Saturday, January 18, 2020

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 
إنما خصت الكلمة الداودية بالحكمة الوجودية ، لأن الوجود إنما تم بالخلافة الإلهية في الصورة الإنسانية ، وأول من ظهر فيه الخلافة في هذا النوع كان آدم ، وأول من كمل فيه الخلافة بالتسخير داود حيث سخر الله له الجبال والطير في ترجيع التسبيح معه كما قال -   ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَه يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإِشْراقِ والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَه أَوَّابٌ )   - وجمع الله به فيه بين الملك والخطاب والنبوة في قوله -   ( وشَدَدْنا مُلْكَه وآتَيْناه الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخِطابِ )   - وخاطبه بالاستخلاف ظاهرا صريحا هو داود عليه السلام . ولما كان التصرف في الملك بالتسخير أمرا عظيما لم يتم عليه بانفراده ، وهبه سليمان وشركه في ذلك لقوله -   ( ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْماً وقالا الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي فَضَّلَنا )   - الآية ، وقال -   ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وعِلْماً )   - فكان تتمة لكماله في الخلافة بما خصصه الله به من كمال التصرف في العموم فبلغ الوجود بوجود كماله في الظهور ، وهذا هو السر في اقتران الحكمة الداودية بالحكمة السليمانية ، وتقديم السليمانية على الداودية للمزية الظاهرة له بخصوصية ، فكأنها حكمة واحدة فيما يرجع إلى ظهور كمال الوجود ، وحكمتان في ظهور الرحمانية في الفرع ، إذ كل فرع فيه ما في الأصل وزيادة تخصه ، فقدم للزيادة وللتنبيه على أنهما حكمتان متميزتان بتقديم الآخر على الأول كما فعل الله بقصة البقرة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ) اعلم أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شيء من الاكتساب أعنى نبوة التشريع كانت عطاياه تعالى لهم عليهم الصلاة والسلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء ولا يطلب عليها منهم جزاء ، فإعطاؤه إياهم على طريق الإنعام والإفضال فقال : " ووَهَبْنا لَه إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ " يعنى لإبراهيم الخليل ، وقال في أيوب : " ووَهَبْنا لَه أَهْلَه ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ " .

وقال في حق موسى :" ووَهَبْنا لَه من رَحْمَتِنا أَخاه هارُونَ نَبِيًّا " إلى مثل ذلك ،
فالذي تولاهم أولا هو الذي تولاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرها ، وليس إلا اسمه الوهاب ، وقال في حق داود: "ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا " فلم يقرن به جزاء يطلب منه ولا أخبر أنه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء ، ولما طلب الشكر على ذلك بالعمل طلبه من آل داود ، ولم يتعرض لذكر داود ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ) .
اعلم أنه لما كان أصل الوجود الفائض على الأشياء من محض الجود كان كماله الذي هو الخلافة الإلهية أيضا من محض الجود ،
فكانت للنبوة والرسالة التي لا بد للخلافة الإلهية منهما مع التصرف في الملك بالتسخير اختصاصا إلهيا من حضرة اسم الجواد الوهاب ، ليس للكسب والعمل فيه مدخل لا أولا بأن يكون جزاء لعمل منهم ولا آخرا بأن يطلب منهم شكرا وثناء ، ويكون قضاء لحق النعمة عليهم ،
كما ذكر في الآيات المذكورة ، وإنما خصص النبوة بالتشريع احترازا عن نبوة الإنباء العام من البحث في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وآثاره ،
وعن علم الوراثة في قوله : « العلماء ورثة الأنبياء » . وقوله: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " .
فإن تحصيل علوم النبوة بالكسب وبالعمل الذي يثمره في قوله عليه الصلاة والسلام:  « من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم » نوع النبوة الكسبية ،
فالذي تولاهم أولا بأن أعطاهم تفضلا من غير عمل منهم تولاهم آخرا بأن يحفظ عليهم تلك النعمة في جميع الأحوال أو أكثرها ويزيدها ولا يطلب منهم شكرها مع أنهم لا يخلون بالقيام عن شكرها ، لأن نشأتهم النبوية تعطيهم القيام بحقوق العبدانية على أكمل الوجوه ،
كما قال عليه الصلاة والسلام « أفلا أكون عبدا شكورا » .
ولهذا ذكر أنه أتى داود شكرا فضلا ولم يذكر أنه أعطاه ما أعطاه جزاء لعمله ولم يطلب منه جزاء على ذلك الفضل ، وإنما طلب الشكر بالعمل من آل داود على النعمة التي أنعم بها عليهم وعلى آل داود ، ولأن النعمة على الأسلاف نعمة على الأخلاف .
"" أضاف بالى زادة : فالعبد الشكور هو الذي شكر الله على ما أنعم من غير طلب من الله الشكر ، وأما الذي شكر عن طلب ربه فليس بعبد شكور ، فما كان الشكور من العباد إلا الأنبياء خاصة لورود النص في حقهم ، وأما غيرهم من المؤمنين وإن كانوا شاكرين لكنهم لا يكونون عبدا شكورا لعدم النص في حقهم ، نعم قد أنعم الله على بعض المؤمنين ببعض نعمة من غير طلب الشكر فتبرعوا بالشكر من عند أنفسهم ، فكانوا حينئذ عبدا شكورا ولم يأت النص به اهـ بالى.""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو في حق داود عطاء نعمة وإفضال وفي حق آله على غير ذلك لطب المعاوضة ، فقال الله تعالى :" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ " وإن كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد شكروا الله تعالى على ما أنعم به عليهم ووهبهم فلم يكن ذلك عن طلب من الله بل تبرعوا بذلك من نفوسهم . كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه شكرا لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فلما قيل له في ذلك قال « أفلا أكون عبدا شكورا ».
وقال في نوح :" إِنَّه كانَ عَبْداً شَكُوراً " فالشكور من عباد الله قليل فأول نعمة أنعم الله بها على داود أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال ، فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرد هذا الاسم ، وهي الدال والألف والواو ) .

أي أخبره كشفا أنه قطعه عن العالم من حيث كونه غيرا وسوى ، وأخبرنا إيماء ورمزا بهذا الاسم بظهور معنى القطع فيه ، فإن الألقاب تنزل من السماء
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمى محمدا صلى الله عليه وسلم بحروف الاتصال والانفصال فوصله به وفصله عن العالم ، فجمع له بين الحالتين في اسمه كما جمع لداود بين الحالين من طريق المعنى ) وهو اختصاصه بالجمع بين النبوة والرسالة والخلافة والملك والعلم والحكمة والفصل بلا واسطة غيره .
( ولم يجعل ذلك في اسمه فكان ذلك اختصاصا لمحمد على داود عليهم الصلاة والسلام : أعنى التنبيه عليه باسمه ، فتم له الأمر عليه السلام من جميع جهاته ، وكذلك في اسمه أحمد فهذا من حكمة الله ) أي اختصاصهما بالاسمين الدالين بحروفهما على ما ذكر من المعنيين فيهما من حكمة الله التي في تسميتهما لمن عقل عن الله ولم يعقل شيئا من الأشياء إلا شاهد حكمة الله المودعة فيه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قال في حق داود فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه ترجيع الجبال والطير معه التسبيح فتسبح بتسبيحه ليكون له عملها وكذلك الطير ) في الإنعام عليه بترجيع الجبال والطير معه والتسبيح إيماء إلى حكمة ترجيعهما بكون عملهما له ،
وهي أن الجبال تحكي بصورها رسوب الأعضاء والتمكن والثبات التي هي مخصوصة بالكمل في ظواهرهم ، والطير تحكي بطيرانها حركة القوى الروحانية فيه وفي كل عبد كامل إلى تحصيل مطالبها عند تسبيح الكامل بما يخصه من تنزيه الله عن النقص وبراءته عن صفات الإمكان وحكامه والاتصاف بصفات الوجود وأحكامه ،
ولما كان داود من كمال توجهه وتجرده وانقطاعه إلى الله بالمحبة الذاتية ، والهيمان والعشق وإيثار جنابه على نفسه وما يتعلق به تبعته ظواهره وبواطنه وجوارحه وقواه كلها.
أظهر الله تعالى سر انخراط أعضائه وقواه الروحانية في التنزيه والتقديس في صور الجبال والطير متمثلة له فرجعت معه التسبيح ، لأن الغالب في زمانه تجلى الاسم الظاهر على الباطن لما بقي من حكم الدعوة الموسوية إلى الاسم الظاهر ،
فكانت الحقائق والمعاني مظهر صور قائمة لهم لما أهله وخصه به من كمال ظهور الوجود ( وأعطاه القوة ونعته بها ) .
في قوله : ( واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الأَيْدِ )   أي القوة ( وأعطاه الحكمة ) أي سياسة الخلق وتدبير الملك بوضع الأشياء مواضعها ، وتوجيه الأكوان إلى غاياتها بالتأييد الإلهي والأمر الشرعي.

 (وفَصْلَ الْخِطابِ ) أي الإفصاح عن حقائق الأمور على ما هي عليه ، وفصل الأحكام وقطع القضايا باليقين من غير شك وارتياب ولا توقف فيها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم المنة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصه الله بها التنصيص على خلافته ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ) وفي نسخة بأحد ، وهو أفصح من اتحادهما في المعنى ( وإن كان فيهم خلفاء فقال (

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى )  .
أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحى منى ( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله )  أي عن الطريق الذي أوحى به إلى رسلي ، ثم تأدب سبحانه معه فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ )  .
 ولم يقل له : فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن قلت : فآدم قد نص على خلافته ، قلنا : ما نص مثل التنصيص على داود ،
وإنما قال للملائكة : ( إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً )  ولم يقل إني جاعل آدم خليفة ،
ولو قال أيضا ، لم يكن مثل قوله : ( إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً )   في حق داود ، فإن هذا محقق وذلك ليس كذلك .
وما يدل ذكر آدم في القصة بعد ذلك على أنه عين ذلك الخليفة الذي نص الله عليه ، فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر ، )
وكذلك في حق إبراهيم الخليل عليه السلام : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً )  ولم يقل خليفة
وإن كنا نعلم أن الإمامة هاهنا خلافة ،
ولكن ما هي مثلها لأنه ما ذكرها بأخص أسمائها وهي الخلافة ،
ثم في داود عليه السلام من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ، وليس ذلك إلا عن الله ).

"" أضاف بالى زادة : فلا تكون نفس الخلافة لداود المنة الكبرى ، بل التنصيص على خلافته لعموم الخلافة وخصوص تنصيصه ، وإنما كان تنصيصه منه دون تنصيص سائر النعم ، لأن الخلافة مرتبة الألوهية ، ومرتبة الألوهية أعلى المراتب كلها فتنصيصه كذلك اهـ بالى .

فالإمامة تعم الخلافة وغيرها ، وهذه المرتبة والمساواة برسول الله لمن سبقت له العناية من كبار الأولياء ، واتحاد الولي مع النبي في درجة واحدة لا ينافي أفضلية الأنبياء على الأولياء اهـ بالى . ""
أي لا تسند الحكم إلا إلى حضرة الاسم الشامل كلها وهو الله - فإن الحكم لله ، والإمامة بالنسبة إلى الخلافة كالولاية بالنسبة إلى النبوة ، فكما أن الولي قد لا يكون نبيا كذلك الإمام قد لا يكون خليفة والخليفة بمعنى من يخلف ، فلا يكون خليفة حتى يحكم الله على خلافته ، وداود كان كذلك قد أمره الله بالحكم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال له " فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ " وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنه نائب عن الله في خلقه بالحكم الإلهي وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه والتصريح به ، ولله في الأرض خلائف عن الله وهم الرسل . وأما الخلافة اليوم فعن الرسل لا عن الله ، فإنهم ما يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول لا يخرجون عن ذلك ، غير أن هاهنا دقيقة لا يعلمها إلا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به مما هو شرع للرسول عليه السلام ) .

يعنى خلفاء الرسول لهم الخلافة الظاهرة لا يخرجون عما شرع لهم ، ومنهم من يأخذ الحكم الذي شرع للرسول عن الله ، فهو خليفة الله باطنا يأخذ الحكم عنه ، وخليفة الرسول ظاهرا بأن يكون حكمه المأخوذ من الله مطابقا للحكم المشروع الذي ورثه من الرسول ، فهو مأمور من قبل الله أن يحكم بحكمه الذي جاء به الرسول في خلقه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه عليه الصلاة والسلام ، وفينا من يأخذه عن الله فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم فتكون المادة له من حيث كانت المادة لرسوله عليه الصلاة والسلام : أي مأخذ حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في الظاهر متبع لعدم مخالفته في الحكم كعيسى عليه السلام إذا نزل فحكم ، كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في قوله « أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه » وهو في حق ما يعرفه من صورة الأخذ مختص موافق هو فيه بمنزلة ما قرره النبي عليه الصلاة والسلام من شرع من تقدم من الرسل بكونه قرره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث أنه شرع لغيره قبله ، وكذلك أخذ الخليفة عن الله عين ما أخذه من الرسول عليه الصلاة والسلام ) .

أي الخليفة من الوالي الآخذ الحكم عن الله متبع في الظاهر لعدم مخالفته في الحكم كعيسى حين ينزل فيحكم بما حكم محمد صلى الله عليه وسلم فيما أمر باقتداء هدى الله الذي هدى به من قبله من الأنبياء ، فإنه مختص بالحكم من الله باعتبار أخذه منه موافق لما كان قبله في صورة الحكم صورته صورة الاقتداء ، وهو مأمور به على وجه الاختصاص من عند الله ،
فهذا الخليفة مختص لأنه أخذ الحكم عن الله لا عما أخذه علماء الرسوم بالنقل ، ومشارك لهم في ذلك الأخذ أيضا فهو معهم مثل ما قالوا فيه :
لي سكرتان وللندمان واحدة  ....  شيء خصصت به من بينهم وحدي
لأنه أخذ خلاف الأول كرفع القصاص مثلا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنقول فيه بلسان الكشف خليفة الله وبلسان الظاهر خليفة رسول الله ، ولهذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نص بخلافته عنه إلى أحد ولا عينه ، لعلمه أن في عباد الله من يأخذ الخلافة عن ربه فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع ، فلما علم ذلك عليه الصلاة والسلام لم يحجر الأمر ، فلله خلفاء يأخذون من معدن الرسول والرسل ما أخذته الرسل عليهم السلام ، ويعرفون فضل المتقدم هناك ، لأن الرسول قابل للزيادة ، وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة التي لو كان الرسول قبلها فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرح إلا ما شرع للرسول خاصة ، فهو في الظاهر متبع غير مخالف بخلاف الرسول ، ألا ترى عيسى عليه السلام لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على موسى مثل ما قلنا في الخلافة اليوم مع الرسول آمنوا به وأقروه ، فلما زاد حكما ونسخ حكما قد قرره موسى عليه السلام لكون عيسى رسولا لم يحتملوا ذلك لأنه خالف اعتقادهم فيه ، وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه فطلبت قتله ، وكان من قصته ما أخبرنا الله في كتابه العزيز عنه وعنهم ، فلما كان
رسولا قبل الزيادة ، إما بنقص حكم قد تقرر أو زيادة حكم ، على أن النقص زيادة حكم بلا شك )
"" أضاف عبد الرحمن جامي : ( التي لو كان الرسول قبلها ) الرسول مرفوع وكان تامة وقبلها جواب لو : أي الزيادة لو وجد الرسول في زمان ذلك الخليفة كان قابلا لتلك الزيادة أو ناقصة والخبر محذوف : أي لو كان الرسول كائنا في زمان ذلك الخليفة لقبل تلك الزيادة واقتصر على الزيادة لأن النقصان أيضا زيادة اهـ جامى .""

 ( والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ، وإنما تنقص أو تزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد لا على الشرع الذي شرّفه به محمد صلى الله عليه وسلم ) أي خوطب به مشافهة ونص عليه له ، فإنه لا يجوز الاجتهاد في مثل هذا المشروع والمنصوص ، وإنما يجتهد فيما لم يثبت عند المجتهد بنص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم فيتخيل أنه من الاجتهاد وليس كذلك ، إنما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل فما هو معصوم عن الوهم ).
أي فما ذلك العدل معصوم الخطأ .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا من النقل على المعنى ، فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم وكذلك يقع من عيسى عليه السلام ، فإنه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر فيبين برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه الصلاة والسلام عليه ، ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة فنعلم قطعا أنه لو نزل وحى لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهي ، وما عداه وإن قرره الحق فهو شرح تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها ).
 يعنى أن الخلافة المتقررة عن النبوة التشريعية والرسالة المنقطعتين بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام ليس لها هذا المنصب بتغيير الأحكام الاجتهادية ، وأكثر خلفاء اليوم خلفاء الرسول لا يأخذون عن الله الأحكام بل عن الرسول بالنقل ، وقد يكون فيهم الخلفاء الأولياء الذين يأخذون الأحكام عن الله مع موافقة الرسول فيها ،
فإنهم يأخذون من الحق ما أخذه الرسول فلا يغير حكما إلا أنه قد يظهر من أحدهم ما يخلف بعض الأحاديث في الحكم مع أن ذلك الحديث ثابت الإسناد في الظاهر نقله العدل عن العدل إلى رسول الله لكنه لو ثبت عنده بالكشف كونه عن النبي لحكم به فيحكم فيما يأخذ عن الله بخلافه إن أمر بذلك، فيتخيل الجاهل بحاله أنه إنما حكم بالاجتهاد على خلاف النص ،
وكذلك إن أمر بالسكوت عنه سكت، وإن أمر أن يبين أن الحديث ثابت ظاهرا من طريق النقل غير ثابت من طريق الكشف بين،
"" أضاف بالى زادة : فعلم منه أن الشارع قد ستر الحق المشروع في بعض أحكامه فاختلف الناس فيه بحسب اجتهادهم ، وقرر اجتهاد كل منهم لرفع الحرج عن هذه الأمة فهذا عناية من الله في حقهم فرفع الحرج سبب لحياة الأمة ، فإذا نزل عيسى نزل معه الحرج فتمت مدة حياتهم وقرب هلاكهم اهـ بالى .""


فإن العدل قد يخطئ وقد يحكم بما لم تثبت صحته بالنقل لثبوت صحته بالكشف، إما بالأخذ عن الله وتصحيح ذلك في الحضرة الإلهية، وإما باجتماع روحه بروح الرسول بعروجه إليه أو بنزول روح الرسول إلى مرتبته وبرزخه في عالم المثال، أو بالأخذ عن الله وسؤال الرسول عن صحة الحديث ونفى الرسول صحته، كما ينزل عيسى برفع كثير من الأحكام الاجتهادية المقررة في الشرع فيبين ما كان صلى الله الله عليه وسلم عليه،
ولا سيما ما اختلف فيه من الأحكام وتعارض بين الأئمة، لأنا نعلم قطعا أن الحكم لو نزل بالوحي لنزل على أحد الوجهين المتعارضين ، هذا إذا كان الحكم إلهيا بالوحي
وما عداه مما لم ينزل به الوحي فهو شرع وتقرير قرر لدفع الحرج عن هذه الأمة ، بمقتضى قوله عليه الصلاة والسلام " بعثت بالحنيفية السمحة " فاتسع فيه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما قوله عليه الصلاة والسلام « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » فهذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف ، وإن اتفقا فلا بد من قتل أحدهما ، بخلاف الخلافة المعنوية فإنه لا قتل فيها )
هذا جواب سؤال أو اعتراض يرد على ما ذكر من أن الخليفة الولي الذي يأخذ الحكم عن الحق إذا خالف الحكم الثابت في الظاهر الثابت في الظاهر بالحديث الصحيح إسناده بنقل العدل عن العدل ، وجب على أهل الظاهر والسلطان القائم بأمر الشرع أي الخليفة الظاهر قتله بحكم هذا الحديث ، وكيف يصح حكمه .

وجوابه أن هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف والأخذ بالنقل فقط ، فإنهما وإن اتفقا في الحكم فلا بد من قتل أحدهما ليتحد الحكم ، وأما هذه الخلافة الحقيقية المعنوية فلا تكون في كل عصر إلا لواحد كما أن الله واحد وهو القطب وإنما هو نائبه ، ولا يظهر الحكم إلا بأمر الله ولا يعارضه أحد ، فإنه إن علم الحكم من عند الله ولم يأمره بالإظهار فلا يعارض الظاهر ، وإن أمر فلا يقدر أحد على منعه لأنه منصور من الله ، فلا قتل في هذه الخلافة .

( وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة ، وإن لم يكن لذلك الخليفة ) أي الخليفة الظاهر إلا آخر ( هذا المقام ) أي أخذ الحكم عن الله .
( وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عدل فمن حكم الأصل الذي به تخيل وجود الهين ) أي ما جاء القتل إلا في الخلافة الظاهرة ولم يكن للخليفة الظاهري .
الثاني مقام الأخذ من الله فهو خليفة رسول الله إن كان عادلا فمن حكم الأصل الذي هو وحدة الله تعالى جاء قتله لأنه الثاني ، وكونه ثاني الأول يخيل جواز وجود إلهين فهو محال .
"" أضاف بالى زادة :فالقتل ينوبه إلى من كان سببا لتخيل وجود إلهين وهو الثاني ضد الأول ، فإن الخليفة مظهر الحق فيتخيل يتعدده تعدد الحق فوجب الرفع لتخيل قتل الثاني الذي هو سببه اهـ بالى .
الأصل هو برهان التمانع وحكمه : أي نتيجته وجوب وحدة الواجب ، فوجوب وحدته يحكم بوجوب وحدة الخليفة الذي هو ظله وقتل الآخر من الخليفتين ، فقوله : فمن حكم الأصلي جزاء لقوله : وإن لم يكن لذلك الخليفة اهـ جامى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( و "لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا " وإن اتفقا فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما فالنافذ الحكم هو إله على الحقيقة ، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله ، ومن هذا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر ، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية لا على حكم الشرع المقرر وإن كان تقريره من المشيئة ولذلك نفذ تقريره خاصة ، فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير لا العمل بما جاء به )

بيان الملازمة : أنه لو كان فيهما آلهة غير الله كما زعموا أو إله آخر غيره لكانا إما إلهين بالذات أو بأمر زائد عليهما ،
فإن كان الثاني الزم افتقارهما في الإلهية إلى الغير فلم يكونا إلهين ،
وإن كان الأول ، فإما أن يتخالفا في الإيجاد والإعدام أو يتوافقا ، فإن تخالفا تخالفا لتساويهما في القوة فلا يقع إيجاد ولا إعدام ، وإن توافقا فإما أن ينفذ حكم كل واحد منهما في الآخر فلا يكون أحدهما إلها لنفوذ حكم الآخر فيه ،
وكذا إن لم ينفذ حكم كل واحد منهما في الآخر لعجز كل منهما ، فإن نفذ حكم أحدهما في الآخر دون العكس فالنافذ الحكم هو الإله دون الآخر .

ولما كان النافذ الحكم هو الإله دون غيره علمنا أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله ، وإن خالف الشرع المقرر في الظاهر إذ لا ينفذ إلا حكم الله في نفس الأمر ،
لأن كل ما وقع في العالم إنما وقع بحكم المشيئة الإلهية لا بحكم الشرع ، فإن تقريره إنما هو بالمشيئة ، ولذلك نفذ تقريره خاصة لا العمل به إلا ما تتعلق به المشيئة من العمل ، ولهذا قال بعد قوله : "كَلَّا إِنَّه تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَه وما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله "   .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالمشيئة سلطانها عظيم ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذات لأنها لذاتها تقتضي الحكم فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع عنه خارجا عن المشيئة ، فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية فليس إلا الأمر بالواسطة لا الأمر التكويني ، فما خالف الله أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ، فافهم )
يعنى أن حقيقة المشيئة تقتضي الحكم لذاتها لأنها نفس الاقتضاء والاقتضاء هو تخصيص ما عينه العلم بالحكم فيقع ما تعلقت المشيئة به ،
فإن الأمر الإلهي الذي لا راد له وحكم الله الذي لا معقب لحكمه هو الذي تعلقت المشيئة بوقوعه وجودا وعدما ، فإن لم تقترن المشيئة بوقوع العمل واقترن الأمر به لم يقع ، وإن اقترنت باقتران الأمر به يقع ، لأن المشيئة إنما اقتضت وقوع الأمر بذلك العمل لا وقوعه أي صدور العمل من المأمور المعين ،
"" أضاف بالى زادة : فالمشيئة إذا تعلقت تقرير الحكم المشروع خاصة نفذ تقرير ذلك الحكم لا العمل به ، وإذا تعلقت تقريره مع العمل به نفذ تقرير ذلك الحكم والعمل به فالتكاليف نفذ تقريرها ، وأما العمل بها فقد ينقذ لتعلق المشيئة به ، وقد لا ينفذ لعدم تعلقها به ، فإذن لم يقع الأمر إلا بحسب المشيئة اهـ بالى.

ولما يشعر كلامه أن للعبد تأثيرا في الجملة في وجود الفعل نفى ذلك بقوله ( وعلى الحقيقة ) فكان ذلك المحل شطا لصدور الفعل ( فأمر المشيئة ) يتعلق بالمشروط بتعلق آخر غير تعلقه بالشرط لا أن المشيئة تتعلق بعين العبد ، والعبد يفعل الفعل بلا تعلق المشيئة ،
فالمشيئة بذلك الفعل بل يشترك في الفعل معنى المشيئة ، فالمشيئة تستقل بوجود الفعل في التأثير كما تستقل في وجوه العبد ،
فالعبد لا تأثير له في فعله كما لا تأثير له في وجود نفسه ، وإنما بنى هنا المعنى على الحقيقة لأن بناء الظاهر هو أن العبد يكسب فعله ، فاللَّه يخلقه فكان للعبد تأثير في فعله بهذا الوجه ، ولا تأثير بذلك الوجه ، فمراد الله بحسب الوقوع في الخارج تابع لمشيئته ، وبحسب الوجود العلمي فالمشيئة تابعة له فلا جبر ، فإن كان الجبر فمن العبد لا من الله ، وإنما كان من الله أن لو كان المعلوم والمراد تابعا للعلم والمشيئة من كل الوجوه اهـ بالى .  ""

فالمسمى معصية ومخالفة إنما هو باعتبار أمر المكلف والشارع المتوسط لا باعتبار التكوين الذي هو المشيئة ، فلا يخالف الله في أمره الذي لا واسطة فيه فلا رادّ له ولا معقب ، فهذا يقتضي الألوهية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه فيستحيل أن لا يكون ، ولكن في هذا المحل الخاص فوقتا يسمى به مخالفة لأمر الله ) ووقتا يسمى موافقة وطاعة لأمر الله  .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (يعنى أن أمر المشيئة إنما يتعلق على الحقيقة بعين الفعل مقتضيا وجوده لا بمن ظهر على يديه ، وإنما عدى فعل التوجه بعلي لتضمينه معنى الحكم ، يعنى أن أمر المشيئة يحكم على الفعل بالوجود متوجها نحوه ولا يحكم على فاعله فيستحيل أن لا يقع ، ولكن في المحل الخاص الذي يقع الفعل على يده يسمى وقتا موافقة وطاعة لأمر الله).

وذلك إذا كان ذلك الشخص مأمورا بذلك الفعل من جهة الشرع ، ووقتا مخالفة ومعصية لأمر الله إذا كان منهيا في الشرع عن ذلك الفعل ( ويتبعه لسان الحمد والذم على حسب ما يكون )
أي حسب الموافقة لأمر الواسطة والمخالفة ، وإن كان العبد في كليهما موافقا لأمر الإرادة مطيعا له .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها ، فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شيء ، فإنها سبقت الغضب الإلهي والسابق متقدم ، فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر حكم عليه المتقدم ، فنالته الرحمة إذا لم يكن غيرها سبق )
يعنى أن الأمر لما كان على ما قررناه من اقتضاء المشيئة لوجود الفعل لزم أن يكون مآل الكل إلى السعادة سواء كان الفعل موافقة وطاعة أو مخالفة ومعصية ، لأن الإيجاد وهو الرحمة ، فالرحمة وسعت كل شيء حتى المعصية لعموم النص فإنها عمت وسبقت الغضب الإلهي فلا يلحقها الغضب وإلا لم تكن سابقة ، فإذا حكم الغضب على المغضوب عليه من حيث اقتضاء المعصية والمخالفة ذلك ،
وكانت الرحمة المقدمة هي الغاية لحق الرحمة السابقة في الغاية فنالته الرحمة فحكمت عليه إذا لم يسبق غيرها ، فثبت أن المآل إلى الرحمة والسعادة فلا يبقى للغضب حكم ، وأيضا فالأعيان مرحومة لأنها موجودة وداخلة في عموم الشيء الذي وسعته الرحمة وهي الغاية المتقدمة ، فكيف للغضب المحفوف بالرحمتين حكم ، فالغضب هو العسر بين اليسرين.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا معنى سبقت رحمته غضبه لتحكم على من وصل إليها ، فإنها في الغاية وقفت والكل سالك إلى الغاية فلا بد من الوصول إليها ، فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب ، فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها ) فإن حال الغضب لا يعطيه من الرحمة إلا التعوذ بالغضب والالتذاذ

بمقتضاه حتى يصير في حقه مسمى جهنم جنة ، وحال البعض الخلاف من الغضب ، وحال البعض وجدان أثر الرضا وروح الجنة ، وحال البعض البلوغ إلى الدرجات ، وفي الجملة لا يخلو أحد في العاقبة من سعادتهما وإن كانت نسبية :
( فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا .... وإن لم يكن فهم فيأخذوه عنا
فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد     .....  عليه وكن بالحال فيه كما كنا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم      .....   ومنا إليكم ما وهبناكم منا )
أي فمن الحق ورد إلينا ما قلنا لكم وتلونا عليكم ، وليس بوارد منه إليكم ما وهبنا لكم :
أي ما وهبنا لكم فمنا ورد إليكم ، ويجوز أن يكون المعنى منا ورد إليكم ما وهبنا لكم بل منه بواسطتنا ، وكلا المعنيين يستقيم ، وتعدية وهبنا بنفسه كقوله :" واخْتارَ مُوسى قَوْمَه " في حذف الجار وإيصال الفعل إلى مفعوله .

"" أضاف بالى زادة : (فمن كان ذا فهم ؟ ) أي ذا بصيرة وكشف ( يشاهد ما قلنا ) من غير أخذ من قولنا ( وإن لم يكن ذا فهم فيأخذه عنا ) أي يدرك هذا المعنى عن قولنا على ما هو الأمر عليه بالعقل السليم وهم المؤمنون بحال أهل الله ،
وفيه إشارة إلى أن المحبين من أهل الله ( فما في ) أي فما في هذه المسألة في نفس الأمر ( إلا ما ذكرناه فاعتمد عليه وكن بالحال فيه ) أي فيما ذكرنا ، لا تكن بالقال ( كما كنا بالحال فيه ، فمنه ) أي من الحق أو من الرسول ( نزل إلينا ما تلونا ) أي الذي تلونا ( عليكم ومنا نزل إليكم ما ) أي ليس ( وهبناكم منا ) أي من عند أنفسنا .أهـ بالى ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما تليين الحديد فقلوب قاسية يلينها الزجر والوعيد تليين النار الحديد ، وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ، فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها )
يعنى أن الحجارة ليس لها قبول التليين ، فإن النار تكسرها أو تكلسها ، فالقلوب التي تشبهها لا يؤثر فيها الزجر والوعيد

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ألان الحديد له إلا لعمل الدروع الواقية تنبيها من الله أن لا يتقى الشيء إلا بنفسه ، فإن الدروع يتقى بها السنان والسيف والسكين والنصل فاتقيت الحديد بالحديد ، فجاء الشرع المحمدي بأعوذ بك منك فافهم ، هذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرحيم ، والله الموفق )

أي إنما ألان لداود الحديد لعمل الدروع الواقية من الحديد تنبيها له على أنه لا يتقى الله إلا به ، كما قال عليه الصلاة والسلام « أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك » فصورة تليين الحديد على يديه صورة ما أعطاه الله تعالى من قوة تليينه للقلوب السامعة لكلامه ومزاميره القابلة لمعانيها .
كما أن تسبيح الجبال والطير وترجيعها إياه معه صورة تسبيحه في جوارحه وقواه حتى تشكلت بالهيئة التنزيهية ، وانخرطت بالكلية في سلك التقديس والتوحيد ،
فتليين القلوب روح تليين الحديد ، والتوحيد الذاتي في أعوذ بك منك روح اتقاء الحديد بالحديد ، فتوحيد القلوب يسبب لها روح الروح ، فإنها إذا لانت وسعت الحق فعرفت أن المنتقم هو الرحيم .
والله الموفق 
 .
واتساب

No comments:

Post a Comment