، إنّما يتوجّه إلى تحقق الأعيان فقط ، وهو المشيئة ، والذي يتوجه لتحصيله هو الشيء ، وهو لكونه ذاتيّا لا يخالف - كما مرّ بيانه  والأخرى بالواسطة وهي إنما يتوجّه إلى أحكام الأعيان وأوصاف أفعالها وهو التشريع .
والذي يتوجّه لتحصيله هو الشرع .
وهاهنا تلويح كاشف : وهو أن شين « الشكل » الشاخص للمعاني ، إذا ظهر بحروف المدّ - التي هي مبادئ أصول الحروف وموادّ عيونها وذواتها - إنما يصلح لأن يدلّ على أعيان الموجودات فقط ، وهو « الشيء » الحاصل من أمر المشيئة .

وإذا ظهر بحروف الإظهار - أعني الراء والعين ، فإنهما لا يجتمعان في كلمة إلا ويدلّ ذلك على الإظهار فإنّهما أصل الرؤية والعيان - وهو الذي يصلح لأن يكشف عن أحكام الأعيان وإظهار أوصافها ، وذلك هو الشرع الحاصل من أمر التشريع .

وجه المذموميّة المصلحة الشرعيّة 
ثمّ إن وجه لمّية أمر الإظهار أعني بيان محموديّة بعض الأفعال وخصوصيّتها المقتضية لها ، ومذموميّة الاخرى من جلائل الحكم ودقائقها . فإنّ الكل من حيث أنّه مظهر لأوصاف الحقّ وأسمائه فهو محمود . فإن ذمّه الشرع فلمصلحة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن ذمّ الشرع لحكمة ) دقيقة لا يطَّلع عليها بالقوّة البشريّة ، بل ( يعلمها الله أو من أعلمه الله كما شرع القصاص للمصلحة ، إبقاء لهذا النوع وإرداعا للمتعدّي حدود الله فيه ) توفية لحكمي المقتضي والمانع .

والذي يكشف عن تلك المصلحة قوله تعالى : ( “  وَلَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ “  [ 2 / 179 ] “  ، فخصّ الخطاب باولي الألباب تنبيها على أن هذا السرّ إنّما يختصّ به هؤلاء
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهم أهل لبّ الشيء ، الذين عثروا على سرّ النواميس الإلهيّة والحكميّة ) ، فإنّ للبّ مدرجتين : إحداهما خصوصيّة صورة الشيء ذي اللبّ ، مما يتعلَّق بظهور آثاره وخواصّه بين العباد وهي الحكميّة  والأخرى جهة أصله ومعناه ، مما يتعلَّق بحقيقته من النسبة التي لها إلى الأسماء الإلهيّة .
و "الباء " يلوّح إلى هذه المدرجة الأسمائية ، كما عرفت وجه ذلك .
واللام إلى الأولى فإنّها إشارة إلى تمام التفصيل الكتابيّ ، وذلك هو تمام الحكمة .
هذا كلام وقع في البين . والحاصل منه تمهيد مقدّمة كاشفة عن غاية هذه النشأة وطريق تحصيلها برعاية بنيتها تأسّيا بالحكمة الإلهيّة . وهي أن الله تعالى راعى هذه النشأة .

لزوم مراعاة إقامة النشأة الإنسانيّة 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا علمت أنّ الله راعى هذه النشأة ) في مراعي الأكوان ( و ) راعى ( إقامتها ) في دار الحدوث والإمكان ( فأنت أولى بمراعاتها ، إذ لك ) في مراقي الكمالات ( بذلك ) النشأة وإقامتها ( السعادة ) العظمى ( فإنّه ما دام الإنسان حيّا ) بهذه النشأة الجمعيّة الإحاطيّة ( يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له ) من شهود الحقّ بجميع أسمائه وعبوديّته لله ( ومن سعى في هدمها فقد سعى في منع وصوله لما خلق له ) من الكمال الذي به يستكمل الكل وهو تمام الظهور والإظهار .

ذكر الله غاية الحركة الوجودية 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما أحسن ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : « ألا انبّئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ؟ : ذكر الله » ) .
فإنّك قد عرفت أنّ الغاية لهذه الحركة الوجوديّة هو الظهور التامّ الذي بآدم ، ثمّ الإظهار الكامل الذي بكلامه ، فهو الخير إذا قيس إلى الإنسان نفسه .
وإذا قيس إلى أفعاله فهو الأفضل . فذكر الله الذي هو غاية الغايات - أعني إظهاره تعالى - هي ثمرة هذه النشأة الإنسانيّة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وذلك لأنّه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانيّة إلا من ذكر الله ، الذكر المطلوب منه ) فإنّ من جملة المراتب الوجوديّة مرتبة الكلام والذكر . فإذا ظهر الحقّ في هذه المرتبة واستتبع لها جميع المراتب الباقية ، بأن يظهر في سائر تلك المراتب مظهرا إيّاها ، ويكون الكل مجلاه من الحسّ والخيال والذكر والفكر والقلب .

فإنّ الذاكر له في الكلّ حكم وظهور ، فإذا ظهر بسائر هذه المراتب يكون شخصا كاملا فالذاكر لا بدّ وأن يشاهد المذكور بجميع مداركه ،
( فإنّه تعالى جليس من ذكره ، والجليس مشهود للذاكر . فمتى لم يشاهد الذاكر الحقّ - الذي هو جليسه فليس بذاكر - فإنّ ذكر الله سار في جميع العبد )
 بمراتبه الروحانيّة والنفسانيّة والجسمانيّة ( لأنّ من ذكره بلسانه خاصّة ، فإنّ الحقّ لا يكون في ذلك الوقت إلَّا جليس اللسان خاصّة ) فإنّ صورة المذكور إنما تشخّصت فيه فقط .
( فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان ) فإنّ لكل قوّة وكلّ شيء سائر القوى فعلية كانت أو انفعاليّة على ما تقرّر في أصولهم .
كما قال شرف الدين ابن الفارض :
يشاهد منّي حسنها كلّ ذرّة  ....  بها كلّ طرف جال في كلّ طرفة
وقوله رضي الله عنه   : ( بما هو رأى ) يجوز أن يكون متعلقا ب « لا يراه » أي لا يراه الإنسان بما هو رأى ( وهو البصر ) أو بمعنى أنه لا يرى الإنسان ، مع أن الرائي هو .
ويجوز أن يكون متعلَّقا ب « فيراه » أي فيراه اللسان بما يراه من القوّة الخفيّة التي لا يدرك بالمدارك البشريّة . والثاني أظهر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فافهم هذا السر في ذكر الغافلين ) فإنه لا يمكن أن يكون في الوجود غافل مطلقا . أي في جميع مراتبه ، فإنّه لا بد لكل شيء من الحضور ، ولو ببعض أجزائه ومراتبه وهو الذاكر منه
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالذاكر من الغافل حاضر بلا شكّ ، والمذكور جليسه فهو يشاهده . والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر ، فما هو جليس الغافل ) .

ولا يلزم من هذا أنّ الإنسان إذا كان غافلا لا يكون الحقّ جليسه مطلقا ، (فإنّ الإنسان كثير ) إذ قد تقرّر أن تشخّصه وأحديّته أحديّة جميع الكل ، فيكون كثير العين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ما هو أحديّ العين ، والحقّ أحديّ العين ، كثير بالأسماء الإلهيّة ) والأسماء بعضها جزئيّات بعض ( كما أنّ الإنسان كثير بالأجزاء وما يلزم من ذكر جزء منه ذكر جزء آخر . فالحقّ جليس الجزء الذاكر منه ، والآخر متّصف بالغفلة عن الذكر ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا بدّ أنّ يكون في الإنسان جزء يذكر به ) حتّى يبقى صورة شخصيّته به ، فإنّك قد عرفت أنّ قيام الشخص بالمدد الوجوديّ الواصل إليه بوساطة النسبة وهي الحضور من الجزء
( فيكون الحقّ جليس ذلك الجزء ، فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية ) كما في عالم الكبير بما ورد في الصحيح : « لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول : الله ، الله » . رواه  مسلم ومستدرك الحاكم: « لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله » .
وروي بألفاظ أخرى حلية الأولياء و كنز العمال  . فكذلك وجود هذا العالم الإنسانيّ .

حقيقة الموت
ثمّ لما استشعر أن يقال : إنّه إذا كان ذكر الجزء كافيا في حفظ صورة شخصيّة  الإنسان ، فكان ينبغي أن لا يطرأ عليه الموت أصلا . ضرورة أن ذكر الجزء منه ضروريّ دائما .

نبّه على دفعه بقوله رضي الله عنه  : ( وما يتولى الحقّ هدم هذه النشأة بالمسمى موتا : فليس بإعدام ، وإنما هو تفريق ) .
كما يقوم به الأحديّة الجمعيّة الكليّة التي هي تشخّص الإنسان ، وذلك إنما يتقوّم بالأجزاء عند جمعيّتها .
فعند التفريق لا يمكن قيامه به ( فيأخذه إليه ، وليس المراد ) من التفريق واجتماع المتفرّقات قبل ( إلا أن يأخذه الحقّ إليه “  وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ “  [ 11 / 123 ] فإذا أخذه إليه سوّى له مركبا غير هذا المركب ) من جمعيّة حاصلة من الحقائق التي ( من جنس الدار التي ينتقل إليها ، وهي ) لعدم بقاء قهرمان الكثرة فيه ، و عدم نفاذ حكم التضادّ المستدعي للتفريق - ( دار البقاء ، لوجود الاعتدال ) فإنّه حينئذ يظهر في تلك الدار حكم الوحدة ، والاعتدال صورتها ( فلا يموت أبدا - أي لا تفترق أجزاؤه ) .

مآل أهل النار إلى النعيم  
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : « إنّ الأمر في الناس وبقاء صورته في تلك النشأة متفاوت : فإنّ السعداء في درجات النعيم . والأشقياء في دركات عذاب الجحيم . فكيف يكون الكلّ مرجعه واحدا ؟ فنبّه على بيانه بقوله :رضي الله عنه   ( وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ، ولكن في النار ) والنصوص الواردة فيهم بمعنى الخلود إنما يدل على الخلود فيها لا في العذاب ( إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها . وهذا نعيمهم ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق ) يعني بعد أن أدّى حقوق وجوه المخالفات والعداوات ، وصنوف المتقابلات ، مما يقتضي اختفاء حكم الاتّحاد الذي هو مقتضى أمر الخلَّة والمحبّة ( نعيم خليل الله حين القي في النار ) .
ثمّ لما استشعر أنّه يمكن أن يقال : « كيف يجعل الخليل مقيسا عليه ، وهو لم يكن معذّبا قط ؟ » تعرّض لدفعه بقوله : ( فإنّه عليه السّلام تعذّب برؤيتها ) النظريّة التي هي منتهى نتائج مقدّمات الكثرة ( وبما تعوّد في علمه ) تقليدا للمشهور المعهود .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وتقرّر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان ، وما علم مراد الله فيها ومنها في حقّه ، فبعد وجوه هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة الكونيّة في حقّه ، وهي نار في عيون الناس ) بحسب صورته النوعيّة العينيّة المعاينة ، فإنّها ما تغيّرت عن صورتها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالشيء الواحد يتنوّع في عيون الناظرين ، هكذا هو التجلَّي الإلهي ) فإنّه واحد يختلف ويتنوّع بحسب اختلاف القوابل وتنوّع الاستعدادات .
فمبدأ ذلك الاختلاف والتنوّع إمّا أن يكون قابليّة العبد ، على تقدير أن يكون القابل من الفيض الأقدس - كما عرفت - وإمّا أن يكون الحقّ نفسه ، فإنّه إذا كان القابل من الفيض الأقدس عن ثنويّة المفاض عليه والمفيض ، يكون مؤدّى العبارتين واحدا .

ولذلك قال رضي الله عنه  : ( فإن شئت قلت : إنّ الله تجلَّى مثل هذا الأمر ) - أي مثل القابل وعلى شكله ( وإن شئت قلت : إنّ العالم في النظر إليه وفيه مثل الحقّ في التجلَّي ) .
وفي طيّ عبارته هذه نكتة جليلة حكمية : وهي أنّه إذا كان مؤدّى العبارتين واحدا ، فيكون المثل موجودا قطعا ، وليس مثل مثله شيء . وإلا لا يكون القابل من الفيض الأقدس ، ولا يكون لتسوية العبارتين وجه ، كما لا يخفى ذلك على الفطن .

وإيراد لفظ « المثل » هاهنا لإيماء هذا المعنى وتبيين قوله تعالى : “  لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ “  [ 42 / 11 ] فإنّ المثل محقّق الوجود وليس لمثله وجود .

فإنّ التجلي الوجودي المذكور يتمثّل ، ( فيتنوّع في عين الناظر بحسب مزاج الناظر ، أو يتنوّع مزاج الناظر لتنوّع التجلي . وكل هذا جائز سائغ في الحقائق ) ، فإنّه إذا أثبت الفيض والقبول لا بدّ من الثنويّة الاعتباريّة ، لا غير . وهو الذي يسوّغ تسوية العبارتين .
ثمّ إنّ هذا الكلام وقع هاهنا لتمهيد بيان مرجعيّة الكل إليه.

فلذلك أفصح عمّا هو المطلوب بقوله : ( ولو أن الميّت أو المقتول - أيّ ميت كان أو أيّ مقتول كان ) سعيدا كان ذلك أو شقيّا - ( إذا مات أو قتل ، لا يرجع إلى الله لم يقض الله بموت أحد ولا شرع قتله . فالكلّ في قبضته ) وتحت حوز إحاطته ، سواء كان بالجمعيّة الحياتيّة ، أو بالتفرقة الفوتيّة - قتليّة أو موتيّة - ( فلا فقدان في حقّه . فشرع القتل وحكم بالموت ) ، بإرسال الأنبياء وإنزال النواميس ، ( لعلمه بأنّ عبده لا يفوته . فهو راجع إليه ) هذا هو الظاهر ذوقا وشهودا .

إليه يرجع الأمر كلَّه
( على أنّ ) في الكلام المنزل القرآنيّ ما يدلّ على ذلك المعنى بأبلغ وجه ، دلالة بيّنة غير خفيّة . وذلك في ( قوله : “  وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ “  [ 11 / 123 ]  أي فيه يقع التصرّف ، وهو المتصرّف ) .
فإنّ « الرجوع » لغة هو العود إلى ما كان منه البدء مكانا كان أو فعلا أو قولا ، وبذاته كان رجوعه أو بجزء من أجزائه .
وذلك لأنّه قد أسند الرجوع إلى « الأمر » الدالّ على العموم ، مؤكَّدا بالكل . فمعناه حينئذ أن مبدأ جميع الأشياء ومرجعه هو الحقّ - سواء اعتبر ذات الأشياء أو فعلها أو قولها.

هذا ما يدلّ عليه بحسب أصل معناه اللغوي ، وأمّا بحسب العرف الذوقي : فيدلّ على أنّ الهويّة الإطلاقيّة مبدأ الكلّ ومرجعه . ويدلّ ذلك عقلا على أنّ سائر التصرّفات حينئذ إنما يقع فيه ومنه . فهو المتصرّف والمتصرّف فيه .
وإلا يلزم أن يكون الخارج عن تلك الهويّة شيئا ، وهو خلاف ما علم من أصل معناه . وتلك الهويّة لها الإحاطة التامّة ( فما خرج عنه شيء لم يكن عينه .
بل هويّته عين ذلك الشيء . وهو الذي يعطيه الكشف في قوله “  وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ “  [ 11 / 123 ] “  فإنّه في ظاهر اللغة يدلّ على أن هو مرجع الأشياء كلها ومبدؤها .
والذوق الكامل يدلّ على أن ما يكون كذلك يكون هويّته عين تلك الأشياء .
ثمّ إنّ سياق هذا الكلام يقتضي الفحص عن الحكمة الغيبيّة مع ما ذكرنا في وجه نظم الفصوص وترتيبها عند الكلام على تحقيقها فلذلك أخذ في بيانها قائلا : فصّ حكمة غيبيّة في كلمة أيّوبيّة
 .
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment