Saturday, January 18, 2020

17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة


شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية
ويلوّح على تلك النسبة بيّنات عددهما.
النبوّة والرسالة اختصاص إلهي ، لا كسبي
وبيّن أن مراتب كمال العباد ومدارج ترقّيهم فيه ضربان :
أحدهما : ما يصلح لأن تحصل لهم وراثة من « 2 » أعمالهم المعدّة لهم في استحصاله ، كاستفاضة المعارف واستعلام الحقائق واستجلاب تطوّرات الأحوال وفنون الأذواق بضرب من الأفكار الصافية والتوجّهات الخالصة عن الشوائب المشوّشة .
وثانيهما : ما لا يصلح لأن يكون من العبد عمل يوازيه ، ويورث ذلك ، لجلالة شأنه عن رتبة العبد بما هو عبد ، واختصاصه بالحق ، كالرسالة والنبوّة التشريعيّة ،
ولما كان من مقتضى الكلمة الداوديّة ومؤدّى كمالاته الخصيصة به أمر الخلافة وكمالها الذي هو الرسالة والنبوّة التشريعيّة ،
صدّر الفصّ بتحقيقها قائلا : ( اعلم أنّه لما كانت النبوّة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شيء من الاكتساب - أعني نبوة التشريع - ) ، وهو وضع الصور الجزئيّة والأحكام التكليفيّة - الكاشفة عن الأمر وتفصيله - على ما هو حقّ الإنباء وكماله .
وقد احترز به عن نبوّة تعريف الحقائق الكليّة وتبيين العلوم الإلهيّة - مما يمكن اكتسابه بوراثة الأعمال الفكرية والمهيّجات الذوقيّة ، كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم :
" من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم " أو بقرب نسبة الأنبياء ووراثتهم ذلك منهم ، كما قال: " العلماء ورثة الأنبياء " .
وذلك لأنّه قد يستحصل كليّات الحقائق الأسمائيّة والمعارف الإلهيّة الجمليّة بالفكر وسائر ضروب التوجّهات وفنون التعمّلات ، دون جزئيّات تفاصيل  تلك الحقائق ، على طبق ما في العين من الأشخاص الخارجيّة .

فإنّ ذلك من الخصائص الإلهيّة التي إنما يتحقّق بها العبد بطريق الوهب فقط وبيّن أن حكم الأصول الكليّة يسري في الفروع وجزئيّاتها ، فلذلك ( كانت عطاياه لهم من هذا القبيل : مواهب ليست جزاء ) لسوابق أعماله الوارثة لها ( ولا يطلب عليها منهم جزاء ) بلواحق شكره المستجلبة للمزيد عليها .

( فإعطاؤه إيّاهم على طريق الإنعام والإفضال ) بدون سوابق مقتضيات ولا لواحقها
( فقال : “  وَوَهَبْنا لَه ُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ “  [ 6 / 84 ] يعني لإبراهيم الخليل ، وقال في أيوب : “  وَوَهَبْنا لَه ُ أَهْلَه ُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ “  [ 38 / 43 ] ، وقال في حقّ موسى : “  وَوَهَبْنا لَه ُ من رَحْمَتِنا أَخاه ُ هارُونَ نَبِيًّا “  [ 19 / 53 ] ، إلى مثل ذلك ) مما حصل لسائر الأنبياء من جلائل النعم ودقائقها بطريق الوهب ، على ما نصّ عليه في كلامه .
وفي هذه الآيات الكريمة ما يكشف عن كمال تحقّق الخليل وبلوغه فيه مبلغ التمام ، حيث أنّ موهوبه ليست فيه نسبة ولا غيبة مما هو مقتضى السلوب والإضافات ، بل محض الوجود - كما اطَّلعت عليه في فصّه ، فتذكَّر .

( فالذي تولَّاهم أوّلا ) في كليّة أمرهم - أعني النبوّة التشريعيّة - ( هو الذي تولاهم في عموم أحوالهم ) الجزئيّة ( أو أكثرها ) ، فإنّه يمكن أن يكون بعض تلك الجزئيّات بالكسب ولكن على سبيل الندرة . ويعلم من هذا الكلام وجه امّية الخاتم ، ومعنى قوله : "أنتم أعلم بأمور دنياكم " .
( وليس ) ذلك المتولي أوّلا وثانيا ( إلا اسمه الوهّاب ) .

ما آتى الله تعالى داود عليه السّلام من الفضل
(وقال في حق داود : “  وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا “  ) [ 34 / 10 ] . ( فلم يقرن به جزاء يطلبه منه ) بل نسب ذلك إلى نفسه وقال : “ مِنَّا “  ، ( ولا أخبر أنّه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء ) بل نصّ على أنّه كان فضلا وعطاء .
( ولما طلبه الشكر على ذلك ) النعمة الجليلة ( بالعمل ) الذي هو مقتضى حكمه ( طلب من آل داود ولم يتعرّض لذكر داود ، ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ، فهو في حقّ داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حقّ آله على غير ذلك ، لطلب المعاوضة ) بالأعمال القلبيّة والجوارحيّة ، شكرا لتلك النعمة .

وهذا الطلب من آل داود مما عليه داود من الخلافة المطلقة المنصوص عليها .
فإنّه إذا كان يطلب من غيره المستخلفين عليهم الأعمال شكرا على ما أنعم على داود يكون غاية في تعظيم خلافته وجلال قدره ، سيّما إذا طلب ذلك من أهل الخليفة الذين هم مجبولون على التنافس والتباغض ، فإنّ دلالته على جلالة قدر الخليفة أكثر وأظهر .

(فقال تعالى : “  اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً “  [ 34 / 13 ] ، فعلم أنّ انتصاب “  شُكْراً “  إمّا على التمييز ، وإمّا على أنّه مفعول لأجله .

 شكر الأنبياء
ثمّ إنّ الشكر وإن لم يكن مطلوبا من الأنبياء عليهم السّلام ، ولكن لم يزل يواظبون عليه ، وذلك الشكر هو البالغ في الشكريّة . وإلى ذلك أشار بقوله تعالى : ("وَقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ “) [ 34 / 13 ] .

وإليه نبّه بقوله :رضي الله عنه :  ( وإن كانت الأنبياء قد شكروا الله تعالى على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك عن طلب من الله ، بل تبرّعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى تورّمت قدماه ، شكرا لما غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، فلما قيل له في ذلك قال  : " أفلا أكون عبدا شكورا "
وقال في نوح : “  إِنَّه ُ كانَ عَبْداً شَكُوراً “  [ 17 / 3 ] ، فالشكور من عباد الله قليل )
وذلك لأن الشكر البالغ إلى كماله التامّ فيه هو أن يكون بلا طلب من المنعم الواهب ، وهو إنما يكون للكمّل من الأنبياء الذين يصل إليهم النعم من ديوان الوهب كما عرفت .

خصوصيّة اسم داود
ثم إنّ الخلافة التي تحقّق بها داود إنما تقتضي التصرّف والتأثير في العالم ، وهو إنما يتصور بعد قطعه عن العالم ، ضرورة أنّ المتأثّر ما لم ينفصل عن المؤثّر فيه - انفصال قطع يقابله به - لم يتمكَّن من التصرّف فيه والتسلَّط عليه كلّ التسلَّط .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فأوّل نعمة أنعم الله بها على داود أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتّصال ، فقطعه بذلك عن العالم إخبارا لنا عنه بمجرّد هذا الاسم )

فإنّ اسم « داود » يلوح على القطع بعينه بأوّل بيناته ، وذلك لأنّ الأسامي والألقاب المنزلة من سماء الوهب مخبرة عمّا اشتمل عليه المسمى من الخصائص والأوصاف التي له عند العارف بفنون دلالات الحروف ووجوه كشفها وتبيّنها ،
وهذا من خصائص علوم أصحاب الأئمّة الهداة وتلامذتهم - وقد نبّهت عليه في المقدمة - فيكون انتصاب « إخبار » على أنه مفعول له من « قطعه » لا غير.

الحروف المتصلة والمنفصلة 
ثمّ إنّ الحروف الكتابيّة التي هي الكاشفة عن الحقائق ، التي تتعلَّق بطرف الولاية والبطون - كما سبق التنبيه عليه - تنقسم بالحصر القطعي إلى ما يتّصل ويتّصل به - وهو حروف الاتّصال ، وأكثر الحروف كذلك - وإلى ما يتّصل ولا يتّصل به ، بل ينقطع به الكلمة وينفصل ، فهو جهة تمامها ، وهو حروف الانفصال .

وذلك ستّة يجمعها « روزداذ » وإلى ما لا يتّصل ولا يتّصل به ، وهذا غير ظاهر ولا معدود في الحروف .
لأنّ الظهور يستدعي مظهرا يتّصل به حتّى يتمكَّن من البروز عن سواد الخفاء على بياض الظهور ، فهذا القسم مندمج في سواد الخفاء غير معدود في جملة الحروف .
لأنّ ملاك أمرها إنما هو الإظهار والإبراز - كما عرفت - وهذا هو الهمزة فقط .

المناسبات الحرفية في اسمي محمّد وداود عليهما السّلام
ثمّ إنّ المناسب لعالم الامتزاج والاختلاط هو القسم الأوّل ،
كما أنّ الموافق لعظمة الخلافة وحشمة أمرها هو الانفراد والانقطاع عن الرعايا وهو القسم الثاني .
فلذلك سمّي داود الذي قد اختصّ في التنزيل بنصّ منشور الخلافة بحروف هذا القسم ،
( وهي : الدال ، والألف ، والواو ، وسمّي محمّدا صلَّى الله عليه وسلَّم بحروف الاتّصال والانفصال ، فوصله به وفصّله عن العالم ، فجمع له بين الحالتين في اسمه ) .

وذلك لأنّ الاسم محل إظهار الشخص بما هو عليه ، ولما كان محمد صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم أمر الإظهار وسلطان حكمه - الذي إنما يتحقّق في الكثرة والانفصال مع انطوائه على تمام المعنى الذي يقتضي الوحدة والاتّصال - لا بدّ وأن يكون من الحروف المختصّة به دلالة على وجهيه .

إذا عرفت هذا تبيّن لك أنّه لا بدّ من اشتمال اسمه على النوعين من الحروف ، دلالة منه على طرفيه . وسائر الأنبياء وإن كانوا ذا طرفين ولكن ليس لأحد بينهم أمر تمام الإظهار وختمه ، فلا يكون في اسمه الذي هو مبدأ الإظهار دال عليه . فلذلك قال :
" فجمع له بين الحالتين في اسمه " ، ( كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ، ولم يجعل ذلك في اسمه ) .

"" أضاف المحقق :
قال الكاشاني : وهو اختصاصه بالجمع بين النبوة والرسالة والخلافة والملك والعلم والحكمة.""
( فكان هذه ) الجمعيّة الاسميّة ( اختصاصا بمحمّد على داود ) لما بينهما من الاشتراك في الظهور بالخلافة والرسالة الإحاطيّة .
ومن ثمّة ترى المشترك بين اسميهما هو « الدال » الدالّ على الدولة والظهور ، ولكن لما كان في المحمد متصلا بميم التمام والكمال يكون دالَّا على جمعيّته الصوريّة والمعنويّة ، فإنّ الاتّصال يستتبع الاتّحاد الذي هو من لوازم المعاني والعلوم .
وإليه أشار بقوله : ( أعني التنبيه عليه ) - أي على الاختصاص المذكور الذي له بين الأنبياء - ( باسمه ، فتمّ له عليه السّلام الأمر من جميع جهاته ) اسما ومسمّى وصورتا ومعنى .
وفي آدم وإن كان الدال فيه مع ميم التمام ، ولكن منفصلا عنه ، غير متّصل به فلا يدلّ إلا على الدولة الصوريّة والجمعيّة الوجوديّة التي له .
( وكذلك في اسمه ) المنصوص عليه اسميّته في التنزيل في قوله تعالى “ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي من بَعْدِي اسْمُه ُ أَحْمَدُ “  [ 61 / 6 ] .
( فهذا من حكمة الله ) المستفادة من الصور المنزلة من عنده ، فإنّ الحكم منها ما يستحصل بالفكر وما يجري مجراه من أنواع التعمّلات والسعي وفنون التسبّبات والكسب . ومنها ما يستفاد من الصور الحرفيّة القرآنيّة ، والدلائل الكشفيّة العيانيّة .
وبيّن أنّ الحكم وإن كان كلها من الله ، ولكن المنتسب منها إليه أوّلا وبالذات هو الثاني .

سرّ تسبيح الجبال والطير مع داود عليه السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ قال في حق داود فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه ترجيع الجبال معه التسبيح ، فتسبّح لتسبيحه ليكون له عملها ، وكذلك الطير ) ،
والوجه في تخصيص هذين النوعين بالمتابعة ، هو أنّهما أشدّ أنواع الأكوان ترفّعا على الإنسان ، وعلوّا عليه وإباء لقبول الإذعان له ، لغلوّ القساوة والخفّة فيهما ، وبيّن أن كلا منهما يمنع الانقياد وقبول التصرف .
أمّا الأوّل فلإفراطها في طرف الكثافة العاصية عن القبول.
وأمّا الثاني فلتفريطه في طرف الخفّة وعدم استقراره بين يدي الفاعل عند التأثّر والقبول .
وبيّن أنّ الطرفين مع غلوّ إبائهما وعلوّهما على الإنسان إذا دخلا في انقياده وإسلامه ، فما في أواسطهما - مما يقرّب إلى حدّ الاعتدال - يكون بذاك الانقياد أحرى وأولى .
ضرورة أنّ رقيقة نسبته إلى الإنسان أوثق وأظهر .
ولا يخفى على الواقف بأساليب هذا الكلام من المستبصرين ، أنّ تأويل الجبال والطير هاهنا بالعظام والقوى لا يوافق كمال خلافة داود وانقياد البريّة له وتسلَّطه عليها.

ثمّ هذا المعنى وإن كان له وجه في حدّه عند الكلام على الحكم الأنفسيّة ، ولكن لا يوافق هذا السياق ، فإنّه في صدد تسخير الأكوان الآفاقية له ، على ما هو من خصائص خلافته الخاصّة به ، وسيجئ في معنى تليين الحديد ما يؤيّد ذلك .

سرّ إعطاء القوّة والحكمة لداود عليه السّلام
ثمّ إنّ مثل هذه الخلافة لا بدّ وأن يكون بالقوّة التي بها يتمكَّن من الظهور سياسة وحكما . والحكمة التي بها تترتّب الأمور على الوضع الأتمّ والنظم الأليق ، والفصاحة التي بها تظهر الأشياء والأحكام فإلى هذه الأمور أشار بقوله : ( وأعطاه القوّة ونعته بها ) في كريم كتابه إظهارا لما أنعم عليه فيها ، كما هو مقتضى كمال أمر الخلافة وتمام إظهارها في قوله : “  وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّه ُ أَوَّابٌ “  [ 38 / 17 ] أيّ القوّة ( وأعطاه “  الْحِكْمَةَ “  ) أي معرفة حقائق الموجودات كلها تحقيقا ( “  وَفَصْلَ الْخِطابِ “  ) [ 38 : 17] أي إظهار ما يفصّل الأشياء ويميّزها حقّ التمييز من الكلام والخطاب اللايق بأمم زمانه .
"" أضاف المحقق :
كلام الشارح تعريض لما أورده الجندي وتبعه الكاشاني فقال : " إن الجبال تحكي بصورها رسوب الأعضاء والتمكن والثبات التي هي مخصوص بالكمل في ظواهرهم ، والطير تحكي بطيرانها حركة القوى الروحانية فيه وفي كل عبد كامل إلى تحصيل مطالبها عند التسبيح الكامل   
ولما كان داود من كمال توجهه وتجرده وانقطاعه إلى اللَّه بالمحبة الذاتية . . .
تبعته ظواهره وبواطنه وجوارحه وقواه كلها ، أظهر اللَّه تعالى سر انخراط أعضائه وقواه الروحانية في التنزيه والتقدس في صور الجبال والطير متمثلة له ...." .

وقال القيصري مكملا لكلامهم : " .... ولما كانت الجبال الظاهرة والطير المحشورة مثالا للأعضاء والقوى الروحانية والجسمانية ، وصورا ظاهرة في الخارج لهذه الحقائق التي في العالم الإنساني ... حصل ذلك التأثير الروحاني أيضا في روحانية الجبال والطير ، فسبحن ذلك التسبيح بعينه ..." . أهـ ""

ومبدأ فصل الخطاب هو ما أنعم عليه في اسمه بحسب الصورة الخطيّة كما يشعر به عبارته هذه ، كما أنّ مبدأ المعرفة ما فيه بحسب معناه ، كما لا يخفى

 اختصاص داود عليه السّلام بالتنصيص على خلافته
وبيّن أنّ هذه الكمالات الوجوديّة المستتبعة لإظهار ما عليه كلمته ، من فنون جلائل الأوصاف كلَّها متفرّعة على خلافته المنصوص عليها في التنزيل فهي مبدؤها وأصلها .
وإليه أشار بقوله : ( ثمّ المنّة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصّه الله بها التنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ) من الرسل ( وإن كان فيهم خلفاء ، فقال : “  يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى “  [ 38 / 26 ] أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني “  فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله “  أي عن الطريق الذي أوحي بها إلى رسلي ) .
وذلك أنّ لكل عبد طريقين إلى منهج الاستفهام واستعلام الأحكام :
أحدهما طرف قدس العقل ، الذي به يوحى إذا ترقى أمره إلى غايته الكمالية ، كما في الرسل عليهم السلام ، وهو الذي يأتي بالحقّ على مدارج تنزّلاته الوجوديّة ، وترتيبها الأصلي التي منها جاء من عالم المعاني إلى المثال ، إلى الحسّ والآخر طرف هويّته الإطلاقيّة وجمعيّته الكماليّة التي يسمّى بالهوى .

وهما في الحقيقة سبيل الله . فإنّ الهوى يلوّح بيّناته على الحقّ  ، ولذلك فسّر سبيل الله بقوله : " أي عن الطريق الذي أوحي بها إلى رسلي " ، تفسير تخصيص .

فإنّ الخلافة إنما يتمّ أمرها بالترتيب الحكمي المتقن ، على ما عليه السلام نظام الوجود في مدارج تنزّلانه ، وطريق الوحي هو المعطي لذلك الحكم دون الهوى . فإنّ الغالب في هذا الطريق أمر الإجمال وأذواقه الجماليّة ، وقد اختفى فيه أمر الفرق ونظام أحكامها جملة ، كما يلوّح ذلك من بيناته .

( ثمّ تأدّب سبحانه معه ) إعظاما لقدر مرتبته العظمى ، وترشيحا لمزيد حشمته التي ربّى لها
( فقال : إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) [ 38 / 26 ] أي موطن تمام التفصيل الذي من جملته تعرّف أحكام الجزئيّات وخواصّها ،
وهي إنما يستكشف حق الكشف والتبيين من العدد والحساب ، كما عرفت وجه لمّيته في المقدمة - فتذكّر .
(ولم يقل له : " فإن زللت عن سبيلي فلك عذاب شديد " ) .

تفاضل آدم وإبراهيم وداود عليهم السّلام في الخلافة
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن قلت : « وآدم ، قد نصّ على خلافته » ؟
قلنا : ما نصّ مثل التنصيص على داود ) على صورة التفويض مخاطبا إيّاه ، آمرا له بالحكم ،
( وإنما قال ) في قضيّة خلافة آدم : (" لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً “  [ 2 / 30 ] ، ولم يقل : « إني جاعل آدم خليفة في الأرض » ولو قال ، لم يكن مثل قوله : “  جَعَلْناكَ خَلِيفَةً “  في حقّ داود ، فإن هذا محقّق ) .
لدلالة النصّ على تفويض الخلافة لداود ، على ما لا يخفى ، ( وذلك ) النصّ الوارد في آدم (ليس كذلك ) ، أمّا أو لا فلأنّه ليس فيه صيغة التفويض أصلا ، بل إنما هو إخبار .
وأمّا ثانيا فلأنّه لا يدلّ بوجه من وجوه الدلالات على أن ذلك - الخليفة التي هو جاعلها - آدم .

(وما يدلّ ذكر آدم في القصّة بعد ذلك على أنّه عين ذلك الخليفة الذي نصّ الله عليه ) وبيّن أن مرتبة الكلام من المراتب له الكمال في المجالي الوجوديّة لأنّه مع ظهور الأمر فيه ، مظهر إيّاه ، كاشف عن الخصائص والأوصاف ووجوه التفاصيل التي فيه . ومن ثمّة ترى دلائل خلافة آدم في هذه المرتبة إجماليّة ، لعدم ظهور الخلافة بأحكامها الخصيصة بها فيه مفصّلا ، بل كان فيه مجملا وبالقوّة .
وإلى مثل هذا أشار بقوله : ( فاجعل بالك لإخبارات الحقّ عن عباده إذا أخبر ) فإنّها كاشفة عن المرتبة التي لذلك العبد ، مبيّنة عن مبلغ كماله فيها ، كما في قصّة آدم وإجمال حكم خلافته .

قال رضي الله عنه :  (وكذلك في حقّ إبراهيم الخليل : “إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً“) [ 2 / 124 ] فإنّه وإن دلّ على وجوه من الكمال الذي له حيث خاطبه وخصّصه بإمامة الناس والإمام هو المقدّم رتبة وشرفا ، فعلا وقولا ،
ليقتدى به الأمم فالإمامة أخصّ من الخلافة ، وكل خاصّ يستلزم عامّه ، ولكن لما قال « إماما » ( ولم يقل : « خليفة » ) ما دلّ على خصوصية كمال الخلافة فيه وما ظهر ذلك منه ، ( وإن كنّا نعلم ) ضمنا بحسب النظر العقليّ - كما عرفت آنفا .
قال رضي الله عنه :  ( أن الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها لو ذكرها بأخصّ أسمائها ، وهي الخلافة ) كما في خلافة داود ، فإنّه ذكرها باسمها الخاصّ بها ، مفوّضا لها إيّاه ، دون خلافة إبراهيم ، وإن كان لذلك أيضا وجوه من الكمال ، قد خلت عنها غيره ،
من جملتها التعبير عن تقدّم إبراهيم فيه بالوجوه المذكورة بالجملة الاسميّة ، الدالَّة على الاستمرار الزماني وبالاسم الفاعل لئلا يتوهّم التجدّد الزماني في جعله إماما ، كما لغيره من الأنبياء ، فهو ذاتي له ، ولذلك ترى الخاتم يقتدي به في الصلاة عليه .

قال رضي الله عنه :  ( ثمّ في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ) في الوجود الكلامي والتنزيل الختمي ، الذي هو منتهى مراتب الإظهار وغاية أمر الكلّ في تطورات الشعور والإشعار ، ( وليس ذلك ) الإظهار ( إلا عن الله ، فقال له : “  فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ “  [ 38 / 26 ] ،
وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة ) .
في أمر الإظهار والتنصيص في التنزيل بالخلافة في الحكم ، الذي هو السلطنة ، فإنّ الخلافة قد تطلق على من يخلف من هو قبله ، فيحتمل أن يكون خلافة آدم من هذا القبيل ،

قال رضي الله عنه :  ( فيكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنّه نائب من الله في خلقه بالحكم الإلهي فيهم . وإن كان الأمر كذلك وقع ) في آدم بحسب الظهور ، فإن ظهور الخلافة فيهما سواء
( ولكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه والتصريح به ) في التنزيل الختمي العربيّ المبين ، الذي هو أجلى مراتب الإظهار ، وأتمّ أصناف الصور وأجلّ أطوارها .

 خليفة الله تعالى ، وخليفة رسول الله صلَّى الله عليه وآله
قال رضي الله عنه :  (وللَّه في الأرض خلائف عن الله ، وهم الرسل . وأمّا الخلافة اليوم فعن الرسول ، لا عن الله) وذلك لأنّ أمر الإظهار مطلقا - إمامة كان أو نبوّة ، أو رسالة أو خلافة - إنما يتمّ دائرة كماله ويختم خزائن ترقّيه بالخاتم الرسول ، فقبل بلوغ أمر الإظهار تلك المرتبة تكون الخلافة عن الله حتى يتمّ كماله ، فإذا بلغ وتمّ فإنّما يتفرّع من الخاتم ذلك ، كما لا يخفى . فالخلفاء بعد محمّد إنما هم عنه لا عن الله .
( فإنّهم لا يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول ، لا يخرجون عن ذلك ) .

قال رضي الله عنه :  (غير أنّ هاهنا دقيقة ) ذوقيّة إنما يدركها أصحاب الرسول الخاتم برقيقة نسبتهم إليه ، وقرابتهم المورثة لهم عنه ( فلا يعلمها إلا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به ، مما هو شرع للرسول صلّى الله عليه وآله . فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه صلّى الله عليه وآله أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه عليه السّلام ) .
ولا يخفى على من له ذائقة إدراك اللطائف من موائد الحقائق ، أن الأوضاع الشرعيّة والصور المنزلة الفرقانيّة والقرآنيّة بهيئاتها الجمعيّة الوحدانيّة ، من جملة الصور الشخصيّة التي للخاتم الرسول عليه السّلام ، الباقية على صفحات الأيّام مدى الدهور والأعوام .

فتلك الصورة هي محلّ استفاضة خواصّ امّته ، ومجلى هدايتهم ، فهو الطريق الأمم والصراط الأقوم لمن له نسبة القرابة المورثة إلى موطن تحقّق الخاتم ، ومأخذ أحكامه ، فإنّه إذا اجتمع النسبة المعنويّة المورثة مع صورته الختمية لا يمكن أن يكون لذلك عائق عن الوصول .

وإلى ذلك أشار بقوله  صلّى الله عليه وآله: « إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي » .
فمن سلك مسلكه من وارثيه وتصوّر بصورته الباقية ، لا بدّ وأن يصل إلى الحقّ ،

ويأخذ الأحكام من معدنه ، ولكن في مادة الخاتم أيضا . فإن الواصل هو الرقيقة الاتحادية الأصليّة ، في صورة شخصيّة الخاتم ، فهم في صورة الخفاء والكمون بين أصحاب الخاتم . وإلى مثل ذلك أشار حيث لم يقل : « منّا »
وقال :رضي الله عنه :  ( وفينا من يأخذه عن الله ، فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم ، فتكون المادّة له من حيث كانت المادّة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ) .
( فهو في الظاهر ) بصورة شخصيّته العنصريّة ( متّبع ، لعدم مخالفته في الحكم ) ، وإن كان في نفسه مستقلّ في أخذه ذلك الحكم ، ( كعيسى إذا نزل فحكم ) ، فإنّه في الظاهر متّبع ، وفي نفس الأمر مستقلّ .
وإذ كان للخاتم مرتبة تمام الإظهار في جميع ما يحقّق به غيره من الكمّل سرى ذلك في سائر الأحكام منه ، فكذا في أمر الاتّباع .
وإليه أشار بقوله : ( وكالنبي في قوله : “  أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه ْ “  ) [ 6 / 90 ] ، فإنّه ظهر أمر الاتّباع والاقتداء في مرتبة الإظهار الكلاميّ المعرب .

قال رضي الله عنه :  ( وهو ) - أي الحكم المأخوذ على الاستقلال من الوليّ المتّبع - ( في حقّ ما يعرفه من صورة الأخذ مختصّ ) بالآخذ من وجه و ( موافق ) لشرع النبيّ من آخر ، فالحكم المذكور للوليّ المتّبع ، ( هو فيه بمنزلة ما قرّره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من شرع من تقدّم من الرسل ، بكونه قرّره ، فاتّبعناه من حيث تقريره ) الذي هو وجه موافقته ، ( لا من حيث أنّه شرع لغيره قبله ) الذي هو وجه الاختصاص .

 فضل حكم الرسول على حكم الخليفة
قال رضي الله عنه :  ( وكذلك أخذ الخليفة عن الله ) بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ( عين ما أخذه منه الرسول . فنقول فيه بلسان الكشف : خليفة الله ) - فإنّ الكشف هو المعرب عن وجه الاختصاص ، ليس إلا - ( وبلسان الظاهر : خليفة رسول الله .

ولهذا مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما نصّ بخلافته عنه إلى أحد ولا عيّنه ) بوجه غير التنصيص ، ( لعلمه أنّ في امّته من يأخذ الخلافة عن ربّه ، فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع ) ، لما تبيّن من لزوم اشتماله على وجهي الاختصاص والموافقة ، ( فلما علم صلَّى الله عليه وسلَّم لم يحجز الأمر ) .

قال رضي الله عنه :  (فللَّه خلفاء ) غير الرسل ( في خلقه يأخذون من معدن النبيّ والرسول ما أخذته الرسل عليهم السّلام . ويعرفون فضل المتقدم هناك ، لأن الرسول قابل للزيادة ) إذ لم يتمّ حينئذ أمر الإظهار ، ولم يختم أبواب خزائن النبوّة والرسالة .

قال رضي الله عنه :  ( وهذا الخليفة ) حيث أنّها بعد الخاتم ( ليس بقابل للزيادة ) فإن الأمر بعد ختمه وتمامه لا يقبل الزيادة بوجه ، وإلا فلا يكون ختما .
وهذا جهة فضل المتقدّم التي تعرفها الخليفة أن ما أخذته من الحكم لا يقبل الزيادة ( التي لو كان الرسول قبلها ) .
فبهذا فضل حكم الرسول على حكم الخليفة .
ثمّ إنّ إظهار العلم والحكم وتبيين الحقائق والمعارف من الأوضاع والأحكام المشروعة لما كان من خصائص منصب الوليّ والخليفة ، فهو يوهم أنّه زيادة من الخليفة ، نبّه على دفع مثله بقوله : ( فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرّع إلى ما شرّع الرسول خاصّة ، فهو في الظاهر ) عند إظهار تلك الحقائق العلميّة والمعارف الحكميّة ( متّبع غير مخالف ) حيث أن إظهارها وتبيينها من عين ما شرّع الرسول مطابقا إيّاه ، مستنبطا ذلك منه ، ودالَّا هو عليه ( بخلاف الرسل ) .

قال رضي الله عنه :  (ألا ترى عيسى عليه السّلام لما تخيّلت اليهود أنّه لا يزيد على موسى مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول ) - زعما منهم أن لعيسى رتبة الخلافة مع موسى لا غير ، ولذلك لم يروه يزيد حكما على حكمه .
قال رضي الله عنه :  (آمنوا به وأقرّوه ، فلما زاد حكما أو نسخ حكما كان قد قرّره موسى ) ورأوا منه ذلك لإظهاره على صحائف الأزمان والأعيان ( لكون عيسى رسولا ) ومقتضى أمر الرسالة إظهار أحكامه المنزّلة عليه .

قال رضي الله عنه :  ( لم يحتملوا ذلك ، لأنّه خالف اعتقادهم فيه . وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه )
- من رسالة عيسى وأنّ إظهاره تلك الأحكام منه من تلك الحيثيّة الشريفة التي قد حصروها في موسى اعتقادا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فطلبت قتله . وكان من قصّته ما أخبرنا الله تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم . فلما كان رسولا قبل الزيادة - إمّا بنقص حكم قد تقرّر ، أو زيادة حكم ) وكلاهما صورة الزيادة .
فإن الزيادة إدخال ما لم يكن معتبرا قبل في درجة الاعتبار ، سواء كان بإضافة أمر وزيادته على السابق ، أو بإسقاط شيء ونقصه عنه ، وإليه أشار بقوله :

مسألة الاجتهاد
قال رضي الله عنه :  (على أن النقص زيادة حكم بلا شك ، والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ) ضرورة أنّ بعد ختم الرسالة ، يعني بلوغ أمر الإظهار إلى مرتبة تماميّته وختم خزائن الأحكام والأوضاع الشرعيّة المنبئة عن الحقائق بما هي عليه في نفس الأمر
قال رضي الله عنه :  ( وإنما تنقص أو تزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد ) المنوط أمره برؤية الأئمّة وآراء العلماء .
وفي ذلك من وجوه السعة وصنوف الاحتمالات ما لا يخفى . فإنّهم مختلفون فيه حسب اختلافهم في مدارج الأذهان والقرائح تارة ، وفي موادّ العلوم والمعتقدات أخرى ، وذلك في الأحكام الخالية عن النصوص الجليّة والسنن البيّنة المؤيّدة بالقرائن ، فإنّ النصوص ما لم تكن كذلك تكون مورد تطرّق الاحتمالات ، فإنّ الألفاظ الدالَّة بتوسّط الأوضاع لا يخلو عن وجوه من الاحتمالات - مثل الحذف والإضمار وصنوف المجاز وغير ذلك .

 وفي عبارة الشيخ حيث قال : ( لا على الشرع الذي شوفه به محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ) إيماء إلى ذلك ، فإن المشافهة تستتبع تلك القرائن ، دون التنصيص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم ، فيتخيّل أنّه من الاجتهاد ، وليس كذلك وإنما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي ، ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل ، فما هو معصوم من الوهم ) الذي هو مبدأ السهو والنسيان .
قال رضي الله عنه :  ( ولا من النقل على المعنى ) الذي هو مثار سائر التبديلات والتحريفات .
( فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى ) حين يزيد في الشرع ما يزيد ، ( فإنّه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرّر ) في زماننا بتقرير المجتهدين من الأئمّة الأربعة وغيرهم .
قال رضي الله عنه :  ( فيبيّن برفعه صورة الحقّ المشروع الذي كان عليه عليه الصلاة والسلام ) فإنّ الذي عليه الحقّ في نفسه من الصور التي اختلفت الأئمّة في زماننا فيها ، إنما هو الواحد منها بلا شكّ ، ( ولا سيّما إذا تعارضت أحكام الأئمّة في النازلة الواحدة ) .
                                                                   
قال رضي الله عنه :  (فتعلم قطعا أنّه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه ، فذلك هو الحكم الإلهي ، وما عداه - وإن قرّره الحقّ - ) في صور المجتهدين على ما مكَّنهم محمد صلَّى الله عليه وسلم في ذلك حيث قال : « أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم » فهو رحمة للعالمين .

( فهو شرع تقرير ) إنما عمل ذلك ( لرفع الحرج عن هذه الامّة واتّساع الحكم فيها ) فإنّه لو لم يتعلَّق أمر إثبات الأحكام بالاجتهاد ما كان يظهر فيها الوجوه المتكثّرة التي هي صورة سعة الحقّ ، وهي مقتضى الرحمة المجبول عليها محمّد صلَّى الله عليه وسلم .

الخليفة الظاهرة واحدة
ثمّ لما استشعر أن يقال : « إنّ تعارض أحكام الخلفاء والمجتهدين ينافي ما عليه اتّفاقهم عن الأصل الذي ثبت صحته عن النبي عندهم من قتل الثاني من الخليفتين » ،

رفع ذلك بقوله : ( وأمّا قوله صلَّى الله عليه وسلم : « إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الآخر منهما » ، هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف ، وإن اتّفقا فلا بدّ من قتل أحدهما ) - وهو الآخر رتبة وزمانا .
(بخلاف الخلافة المعنويّة ، فإنّه لا قتل فيها ) فإنّه لا يزاحم أحدهما الآخر كما في الصورة التي هي موطن التزاحم ومحل الضيق والتصادم .

وإليه أشار بقوله : ( وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة ) مطلقا ( وإن لم يكن لذلك الخليفة ) الظاهرة التي في الثانية من الرتبة (هذا المقام ، وهو ) مقام أخذ الحكم عن الله .
فإنّ ذلك لا يتعلَّق بالصورة التي هي الحاكمة بالقتل . فبين هذه الخليفة وبين الخليفة الأولى تخالف في رتبة الخلافة ، غير متّحد في النسبة فيها .
فإنّ الأولى أخذه عن الله ، وهو خليفة الله حقيقة والثانية ليست له هذا المقام ( خليفة رسول الله إن عدل ) .
فوجوب القتل فيها - مع تفاوت النسبة المعنويّة - لما في تعدّد ولاة الأمر والخلفاء الصوريّة من الفساد الذي في دليل التمانع ، الوارد في التنزيل السماويّ ، الذي هو أصل سائر الأحكام .
وإليه أشار بقوله : ( فمن حكم الأصل الذي به يحيل وجود إلهين ) جاء مثله ،
وهو قوله تعالى : (" لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا “  [ 21 / 22 ] وإن اتّفقا ) وذلك لأنّه على اتّفاقهما إمّا أن ينفذ حكم كل منهما في الآخر ، فلا يكون واحد منهما إلها ، لنفوذ حكم الآخر فيه .
وإن لم ينفذ أيضا فكذلك ، لعدم القدرة والعجز . وإن نفذ حكم أحدهما دون الآخر فالنافذ الحكم هو الإله ، فلا يكون في الآلهة تعدّد أصلا .

لا يجري حكم في العالم بغير مشيئة الله تعالى
ثم إنّه لما كان الكلام في قتل الخليفة الثانية - وإن عدلت - لذلك قيّد الدليل بقوله : « وإن اتّفقا » تطبيقا لما هو بصدد تبيينه من المدّعى ، وبعد ذلك تعرّض للشقّ الآخر تعميما للدليل بقوله :
( فنحن نعلم أنّهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما ) فقط ،
قال رضي الله عنه :  ( فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة ، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله . ومن هنا تعلم أن كلّ حكم ينفذ اليوم في العالم أنّه حكم الله وإن خالف الحكم المقرّر في الظاهر - المسمّى شرعا - إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر ، لأنّ الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية ، لا على حكم الشرع المقرّر ، وإن كان تقريره في المشيئة . ولذلك نفذ تقريره خاصّة ) دون العمل بأحكامه والتزام ما جاء به .

قال رضي الله عنه :  ( فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير ) أي إثبات عينه في الخارج ( لا العمل بما جاء به ) .
وكأنك قد اطَّلعت في مطلع الفصّ الآدمي عند الكلام على المشيئة ما يلوّح على هذا الكلام وعلى اشتقاق الشيء منها .
قال رضي الله عنه :  ( فالمشيئة سلطانها عظيم ) حيث أنّه لا شيء إلا ويستقرّ أمره بالمشيّة ، فهي مستقرّ الأشياء في الوجود ( ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذات ، لأنها لذاتها تقتضي الحكم ) وتثبت الأمر وتقرّره بالذات ، دون توسّط رسالة نبيّ ولا دلالة أمر تنزيلي .

"" أضاف الجامع :
 قال الشيخ رضي الله عنه : 
إن المشيئة عرش الذات ليس لها ... في غيرها نسبة تبدو ولا أثر
وهي الوجود فلا عين تغايرها ... تفنى وتعدم لا تبقي ولا تذر

قال الشيخ رضي الله عنه :  في الفتوحات الباب الثاني عشر وثلاثمائة
"" ليس للإرادة اختيار ولا نطق بها كتاب ولا سنة ولا دل عليها عقل وإنما ذلك للمشيئة فإن شاء كان وإن شاء لم يكن  قال عليه السلام:  "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" .
فعلق النفي والإثبات بالمشيئة وما ورد ما لم يرد لم يكن بل ورد لو أردنا أن يكون كذا لكان كذا فخرج من المفهوم الاختيار فالإرادة تعلق المشيئة بالمراد وهو قوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ هذا تعلق المشيئة
وقد ذهب بعض الناس من أهل الطريق أن المشيئة هي عرش الذات وهو أبو طالب أي ملكها أي بالمشيئة ظهر كون الذات ملكا لتعلق الاختيار بها فالاختيار للذات من كونها إلها فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وهو التردد الإلهي
في الخبر الصحيح ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نسمة المؤمن يكره الموت. أهـ
تقول د. سعاد الحكيم :
إن المشيئة هي عرش الذات من حيث أن المتصوفة وخاصة أصحاب وحدة الوجود يرمزون إلى الوجود بالعرش ، فالمشيئة هي النسبة الإلهية التي استوت عليها الذات فأظهرت الوجود بأسره . ""
قال رضي الله عنه :  ( فلا يقع في الوجود شيء ، ولا يرفع خارجا عن المشيئة ، فإن الأمر ) التنزيلي ( الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية ، فليس إلا الأمر بالواسطة ) أعني الأمر التنزيلي الذي هو بواسطة النبيّ ، ( لا الأمر التكوينيّ ) الذي لا واسطة فيه .
قال رضي الله عنه :  ( فما خالف الله أحد قطَّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة ) التي لا دخل للواسطة فيه ولا لغيرها مما يشوب به صرافة الوحدة ( فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ، فافهم ) حيث أن منشأ المخالفة إنما هو إدخال الواسطة الحاكمة على ما يترتّب على إيجاد الفعل من العوارض الاعتباريّة التي تعرض الفعل المذكور بالإضافة إلى فاعله المخصوص في الزمان الخاصّ ، كالإباحة والحرمة وغيرهما .

مرجع المعصية والطاعة 
قال رضي الله عنه :  (وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجّه على إيجاد عين الفعل ، لا على من ظهر على يديه ، فيستحيل إلا أن يكون ) ذلك الإيجاد بعينه ، ضرورة توجّه الأمر قادرا عليه ومستعليا وحاكما ومستوليا ، ولتضمّن التوجّه المذكور في نفسه هذه المعاني كلَّها عدّاه بـ "على " .
فعلم أنّ متوجّه أمر المشيئة المتحتّم امتثاله إنما هو إيجاد عين الفعل مطلقا .
ولكن لما كان ذلك إنما يتصوّر وجوده في الخارج ، إذا كان في محلّ وزمان يشخّصانه ، وبذلك يصير عرضة للمدح والذمّ والمخالفة والمعصية .

كما ورد في الحديث : " كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه " ، وإلى ذلك أشار بقوله : ( ولكن في هذا المحلّ الخاصّ فوقتا يسمى به مخالفة لأمر الله . ووقتا يسمّى موافقة وطاعة لأمر الله ) وذلك بحسب ما عيّنه الشارع ، حيث أن المشخّصين المذكورين إذا كان تشخيصهما في الحد الذي عيّنه الشارع يكون محمودا ، وإذا وقع خارجا عنه يكون مذموما . ولذلك قال : ( ويتبعه لسان الحمد والذمّ على حسب ما يكون ) فيه من جهتي الموافقة والمخالفة.

مآل الخلق إلى السعادة
قال رضي الله عنه :  ( ولما كان الأمر في نفسه على ما قرّرناه ) من أنّ الحمد والذمّ والموافقة والمخالفة منشؤها إنما هو المشخّصات الخارجيّة ، وهي نسبة ذلك العين إلى الزمان والمكان المخصوص ، والنسب إنما هي اعتبارات محضة لا حظَّ لها من الوجود ،
فيكون عين الأفعال التي هي متوجّه أمر المشيئة في نفسها مبرّأة عن هذه النسب ، وإن كان في الخارج لا يخلو عن نسبة من تلك النسب ، ( لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة - على اختلاف أنواعها - ) ، فإنّ لكل نسبة خاصيّة وأثرا يترتّب عليها . إمّا في طرف الحمد - ويسمّى بدرجات الجنّة.
أو في جهة الذمّ - ويسمّى بدركات الجحيم ، والكلّ سعادة لشمول الرحمة إيّاه .

قال رضي الله عنه :  ( فعبّر عن هذا المقام بأنّ « الرحمة وسعت كل شيء » ) من متوجّهات أمر المشيئة ، ( وأنّها سبقت الغضب الإلهي ) سبقا ذاتيّا يستلزم العلوّ والاستيلاء ، ( والسابق متقدّم ) في الوجود ونفاذ الأمر ، ( فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخّر ) يعني الغضب المسبوق بالقهر والشقاوة ( حكم عليه المتقدّم ) يعني الرحمة السابقة باللطف والسعادة ، ( فنالته الرحمة إذ لم يكن غيرها سبق ) بالعلو الإحاطي الذي هو أثر التقدّم الذاتي.

 سبقة الرحمة على الغضب
قال رضي الله عنه :  ( فهذا معنى « سبقت رحمته غضبه » لتحكم على من وصل إليها . فإنّها في الغاية وقفت ) ، وهي الحدّ المحيط الذي ما وراءه شيء ، ( والكل سالك إلى الغاية ) ، متوجّه إليها في الحركة الظهوريّة ، ( فلا بدّ من الوصول إليها ، فلا بدّ من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب ) الذي له عند فقدان الغاية والحدّ ( فيكون ) الحاكم هو الغاية ،
و ( الحكم لها في كلّ واصل إليها بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها ) وإذ كانت أحوال الواصلين متخالفة الأنواع ، تكون سعاداتهم متخالفة بحسبها .
ثمّ إنّه إذ قد انساق الكلام في الحكمة الوجوديّة إلى هذه الجمعيّة الحقيقيّة والتفصيل الجمعيّ ، حان أن ينتقل إلى النظم ويتنقل في مجلس انبساط الذوق ونشوات معارفه المنعشة للروح بلطائف ثمرات الوقت ويوانع الزمان ،

من مقطعات التفصيل ومنظومات الإجمال ، فإنّك قد نبّهت غير مرّة على أنّ النظم يكشف عن وجوه جمال الإجمال ما لا يكشفه غيره من العبارات ،
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا    ....   وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا
بقوله رضي الله عنه  :( فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ) مشاهدة يقين عينيّ ، فإنّه يفهم من مسطورات صحائف الأكوان ، سيّما في هذه الأوان ، أمر الإجمال على التفصيل الذي حقّقه ، واقتصاره على الفهم تنبيه على أنّ الزمان هذا مما يكفيه مجرّد الفهم ، ولا يحتاج إلى ترقّيه إلى رتبة الذوق ، لأنّ العقل إذا صفى موارد إدراكاته عن شوائب التقليدات وشواكل العقائد من الخياليّات لا يقصر فهمه عن إدراك الحقّ فيه .

قال رضي الله عنه :  ( وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا ) وذلك أيضا بعد تصفية الباطن عن ضروب العقائد التقليديّة الظنيّة ، حتى يكون له قابليّة الأخذ من ذوي الحقائق اليقينيّة .

وفيه استشعار ما ورد في الحديث  : « الناس عالم أو متعلَّم والباقي همج » .
"" عن خالد بن معدان، قال: الناس عالم ومتعلم، وما بين ذلك همج لا خير فيه". إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة ابن حجر العسقلاني""
عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: «الناس عالم، ومتعلم، ولا خير، فيما بعد ذلك». رواه الدارامي""
"" وروي عن علي رضي الله عنه قال: «الناس ثلاث، فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة، والباقي همج رعاع أتباع كل ناعق» جامع البيان للقرطبي ""

وإليه إيماء بقوله : ( فما ثمّ إلا ما ذكرناه   ....  فاعتمد عليه وكن بالحال ) التي أنت ( فيه ) في زمانك ، ( كما كنّا ) في زماننا

فمنه إلينا ما تلونا عليكم  .....    ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا
قال رضي الله عنه :  ( فمنه إلينا ما تلونا عليكم ) من الصور الكتابيّة والكلاميّة المنزلة التي هي الكاشفة عن كنه التفاصيل ، كما بيّن في ديباجة الكتاب ،
قال رضي الله عنه :  (ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا ) من الحقائق والمعارف التي هي لبّ تلك الصور ، وتلك الحقائق هي عين حقيقة الكمّل وفصّ كلمتها ، لا غيرها عند التحقيق . ف : « منّا » الثانية ، بيان ل « ما » على هذا التقدير .
ويحتمل أن يكون صلة للوهب ، والأولى منها ابتدائية .
ولما كانت هذه الحكمة من خزانة الوهب - كما بيّن - وباطن الكلمة الداوديّة وبيّناتها كاشفة عنها ، صرّح بعبارة الوهب تطبيقا لما مهّد سابقا .

وحاصل هذا الكلام أنّ الواصل إليه من المبدء بوساطة النبيّ صلَّى الله عليه وسلم إنما هو الكلام المتلوّ الكاشف عن الكل ، ذوقا لا لغة ووضعا .

وأما المعارف التي أظهرها وباح بإفشائها في عبارات دالَّة عليها وضعا ولغة ، فهي مستنبطة أولا من أصل حقيقتها ، التي هي الكتاب الجامع ،
ولتوافق النسخ وجد الكلام المنزل مطابقا له كما قيل :
يا معدن الأسرار يا كنز الغنى    .....    يا مشرق الأنوار للمتوسّم
يا عين غيب الله يا سرّ الهدى     .....    يا نقطة الخط البديع الأقوم
اقرأ كتابك قد كفى بك شاهدا     .....    يهديك منك علوم ما لم تعلم
وافقه رسوم هياكل قد أنزلت     .....    ينبئك عن سرّ الكتاب المبهم

وفي ترك لام الصلة بين « الوهب » ومفعوله إشعار بما بين الواهب والموهوب له من وجوب المناسبة الاتّصالية ، وعدم تخلَّل الوسائط هنالك.

تأويل تليين الحديد لداود عليه السّلام
ثمّ إنّه من الحكم المختصّة بالكلمة الداوديّة أمر تليين الحديد ، وهو إشارة إلى بلوغ تأثيره لدى الإبلاغ إلى أعصى البريّة للقبول ، وأقواها للإباء عند الدعوة النبويّة ، فإنّ قابليّات الأمم واستعداداتهم متخالفة في ذلك :

فمنهم من ليس له في مقابلة تلك الدعوة إلا القبول والإذعان ، وسائر الأنبياء في تسخيرهم متساوي القوّة لا اختلاف لهم في ذلك .

ومنهم من له قوّة التقابل والتجادل عند دعوتهم متمسّكين بالشبه الناشئة لديهم من الحجج ، والدلائل الدالَّة على عقائدهم التي لهم ، والأنبياء في تربيتهم متفاوتو القوّة ، متخالفون لدى التأثير والتصرّف .

وهم أيضا على اختلاف طبقاتهم طائفتان : منهم من يمكن أن يليّن شدّة إبائهم ، وهم بمنزلة الحديد في العصيان ، فإنّه يلينهم نار الزجر بالوعد والوعيد ، وإحراق ذلك شوائب شبههم . ومنهم من لا يمكن فيهم ذلك أصلا ، فهم في عدم القبول والامتناع عن التليين كالحجارة أو أشدّ قساوة منها .

ثمّ اعلم أن الأنبياء والمرسلين الذين لهم الخلافة والظهور بالسيف لا بدّ لهم في ذلك من تسخير الطائفة الثانية ، حتى يقابلوا بها أعداءهم الواقعين في تلك الدرجة ، فإنّ الحديد بالحديد يكسر ، وكذلك الحجارة أيضا .

وإلى ذلك كلَّه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( وأما تليين الحديد ، فقلوب قاسية يلينها الزجر والوعيد ، تليين النار الحديد ) وهو إشارة إلى الطائفة الثانية ،
( وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ) ، وهذه إشارة إلى الطائفة الثالثة ،
وإنما كانوا أشدّ قساوة من الحجارة ( فإنّ الحجارة تكسرها وتكلسها النار ) فيفنى صورتها النوعيّة بالكليّة ( ولا يلينها ) مع بقاء تلك الصورة وترتّب آثارها وأوصافها عليها .
ثمّ يشير إلى ما مهّدنا قبل من أنّ الظاهر بالخلافة لا بدّ له من تسخير الطائفة الثانية التي حكمة مظاهرته بهم بقوله رضي الله عنه  : ( وما ألان له الحديد إلا لعمل الدروع الواقية تنبيها من الله . أي لا يتّقى الشيء إلا بنفسه ) ، فإنّ الأنبياء عليهم السّلام ما لم يكونوا متلبّسين ومحفوفين بأقوام أشدّاء على مقاومة الأعداء .

الذين هم في الشدّة يماثلهم ، لم يمكن لهم أن يظهروا بالخلافة على الأمم .
ولما كانت طوائف الأعداء متخالفين بالنوع في شدّتهم وتمانعهم لقبول الدعوة الحقّة ، والطائفة الثانية إذا استكملوا بقرب الأنبياء وفازوا بقوّة الاقتفاء لهم تقاوموا جميعهم في فنون نكاياتهم وحروبهم .
أشار إلى ذلك بقوله رضي الله عنه  : ( فإنّ الدرع ) - يعني الطائفة الثانية - ( يتّقي به السنان والسيف والسكَّين والنصل ) ، إشارة في تفضيله إلى تنوع طوائف الأعداء وتطوّر حروبهم وتمانعهم ، مع كفاية الطائفة الثانية لقربهم إلى الأنبياء لمقاومة الكل .
وسرّ هذه الحكمة وروحها هو ظهور الوحدة الإجماليّة والإطلاق الذاتيّ في أقصى غايات الكثرة ونهاياتها ،
وعنه أفصح بقوله رضي الله عنه  : ( فاتّقيت الحديد بالحديد ، فجاء الشرع المحمدي ) المعرب المبين ( بـ « أعوذ بك منك » ) حيث أنّه عبّر عن تلك الجهة الجمعيّة الإجماليّة والوحدة الذاتيّة بكاف الخطاب ، الكاشف عن كنه الكل ( فافهم ) فإن كاف الخطاب مع دلالته على الوحدة التنزيهيّة لا يخلو من حيث الخطاب عن الجمعيّة التشبيهيّة .
قال رضي الله عنه :  ( فهذا روح تليين الحديد ، فهو المنتقم ) الذي في عين كونه منتقما وهو ( الرحيم . والله الموفق ) لفهمه وتحقيقه .
تم الفص الداودي
 .
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment