Saturday, January 18, 2020

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفص الداودي
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالكمالات الوجودية المذكورة ، التي لأجلها كان كل الوجود ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى داود عليه السّلام ؛ لجمعه بين كمال النبوة بما أوتي من الحكمة ، وفصل الخطاب ، وكمال الولاية بما أوتي من تأويب الجبال والطير معه في التسبيح ، وكمال الخلافة بالتنصيص الإلهي عليها دون خلافة آدم وسائر الخلفاء من ذريته ، وكمال الهيئات الخاصة كسليمان عليه السّلام .

(اعلم أنّه كانت النّبوّة والرّسالة اختصاصا إلهيّا ليس فيها شيء من الاكتساب أعني نبوّة التّشريع ، كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السّلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء ، ولا يطلب عليها جزاء ؛ فإعطاؤه إيّاهم على طريق الإنعام والإفضال ، فقال تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ[ الأنعام : 84 ] يعني لإبراهيم الخليل عليه السّلام ، وقال في أيّوب عليه السّلام :وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ[ ص : 43 ] ؛ وقال في حقّ موسى عليه السّلام :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا[ مريم : 53 ] إلى مثل ذلك ؛ فالّذي تولّاهم أوّلا هو الّذي تولّاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرها ، وليس إلّا اسمه الوهّاب ) .

فأشار أولا إلى أن هذه الأمور بلغت أولا من الكمال بحيث لا يقابلها شيء ، فلا يقع جزاء على شيء ، ولا يطلب صاحبها بعمل أو شكر ، فقال : ( اعلم أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيّا ) لعبده ابتداء بتكميله بطريق الجذب ( ليس فيها شيء من الاكتساب ) ، وإلا كان الكسب علته ، وهي أعلى من المعلول ، فلا يكون هذا من الكمالات المطلقة التي هي المقصودة بالذات .
ثم فسّر النبوة بقوله : ( أعني نبوة التشريع ) ؛ ليشير إلى أنها وإن كانت أدنى من ولاية النبي ونبوته العالية ؛ فهي لا تكون إلا لمن يكون جامعا للولاية والنبوة العالية ، فهي نهاية الكمالات باعتبار انضمامها معهما ، وهذا لازم لها ، فكأنها أكمل الأشياء بالذات ( كانت عطاياه تعالى لهم عليه السّلام من هذا القبيل ) أي : الاختصاص الإلهي ليست في مقابلة شيء سابق أو لا حق ، فكانت ( مواهب ليست جزاء ) على ما سبق منهم ، وإلا لاستحقه من سبق له مثله ، فيلزم أن يساويهم آحاد أممهم في ذلك ، ( ولا يطلب عليها جزاء ) من عمل أو شكر ؛ لأنه إن طلب ما لا يكافئها ، فلا يليق بالحكم الجواد ذلك ، وإن طلب المكافئ عجزوا في جميع وجوهها بخلاف ( إعطائه ) في حسنات غيرهم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فصاعدا ،

فإن في ذلك وجه مقابلة العمل في الجملة ؛ ولذلك لم يكن هذا ( كإنعامه ) على سائر العمال في التضعيف بل بطريق ( الإفضال ) لهم على غيرهم من كل وجه .
واستدل على هذا بالاستقرار لما ورد في عطاياهم إذ نسب جميعها إلى اسمه الوهاب الذي لا يكون عطاؤه في مقابلة شيء أصلا بقوله : فقال :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ[ الأنعام : 84 ] ، ولما توهم عود الضمير إلى داود لسوقه نص الكلام في حقه فسره بقوله :
( يعني لإبراهيم الخليل ) ، ( وقال في حق أيوب :وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) [ ص : 43] ،
(  وقال في حق موسى عليه السّلام :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا[ مريم : 53 ] إلى مثل ذلك ، كقوله :وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ[ ص : 30 ] ،
وإذا كانت عطاياهم كنبوتهم في امتناع دخول الكسب فيهما ، ( فالذي تولاهم ) من أسماء اللّه تعالى ( أولا ) بإعطاء النبوة ( تولاهم آخرا ) بإعطاء المواهب ( في عموم أحوالهم أو أكثرها ) تردد لجواز أن يكون لهم أعمال يجزون عليها بمقدار ما يجزى به الكل في أممهم في التضعيف لا أزيد منه ، ( وليس ذلك ) المتولي ( إلا الاسم الوهاب ) ، وإن اقتضى كل عطاء اسما خاصّا ، وأيضا وإن كان لكل نبيّ اسم كلي إلهي خاص لا يكون لغيره إلا أنها في الهبة راجعة إلى هذا الاسم ، لكن إنما يعلو عطاؤه بمساعدة تلك الأسماء ، وإلا نقص بقدر عدم مساعدتها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال في حقّ داود عليه السّلام :وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا[ سبأ : 10 ] فلم يقرن به جزاء يطلبه منه ، ولا أخبر أنّه أعطاه هذا الّذي ذكره جزاء ، ولمّا طلب الشّكر على ذلك العمل طلبه من آل داود ، ولم يتعرّض لذكر داود ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ، فهو في حقّ داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حقّ آله على غير ذلك لطلب المعاوضة ؛ فقال تعالى :اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ[ سبأ : 13 ] .
وإن كانت الأنبياء عليهم السّلام قد شكروا للّه على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك على طلب من اللّه ، بل تبرّعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى تورّمت قدماه شكرا لما غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ؛ فلمّا قيل له في ذلك قال : « أفلا أكون عبدا شكورا » ؟ رواه البخاري ومسلم  
وقال في نوح :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً[ الإسراء : 3 ] ، والشّكور من عباد اللّه تعالى قليل ، فأوّل نعمة أنعم اللّه بها على داود عليه السّلام أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتّصال ، فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرّد هذا الاسم ، وهي الدّال والألف والواو ) .

ثم رجع إلى المقصود من تمهيد هذه المقدمة مع الاستدلال على أن فعل الوهاب لا يقتضي من الموهوب له شيئا في مقابلة ما وهبه بقوله : ( وقال في حق داود :وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا )[ سبأ : 10 ] ، ( فلم يقرن به جزاء ) من عمل أو شكر ( يطلبه منه ) في المستقبل ، إذ لم يقل أن اشكر للّه أو اعمل له ، ( ولا أخبر أنه إعطاء هذا الذي ذكره من الفضل جزاء ) على ما مضى منه إذ لم يقل جزاء على كذا ، بل صرّح بأنه اختصاص منه ، إذ قال : منا .

( ولما طلب الشكر على ذلك بالعمل طلبه من آل داود ) ، كالدية على العاقلة تدفع عن الجاني ؛ لكونه أخطأ مع أن تضييع الدم صعب ، فألزم من يأخذ منه الإرث أن يتحمل عنه الدية إذ الغرم بالغنم ، ( ولم يتعرض لداود ) ، فلم يقل له : وقل لا لك أن اشْكُرُوا لِلَّهِ[ البقرة : 172 ] ، وإن كان هذا الأمر ؛ ( ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ) من حيث إنه واسطة كمالاتهم وسببها ، وبه مباهاتهم بين أقرانهم ؛ لأن امتثال هذا الأمر نوع شكر على ما أنعم به عليه ، وهو إشارة إلى أنه يعرض له عليه السّلام أن يأمر آله بالشكر على ما أنعم عليهم خاصة .
( فهو ) أي : الفضل المعطى لداود ( في حق داود عليه السّلام عطاء نعمة ) انتفع بها في الدنيا والآخرة ، ( وإفضال ) فضل بها أكثر الأنبياء - عليهم السّلام - لم يطلب عليه الشكر منه ، ولا أمره بطلبه من آله ، ( وفي حق آله ) ، وإن لم يكن نعمة عليهم وفضلا بالذات ، بل بواسطة كونه سببا لما أنعم به عليهم ( على غير ذلك ) الوجه ،
أي : وجه الإنعام والإفضال ؛ ( لطلب المعاوضة ) وهي الشكر منهم على ما هو سبب الإنعام عليهم ، فقال تعالى مخاطبا للآل ابتداء :اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً[ سبأ : 13 ] أي : على ما أنعمت به على داود ؛ لارتباط ما أنعمت به عليكم بإنعامي عليه ، فهو في حكم إنعامي عليكم .

ثم عظّم أمر هذا الشكر حتى أشار عزّ وجل إلى أنه عجز الأكبر منهم عن شكر هذا الإنعام على داود من حيث كونه سبب الإنعام عليهم فضلا عن المنعم عليه ، فقال :وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ[ سبأ : 13 ] ؛ لقلة من يعرف مقدارها ، ومقدار ما وصل إليه منها مما يوجب قربه من ربه ، والتنعم بجواره من دار خلده ( مع أن من عرف مقدارها لم يطالبوا بشكرها ) ، وهم الأنبياء - عليهم السّلام ، ( وإن كانت الأنبياء - عليهم السّلام - قد شكروا اللّه تعالى على ما أنعم به عليهم ) ، وإن كانت نعما جليلة تعجزون عن الشكر عليها ؛ لكنهم لعرفانهم بذلك العجز يصيرون شاكرين لها ، وإن كان الحق قد ( وهبهم ) تلك النعم ،

( فلم يكن ذلك ) الشكر منهم ( على طلب من اللّه ) ، وإن طالبهم بالشكر على نعم أخرى تشاركهم فيها أممهم ، كما قال في حقّ لقمان على إيتاء الحكمة :وَاشْكُرُوا لِلَّهِ[ البقرة : 172 ] ، وكذا كلف سائر الأنبياء - عليهم السّلام - أعمالا لهم في الإتيان بها شاكرون ، لكن ليس ذلك في النعم الخاصة كالنبوة والولاية والخلافة .

( بل تبرعوا بذلك من عند نفوسهم ) لما عرفوا أن الشكر موجب للمزيد ، وهم وإن أنعموا بهذه النعم العظيمة في الغاية ، فلا نهاية لمراتب القرب من اللّه تعالى ، والدليل على كونهم متبرعين بالشكر أنه ( قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) متهجدا ( حتى تورمت قدماه شكرا ، لما غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) ، فلا يتصور فيه تكليف ، ( فلما قيل له في ذلك ) القيام لم يكون مع عدم الموجب له بذلك هذا الغفران ،
( قال : « أفلا أكون عبدا شكورا ») ، وإن لم يجب عليّ ذلك ، لكن إنما تكمل عبوديتي والتحقق بالاسم الشكور بهذا الفعل ، ويتحقق المزيد بذلك ، فهذا وإن دلّ على شكره عليه السّلام كان عليه نعمة مشتركة بينه وبين أكمل أمته ، وهي غفران الذنوب ، فلنا دليل آخر على شكر الأنبياء - عليهم السّلام - على مطلق ما أنعم به عليهم من المشتركة والخاصة ، وهو ما ( قال تعالى في حق نوح عليه السّلام :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً )[ الإسراء : 4 ].
 أي : على جميع النعم الخاصة والمشتركة ، وإذا كانت النعم على الأنبياء نعما على الأمم ، ولا يعرفون مقدارها إلا نادرا ، بل لا يعرفون مقدار ما أنعم به عليهم بذواتهم أو بواسطة هذه النعم التي على أنبيائهم .
( فالشكور من عباد اللّه ) المخصوصين بالإضافة إليه ؛ لكونهم من أمة الإجابة ( قليل ) ، وإن قاموا بالصلاة والصيام وسائر أنواع العبادات فضلا عن غيرهم ،
"" أضاف المحقق : الشكور : من لا يرى لغير اللّه نعمة ، وهذا هو الشاكر للّه حق شكره إنعاما منه ، لقوله لموسى عليه السّلام : « إذا رأيت النعم ؛ فقد شكرتني حق الشكر » ، وهذا هو العبد المشاهد نعمة اللّه في كل بلاء وعافية . ( لطائف الإعلام ص 224 ) .""

بل إنما يأتي من الأنبياء أو الأولياء الكمّل لا غير من أن غاية شكرهم أن يعرفوا عجزهم عن القيام بحقيقة شكره ،
ويعترفوا أن شكرهم لو تمّ باعتبار نعمة من النعم ، فهو أيضا نعمة موجبة لشكر آخر إلى أن يتسلسل ، وكيف يتأتى للعامة شكرها ، والحق لم يعرفها إياهم ،
وإنما عرفها من عرفها بإيماء خفي يختص بفهمه خاصة الخاصة دون غيرهم ، بل إنما عرفهم بذلك الطريق مقدماتها دونها .
( فأول نعمة ) من النعم الوهبية التي مقدمة لسائرها ( أنعم اللّه بها على داود ) ، وهي نعمة انقطاعه عن العالم الموجب كمال اتصاله بربه ، إنما دلّ عليها بأشكال الحروف التي تركب عنها اسمه ، وذلك ( أن أعطاه أسماء ليس فيه حرف من حروف الاتصال ) بما بعده في الخط العربي ، ( فقطعه ) .
أي : دلّ على قطعه ( عن العالم بذلك ) الاسم من حيث إن الحكيم إذا سمى شخصا باسم راعى فيه المناسبة بينه وبين مسماه بوجه من الوجوه ، والمناسبة التامة أولى بالاعتبار ، وهي الشاملة لكل الحروف ، وهي هاهنا إنما هي لمناسبة الخطيئة الدالة على القطع عن المتأخر ، وهو العالم باعتبار حدوثه مع أن لكل حرف منها قوة الاتصال بما تقدمه ، والقطع عن العالم يستلزم الاتصال بالحق القديم ، فكأنه دلّ التزاما على اتصاله بالحق ، ( إخبارا لنا )
 أي : لأهل الخصوص منا ( بمجرد ) خط حروف ( هذا الاسم ) المركب من حروف الانفصال ، ( وهي الدال ، والألف ، والواو ) المنفصلة بما بعدها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمّى اللّه محمّدا عليه الصّلاة والسّلام بحروف الاتّصال والانفصال ، فوصله به وفصله عن العالم فجمع له بين الحالتين في اسمه كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ، ولم يجعل ذلك في اسمه ،
فكان ذلك اختصاصا لمحمّد - صلوات اللّه عليه - أعني : التّنبيه عليه باسمه ، فتمّ له الأمر - عليه الصلاة والسّلام - من جميع جهاته ،
وكذلك في اسمه " أحمد " فهذا من حكمة اللّه تعالى ، ثمّ قال في حقّ داود عليه السّلام ، فيما أعطاه إيّاه على طريق الإنعام عليه ، ترجيع الجبال معه بالتّسبيح ، فتسبّح لتسبيحه ليكون له عملها ، وكذلك الطّير ، وأعطاه القوّة ونعته بها ، وأعطاه الحكمة وفصل الخطاب .
ثمّ المنّة الكبرى والمكانة الزّلفى الّتي خصّه اللّه تعالى بها التّنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ، وإن كان فيهم خلفاء ؛
فقال :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى[ ص : 26 ] أي : ما يخطر لك في حكمك من غير وحي منّي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[ ص: 26 ] ، أي :
عن الطّريق الّذي أوحي به إلى رسلي ) .
ثم أشار إلى تفضيل نبينا عليه السّلام على داود باعتبار اسمه المشهور ، فقال : ( وسمي محمدا ) بحروف ( الاتصال والانفصال ) ، وهي الحاء الحلقية ، والميم الشفوية ، والدال اللسانية ،

"" أضاف المحقق :
الاتصال : هو مقام توارد الإمداد من حضرة الكريم الجواد ، وهو أحد المنازل العشرة التي يشتمل عليها قسم الحقائق ، فإن السائر إلى اللّه تعالى إذا انتهى به إلى مقام البسط الذي يوجب السكر ؛ فإن ارتقى عنه إلى مقام الصحو نزل بعده في منزلة الاتصال ، ثم ينفصل عن رؤية الاتصال المنبئ عن نوع من الانفصال .
والانفصال : مقام فوق الاتصال الذي مرّ ذكره لأن فيه يحصل الانفصال عن رؤيتهما ، أعني رؤية الاتصال والانفصال لكونهما عين الاعتلال ( لطائف الإعلام ص 5 )"" .

( فوصله به ، وفصله عن العالم ) أي : دل بوصل حروفه أولا على اتصاله بالقديم ، وبفصل الحرف الأخير منه على انقطاعه عن العالم الحادث ، وراعى فيه لطيفة أخرى هي أنه وصل ظاهريته بباطنيته أولا ، ثم ظاهريته بالجامع بين الظاهر والباطن المتوسط بينهما مع اعتبار انفصاله عن الحدوث ؛ لأنه إذا كان هو الظاهر والباطن جميعا ، فلا غيرة للعالم معه ،
( فجمع له ) أي : لمحمد عليه السّلام بين الحالتين الاتصال بالحق القديم ، والانفصال عن العالم الحادث ( في ) دلالة ( اسمه ) باعتبار اتصال بعض حروف وانفصال بعضها في الخط عليهما .
( كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ) ، بأن كان اتصاله بالحق مدلولا لمدلول انفصال الحروف ، وهو انفصاله عن العالم ؛ فإنه يدل بطريق نسبة دلالة الالتزام على اتصاله بالحق ؛ لأن انفصاله عن العالم مع كونه خليفة عليه لا يكون إلا لاتصاله بالحق ، ولكن ( لم يجعل ذلك ) الجمع داخلا في مدلول انفصال الحروف ( اسمه ) ، بل يكون مدلولا لهذا المدلول بطريق نسبة دلالة الالتزام مع عدم ظهور القرينة ،
( فكان ذلك ) الجمع بينهما في اسم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ( اختصاصا لمحمد ) فضل به على داود ( صلوات اللّه عليهما ) ؛ لقصور الدلالة الالتزامية عن دلالة المطابقة فيما دلّ بالوضع ، فكيف فيما يشبهها فيما دلّ على الملزوم بطريق الرمز الخفي مع خفاء القرينة ، فتكون هذه الدلالة كالعدم ، وعدم الدال ، وإن لم يدل على عدم المدلول ؛ فهو يشبه الدال على عدم المدلول فيدل وجود هذا الدال في حق محمد على جمعيته على كمال هذا المدلول فيه ، وعدمه في حق داود كأنه يدل على قصور هذا المدلول فيه .
ثم قال : ( أعني التنبيه عليه باسمه ) ؛ لئلا يتوهم أن لفظة ذلك إشارة إلى الجمع بين الاتصال والانفصال مطلقا ، وهو باطل لحصول ذلك الجمع لداود عليه السّلام من طريق المعنى ، وإذا كان الانفصال دلالة على الاتصال بطريق يشبه الالتزام ، وقد حصل الاتصال أيضا بالفعل في اسم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ،
( فتم له ) أي : لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ( الأمر ) أي : أمر الجمع بينهما ( من جميع جهاته ) أي : من جهة ما يشبه دلالة المطابقة ، وما يشبه دلالة الالتزام على الاتصال الذي هو المقصود بالذات ، وقد تأكد ذلك بتكريره مع تحقق ما يشبه دلالة المطابقة على ما يقصد لأجله وهو الانفصال أيضا .

( وكذلك ) أي : كما جمع له بينهما في اسمه محمد كذلك جمع له ( في اسمه أحمد ) ؛ لأن الألف والدال فيه من حروف الانفصال ، فدل على انفصال أوليته وآخريته عن الخلق ، والحاء والميم فيه من حروف الاتصال ،
فدل على اتصال باطنيته وظاهريته بالحق ،
لكن اعتبر في الدلالة الأولى موقع الحرف ،
وفي الثانية مخرجه مع الدلالة الخطية جمعا بين وجوه المناسبة الكثيرة حيث لم تكن المناسبة الواحدة شاملة للحروف ، ( فهذا ) أي : فهم هذه الأمور من هذه الاعتبارات مأخوذ ( من حكمة اللّه ) الموجبة رعاية المناسبة بين الاسم والمسمى ،
وإن لم يكن للاسم هذه الدلالة لا بالفعل ولا بالوضع مطابقة أو تضمنا أو التزاما ، ويكفي في ذلك أنه ( تعالى ) ألهم أصولها أن يسموها بما يدل بمناسبة الخط ، والموقع ، والمخرج على هذه الأمور الجليلة ، وإن لم يشعرهم بذلك .

ثم أشار رحمه اللّه تعالى : إلى نعم أخرى على داود عليه السّلام طالب آله بالشكر عليها ، وإن لم يشعر بوجه كونها نعما عليه أو عليهم إلا بطريق دقيق لا يدركه إلا آحاد أهل التحقيق ،
فقال : ( ثم قال في حق داود عليه السّلام فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه ترجيع الجبال معه التسبيح ) ، ووجه الإنعام به عليه أنه يحصل له ثواب تسبيحهم ، وإن كانت عبادة شخص لا تحصل لغيره حتى لا يصح فيها التوكيل إلا أن الجبال لما لم تكن من أهل الجزاء ، فلابدّ من أن يحصل ثواب عملها لغيرها ، وإلا كانت أعمالها ضائعة بالكلية ،
وليس البعض أولى من الآخر إلا بنسبة السببية ، وهي منه عليه السّلام ؛ لأنه عليه السّلام كان يسبح " فتسبح " الجبال " لتسبيحه " ، وليست من أهل الثواب ،
وهي إنما سبحت ( ليكون له عملها ) ، فتسبيحها نعمة عليه موجبة للشكر على آله من حيث إنه لما حصل له التقرب إلى اللّه تعالى بأعماله وأعمال غيره استفاض منه ما أفاض عليهم فيما أفادهم الكمالات ، ومن جملة ما أعطاه على وجه الإنعام ، وأوجب الشكر على آله ، ولم يشعر بموجبه إلا بالطريق الخفي .

( أعطاه القوة ) على الجمع بين أمور الدنيا والدين ، ( ونعته ) أي : مدحه بها ؛ بقوله :وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ ص : 17 ] ، ( وأعطاه الحكمة ) العلم اليقيني بحقائق الأشياء وصفاتها وخواصها مع تأتي وضع كل في مواضعها ، ( وفصل الخطاب ) أي :
الخطاب الفاصل بين الحق والباطل بإقامة الحجج ، ودفع الشبه على الوجه اليقيني إذ بهذه القوة ناسب الحق والخلق ، واستفاض ثم أفاض ، وتمت له الأمور العلمية والعملية بالحكمة ، والتولية بفصل الخطاب ، فكانت نعما عليه وعليهم ، وتم كل ذلك بسبب خلافته .

ولذلك قال : ( ثم المنة الكبرى ) على داود عليه السّلام الموجبة لكمال الشكر على الآل مع عدم عرفان أكثرهم ، فذرها لرؤيتهم إياها من أمور الدنيا المضرة بالدين ، وهي ( المكانة الزلفى ) عند اللّه بها كمال النبوة والولاية ( التي خصه اللّه بها ) بقوله :وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ[ ص : 25 ] ، ورتبه على هذه الخلافة التنصيص على خلافته لدلالة ( التنصيص ) من الكامل الذي ليس من شأنه ذكر المحقرات إلا لغرض التحقير على كمال النصوص ، والخلافة إذا انضمت مع النبوة والولاية كانت غاية الكمال لهما ،
فالتنصيص عليها يدل على كونها في غاية الغايات ، وتجاوزها أقصى النهايات ، وبها تتم المنة بظهور القوة ، ونفاذ الحكمة ، وفصل الخطاب ،
إذ لا يكون معها معاندة الجاهل غالبا ، ( ولم يفعل ذلك ) التنصيص بأحد أي : بخلافة ( أحد من أبناء جنسه ) من الأنبياء فضلا عن خلفائهم وعن سائر الملوك .
( وإن كان فيهم خلفاء ) جامعون بين النبوة والولاية والخلافة ؛ لعدم اعتداده بخلافتهم بالنظر إلى خلافة هذا ، فلما اعتد بخلافته نص عليها ، ( فقال :يا داوُدُ )، فذكر اسمه العلم المزيل للشركة ، ثم أكد ذلك بالنداء المزيل توهم إرادة من يشاركه في الاسم اشتراكا لفظيّا ، وأتى بحرف النداء الدال على بعد المنادى مع أنه رتب على خلافته الزلفى عنده ، وحسن المآب للدلالة على بعد درجته عن إفهام غيره :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً[ ص : 26 ]
بذكر لفظ الخلافة المشعرة بالنيابة عن اللّه مشعرا بعظمتها بإسنادها إلى نون التعظيم المذكورة مقرنين مع التنصيص عليه بكاف الخطاب في الأرض التي هي وسط العالم والسلطان ، إنما يكون في وسط مملكته ، وهو محل الكون والفساد ، فيتم التصرف فيها بظهور الآثار المختلفة فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ الذين هم أشرف أنواع الخلائق ، وقد سخر لهم جميع ما في العالم بِالْحَقِّ لا بك ، وهو الحكم بما أعطاك الحق من الحكمة ، وفصل الخطاب ،وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى.
ولما كان المشهور أن الهوى ما تميل إليه النفس بطبيعتها الأمارة ، وهو عليه السّلام معصوم عن ذلك لكمال حاله ، فلا حاجة إلى نهيه عما ليس من شأنه بينه ،
فقال : ( أي : ما يخطر لك من حكمك ) بطريق العقل والقياس من غير وحي مني فيه أو في أصله ،فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
ولما كان المشهور أن الضلال في الحكم هو الأخذ بطريق الكفرة أو الظلمة ، وهو عليه السّلام معصوم عن ذلك بينه بقوله : ( أي : عن طريقي الذي أوحي به إلى رسلي ) ، فإن طريق العقل والقياس من غير أصل منصوص مبعد عن الطريق الإلهي الذي وضعه للوصول إليه ؛ فلذلك كان موجبا للعذاب الشديد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ تأدّب سبحانه معه فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ[ ص  :26] ، ولم يقل : « فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد » ، فإن قلت : وآدم عليه السّلام قد نصّ على خلافته ، قلنا : ما نصّ مثل التّنصيص على داود ، وإنّما قال للملائكة :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] ، ولم يقل : إنّي جاعل آدم خليفة في الأرض ، ولو قال أيضا مثل ذلك ، لم يكن مثل قوله :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً[ ص : 26 ] في حقّ داود ، فإنّ هذا محقّق ، وذلك ليس كذلك ، وما يدلّ ذكر آدم في القصّة بعد ذلك على أنّه عين ذلك الخليفة الّذي نصّ اللّه عليه ، فاجعل بالك لإخبارات الحقّ عن عباده إذا أخبر ، وكذلك في حقّ إبراهيم الخليل :قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً[ البقرة : 124 ] ، ولم يقل خليفة ، وإن كنّا نعلم أنّ الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها ؛ لأنّه ما ذكرها بأخصّ أسمائها وهي الخلافة )
( ثم تأدب سبحانه معه ) " ليعلمنا جل شأنه الأدب  مع الرسل والأنبياء وأولياء الله و وانزالهم منازلهم ".  رعاية لمقتضى منصبه الذي نص عليه للاعتناء به ، ( فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )[ ص : 26 ] ،
وإن اتبعوا سبيل العقل والقياس من غير أصل منصوص ،لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌبما نسوا يوم الحساب الذي يحاسب فيه مقتضى العقل والقياس من غير أصل مع الموحى به من الأنبياء ، فيظهر نقيض مقتضياتهما بل فسادها بحيث لا يحاسب معه أصلا ،
( ولم يقل : فإن ضللت عن سبيلي ، فلك عذاب شديد ) مع أنه مقتضى الظاهر عدل عنه لما فيه من نسبة الضلال إليه ، والحكم عليهم بالعذاب الشديد صريحا ، وهما يخلان بالأدب ، وهو ينافي مقتضى التنصيص على الخلافة من التعظيم ، والإخلال الضمني ليس كالصريح فروعي فيه الأدب بقدر الإمكان .
وإنما قال في حق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم :لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[ الزمر : 65 ] ؛ للمبالغة في التحذير عن أمر الشرك ، والتحذير عن الضلال في الحكم لا يكون له تلك المبالغة فيه ، ولا تتأتى رعاية الأدب مع المبالغة في التحذير ؛ ( فإن قلت : فآدم قد نص على خلافته ) إذ قال في كتابه :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] ، ثم عيّنه بقوله :وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها[ البقرة : 31 ] ، وقوله :وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ[ البقرة : 34 ] وغير ذلك ، فلم قلت : لم يفعل ذلك لواحد من أبناء جنسه ؟ قلنا : كان ذلك نصّا في الجملة ، لكن ( ما نصّ ) على خلافته ( مثل التنصيص ) ( على ) خلافة ( داود ) ، فإنه لم يقل : يا آدم إنا جعلناك خليفة في الأرض .
( وإنما قال : الملائكة ) من غير نداء آدم إني جاعل في الأرض خليفة ، ومع ذلك ( لم يقل : إني جاعل آدم خليفة في الأرض ) يذكر اسمه العلم مع تأتّي ذكره وإن امتنع النداء ، ( ولو قال ) : إني جاعل آدم خليفة ، فهو ( أيضا ) ( لم يكن ) من التنصيص على خلافته ( مثل ) قوله :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً ( في حق داود فإن هذا ) ؛ لكونه ماضيا ( محققا ) أي : دال على تحققه ؛

"" أضاف المحقق : رتبة الخلافة : هي رتبة الخلافة والكمال المشتملة على الجميع الجامعة ، بين البداية والنهاية ، وأحكامها ، وأحكام الجمع والتفرقة ، والوحدة ، والكثرة ، والحقية ، والخلقية ، والقيد ، والإطلاق عن حضور من غير غيبة ويقين بلا ريب ولا شبهة . ( لطائف الإعلام ص 153 ) .""

( وذلك )
لكونه اسم فاعل بمعنى الاستقبال بدليل أنه قاله الملائكة قبل خلق آدم ، ( ليس كذلك ) في الدلالة على التحقق ، وإن كانت أخبار الحق لا بدّ لها من التحقق إلا أنه إنما يعلم من العقل ، فلا يكون من قبيل التنصيص ، وما ذكرتم أنه تعالى عين الخليفة بقوله :وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها[ البقرة : 31 ] وغيره ، فيكون تنصيصا باطلا ، بل غايته أنه ذكره بعد ذكر الخليفة ، ( وما يدل ذكر آدم ) ، ولو ( في القصة ) الواحدة ( بعد ذلك ) من غير طول فصل ( على أنه عين ذلك الخليفة الذي نصّ اللّه عليه ) إذ ذكره في نصّ كتابه مجملا ، إذ ليس في اللفظ ما يدل على العينية بل غايته أن يفهم باستعانة العقل ، كما يفهم سائر المجملات التي لا تنصيص فيها ، ولا بيان يعقبها باستعانة العقل ، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى ينص في حق البعض دون البعض في أمر واحد ، ( فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر ) لماذا ينص ؟ ولماذا ترك التنصيص ؟
ولا شك أن النص على الخلافة ؛ لتعظيم شأنها واطلاع الكل عليها ليعتقدوا كمالها .
ثم أشار إلى سؤال آخر ، وهو أنه سبحانه وتعالى وإن لم ينص على خلافة آدم ، فقد نص على خلافة إبراهيم عليه السّلام ؛ فلم قلت : لم يفعل ذلك بأحد من أبناء جنسه ؟
وأجاب عنه بقوله : ( وكذلك ) أي : مثل قوله :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30]
في عدم التنصيص على الخلافة في حقّ آدم ، قوله : ( في حق إبراهيم الخليل عليه السّلام :إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً )[ البقرة : 124] ،
وإن صار بالخطاب في حكم المنادى العلم ، وكان اسم الفاعل فيه بمعنى الماضي أو الحال ؛ وذلك لأنه ( لم يقل ) في حقه : إني جاعلك ( خليفة ) ، بل قال :إِماماً، وهو مشترك بين الخلافة وإمامة الصلاة ، فلا يكون نصّا في الخلافة .
( وإن كنا نعلم ) بالقرينة ( أن الإمامة هنا ) ليست إمامة الصلاة ، بل إنما هي ( خلافة ، ولكن ما هي ) أي : لفظة الإمامة ( مثلها ) أي : مثل لفظة الخلافة في إفادة التنصيص ؛ ( لأنه ) إنما يحصل التنصيص على الشيء إذا ذكر بأخص أسمائه ، وهو سبحانه وتعالى ( ما ذكرها ) أي : خلافة إبراهيم ( بأخص أسمائها ، وهي الخلافة ) المنفردة بهذا المعنى ، فلا تحوج إلى قرينة بخلاف اللفظ المشترك ؛ فإنه يحوج إليها فلا تتم دلالته بدونها فكأنها عقلية لا لفظية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  )ثمّ في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ، وليس ذلك إلّا عن اللّه تعالى فقال له فاحكم بين النّاس بالحقّ ، وخلافة آدم عليه السّلام قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنّه نائب عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهيّ فيهم ، وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلّا في التّنصيص عليه والتّصريح به ، وللّه في الأرض خلائف عن اللّه ، وهم الرّسل .
وأمّا الخلافة اليوم فعن الرّسل لا عن اللّه ، فإنّهم ما يحكمون إلّا بما شرع لهم الرّسول لا يخرجون عن ذلك ، غير أن هاهنا دقيقة لا يعلمها إلّا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به ممّا هو شرّع للرّسول عليه السّلام ، فالخليفة عن الرّسول من يأخذ الحكم بالنّقل عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أو بالاجتهاد الّذي أصله أيضا منقول عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفينا من يأخذه عن اللّه بعين ذلك الحكم ، فتكون المادّة له من حيث كانت المادّة لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، فهو في الظّاهر متّبع لعدم مخالفته في الحكم كعيسى عليه السّلام إذا نزل فحكم ، وكالنّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه وسلم في قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] ، وهو في حقّ ما يعرفه من صورة الأخذ مختصّ موافق ، هو فيه بمنزلة ما قرّره النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من شرع من تقدّم من الرّسل بكونه قرّره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث إنّه شرع لغيره قبله ).
  
( ثم ) إن خلافة آدم عليه السّلام وإن ذكرت بأخص أسمائها ، فلا تبلغ رتبة خلافة ( داود ) ، إذ في خلافة داود عليه السّلام وجه ( من الاختصاص بالخلافة ) الإلهية ليس ذلك في خلافة آدم عليه السّلام ، وهو ( أن جعله خليفة حكم ) إلهي إذ رتبه على خلافته ، فكانت خلافته خلافة عن اللّه ؛ وذلك لأنه ( ليس ذلك ) الحكم إلا في الخلافة ( عن اللّه ) ، فأراد الحق التنصيص على ذلك ، فقال له :فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ ،ثم زاد تنصيصا بقوله :بِالْحَقِّ ،( وخلافة آدم عليه السّلام ) بحسبما يفهم من قوله :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ،( قد لا يكون ) بحسب الاحتمال لمن لم ينظر في الواقع ، بل اقتصر نظره على هذه اللفظة ( من هذه المرتبة ) أي : خلافة الحكم ، ( فتكون خلافته ) على ذلك الاحتمال بمعنى : ( أن يخلف ) أي : ينوب ( من كان فيها ) أي :
في الأرض من الجن أو غيرهم ( قبل ذلك ) أي : وجود آدم ( لا ) بمعنى ( أنه نائب عن اللّه ) استخلفه ( في خلقه ) ، فأقامه ( بالحكم الإلهي فيهم ) مقامه ، فإن اللفظ ليس فيه بل يحتمل له ، ولما ذكرناه .
( وإن كان الأمر ) أي : أمر خلافة آدم عليه السّلام ( كذلك ) أي : مثل خلافة داود ( وقع ) ، فكانت خلافة عن اللّه في الحكم الإلهي ، ( ولكن ليس كلّ منّا إلا في التنصيص عليه ) أي :
على كونه خليفة حكم ، ( والتصريح به ) من اللّه تعالى باللفظ ، وإن كانت القرائن كالمصرحة بهذا الأمر ، وإلا فنحن لا ننكر خلافة آدم وإبراهيم - عليهما السّلام - عن اللّه في الحكم مع هذه النصوص ، مع أنّا نقر بخلافة من لم يذكر اللّه خلافتهم أصلا ، ونقول :
( « وللّه في الأرض خلائف » ) لا بمعنى أنهم خلفوا من تقدمهم ، بل بمعنى أنهم خلفاء ( عن اللّه ) في حكمة .
ولما أوهم ذلك أنه يعم كل خليفة نبيّا أو غيره ، أزال ذلك بقوله : ( وهم الرسل ) ، وفيه إشارة إلى حصول هذه الرتبة لنبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعدم التنصيص في حقه إن صح ؛ فلعدم الحاجة إليه لظهور دينه على الدين كله إلى يوم القيامة ، وكذلك خلافة إلهية ، وقد قام مقام الحق في أن صار الخلفاء بعده خلفاء عنه ، وهم في ذلك في معنى الخلفاء عن اللّه ، وإليه الإشارة بقوله : ( « وأما الخلافة اليوم » ) أي : بعد الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ( فعن رسل اللّه لا عن اللّه ) ، وإن كان فيهم من بلغ رتبة الكشف ، ( فإنهم ما يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول لا يخرجون عن ذلك ) ، وإن كوشفوا بخلافه إذ شرعه غير قابل للنسخ ، وليس لهم رتبة التشريع (غير أن هاهنا دقيقة لا يعلمها إلا أمثالنا ) من أهل الكشف دون أهل الظاهر .
( وذلك في أخذ ما يحكمون به ) ، فإنهم لا يأخذونه عن الرسول ، وإن كان ( مما هو شرع للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ) ؛ لأن ذلك نوع تقليد ، وهم قادرون على التحقيق بالمعاينة ، لكن لا تكون معاينتهم مخالفة لما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإن وقعت المخالفة ؛ فهي ابتلاء من اللّه تعالى لا يعمل بها الولي كما صرّح به الشيخ رحمه اللّه في مواقع النجوم ، ونقله صاحب تحفة البررة عن الشيخ روزبهان السراري رحمه اللّه .

( فالخليفة عن الرسول ) في الظاهر والباطن ( من ) لم ( تأخذ الحكم عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ) في الكتاب والسنة ( أو ) الإجماع إذ لا يخلو عن سند منهما إلا ( بالاجتهاد الذي أصله ) أي :
حكم أصله ، وهو المقيس عليه ( أيضا منقول عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، وإن لم ينقل عنه غير الأصل ، ولا تعديتها إلى الفرع ،
( وفينا من يأخذه عن اللّه ) ، وإن لم تكن له رتبة التشريع ، فيكون خليفة عن اللّه من حيث أخذه عن اللّه ، ولكن لعدم كونه مشرعا يأخذ ( بعين ذلك الحكم ) الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فهو وإن لم يكن له رتبة التشريع له أن يأخذ من مأخذ صاحب التشريع.
( فتكون المادة ) أي : مأخذ الحكم ( له ) أي : لهذا المكاشف ( من حيث كانت المادة لرسوله ) ، إذ لا حجز في الوصول إلى ذلك المكان من المكاشفة ، وإن حجز عن الأخذ بالزيادة والنقصان للتناقض لو كوشف بأخذها ابتلاء بخلاف الرسول إذا كوشف بأخذها بعد ما كوشف له أو لغيره من الرسول بخلافه ،
فهو أي : ذلك الأخذ عن اللّه ، وإن كان خليفة عنه في الباطن ( وهو في الظاهر متبع ) للرسول ؛ ( لعدم مخالفته في الحكم ) ، وإن خالف كشفه حينا مع أنه الأصل في التشريع والسابق في الزمان ، فهو خليفة عنه بهذا الاعتبار ، ولا بعد في ذلك ، فإنه فيه ( كعيسى عليه السّلام إذا نزل ) من السماء ، ( فحكم ) بالشرع المحمدي ، فهو متبع له عليه السّلام مع أنه أخذ عن اللّه وخليفة عنه ، وكان ( النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ) فيما قرر من شرع من يقدمه ، فإنه متبع لما يقدمه ، وإن كان أخذا من اللّه بلا واسطة من تقدم ، كما ذكر في قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] .
ثم استشعر سؤالا بأنه كيف يكون عيسى مقتديا بالنبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو عليه السّلام مقتد به فيما قرر من شرعه ، فيلزم أن يكون عيسى عليه السّلام مقتديا بمن اقتدى به في أمر هو به مستقل ، وهو باطل بالضرورة ؟
فأجاب عنه بقوله : ( وهو ) أي : عيسى عليه السّلام ( في حق ما يعرفه من صورة الأخذ ؛ لكون ) شرعه قبل محمد عليه السّلام ( مختص بتشريعه ) ، ومستقل بشأنه غير مقتدي فيه من حيث هذا الاختصاص ، ولكن ( موافق هو ) أي : محمد صلى الله عليه وسلم إياه ( فيه ) ، فلما وافقه فيه فهو أي : ما يعرفه عيسى عليه السلام  من صورة الأخذ ، واختص به فوافقه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في حق عيسى عليه السلام  بعد نزوله تابعا لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ( بمنزلة ما قرره النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من شرع من يقدمه من الرسل ) عيسى عليه السلام  أو غيره إذا صار ذلك المقرر شرعه لا بطريق اقتدائه به في التحقيق ،
بل ( بكونه قرره فاتبعناه ) أي : طائفة الأمة فيه ( من حيث تقريره ) الذي جعله شرعه الواجب اتباعه فيه ( لا من حيث أنه شرع ) تقرير ( لغيره ) ،

وإن كان شرعا له إذ ليس علينا اتباع شرائعهم من حيث هي شرائعهم ، وصار عيسى عليه السّلام بعد النزول من أمته فاتبعه من حيث تقريره لا من حيث إنه شرعه ( قبله ) ، حتى يكون مقتديا بمن اقتدى به في أمر هو فيه مستقل مختص إذ بطل اختصاصه ، واستقلاله بهذا الشرع المحمدي ، فلم يبق محمد مقتديا فيه ، وإن وافقه وقرره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرّسول فنقول فيه بلسان الكشف خليفة اللّه ، وبلسان الظّاهر خليفة رسول اللّه ، ولهذا مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وما نصّ بخلافة عنه إلى أحد ، ولا عيّنه لعلمه أنّ في أمّته من يأخذ الخلافة عن ربّه فيكون خليفة عن اللّه مع الموافقة في الحكم المشروع ، فلمّا علم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يحجر الأمر ، فللّه خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرّسول ما أخذته الرّسل - عليهم السّلام ، ويعرفون فضل المتقدّم هناك لأنّ الرّسول قابل للزّيادة : وهذا الخليفة ليس بقابل للزّيادة الّتي لو كان الرّسول قبلها ، فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرع إلّا ما شرع للرّسول خاصّة ؛ فهو في الظّاهر متّبع غير مخالف ، بخلاف الرّسل ) .
( وكذلك ) أي : مثل أخذ عيسى عليه السّلام بعد النزول من السماء عن اللّه استقلالا مع أنه في العمل به غير مستقل ، بل مقيد بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حتى فيما سبقه به إذ وافقه نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ( أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرسول ) من غير استقلاله بالخليفة باعتبارين ، ( فنقول فيه بلسان الكشف ) من حيث أخذ الخليفة عن اللّه :
إنه ( خليفة اللّه ، وبلسان الظاهر ) الذي عمله به ( خليفة رسول اللّه ) ، فصح أن في خلفاء رسول اللّه من هو خليفة اللّه ، وخليفة اللّه يكون بالنص منه ، لكن الإجماع قائم مقام النص القاطع ، فيصير أبو بكر رضي اللّه عنه كالمنصوص على خلافته مثل داود عليه السّلام ، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده ، فصارت هذه الرتبة لأتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم .

( ولهذا ) أي : ولأجل أن في أمته من هو خليفة عن اللّه بالإجماع النازل منزلة النص القاطع ( مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وما نص بخلافة ) أي : بنسبة خلافة ( عنه إلى أحد ) فضلا عن الثلاثة الذين هم أبو بكر ، وعلي ، والعباس ، فلا الخلافة بعدي لأحد غير هؤلاء الثلاثة ، ( ولا عينه ) ، فلم يقل : هو علي ، ولا هو أبو بكر ، ولا هو العباس ، مع أنه من أهم المهمات ، حتى أنه تركوا دفنه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل تعينه ،

ولو نصّ على أحدهم لكانوا على اقتدائه أحرص سيما في ذلك الوقت لما ( علم أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه ) ، ولو نص لكان خليفة عنه صلّى اللّه عليه وسلّم فقط ، فتركه واقتصر على ما علم من الإجماع النازل منزلة النص الإلهي عليه ،
( فيكون ) من حيث عدم تنصيص النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على خلافته ( خليفة عن اللّه ) تعالى ( مع ) حصول المقصود بالخلافة عن رسول اللّه من ( الموافقة في الحكم المشروع ) ، فيصير كداود عليه السّلام من حيث تنصيص الإجماع ، ويصير كعيسى عليه السّلام في الجمع بين الخلافتين فيما لها من فضيلة على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لو نص على أحد لم يكن لغيره الأخذ بها أصلا في وقته ولا بعده ، مع أن هذا لو أخذها في وقت خلافة ذاك بدلا عنه أو بعده في الخلافة الظاهرة أو معه في الخلافة الباطنة لكان له ذلك ؛ لأن لكل واحد منهما قوة الأخذ من اللّه تعالى ( فلما علم صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك ) . " في نسخة أخرى : « فلمّا علم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم »".

أي : قوة الأخذ عن ( اللّه ) لجماعة من أمته ( لم يحجز الأمر ) بالتنصيص على البعض عن الباقين ، وإذا كان كذلك ، ( فلله خلفاء من خلقه ) ؛ لاحتياج أهل كل عصر إلى خليفة يقوم بأمور دينهم ودنياهم ، بل له خلفاء في الباطن يجتمعون في زمن واحد بلا مضايقة بينهم ولا منازعة منهم ، يخاف أن تقتضي إلى فساد في الأمة ،
بل العالم يزداد ضياء بهم ( يأخذون ) علومهم وأحكامهم ( من معدن الرسول ) محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومن معدن سائر الرسل عليهم السّلام إما على سبيل الاجتماع أو على سبيل البدل أو البعض دون البعض ، ومن هنا يقال : فلان على قلب محمد ، وفلان على قلب آدم أو إبراهيم أو موسى أو عيسى - عليهم السّلام .
( ما أخذته الرسل - عليهم السّلام ) ، إذ لو كان خلافة ، فلا يأمنون فيه من تلبيس الشيطان أو ابتلاء الرحمن ، ولا يرون في ذلك فضل أنفسهم ، ولا تسويتها مع أولئك الأنبياء - عليهم السّلام ، بل ( يعرفون فضل المتقدم هناك ) وهو الرسول ،
إذ لا يمكن للولي الأخذ من ذلك المعدن قبل أخذ الرسول منه ، بل بتعينه ، وإلا أخذ الزائد على الرسول ، فلا يأمن من فيه من الوسوسة والابتلاء بخلاف الرسول ؛
( لأن الرسول قابل للزيادة ) بالنسبة إلى رسول آخر فضلا عن الولي ، ( وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة ) على مأخوذ الرسول ، وإن كانت هذه الزيادة هي ( التي لو كان ) المكاشف بها هو ( الرسول قبلها ) لأمنه من الوسوسة والابتلاء في أخذ العلوم عن اللّه تعالى ، وإن كان كثيرا لا يبتلى في غير هذا الموضع بأخذها مع أن له نسخ شرع من تقدمه ، ( فلا يعطي ) هذا الخليفة ( من العلم ) الذي لا يقبل النسخ كالعلم باللّه والإخبار الواقعة ، ( والحكم فيما شرع ) له ( إلا ما شرع للرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة ) دون سائر الرسل حتى لو جاز له ما جوز لبعض الرسل دون ما يقرر عليه دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، فلا يجوز له الأخذ ؛ فإنه ابتلاء في حقه ،

فبطل ما زعم بعض الجهّال من أنه يجوز أن يكاشف الولي بتجويز شرب الخمر له ؛ لكونه مباحا في دين بعض الأنبياء ، فيجوز أن ينسخ حرمته في حقه ، ولا يدري أن النسخ مخصوص بالأنبياء .
( فهو ) وإن أخذ من معدن سائر الرسل علومهم وأذواقهم في الباطن هو في الباطن هو في العمل ( متبع ) لرسولنا ( غير مخالف ) له بمتابعة غيره من الرسل لا في الأعمال الظاهرة ، ولا في المساقي الباطنة القلبية ، وإن كان على قلوبهم ( بخلاف الرسل ) ، فإنهم وإن كانوا خلفاء لمن يقدمهم من الرسل وأخذوا من معدنه ، فإنهم إذا كوشفوا بزيادة ولو في الأعمال الظاهرة ، فلابدّ لهم من الأخذ بها ، وإنما تجب عليه موافقة من تقدمه في الأمور التي لا تقبل النسخ كذات اللّه تعالى وصفاته ، وأمور الآخرة ، والأخبار الإلهية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى عيسى عليه السّلام لمّا تخيّلت اليهود أنّه لا يزيد على موسى عليه السّلام ، مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرّسول ، آمنوا به وأقرّوه ، فلمّا زاد حكما ونسخ حكما كان قد قرّره موسى لكون عيسى رسولا لم يحتملوا ذلك لأنّه خالف اعتقادهم فيه ؟
وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه ، فطلبت قتله ، فكان من قصّته ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم .
فلمّا كان رسولا قبل الزّيادة ، إمّا بنقص حكم قد تقرّر ، أو زيادة حكم ، على أنّ النّقص زيادة حكم بلا شكّ ، والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ، وإنّما تزيد وتنقص على الشّرع الّذي قد تقرّر بالاجتهاد لا على الشّرع الّذي شوفه به محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم ) .

( ألا ترى عيسى عليه السّلام ) كيف زاد على موسى مع كونه مصدقا لما بين يديه من التوراة إذا كان رسولا ، وإن كان خليفة لموسى عليه السّلام كما هو خليفة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، والرسالة تقتضي ذلك لتفارق بها مجرد الخليفة المشارك له في الأخذ من معدنه ، وأيد الخوارق لكن ( لما تخيلت اليهود أنه ) وإن كان رسولا ، فهو كسائر خلفاء موسى عليه السّلام ( لا يزيد على موسى مثل ما قلنا في الخلافة اليوم ) أي : بعد نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم لامتناع نسخ شريعته ، فلا يمكن للخليفة ، وإن كان عيسى عليه السّلام المخالفة ( مع الرسول ) محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ( آمنوا ) أي : آمن بعضهم به لما شاهدوا معجزاته مثل ما شاهدوا من موسى عليه السّلام ، ( وأقرّوه ) على دعوى الرسالة لإمكانها عندهم بعد موسى عليه السّلام مع امتناع نسخ الشريعة ، أي : شريعته عندهم .
( فلما زاد ) عيسى عليه السّلام ( حكما ) لم يذكره موسى عليه السّلام بالكلية ، ورأوا فيه الإباحة أو المحرمة كما هو مذهب البصرية والبغدادية من المعتزلة اليوم ، أو ( نسخ حكما كان قد قرره موسى ) على وجه خاص من الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الكراهة أو الإباحة أو الصحة أو الفساد ؛ ( لكون عيسى عليه السّلام رسولا ) مستقلا بخلاف سائر خلفاء موسى عليه السّلام ، وإن كانوا أنبياء ، وكانت شريعته قابلة للنسخ خلافه بعد ظهور محمد عليه السّلام إذ لا تقبل شريعته النسخ ، فلا يؤثر في ذلك كونه رسولا ،

( لم يحتملوا ذلك ) لا لشبهة قوية فضلا عن حجة ؛ بل ( لأنه خالف اعتقادهم فيه ) أي : في عيسى أنه لا يزيد على موسى عليه السّلام كسائر خلفائه من أنبياء بني إسرائيل ، كيف وقد زعم أنه مصدق لما بين يديه من النورية ، ودعوى النسخ تكذيب له بل هي مكذبة لدعوى النبوة ، فكأنه تناقضت الدعوتان في حقه ، فلا يسمع شهادة المعجزات على صدقه ، وزعموا أنه كيف ينسخ الشريعة المأخوذة من العلم الإلهي ، وهو لا يقبل التغيير .

( وجهلت اليهود الأمر ) أي : أمر العلم الإلهي والشريعة والرسالة ( على ما هو عليه ) ، فإن العلم الإلهي لغاية سعته يشتمل على ما هو كمال لكل فرقة ، وأهل كل زمان مع اختلاف طبائعهم وأحوالهم ، والشريعة تابعة لمصالحهم في كل زمان ، والرسالة تقتضي الزيادة والنسخ لتفارق الخلافة المجردة ، وإن اختلفت عن هذا المقتضى في زمان امتناعهما ، والنسخ قد وقع في شريعة آدم عليه السّلام إذ زوّج بناته ببنيه ، ثم استقرت الحرمة بعده ، (فطلبت ) اليهود ( قبله ) إذ كانت دعوى النسخ عندهم في معنى الردة ، ( فكان من قصته ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم ) بقوله عز من قائل :إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [ آل عمران : 55 ] ، وقوله :وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ[ المائدة : 110 ] ، وقوله :فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ[ المائدة : 110 ] ، وقوله :إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[ النساء : 157 ] .

فلما كانت شريعة موسى عليه السّلام قابلة للنسخ والزيادة ، ( فلما كان ) عيسى عليه السّلام ( رسولا ) إذ صدقته المعجزات ، ولم تكذبه دعوى النسخ والزيادة ، ( قبل الزيادة ) على شريعة موسى يجوز أن يفضل بعض الرسل بعضا والنسخ يأتي بخير مما يقدم أو مثله ، وإن كان بالنقص ، فإنه يفضل على الزيادة السابقة على أن النقص زيادة حكم لاستلزامه إياها ، فإنه إذا نسخ أحد الأحكام حصل بدله حكم آخر ، فكأنه نقص واحد وازداد آخر ، فالزيادة بمعنى الفضيلة أو بمعنى كثرة العدد ، ( إما بنقص حكم قد تقرر ) في الشريعة السابقة ولا ينقص لاختلاف الزمان والمكلفين ، ( أو زيادة حكم ) بلا نقصان آخر بلا شكر في كونه زيادة من كل وجه إذ لم يذكره من تقدمه ، وليس حكمه الإباحة أو الرحمة كما هو مذهب المعتزلة ،

بل فيه التوقف عند الشيخ أبي الحسن الأشعري إمام أئمة أهل السنة ، وفيه فضيلة العمل به وكثرة العدد في تعلق الحكم ، والزيادة لا تكون للتابع المطلق ، وإنما تكون للتابع المطلق من وجه دون وجه ، ( والنقص ) أيضا ( زيادة ) من حيث الفضيلة ، ومن حيث ( الحكم ) البدل أيضا ، فرجح وجه الزيادة فيه ، فلا يكون للتابع المطلق ، فقبول الزيادة بالزيادة في الحكم والنقص فيه كلاهما منصب الرسول ، ولو خليفة في زمان إمكان النسخ .

( والخلافة اليوم ) ، أي : في زمان امتناع النسخ ( ليس لها هذا المنصب ) ، وإن كانت لعيسى عليه السّلام فليس له ولا لغيره من خلفاء هذه الأمة الزيادة والنقص في الشريعة المقررة لنبيّنا عليه السّلام بالنصوص القاطعة ، ( وإنما تنقص الخليفة اليوم من الشرع الذي يقرر بالاجتهاد بلا إجماع ) ، وإن كان فيه زيادة حكم ، لكن تلك الزيادة على رأي المجتهدين إذ يكاشف بغلطهم لا على الرسول عليه السّلام ، إذ ( يزيد على الشرع الذي ) شرعه به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وثبت عنه بطريق قطعي أما الذي ينقص واحد وزيادة بدله ؛ فلامتناع الغلط ( فيما شوفه نبينا عليه السّلام ) ، وفي طريق النقل أيضا ، وأما الذي بطريق الزيادة المحضة ؛ فلامتناع أن يكاشف التابع بأكثر مما يكاشف المتبوع المطلق بخلاف ما إذ ظهر بطريق ظني .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم فيخيّل أنّه من الاجتهاد ، وليس كذلك ، وإنّما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النّبيّ ؛ ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطّريق فيه العدل عن العدل فما هو معصوم من الوهم ولا من النّقل على المعنى ، فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى عليه السّلام ، فإنّه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرّر فيبيّن برفعه صورة الحقّ المشروع الّذي كان عليه السّلام ، ولا سيّما إذا تعارضت أحكام الأئمّة في النّازلة الواحدة ، فنعلم قطعا أنّه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهيّ ، وما عداه وإن قرّره الحقّ ؛ فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمّة واتّساع الحكم فيها ).

( فقد يظهر من الخليفة ) اليوم إذا كان مكاشفا يأخذ من معدن الرسول ( ما يخالف حديثا في الحكم ) المنصوص فيه فضلا عن الثابت بالقياس عليه ، ( فيتخيل أن ) أي : ظهور الخلاف عنه ( من الاجتهاد ) ، فيطعن عليه أو يقال : إنه رجح ظنيّا على آخر لترجحه عنده ، ( وليس كذلك ) أي : لا اجتهاد في مقابلة النص لا ترجيح لقياس الفرع على الأصل أصلا ، ( وإنما هذا الإمام ) الذي هو أجل من ألا يعرف أنه لاجتهاد مع النص ، وإلا ترجح للفرع على الأصل ، ( لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولم ثبت ) عنده خبر بطريق الكشف ، ولم يصح عند أهل الظاهر ( فحكم به ) ، فله أن يحكم بالخبر الضعيف ، ولا يحكم بالخبر الصحيح ، ( وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل ) ؛ فإنه يمكن وقوع الغلط في خبره من جهة اللفظ والمعنى ،

( فما هو ) أي : العدل ( معصوم عن الوهم ) ، فربما يتوهم أنه سمع شيئا ، ولم يكن سمعه ، ( ولا ) معصوم ( عن النقل على المعنى ) ، فربما يظن للمسموع منه عليه السّلام معنى لم يكن له ، فيأتي له بعبارة من عنده ، ( فمثل هذا ) التغيير ، وإن امتنع وقوعه من المجتهدين ، غير أهل الكشف ( يقع من الخليفة ) المكاشف ، وإن امتنع تغيير آخر منه ، وإن وقع في كشفه ابتلاء ، لكن لا تلبيس عليه فيما ينقله عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم .

( وكذلك ) أي : مثل هذا التغيير الواقع عن الخليفة المجرد ( يقع عن عيسى عليه السّلام ) لا مثل ما وقع منه في حقّ موسى عليه السّلام قبل رفعه إلى السماء ، ( فإنه إذا نزل ) من السماء ، فغايته أنه ( يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر ) عند جمهور العلماء بلا إجماع منهم ؛ لكونه غير صورة الحق في الواقع ، ( فيتبين برفعه ) ؛ لكونه نبيّا معلوم الصدق بالضرورة بخلاف سائر الخلفاء ؛ فإنه لا يتبين برفعهم ( صورة الحق المشروع الذي كان نبينا عليه السّلام عليه ) ، وإن كان ينقل عنه بطريق قطعي فيها واحدة ، وإن قلنا بتصويب المجتهدين ،

( ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة ) ، فإنه وإن صوب البعض فيه كل مجتهد فهو من حيث رفع الحرج عنه ومن عمل بقوله من مقلديه ، ( فنعلم قطعا أنه لو نزل وحي ) ، ونقل عندنا بطريق قطعي ( لنزل بأحد الوجوه ) المتقابلة لا بجميعها لامتناع اجتماعها .
( فذلك ) الوجه الذي قدر نزول الوحي به ( هو الحكم الإلهي ) الصواب الموجب لمن أصابه من المجتهدين أجرين ، ( وما عداه ) من وجه أو وجوه ، ( وإن ) وعد عليه الأجر ، وأسقط عن القائل به والعامل به الوزن ، فليس مما لو نزل الوحي لنزل به ، ( فهو شرع تقرير ) لما فيه من أمارة ظنية موجبة للفتوى والعمل ، وإنما ( قرر ) مع كونه خلاف صورة ( الحق ) ؛ ( لرفع الحرج عن هذه الأمة ) في تكليف الإجابة مع خفاء الأمارة ، وهو مرفوع بقوله تعالى :وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ الحج : 78 ] ، ( واتساع الحكم فيها ) للمصالح المختلفة بحسب الأحوال والأزمنة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا قوله عليه السّلام : "إذا بويع لخلفتين فاقتلوا الآخر منهما" ؛ فهذا في الخلافة الظّاهرة الّتي لها السّيف ، وإن اتّفقا فلابدّ من قتل أحدهما بخلاف الخلافة المعنويّة ؛ فإنّه لا قتل فيها ، وإنّما جاء القتل في الخلافة الظّاهرة ، وإن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام ، وهو خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن عدل ، فمن حكم الأصل الّذي به تخيّل وجود إلهين ،لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [ الأنبياء : 22 ] ، وإن اتّفقا فنحن نعلم أنّهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما ، فالنّافذ الحكم هو اللّه على الحقيقة ، والّذي لم ينفذ حكمه ليس بإله ) . رواه مسلم والبيهقي

ثم استشعر سؤالا بأن الكلام السابق يشعر بتجويز تعدد الخلفاء في زمان واحد ، وقد ورد الحديث بقتل واحد عند تعددها على أنه يشعر بأن كل خليفة أخذ عن اللّه العلم والحكم ، وهو خلاف الواقع ، ويلزمه تجويز قتل الأخذ عن اللّه والعلم والحكم ، وهو باطل بالضرورة ؟

فأجاب عن ذلك بقوله : ( وأما قوله عليه السّلام : « إذا بويع لخلفتين فاقتلوا الآخر منهما » ، فهذا في الخلافة الظاهرة ) ، وهي الرئاسة العامة القائمة بتنفيذ الأحكام الظاهرة ؛ لأن التعدد فيه مظنة للفساد إذ هي ( التي لها السيف ) ، والتعدد فيه على العموم موجب للمظنة المذكورة ، فيجب دفعها ،
وإن كانت شرّا متوهما بشرّ محقق في حق من حصل به التعدد وهو المتأخر ؛ لأنها لو وقعت كانت شرّا كثيرا ، وقتله شر يسير ، ودفع الشر الكثير بالشر اليسير خير كبير ،
وكذلك ( إن اتفقا ، فلابدّ من قتل أحدهما ) إقامة للمظنة مقام المظنون على ( ما ) هو ذات الشرع في الأمور التي لا تبسط ( بخلاف الخلافة المعنوية ) التي هي أخذ الشخص عن اللّه العلم والحكم ، ( فإنه لا قتل فيها ) ، وإن كان فيها تعدد في زمان واحدا ، إذ لا مظنة للفساد ( في ) هذا التعدد ، بل هو موجب لمزيد استنارة العالم واستقامة أحواله ، فإن كان فيهم ( من ) قام بالخلافة الظاهرة ؛ فلا يتصدى عدد منهم ؛ ذلك لأن هذا التعدد مظنة الفساد وهم عنها مبعدون .

( وليس ) كل خليفة عن اللّه آخذ عنه العلم والحكم ، ( وإنما ) هو ( الخليفة ) المعنوي ، ( والقتل في الخلافة الظاهرة ) ليس للخليفة عن اللّه الآخذ عنه العلم ، ( والحكم ) إنما القتل في الخلافة الظاهرة التي لا يلزم فيها أن يأخذ صاحبها العلم والحكم من اللّه ، وهو خليفة عنه ( إن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام ).
أي : مقام أخذ العلم والحكم عن اللّه بالكشف ، إذ يكفي فيه أن يقوم في العموم بحكمه ، وحينئذ لا يتحقق فيه ما هو سبب استنارة العالم ، واستقامة أحواله مع تحقق مظنة الفساد في تعدده ، وهو أي : الخليفة في الظاهر إذا لم يأخذ العلم والحكم عن اللّه ،
( فهو ) من هذا الوجه ( خليفة رسول اللّه ) وإن كان من وجه آخر خليفة اللّه ، وهو قيامه في العموم بحكمه ، لكن إن ( عدل ) ، وإلا فهو خليفة الشيطان والتعدد ، وإن جاز في الرسول ، فلا يجوز في اللّه ، وهو باعتبار الحكم في العموم خليفة اللّه ، فتعدده تخيل تعدد الآلهة الموجب لمظنة الفساد مع أنه من حيث هو خليفة الرسول يجوز أن ينقلب إلى خلافة الشيطان ، فرجح هذا الجانب لكونه الأصل سيما باعتبار السيف ؛ ولكونه الثابت الذي لا ينقلب .

( فمن حكم الأصل الذي تخيل به وجود إلهين ) أي : فالقتل في هذه الخلافة من مظنة الفساد التي بها الخلافة الشيطانية مع إيهام تعدد الآلهة بتعدد من يقوم بالحكم العام ، وهو مظنة الفساد كما قال تعالى :لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا[ الأنبياء : 22 ] .
باجتماع النقيضيين لو نفذ حكمهما المتناقضان ، أو ارتفاعهما لو لم ينفذ شيء منهما ، وهذا الفساد لازم ، ( وإن اتفقا فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديرا ) لزم ذلك الحساب أن نفذ حكمهما المختلفان أو لم ينفذ شيء منهما ، وإلا ( لنفذ حكم أحدهما ) دون الآخر ؛ ( فالنّافذ الحكم ) على تقدير الاختلاف ،. " في نسخة : « فالنّافذ الحكم هو اللّه على الحقيقة ، والّذي لم ينفذ حكمه » . "

وإن نفذ في صورة الوفاق ( ليس بإله ) ، وقد فرض إلها هذا خلف ؛ وذلك لأن الإلهية عبارة عن استجماع الكمالات الحقيقية التي من جملتها نفاذ القدرة في الممكنات كلها ، فعدم نفوذ الحكم مع إمكانه في ذاته نقص مخل بإلهيته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن هاهنا نعلم أنّ كلّ حكم ينفذ اليوم في العالم هو حكم اللّه عزّ وجل ، وإن خالف الحكم المقرّر في الظّاهر المسمّى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلّا للّه في نفس الأمر ، لأنّ الأمر الواقع في العالم إنّما هو على حكم المشيئة الإلهيّة لا على حكم الشّرع المقرّر ، وإن كان تقريره من المشيئة ، ولذلك نفذ تقريره خاصّة ، وأنّ المشيئة ليس لها فيه إلّا التّقرير ، لا العمل بما جاء به ، فالمشيئة سلطانها عظيم ، ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذّات ؛ لأنّها لذاتها تقتضي الحكم ، فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة ، فإنّ الأمر الإلهيّ إذا خولف هنا بالمسمّى معصية فليس إلّا الأمر بالواسطة لا الأمر التّكوينيّ ، فما خالف اللّه أحد قطّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة ؛ فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ؛ فافهم ).

( ومن هنا )  أي : ومن وجوب نفاذ حكم الإله أذل عارض حكم غيره ( تعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم ؛ فإنه حكم اللّه ) ، وإن نسب إلى غيره في الظاهر ، أما الأسباب السماوية أو الحيوانات أو غيرها ، فإن تأثيراتها لكونها من العالم ليست لذواتها لإمكانها ، فلا يكون وجودها من ذواتها ، فكيف تكون تأثيراتها من ذواتها ؛

فلذا نقول : حكم الخليفة حكم اللّه ، فإذا تعدد واختلف حكمهما تحقيقا أو تقديرا تخيل ذلك تعدد الآلهة الموجب للفساد المنوط باختلاف الحكم سيما العموم بالسيف ،

( وإن خالف هذا الحكم النافذ الحكم المقرر ) أي : الذي قرره اللّه تعالى بترك الاعتراض عليه في الظاهر أي : خالفه ( في ) المفهوم ( الظاهر ) من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ذكر ذلك ؛ ليشير إلى أنه لا يخالفه بينهما في الحقيقة إذ لا تعارض بينهما الاختلاف متعلقهما على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ، ( المسمى شرعا ) ، وسمى الخارج عنه خارجا عن حكم اللّه ، فإن الحكمين للّه تعالى جميعا ، والخارج إنما يخرج عن أحدهما ( إذ لا ينفذ حكم ) على تقدير أن يكون أحدهما للّه والآخر لغيره ( إلا للّه ) ، وإلا لزم عجزه تعالى ، وهو مناف لإلهيته .

قال القاضي عبد الجبار بن أحمد من المعتزلة : ما ألزمني أحد مثل ما ألزمني مجوسي ، قلت له : أسلم ، فقال : إن شاء اللّه ، قلت : قد شاء اللّه ، لكن شيطانك يمنعك ،
فقال : فأنا مع الشريك الأغلب ، ولا تناقض بي الحكمين ، ولا يلزم عجزه مع عدم نفوذ الحكم الشرعي لاختلاف متعلقهما ، فإن متعلق حكم المشيئة وقوع الأمر ، ومتعلق حكم الشرع وقوع الجزاء ، والعجز إنما يلزم فيه لو عجز عن إيقاع الجزاء عليه .

وإليه الإشارة بقوله : ( لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية لا على حكم الشرع المقرر ) ؛ فإنه لوقوع الجزاء لا لوقوع الأمر بذاته ، بل إنما يقع إذا وقع بالمشيئة ، ( وإن كان تقريره من المشيئة ) ، ولكن التقرير غير الإيقاع وغير مستلزم له .

( ولذلك ) أي : لكون تقريره من المشيئة ( نفذ ) ، أي : لزم تقريره بحيث لا يعترض عليه ، ولولا أن المشيئة تعلقت بتقريره لم يتقرر ، وكما يتقرر أمر المشيئة إذا لم تتعلق المشيئة ( بتقريره خاصة ) دون وقوعه إذ ليس متعلق هذا الحكم الشرعي ، ولا لزم متعلق حكم المشيئة من هذا الحكم ولا عينه ، وذلك لما قلنا : ( أن المشيئة ليس لها فيه ) أي : في الحكم ( الشرعي ( إلا التقرير ) ، وإن كان متعلقها في الأصل وقوع الحكم .

كما أشار إليه بقوله : ( لا العمل بما جاء ) إذ تعلقها بالعمل الواقع غير تعلقها بالعمل بما جاء ( به ) الشرع ، وإذا نفذ حكم المشيئة مع عدم تقريره دون حكم الشرع مع تقريره .
( فالمشيئة سلطانها عظيم ) ، فلا يعارضها أمر آخر ؛ فلذلك لو عمل العامل مائة ألف سنة أعمال الملائكة والثقلين ، وكانت المشيئة إحباط أعماله نفذت دون حكم أعماله ، ولو عمل آخر مائة ألف سنة أعظم وجوه الكفر ، وأشد المعاصي ، وكانت المشيئة غفران ذنوبه نفذت دون حكم مساعيه ؛
( ولهذا ) أي : ولكون سلطانها عظيما ( جعلها الشيخ الإمام أبو طالب المكي  رحمه اللّه عرش الذات ) ، أي : محل استواء الأسماء الذاتية التي لا تتخلف آثارها بحال بخلاف سائر الأسماء ، فإنه يتخلف آثارهما بمعارضة أسماء أخر ؛ وذلك ( لأنها ) أي : المشيئة ( لذاتها تقتضي الحكم ) ، في سبب الأسماء الذاتية بخلاف حكم الشرع ؛
فإنه إنما يقرر بالمشيئة ، وكذا تعلق الثواب والعقاب عليها بالمشيئة ، فجاز فيها التخلف ، فلا تكون ذاتية ، وإذا كانت المشيئة مقتضية للحكم بالذات ، وما بالذات لا يزول بالغير ، ( فلا يقع في الوجود شيء ) من الأفعال والثواب والعقاب خارجا عن المشيئة ، ( ولا يرتفع ) عن الوجود شيء منها ( خارجا عن المشيئة ) ، ويجوز وقوعهما على خلاف الأمر الشرعي ؛ لأنه ليس من الأسماء الذاتية .
( فإن الأمر الإلهي الشرعي إذا خولف هنا ) أي : في محل اختلافه مع المشيئة ( المسمى معصية ) فعلا أو تركا فلا بعد في ذلك ، ( فليس ) الأمر الشرعي ( إلا الأمر بالواسطة ) ، أي : بواسطة أمر المشيئة ، فإنها اقتضت الأمر الشرعي فآثرت ،
واللاحق فإذا عارض السابق كان الحكم للسابق ؛ وذلك لأنّا نقول : ( لا ) يكون ( الأمر ) الشرعي الأثر ( التكويني ) ، وإن كان الأمر التكويني عامّا مطلقا بالنسبة إلى تقرير الأمر الشرعي ، فليس عامّا بالنسبة إلى وقوعه من حيث هو مقتضى الأمر الشرعي ، وإن كان عامّا إلى كل واقع ، لكن لأمر حيث كونه شرعها بل بكونه متعلق المشيئة ، وإذا كان الأمران للّه والمخالفة منفية بالكلية ، إنما يتصور بمخالفة أمره من كلّ وجه.

( فما خالف اللّه أحد في جميع ما يفعله ) من طاعة ومعصية ، ( من حيث أمر المشيئة ) ، ولكن اتفق الكل على أن ترك المأمور ، وفعل المنهي مخالفة له ، ( فوقعت المخالفة من حيث أمر ) الرسالة ، وهو الأمر الشرعي من حيث أن تقرره بالمشيئة هو ووقوع الثواب والعقاب على صاحبه أيضا بها ، فهو من جميع وجوهه ( بالواسطة ) ، فالمخالفة فيه ليست تعجيزا للحق إذا وافق فيما هو أصله ؛ ( فافهم ) لئلا يتخذ عندك الأمران ولا حكمهما .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنّما يتوجّه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه ، فيستحيل أن لا يكون ؛ ولكن في هذا المحلّ الخاصّ ، فوقتا يسمّى به مخالفة لأمر اللّه ، ووقتا يسمّى موافقة وطاعة لأمر اللّه ، ويتبعه لسان الحمد والذّمّ على حسب ما يكون ، ولمّا كان الأمر في نفسه على ما قرّرناه لذلك كان مآل الخلق إلى السّعادة على اختلاف أنواعها ، فعبّر عن هذا المقام بأنّ الرّحمة وسعت كلّ شيء ، وأنّها سبقت الغضب الإلهيّ ، والسّابق متقدّم ، فإذا لحقه هذا الّذي حكم عليه المتأخّر حكم عليه المتقدّم فنالته الرّحمة إذ لم يكن غيرها سبق ، فهذا معنى « سبقت رحمته غضبه » ، لتحكم على ما وصل إليها ؛ فإنّها في الغاية وقفت ، والكلّ سالك إلى الغاية ، فلا بدّ من الوصول إليها ، فلابدّ من الوصول إلى الرّحمة ، ومفارقة الغضب ، فيكون الحكم لها في كلّ واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها).  رواه ابن حبان والبيهقي

ثم أشار إلى أنه كيف تقع المخالفة في أمر المشيئة ، ولا شكّ أنه إنما يتصور في الأمر المقدور عليه للعبد ، لكنه غير مقدور للعبد فلا تكليف فيه فلا يخالفه ؛ فقال : ( وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل ) ، إذ بها ترجيح أحد جانبي الفعل والترك الموجب حصول الراجح منهما ، و ( لا ) يكون تكليفا ( على من ظهر على يديه ) ، إذ ليس في وسعه تركه ؛ لأن المشيئة موجبة بالذات ، ( فيستحيل ألا يكون ) ، وما يستحيل عدمه يجب وجوده ، والواجب خارج عن حدّ التكليف كالممتنع .
( ولكن ) هذا الفعل الذي توجهت المشيئة إلى إنجازه إنما يتحقق ( في هذا المحل الخاص ) ، فيتأثر به فيحصل له منه صفة منيرة أو مظلمة باعتبار قصده فيه ، وهو باعتبار ذلك مكلف مختار ، ( فوقتا يسمى به ) أي : بالنظر إلى المحل وقصده وما تأثر به ( مخالفة لأمر اللّه ) الشرعي ، ( ووقتا يسمى موافقة ) ، وهو عين ما يكون ( طاعة لموافقته الأمر الشرعي ) مع أمر المشيئة أيضا ، ( ويتبعه )
أي : الفعل باعتبار المحل الصادر هو عن قصده ، ولا يتبع أمر المشيئة ؛ لأنه ليس إلى العبد أصلا ، بل هو فيه تابع للحق بالضرورة ، فلا يحمد باعتباره ، ولا يذم الحمد فيما وقع موافقا للأمرين ؛ لإفادته إياه أثرا نوريّا وسعادة ، والذم فيما وقع مخالفا للأمر الشرعي ، وإن وافق أمر المشيئة ؛ لإفادته إياه أثرا ظلمانيّا وشقاوة .

ولكن يكون ( هذا الحمد والذم على حسب ما يكون ) الفعل ، فالحمد على الواجب ليس كالحمد على المندوب ، والذم على الحرام ليس كالذم على المكروه ، وإنما ذكره ؛ ليشير إلى أن التفاوت في الأفعال إنما يكون بحسب هذا الاعتبار لا بحسب المشيئة ، وإلا فلا تفاوت في المشيئة كما قال تعالى :ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ[ الملك : 3 ] ؛ ولذا لا يذم اللّه تعالى على خلق القبائح إذ لا قبح بالنسبة إليه .

ثم أشار إلى ذلك الكمال في جميع تلك الأفعال الذي به انتسابها إلى اللّه تعالى بأنها من تلك الجهة مقيدة للسعادة بوجه ما للعامل ، وإن كانت مفيدة للشقاوة بوجه آخر .
فقال : ( ولما كان الأمر ) أي : أمر الحق تعالى ( على ما قررناه ) من كونه أمر المشيئة وأمر التكليف ، وأنه لا بدّ للعبد في أفعاله كلها وموافقة أحدهما ، والموافقة موجبة للكمال كانت موجبة لكماله من وجه ؛ ( لذلك ) أي : لكون فعل كل موجب للكمال في الجملة ، ( كان مآل الخلق إلى السعادة ) التي هي الكمال المطلوب من اتحادهم ( على اختلاف أنواعها ) ، فنوع منها تنتفع به الروح والقلب والجسم ، وسائر ما يتعلق بها ، ونوع يختص نفعه بالأعيان الثابتة ، وهي سعادة القرب من الحق في التجلي الجلالي ، تلتذ بها الأعيان الثابتة دون الأرواح والقلوب والنفوس والأركان .

( فعبّر عن هذا المقام ) أي : مقام حصول نوع من السعادة لكل واحد ، وإن كان مع نقصها أنواع من الشقاوة بحيث يضمحل هذا النوع بالنظر إليها ( بأن الرحمة ) التي هي إفاضة الخير ، ( وسعت كل شيء ) حتى المغضوب عليه ، إذ يحصل له سعادة القرب من اللّه عند رجوعه إلى اللّه ، ولكن مع تنكس الرأس ، وعود الحجاب الظلماني عليه الموجب للعذاب ، ( وأنها سبقت الغضب الإلهي ) ، فلا بدّ للمغضوب عليه أن يصير محكوما عليه بها إذ وصل إلى غايته ، وذلك أن ( السابق ) في الطريق ( متقدم ) على اللاحق فيه ، بحيث يكون أقرب إلى الغاية أو واقفا فيها ، ( فإذا لحقه هذا الذي ) كان ( يحكم عليه المتأخر ) في أثناء الطريق ، فإنه يصير حينئذ بحيث ( يحكم عليه المتقدم ) ، إذ الحكم على كل شيء للأقرب منه دون الأبعد في طريق الرجوع إلى اللّه تعالى الرحمة متقدمة والغضب متأخر .

فمن كان الحاكم عليه الغضب في أثناء الطريق يصير الحاكم عليه الرحمة في الغاية ، ( فنالته الرحمة ) لا محالة إلا أن نفرض سبق شيء ثالث عليها ، لكنه باطل ( إذ لم يكن غيرها سبق ) ، وإلا لكان أولى بالذكر ، لكن لم يرد ذلك في الأخبار أصلا مع أنه أجل مما ذكر ، فلا يجوز للكمّل ترك ذكره مع ذكر الأدنى منه ،
( فهذا معنى ) ما قيل : « سبقت رحمته غضبه »  ، لا ما يتوهم من غلبة الرحمة على الغضب لاستلزامه كثرة المرحومين لكنه باطل لما ورد في الحديث من أنه : « يبعث إلى النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون » . رواه البخاري ومسلم

وليس هذا السبق كسبق إعلام الطريق بعضها على بعض لا يؤثر في السائرين أصلا إذ لا معنى له هاهنا ، فإنما سبقت ؛ ( لتحكم على ما وصل إليها ) ، كما حكم المتأخر على من وصل إليه في أثناء الطريق ، وليس لها رجوع عن الغاية بعد سبقها إليها ، حتى يصح أن يقال : لا يحكم على كل من وصل إلى الغاية ؛
( فإنها في الغاية وقفت ) ، ولا يحبس أحد في أثناء الطريق بحيث لا يصل إلى الغاية ، فلا تحكم عليها الرحمة التي فيها بل ( الكل سالك ) بحيث ( إلى الغاية ) التي فيها ، ( فلابدّ ) للكلّ ( من الوصول إليها ) ، فإنه لا بدّ للحركة من المنتهى ، ( فلابدّ من الوصول إلى الرحمة ) ؛
لأن الوصول إلى الغاية مستلزم للوصول إليها ، ( ومفارقة الغضب ) الذي في أثناء الطريق كما لا بدّ للواصل إلى منتهى الحركة من مفارقة وسط الطريق ، والحكم للموصول إليه دون المفارق .
( فيكون الحكم لها ) لكن هذا الحكم ( بحسبما يعطيه حال الواصل إليها ) ، فإن اقتضت حالته الوصول إلى الأسماء الجمالية يكون حكم الرحمة عليه أن تنتفع بها الأعيان الثابتة ، والأرواح ، والقلوب ، والنفوس ، والأركان ، فيكون مرحوما مفارقا للغضب من كل وجه ،
وإن اقتضت حالته الوصول إلى الأسماء الجلالية يكون حكم الرحمة عليها أن تنتفع بها الأعيان الثابتة لا غير ، فيكون مرحوما لمفارقة غضب البعد المطلق مع حصول البعد من تجلي الأسماء الجمالية ، وهذه الرحمة أيضا مفيدة لانتفاع الأرواح والقلوب والنفوس والأجسام في حقّ المحب ، لكن هذا محجوب لا يلتذ بها تكن عدم التلذذ بالخلق لا يخل بحلاوته في نفسه ، فكذلك هذه الرحمة والقرب .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا
فما ثمّ إلّا ما ذكرناه فاعتمد .... عليه وكن بالحال فيه كما كنّا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم  ....  ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا
وأمّا تليين الحديد فقلوب قاسية يليّنها الزّجر والوعيد تليين النّار الحديد ،
وإنّما الصّعب قلوب أشدّ قساوة من الحجارة ، فإنّ الحجارة تكسّرها وتكلّسها النّار ولا تليّنها : وما ألان له الحديد إلّا لعمل الدّروع الواقية تنبيها من اللّه :
أي لا يتّقى الشّيء إلّا بنفسه ، فإنّ الدّرع يتّقى بها السّنان والسّيف والسّكّين والنّصل ، فاتّقيت الحديد بالحديد ، فجاء الشّرع المحمّديّ بأعوذ بك منك ، فافهم ، فهذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرّحيم ، واللّه الموفّق ).

ولصعوبة فهم هذا الكلام على العوام قال : ( فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ) بالذوق المفيد للعلم الضروري ، ( وإن لم يكن ) لأحد ( فهم فيأخذه ) تقليدا ( عنّا ) ، ولا ينبغي له أن ينكر علينا ما لم يفهم منا ، وليس لنا أن نذكر له غير ما ذكرنا عند إنكاره ، ( فما ثم ) أي : في الواقع ( إلا ما ذكرناه ) من وجوب نوع من الرحمة في الغاية لكل واحد ، وإن لم ينتفع بعضهم باعتبار غير الثابتة به ، ( فاعتمد عليه ) لا على ما قيل باختصاص الرحمة بطائفة دون أخرى من كل وجه ، ( وكن بالحال ) أي : بالذوق ( فيه ) أي : في عموم الرحمة إن لم يدركها في البعض بالحس أو العقل ، ( كما كنا ) تقليدا لنا إن لم يستقل ، فإنه ليس على العامة حرج في تقليد الكامل قبل أن يصل إلى حال التحقيق .

ثم أشار إلى وجه تلذذ المحب بتلك الرحمة ، وإن رآها المحجوب عين العذاب ، بقوله :
( فمنه إلينا ما تلونا عليكم ) من كون الرحمة في صورة العذاب ، إذ فيه رؤية المحبوب والقرب منه ، لكن هذا لمن أوتي المحبة ، وليس ذلك إلى اختيار المعذب حتى يأخذ به ، ويدفع عنه وجد العذاب كما قال ، ( وليس إليكم ) أي : إلى اختياركم ( ما وهبناكم منا ) من المحبة حتى تلذذوا بالعذاب لاختياركم ، بل يختص بمن أعطاه الحق محبته كخزنة جهنم ، وما فيها من الحيات والعقارب ، ومنه تقول النار للمؤمن : "جز يا مؤمن ، فإن نورك أطفأ لهبي ". رواه الطبراني في الكبير والحكيم الترمذي.

[ومنه دخول نبينا عليه السّلام في النار ؛ لإخراج أهلها بالشفاعة " رواه البخاري  ومسلم ومما نقل عن بعض العارفين أنه لو أدخل النار لا تبتغي منه فرحا . ]
""أضاف الجامع :
"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج بالشفاعة من النار قال: نعم" . رواه البخاري
" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة؟ قال: نعم ".رواه مسلم
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج الله تعالى قوما من النار بعدما امتحشوا فيها، وصاروا فحما، فيلقون في نهر على باب الجنة، يسمى نهر الحياة، فينبتون فيها كما تنبت الحبة في حميل السيل، أو كما تنبت الثعارير، فيدخلون الجنة، فيقال: هؤلاء عتقاء الله عز وجل من النار ". رواه ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية والمطالب العالية على رواية البخاري . ""

ثم شرع في بقية النعم التي طولب آل داود بالشكر عليها ، وهي النعمة التي بها تمام أمر الخلافة ، وهي مشيرة إلى كون الرحمة في عين النعمة ، وإلى المقصد الأعلى من النبوة والولاية ،

فقال : ( وأما تليين الحديد ) ، فإنما كان نعمة على آل داود عليه السّلام حتى طولبوا بالشكر عليها باعتبار ما يشير هذا التليين في حقهم في أمر بدايتهم ونهايتهم .
( فقلوب قاسية ) أي : فالحديد في حقّهم إشارة إلى قلوبهم القاسية نوع قسوة تقبل معها التليين ، وتليين الحديد إشارة إلى تليين القلوب لقبول الكمالات العلوية ، ولا بدّ منه في الابتداء لتتأثر بما يصدر من معدن النبوة والولاية من الآثار الروحانية ( تلينها الزجر ) عن الأمور التي قست عليها ، فاتصفت بالرذائل ، وتخلقت بها ، ( والوعيد ) المؤكد له في حقّ العامة ( تليين النار الحديد ) ؛ لإشعالهما نار الخوف والحزن فيها ، فأثرت هذه النار فيها إذا كانت في القساوة كالحديد قابلة للتليين لا كالحجارة أو أشد منها ، وإليه الإشارة بقوله :
( وإنما الصعب قلوب ) أي : المتعذر تليين قلوب هي ( أشد قساوة من الحجارة ) ، فإنها لا تلين بالزجر والوعيد ، كما لا تلين الحجارة بالنار ، وإن كانت النار تؤثر فيها بوجه آخر .

( فإن الحجارة تكسرها ، وتكلسها النار ، ولا تلينها ) ، فكذا قلوب المنافقين لم تتأثر بالزجر والوعيد الأخروي ، وقد تأثرت من خوف الأمر الدنيوي ، والتي كانت أشد منها وهي قلوب الكفار ، ولم تتأثر بالتكسر والتكلس أيضا فضلا عن التليين ، فهذه هي الفائدة في البداية ، وأما الفائدة في النهاية ، فهي المشار إليها بقوله : ( وما ألان له الحديد إلا لعمل الدروع الواقية ) عن وصول الحديد المتصور بصورة الأسلحة ؛ ( تنبيها ) لآله ( من اللّه ) الذي هو الجامع بين الرحمة والانتقام ، وسائر الأسماء المتضادة أي : لا يتقي الشيء إلا بنفسه ؛ ليعلموا أنه لا يتقي اللّه إلا باللّه .

(فإن الدروع يتقى بها السنان ، والسيف ، والسكين ، والنصل ) ، (فاتقيت ) في جميع هذه الصور المفيدة للاستقراء التام ( الحديد بالحديد ) ، فلا يضرنا فوات صورة تليين الحديد عند حصول تليين القلوب مع التصريح بالمقصود من هذا التليين ، ( فجاء الشرع المحمدي أعوذ بك منك ) ، وهو أصرح في اتقاء اللّه باللّه ، وهذا التعوذ به منه ( روح تليين الحديد ) لا يضرنا فوات صورته عند حصوله لنا أكمل مما حصل لهم ، وقد حصل هذا التليين لأكثر القلوب من هذه الأمة ، وهو المقصود من إظهار المعجزات والكرامات ، سيما إذا كان المقصد الأقصى يحصل لنا أكمل مما حصل لهم ، وإذا كان هو المقصود منه ؛ ( فهو المنتقم الرحيم ) ، وكما اجتمعت الصفتان فيه فلا يبعد اجتماعهما في عذابه ، كما لا يبعد اجتماعهما فيما أنعم به على الكفار في الدنيا ، ( واللّه الموفق ) لاستخراج هذه الأسرار ، والتحقق بهذا المقام .

ولما فرغ عن بيان الحكمة الوجودية المشتملة على بيان الكمالات الوجودية التي لا تتم إلا عند كمال النفس الإنسانية باكتسابها من الروح والبدن جميعا عقبها بالحكمة النفسية ؛
فقال : فص الحكمة النفسية في الكلمة اليونسية
  .
واتساب

No comments:

Post a Comment