Sunday, April 19, 2020

27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
 تسمية الفصّ وبيان خصوصيّات الفرد
اعلم إنّ الفرد هو العدد الجامع بين الواحد والكثير ، فأحديّته أحديّة جمع من تلك الكثرة المنطوي عليها ذلك العدد ، انطواء منبئا عن التفصيل والتمييز ، فإنّ الزوج منه وإن كان له الجمعيّة المذكورة ، ولكن الغالب فيه حكم الوحدة الوجوديّة والإجمال ، والفرد منه هو الغالب فيه ، الظاهر عليه حكم الكثرة العلمية والتفصيل العددي .
فإنّك قد عرفت في المقدّمة أنّ العدد هو الكاشف عن الحقائق بصورها الظاهرة سمعا وبصرا ، كشفا ختميّا منبئا عن التفصيل كنهه وهو المعبّر عنه بإراءة الأشياء كما هي - على ما هو مؤدّى دعائه في قوله : « أرنا الأشياء كما
هي » - فالفرد الذي له الوحدة الحقيقيّة الجامعة والأحديّة الذاتيّة الكاشفة هو الصالح لأن يوصف ويتبيّن به الحكمة التي في الكلمة الختميّة المحمديّة ، على ما يلوّحك على ذلك ما نبّهت عليه عند الكلام على فهرست الكتاب ونضد فصوصه .

وجه اختصاص الحكمة الفردية بالخاتم صلَّى الله عليه وآله
وأيضا الفرد في أصل اللغة هو الذي لا يختلط به غيره ، فهو أخصّ من الواحد ، فإنّه الواحد الخاصّ الذي له الإحاطة الكلَّية ، بحيث لا يمكن أن يختلط به ما هو غيره من أحديّة جمعيّته الذاتيّة ، فالحكمة التي تتّصف بالفرديّة هو الذي لأكمل الموجودات ،
وإليه أشار بقوله : ( إنما كانت حكمته فرديّة لأنّه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ) الذي هو أكمل الأنواع ، فإنّ الكمال بحسب الجمعيّة الأسمائيّة ، فكلّ ما هو أجمع آثارا وأحكاما للأسماء فهو أقرب إلى الذات وأكمل وبيّن أنّ الجمعيّة التي في الإنسان ليست لغيره من الأنواع وكذلك شخص الخاتم منه ، فإنّ نسبته إلى غيره من الأشخاص كنسبة نوعه إلى الأنواع ، كما عرفت تحقيقه في المقدّمة ، فهو لجمعيّته الكماليّة أكمل الموجودات وأقربها نسبة إلى الذات .

( ولهذا بدء به الأمر وختم ) فإنّك قد عرفت في غير موضع من هذا الكتاب أنّ الآخر لا بدّ وأن يكون عين الأول بالذات ووجه تحقيقه هاهنا وتطبيقه على ما نحن فيه ، أنّ الخاتم بحقيقته التي هي البرزخ الجامع بين الواحد والأحد ، يظهر به سائر الموجودات بخصائصها وتعيّناتها ، وكأنّك قد اطَّلعت على ذلك مرارا وبيّن أنّ النبيّ إنّما هو مظهر للأشياء بخصوصيّاتها وأحكامها.

خاتم وآدم
( فكان ) الخاتم ( نبيّا ) مظهرا للأشياء على ما هي عليه ، آتيا بجوامع مسمّياتها ، ( وآدم ) حينئذ في تفرقة الأسماء ، ما تمّ مزاجه الجمعيّ بعد ، بل إنّما ظهرت منه نسبة ( بين الماء ) الذي هو صورة معلوميّته في حضرة العلم ، الذي عبّر عن ظاهره بالإمكان ، ( والطين ) الذي هو صورة عنصريّته الأصليّة ، وقابليّته الذاتيّة ، التي صورتها الوجود المعبّر عن ظاهره بالوجوب .
فآدم بين قاب قوسي الوجوب والإمكان ، وخاتم بنقطة النطق الإنبائي أقرب وأدنى من أن يسع فيه التمايز والتقابل ، وبذلك القرب تمكَّن أن يكون في كنه البطون منبئا عن غاية الظهور والإظهار .
هذا بأحد الاعتبارين منه . فأما بالآخر منها فيكون فيه كاشفا عن تمام الشعور والإشعار .
والأول مقتضى خصوص النبوّة والثاني خصوص الولاية ومن ثمّة قيل :
إنّ خاتم الولاية يقول : "كنت وليّا وآدم بين الماء والطين " - كما صرّح به صاحب المحبوب - وفي لفظ المصنف إشعار بهذا التفصيل ، حيث أورد الخاتم بإطلاقه .
( ثمّ ) إذا استعدّت الطينة العنصريّة الآدميّة بكمال الامتزاج الوحداني الاعتدالي لأن يظهر فيها تلك الحقيقة ، ظهرت بها ، و ( كان بنشأته العنصريّة خاتم النبيّين ) فالنبوّة له في الطرفين ، أولا وآخرا ، وما بينهما مما ينطوي تحت برزخيّة الجامعة من الحقائق الأسمائيّة الدالة هو آدم ، الذي هو مصدر صارت تسعة ، وهي منتهى الأفراد ،

وحصولها إنّما هي عنها عند دورانها بنفسها على نفسها ، وهي منطوية على ما دونه من الأفراد ( فظهر أنّ ) الثلاثة بين الأفراد والأعداد لها الأكمليّة الختميّة باستجماعها صورتي بدء الكثرة التفصيليّة وختمها وبيّن أنّ هذه الأكمليّة للثلاثة إنّما هي من وصف أوليتها المستتبعة للآخريّة ، ولذلك أشار إليه في عبارته حيث قال : « وما زاد على هذه الأوليّة » علم أنّ الثلاثة - من الأفراد والأعداد الدالَّة على الحقائق بخصائصها - هو أوضح دليل على الواحد الحقيقي ، الذي هو الأول والآخر .

كان الخاتم صلَّى الله عليه وآله أول دليل على ربّه
( فكان - عليه الصلاة والسلام - أدلّ دليل على ربّه ) ، فتبيّن وجه اختصاص الكلمة بحكمتها .
وأمّا بيان أنّه صلَّى الله عليه وسلَّم أدل دليل على ربه : ( فإنّه أوتي ) جوامع الكلم ، المعربة عن الإجمال والتفصيل ، الكاشفة عن التنزيه في عين التشبيه ولذلك تراه قد أعرب عن أحديّة الجمع في عين التفرقة التي من أفعاله وأقواله ، وأظهر كنه بواطن الكلّ في ظواهر الكلم ،

وهو المشار إليه بقوله : ( جوامع الكلم التي هي مسمّيات أسماء آدم ) فإنّه إنّما ظهر بصور الكلم عند تعليم الأسماء التي لها ظاهرا ، وخاتم إنّما ظهر بحقائقها وخصوصيّاتها الكماليّة التي لسائر الأنواع والأشخاص ، ظهورا وإظهارا ، شعورا وإشعارا ، فهو الآتي بجوامع خصوصيّات الكلم بالإنباء عن خصوصيات مراتب الكمّل منها ، وذلك هو المشار إليه بمسمّيات أسماء آدم ، أي الأسماء الذي تفرّد آدم بتعليمها فالكلم هاهنا على عرفه المعروف من مطلع الكتاب .

ثمّ إنّ جامعيّة الكلم على ما ظهر إنّما يتمّ باحتياز الأسماء ومسمّياتها ، والجمعيّة التي هي عبارة عن خصوصيّة كلّ منها بمسمّاه ، ومن هاهنا قال : ( فأشبه الدليل ) أيضا ( في تثليثه ) الذي له في النشأة البدئيّة والختميّة والبرزخية الآدميّة ، كما وقفت عليه .

ثم يمكن أن يقال هاهنا : « إذا كان صلَّى الله عليه وسلَّم جامعا بين بدء الوجود وختم الإظهار وما بينهما من الجمعيّة الآدميّة ، فأين المدلول الذي هو دليل عليه » ؟
أشار إلى دفعه بلسان الإجمال قائلا: ( والدليل دليل لنفسه ) لا مجال للتفرقة والتفصيل ، النافيين للجمع والإجمال عند الفحص عما عليه الحقيقة الختميّة ، كما عرفت تحقيقه مرارا .

ثمّ هاهنا تلويحا حكميّا ، وهو أنّ أحديّة الجمع التي هي خصوصيّة الكمال الختميّ كما عرفت تقتضي التثليث لذاتها ، وذلك لأنّ الجمع إنّما يتحقّق بالاثنين ، وأحديّته هو الثالث الذي يثّلثه .
ومن هاهنا ترى « الختم » هو صورة « الجيم » بعينه ، غير أنّه ظهر فيه ما بطن في الجيم من النقط الثلاث التي هي صورة أحديّة الجمع - فلا تغفل .
 
ظهور التثليث في الكلام النبويّ
(ولما كانت حقيقته تعطي الفرديّة الأولى بما هو مثلَّث النشء ، لذلك قال : في المحبّة التي هي أصل الوجود : "حبّب إليّ من دنياكم ثلاث " ) فعبّر عن ذلك الأصل ( بما فيه التثليث ) الذي فيه كمال التفصيل وختمه ، وهو لفظ « حبّب » الملوح على الثلاثة عقدا .
وحيث أنّ أصل الوجود يقتضي الإجمال عبّر عنه بصيغة المبنيّ للمفعول الذي فيه ، ثم أوصلها بـ « إلى » و « من » ، الدالتين بحسب أصل الوضع على المبدء والغاية ، الذي عليهما مبنى أمر الوجود ، كما لوّح إليه بقوله : " أجد نفس الرحمن من جانب اليمن " . المعجم الكبير للطبراني
ثم أشار إلى النشأة الجامعة وما يترتّب عليها ويثمر شجرة جمعيّتها ممّا ينبئ عمّا عليه أمره - وهو صورة التفصيل العدديّ - بقوله : " دنياكم ثلاث " .

لميّة ذكر النساء والطيب والصلاة في الحديث
( ثم ) بيّن تلك الصورة بتفصيل الأفراد بأعدادها وأحكامها و ( ذكر النساء والطيب ) الذين بهما عبّر عن جملة ما يحتظى به ويستلذّ منه بحسب ظهوره لنفسه من الملاذّ الحسّية المحصورة في الصور الخمسة .
فإنّ النساء قد اشتملت على الثلاثة منها : على مدرك اللمس وما يجري مجراها وهو الذوق ، وعلى مدرك البصر والطيب يشمل على الاثنين منها ، يعني مدرك السمع والشم وذلك لأنّ الطيب في الحقيقة عبارة عن الهواء الحامل لما يستلذّه الحاسّة ، وهو شامل للمدركين .

ثمّ إنّ هذه المستلذات الدنياويّة التي بحسب ظهور الشخص لنفسه ممّا اشترك فيه سائر الناس ، بل الحيوانات أيضا ، وما تفرّد به الكمّل من أفراد الإنسان ، كالأنبياء ومن يحذو حذوهم - من مستلذّات الدنيا ، هي التي لهم بحسب الإظهار على الأمم والتابعين من أهل نسبتهم ، وبه قرّت أعينهم وانبسطت ذواتهم وشاعت خصوصيّاتهم ،
وذلك بوضعهم الصور والنواميس المختصّة بهم ومواطأتهم لها ليقتدي بهم الأمم عند التزامهم إيّاها ، ويستوثق بذلك رقيقة النسبة التي بها يتصرّف الكمّل في أصحابهم وأممهم ، حتّى يتمكَّنوا من هدايتهم وتسليكهم مسالك الرشد والتكميل ، كالصلاة مثلا للخاتم وبيّن أنّ هذا النوع من الملاذّ إنّما يتمّ بجعل من الله وإلقاء قبول منه في قلوب الأمم ،
وإليه أشار بقوله : ( وجعلت قرّة عينه في الصلاة ) - من قولهم : « قرّت عينه » : أي سرّ
وانبسط - فإنّه بالصلاة التي هي أتمّ الصور الموضوعة وأكمل النواميس المنزلة ، انبسطت خصوصيّة عينه وذاته ، وذلك الانبساط غاية ما يستلذّ به الإنسان في الدنيا ، سيّما المبعوثين للدعوة والإظهار والخاتم لهم .

وقد رأيت في كلام الشيخ المؤلف عند تحقيق معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « آخر ما يخرج من رؤس الصديقين حبّ الجاه » أنّ « يخرج » هاهنا بمعنى يطلع ويبرز ، وهذا مما يؤيّد ما نحن فيه .

( فابتدأ بذكر النساء ) التي هي مولد كمال الظهور ( وأخّر الصلاة ) التي هي منتهى أمر الإظهار ( وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ) .

من عرف نفسه عرف ربّه
(ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفة ربّه نتيجة عن معرفته بنفسه ) ومعرفة الإنسان بنفسه هي الدليل على معرفته بربّه ، فإنّ نفس الإنسان لاشتمالها على أول الأشكال - الذي هو أبينها وأجمعها لوجوه المتقابلات والمتناقضات - هي التي يصحّ أن يستنتج منه المعرفة التامّة المنطوية على مقدّمتي التنزيه والتشبيه ، ( لذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : " من عرف نفسه فقد عرف ربّه ").
( فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول ، فإنّه سائغ فيه ) وهي المقدمة الكاشفة عن طرف التنزيه ، ( وإن شئت قلت بثبوت المعرفة ) وهي المقدّمة الكاشفة عن التشبيه وبهاتين المقدّمتين تتمّ المعرفة بطرفيها وبهما يعلم الإطلاق بحقيقته والوحدة الذاتيّة بصرافتها .

(فالأول أن تعرف أنّ نفسك لا تعرفها ، فلا تعرف ربّك ) ، وهو مشرع العقل وموطن إدراكه ، وقد قيل فيه : " العجز عن درك الإدراك إدراك " .
( والثاني أن تعرفها ، فتعرف ربّك ) وهو مشهد الذوق وموطن تحقّقه - كما عرفت بيان ذلك سابقا .

كان محمّد صلَّى الله عليه وآله أوضح دليل على ربّه
ثمّ إذ قد عرفت أنّ معرفة الإنسان مطلقا دليل على معرفة الربّ ، وقد عرفت أنّ حقيقة محمد هي أقرب الحقائق إلى الحقّ ، وأكملها حيطة ، وأتمّها إنباء وإظهارا ، ولذلك تراه عند الظهور بالتعيّن الشخصيّ المحمديّ ، آتيا بالكلام الكامل والعربيّ المعرب ( فكان محمّد أوضح دليل على ربّه ) لقربه إليه وبيّن أنّ الدليل كلما كان أقرب إلى المدلول كان أبين وأوضح .

ووجه قربه منه إنّه كأنّك قد اطَّلعت - فيما بيّنا لك سالفا - أنّ العالم بمجموعه مشتمل على ضربين من الأجزاء : أحدهما تعيّنات فرقيّة كونيّة يجمعها آدم جمعا عينيّا ، والآخر أعيان جمعيّة وجوديّة يجمعها الخاتم جمعا شهوديّا فالخاتم له أحديّة بين التعيّنات الفرقيّة والأعيان الوجوديّة من حيثيّتي آدميّته وخاتميّته ، ولا جمعيّة فوق هذه الكلَّيّة الإحاطيّة ، فله الكمال الأحديّ ، الذي ليس كمثله شيء ، ومن هاهنا يتمّ الدليل عين المدلول ، كما أشار إليه .

إذا عرفت هذا فاعلم إنّ لكلّ جزء من العالم - كونيّا كان أو وجوديّا - رقيقة ارتباطيّة إلى أصله ، ( فإنّ كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربّه ) وتتفاوت الأجزاء في دلالته على ذلك الأصل بحسب الحيطة والجمعيّة .
( فافهم ) ، فقد نبّهت على ما به يفهم ، فلا نعيده .

شوق الربّ إلى مربوبه
وإذ قد عرفت وجه كلَّية محمد بالنسبة إلى باقي أجزاء العالم ( فإنما حبّب إليه النساء ، فحنّ إليهن لأنّه من باب حنين الكل إلى جزئه ) ، وبيّن أنّ حكم الخاتم كلَّيّ يشمل أحكام سائر المراتب ، فإنّها قوانين كلَّية وأصول راسخة تنطبق على سائر الجزئيّات والفروع ( فأبان بذلك ) البيان ( عن الأمر في نفسه من جانب الحقّ ) بالنسبة إلى العبد ( في قوله في هذه النشأة الإنسانيّة العنصريّة :
" وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " فإنّه معرب عن الارتباط المذكور بين الكل والجزء .
( ثمّ وصف نفسه بشدّة الشوق إلى لقائه ، فقال للمشتاقين ) الذين من جملتهم داود ، مخاطبا إيّاه في بساط إيّاه في بساط قربه وحريم مباسطته : ( « يا داود إني أشدّ شوقا إليهم » - يعني للمشتاقين إليه ) .

الشوق واللقاء
ثمّ إنّ الشوق في عرف أهله ما يكون للمحبّ في غيبة المحبوب ، كما قيل : "الشوق يسكن باللقاء ، والاشتياق يزيد " .
ففي الكلام هاهنا نوع تدافع حيث أنّه قال من جهة المقرّبين المشتاقين الذين من جملتهم داود :
« إنّي أشدّ شوقا إليهم » ،
ولذلك قال : ( وهو لقاء خاصّ ) دفعا لما يتوهّم من التدافع ، وهو اللقاء الخالص عن شوائب الحجب المحفوفة بها هذه النشأة العنصريّة الإنسانيّة ، ( فإنّه قال في حديث الدجال : " إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتّى يموت " ) ويتحقّق بالجمعيّة الكماليّة ، خالصة عن شوائب الحجب والنسب التي له في زمان قربه إيّاه .

( فلا بدّ من الشوق لمن هذه صفته ) وهو أن يكون مع كمال القرب منحجبا غير محظوظ عن المشاهدة ، كما قيل :وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيامفاللقاء الحاصل له بعد الموت ، له صفة خاصة من الجمعيّة الكماليّة التي تتبع رفع الحجاب من كمال العزّة والاستغناء مع البذل والعطاء ، فإنّ الحجاب مقتضى العزة كما أنّ رفعها مقتضى البذل والقبول ،

كما قيل :لبسن الوشي لا متجمّلات
ولكن كي يصنّ به الجمالاوتلك الخصوصيّة المرغوبة إليها إنّما نشأت من هذه النشأة الحجابيّة ، لا من الموت ، فإنّ رفع الحجاب عدميّ ، والأثر إنّما هو لما يتبعه من المشاهدة ، فمبدأ تلك الخصوصيّة الكماليّة التي في اللقاء بعد الموت من هذه النشأة أيضا لا من الموت كما قال المتنبي:
فراق ولكن فيه قد جمع الشمل  .... وهجر ولكن منه يكتسب الوصل

شوق الحقّ تعالى لماذا ؟
(فشوق الحقّ لهؤلاء المقرّبين ) في الدنيا المنحجبين عنه بسائر الحجب مطلقا وبهذه الجمعيّة والإطلاق استحصل القرب ، ولذلك سمّي هذه النشأة الجمعيّة بالدنيا ، والقرب أيضا من الحجب ، كما قيل :-
وفي القرب تبعيدي عن إدراك ذاته  .....  ومالي سوى الذات النزيهة مطلب

""أضاف الجامع :   عن حجاب القرب
القرب حجاب عن الذات ، لأن فيه مشاهدة بقاء الرسم ، ومن بقي رسمه فلا مشاهدة ومن لا مشاهدة له فلا معرفة له بالذات كما قيل .
وفي القرب تبعيد عن إدراك ذاته ..... وما لي سوى الذات النزيهة مطلب
  ص 65 كتاب الحجب الشيخ ابن العربي ""

فهذا الحجاب هو الذي منع أهل هذه النشأة أن يروه ( مع كونه يراهم ) وهم في غفلة وذهول عن أنّهم بمرأى منه ومسمع ، ( فيحب أن يروه ، ويأبى المقام ذلك ) ، فإنّ قهرمان الأمر إنّما هو للمقام ، وهو يمنع اللقاء كما عرفت .

اللقاء لا يمكن إلا بالموت
وفيه إشارة إلى أنّ الحجاب إنّما هو لأهل المقام ، يختص بهم فإنّ المنخلعين عنه قد ماتوا عنه ، وبما انخلعوا وماتوا عنه حصل لهم اللقاء ، فشوق الحقّ إنّما هو لرؤيتهم له ، وإن كان ذلك أيضا رؤيته ، ( فأشبه ) الرؤية هذه بالعلم المشار إليه في ( قوله ) تعالى : "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ " ( " حَتَّى نَعْلَمَ " ) " الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ " [ 47 / 31 ] ( مع كونه عالما ) .

(فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلَّا عند الموت ) - إراديّا كان أو طبيعيّا - أو جامعا بينهما فالحيّ الذي لم يتحقّق به لم يكن له نصيب من هذا الشوق ، والمتحقّق بقدر ما تحقّق به يحصل له السهم منه ، فأهل حجاب الدنيا قاصرون في الشوق .
( فنبل ) الحقّ ( بها ) - أي بهذه الخاصيّة - ( شوقهم إليه ) ، أي فضل على شوقهم بهذه الصفة ، من قولهم : « نبل » - بالضم – " ينبل " : إذا فضل وكبر وهو إشارة إلى مؤدّى قوله : " أشد شوقا " فعلم إنّ الأحياء - في أيّ مرتبة كانوا - قاصرين في الشوق .

(كما قال تعالى في حديث التردّد - وهو من هذا الباب - : « ما تردّدت في شيء أنا فاعله ، تردّدي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ، ولا بدّ له من لقائي » فبشّره ) بما هو غاية الموت من اللقاء ، ( وما قال له : « ولا بدّ من الموت » ، لئلا يغمّه بذكر الموت ) على ما هو مقتضى مقام الشوق

( ولمّا كان لا يلقى الحقّ إلَّا بعد الموت ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتى يموت " لذلك قال تعالى :" ولا بدّ له من لقائي " فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة ) الجمعيّة التي هي غاية هذه النشأة الكماليّة ومنتهى أمرها .

المحبوب والمحبّ هو الحقّ  
ثمّ ليعلم إنّ الحقّ في لسان الظاهر هو المحبوب ، على ما دلّ عليه هذا المساق ، وإن كان نسبة المحبّية والمحبوبيّة إليه على السواء ، كما هو مؤدّى قوله تعالى : " يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ُ "
ولكن إذا تكلَّمت بلسان الكثرة العبديّة ، وهو بعد استكمال العبد وجودا ، وشرع كذا في طيّ مسالكه شهودا ، فالحقّ هو المحبوب ، ليس إلَّا ، على ما أشار إليه " يُحِبُّونَه ُ ".
وإذا تكلَّمت بلسان الوحدة الحقيقيّة ، متوجّهة في قوس تنزلها الوجودي إلى استكمال العبد ، هو المحبّ ، على ما أومى إليه " يُحِبُّهُمْ " ولذلك تراه إذ قد أفصح عمّا عبّر عنه اللسان الأول بصورة الحديث القدسيّ ، أشار إلى ما نطق به اللسان الثاني بصورة النظم الكونيّ ، جمعا بين اللسانين وإفصاحا عن مؤداهما ، فلا تغفل ، وهو قوله :
( يحنّ الحبيب إلى رؤيتي ... وإنّي إليه أشدّ حنينا )
كما أنّ في اللسان الأول كان الحبيب أشدّ شوقا ، فـ « القاف » هذا قاف « القدس » ظاهرا من شين « شعوره » الذي هو من شعائر شاكلته كما أنّ نون « الحنين » نون « الكون » ظاهرا من حاء « الحيطة » و « الحواية » و" الحيازة " .

(فتهفو النفوس و يأبى القضاء ... فأشكو الأنين و يشكو الأنينا)
( فتفهوا النفوس ) أي تخفق ، من « هفا الطير » : إذا خفق للطيران .
( ويأبى القضاء . ويشكو الأنين ) حيث قال أولا : « وإنّي أشدّ شوقا إليهم » ( وأشكو الأنينا ) حيث قال : « وإنّي إليه أشدّ حنينا » . وفي التعبير عن المشتكى عنه بالأنين تلويح إلى مبدأ تلك الشكاية ، يعني الإنيّتين الفارقتين .

لمّا كان الروح من الحقّ فما اشتاق إلَّا لنفسه
فمن هذه الحكمة ظهر وجه تسمية محمد صلَّى الله عليه وسلم حبيبا ، وأصل ذلك من قوله :
" نَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " [ 15 / 29 ] وستطلع منه على وجه شفاعته أيضا .
( فلمّا أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلَّا لنفسه ) فإنّ الروح من كلّ شيء هو نفس ذلك الشيء وعينه ، ( ألا تراه خلقه على صورته )  فإنّ الروح من الشيء ، هو الذي يستجلب صورته الخاصّة به ، كما تراه عند ظهور الاعتدال الهوائي الذي هو روح النبات في الربيع ، كيف يستجلب روح كل واحد منه على التفصيل ما يتصوّر به من الصورة الخاصّة به في الحسّ . وهذا الأصل يقتضي أنّ الإنسان على صورة الله ( لأنّه من روحه ) .

للنفخ نسبتان
ثمّ إنّ النفخ - الذي عبّر به في الكلام المنزل الختمي عن إفاضة الروح ، ونسبة تقويمه الأجساد وإخراجها عن مكامن القوّة - نسبتان : له نسبة إلى المنفوخ فيه ، ونسبة إلى النافخ به قد أشار إليهما مفصلا :
أمّا النسبة الأولى فهي المشار إليها بقوله : ( ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة ) العنصريّة المتقوّمة بها سائر الأمزجة من المواليد المشكَّلة في كلّ مزاج بصورته ، ( المسماة ) عند تقويمها المزاج الإنساني ( في جسده « أخلاطا » ) فإنّ الأركان الأربعة ما لم يظهر بصور الرطوبات الكيموسيّة ذوات الطبائع المتقابلة القابلة للتشكَّل بالأشكال المتخالفة والصور المتباينة ، لم يتحصّل منه جسد ذو اعتدال حيواني ، فضلا عن الإنسانيّ .

ثمّ إنّ من هذه الرطوبات ما غلب عليه الخفيفان ، ومنه ما غلب عليه الخفيف المطلق فلذلك ( حدث ) منه ( عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرطوبة ) ، لما تقرّر في القوانين الطبيعيّة وأصولها أنّ الخفيف المطلق إذا أمدّه الرطوبة الدهنيّة - التي غلب فيها حكم الخفيف المضاف - اشتعل بقوّة المناسبة عند النفخ الموجب للاختلاط والامتزاج ، فظهرت تلك الرطوبة بصورة النار المشتعلة .
قال رضي الله عنه :  ( فكان روح الإنسان نارا من أجل نشأته ) أي من حيث روحه الحيوانيّ ، الذي هو صورة جمعيّة الظهور والإظهار ( ولهذا ما كلَّم الله موسى إلا في صورة النار ) ، فإنّ الكلام هو صورة خصوصيّة الإنسان وكماله الخاصّ به في تلك الصورة ، وغايته المطلوبة منه ، ( و ) لذلك ( جعل حاجته فيها ) عند التكلَّم بها .

فعلم إنّ نشأته الجمعيّة هذه نشأة عنصريّة جسمانيّة ، لا طبيعيّة روحانيّة ، كما هو نشأة الملائكة قال رضي الله عنه :  ( فلو كانت نشأته طبيعيّة لكان روحه نورا ) لا نارا مشتعلة من رطوبات الأخلاط الجسمانيّة .
هذا بالقياس إلى المنفوخ فيها من النسبة الجمعيّة والجهة الاشتراكية .

نفخ الروح من نفس الرحمن
وأمّا بالقياس إلى النافخ : فقد أشار إليها بقوله : ( وكنّى عنه بالنفخ يشير إلى أنّه من نفس الرحمن ) ، والنفخ حقيقة إنّما هو النفس الخارج من الإنسان نحو مادّة ، وهو البخار الدخاني الذي أخرجه القلب بحركته الانقباضيّة ، ليتروّح بجذب الهواء الصافي عند حركته الانبساطيّة .
وذلك لأنّ الهواء مهما لبث في القلب تسخّن من نار الحرارة الغريزيّة ، فتدخن لطيفه ، فينقبض القلب بإعصار أجزائه إخراجا له ، ثمّ ينبسط لأن يجذب به الهواء البارد ، تعديلا لمزاج القلب ، وبيّن أنّ النفخ بهذا المعنى إنّما يطلق على النفس الرحماني بضرب من الشبه والمجاز ، ولذلك قال : " وكنّى عنه " في بيان هذه النسبة .

أمّا بيان ذلك الشبه ( فإنّه بهذا النفس - الذي هو النفخة - ظهر عينه ) التي هي الكلمة الجامعة الوجوديّة ، كمًّا أنّ بذلك النّفس الإنسانيّ ظهر عيون الكلمات الكاملة الإظهاريّة .

ثمّ إنّه من مؤدّى هذا الوجه يلزم أن يكون نشأته هذه - نوريّة - لا ناريّة - فلذلك استدركه بأنّ هذه الجهة باعتباره إلى النافخ ، والنشأة هي الحاصلة له باعتبار استعداد المنفوخ فيه على ما لا يخفى .
قال رضي الله عنه :  ( وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا ، لا نورا ، فبطن نفس الحق ) الذي هو جهة نسبة النفخ إلى النافخ ( فيما كان به الإنسان إنسانا ) من الجهة التي هي أصل قابليته واستعداده ، وهو جهة نسبة النفخ إلى المنفوخ فيه .

سبب محبّة الرجل للمرأة
قال رضي الله عنه :  ( ثمّ اشتق له شخصا ) هذا إفصاح عمّا هو المقصود من هذه المقدّمات ، وهو سبب تحبّب الخاتم للنساء أولا وذلك إنّه إذ قد بطن نفس الحقّ في الإنسان - بما هو إنسان - وقد عرفت أنّ الغاية من هذه الحركة الإيجاديّة إنّما هي الظهور والإظهار ، اشتقّ للإنسان من جهة ظهوره تحصيلا للغاية المطلوبة شخصا ( على صورته ) يظهر به نفسه - ظهور الشيء في المرآة - ولذلك ( سمّاه « امرأة » فظهرت بصورته ، فحنّ إليها حنين الشيء إلى نفسه ، وحنّت إليه حنين الشيء إلى وطنه ) ، واتّصل رابطة النسبة من الطرفين ، ودارت وهي كمال النسبة المعبّر عنها بالمحبّة

قال رضي الله عنه :  ( فحبّب إليه النساء ) إذ كمال النسبة إنّما هو بين الشيء وما هو بمنزلة نفسه ، مما ظهر به صورته الشخصية ، وتعاكس النسبة ظاهرة بصورتها الكماليّة الدورية ، ولذلك ظهرت المحبّة بينهما .

قال رضي الله عنه :  (فإنّ الله أحبّ من خلقه على صورته ، وأسجد له ملائكة النوريين ) سجود اتّضاع وخضوع ( على عظم قدرهم ومنزلتهم ) في رتبة الوجود ( وعلوّ نشأتهم الطبيعيّة ) من حيث ظهورهم في أنفسهم .
قال رضي الله عنه :  ( فمن هناك وقعت المناسبة ) - أي بالصورة وقعت المناسبة بين الله وآدم وكذلك بين آدم وزوجه - ( والصورة أعظم ) الوجوه ( مناسبة ، وأتمّها ) شبها ، ( وأجلَّها ) قرابة ، ( وأكملها ) حيطة ، لما به الاتحاد والاشتراك ، وذلك لأنّ الصورة من الشيء تماثله في هيأته الجمعيّة ومشخّصاته العينيّة ، ( فإنّها زوج - أي شفّعت وجود الحقّ - ) فالتامّ في تلك الصورة الخاتم لها –

يقال له : "الشفيع " ، وقد وعدناك بوجه هذه التسمية عن قريب - فهو شفّع الحقّ ( كما كانت المرأة شفّعت بوجودها الرجل فصيّرته زوجا ) .

ظهور التثليث بين الحقّ والرجل والمرأة ، وظهور الحبّ بينهما
قال رضي الله عنه :  ( فظهرت ثلاثة ) في هذه الصورة الشفعيّة : ( حقّ ورجل وامرأة ) وقد استشعر صلَّى الله عليه وسلَّم هذا التثليث من عبارة تحبّبه النساء ( فحنّ الرجل إلى ربّه الذي هو أصله ، حنين المرأة إليه ، فحبّب إليه ربّه النساء كما أحبّ الله من هو على صورته ، فما وقع الحبّ إلَّا لمن يكون عنه ) على ما هو مقتضى أصل المحبّة ( وقد كان ) في ( حبّه ) الأصل ( لمن يكون منه ، وهو الحقّ فلهذا قال :
" حبّب إلىّ " ولم يقل : " أحببت " من نفسه ، لتعلَّق حبه بربّه الذي هو على صورته .

قال رضي الله عنه :  (وذلك الحبّ منه هو الأصل الذي ينشعب منه سائر جزئيّات المحبّة ( حتّى في محبّته لامرأته ، فإنّه أحبّها بحبّ الله إيّاه ) حبّ الشخص صورته ونفسه ، ( تخلقا إلهيّا ) يتفرّع على التحقيق الذاتي الذي هو محبّته لربّه وهذا من خصائص العبارات الختميّة ودقائق إشاراته اللطيفة حيث نبّه بقوله :" حبّب إليّ " على ما هو أصل المحبّة - فلا تغفل .

النكاح أعظم وصلة في النشأة العنصريّة
قال رضي الله عنه :  ( ولما أحبّ الرجل المرأة طلب الوصلة ، أي غاية الوصلة التي تكون في المحبّة ) ، وهو الاتّحاد في الجهة الإدراكيّة وبيّن أن المدارك البشريّة أتمّها شمولا وأعمّها حيطة وموضوعا هو اللمس الذي ما اختصّ شعوره بعضو دون آخر وأيضا فإنّه هو الذي ظهرت به النسبة الإدراكيّة بصورتها الكماليّة الدوريّة ، فإنّ الملموس هو الذي يصلح لأن ينعكس منه إلى اللامس صورة شعاع اللمس ، الواقع من اللامس على الملموس بعينها ، حتّى يتمّ الصورة الإدراكيّة في دائرتها الكماليّة الاتحاديّة .

وهذا من خصائص اللمس ، إذ المسموع لا يتّصل بالسامع من جهة السماع ولا المبصر بالبصر كذلك إلى غيرهما فالاتّحاد الإدراكيّ المستحصل من هذا المنهج أتمّ وأكمل ولذلك ترى الاستغراق الذي فيه والاستلذاذ الذي منه ، لا يوازيه شيء من الإدراكات ، ولا يدانيه غيره من صنوف المستلذّات التي في مرتبة الجسمانيّات .

قال رضي الله عنه :  ( فلم يكن في صورة النشأة العنصريّة أعظم وصلة من النكاح ، ولهذا تعمّ الشهوة أجزاؤه كلَّها ) وقد عرفت أنّ الحيطة من آيات الوحدة الإطلاقيّة ، فلذلك يترتّب عليه الاستغراق الكلَّي والفناء التامّ .

حكمة وجوب الغسل بعد الملامسة
قال رضي الله عنه :  ( ولذلك امر بالاغتسال منه ، فعمّت الطهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشهوة ، فإنّ الحقّ غيور على عبده أن يعتقد أنّه يلتذ بغيره ) ، فإنّ الصور الاعتقاديّة - وإن كانت غير مطابقة للواقع - لها ظهور في مرتبة من مراتب الوجود وسلطان فيها ، فرتّب اعتقاد الالتذاذ بالغير - من المتناكحين على تلك الشهوة الموجبة للالتذاذ المذكور - حدثا لا يتمكَّن العبد معه عن أداء العبادات والتزام التقرّبات .

قال رضي الله عنه :  ( فطهّره بالغسل ليرجع بالنظر إليه ) عند التأمّل فيه وفيما يوجبه من تصوّر الالتذاذ بالغير ، والاستغراق فيه ، والفناء ( فيمن فنى فيه ) حقيقة على ما عليه الأمر ( إذ لا يكون إلَّا ذلك ) أي لا يمكن أن يكون فناء العبد إلَّا فيه فإنّ الغير لا حظَّ له من الوجود .

شهود الرجل صورة الحقّ في المرأة
فإذا عرفت أنّ الملتذّ منه بهذا المدرك وغيره من المدارك من هو ، فأراد أن ينبّه إلى وجه تعيين الشارع بعض المحالّ بالحلَّيّة - كالنساء وغيرها - بالحرمة قائلا : ( فإذا شاهد الرجل الحقّ في المرأة كان شهوده في منفعل ) فقط ،

قال رضي الله عنه :  ( و إذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه ، شاهده في فاعل ) ، فعلم إنّ الشهود في مشهد استحضر به صورة المرأة كان أكمل وأجمع ، ( وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه ) - كالمرأة بالنسبة إلى الرجل ( كان شهوده في منفعل عن الحقّ بلا واسطة ) تكون لها منزلة الفاعليّة .

قال رضي الله عنه :  ( فشهوده للحق في المرأة أتمّ وأكمل ) ، ضرورة احتواء مشهدها طرفي الفعل والانفعال ، اللذين قد عبّر عنهما في الحضرات الإلهيّة بطرفي التشبيه والتنزيه ، ( وذلك لأنّه يشاهد الحقّ ) في هذه المجلاة العظمى ( من حيث هو فاعل منفعل ، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة ) ، وقد علم من هذا وجه كمال الالتذاذ الذي في الوصلة النكاحيّة وفي سائر الازدواجات والمصاحبات الجسمانيّة الموجبة لصنوف الإدراكات وفنون اللذّات .

قال رضي الله عنه :  (فلهذا أحب صلَّى الله عليه وسلَّم النساء ، لكمال شهود الحقّ فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحقّ مجرّدا عن الموادّ أبدا ) ، أي في سائر المشاهد والمجالي التي في الحضرات الإطلاقيّة والعوالم التقييديّة ( فإنّ الله بالذات غنيّ عن العالمين ) .
وكأنّك قد اطَّلعت على أنّ الغناء المطلق الذي هو الكمال الذاتي ينفي تغاير الثنويّة والسوائيّة التي لا يمكن الشهود بدونه أصلا .

قال رضي الله عنه :  ( فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن الشهادة إلَّا في مادّة ) - وبيّن أنّ الموادّ متفاوتة بحسب الجمعيّة والكمال ، كما أنّ المرائي متفاوتة في صفائها وضيائها ، قال رضي الله عنه :  ( فشهود الحقّ في النساء أعظم الشهود ) لاشتماله على الوجهين حسبما عرفت آنفا ( وأكمله ) لأنّها أكثر جمعيّة من سائر المشاهد المادّية ، لأنّ الجمعيّة الكماليّة التي اختصّ بها الإنسان قد تفرّدت بها على مزيد منها ،

حيث أنّها أنزل أفراده وقد عرفت من قوانين التحقيق أنّ الأنزل أجمع وأكمل ، ولذلك ترى الشهود فيها قد انطوى على أعظم الوصلة ، وهي التي الشاهد يلتذ فيها بجميع الأجزاء الماديّة ( وأعظم الوصلة النكاح ) المنطوي على غاية يلتذّ فيها الناكح بجميع الأعضاء الجسمانيّة ، غير مختصّ بالمشاعر الروحانيّة والبرزخيّة .

اللمس أنزل المراتب الإدراكيّة وأكملها
فإنّك قد عرفت أنّ اللمس أنزل المراتب الإدراكيّة وأكملها ، ولذلك ترى مداركه غير مختصّة بعضو دون آخر ، ولا بظاهر الأعضاء فقط ، فله الإحاطة والجمعيّة بحسب شمول الموضوعات والأفراد ، فإنّه ما من حيوان إلَّا وله هذه القوة - سواء كان تامّ الخلقة أو غير تامّها - وأيضا هو الذي بين سائر المدارك والمشاعر غير محتاج عند إدراكه إلى الواسطة ، كالهواء والضياء في المشعرين الإلهيّين - على ما عرفت - وكذلك كالهواء والرطوبة في الآخرين .

هذا في المشاعر الحسيّة الظاهرة وأما الباطنة منها فمحتاجة أيضا إلى ضرب ما من الصورة - أو ما يجري مجراها - بواسطتها تدرك ذلك ، بخلاف اللمس ، سيّما في الحالة التي هي غاية النكاح ، فإنّك قد عرفت أنّ الإدراك فيها لظهوره بصورته الكماليّة الدوريّة يستتبع لذّة كماليّة لا يوازيها غيرها .

توجيه محبّة النساء بلسان التحقيق
هذا وجه خصوصيّته بلسان الحكمة المتعارفة الظاهرة ( و ) وجه خصوصيّة ذلك بلسان التحقيق - الذي هو منتهى أطوار الحكم - ( هو ) أنّه

قال رضي الله عنه :  ( نظير التوجّه الإلهيّ على من خلقه على صورته ) ، يعني الإنسان الذي هو غاية الحركة التوجّهيّة الإيجاديّة التي بيديه قد توجّه الحق إليها ( ليخلقه فيرى فيه نفسه ) .
ووجه المناسبة بينهما هو أنّ الشاهد - هذا - أخذ مشهوده منفعلا بيديه مقابلا له ( فسوّاه ) تسوية قابل بها كل جزء من الفاعل زوجه من مقابله ، فتحصل منها صورة دائرة ( وعدّله ) عند استواء ميزان التقابل بين جملة أعضائه وأجزائه ، حيث لا يكون لإحدى الكفّتين رجحان عند كمال التوجّه والحركة الشوقيّة التي هي عبارة عن السعي في ذلك التعديل ، إلى أن يترتّب عليه غايته ، ( ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه ) لما عرفت أنّ النفخ هو النفس الرحماني .
فعلم إنّ النكاح له صورة جمعيّة كماليّة ، ( فظاهره خلق ، وباطنه حقّ ) وقد سلف لك مما مهّد من الأصول ، أنّ الباطن هو الذي له الفعل والتأثير .

قال رضي الله عنه :  ( ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل ، فإنّه تعالى وهو العلو ) روحانيّا كان أو جسمانياًّ لطيفا ، فهو الذي له منزلة الرجل (" يُدَبِّرُ الأَمْرَ من السَّماءِ إِلَى الأَرْضِ " [ 32 / 5 ] وهو أسفل سافلين ) فإنّها لو لم يكن كذلك ما كان أسفل مطلقا ، إذ لو كان تحتها أسفل ، كان عاليا بالنسبة إليه ، فما كان أسفل مطلقا ، ولا يترتّب عليها حكمها الخاصّ بها ، وهو حكم الأنوثة والأمومة ، وهو في الأجسام يختصّ به ركن الأرض ( لأنّها أسفل الأركان كلها ) .

وجه التعبير في الحديث بالنساء دون المرأة
ثمّ إنه قد أشار إلى وجه خصوصيّة عبارة " حبّب إليّ " هاهنا ، فأراد أن يبيّن وجه خصوصيّة عبارة « النساء » ، قائلا : ( وسمّاهن بـ " النساء " ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ) ، كما أنّ مرتبة الأمومة هي طرف الكثرة الجمعيّة التي لا يقابلها الواحد ، وتلك الكثرة هي التي باعتبار آخر يقال له الواحد بالوحدة الحقيقيّة ، وهو طرف الابوّة والأول مولد النسب ، والثاني مسقطها - كما عرفت .

قال رضي الله عنه :  (ولذلك قال عليه السّلام : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء » ) مبيّنا للثلاث به ( ولم يقل : « المرأة » فراعى ) في اعتبار مفهوم الاشتقاق اللغوي ( تأخّرهن في الوجود عنه ، فإنّ « النسأة » : هي التأخير قال تعالى : " إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ ").
وهو الستر الذي من مقتضى أمر الإظهار والظهور ، وإنّما كان زيادة في الكفر ، لأنّ حكم التعيّن الذي به الكفر ومنه الستر ، قد غلب على النساء بفضل منه وزيادة ، ولذلك ترى   الشرع قد أمر عليهن بزيادة من الستر ، وذلك من مقتضى أمر القبول والانفعال الذي يستتبع التأخّر عن الفاعل وما يقبله منه - على ما دلّ عليه لفظ النساء - وإليه أشار بقوله : ( والبيع بنسية : تقوّل بتأخير ) .

قال رضي الله عنه :  ( فلذلك ذكر النساء ، فما أحبّهن إلَّا بالمرتبة ) ، ولذلك تراهنّ مغلوبة تحت حكم الرجال ، إذ حكم المرتبة له قهرمان في هذه النشأة الجمعيّة وذلك لأنّ مرتبتهن التأخّر ( فإنّهن محل الانفعال ) ممّن هو في صدد النكاح بهن

قال رضي الله عنه :  ( فهنّ له كالطبيعة للحقّ ، التي فتح فيها صور العالم بالتوجّه الإراديّ ، والأمر الإلهيّ )، وازدواجهما عند سراية حكم الجمعيّة فيهما ، وذلك الازدواج هو ( الذي ) في هذه النشأة الجمعيّة له وجوه ثلاثة ، قد عبّر عنها في الحديث المذكور بالصور الثلاث .

وذلك ( هو نكاح في عالم الصور العنصريّة ) وقد عبّر عنه بالنساء  ( وهمّة في عالم الأرواح النوريّة ) - وقد عبّر عنه بالطيب ، باعتبار نشر نفحات الآثار منه ، وهو قوله تعالى : " وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُه ُ بِإِذْنِ رَبِّه ِ " ( وترتيب مقدّمات في المعاني للإنتاج ) وهذا من صور الإظهار . وقد عبّر عنه بالصلاة ، ولانقهار حكم التعيّن في المعاني لظهور سلطان حضرات الإطلاقية فيها طوى عن ذكر العالم في هذه الصورة .
قال رضي الله عنه :  ( وكلّ ذلك نكاح الفرديّة الأولى ) ، التي هي مؤدّى الكلمة الختميّة ومقتضى حكمتها الجمعيّة ، وذلك النكاح هو الساري ( في كل وجه من هذه الوجوه ) الثلاثة ، وأبين الوجوه وأجمعها هو النساء ، لانطوائها على غيرها من الوجهين ، ولذلك قدّمها .

حبّ النساء ذو وجهين : إلهيّ وشهوي
قال رضي الله عنه :  ( فمن أحبّ النساء على هذا الحد فهو حبّ إلهيّ ، ومن أحبّهن على جهة الشهوة الطبيعيّة خاصة ) غير عاثر على ذلك الوجه وحدّه ( نقصه علم هذه الشهوة ) ، فشهوته خالية عن معناها ، ( فكانت صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ، ولكنّها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى ، حيث كانت لمجرّد الالتذاذ ، ولكن لا يدري لمن ) ذلك الالتذاذ وممّن ذلك ،

قال رضي الله عنه :  ( فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ، ما لم يسمه هو بلسانه ) الذي هو مصدر الإظهار ( حتى يعلم ) فالحقّ حينئذ في مكمن الجهل والخفاء ظهورا وإظهارا ، فإنّه ما لم يسمّ محل التذاذه لم يظهر ذلك عند الغير ، بقي على ما عليه من الخفاء .
والحاصل أنّ العارف بمحلّ الالتذاذ يظهر ذلك عند نفسه ويظهر للغير ، والجاهل به يخفى عنده ذلك ويخفى للغير ، وإن كان الالتذاذ نفسه ظاهرا له ولغيره ( كما قال بعضهم ) :
( صحّ عند الناس أنّي عاشق ....  غير أن لم يعرفوا عشقى لمن ؟ )
وهذا خفاؤه بالنسبة إلى الغير وأمّا بالنسبة إلى نفسه فكذلك ،

وإليه أشار بقوله : ( كذلك هذا أحبّ الالتذاذ ، فأحبّ المحلّ الذي يكون فيه - وهو المرأة - ولكن غاب عنه روح المسألة ) وهو العلم بالمرأة ، ( فلو علمها لعلم بمن التذّ ، ومن التذّ ، فكان كاملا ) لجمعه بين مرتبتي الظهور والإظهار ، الكاشفين عن الشعور والإشعار .

نزول درجة المرأة عن الرجل ، والمخلوق عن الخالق
قال رضي الله عنه :  (وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل - بقوله : " وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " - نزل المخلوق على الصورة ) - يعني الإنسان الكامل ، الذي صورة تمامه الخاتم - ( عن درجة من أنشأه على صورته ) يعني الحقّ ، وتفاوت الدرجتين في الرتبة يقتضي تباين الحكمين ( مع كونه على صورته ) .

قال رضي الله عنه :  (فتلك الدرجة التي تميّز بها عنه ) - أي عن المخلوق على الصورة بها - ( كان غنيّا عن العالمين ) فإنّ تلك الدرجة هي مبدأ خصوصيّته الامتيازيّة وذلك المبدء هو المعبّر عنه بالغناء المطلق .

ولما كان الغناء إذا اعتبر مقيدا بأن يكون عن العالمين أثبت العالم في مقابلة الحقّ ، ولا يكون غنيّا عنه حينئذ إلَّا به ، فظهر الفاعليّة له أوّلا ، ولذلك قال : ( وفاعلا أولا ، فإنّ الصورة ) أيضا لها الفعل ، إلَّا أنّه ( فاعل ثان ، فما له الأولية التي للحقّ ) وهو التقدّم الرتبي الذي هو مبدأ الخصوصيّة الامتيازيّة .

قال رضي الله عنه :  ( فتميّزت الأعيان بالمراتب ) ، والعارف هو الذي يعلم الأعيان بعلاماتها الخاصّة بها ، وتعرف كلا بسيماهم - على ما عليه أهل الأعراف من الرجال - ( فأعطى كل ذي حقّ حقّه ) ، وهو وجهه الخاص به على ما يراه به ( كلّ عارف ) وقد عرفت أنّ أصل هذه النسبة المؤلفة إنّما هو من الحقّ ، حيث أنّه الفاعل الأول من الصورتين المتماثلتين .

قال رضي الله عنه :  ( فلهذا كان حبّ النساء لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم عن تحبّب إلهيّ ، وإنّ الله " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " وهو عين حقّه ) الذي أعطاه العارف .
وهاهنا نكتة تلويحية حيث أن ذلك الإعطاء إذا نسب إلى العبد العارف يكون حقّه ، وإذا نسب إلى الحق يكون خلقه .

قال رضي الله عنه :  ( فما أعطاه إلَّا بما استحقّه بمسمّاه ، أي بذات ذلك المستحقّ ) كما للخاتم بالنسبة إلى الفرد الأول .
قال رضي الله عنه :  ( وإنما قدّم النساء لأنّهنّ محالّ الانفعال ) الذي هو من مقتضى القابليّة الأولى ، فلها رتبة التقدّم ( كما تقدّمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة ) إذ لا يتقدّم الطبيعة على الموجود بالمادّة ، فإنّها مادة الكلّ ، علويّات كانت أو سفليّات ، وذلك لأنّ للطبيعة - على عرفه الخاصّ - لها العموم ، وهو المطابق لإطلاق أساطين الحكمة من القدماء - كما عرفت تحقيقه - وإليه أشار بقوله :

ليست الطبيعة إلا النفس الرحماني
( وليست الطبيعة على الحقيقة إلَّا النفس الرحماني ، فإنّه فيه ) أي في النفس الرحماني - المعبّر عنه بالنفخة في بعض موارده القرآنية المعربة - ( انفتحت صور العالم ، أعلاه وأسفله ) أي الأجرام الكثيفة الهيولانيّة ، والأرواح اللطيفة النورانيّة وما بينهما من الأعراض وكذلك ينبغي أن يفهم من عبارة "السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُما " على تخالف صيغها وتباين نسبها ، وإلى ذلك المعنى أشار بقوله : ( لسريان النفخة من الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام ) تعليلا لما ذكر من التعميم الذي للطبيعة ، المعبّر عنها حقيقة بالنفس الرحماني والنفخة أيضا عبارة عنها .

ثمّ إنّ السماوات العلى والأرضين السفلى وإن كان كلَّها مجالي الحقّ ومظاهره بلسان الجمع الوجوديّ ، ولكن بلسان التفصيل الكتابيّ فيه تفرقة وتمييز فإنّ طرف الأجرام الهيولانيّة السفليّة الأرضيّة له جهة اختصاص بتلك المظهريّة ، حيث أن الأحديّة الجمعيّة به ظهرت على مجالي العيان ،
ولذلك ترى الفاتحة التي هي امّ الكتاب ، الكاشف عن التفصيل بما عليه ، قد ورد فيها - على ما ستطلع عليه - : « إنّه منصّف بنصفين ، أحدهما للحقّ خاصّة ، والآخر للعبد » وإلى ذلك أشار بقوله : ( خاصة ) أي سريان النفخة لظهور الأجرام الهيولانيّة والعوالم الكيانيّة ، له خصوصيّة خاصة به .

( وأما سريانها لوجود الأرواح النوريّة والأعراض ) التي هي الواسطة بين الطرفين - كما قد اطلعت على وجه تحقيقه في المقدّمة ( فذلك سريان آخر ) غير ما له خاصّة .

رجوع إلى التأمّل في لفظ الحديث
قال رضي الله عنه :  ( ثم ) إنّه من جملة غرائب حكم هذا التركيب البديع الختمي ( إنّه عليه السّلام غلَّب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ، لأنّه قصد التهمّم بالنساء ) المكنى بها هاهنا عن الطبيعة التي هي أصل صور العالم ، ( فقال : « ثلاث » ولم يقل : "ثلاثة" بالهاء الذي
هو لعدد الذكران ، إذ فيها ذكر الطيب - وهو مذكَّر - وعادة العرب أن يغلَّب التذكير على التأنيث ، فتقول : « الفواطم وزيد خرجوا » ولا يقول : « خرجن » فغلَّبوا التذكير - وإن كان واحدا - على التأنيث - وإن كنّ جماعة وهو عربي )
قد أبكم مصاقع الصفحاء ببلاغة عربيّه المبين وبيانه المتين ( فراعى - عليه الصلاة والسلام - المعنى الذي قصد به في التحبّب إليه )  بدون اختيار منه في ذلك ، حيث أسند إليه حبّب ، دون « أحببت » ليدلّ على أنّ ذلك التهمّم والتحبّب بالنساء من أصل الخلقة الإلهيّة

فإنّ ذلك ( ما لم يكن يؤثّر ) بنفسه ( حبّه ) على ما هو مؤدى قوله : " حبّب إليّ " ، ويكون سلطانه مستوليا عليه ، حيث جمع منهن غاية ما يجمع من الكثرة - يعني أنهاها ، وهي التسعة - فلا بدّ وأن يكون من أصل جبلَّته الختميّة ، كما علم تحقيقه ووجه لميّته في المفاحص.

فتأمّل ما استشعر منه الخاتم - صلوات الله عليه - بهذا التركيب المعرب والكلام الكامل ، على ما نبّهت على خصائص مفرديه أولا ، يعني " حبّب " و "النساء" ، وعلى خصوصيّة التركيب والنسبة الإسناديّة بينهما ثانيا من لطائف الحكم الإلهية الختميّة ، الدالَّة على علوّ مرتبة كاشفها في الأكمليّة .

وذلك أيضا من مقتضى أصل الجبلَّة ، كما أشار إليه بقوله : ( فعلَّمه الله ما لم يكن يعلم ، وكان فضل الله عليه عظيما ) وذلك الخصوصيّة أنّه عرف رتبة النساء في أمر الإظهار ، الذي هو بصدد تكميله ، ( فغلَّب التأنيث على التذكير ) ظاهرا ، وما أهمل في ذلك التغليب حكم التذكير أيضا ، حيث عبّر عن صورة التغليب ( بقوله : « ثلاث » - بغير « ها » ) وهو علامة التأنيث في لغة العرب .

تأمّل في ترتيب المذكورات في الحديث
قال رضي الله عنه :  ( فما أعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم بالحقائق ) عند الإبانة عن مراتبهم في مدارج الإظهار ومكامن الخفاء ( وما أشدّ رعايته للحقوق ) حيث أعطى كل شيء ما هو حقّه في مراقي كماله عند الإنباء عنه بكلامه .

وجه تقديم ذكر النساء
قال رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه ) من جلائل خواصّ هذا التركيب أنّه ( جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث ) موافقا لما في الوجود من القابليّة الأولى والصورة الخاتمة لها ( وأدرج بينهما المذكر ) إدراج المعنى في الصورة المحيطة به من الطرفين ، وإدراج المتكلم به بين امّه والكلمة الكاملة المنبئة عن الرسالة الختميّة ( فبدأ بالنساء ) التي هي صورة القابليّة الأولى ، التي هن مولد الكلّ ظهورا ( وختم بالصلاة ) التي هي الصورة الخاتمة التي هي مجمع الجميع ، من الفاتحة إلى الخاتمة إظهارا .

قال رضي الله عنه :  (وكلتاهما تأنيث ، والطيب بينهما كهو في وجوده ، فإنّ الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنّثين ) ، فإنّ التأنيث قد يكون من نفس الجمعيّة الكماليّة والإحاطة الذاتيّة ، التي لا يمكن أن يكون في مقابلته شيء - فضلا عن الذكر - وهو المعبّر عنه بـ "غير الحقيقي " في عرف النحو وأدب العربيّة ، وقد يكون باعتبار مقابلته للذكر الذي هو من نوعه ، وهو المسمّى بالحقيقيّ في ذلك العرف ،

وذلك لأنّ « النون » الذي هو مظهر العين إذا قورن « بالثاء » الذي منه ثوران موادّ الثنويّة لكثرة تفرقتها ، يقتضي إنفاذ حكم الجمع والكثرة ، وهو أن يتولَّد من أكمام الجمعيّة ذات الكثرة ثمرة جمعيّة  أخرى ، إذ ما من كثرة اجتمعت إلَّا ولا بدّ وأن يتولَّد منها شيء آخر ومن هاهنا قيل : " كلّ جمع مؤنث " .

وقد عرفت أن الكثرة قد تطلق على ما يكون في الوحدة الحقيقيّة ، وهي التي بها تسمى « كلا » ، وبهذا الاعتبار نسب إليه الأنوثة ، وهو كثرة اعتباريّة غير حقيقيّة ، فكذلك الأنوثة التي تتفرّع عنها وقد تطلق الكثرة على ما في مقابلة الوحدة وهي الكثرة الحقيقيّة ،
فكذلك الأنوثة المتفرّعة عليها وعرف العربيّة هاهنا طابق التحقيق ، ولذلك بيّن المؤنثين بقوله : ( تأنيث ذات وتأنيث حقيقي ) ، وجعل التأنيث الحقيقي في مقابلة تأنيث الذات .

قال رضي الله عنه :  ( كذلك النساء ) في العبارة الختميّة التي هي الصورة الكاملة للكلّ ( تأنيث حقيقي ، والصلاة تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكَّر بينهما ) فوقوع الطيب هاهنا في هذه الصورة الإظهاريّة الكلاميّة ( كآدم بين الذات الموجود هو عنها ، وبين حوّا ، الموجودة عنه ) في الصورة الظهوريّة الوجوديّة ، هذا على مذهب من جعل الذات مصدرا بدون توسّط ولا تسبّب .

قال رضي الله عنه :  ( وإن شئت قلت : الصفة ) ، على ما ذهب إليه المتكلَّمون ، ممّن جعل الصفة زائدة على الذات ( فمؤنّثة أيضا ، وإن شئت قلت : القدرة ( على ما هو رأى جمهور العامة ، فمؤنثة أيضا ، ) فكن على أيّ مذهب شئت ، فإنّك لا تجد إلَّا التأنيث يتقدّم ، حتى عند أصحاب العلَّة ) - يعني الفلاسفة - وفي التعبير عنهم بهذه العبارة لا يخلو عن نكتة ، وذلك لأنّهم ( الذين جعلوا الحقّ علَّة في وجود العالم ، والعلَّة مؤنثة ) .

ومن اللطائف الكاشفة عن هذا السرّ أنّه لا يمكن أن يشار إلى الهويّة الإطلاقيّة إلَّا في طيّ الثنويّة التقابليّة وصورتها الكاشفة عنها ، وتلك الثنويّة هي التي بها ظهرت الكثرة بمحوضتها ، بدون نسبة جمعيّة ولا سمة وحدة ، إذ لو اعتبرت النسبة معهما كان ثلاثة بالضرورة ، وذلك كما تراه في عبارة الإله والعبد ، والخالق والخلق ، والحقّ والعالم ، والمعشوق والعاشق ، والعلَّة والمعلول وغير ذلك .

فمن لم يكن له قوّة الوصول إلى المشهد الجمعيّ وطوى الإطلاق الذاتي بما اعتاد عند السلوك في مسالك ترقّيه من التلبّس بنعلي التقابل ، والتوسّل لدى الانتهاج فيها بهما ، فإنّهم قد ضعف أقدام سعيهم على طيّ ذلك الطوى الكماليّ ، مجرّدا عن ذينك النعلين ، فلذلك لا يعبّرون عن مشهدهم إلَّا بصيغة التأنيث ، والتأنيث والتثنّي من واد واحد عند من تصفّح الألواح الحرفيّة وفي قوله تعالى : " إِنْ يَدْعُونَ من دُونِه ِ إِلَّا إِناثاً  "إشارة جليّة إليه لمن تدبّر فيه .

ومن تلك اللطائف أيضا : أنّ القابليّة الأصليّة - التي هي امّ التعيّنات كلَّها - قد ظهر سلطانها فيمن انتسب إليها من أولادها المتشبّهين بها ، المائلين إليها من جهة سفليّتها ، دون المتشبّهين منهم إلى الآباء العلى ،
وقد عرفت فيما سلف لك إنّ أولاد آدم ، منهم من استفاض من الصور الوجوديّة الكاشفة ، وهم أصحاب الكشف والوجود ، وهم أبناؤه المماثلون لآبائهم ومنهم من استفاض من الصور الكونيّة الحاجبة ، وهؤلاء أهل العقل والبرهان ، وهم بناته المماثلات لامّهاتهم .

وإذا تقرّر هذا ظهر أنّ المنتسبين إلى الامّ إنّما يشيرون أبدا إلى محتد نسبتهم لا يتجاوزون عنه أصلا .

وجه ذكر الطيب بعد النساء
قال رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة الطيب وجعله بعد النساء ) - وهما حكمتان - ( فلما في النساء من روائح التكوين ) والفعل ، فإنّ أصل ما هي عليه إنّما هو التكوّن والانفعال ، والكلمة الجامعة لا بدّ وأن تكون مع جمعيّتها للأطراف متناسبة الأحكام ، والنساء - مع أنّها في أصل طبيعتها لها الانفعال - فيها رائحة الفعل أيضا ، بتلك الرائحة تناسب الطيب ، ( فإنّه « أطيب الطيب عناق الحبيب » ) أي أشدّه تأثيرا ( - كذا قالوا في المثل السائر - ) الذي به يتكلَّم لسان الوقت في كلّ زمان .
فظهر من هذا الكلام وجه المناسبة بينهما، وحكمة التعرّض للطيب ، وهو الأول من الحكمتين .
وأمّا بيان ترتيبه - وهو الثاني منهما - فهو أنّ النساء عبارة عمّا عليه الأصل من القابليّة والانفعال ، المعبّر عنه في لسان الشريعة بالعبوديّة .

قال رضي الله عنه :  ( ولما خلق عبدا بالأصالة ) ، أي قدّره على ما عليه في أصل جبلَّته وخلقته ( لم يرفع قطَّ رأسه إلى السيادة ) التي هي مقتضى الفعل والظهور ، (بل لم يزل ساجدا ) على جهة عبودته ووجهة عبادته ( واقفا مع كونه منفعلا) غير متجاوز عنه أصلا

قال رضي الله عنه :   ( حتّى كوّن الله عنه ما كوّن ، فأعطاه ) الله ( رتبة الفاعليّة ) والظهور بها ( في عالم الأنفاس ) ، بصورها المظهرة الكلاميّة ، الكاشفة عن سيماء الكلّ .

فعلم إنّ عالم الأنفاس والمرتبة الكلاميّة ( التي هي الأعراف الطيّبة ) متأخّرة عن العبد ، متكوّنة عنه بالكون الإلهي ، ( فحبّب إليه الطيب ) الذي هو آخر المراتب ، فإنّه إشارة إلى مرتبة النفس الرحماني ، الذي هو مادّة الكلام وهو صورته ، ( فلذلك جعله بعد النساء ) التي هي كناية عن القابليّة الأولى ، فهما صورتا الأول والآخر ، والصلاة هي صورة الجمعيّة التي بها يصل الأول بالآخر .

قال رضي الله عنه :  ( فراعى ) صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله هذا ( الدرجات التي للحقّ في قوله : " رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ " ) . فإنّك قد عرفت أنّ النفس الرحماني - الذي قد عبّر عنه في بعض الاعتبارات بالطبيعة - جامع لجميع الدرجات والمراتب ، و " ذُو الْعَرْشِ " إشارة إلى ذلك النفس ، المنتسب إلى الرحمن ( لاستوائه عليه باسمه الرحمن ، فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش ) - من الصور الجسمانيّة والجسدانيّة والروحانيّة ، والمعاني الأسمائيّة والحقائق الإلهيّة - ( من لا تصيبه الرحمة الإلهيّة وهو ) الذي أشار إليه ( قوله : " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ  " والعرش وسع كل شيء ، والمستوي الرحمن ) .
فملخص هذا الكلام أنّ الخاتم - صلوات الله وسلامه عليه - هو الذي كان عبدا بالأصالة ، ما فيه غير محض القابليّة وكمال الانفعال حتّى كوّن الله فيه ما كوّن ،

إلى أن ظهر صورة شخصه من العرب ، وأعرب عن الكلّ بكلامه ( فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم ، كما قد بيّناه في غير موضع من هذا الكتاب ، ومن الفتوح المكي ) . كتاب الفتوحات المكية

قال رضي الله عنه :  ( و ) مما يدلّ على ما ذكرناه في معنى الطيب وأنّه صورة الالتحام الذي في النكاح الساري في جميع الذراري ، إنّه ( قد جعل الطيب تعالى في هذا الالتحام النكاحي ) الذي لشخص الخاتم ( في براءة عايشة ) التي هي أقرب النساء والزوجات إليه ( فقال : " الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ" ). من الخباثة التي قد نسبوها إليهم إذ الطيّب لا يخرج منه إلَّا الطيّب ،

قال رضي الله عنه :  ( فجعل روائحهم طيّبة ) والأقوال المتعلَّقة بهم ، الدالَّة على أحوالهم مبرّأة عن النقص والخبث ( لأنّ القول نفس ، وهو عين الرائحة ، فيخرج بالطيّب ، وبالخبيث ، على حسب ما يظهر به في صورة النطق ) من الدلالة على الأعيان وأحوالها ، صدقا كان أو كذبا .

وجه كون شيء طيّبا أو خبيثا
قال رضي الله عنه :  ( فمن حيث هو إلهيّ بالأصالة ) وأنّه صورة من صور النفس الرحماني ( كله طيّب فهو ) بهذا الاعتبار ( طيّب ، ومن حيث ما يحمد ويذمّ ) بلسان التفصيل ( فهو طيّب وخبيث ) ، وهذا التفصيل لا يتعلَّق بالأعيان أنفسها ، بل إنما يتعلَّق ذلك بأحكامها المترتّبة عليها

قال رضي الله عنه :  ( فقال صلَّى الله عليه وسلَّم في خبث الثوم : « هي شجرة أكره ريحها » ، ولم يقل : " أكرهها " فالعين لا يكره ، وإنما يكره ما يظهر منها ) مما يخالف العرف أو طبعه أو غرضه المطلوب ، أو الشرع الذي في زمانه ، أو يكون ناقصا عن كماله وغايته المطلوبة منه ، فمبدأ الكراهة منحصر في هذه الصور الخمس ، لا مزيد عليها ، كما لا يخفى أمره على الذكيّ ، وإليه أشار بقوله :

مبدأ الكراهة محصور في خمسة  
قال رضي الله عنه :  ( والكراهة لذلك إمّا عرفا ، أو بعدم ملاءمة طبع ، أو غرض ، أو شرع )
والظاهر من السياق أن يكون « الشرع » منصوبا ، ويكون عطفا على قوله :
"عرفا " ، ولكن إنّما جعل كذلك ليدلّ على أنّ العرف إنّما يحكم على الأشياء بما ظهر عنها كراهة وقبولا بمجرّد الاعتياد ، ليست له غاية صحيحة تكون مبدأ لذلك الحكم .

وأمّا غير ذلك ، فلا بدّ وأن يكون ذا غاية صحيحة ، راجعة إلى الحاكم - وهو الكارة هاهنا - أو إلى المحكوم عليه - وهو المكروه - أمّا الأول فمنحصر في الصور الثلاث : أعني الطبع والغرض والشرع فغاية حكم الكراهة ومبدؤه في هذه الثلاثة المذكورة تتعلَّق بصاحب الكراهة ، وهو الكارة .
وقد تتعلَّق مبدأ الكراهة بالمكروه ، وهو الرابع ، وإليه أشار بقوله : ( أو نقص عن كمال مطلوب ) عطفا على عدم ملاءمة .
وهذه الوجوه لها حصر عقلي : وهو أنّ مبدأ ذلك الحكم إمّا أن يكون مما يتعلَّق بالمكروه ، وهو النقص عن الكمال المطلوب منه - وهو القسم الأخير - أو ممّا يتعلَّق بالكاره .

وذلك إنّما يتحقّق في أربع صور : فإنّ ما يتعلَّق بالكاره من مبدأ الكراهة إمّا أن يكون مجرّد الاعتياد ومشاهدة أبناء زمانه من المشاركين له في مرتبته على ذلك الكراهة ، ليس له غاية صحيحة وراء ذلك ، كما هو المشاهد من تلبّس كلّ صنف بضرب من اللباس - يكره غيره .
أو يكون له غاية صحيحة وراء ذلك ،
وهي لا تخلو عن الوجوه الثلاثة ، فإنّه إمّا أن يكون من طبعه كالاستراحات البدنيّة التي تأبى الطبيعة خلافها أو من النواميس المنزلة الشرعيّة كما في المكاره الشرعيّة أو من النفس وعلوّها التجوّهيّة كالقناعة بالأوضاع المتّصفة ، وذلك هو المعبّر عنه بالغرض وإلى ذلك الحصر أشار بقوله : ( وما ثمّ غير ما ذكرناه ) .

تقسيم الخبيث والطيّب إلى ما بالذات وما بالنسبة
قال رضي الله عنه :  ( ولما انقسم الأمر ) بحسب ما يظهر من الأعيان ( إلى خبيث وطيّب - كما قررناه ) من أنّ الأعيان أنفسها لا يكره ، وإنّما يكره ما يظهر منها - ولذلك ( حبّب إليه ) يعني إلى الخاتم ، الذي بيده أزمّة أمر الإظهار ( الطيّب ، دون الخبيث ) ، تحبّبا إلهيّا على ما هو مقتضى ختمه الكماليّ ، وهو غير الحبّ الطبيعي الذي له من حيث أنّه إنسان ، فإنّ طبيعة الإنسان من حيث هي مائلة إلى الطيّب والخبيث .

وهذا أيضا من خصائص عبارة « حبّب إليّ » ، فإنّ الإنسان قد يكون الخبيث عنده هو الطيّب ، ويميل إليه ميل حبّ طبيعيّ ، حسبما له من المناسبة الطبيعيّة التي في هذه النشأة العنصريّة الامتزاجيّة التي لا بدّ له من التعفّن ، حتى يحصل المزاج ، والملأ الأعلى - المفارق عن الهيولانيّات - هو المائل إلى الطيّب بالذات .

قال رضي الله عنه :  ( و ) لذلك تراه ( قد وصف الملائكة بأنّها تتأذّى بالروائح الخبيثة ) التي تتبع المزاج الإنساني ، لما ( في هذه النشأة العنصريّة من التعفين ، فإنّه مخلوق " من صَلْصالٍ " ) - وهو الطين الجافّ المنتن - وأشار به إلى المزاج الأول النباتيّ الذي له ، " من حَمَإٍ " وهو الطين المنتن الأسود ، وأشار به إلى المزاج الحيوانيّ الذي له في ثاني الحال ،

وذلك إذا تغيّر بضرب آخر من الطرق المسنونة الواضحة الاعتداليّة حصل المزاج الإنساني الذي هو الثالث من المراتب ، وإليه أشار بقوله : " مَسْنُونٍ ".

وفي سائر المراتب لا بدّ له من التغيير ، وإليه أشار بقوله : ( أي متغيّر الريح ) ، والملائكة لصفاء روحانيتها عن التغيّر المذكور جملة يتنفّر عنها بالطبع ، ( فتكرهه الملائكة بالذات ) ولا يدلّ على كراهته في نفسه فإنّ الطبائع متخالفة، والكراهة بحسب الملاءمة التي مبدؤها الطبيعة.

قال رضي الله عنه :  (كما إنّ المزاج الجعلي يتضرّر برائحة الورد ، وهي من الروائح الطيّبة ) في نفسها ، ( فليس الورد عند الجعل بريح طيّبة ) ، فالذي يكره بطبعه من ميله الذاتي وحبّه المزاجي - لا التحبّب الإلهي - سبيله في كراهة الأشياء سبيل الجعل ، وإليه أشار بقوله : ( ومن كان على مثل هذا المزاج صورة ومعنى ) - يعني في المكاره الحسيّة الجسمانيّة التي تخالف طبعه صورة ، والعقليّة الروحانيّة التي تخالف أغراضه معنى ، كما لذوي العقائد التقليديّة من أصحاب الأغراض النفسانيّة - ( أضرّ به الحقّ إذا سمعه ) - كما أضرّ بالجعل رائحة الورد - ( وسرّ بالباطل ) سروره بالرائحة الخبيثة .

قال رضي الله عنه :  ( و ) الذي يدلّ على ذلك في القرآن ( هو قوله تعالى : "وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِالله " ووصفهم بالخسران فقال : " أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ " ، " الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ " )  في عدم الإدراك والكمال العلمي الذي هو أصل بضاعة السفر الوجوديّ ، والحركة الحبّية
( فإنّه من لم يدرك الطيّب من الخبيث فلا إدراك له ) - إذ من شأن الإدراك التمييز.

قال رضي الله عنه :  ( فما حبّب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ) بالتحبّب الإلهيّ دون حبّه الطبيعيّ والنفسانيّ ( إلَّا الطيّب من كلّ شيء ، وما ثمّ )  في مشهده الختميّ ومقامه المحمود ( إلَّا هو ) ، يعني الطيّب من كلّ شيء بالتحبّب الإلهيّ لا الحبّ المزاجيّ .

هل يمكن رفع الخبيث عن العالم
قال رضي الله عنه :  ( وهل يتصوّر أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلَّا الطيّب من كلّ شيء ولا يعرف الخبيث ) من حيث المزاج والطبيعة ، لا بالتحبّب الإلهيّ ، ( أم لا ) ؟
(قلنا : هذا لا يكون ، فإنّا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر منه العالم ، وهو الحقّ ، فوجدناه يكره ويحبّ ) بهويّته الإطلاقيّة المحتوية على الأضداد وتعانق الأطراف ، ( وليس الخبيث إلا ما يكره والطيّب إلا ما يحبّ ، والعالم على صورة الحقّ ، والإنسان على الصورتين ) : صورة العالم وصورة الحقّ ( فلا يكون ثمّ ) في الإنسان وعالمه الجمعي ( مزاج لا يدرك إلَّا الأمر الواحد من كلّ شيء ، بل ثمّ مزاج يدرك الطيّب من الخبيث ، مع علمه بأنّه خبيث بالذوق ، طيّب بغير الذوق فيشغله إدراك الطيّب منه عن الإحساس بخبثه ) .

قال رضي الله عنه :  ( هذا قد يكون وأما رفع الخبث من العالم - أي من الكون ) الذي هو منشأ حدث الحدوث وخبث الخبث - ( فإنّه لا يصحّ ، ورحمة الله في الخبيث والطيّب ) على السواء من حيث الوجود ( والخبيث عند نفسه طيّب ، والطيّب عنده خبيث ) ، ضرورة أنّ أحد المتقابلين بالقياس إلى مقابله في نقص وخبث عند منعه ظهور أحكامه الخاصّة به ، ( فما ثمّ شيء طيّب إلَّا وهو من وجه في حقّ مزاج ما خبيث ، وكذلك بالعكس ) .

ثمّ إنّ هاتين المرتبتين - المشار بهما إلى القابل والفاعل - قد احتوتا على سائر مراتب الظهور .

الصلاة
قال رضي الله عنه :  ( وأمّا الثالث الذي به كملت الفرديّة ) الختميّة ( فالصلاة ) التي هي الجامعة لأمر الإظهار ، والقائمة بتفصيل أحكامه كلَّها وإذ كان مرتبة الإظهار الكماليّ الفرديّ هي التي انبسط بها عين الحقيقة الختميّة بعد جعل من الخاتم عند وضعه الصور الكاشفة عن ذلك ( فقال « وجعلت قرّة عيني في الصلاة:").
وإنما خصّ انبساط عينه الختميّة بالصلاة ( لأنّها مشاهدة ) وذلك أنهى مراتب الإظهار ، المثبت للعبد المشاهد والحق المشهود ( وذلك لأنّها مناجاة بين الله وبين عبده ، كما قال : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " ، وما لم يتمّ ظهور الطرفين - كلّ منهما على الآخر - لا يتحقّق الإظهار بكماله .

الصلاة مقسومة بين العبد والمعبود
والصلاة هي العبادة الجامعة بين الظهورين ، المستتبع للإظهارين الكماليّين أعني إظهار العبد والحقّ في المرتبة الكلاميّة الذكريّة ، التي هي أنهى مدارج الإظهار وأتمّها

قال رضي الله عنه :  ( و ) ذلك لأنّها ( هي عبادة مقسومة بين الله وبين عبده بنصفين : فنصفها لله ، ونصفها للعبد ) فإن الإظهار إنّما يتحقّق كذلك ، إذ لا بدّ له من مظهر وظاهر فالصلاة - التي هي الدعوة التامّة للحق ، والصورة الكاملة لإظهاره - لا بدّ وأن تكون منصّفة بنصفين .

قال رضي الله عنه :  (كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى إنّه قال : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل " ) فإنّ أمر الإظهار راجع إلى طلب العبد وسؤاله ، والصلاة هي غاية ذلك الطلب ، وقصارى قصده وحركته فللعبد زيادة نصيب وسهم في هذه القسمة ، حيث أنّه  قد اختصّ فيه بإجابة سؤاله وإنجاح مطلوبه .

هذا لسان الإجمال وأما لسان التفصيل في ذلك التقسيم ، فهو الكاشف عنه قوله : ( يقول العبد : " بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " . يقول الله : « ذكرني عبدي » ) فإنّه مشتمل على اسم الله الجامع ، مصرّحا فيه بالرحمتين - كما سبق بيانه - وهو غاية الإظهار الذكري .

قال رضي الله عنه :  ( يقول العبد " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ " يقول الله « حمدني عبدي » ) فإنّ الحمد تعريف للمحمود ، وأتمه ما هو بصفات الالوهيّة والربوبيّة في صورة العالمين ( يقول العبد "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ "  يقول الله : « أثنى عليّ عبدي » ) فإنّ الثناء ما يذكر من المحامد ، فيثنّى حالا فحالا ذكره ، فهو إشاعة الحمد والتعريف وتكراره ، وبهذا الاعتبار تسمّى سور القرآن « مثاني » ، لأنّها تكرر وتثنّى على مرور الأيّام .

قال رضي الله عنه :  ( يقول العبد : " مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " يقول الله : « مجّدني عبدي ، فوّض إليّ عبدي » ) على ما هو مؤدّى المالكيّة ومقتضاها من العظمة والاختيار ، ( فهذا النصف كلَّه له خالصا ثمّ يقول العبد : " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " يقول الله : « هذا بيني وبين عبدي ")
لما قد تقرّر أن بين كلّ من المتقابلين لا بدّ أن يكون جامع يحويهما ، فهذه الآية من امّ الكتاب هو الجامع بين الله وعبده ، والأول مؤدّى الكاف ، والثاني مؤدّى النون ، وهو " كُنْ " الذي به ظهر ما ظهر - فلا تغفل عن تلويحه . وبيّن أنّ سائر مراتب الظهور - كيانيّة أو إلهيّة - إنّما هو على مقتضى سؤال العبد وطلبه - كما وقفت عليه غير مرّة –
وإليه أشار بقوله  :("ولعبدي ما سأل " فأوقع الاشتراك في هذه الآية ) فهو البرزخ الجامع كما عرفت .

" غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ " . ( يقول الله : " فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل " . فخلص هؤلاء لعبده ، كما خلص الأول له تعالى ) وجمع بينهما في الآية المشتركة في الوسط .

وبيّن أنّ صور العبادات التي وضعها الأنبياء مراقي للعباد ومراصد للمنتهجين إلى مسالك الرشاد ، أكملها وأتمّها نظما هو الذي طابق الجمعيّة الوجوديّة بمبدئها ومعادها ، حتّى يمكن أن يستكشف بتلك الصورة الجعليّة عن الجمعيّة الوجوديّة ويترتّب على الوضع المذكور ما هو غايته المطلوبة منها ، وهو الكشف عن كنه ما عليه الأمر مطلقا ، من المبدء إلى المعاد .

قال رضي الله عنه :   ( فعلم من هذا وجوب قراءة : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ " ) في العبادة الكاملة ، يعني الصلاة الختميّة ، لما عرفت من المطابقة التي لها إلى مراتب الوجود ، من الإلهيّة المطلقة والعبديّة المطلقة والجامعة بينهما ، ( فمن لم يقرأها فما صلَّى - الصلاة المقسومة بين الله وبين عبده ) .

الحقّ بمرأى ومسمع المصلي
قال رضي الله عنه :  ( ولما كانت ) الصلاة المذكورة لقسمتها بين الله وبين العبد ( مناجاة ) - على ما ورد : « المصلي يناجي ربّه » - ( فهي ذكر ) ضرورة ، ( ومن ذكر الحقّ فقد جالس الحقّ وجالسة الحقّ ، فإنّه صحّ عن خبر إلهي أنّه تعالى قال : « أنا  جليس من ذكرني » ) وهو الحضور في مستقرّ التمكَّن على مجلى السمع والبصر .
أمّا الأول فظاهر ، لأنّ الذكر إنّما يتحقّق في السمع .
وأما الثاني : فلأنّ ( من جالس من ذكره - وهو ذو بصر - رأى جليسه ) بالضرورة ، وإلَّا لم يكن جليسه ( فهذه مشاهدة ) وهو الحضور بجوامع الحواسّ - ولهذا يسمّى عالم المحسوسات : عالم الشهادة - ( ورؤية ، فإن لم يكن ذو بصر لم يره ) وإن سمع كلامه .

قال رضي الله عنه :  (  فمن هنا يعلم المصلَّي رتبته : هل يرى الحقّ هذه الرؤية في هذه الصلاة ، أم لا ؟ فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنّه يراه ) وهو المسمّى بـ "الإحسان " وهو دون المشاهدة وأعلى من الإيمان الغيبي ، لأنّه مشبه بالرؤية ، وهو الصورة الخياليّة ، كما ورد في الحديث : « اعبد ربّك كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك »

قال رضي الله عنه :  ( فيخيّله في قبلته عند مناجاته ) ، فإنّ الصورة الخياليّة هي التي بمنزلة الصورة المبصرة هذا أقلّ ما للعبد في مجلى البصر في صلاته .

وأما السمع ، فقد ظهر أمره في الصلاة أيضا ( و ) ذلك لأنّه ( يلقي السمع لما يرد به عليه الحق ) ، فالصلاة الكاملة هي الجامعة بين المشهدين الكماليّين الختميّين ، على ما نبّهت عليه غير مرّة في معنى قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ".

 المصلَّي في مقام الرسالة  
هذا ما يتعلَّق بباطن الصلاة من أحكام الولاية ، وأمّا ما يتعلَّق بالظاهر منها : ( فإن كان إماما لعالمه الخاصّ به ) من الأشخاص المشتركين معه في ذلك العالم - هذا إن كان إماما - ( وللملائكة المصلَّين معه ) إن لم يكن إماما لعالمه الخاصّ به ، ( فإنّ كل مصلّ فهو إمام بلا شكّ ، فإنّ الملائكة تصلي خلف العبد إذا صلَّى وحده - كما ورد في الخبر - فقد حصل له رتبة الرسول في الصلاة ، وهي النيابة عن الله ) في الإنباء عمّا عليه الحقّ من الصفات الثبوتيّة

التي له عندما حمده الحامدون ، ( إذ قال : « سمع الله لمن حمده » ، فيخبر نفسه ومن خلفه ) - من أهل عالمه والملائكة المصلَّين معه - ( بأنّ الله قد سمعه ، فيقول الملائكة والحاضرون ) عندما بلغهم ذلك النبأ الكريم من المصلَّي : ( " ربّنا لك الحمد " ) تصديقا للمبلَّغ وإيمانا به ، ( فإنّ الله قال على لسان عبده : « سمع الله لمن حمده » ) فلسان العبد في هذا القرب آلة لقول الحقّ الذي به يفصل ، وهو المسمّى بقرب الفرائض .

المصلَّي إذا لم يحصل الدرجة المطلوبة
قال رضي الله عنه :  ( فانظر علوّ رتبة الصلاة ) ظاهرا وباطنا ( وإلى أين تنتهي بصاحبها ) ، حيث أنّه قد أوصله في مواطن الولاية بمشهدي السمع والبصر ، الذي هو أنهى مدارج الكمّل في التقرّب بقرب النوافل ، وفي مواقف النبوّة برتبة الرسالة ، المنطوية على إبلاغ قربي الفرائض والنوافل حقّهما .

أمّا الأول فلما مرّ . وأمّا الثاني فإليه أشار بقوله : ( فمن لم يحصّل درجة الرؤية في الصلاة ) تحصيل جعل منه واختيار ( فما بلغ غايتها ) المطلوبة منها ( ولا كان له فيها قرّة عين ، لأنّه لم ير من يناجيه ، فإن لم يسمع ما يردّ به الحقّ عليه فيها ) - أي في الصلاة من الكلام عند القربين المذكورين - ( فما هو ممن ألقى السمع ومن لم يحضر فيها مع ربّه ) بالمشاهدة الحسّية التي هي مواطن القرب ، وأقلَّها الموطن الخيالي ، المعبّر عنه ب « الإحسان » ، وهو المشهد الذي يحضر فيها العبد مع ربّه ( مع كونه لم يسمع ولم ير فليس بمصلّ أصلا ) ، لعدم وصوله إلى المشهد الخيالي ، المعبّر عنه بقوله : « كأنّك تراه » ، ( ولا هو ممّن ألقى السمع وهو شهيد ) .

الصلاة هي العبادة الكاملة الجامعة
فعلم من هذا أنّ الصلاة - هذه - هي الجامعة في العبادات بين قربي النوافل والفرائض ، ( و ) لذلك تراه ( ما ثمّ عبادة تمنع من التصرّف في غيرها ما دامت ، سوى الصلاة ) التي لا يسع بالقرب الوقتيّ الذي هي تنطوي عليه في الباطن ملك مقرّب ، ولا في الظاهر نبيّ مرسل .

قال رضي الله عنه :  ( وذكر الله فيها ) - وهو الذي قال الله به على لسان عبده المسمى بقرب الفرائض - ( أكبر ما فيها ) من القربات النافلة التي للعبد ، ( لما يشتمل عليه ) الذكر ( من أقوال ) في الذكر اللفظيّ ( وأفعال ) في الذكر الذي يتعلَّق بباقي الجوارح ، باطنة وظاهرة والعبادة الكاملة هي الجامعة بين الأقوال والأفعال باطنة وظاهرة ، على ما عليه الصلاة ، كما حقّق أمره في الرسالة المعمولة في أسرارها .

قال رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوحات المكيّة ، كيف يكون لأنّ الله يقول : " إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ " لأنّه شرع للمصلَّي أن لا يتصرّف في غير هذه العبادة ما دام فيها ، ويقال له : مصلّ ) ،
فالصلاة بين العبادات هي الحاصرة للعبد أن لا يتصرّف فعلا ولا قولا في غير ما شرّع فيها من الأذكار ، فهو أكبر العبادات ، ما انفكَّت شريعة منها ، وإن اختلفت صورها بحسب شرع فشرع ، "إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً " ،
قال رضي الله عنه :  ( " وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ " يعني ما فيها ) من العبادات والقربات المودعة فيها ( أي الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربّه فيها ، لأنّ الكبرياء لله تعالى ) إذ العلوّ له في ذاته ، ( ولذلك قال : " وَالله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ " ) ، وروح الذكر هو العلم ، فإنّ الصورة العلميّة هي أصله المقوّمة له ، وبيّن أنّ الذكر القائم بروحه العلميّ أكبر من الذكر الذي لا روح له .

ثمّ إنّه كما لا يتمّ وجوده إلَّا بعد العلم القائم بالمتكلَّم ، فلا يمكن أيضا إلَّا بعد إلقاء السمع القائم بالسامع ، ( و ) من ثمّة ( قال ) : " إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " يعلم - فإنّه مصدر العلم الكماليّ الذي يختص بالإنسان - ( " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " ) ، فوقع إلقاء السمع في مقابلة العلم ، فهو أيضا روحه وغايته الكماليّة ( وإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إيّاه فيها ) .

شمول الصلاة لجميع أقسام الحركات
قال رضي الله عنه :  ( ومن ذلك ) الوجوه الدالَّة على كمال الصلاة بين سائر العبادات ( أنّ الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود ) والحركات منحصرة حصرا عقليّا - من حيث ما إليه الحركة الوجوديّة التي هي المركز – إلى ثلاث حركات ، وذلك لأنّها إمّا أن يكون منه أو إليه أو عليه - لا مزيد على ذلك عقلا –
( عمّت الصلاة جميع الحركات ) ، تطبيقا لها بأصل الوجود عند سريانه في المراتب ، وتوفيقا بين الصورة الإظهاريّة الختميّة وبين الصورة الوجوديّة الظهوريّة .

قال رضي الله عنه :  ( وهي ثلاث : حركة مستقيمة ، وهي حال قيام المصلَّي وحركة افقيّة :  وهي حال ركوع المصلَّي وحركة منكوسة ، وهي حال سجوده ) .
( فحركة الإنسان مستقيمة ) ولذلك ترى الشارع قد طوّل فيه وأوجب قراءة الفاتحة المنبئة عن الصلاة الحقيقيّة والسبع المثاني في هذا الركن ، ( وحركة الحيوان افقيّة ) ، وهو أنزل رتبة من الإنسان الذي هو المصلَّي ، إلَّا أنّها أجمع وأعظم ظهورا ، لوقوعها برزخا بينهما ، ولذلك شرّع فيه التسبيح بـ « سبحان ربي العظيم » ، ( وحركة النبات ) أيضا كذلك ( منكوسة ) إنما يختصّ بما هو أنزل رتبة من المصلَّي وهي أقصى نهاية لتلك الحركة المنزلة ، وهو الأسفل مطلقا ، ولذلك شرّع فيه ذلك التسبيح بما يفصح عن أنّه الأعلى .

ثمّ إنّ قيام الإنسان بلوازم هذين المرتبتين اللتين ليستا له ، إنما هو لاشتمال نشأته عليهما وقيامها بهما من حيث أنّهما الجزءان المحاطان لصورته الاعتداليّة الكماليّة ، كما عرفت في غير هذا المجال ولذلك ترى كلا من تينك الحركتين في الوضع الختميّ متخلَّلا بين الحركة المستقيمة الاعتداليّة التي للمصلَّي بالذات ،
وهي محيطة بكلّ منهما - إحاطة الكلّ بالأجزاء - ولهذا البحث مباد كثيرة طويلة الأذناب ، قد بيّن شطر منها في الرسالة المعمولة في أسرار الصلاة .

الحركة الطبيعيّة والقسريّة
ثمّ إنّ الحركة التي تنقسم بهذه الحركات الثلاث ، هو الحركة الطبيعيّة الأصليّة التي هي مادّة الكلّ ، لأنّ هذه الأقسام كلَّها هي صورة تنوّعات تلك الحركة ، فإنّ كل نوع من الأنواع الكماليّة مختصّ بقسم من تلك الأقسام الحاصرة .

ومما يدلّ على أنّ هذه الحركة من الطبيعة الأصليّة وينبوع إطلاقها أنّ المتحرك بها جمع نوعين من الحركة ، مختلفتين بالحقيقة : أحدهما من مقولة الكمّ والآخر من مقولة الأين . أما الأول فظاهر وأمّا الثاني فلأنّ المتحرّك بتلك الحركة في الزمان السابق جزء للمتحرّك بها في الزمان اللاحق ، وبيّن أنّ مكان الكلّ مغاير لمكان الجزء بالضرورة ، فحصل له بها نقلة مكانيّة .

( و ) ظهر من هذا أنّه ( ليس للجماد حركة من ذاته ) يختصّ به ، فإنّ حركته في الجسد الإنساني إنما هو الحركة إلى المركز ، فإنّ الغالب عليه هو الثقيلان وذلك هو الحركة المنكوسة التي للنبات .

وأيضا فإنّ المتحرك بذاته إنما يقال لما يتحرّك إذا خلَّي وطبعه بدون طريان حالة غريبة ، أو سنوح أمر خارج عن ذاته ، وبيّن أنّ تينك الحركتين اللتين من الجماد ، أحدهما من المركز للخفيفين ، والآخر إليه للثقيلين ، وهما اللتان سمّيتا بالحركة الطبيعيّة في صناعة الحكمة الرسميّة - ليستا كذلك فإنّ الأجسام الجماديّة المذكورة إنما تتحرّك بتينك الحركتين إذا أخرجت عن أحيازها بقسر ، وعرض لها هذه الحالة الغريبة .

فظهر أنّ تسمية هذه الحركة التي نحن نتكلَّم عليها بالطبيعة أولى من ذلك ، فإنّ تلك الحركة إنّما عرض لها باعتبار حالة غريبة ، خارجة عن طبيعته وإليه أشار بقوله : ( فإذا تحرّك حجر ، فإنّما يتحرك بغيره ) ، فإنّ الحركة الطبيعيّة الأصليّة منحصرة في الصور الثلاث ، وهذا أيضا من سريان سرّ الفرديّة الختميّة - فتأمّل .

رجوع إلى تفسير قوله صلَّى الله عليه وآله : وجعلت قرة عيني في الصلاة
( وأما قوله : « وجعلت قرّة عيني في الصلاة » ولم ينسب الجعل إلى نفسه - فإنّ تجلَّى الحقّ للمصلَّي إنّما هو راجع إليه تعالى ، لا إلى المصلَّي ) ولذلك قيل له : « المصلَّي » ، إذ الحقّ في ذلك المضمار هو السابق ( فإنّه لو لم يذكر هذه الصفة ) الكاشفة له عن تجلَّي الحقّ - وهو الذكر الذي من الله أكبر - ( عن نفسه ، لأمره بالصلاة على غير تجل منه ) - أي من الله - ( له ، فلما كان منه ذلك ) التجلَّي ( بطريق الامتنان كانت المشاهدة ) - المعبّر عنها بقرّة العين - ( بطريق الامتنان ، فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصلاة » )
وما قال : " جعلت " ، ليدلّ أنّ المشاهدة مجعولة بطريق الامتنان في حقّه ، وإن كانت الصلاة من موضوعات النبيّ ومجعولاته ، لأنّ النبيّ من حيث أنّه نبيّ جعلها .

قال رضي الله عنه :  ( وليس ) تلك القرّة ( إلا مشاهدة المحبوب التي تقرّ بها عين المحبّ - من الاستقرار - فتستقرّ العين عند رؤيته ) استقرار تمكَّن ، وأصل ذلك من القرّ ، وهو البرد ، لأن البرد يقتضي السكون ، كما أنّ الحرارة تقتضي الحركة ، ومنه قوله تعالى : " هَبْ لَنا من أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ " وهي ما يسكَّن به العين ، فلا يطمح إلى غيره وكذلك فيما نحن فيه .

الملتفت إلى غير الحقّ في الصلاة لا صلاة له
قال رضي الله عنه :  ( فلا ينظر معه إلى شيء غيره في شيء ، وفي غير شيء ) - أي سواء كان في مظهر موجود مما يتعلَّق به المشيئة ، أو في غير ذلك من النسب الاعتباريّة الكونيّة .

وبالجملة فالغير في صلاة المشاهدة غير منظور مع المحبوب في مظهر عينيّ تشبيهيّ ، أو في غيره من المواطن الغيبيّة التنزيهيّة ، فإنّ النظر إنّما يقع في الكلّ على المحبوب فقط ، ( ولذلك نهى عن الالتفات في الصلاة ، فإنّ الالتفات شيء يختلسه الشيطان ) - الذي هو مادّة البعد والتفرقة ( من صلاة العبد ، فيحرمه مشاهدة محبوبه ) في صلاة المناجاة والمناداة مع الحقّ .

فإنّ المحبوب - بما هو محبوب - لا يمكن أن ينحرف عنه نظر التفات المحبّ ، فإذا التفت العبد إلى غير الحقّ في صلاته لا يكون الحقّ محبوب هذا العبد الملتفت ضرورة ( بل لو كان محبوب هذا الملتفت ما التفت في صلاته ) الكاشفة عن النسبة الجمعيّة الاتحاديّة ( إلى غير قبلته ) بوجهة قلبه المعبّر عنها ( بوجهه ) .

قال رضي الله عنه :  ( والإنسان ) وإن يظهر حاله عند الناس على أحسن وضع وأتمّ نظم ، ولم يزل يلقى معاذيره فيما ظهر لديهم من الذنوب ، ولكن ( يعلم حاله في نفسه :
هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصّة ) الجامعة لفنون العبادات وصنوف أركانها جملة - من الصوم الذي هو الإمساك ، والزكاة التي هي عبارة عن التطهير والحجّ الذي هو توجّه القبلة ، والجهاد الذي هو القيام بمخالفة الهوى والشيطان فيما يأمران به

وذلك هو المعبّر عنه في الشريعة بالجهاد الأكبر وبيّن أنّ كلّ أحد يعرف من نفسه عندما خلَّي وإيّاها أنّ له من هذه الصورة الجامعة حظَّ الجمعيّة الكماليّة .

قال رضي الله عنه :  ( أم لا ؟ فإنّ " الإِنْسانُ عَلى نَفْسِه ِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَه ُ " فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأنّ الشيء لا يجهل حاله ) بناء على الأصل الممهّد : " إنّ العلم يلازم الوجود ، ولا يفارقه أصلا " .
فكل شيء له علم بحسب مدارج دركه ومداركه المختصّة به ، ولذلك يجهل الآخر عن وجه ظهور العلم فيه وإظهاره منه ، كما نصّ عليه قوله تعالى : " وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ "
وبيّن أنّ مدرجة الذوق من كلّ شيء هي جهة خصوصيّته التي له إلى أصله ، ولذلك يرتبط به اليقين ، وإليه أشار بقوله : ( فإنّ حاله له ذوقي )

 الصلاة لها قسم آخر
ثمّ إنّ هذا الكلام في حقيقة الصلاة ذات الأركان ، واسم الصلاة قد يطلق عليها وعلى غيرها بحسب تخالف الأوضاع ، والكلّ مسمى الصلاة ، ولذلك قال : ( ثمّ إنّ مسمّى الصلاة له قسمة أخرى ، فإنّه تعالى أمرنا أن نصلَّي له ، وأخبرنا أنّه يصلَّي علينا ) ، وخبره صدق وكلامه حقّ ، ( فالصلاة منّا ومنه ) ، ولا بد من تحقيق الصلاتين وتبيين أمرها في الطرفين .

قال رضي الله عنه :  ( فإذا كان هو المصلَّي ، فإنّما يصلَّي باسمه الآخر ) الذي هو من أسمائه الكليّة التي تحقّقت بها الهويّة الإطلاقيّة ، ( فيتأخّر عن وجود العبد ) عندما يكون مسمّى ذلك الاسم ضرورة ، لأنّه إضافة ونسبة ، وما ثمّ غير الحقّ والعبد ، والمتأخّر

قال رضي الله عنه :  ( هو عين الحقّ الذي يخلقه العبد في قلبه ، بنظره الفكريّ ) - إن كان ذا رأي ونظر ( أو بتقليده ) إن لم يكن له ذلك الرتبة ، وكأنّك قد اطَّلعت فيما تقدّم على تحقيق من هذا الكلام وزيادة بسط فيه ، فلا يحتاج إلى الإعادة .
( وهو الإله المعتقد ) الذي يختلف صورة بحسب استعداد المعتقد ومبلغ كماله ( ويتنوع ) صورة ذلك المعتقد ( بحسب ما قام بذلك المحلّ من الاستعداد ) تنوّع صورة الماء مثلا بحسب ما قام بمحلَّه من الأعراض المحسوسة التي أجلاها اللون .

قال رضي الله عنه :  ( كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللَّه والعارف ) يعني عن النسبة التي بينهما وإذ كان النسبة المسؤول عنها إنّما هي ما بين الصورة المعتقدة والمعتقد لها ، قال : « عن المعرفة باللَّه » ، لا " عن الله " ، إشعارا بذلك المعنى ( فقال : « لون الماء لون إنائه » وهو جواب سادّ ) حيث طابق النسبة المسؤول عنها بطرفيها سالما عن خلل النقص والزيادة ، كاشفا عن أمر النسبة وتبيين حالها بما لا مزيد عليه ،
مشيرا إلى ذلك بقوله : ( أخبر عن الأمر بما هو عليه ) حيث خصّص بالإله المعتقد على ما هو رتبة السائل ، وعمّم ذلك بحيث يشمل جميع المعتقدات ،
كما قال الشيخ نظما :
عقد الخلائق في الإله عقائدا  .... وأنا شهدت جميع ما اعتقدوه
وهذا كلَّه موطن أرباب العقائد - تقليديّة كانت ، أو فكريّة برهانيّة - وصاحب الذوق الإحاطيّ له في هذا الموطن رتبة الجمع ، والسابق في تلك الرتبة هو الحقّ ، والعبد هو المصلَّي ، كما قيل :
يقولون :
لون الماء لون إنائه  ....  أنا الآن من ماء إناء بلا لون
كما أنّ العبد في الأولى له رتبة التقدّم ،
ولذلك قال : ( فهذا هو الله الذي يصلَّي علينا ) في صورة اسمه الآخر ، ( وإذا صلَّينا نحن كان لنا الاسم الآخر ) وهو الأول ، ( فكنّا فيه كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ) كما ظهر أمره في الصورة الأولى ، ( فنكون ) نحن ( عنده بحسب حالنا ) التي نتحوّل عليها في طيّ الأطوار والأدوار ، ( فلا ينظر ) الحقّ ( إلينا إلَّا بصورة ما جئناه بها ) في كلّ لحظة ولمحة من تلك الأحوال السريعة الزوال .

ثمّ هاهنا نكتة خفيّة لا بدّ من الاطلاع عليها ، وهي أنّ مقتضى العبوديّة والتقيّة الأسمائي هو الحصر في صورة معيّنة ، كما أنّ مقتضى الالوهيّة والإطلاق الذاتي إنّما هو عدم الحصر في صورة والتقيّد بحال .

إذا عرفت هذا ، فإذا كان الحقّ هو المصلَّي والسابق ، إنّما يكون العبد حينئذ لا بدّ وأن يكون قبلة التوجّه في تلك الصلاة ، صورة عقديّة عقليّة معيّنة - كما سبق بيانه .
وإذا كان العبد هو المصلَّي ، يكون السابق حينئذ الحقّ لا غير ، فيكون قبلة التوجه في تلك الصلاة صورة علميّة انشراحيّة غير معيّنة بحال ، ولا محصورة في صورة .

وقد أشار في طيّ عبارته إلى هذه الدقيقة إشارة خفيّة ، إنّما يتفطَّن لها اللبيب من قوله : « بحسب حالنا » وقوله : « جئناه بها » ، أي بتلك الصور المتحوّلة التي جاء العبد حقيقة معها ، فإنّ السابق في مثل تلك الصور المتحوّلة إنّما هو الحق ، والمصلَّي هو العبد .

قال رضي الله عنه :  ( فإنّ المصلَّي هو المتأخّر عن السابق في الحلبة ) فصلاة العبد هو الذي لكل واحد من الصور المتحوّل عليها العبد في كلّ وقت ، مما هو من أصل الإطلاق الذاتيّ ، وذلك أولا وبالذات للحقّ ، وثانيا وبالعرض للعبد وما للعبد بحسب ذاته هو ما يعطيه استعداده الأصليّ من التنزيه الصرف الثابت ، الذي لا تحوّل فيه ولا تغيّر عنه بحال .

قال رضي الله عنه :  ( وقوله تعالى : " كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه ُ وَتَسْبِيحَه ُ " ) إشارة إلى تينك المرتبتين فإنّ قوله : " صَلاتَه ُ " ( أي رتبته في التأخّر عن عبادة ربّه ) عند التحوّل معه في شؤونه فإنّ العبد تلويحه كاشف عن أنّه هو العين الدائر بربّه فيما هو فيه من الشؤون في كلّ يوم .

قال رضي الله عنه :  ( وتسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده ) ، فإنّ أصل الاستعداد إنما يعطي التنزيه ، فإن كان ذلك الاستعداد متوقّفا عند الرسوم ، ما يعطي إلَّا التنزيه الرسمي ، وإن كان من السالكين مسالك الحقيقة فتنزيهه تنزيه حقيقيّ - كما عرفت .

ثمّ إنّ لكلّ من الموجودات علمين : أحدهما وجوديّ إطلاقيّ ، وهو الذي يتعلَّق بحاله المتحوّلة بها لحظة فلحظة ، وهو الذي به يصلَّي ويحمد.

 والآخر عدميّ نسبيّ ، وهو الذي يتعلَّق بخصوصيّته الخاصّة الثابتة التي يعطيها أصل استعداده ، وهو الذي به يسبّح وبيّن أنّ هذه الخصوصيّة أيضا من جملة تلك الأحوال عند التحقيق .

ما من شيء إلا وهو مسبّح لربّه
قال رضي الله عنه :  ( فما من شيء إلَّا وهو يسبّح بحمد ربّه ) أي تنزّهه عن الخصوصيّة التي أظهره بتلك الخصوصيّة تعيّن تلك الخصوصيّة ، على ما هو حقّ التسبيح والتنزيه ، يعني التسبيح بعين الحمد والتنزيه في نفس التشبيه . هذا إذا أعيد ضمير بحمده إلى « الرب » ، أي بحمد ربّه .

( الحليم ) وهو الذي تنزل إلى رتبة من دونه في القدر ، وهو مقتضى الحمد الذي هو ظهور الحقّ بصور الأشياء وإظهارها له ، فإنّ الحمد إنّما هو الإظهار والتعريف .
( الغفور ) وهو الذي يستر ذلك التنزّل ، كما هو مقتضى التنزيه والتسبيح .
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ مبدأ ذينك الحمد والتسبيح هو الخصوصيّة من كلّ أحد ، إذ بها يسبّح بالحمد ، كما لا يخفى على الواقف بالأصول الممهّدة قبل ، ( ولذلك لا يفقه تسبيح العالم واحدا واحدا ) على التفصيل فإنّ خصوصيّة كلّ أحد لا دخل للآخر فيه ، وإلَّا لا يكون خصوصيّة له .

إله المعتقد مصنوع معتقده  
هذا كله في التسبيح والحمد اللذين في صلاة العبد ، فأمّا إذا أخذا على ما هو في صلاة الحقّ ، فالضمير المذكور حينئذ إنّما يعود إلى الشيء ، وإلي ذلك أشار بقوله : ( وثمّ مرتبة يعود الضمير إلى العبد المسبّح فيها ) ، أي في تلك المرتبة ، فإنّ أصل التسبيح في صلاة الحقّ إنّما هو للعبد والحقّ فيها تابع مصلّ وذلك الضمير هو الذي

قال رضي الله عنه :  ( في قوله : " وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ " أي بحمد ذلك الشيء ، فالضمير الذي في قوله : " بِحَمْدِه ِ " يعود على الشيء ، أي بالثناء الذي يكون عليه ) فإنّ الحمد هو الثناء بالجميل ، وبيّن أنّ كلّ أحد إنّما يحمد ويثنى الصورة الاعتقاديّة التي جعلها إلها لنفسه ،

قال رضي الله عنه :  ( كما قلنا في المعتقد إنّه إنّما يثنى على الإله الذي في معتقده ) عندما يصلَّي بالصلاة العبدانيّة ، ( فتربط به نفسه ) ربط العبيد بالإله ، والفروع بالأصل وبيّن أنّ تلك الرابطة لقرب المربطين وثيقة جدّا ، فإنّ تلك الصورة عمل المعتقد ، ( وما كان من عمله فهو راجع إليه فما أثنى إلَّا على نفسه ، فإنّه من مدح الصنعة فإنّما مدح الصانع بلا شكّ ، فإنّ حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها ) والمدح والذمّ راجعان إليه .

قال رضي الله عنه :  ( والإله المعتقد مصنوع للناظر فيه ) إن كان ذا نظر ، وأمّا المقلَّد فهو إنما يقلَّد ذا نظر ، فإلهه أيضا مصنوع للناظر فيه ( وهو صنعته ) المعمولة بيدي مقدّمتيه ، ( فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ، ولهذا يذمّ معتقد غيره )

فإنّه على خلاف ما صنعه ، ( ولو أنصف ) إنصاف عارف بالأمر ( لم يكن له ذلك ) فإنّ الكلّ مجالي صور المعبود الحقّ .

قال رضي الله عنه :  ( إلَّا أنّ صاحب هذا المعبود الخاصّ جاهل بلا شكّ في ذلك ) ضرورة أنّ نظره إنّما هو على الخصوصيّة المصنوعة المعمولة ( لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في الله ) الجامع لجميع الأسماء بحقيقته الكليّة الجمعيّة الأحديّة ،

( إذ لو عرف ما قال الجنيد - « لون الماء لون إنائه » - لسلَّم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده ) فإنّ اللون الذي اكتسبه الحقّ في ذلك المعتقد عين لون الحقّ ، وتلك الصورة صورة الحقّ ، ( وعرف الله في كل صورة وكل معتقد فهو ظانّ ، ليس بعالم ) ضرورة أن صاحب الاعتقاد فيما عقده عليه ما وصل إلى مرتبة العلم اليقيني والانشراح الصدري ، فإنّه بعد في مرتبة العقد العقلي ، فهو داخل في مرتبة الظنّ

قال رضي الله عنه :  ( فلذلك قال ) : تطمينا لجميع أرباب العقائد : ( « أنا عند ظنّ عبدي بي » أي لا أظهر له ) ظهور ما تبيّن عند الشخص ( إلَّا في صورة معتقده ، فإن شاء أطلق ) في سائر الصور الاعتقاديّة ، كما هو عند أهل الذوق والكشف ، ( وإن شاء قيّد ) بصورة خاصّة فيها على ما هو عند أصحاب النظر والتقليد . وبيّن أنّ الحقيقة ما لم تكن محصورة تحت انضباط الصورة لا يقبل الحدّ أصلا ، على ما لا يخفى عند الواقف بأساليب طريق العقل وميزانه ، وإليه أشار بقوله : ( وإله المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الذي وسعه قلب عبده )

باعتبار إحاطته إيّاه وحصره صورته المحصورة به وفيه ، ( فإن الإله المطلق ) من حيث أنّه مطلق ( لا يسعه شيء لأنّه عين الأشياء ، وعين نفسه ، والشيء لا يقال فيه : « يسع نفسه » ، ولا « لا يسعه » ) فإنّك قد نبّهت من قبل في المقدّمة أنّ من شأن الهويّة الإطلاقيّة جمعيّة الأضداد وتعانق الأطراف وبيّن أنّ صدق الضدين معا يستلزم كذبهما معا ، فهو قد آثر صورة النفي هاهنا في التعبير عن هذه اللطيفة لما في النفي من المناسبة إلى الإطلاق .

قال رضي الله عنه :  ( فافهم ) فإنّه من فهم هذه الدقيقة فهو على أبين السبل وأقرب الطرق من فهم الإطلاق الذاتي .
( والله يقول الحق ) بالقول الثابت القرآنيّ الختميّ ( وهو يهدي السبيل ) إلى مدارك لطائفه الختميّة .

فبلطائف نقوش الختم انختم الكتاب ونجز التعليقات عليه في يوم الجمعة ، عشرين من الصفر ، ختم بالخير والظفر ، بسنة أربع عشر وثمان مائة حامدا لله ومصليّا على الخاتم والسلام .
 .
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment