Wednesday, March 11, 2020

24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
تسمية الفصّ
ووجه اختصاص هذه الكلمة بحكمتها هو أنّ هارون قد غلب عليه الرحمة المشتقة منها الرحم ، على ما ورد في الحديث أنّه : « لما خلق الرحم ، قال : أنا الرحمن وأنت الرحم ، شققت اسمك من اسمي ، فمن وصلك وصلته ومن قطعك بتتّه » . رواه أحمد و أبو داود

الإمام والإمامة
ومن ثمّة ظهر عليه عند الإنباء عن محمّد نشأته نسبة الأمومة ، حيث قال : “  يَا بْنَ أُمَّ “ [20 : 94 ].
والإمام عبارة عن « الامّ » بتكرار الإضافة اللازمة لمثله ، ولذلك صار مع نبوّته وخلافته عن الحقّ خليفة أخيه ، فله الخلافة الكاملة ، والإمامة هي كمال الخلافة ، فإنّها تستتبع إطاعة الأمم خالصة عن القهر والغلبة والظهور بالسيف والسفاك .
ولذلك قال تعالى لخليله : “  إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً “  [ البقرة : 124 ]  .
فالإمامة عند التحقيق هي النسبة الجمعيّة الوجوديّة الحبّية ، الموجبة لانقياد الأمم طوعا ورغبة.

ومما يلوّحك على هذا أنّ لفظ « الإمام » عبارة عن باطن لام الجمع وبيّناته مكرّرا ، كما أنّ الكلمة « الهارونيّة » عبارة عن الهاء التنبيهيّة الدالَّة على الحاضر ظاهرة بالنور وقلبه الذي هو ظاهر الوجود المنبسط على الكائنات ، المعبّر عنه بالرحمة ،
وذلك إذا اعتبر انبساطها على الجهات من الكائنات يعبّر عنها بالرحموت .

كان هارون من حضرة الرحموت
ولذلك قال رضي الله عنه  : ( اعلم أنّ وجود هارون كان من حضرة الرحموت ، بقوله “  وَوَهَبْنا لَه ُ من رَحْمَتِنا “  يعني موسى “  أَخاه ُ هارُونَ نَبِيًّا “  [ مريم : 53 ] وكانت نبوّته من حضرة الرحموت ) ، فإنّ النبوّة صورة كمال الوجود وغاية تطوّراته الإظهارية فإذا كان وجود هارون من حضرة الرحموت ، يكون ما يتفرّع عليه منها ، ضرورة وإذ كان الغالب على موسى أمر الغلبة القهريّة والغضب التسلَّطي ، وكان الغالب على هارون الرقّة والشفقة مما هو مقتضى الرحمة التي عليها جبلَّته ، سأل الله تعالى بقوله : “  وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً من أَهْلِي . هارُونَ أَخِي . اشْدُدْ به أَزْرِي . وَأَشْرِكْه ُ في أَمْرِي “  [ طه / 31 - 29 ] ،
ليعتدل مزاج صورته النبويّة ، ويناسب به لأمزجة العامّة ، تيسيرا بما هو بصدده من البلاغة والرسالة .

وإنما قال : “  اشْدُدْ به أَزْرِي . وَأَشْرِكْه ُ في أَمْرِي “ [طه : 31-32] ، ( فإنّه أكبر من موسى سنّا ، وكان موسى أكبر منه نبوّة ) .

ظهور آثار الرحمة من هارون
(ولما كانت نبوّة هارون من حضرة الرحموت لذلك قال لأخيه موسى :“  ابْنَ أُمَّ “ فناداه بامّه ) عندما يريد الإبانة عن مجمع تفرقتهما ، ( لا بأبيه ) على أنّ أمر الجمعيّة بينهما في الأب أحكم امتزاجا واقترانا ، ( إذ كانت الرحمة للامّ - لا للأب - أوفر في الحكم ) وظهور الأثر المترتّب عليها من الرقّة والعطوفة ،
قال رضي الله عنه  : ( ولولا تلك الرحمة ) الوافرة الحكم ، الظاهرة الأثر منها ( ما صبرت على مباشرة التربية ) والتزام مقاساتها ، مع قصور القوّة فيها وضعف مزاجها بالنسبة إلى الأب .

قال رضي الله عنه  : ( ثمّ قال ) عندما رأي موسى تفرقة امّته في أيّام خلافة هارون وغيبته  عنهم فتحرّك منه الغضب وغلب عليه : (" لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ")[ طه : 94 ]  .

فإنّهما منشأ التفرقة من الشخص وبيّن أنّ ترشيح أمر التفرقة وتنفيذ أحكامها من مقتضى الرحمة ، والمؤاخذة على ما هو مقتضى أصل الطبيعة مما يشمت به أعداءه من المخالفين له في تلك الاقتضاء ، فلذلك قال : (و" فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْداءَ " ) [ الأعراف : 150] .

غضب موسى وما كتب في الألواح
قال رضي الله عنه  : ( فهذا كلَّه نفس من أنفاس الرحمة ، وسبب ذلك ) الغضب وظهوره عليه ( عدم التثبّت في النظر فيما كان في يديه ) من مبدأي قوّته وفعله ( من الألواح ) التفصيلية الثابتة فيها كل شيء ، ( التي ألقاها من يديه ) عند ثوران الغضب وشدّة حدّته ( فلو نظر فيها نظر تثبّت لوجد فيها الهدى والرحمة. )
قال رضي الله عنه  :  مما عليه موسى وأخوه فلذلك لما سكت عنه الغضب أخذ الألواح فما وقعت عينه مما كتب فيها إلا على الهدى والرحمة ، فقال : " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنا في رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ."
قال رضي الله عنه  : ( فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه ، مما هو هارون بريء منه والرحمة بأخيه ، وكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره ) وشيخوخته ( وأنّه أسنّ منه وكان ذلك ) القول ، أو ظهور ما ظهر في بني إسرائيل ( من هارون شفقة على موسى ) حيث ما ظهر من ذلك القول منه مع إهانته إيّاه ما يدلّ على تغيّره وتأثّره منها ، استنكافا وغيرة نفسانيّة ،

قال رضي الله عنه  : ( لأنّ نبوّة هارون من رحمة الله ، فلا يصدر منه إلا مثل هذا ) فإنّ التفرقة الظاهرة في امّته عند خلافة هارون من أثر تلك الرحمة والرقّة .

عذر هارون
قال رضي الله عنه  : ( ثمّ قال هارون لموسى " إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ "  فتجعلني سببا في تفريقهم ، فإنّ عبادة العجل فرّقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتّباعا للسامري وتقليدا له ، ومنهم من توقّف عن عبادته حتّى يرجع موسى إليهم ، فيسألونه في ذلك ) .
تفريق أمم كلّ زمان عند تصوير سامر الخيال لهم عجل العاجل من التجوّهات والتموّلات ، فإنّه قد استحصل من حليّ القوم ، ( فخشي هارون ) الذي هويّته النور ، الذي هو ظاهر الوجود والرحمة ( أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ) نفسه ، لا إلى الرحمة التي هي أصل جبلَّته .

"" أضاف المحقق :
قال القيصري: « واعلم أن هذا الكلام وإن كان حقا من حيث الولاية والباطن ، لكن لا يصح من حيث النبوة والظاهر ؛ فإن النبي يجب عليه إنكار العبادة للأرباب الجزئية ، كما يجب عليه إرشاد الأمة إلى الحق المطلق ، لذلك أنكر جميع الأنبياء عبادة الأصنام وإن كانت مظاهر للهوية الإلهية ، فإنكار هارون عبادة العجل من حيث كونه نبيا حق ، إلا أن تكون محمولا على أن موسي عليه السلام علم بالكشف أنه ذهل عن شهوده الحق الظاهر في صورة العجل ، فأراد أن ينبهه على ذلك وهو عين التربية والإرشاد منه ". أهـ ""

قال رضي الله عنه  : ( وكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل ) وأنّ التفرقة التي نشأت من عبادته لا يقدح في الجمعيّة الإلهيّة ( لعلمه بأنّ الله قد قضى أن لا يعبد إلا إيّاه ، وما حكم الله بشيء إلَّا وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه ) ، لضيق مشربه عن أن يقبل تلك التفرقة الكونيّة عين الجمعيّة الوجوديّة الإلهيّة وعدم ظرافته لها .

العارف يرى الحقّ في كلّ شيء
وهذا مما لا بدّ للعارف منه ( فإنّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شيء ) وذلك لمن لا يتميّز في ذوقه ظاهر الوجود عن مظهره ، تميّز الظل عن النور ، قائلا بالمتقابلين وإذ كان موسى قد خلع نعلي المتقابلين عند طيّه طوى التوحيد ، لا تميّز عنده أصلا ، كما قال صاحب هذا المقام فيه :
لا ترم في شمسها ظلّ السوي  ....   فهي شمس وهي ظل وهي فيء
وإليه أشار بقوله : ( بل يراه عين كل شيء ) .

موسى وهارون
قال رضي الله عنه  : ( وكان موسى ) عند إهانته وتشدّده مما يوهم غلبة الغضب النفساني ( يربّي هارون تربية علم ) لا مرتبة ومنصب ، فإنّ موسى لغلبة أحكام الباطن على كلمته أعلم من هارون لغلبة حكم الظاهر عليه .
أمّا الأول فيعلم من التلويح العقدي .
وأما الثاني فلما عرفت ما في اسم هارون من الدلالة على الظاهر فلموسى أن يربّي هارون تربية علم ( وإن كان أصغر منه سنّا ، ولذلك لما قال له هارون ما قال ) من خشيته أن ينسب التفرقة إليه معتذرا به - قبل منه .

موسى والسامري
و ( رجع إلى السامري فقال له : " فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ " )  والخطب لغة هو الأمر العظيم ، الذي يكثر فيه التخاطب وفيه لطيفة منبّهة على ما يستتبع فعله من الخبط - ( يعني فيما صنعت من عدو لك ) عن معنى أحديّة الجمع بعمومه ( إلى صورة العجل على الاختصاص وصنعك هذا الشبح ) المبهج للناظر في صورة عجل العاجل من الأحوال ( من حليّ القوم ) ومزيّنات ظواهرهم وحاليّاتهم المتحوّلة السريعة الزوال ، ( حتى أخذت بقلوبهم ) .

عبادة المال
فإنّ البواطن لها ارتباط وثيق واتّصال قريب بالظاهر ولذلك ترى قلوب بني إسرائيل قد انجذبت إلى هذا العجل ، ( من أجل أموالهم ) التي يميل إليها قلوبهم بقوّة ذلك الارتباط ( فإن عيسى يقول لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل قلب كل انسان حيث ماله ) - مما يميل إليه بحسب نسبته ، سواء كان من ظاهر الأمور ، كالمال العرفي وما يستحصل به ، أو باطنه كالعلوم والأحوال القلبيّة ومقاماتها - ( فاجعلوا أموالكم في السماء ) وطرف العلو ، كالعلوم الحقيقيّة والأحوال القلبيّة ، ( تكن قلوبكم في السماء ) .

قال رضي الله عنه  : ( وما سمّي المال ) العرفي ( مالا إلَّا لكونه تميل القلوب إليه بالعبادة ،
فهو المقصود الأعظم ) ، حيث جعل صاحبه نفسه التي هي أعظم شيء عنده عبده ، وهو أعظم من نفسه النفيسة بجعله معبودها ومقصودها وهو ( المعظَّم في ) سائر ( القلوب ، لما فيها من الافتقار إليها ) في نيل المستلذّات واستحصال الأقوات .

 تلويحات في حرف اللام
ثمّ إن هاهنا تلويحا يكشف عن جملة من الحقائق ، وهو أنّ "ألم " الذي هو المعرب عن الكتاب - كما عرفت وجه جمعيّته وبيانه - له صورة واحدة بالشخص بين الحروف ، وهو اللام الذي إذا ظهر به كاف كنه الكل يصير "كلاما " يعرب عن كافّة الأشياء - صوريّة كانت أو معنويّة - ويظهر الجميع بما لا مزيد عليه فيه ، فهو مالك أزمّة الإظهار هذا إذا ظهر شخص اللام ببيّناته مختفيا فيها ، فإذا ظهر شخصه بها يصير « مالا » يستحصل به الأشياء أنفسها ، فإذا ظهر به الكاف يصير « كمالا » به يزيد الأمر ظهورا وإظهارا .

وإذا ظهر بالكاف يصير « مالكا » يغلب على الكلّ ، غلبة تصرّف يظهر له سلطانه ومنه يعرف وجه انجذاب القلوب بالمال ، كما يعرف وجه أنّ الكمال عزيز محبوب لذاته ، وأن المالك كذلك له العزّة والمحبّة ولكن قهرا وبالواسطة .
فتأمّل فيه يظهر لك غير ذلك من الوجوه الحقيقيّة .

حرق العجل ونسفه
قال رضي الله عنه  : ( وليس للصور بقاء ) كما تقرّر سابقا ، وقد ظهر ذلك حتى عثر عليه بعض أهل النظر من المتكلمين ، كما أشار إليه ، ( و ) حينئذ ( لا بدّ من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه فغلبت عليه الغيرة ) حيث أنّ تلك الصورة بالنسبة إلى جمعيّته الكماليّة جزء محاط تحت حيطة كماله الإنساني ، ( فحرّقه ثمّ نسف رماد تلك الصورة في اليمّ ) - يعني محيط الإطلاقي الجمعي - ( نسفا ) اقتلع به أثره يقال : نسف الريح الشيء : اقتلعته وأزالته .

وفي الآية : " ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّه ُ في الْيَمِّ نَسْفاً " [طه : 97]، أي نطرحه فيه طرح النسافة ، وهي ما يثور من غبار الأرض .
( و ) لذلك لما غرق في محيط الجمع الإطلاقي ( قال له : "انْظُرْ إِلى إِلهِكَ "  [ طه / 97 ] فسماه « إلها » بطريق التنبيه للتعليم ) ، لا التهكَّم للتعيير ، كما هو مبلغ أفهام العامة .

وفيه تلويح : حيث أنّ العجل من الحلي الذي هو المال ، وهو اللام الظاهر ببيّناته ، فطرح ذلك في اليمّ بعد حرقه وتفتّت أجزائه ، وهو باطن ميم الجمع الإطلاقي وبيّناته .
ثمّ إنّ ذلك لأنّه ( لما علم أنّه ) يعني العجل الذي جعلوه معبودا ، من ( بعض المجالي الإلهيّة ) وأجزاء المجلى الكليّ الإنسانيّ .

فلذلك قال الشيخ رضي الله عنه : ( لأحرقنّه فإنّ حيوانيّة الإنسان ) بقوّة قهرمان الجمعيّة وسلطانها ( لها التصرّف في حيوانيّة الحيوان ) فمن حيث الجمعيّة الإلهيّة ينقاد الكل لتصرّفه ، وإليه أشار بقوله : ( لكون الله سخّرها للإنسان ) .

التسخير والمسخّر
هذا على تقدير دخوله في الجمعيّة الحيوانيّة ( لا سيّما و ) العجل المجعول ( أصله ليس من حيوان ، فكان أعظم في التسخير ) لكونه أنزل وأقلّ جمعية منه ( لأنّ غير الحيوان ما له إرادة ) تكون مبدأ لأفعاله الخاصّة الاختياريّة ، ( بل هو بحكم من يتصرّف فيه من غير إباء ) لأنّ قابليّته غير مشوبة بغرض خاصّ واختيار يتوجّه إليه ، ( وأما الحيوان فهو ذو إرادة وغرض ) تحرّكه تلك الإرادة نحو ذلك الغرض ،
قال رضي الله عنه  : ( فقد يقع منه الإباء ) إذا لم يوافق جهة غرضه جهة يوجّه المتصرّف فيه نحوها ( في بعض ) أنحاء ( التصريف ، فإنّ كان فيه قوّة إظهار ذلك ) في مقابلته ( ظهر منه الجموح لما يريده منه ) ذلك ( الإنسان ) المتصرّف ، ( وإن لم يكن له هذه القوّة ) التي بها يقدر على المقابلة ( أو يصادف ) غرض الإنسان المتصرّف ( غرض الحيوان ) في بعض أنحاء الطرق ( انقاد مذلَّلا لما يريده منه ) المتصرّف ، لأنّه واقع في طريق غرضه ( كما ينقاد ) الإنسان ( مثله لأمر ما رفعه الله به عليه ) ، فذلك الانقياد ليس طبيعيّا ، بل لما رفعه الله به ( من أجل المال الذي يرجوه منه ، المعبّر عنه في بعض الأحوال ) - عند استجماع ما اعتبر من الشروط الشرعي - ( بالأجرة ) .

وقد نصّ على ذلك ( في قوله : ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا ) ، والسخريّ هو الذي يقهر أن يتسخّر بإرادته .
" قوله تعالى : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) سورة الزخرف )"

وإذ قد ظهر أنّ المال الذي به التسخير إنما هو لنيل مقتضيات القوى الطبيعية واللذّات الجسمانيّة مما يختص به الحيوان - دون الإدراكات الكماليّة الإنسانيّة ، فإنّه هو العائق لتلك الإدراكات أن تبلغ كمالها ، فضلا عن أن تكون معدّا لنيلها - ( فما يسخّر له من هو مثله ) في الإنسانيّة ( إلا من حيوانيّته ، لا من إنسانيّته ، فإنّ المثلين ضدّان ) ، هذا في المسخّر المشترك الذي يتوجّه نحو اللذات الجسمانيّة السافلة .

وأما المسخّر المتعالي الذي يتوجّه نحو معالي الأمور ، فهو مقتضى الكمال الإنساني ، فإنّه يحب العلو ويقتضيه بحسب نشأته الذاتية ، ( فيسخّره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيّته ) المجبولة على أن يتسخّر له من في السماوات ومن في الأرض جميعا ،
ولذلك ذهب الشيخ إلى أنّ معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : "آخر ما يخرج من رؤوس الصدّيقين حبّ الجاه " يطلع منها ويبرز ، فإنّه مقتضى أصل جبلَّته .

ومن ثمة ترى الدهاة من أئمّة المسلمين في صدر الإسلام قد ارتكب في نيل الرفعة والعلوّ كل صعب وذلول ، واستوقف كل مقدام منهم نفسه في تلك المهالك قائلا : مكانك ، تحمدي، أو تستريحي فجعل القتل في مقابلة نيل ذلك المبتغى فوزا واستراحة .

 قال رضي الله عنه  : ( ويتسخّر له ذلك الآخر ، إمّا خوفا أو طمعا ) من مبدأ الغضب والشهوة الحيوانيّتين فهو أيضا : ( من حيوانيّته لا من إنسانيّته ، فما تسخّر له من هو مثله ) من حيث هو مثله .

قال رضي الله عنه  : ( ألا ترى ما بين البهائم من التحريش ) ، وهو العداوة التي بينها ، كما هو المشاهد من الكلاب والثيران ، وكل ذي قوّة منها مع بني نوعه ، دون غيره مما سواه ، ( لأنها أمثال فالمثلان ضدان ) لما تقرّر أنّ ما به الاشتراك هو محلّ التنازع ، فكلَّما كان أكثر ، كان التنازع أشدّ ، كما بين أهل ضيعة وصناعة وقرابة .

وفيه تلويح حكميّ جمعيّ ، حيث أنّ الجامع هو الفارق ، فلا تغفل عنه.
ولذلك ( قال : " وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ " ) فإنّ المسخّر

ليس مع المسخّر له في درجة ، وإن كان معه في الحدّ والزمان والمكان والفعل ( فما هو معه في درجته ) ، فتلك الأمور الجامعة مع أنّها أوصاف حقيقيّة ونسب ذاتيّة ما أثرت تأثير نسبة الدرجة التي هي اعتبارية محضة .
وفيه أيضا نكتة جمعيّة ، حيث أنّ الأثر إنما هو الأعدام وما يقربها .
( فوقع التسخير من أجل الدرجات ) .

التسخير على قسمين
قال رضي الله عنه  : (والتسخير على قسمين : تسخير مراد للمسخّر - اسم فاعل - قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخّر ) على سبيل القصد والاختيار فمبدأ ذلك التسخير منه إمّا أن يكون المال ، ( كتسخير السيّد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانيّة ، و ) ، إمّا أن يكون الجاه ( كتسخير السلطان لرعاياه ، وإن كانوا أمثالا له يسخّرهم بالدرجة ) نفسها .

قال رضي الله عنه  : ( والقسم الآخر ) أي الذي ليس مرادا للمسخّر - اسم الفاعل( تسخير بالحال ) ، من غير قصد منه واختيار ، ( كتسخير الرعايا للملك القائم بأمرهم في الذبّ عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظه أموالهم وأنفسهم عليهم وهذا كلَّه تسخير بالحال من الرعايا يسخّرون بذلك ملوكهم ).
ثمّ إن مبدأ هذا التسخير عند الفحص عنه إنما هو مرتبة السلطنة ، فإنّها هي التي تقهر السلطان على ارتكاب ما التزم من المشاقّ ، لا الرعايا ولذلك

قال رضي الله عنه  :  : ( ويسمّى على الحقيقة تسخير المرتبة ، فالمرتبة حكمت عليه بذلك ، فمن الملوك من سعى لنفسه ) ذاهلا عمّا حكم عليه المرتبة من تسخيره لرعاياه ( ومنهم من عرف الأمر فعلم أنّه في المرتبة ) مقهور تحت حكمها ( في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقّهم ، فآجره الله على ذلك ، أجر العلماء بالأمر ) أي الظاهر من الأمور كالأفعال وأحكامها ، على ما نبّهت عليه في صدر الكتاب ، عند تحقيق معنى الأمر ، فإنّهم إذا علموا الأمر ( على ما هو عليه ) لا بدّ وأن يحكم عليهم تلك المرتبة بإظهار تلك الأحكام وإثباتها وتفهيمها للعامّة ، حتى يتلقّوها بالقبول ( وأجر مثل هذا يكون على الله في كون الله في شؤون عباده ) كالسلطان في شؤون رعاياه .

قال رضي الله عنه  : ( فالعالم كلَّه يسخّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم إنّه مسخّر ) ، بناء على الأصل الممهّد من أنّ أسماء الحقّ ما يدلّ على التأثير مما يتبع أحكام الوجوب الذاتي ، إلا أنّه لما كان باعتبار هويّته الإطلاقيّة ربّا للعالمين كان


مسخّرا بالحال للعالم تعالى عن ذلك . ولذلك قال : ( قال تعالى : " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ "  ) [ 55 / 29 ] ، وما قال : « الله في شأن » ، ولا غيره من الأسماء المختصّة به .

حكمة عدم تنفيذ هارون ما أنفذه موسى في العجل
ثمّ إنّ موسى له تسخير سلطنة النبوّة على بني إسرائيل ، كما أنّه هو المسخّر بالحال تحت قيامه بأمرهم وحفظه صورة جمعيّتهم . ولذلك لما رجع وفرغ من إنفاذ حكم ذلك التسخير ، أخذ في إنفاذ حكم التسخّر بالتشدّد على خليفته هارون وحرق العجل ، وقلع آثاره في العين .
على ما وقع في خلافة هارون ما كان منكرا في نظر كمال موسى كلّ الإنكار ، بل كان معذورا فيه كما سبق .

قال رضي الله عنه  : ( فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفّذ ) ذلك الإرداع ( في أصحاب العجل بالتسليط على العجل ) وإفنائه ( كما سلَّط موسى عليه ، حكمة من الله ظاهرة في الوجود ) - وأنت عرفت ما لهارون من النسبة الارتباطيّة والرقيقة الاتحاديّة إلى ظاهر الوجود حتى تصوّر في أيام خلافته صورة المعبود في العجل العاجل

قال رضي الله عنه  : ( ليعبد في كلّ صورة ، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ) عند إنفاذ حكم موسى عليها ، ولكن بعد أن عبدوه ، ( فما ذهبت إلا بعد ما تلبّست عند عابدها بالالوهيّة )

هو المعبود في كلّ صورة
قال رضي الله عنه  : ( ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلَّا وعبد . إمّا عبادة تألَّه ، وإمّا عبادة تسخير ) وبيّن أن ظهور الأعيان بأنواعها إنما هو لإظهار أحكامها وإنفاذ قهرمانها ، وذلك بأن يكون معبودا لهذا النوع الكمالي ، مطاعا أحكامها بالنسبة إليه ، ولو في شخص واحد منهم ( فلا بد من ذلك لمن عقل ) أنّ الغاية من الحركة الوجوديّة لا بدّ وأن يترتب على أعيان الوجود ،

قال رضي الله عنه  : ( وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبّس بالرفعة عند العابد ) في الخارج ، ( والظهور بالدرجة ) الكماليّة العزيزة ( في قلبه ، ولذلك تسمّى الحقّ ) نفسه ( لنا بـ " رَفِيعُ الدَّرَجاتِ “  [ 40 / 15 ] ، ولم يقل : « رفيع الدرجة » فكثّر الدرجات في عين واحدة ) بالوحدة الحقيقيّة ، التي لا وجه للتكثّر فيها أصلا ، لما في المعبودين من التخالف في وجوه عبودتهم ، وذلك هو المستلزم لتباعد جهات العباد في قبلة عبادتهم ووجهة طاعتهم .

وكل ذلك حق " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها "  ( فإنّه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيّا عبد فيها ) وتلك المجالي متفاوتة بحسب العلوّ والإحاطة تسخيرا وتألَّها . "قال تعالى :وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[ الإسراء : 23 ]"

أعظم مجلى عبد الحقّ فيه الهوى
( وأعظم مجلى عبد فيه ) تسخيرا ( وأعلاه ) تألها ( الهوى ، كما قال :"أَفَرَأَيْتَ من اتَّخَذَ إِلهَه ُ هَواه ُ "  ) [ 45 / 23 ] ، حيث أطلق عليه اسم « الإله » ،
( فهو أعظم معبود ، فإنّه لا يعبد شيء إلَّا به ، ولا يعبد هو إلَّا بذاته ) ، وذلك لأنّ الهوى عبارة عن الميل الطبيعي نحو مستلذّات الطبيعة ،

من استيفاء حكم الشهوة والغضب وما يندرج فيهما ، مما يترتّب ذلك عليه ، كحبّ المال والجاه وغيرهما وبيّن أنّ كل من يعبد شيئا ويخضعه ويطيعه إنما يعمل ذلك لتصوّر توقّف شيء من ذلك عليه وطمعه منه فذلك الميل هو الباعث على تلك العبادات في صورها المتخالفة ، بحسب تخالف المعبودين ،

فالمعبود لا يعبد إلَّا به ، وهو المعبود لذاته في صور عبادات العابدين ، طمعا في الجنّة ، أو خوفا من النار آجلا وعاجلا ، في استحصال الجاه والمال ، وارتكاب ما به يوجدان من الأعمال الشاقّة والأفعال المزعجة مدى الأعوام والدهور بدون تعب ولا نصب .

وهاهنا تلويح : وهو أنّ « هو » الذي هو موطن الإطلاق ومعدن القابليّات التي تنجذب نحو مقتضياتها القلوب بقوالبها ، إذا فتح هاء هويّته المضمومة بإشباع واو البطون ، ظاهرا بألف الإلف والمحبّة ، غالبا عليه بفتحة فتح أبواب الظهور هو « هوا » ومن ثمة تراه في أحد أوضاعه دالَّا على مبدأ تمام الجمعيّة الإحاطيّة ظهورا وإظهارا .

أمّا الأوّل : فلأنّ الهواء - الممدود - هو مادة الروح الحيواني ، الذي به تتقوّم اللطيفة الإنسانيّة الكماليّة .
وأما الثاني : فلأنّه هو المطيّة لفرسان ميدان البيان ، والمجلى لعرائس مخدّرات البنان ، وهما صورتا الكلام الكلامي ، والكتاب الإنزاليّ ، كما نبّهت عليه غير مرّة .
هذا على وضع آخر غير ما نحن فيه ، وعلى هذا الوضع أيضا له الإحاطة باعتبار أنّه الحركة والميل الإرادي الحبّي الذي هو أصل سائر الحركات والسبب للكل عينا وعقلا ،

ولذلك قال : ( وفيه أقول ) نظما محلَّفا به باعتبار أنّه هو اسم « هو » الظاهر بفتح هويّات أعيانه بقوله :( وحقّ الهوى أنّ الهوى سبب الهوى ) يعني بحقّ الاقتضاء الذاتي ، المعبّر عنه في بعض العبارات بالعشق ، وهو الذي عبّر عنه بالهوى ، إنّ الهوى الذي هو الميل الطبيعي المعبّر عنه بالحركة الحبّية السارية في سائر الموجودات هو سبب هذا الميل الجزئي الإرادي ، الذي للناس ، به يتوجهون نحو معبودهم ، ويولَّون قبلة مقصودهم ، فهو أصل سائر الميول والحركات ظاهرا وباطنا . بل أصل الكلّ ميلا كان أو صاحبه ،

ولذلك قال :( ولولا الهوى في القلب ) أي الميل الكلَّي والحركة الوجوديّة الأصلية ( ما عبد الهوى ) بالحركات الجزئيّة الكونيّة فالمعبود في الكلّ إنما هو الحق ، وكذلك العابد على ما هو المعلوم من الآية الكريمة القائلة : " وَأَضَلَّه ُ الله عَلى عِلْمٍ "  [ 45 / 23 ] .
وإليه أشار بقوله : ( ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ، كيف تمم في حقّ من عبد هواه واتخذه إلها ) حيث ما أخرجه في تلك الضلالة عن أن يكون عن علم

( فقال :" وَأَضَلَّه ُ الله عَلى عِلْمٍ "  [ 45 / 23 ] والضلالة : الحيرة ) على ما هو مقتضى تعدّد وجهة المتّخذين هواهم إلها ، لتكثّر صور هويّات متعلَّقات أهويتهم ، فإنّ تعدّد جهات المقصد وتخالفها مما يوجب التحيّر ضرورة ، ولكن لما عرف إيصال الكلّ إجمالا ، يكون ذلك على علم .
لا يعبد معبود إلا بالهوى
( و ) وجه تفصيل ( ذلك ) التتميم ( أنّه لما رأى هذا العابد ما عبد إلَّا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره به في عبادة من عبده من الأشخاص ) - التي هي متعلَّقات أهوية العباد ، عينيّة ذلك ، أو عقليّة ، وهميّة أو خياليّة فإنّه يشمل سائر العبادات من العبد - ( حتّى أنّ عبادته لله كانت عن هوى أيضا ، لأنّه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدّس ) من حيث هو عن تطرّق الأهوية

قال رضي الله عنه  : ( هوى ) من عند نفسه - ( وهو الإرادة ) المنبعثة عمّا يسوق همّته إليه ، من الملاذّ الجسمانيّة ، أو الأحوال الوجدانيّة ، أو المدارك الروحانيّة( لما اختار ما عند الله ) من تلك المقاصد المتعالية بحسب علوّ الهمم ( ولا آثره على غيره ) .

معنى : أضله الله على علم
هذا إذا كان المعبود له صورة اعتقاديّة ذهنيّة ( وكذلك كلّ من عبد صورة ما من صور العالم ) وأصنامه - ماليّة كانت أو جاهيّة - ( واتّخذها إلها ، ما اتّخذها إلَّا بالهوى فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ثم رأى المعبودات ) التي هي متعلَّقات الهوى ( تتنوّع في العابدين ) بحسب تخالف حقائقها وتدافع بعضها البعض ،

قال رضي الله عنه  : ( فكلّ عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ، والذي عنده أدنى تنبّه ) - وهو الذي ينخرط في جملة من يدخل في التخاطب بالكلام المنزل السماوي ، فإنّ من دونه ليس بداخل في ذلك التخاطب أصلا ، فهو الذي يقصد بقوله تعالى : " وَأَضَلَّه ُ الله "    ولذلك ( يحار لاتّحاد الهوى ) عند اعتبار نسبة الهوى إلى متعلَّقاتها ، فإنّ الكلّ فيه متّحد ، فأمّا عند قطع النظر من تلك المتعلَّقات فله الأحديّة الذاتيّة ،

ولذلك قال مضربا عنه بقوله : ( بل لأحديّة الهوى ، فإنّه عين واحدة في كل عابد ، فأضلَّه الله ) من حيث تلك المتعلَّقات عند تخالف جهات التوجّه مما يوجب تحيّر المتوجّهين ، ولذلك قال : ( أيّ حيرة ) .

ثم إنّ هذا إذا اعتبر الهوى من حيث المتعلَّقات التي هي مبدأ الاتّحاد وهو الموجب للضلال والحيرة . فأمّا عند قطع النظر عنها وظهور الهوى بأحديّة عينه لديه فهو ( على علم ) فلكلّ عابد باعتبار هذين الوجهين من معبوده علم في حيرة وحيرة على علم ، فهذا وجه تتميم العلم وتعميمه - فلا تغفل .

قال رضي الله عنه  : (فإنّ كلّ عابد ما عبد إلَّا هواه ، ولا استعبده إلا هواه ، سواء صادف الأمر المشروع ) من الصور الاعتقاديّة والشعائر الشرعيّة ، ( أو لم يصادف ) ذلك ، كالمقتضيات الطبيعيّة والرسوم العاديّة ( والعارف المكمّل من رأى كلّ معبود ) - مشروعا كان أو غير مشروع - ( مجلى للحقّ يعبد فيه ، ولذلك سموه كلَّهم إلها مع اسمه الخاصّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك هذا اسم الشخصيّة فيه ) ، فإنّ كل ذي مرتبة من الأشخاص كما أنّ له أسماء بحسب شخصيّته ، لا بدّ وأن يكون له آخر بحسب مرتبته ، كالقاضي والسلطان والحاكم .

قال رضي الله عنه  : ( والالوهة ) أيضا ( مرتبة ) لذلك الشخص من الشجر والحجر والإنسان ( يتخيّل العابد له أنّها مرتبة معبوده ) على الإطلاق ، ( وهي على الحقيقة ) غير ذلك ، فإنّه ( مجلى للحقّ لبصر هذا العابد ) الخاصّ ، ( المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختصّ ) من بين المجالي الغير المحدودة التي للمعبود الواحد الحقيقي ، فإنّه من حيث تلك المجالي المتكثّرة الكونيّة لا يصلح لأن يعبد .

قول الجاهل والعارف في المعبود
( ولهذا قال بعض من عرف ) الأمر من حيث حقيقته العالمة بالذات من غير ظهور ذلك العرفان منه - ولذلك قال : - ( مقالة جهالة ) حيث ما عرف مؤدّى قوله : ( " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى ") [ 39 / 3 ] ، فإنّ له دلالة بيّنة على أنّ هذه المجالي الكثيرة المعبودة لهم غير معبودة لذاتها ، بل إنما يعبدونها تقرّبا إلى المعبود بالذات ، وهو الله الواحد الحقّ إلا أنّهم جهلوا مقالتهم ، فإنّهم في مقالتهم ذلك ما اعتبروا التعيّنات الكونيّة معبودات ، كما ظهر من أحكامهم العينيّة ( مع تسميتهم إيّاهم آلهة ، حتّى قالوا ) عندما ظهر عليهم سلطان الإطلاق الجمعيّ الختميّ ، وأثبت الواحد الحق في عين تلك التعيّنات المتكثّرة : ( " أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ " ) .

قال رضي الله عنه  : ( فما أنكروه ) لعلمهم في حقيقتهم الأصليّة به ، ( بل تعجّبوا من ذلك ) لغرابته بالنسبة إلى مأنوسات عقائدهم ومألوفات تقليداتهم بآبائهم ، ( فإنّهم وقفوا مع كثرة الصور ) التعيّنية ( ونسبة الالوهة لها ، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد ، يعرف ولا يشهد ) - على صيغة المبنيّ للمفعولفإنّ الإله من حيث الوحدة الحقيقيّة معلومة غير مشهودة بالبصر ،
فحينئذ قوله : ( بشهادتهم ) متعلق بالواحد ، أي دعاهم الرسول إلى الإله الواحد الحقّ بشهادتهم ( أنّهم أثبتوه عندهم واعتقدوه ) ، أي أثبتوا ذلك الواحد واعتقدوه ( في قولهم : " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى ").
ويمكن أن يقرء « يشهد » على المبنيّ لفاعله ، وهو ضمير الرسول ،
وقوله :"بشهادتهم " أي لا يشهدوا الرسول بشهادتهم ذلك لعدم مطابقة علمهم فقوله : ( لعلمهم ) متعلَّق بـ « لا يشهد » حينئذ وعلى التقدير الأوّل متعلَّق بـ "اعتقدوه " أي اعتقدوا ذلك الواحد لعلمهم ( بأنّ تلك الصورة حجارة ولذلك قامت الحجّة عليهم ) عند الامتحان والاختبار عن مبلغ علمهم ( بقوله : "قُلْ سَمُّوهُمْ “  [ 13 / 33 ] ، فما يسمّونهم إلَّا بما يعلمون ) لأنّ الكلام صورة العلم ، وذلك ( أنّ تلك الأسماء لهم حقيقة ) عندهم ، وليس لهم غير تلك الحقيقة .

قال رضي الله عنه  : ( وأما العارفون بالأمر ) وهم المكمّلون ، الذين يرون الكلّ مجالي الواحد الحقّ ولكن لا يظهرون إلا ما يقتضي الوقت الظاهر بصور الأنبياء والرسل إظهاره ، لأنّهم عرفوا الأمر ( على ما هو عليه ، فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور ) ، مع رؤيتهم أنّها من مجالي الحقّ ( لأنّ مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت ) فيما يظهرون به من الصورة الكلاميّة ( بحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم ) وهم مغلوبون تحت ذلك الحكم ، محاطون به ، وذلك الحكم هو ( الذي به سمّوا مؤمنين ، فهم عبّاد الوقت ) وذلك هو المجلى الجمعيّ الذي له الإحاطة بالكلّ .
والمتّصف بتلك العبادة هو المتّقي ، كما يدلّ عليه تلويحه ، فإن التقوى هو الظهور بحكم الوقت ، والحاكم من الشيء هو باطنه - كما عرفت مرارا - فلذلك ترى باطن الوقت ظاهر التقوى .
ولذلك ينكرون غيرهم من العابدين ،

قال رضي الله عنه  :  ( مع علمهم بأنّهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها ، وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلَّي ) الظاهر حكمه عليهم ،
وهو ( الذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الذي لا علم له بما تجلَّى ) ، أو له علم ( و ) لكن ( يستره ) ، وهو ( العارف المكمّل ) الظاهر بحكم الوقت (من نبيّ ورسول ووارث عنهم ).

قال رضي الله عنه  :  (فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصورة ، كما انتزح عنها رسول الوقت ) الحاكم بمقتضاه ، العارف به ، ( اتّباعا للرسول ، طمعا في محبّة الله إيّاهم ) ،
فإنّ المحبّة التي هي أصل الحركة الوجوديّة التي منها تحصّلت الأنواع وتكوّنت الأشخاص ، متعلَّقها هو الكمّل من الرسل ،
فمن تبعهم من تلك الأشخاص واندرج تحت كليّة أمرهم وإحاطتهم ، نال تلك المرتبة وفاز بمحبّة الله إيّاه ، ومن استقلّ بحكم شخصيّة الجزئيّة بعد عنها ضرورة فمن اعتكف سدّة المحبّة وقرع بابها لا بدّ له من المتابعة حتى يفتح عليه ذلك الباب .

ولذلك ترى المتابعة واقعة بين المحبّتين ، كما أشار إليه ( بقوله : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ".)

والمتابعة هاهنا هو الانتزاح والبعد عن تلك المجالي المشهودة الظاهرة ، حفظا لعزّة المعبود وجلاله ، ووفاء بخلوص العبوديّة وانكساره ( فدعا إلى إله يصمد إليه ) ويقصد عند الافتقار والاحتياج ، ( ويعلم ) بمثل هذه الصفات بوجه ( من حيث الجملة ، ولا يشهد ) لأنّ المشهود - كان من كان - ليس له ابّهة الغالب في عزه وعظمته .

وإنّك قد عرفت أنّ الكيفيّات والانفعالات وما يجري مجراها - مما يختصّ به الكثائف - لا يناسب المعبود الإله ، وهو لا يتّصف به في لسان الظاهر ،
ولذلك قال : ( " لا تُدْرِكُه ُ الأَبْصارُ “  [ 6 / 103 ] ، بل "هُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ "  للطفه وسريانه في أعيان الأشياء ) وبيّن أن الساري في الشيء لا يقبل قوّة الإبصار ، فإنّها إنما يتعاكس أشعّتها أو يتمثّل انطباعها في كثيف غير نافذ ولا سار في بطون آخر - كما عرفت أمره في المقدمة.

قال رضي الله عنه  : (فـ " لا تُدْرِكُه ُ الأَبْصارُ "  [ 6 / 103 ] كما أنّها لا تدرك أرواحها المدبّرة أشباحها وصورها الظاهرة ) يعني الحيوانيّ والنفسانيّ والطبيعيّ فإنّ قوّة البصر لا يدرك شيئا منها مع ظهور آثارها وأفعالها ( فهو " اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ") ، فاللطف إشارة إلى كماله في الظهور ، والخبرة إلى كماله في الإظهار ( و ) ذلك لأنّ ( الخبرة ذوق ، والذوق تجلّ ، والتجلَّي في الصور ) ، فإنّ التجلي إنما هو الظهور فلا بدّ له من المظهر ،

قال رضي الله عنه  : ( فلا بدّ منها ) - يعني الصور ، فإنّها مظاهر التجلَّي - ( ولا بدّ منه ، فلا بد أن يعبد من رآه ) في تلك الصور والمظاهر ( بهواه ) أي بحكمه وقهرمانه ، فإنّ الهواء هو الرقيقة بين تلك الصور والمجالي ، وبين من يهيم بها ممن رآه فيها .

ولكن لما كان إظهار هذا لا يوافق كمال العبوديّة وجلال عزّة المعبود - كما عرفت آنفا - طوى عن الإفصاح به ، فالأمر فيه موكول إلى الفهم والفطانة ،

وأشار إليه بقوله : ( إن فهمت ) .
( وَعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ ) مطلقا ، سواء ساق إليه الشرع ، أو قاد إليه الهوى .
  تم الفص الهاروني
 .
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment