Saturday, January 18, 2020

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فص حكمة وجودية ) أي فص الحكمة المنسوبة إلى الوجود الإنساني حاصلة ( في كلمة داودية ) أي في روح منسوبة إلى داود عليه السلام وإنما نسب الحكمة الوجودية إلى داود عليه السلام لأن المقصود من الوجود الإنساني الخلافة ولا يتم ذلك بكماله إلا بداود عليه السلام
لذلك ما ظهرت الخلافة في أحد مثل ظهورها في داود عليه السلام حيث خاطبه الحق
بقوله :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً بخلاف آدم عليه السلام فإنه ليس بهذه المثابة في التصريح فلا يظهر خلافة آدم بتمامه إلا بداود .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شيء من الاكتساب ) أي لا يحصل بتعلق إرادة الإنسان ( أعني نبوة التشريع ) فالنبوة العامة لكونها لازمة للولاية الكسبية خارجة عن هذا الحكم ( كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السلام من هذا القبيل )

قوله رضي الله عنه  : ( مواهب ليست جزاء ولا يطلب عليها منهم جزاء فاعطاؤه تعالى إياهم على طريق الإنعام والإفصال ) بدل قوله من هذا القبيل على التفضيل ( فقال :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ *يعني لإبراهيم الخليل ، وقال في أيوب :وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُم ْوقال في حق موسى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّاإلى مثل ذلك فالذي تولاهم أوّلا ) .
أي تولا بإعطاء كمالاتهم في الدنيا من غير كسب ( هو الذي تولاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرهم ) بإعطاء درجاتهم من غير كسب فكانت نعم اللّه عليهم في الدنيا والآخرة بطريق الإفضال لكونهم مظاهر اسمه الوهاب فلا ينفك تصرف الاسم الوهاب ولا الجواد عنهم ( وليس ) متوليهم ( إلا اسمه الوهاب ).
قوله رضي الله عنه  : (وقال في حق داود عليه السلام :وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا) الحق ( به ) أي بإعطائه لداود عليه السلام ( جزاء ) أي عملا ( يطلب منه ) .
أي بطلب الحق ذلك العمل من داود عليه السلام ( ولا أخبر ) الحق ( أنه ) أي الفاضل ( أعطاه ) أي أعطى الحق لداود عليه السلام ( هذا ) مبتدأ ( الذي ذكره ) صفة ( جزاء ) خبره أي ولا أخبر الحق أن الفضل الذي أعطى لداود عليه السلام جزاء من عمل داود عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما طلب الشكر على ذلك بالعمل طلبه ) أي طلب الحق ذلك الشكر ( من آل داود عليه السلام ولم يتعرض لذكر داود عليه السلام ) في طلب الشكر ( ليشكره ) يتعلق بطلبه أي إنما طلب الحق الشكر من آل داود ليشكر ( الآل ) الحق ( على ما أنعم به على داود ) عليه السلام حتى يزيد نعم اللّه على عباده بالشكر لقوله تعالى :لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[ إبراهيم : 7 ] .
فكان طلب الشكر من العباد نعمة وعطاء محضا من اللّه على عباده فإعطاء النعمة على العباد أحب إليه تعالى لذلك طلب الشكر الذي يزيد به النعمة فالشكر أحب الأعمال إلى اللّه تعالى فإذا لم يطلب على ما أنعم به على داود عليه السلام من داود عليه السلام جزاء .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو ) أي ذلك الفضل ( في حق داود عليه السلام عطاء نعمة وإفضال ) فإذا طلب على ذلك من آله جزاء لم يكن النعمة في حق آله إفضالا لذلك قال : ( وفي حق آله على غير ذلك ) بالإعطاء والإفضال ( لطلب المعاوضة ) في حق آله دون داود عليه السلام ( فقال تعالى :اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي أشكروا اللّه يا أمة محمد على ما أنعمت به على نبيكم محمد عليه السلام كما شكر آل داود عليه السلام على ما أنعمت به على نبيهم داود عليه السلاموَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُوهو بيان لعظمة شأن الشكر عند اللّه فلا يصل إلى مرتبة الشكر من العباد إلا قليل.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كانت الأنبياء قد شكروا اللّه على ما أنعم به عليهم ) الحق ( ووهبهم ) من الرسالة والنبوة والكمالات المختصة بهم ( فلم يكن ذلك ) الشكر منهم ( عن طلب من اللّه بل تبرعوا بذلك ) الشكر ( من نفوسهم كما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تورّمت قدماه شكرا لما غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلما قيل له في ذلك ) يعني قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن اللّه غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فلم فعلت ذلك الفعل الشاق.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال أفلا أكون عبدا شكورا ) لعلمه أن الشكر أعظم منزلة عند اللّه فالعبد الشكور من خواص عباده تعالى لذلك قال قل الشكور فطلب رسول اللّه والأنبياء كلهم أن يكون عبدا شكورا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقال في نوح عليه السلام :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراًوالشكور من عباد اللّه قليل ) فالعبد الشكور هو الذي شكر اللّه على ما أنعم اللّه به عليه من غير طلب من اللّه الشكر وأما الذي شكر عن طلب من اللّه فهو ليس عبدا شكورا فما كان الشكور من عباد اللّه إلا الأنبياء عليهم السلام خاصة لورود النص في حقهم .
وهو قوله تعالى في حق نوح عليه السلام :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُور اًو قول الرسول عليه السلام : « أفلا أكون عبدا شكورا » وأما غيرهم من المؤمنين وإن كانوا شاكرين لكنهم لا يكونون عبدا شكورا لعدم ورود النص في حقهم نعم قد أنعم على المؤمنين بعض نعمة من غير طلب الشكر فتبرعوا الشكر من عند أنفسهم فكانوا حينئذ عبدا شكورا لكن الكلام في النص الإلهي.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأوّل نعمة أنعم اللّه بها على داود عليه السلام أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال ) والاتصال يعتبر إلى البعد فهذه الحروف لا تتصل إلى حرف بعدها ويتصل بها غيرها قبلها فهذه الحروف تنقطع عن الحروف الباقية وتتصل الحروف الباقية إليها فداود عليه السلام ينقطع عن العالم أي لا يميل إليه والعالم يتصل إليه لذلك ترجع الجبال معه.
( فقطعه ) أي قطع الحق داود عليه السلام ( عن العالم بذلك ) أي بإعطاء ذلك الاسم له فكان هذا الاسم سببا لقطعه تعالى عن العالم وإنما فعل الحق ذلك في حق داود عليه السلام ( إخبارا ) أي للإخبار ( لنا عنه ) أي عن العالم ( بمجرد هذا الاسم ) المنقطع الحروف قوله بمجرد يتعلق بإخبارا ( وهي الدال والألف والواو ) فلما أعطاه ذلك علمنا منه أن اللّه قد قطعه عن العالم بدون مجاهدة وكسب من داود عليه السلام فكان ذلك القطع عطاء نعمة وإفضال من اللّه على داود عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمّى اللّه محمدا عليه السلام بحروف الاتصال والانفصال فوصله ) أي محمدا صلى اللّه عليه وسلم بذلك الاسم من جهته وصله ( به ) أي بالحق أو وصله بسبب هذا الاسم إلى الحق ( وفصله ) بهذا الاسم من جهة فصله ( عن العالم فجمع له ) أي لمحمد عليه السلام ( بين الحالتين ) حالتي الاتصال والانفصال ( في ) لفظ ( اسمه ) فعلمنا من اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم قد انفصل عن العالم واتصل بالحق بخلاف داود عليه السلام فإنه وإن علمنا انقطاعه عن العالم واتصاله بالحق لكن الاتصال بدلالة المعنى فإن الانقطاع عن العالم يوجب الاتصال بالحق فدل اسم داود عليه السلام عليه التزاما وهو معنى قوله ( كما جمع لداود عليه السلام بين الحالتين من طريق المعنى ولم يجعل ذلك ) الجمع .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في اسمه فكان ذلك ) الجمع في اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم ( اختصاصا لمحمد عليه السلام على داود عليه السلام ) قوله ( أعني التنبيه عليه باسمه ) تفسير لقوله فكان ذلك اختصاصا .
( فتم له الأمر ) أي أمر الجمع ( من جميع جهاته ) من الاسم والمعنى ( وكذلك في اسمه أحمد فهذا ) أي الجمع بين الحالتين في اسم محمد واسم داود عليهما السلام ( من حكمة اللّه تعالى ) وهي الانقطاع عن العالم والاتصال ظاهر بالحق فلا يخلو ما في الوجود لفظا وكتابه وعقلا وخارجا عن حكمة إلهية ولا يطلع على هذا المعنى إلا من اكتحل بصره بالنور الإلهي .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قال في حق داود عليه السلام ) والضمير المنصوب ( فيما أعطاه ) راجع إلى ما أي وما أعطاه إياه ( على طريق الانعام ) والضمير المجرور في ( عليه ) راجع إلى داود عليه السلام والجار والمجرور يتعلق بالانعام ترجيع الجبال معه التسبيح مقول قال التسبيح منصوب بترجيع أي قال اللّه في حق داود عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ترجيع الجبال معه التسبيح ) في قوله سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ( فتسبح ) الجبال ( تسبيحه ليكون له ) أي لداود عليه السلام ( عملها ) أي عمل الجبال .
( وكذلك ) خبر مقدم ( الطير ) مبتدأ أي وكالجبال الطير في الترجيع معه التسبيح أو بالجر على تقدير المضاف أي وكذلك قال اللّه تعالى ترجيع الطير معه التسبيح في قوله :وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ[ ص : 19 ] .
وتسبيح الجبال والطير معه وهو تسبيح داود لا التسبيح المخصوص بكل منهما ( وأعطاه القوة ونعته بها ) في القرآن الكريم بكلامه ذا الأيد إنه أوّاب ( وأعطاه الحكمة ) أي علم الحقائق والأسماء والصفات ( و ) أعطاه ( فصل الخطاب ) قال مولانا سعد الدين في كتابه المسمى بالمطول يقال الكلام البين فصل بمعنى المفصول ففصل الخطاب البين من الكلام الملخص الذي ينبه من يخاطب ولا يلتبس عليه أو بمعنى الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الحق والباطل والثواب والخطأ .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم المنة الكبرى والمكانة الزلفى ) أي المرتبة القربى من اللّه ( التي خصه اللّه تعالى بها التنصيص ) قوله ثم المنة مبتدأ والتنصيص خبره ( على خلافته ولم يفعل ذلك ) التنصيص ( مع أحد من أبناء جنسه ) أي من بني آدم .
( وإن كان فيهم خلفاء ) فلا يكون نفس الخلافة لداود المنة الكبرى والمكانة الزلفى بل المنة الكبرى التنصيص على خلافته لعموم الخلافة وخصوص تنصيصه وإنما كان تنصيص الخلافة المنة الكبرى دون تنصيص سائر النعم التي خصها لداود لأن الخلافة لكونها المرتبة الألوهية أعلى المراتب كلها فتنصيصها كذلك ولم يلزم فضل داود عليه السلام بذلك التنصيص على سائر الخلفاء من الأنبياء عليهم السلام تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده .
ولو كان داود عليه السلام فاضلا بذلك التنصيص على الخلفاء لما نص فضل محمد عليه السلام كلها فتنصيص الخلافة غير تنصيص الفضل مع أن الفضل بذلك لا يستلزم الفضل مطلقا فالشيء الواحد جاز أن يكون فاضلا ومفضولا بحسب الوجوه والمراتب وقد بيناه غير مرة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي ما يخطر لك في حكمك من غير مني يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الطريق الذي أوحى أنا بها ) . أي بهذا الطريق

 ( إلى رسلي ثم تأدب سبحانه معه فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ، ولم يقل له فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد ).
فانظر كيف تأدب الحق مع عباده حتى نتأدب معه ومع عباده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت وآدم عليه السلام قد نص على خلافته ) فما معنى اختصاص التنصيص على خلافة داود عليه السلام ( قلنا ما نص ) آدم عليه السلام على خلافته ( مثل التنصيص على ) خلافة ( داود عليه السلام :وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ولم يقل أني جاعل آدم عليه السلام في الأرض ) خليفة.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو قال ) أني جاعل آدم عليه السلام خليفة ( لم يكن ) هذا القول الذي في حق آدم ( مثل قوله إنا جعلناك خليفة في حق داود عليه السلام فإن هذا ) أي قوله في حق داود عليه السلام ( محقق ) لأنه خطاب ( وليس ذلك ) أي وليس قوله أني جاعل آدم عليه السلام خليفة ( كذلك ) في التحقيق لأنه غيب ( وما ) أي ولا ( يدل ذكر آدم عليه السلام في القصة بعد ذلك ) أي بعد قوله :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ( على أنه ) أي على أن آدم عليه السلام ( عين ذلك الخليفة الذي نص اللّه عليه فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبرك ) أي أخبر بالتنصيص أم لا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك في حق إبراهيم الخليل : قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً . ولم يقل خليفة وإن كنا نعلم أن الإمامة هنا خلافة ولكن ما هي مثلها لأنه ) أي الشأن .
( ما ذكرها ) أي ما ذكر الحق الإمامة ( بأخص أسمائها وهي الخلافة ) وغيرها فالامامة تعم الخلافة وغيرها.
 ( ثم في داود عليه السلام من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم وليس ذلك ) أي خليفة حكم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا عن اللّه فقال :فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وخلافة آدم عليه السلام قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها ) أي في الأرض .
( قبل ذلك ) أي قبل آدم عليه السلام من الملائكة ( لا أنه ) أي لا يدل أن آدم عليه السلام ( نائب عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهي فيهم وإن كان الأمر كذلك وقع ) أي وإن كان آدم نائبا عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهي فيهم في نفس الأمر .
( ولكن ليس كلامنا ) في حق داود عليه السلام ( إلا في التنصيص عليه ) أي على داود عليه السلام ( والتصريح به ) فامتاز داود عليه السلام عن آدم عليه السلام في الخلافة تنصيصها ( وللَّه في الأرض خلائف عن اللّه وهم الرسل ) فلا اختصاص في الخلافة كما اختص داود عليه السلام إلا على تنصيصها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما الخلافة اليوم ) أي الخلافة التي بعد انقضاء الرسل ( فعن الرسل لا عن اللّه فإنهم ) أي الخلفاء اليوم ( ما يحكمون إلا بما شرّع لهم الرسول عليه السلام ولا يخرجون عن ذلك ) التشريع (غير أن هنا ) أي إلا أن في مقام الخلافة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( دقيقة لا يعلمها ) ذوقا وحالا ( إلا أمثالنا ) في العلم والمرتبة ( وذلك ) الدقيقة المعلومة لنا حاصلة ( في أخذ ما يحكمون به ) ومن في ( مما ) بيان لما ( هو ) راجع إلى ما في مما ( شرّع للرسول عليه السلام ) على البناء للمجهول من التشريع .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه ) هذا تفصيل لقوله وأما الخلافة اليوم فعن الرسل إلى قوله غير أن هنا شرع في تفصيل قوله غير أن هنا دقيقة إلى آخره بقوله ( وفينا من يأخذه ) أي الحكم.
( عن اللّه فيكون خليفة عن اللّه بعين ذلك الحكم ) أي الحكم الذي يأخذه خليفة الرسول بالنقل أو بالاجتهاد ويأخذ منا ذلك الحكم بعينه عن اللّه كما يأخذ الرسول عنه ( فتكون المادة له ) في أخذ الحكم .
( من حيث كانت المادة لرسول اللّه ) عليه السلام وهذه المرتبة والمساواة برسول اللّه عليه السلام لمن سبقت له العناية الأزلية من كبار أولياء اللّه واتحاد الولي مع النبي في درجة واحدة وهي مادة أخذ العلم أو في غير ذلك من الكمالات لا ينافي أفضلية الأنبياء على الأولياء ( فهو ) أي من يأخذ الحكم عن اللّه ( في الظاهر ) متعلق بقوله
( متبع ) أي للرسول ( لعدم مخالفته ) الرسول ( في الحكم ) لكون الأخذ من معدن واحد ( كعيسى ) عليه السلام ( إذا نزل فحكم ) فإنه يأخذ الحكم عن اللّه ويتبع الرسول في الظاهر فيكون خليفة عن اللّه لا خليفة عن الرسول إذ لم يأخذ الحكم بالنقل عنه أو بالاجتهاد لكن بلسان الظاهر يقال خليفة رسول اللّه ( وكالنبي محمد عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى :أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، فقد أمر اللّه تعالى الرسول باتباع هدى الأنبياء والمرسلين فالهدى حقيقة واحدة تدوم بدوام الإنسان إلى يوم القيامة باتباع اللاحق بالسابق .
( وهو ) أي الأخذ عن اللّه تعالى ( في حق ما نعرفه ) على صيغة التكلم أو الغائب ( من صورة الأخذ ) بيان لما ( مختص ) أي لا يأخذ الحكم إلا عن اللّه ( موافق ) للرسول في الحكم فقوله وهو مبتدأ مختص خبره وموافق صفة مختص أو خبر ثان ( هو ) مبتدأ أي ذلك الأخذ ( فيه ) أي في أخذه عن اللّه وتقرير شرع رسول اللّه عليه السلام وخبر المبتدأ قوله : ( بمنزلة ما قرره النبي من شرع من تقدم من الرسل ) قوله ( بكونه ) يتعلق بقوله ( قرره ) أي قرر الرسول شرع من تقدم من الرسل بإيجاده لا بالنقل عنهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فاتبعناه ) أي الرسول فيما قرره من شرع من تقدم ( من حيث تقريره ) أي تقرير الرسول ( لا من حيث أنه هو شرع لغيره قبله ) إذ لا يكون من هذه الحيثية شرع محمد صلى اللّه عليه وسلم فنحن مأمورون باتباع شريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم لا باتباع شريعة غيره من الرسل.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك ) يعني كما أن ما أخذه الرسول عن اللّه عين ما أخذه الرسل منه كذلك ( أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرسول فنقول فيه ) أي في حق الأخذ عن اللّه ( بلسان الكشف خليفة اللّه وبلسان الظاهر خليفة رسول اللّه ولهذا ) أي ولأجل أن من عباد اللّه من يأخذ الخليفة عن اللّه.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما نص بخلافة عنه إلى أحد عنه ولا عينه لعلمه أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه فيكون ) ذلك الأخذ ( خليفة عن اللّه مع الموافقة ) لرسول اللّه ( في الحكم المشروع ) والنصوص الواردة في حق الأصحاب في الإمامة لا في الخلافة وإن كان الأمر قد وقع كذلك لكن أمر الخلافة لا كأمر الإمامة كما عرفت .
( فلما علم ذلك عليه السلام لم يحجر الأمر ) أي لم يمنع أمر الخلافة عن أحد فإذا لم يمنع الرسول الخلافة ( فللّه خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرسول والرسل ) .

قوله ( ما أخذته الرسل ) مفعول يأخذون المعدن هو ذات الحق وأسمائه وصفاته ( ويعرفون ) عطف على يأخذ ( فضل المتقدم ) في الرتبة ( هنالك ) أي في الأخذ عن اللّه فإن الأخذ عن اللّه يتفاوت بحسب المشارب والمراتب وكم بين أخذ الأنبياء عن اللّه وبين الأولياء فيتفاوت أخذ الأنبياء بحسب درجاتهم .
قال اللّه تعالى :تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ[البقرة : 253 ] ،
وكذا الأولياء وإنما فضل الرسول على الخلفاء في المرتبة ( لأن الرسول قابل للزيادة وهذا الخليفة ) أي الخليفة الذي يأخذ عن اللّه مع الموافقة في الحكم المشروع للرسول ( ليس بقابل للزيادة التي لو كان ) هذا الخليفة ( الرسول قبلها ) على صيغة الماضي فإذا كان الأمر كذلك ( فلا يعطي ) اللّه ذلك الخليفة ( من العلم والحكم فيما شرع له ) على البناء للمجهول الأمر ( إلا ما شرع للرسول خاصة فهو ) أي الولي الأخذ عن اللّه ( في الظاهر ) .
متعلق بقوله : ( متبع غير مخالف بخلاف الرسل ) فإن شريعة بعضهم تخالف شريعة من قبلهم في بعض الأحكام المشروعة وإن كانت شريعة كلهم متفقة في الهدى لقوله تعالى :فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْفالهداية لا تقبل الزيادة والنقصان بخلاف الأحكام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى عيسى عليه السلام لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على ) دين ( موسى عليه السلام مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول آمنوا به واقرّوا فلما زاد ) عيسى عليه السلام ( حكما أو نسخ حكما كان قد قرره موسى عليه السلام ) .
قوله رضي الله عنه  : ( لكون عيسى عليه السلام رسولا ) يتعلق بقوله فلما زاد ( لم يحتملوا ) أي اليهود ( ذلك ) الزائد أو النسخ فأنكروا عيسى عليه السلام واعرضوا عن حكمه وإنما لم يحتملوا ( لأنه خالف ) أي عيسى عليه السلام ( اعتقادهم فيه ) أي في الحكم الزائد أو الناسخ ( وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه ) أي جهلت اليهود أن الرسالة تقبل الزيادة والنقصان.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فطلبت قتله فكان من قصة ما أخبرنا اللّه في كتابه العزيز عنه وعنهم فلما كان ) عيسى أو الخليفة ( رسولا قبل الزيادة إما بنقص حكم قد تقرر أو زيادة حكم على أن النقص ) أي نقص قد تقرر ( زيادة حكم بلا شك ) فإن نقص الحكم حكم زائد على ما قرره ( والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ) أي قبول الزيادة والنقص ولما قبل خلافة اليوم الزيادة والنقصان في بعض الأحكام المشروعة وهي المسائل الاجتهادية .
قال رضي الله عنه  : ( وإنما تنقص أو تزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد ) و ( لا ) تزيد ولا تنقص ( على الشرع الذي شوفه ) أي خوطب ( به محمد صلى اللّه عليه وسلم ) والشرع الذي شوفه به محمد صلى اللّه عليه وسلم هو المشروع المنصوص الذي لا يقبل الزيادة والنقصان لامتناع دخول الاجتهاد فيه فلا يتغير بالزيادة أو النقص

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد يظهر من الخليفة ) اليوم ( ما يخالف حديثا ما في الحكم فيتخيل أنه ) على البناء للمفعول أي فيتخيل أهل الحجاب أن ذلك الحكم منه ( من الاجتهاد وليس كذلك وإنما هذا الامام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي عليه السلام ولو ثبت ) ذلك الخبر عنده عن النبي من جهة الكشف ( لحكم به ) أي بذلك الخبر.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان الطريق فيه ) أي في ثبوت الخبر ( العدل من العدل فما هو ) أي فليس العدل ( معصوم عن الوهم ولا من النقل على المعنى ) فاحتمل فيه على ما هو الأمر عليه بخلاف الكشف الإلهي فإنه يعطي الأمر على ما هو عليه في نفسه فالكشف الإلهي أقوى وأرجح من العدل في إفادة اليقين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم و ) كما يقع من الخليفة اليوم ما يخالف حديثا ما في الحكم ( كذلك يقع من عيسى عليه السلام فإنه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر ) لعدم ثبوت ذلك الشرع الاجتهادي من جهة كشفه فكل حكم شرعي اجتهادي مقرر إذا وافق كشفه يثبته وإذا لم يوافق برفعه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيبين ) على صيغة المعلوم أو المجهول ( برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه النبي ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة فنعلم قطعا أنه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهي وما عداه ) أي ما عدا ذلك الوجه .
( وإن قرره الحق ) أي ما عدا الوجه الذي لو نزل وحي لنزل به ( فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها ) فعلم منه أن الشارع قد ستر الحق المشروع في بعض أحكامه فاختلف الناس فيه بحسب اجتهادهم وقرر اجتهاد كل منهم لرفع الحرج عن هذه الأمة فهذا عناية من اللّه في حقهم فرفع الحرج سبب لحياة الأمة فإذا نزل عيسى عليه السلام نزل معه الحرج فتمت مدة حياتهم وقرب هلاكهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قوله عليه السلام إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الأخير منهما هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف ) قوله ( وإن ) مبالغة ( اتفقا فلا بد من قتل أحدهما بخلاف الخلافة المعنوية فإنه لا قتل فيها ) لأنه لا حكم للسيف لها أصلا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة ) في حق الأخير ( وإن لم يكن لذلك الخليفة ) التي جاء القتل في حقه ( هذا المقام ) وهو أخذ الحكم عن اللّه ( هو خليفة رسول اللّه عليه السلام ) كالأولى ( أن عدل ) إذ قول الرسول عليه السلام في حقهما خليفتين يشتمل كليهما على السؤال وجواب أما قوله ( فمن حكم الأصل الذي به ) أي بسبب ذلك الأصل .
( تخيل وجود آلهين ) فالقتل يتوجه إلى من كان سببا لتخيل وجوده إلهين وهو الثاني دون الأول فإن الخليفة مظهر الحق فيتخيل بتعدده تعدد الحق فوجب لرفع التخيل قتل الثاني الذي هو سببه (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وإن اتفقا ) أي آلهين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنحن نعلم ) قطعا ( أنهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة والذي لم ينفذ حكمه ليس بآله) أي ومن قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن هاهنا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم فإنه حكم اللّه وإن ) مبالغة ( خالف ) ذلك الحكم النافذ ( الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلا للَّه في نفس الأمر ) وإن كان ينفذ في الظاهر من مظهر خاص ( لأن الأمر الواقع ) الأمر يعم جميع الأفعال والأقوال .
( في العالم إنما هو على حكم المشية الإلهية لا على حكم الشرع المقرر وإن كان تقريره ) إن مبالغة أي وإن كان تقرير الشرع المقرر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من المشية ولذلك ) أي ولكون تقرير الشرع من المشية ( نفذ تقريره خاصة ) عند عدم العمل به ( وإن ) بالفتح عطف على نفذ ( المشية ليست لها فيه ) أي في الشرع الذي نفذ تقريره خاصة ( إلا التقرير لا العمل بما جاء به )  فالمشية إذا تعلقت تقرير الحكم المشروع خاصة نفذ تقرير ذلك الحكم لا العمل به وإذا تعلقت تقريره مع العمل به نفذ تقرير ذلك الحكم والعمل به .
فالتكاليف نفذ تقريرها وأما العمل بها فقد ينفذ لتعلق المشية به وقد لا ينفذ لعدم تعلقها به فإذن لم يقع الأمر إلا بحسب المشية .

فإذا كان الأمر كذلك ( فالمشية سلطانها ) أي قوتها وقدرتها ( عظيم ولهذا ) أي ولأجل عظمة سلطان المشية ( جعلها أبو طالب ) وهو من كبار الأولياء ( عرش الذات ) أي يظهر حكم اللّه بها.

قوله رضي الله عنه  ( لأنها ) علة لقولها سلطانها عظيم ويجوز أن يكون علة لقوله عرش الذات أي لأن المشية ( لذاتها تقتضي الحكم فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع عنه ) قوله ( خارجا ) قيد بالوقوع والارتفاع ( عن المشية ).
 وعلل عدم خروج شيء عن المشية وجودا وارتفاعا بقوله ( فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا ) أي في مقام الشرع ( بالمسمى ) أي بالذي يسمى ( معصية).

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فليس ) ذلك الأمر الإلهي الذي خولف ( إلا الأمر بالواسطة ) أي بواسطة الأنبياء كالصلاة إذا لم يفعل المكلف فإنه خالف الأمر الواسطي ( لا الأمر التكويني ) وهو قوله تعالى :إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ يس : 82 ] ، .
ولو أراد اللّه بالأمر التكويني عن ذلك العبد فعل الصلاة لفعل

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما خالف اللّه أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشية فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ) إذا لم يتعلق المشية بذلك الأمر ( فافهم ) إشارة إلى أن هذه المسألة من دقائق الفن وأعظم مسائله .

ولما يشعر كلامه أن للعبد تأثيرا في الجملة في وجود الفعل نفى ذلك بقوله رضي الله عنه  :
( وعلى الحقيقة فأمر المشية إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر ) الفعل ( على يديه فيستحيل أن لا يكون ) ذلك الفعل ( ولكن في هذا المحل الخاص ) فكان ذلك المحل شرطا لصدور الفعل .
فأمر المشية يتعلق بالمشروط بتعلق آخر غير تعلقه بالشرط ، إلا أن المشية تتعلق بعين العبد والعبد يفعل الفعل بلا تعلق المشية بذلك الفعل أو يشترك في الفعل .
معنى المشية فالمشية تستقل في وجود الفعل في التأثير كما تستقل في وجود العبد .
فالعبد لا تأثير له في فعله كما لا تأثير له في وجود نفسه .
وإنما بنى هذا المعنى على الحقيقة لأنه بناء على الظاهر هو أن العبد يكسب فعله .
فاللّه يخلقه فكان للعبد تأثيرا في فعله بهذا الوجه ولا تأثير بذلك الوجه .
فمراد اللّه بحسب الوقوع في الخارج تابع لمشيته وبحسب الوجود العلي فالمشية تابعة له فلا جبر.
فإن كان الجبر فمن العبد لا من اللّه وإنما كان من اللّه أن لو كان المعلوم والمراد تابعا للعلم والمشية من كل الوجوه ( فوقتا يسمى به مخالفة لأمر اللّه ووقتا يسمى موافقة وطاعة لأمر اللّه ويتبعه لسان الحمد أو الذم على حسب ما يكون ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه ) من أنه لا يقع شيء في الوجود ولا يرتفع خارجا عن المشية .

( لذلك ) يتعلق بقوله ( كان مآل الخلق ) في الآخرة ( إلى السعادة ) أي إلى الرحمة ( على اختلاف أنواعها ) أي أنواع السعادة لأن مآل بعضهم إلى رحمة خالصة من شوب الألم وهم أهل الجنان وبعضهم إلى الرحمة الممتزجة من العذاب وهم المخلدون في النار قوله كان جواب لما.
( فعبر ) الحق ( عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شيء وأنها سبقت الغضب الإلهي ) أي العذاب الإلهي باستيفاء .

اعلم إن العذاب في حق العباد إلهي وإمكاني والعذاب الإلهي ينقطع باستيفاء حقوق اللّه وحقوق الناس في النار عن عصاة المؤمنين ثم يخرجون منها ويدخلون النعيم لأن ذواتهم يقتضي ذلك.
وعلم اللّه منهم فتعلقت مشيته على حسب علمه فوقع الأمر على حسب تعلق مشيته والعذاب الامكاني هو الذي يقتضيه ذات الممكن فلا ينفك ذلك العذاب عن ذات الممكن في الآخرة أبدا .
وهم المخلدون في جهنم أبدا فإنهم وإن انقطع العذاب الإلهي في حقهم باستيفاء الحقوق الشرعية لكن لا ينقطع عنهم العذاب الذي يقتضي ذواتهم ظهر لهم بانقطاع العذاب الإلهي عنهم فإن ذواتهم تقتضي ذلك .
وعلم اللّه منهم ذلك وتعلقت مشيته على ذلك فكانت المشية تابعة تقتضي ذواتهم فلا تسبق الرحمة في حقهم إلا على العذاب الإلهي لا العذاب الامكاني لتقدمه على المشية .
وإنما يكون ذلك أن لو كانت المشية مقدمة من كل الوجوه على ذوات المعلومات ومقتضياتها وليس كذلك كما قال الشيخ الأكبر :
خسف الكتاب فما شاء إلا بما علم وما علم إلا ما أعطته المعلومات فسبق في حقهم من جهة كونهم تابعة للمشية في وجودهم ووجود مقتضياتهم فما لهم إلى الرحمة من هذا الوجه ، وأما من جهة أن المشية تابعة بأحوالهم ومقتضياتهم فما لهم إلى الألم .

فاللّه تعالى أعطى كل ذي حق حقه فحقهم على حسب اقتضاء ذواتهم الراحة مع الألم وهذا هو النعيم في عين الجحيم والنعيم الذي في عين الجحيم لا يخلو أبدا عن نوع من العذاب وبه حصل التوفيق بين أهل الشرع وأهل التحقيق فلا يزالون عن العذاب الممتزج بالألم أبدا ولو كان أحد منهم آمن باللّه ورسوله وعمل بمقتضاه ولا يعصي اللّه قط في مدة عمره ولا يبقي على ذمته حقوقه الناس أصلا
وقبض في آخر جزء من عمره على الشرك للقضاء السابق عليه نعوذ باللّه من ذلك
فقد وصل في النار بلا حساب ولا عذاب غايته وهي الرحمة الممتزجة بالألم كما أن من أهل الجنة من ينال غايته بلا حساب ولا عذاب ،
وأما الذين لم يؤمنوا باللّه ورسوله فلهم عذاب أليم لاستيفاء الحقوق الشرعية ثم الوصول إلى غايتهم وهي الرحمة الممتزجة بالألم ،
ومن العذاب الذي نشأ من شقاوتهم الذاتية حبسهم في بيت مظلم بلا أكل وشرب على الأبد وهو أقل العذاب الأبد لهم وأشد عذابهم خلودهم في نار شقاوتهم الذاتية بعد انقطاع عذاب نار شقاوتهم العارضية وهي مخالفتهم الشرائع وقد فهمت هذه المسألة من كلام الشيخ هكذا فتوفقت ولم أسطر إلى أن جاء الإثبات على فهمي من روح صاحب الكتاب ولقد أورد الشيخ هذه المسألة كثيرا ما استعظاما لشأنها واهتماما على فهمها فافهم فإن فهمها سعادة ينحل به جميع المشكلات الاعتقادية الكلامية الشرعية

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والسابق متقدم فإذا لحقه ) أي المتقدم أو السابق بالسلوك إذ هو غايته لأن الكل سالك إلى الغاية ( هذا ) فاعل لحقه ( الذي ) صفته ( حكم عليه المتأخر ) أي العذاب مدة أيام دولته ( حكم عليه المتقدم ) وهو الرحمة وإلا كان ذلك العبد عدما محضا ، وهو خلاف ما وقع عليه النص والكشف من أنهما مع أهلهما يبقيان لا يفنيان ( فنالته الرحمة إذ لم يكن غيرها سبق ) من موانع ظهورها والعذاب الذي اجتمع معها لا يعدّ غيرها وإن لم يكن عينها ( فهذا ) أي هذا المعنى الذي بيناه بقولنا والسابق متقدم معنى « سبقت رحمته غضبه » وما سبقت الرحمة على الغضب إلا ( لتحكم الرحمة على من وصل إليها ) .

وإنما وجب الوصول إليها ( فإنها في الغاية وقفت والكل سالك إلى الغاية فلا بد من الوصول إليها فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب ) فكانت الرحمة مركز العالم كلها ( فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها ) لأن بعضهم يصل إليها في عين الجحيم مع بقاء الألم وبعضها يصل في دار النعيم بلا ألم.

 شعر   قال الشيخ رضي الله عنه : 
(فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلناه ... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنا)
(فمن كان ذا فهم ) أي ذا بصيرة وصاحب كشف ( يشاهد ما قلنا ) من غير أخذ عن قولنا ( وإن لم يكن ) ذا ( فهم ) ( فيأخذه عنا ) أي فيدرك هذا المعنى عن قولنا على ما هو الأمر عليه بالعقل السليم وهم المؤمنون بحال أهل اللّه وفيه إشارة إلى أن المحبين من زمرة أولياء اللّه.

(فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد ... عليه وكن بالحال فيه كما كنا)
( فما ثمة ) أي فما في هذه المسألة في نفس الأمر (إلا ما ذكرناه فاعتمد عليه وكن بالحال فيه) أي فيما ذكرناه لا تكن بالقال ( كما كنا ) بالحال فيه

(فمنه إلينا ما تلونا عليكم ... ومنا إليكم ما وهبناكم منا)
( فمنه ) أي من الحق أو من الرسول إذ ما في الكتاب كله نزل إليه من الرسول في الرؤيا وإن كان في التحقيق من اللّه ( إلينا ما تلونا ) أي الذي تلونا ( عليكم) ، (ومنا ) نزل ( إليكم ما ) أي ليس ( وهبناكم منا ) أي من عند أنفسنا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما تليين الحديد فقلوب قاسية ) إشارة إلى القلوب القاسية التي (يلينها الزجر والوعيد تليين) أي كتليين ( النار الحديد وتليين الحديد ما هو صعب ) فلا صعب في القلوب القاسية التي كالحديد فإنها يلينها الوعظ كما يلين النار الحديد .

( وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها ) فالحجارة وإن كانت لا تلينها النار لكنها تكسرها فمن القلوب القاسية من أشد قسوة من الحجارة بحيث لا يلين بالزجر ولا تكسر وهو قوله تعالى :فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً[ البقرة : 74 ] ،

( وما الآن ) الحق له لداود عليه السلام ( الحديد إلا لعمل الدروع ) بضم الدال جمع الدرع (الواقية ) أي الحافظ عن ضرر سلاح العدوّ و ( تنبيها من اللّه أن لا يتقي ) على البناء المجهول ( الشيء إلا بنفسه فإن الدرع يتقي به السنان والسيف والسكين والنصل فاتقيت ) أنت ( الحديد ) أي من الحديد ( بالحديد ) فجاء الاتقاء من الحديد بالحديد في شرع داود عليه السلام .
( فجاء الشرع المحمدي بأعوذ بك ) من حيث رحمانيتك ( منك ) من حيث انتقامك ( فهذا ) المذكور ( روح تليين الحديد فهو المنتقم الرحيم )  فيستعاذ من الاسم المنتقم بالرحيم
( واللّه الموفق ) لهذه الاستعاذة وإدراك روح الشريعة لا غير .
 .
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment