Monday, December 30, 2019

16 -  فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

16 - فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

16 -  فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

قال العبد : لمّا كانت الحكمة الرحمانية توجب ظهور الوجود العامّ على أكمل وجوهها في أكمل المظاهر الإلهية الرحمانية من الأشخاص الإنسانية بحيث يظهر فيه جميع أصناف الرحمة والإلهيات الظاهرة على العموم من كمال التصرّف والسلطان والملك والنبوّة والولاية على ما هي ظاهرة في جميع العالم مفصّلا مفرّقا في أشخاصه .
"أسندت حكمته إلى الرحمن لكمال ظهور أسرار الرحمة العامّة والخاصّة فيه صلَّى الله عليه وسلَّم على الوجه الأعمّ الأشمل وبالسرّ الأتّم الأكمل ، وجعل الله سعته في أمره وحكمه على أكثر المخلوقات ، وسخّر له العالم جميعا كما وسعت رحمة الرحمن جميع الموجودات ، فافهم ."
 وكانت الكلمة السليمانية بهذه المثابة على التعيين فإنّه كان نبيّا وليّا عبدا كاملا .
ووهبه الله التسخير الكلَّيّ التامّ والسلطان والحكم والتصرّف العامّ في جميع أجناس العالم وأنواعه وأصنافه من الملائكة والجنّ والإنس والطير والسباع وسائر الحيوان والنبات والمعادن ، على أكمل وجوهها وأفضلها وأتمّها وأعمّها .
فصلحت إضافة هذه الحكمة الرحمانية إليه عليه السّلام.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (إِنَّه ُ)   يعني الكتاب (من سُلَيْمانَ وَإِنَّه ُ) أي مضمونه (بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)   .
فأخذ بعض الناس في تقديم اسم سليمان على اسم الله ولم يكن كذلك ،
وتكلَّموا في ذلك بما لا ينبغي ممّا لا يليق بمعرفة سليمان عليه السّلام بربّه .
وكيف .يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه :   ( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) أي يكرم عليها ؟ ! » .

قال العبد : تأدّب رضي الله عنه مع الحق الذي في أعيان الطاعنين في سليمان وتخطئتهم بعدم تعيينه أسماءهم .
فقال : « أخذ بعض الناس ، وتكلَّموا بما لا يليق » إعراضا عن التعرّض لتخطئتهم والتعريض بهم ، وإنّما ساق مقتضى التحقيق في هذا المقام السليمانيّ وأمّا خطؤهم في تخطئة سليمان فصريح.
فإنّ واضح التفسير أنّ بلقيس هي التي قالت لقومها عندما ألقى إليها الهدهد كتاب سليمان وأرتهم الكتاب :
 ( إِنَّه ُ من سُلَيْمانَ ) فهذا قولها ، ليس في طيّ الكتاب « إِنَّه ُ» يعني مضمون الكتاب ( بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ )  والدليل على ذلك من ظاهر اللفظ قولها :   ( يا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ )   .
وقولها : « إِنَّه ُ » أي الكتاب ، يعود الضمير إلى المذكور ، وعلى ما قالوا ليس للضمير مذكور يعود إليه .
وإنّما قالت ذلك بيانا لمرسل الكتاب ، ثمّ تصدّت لبيان مضمون الكتاب بقولها : ( وَإِنَّه ُ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) .
وأنّه طلب الطاعة والانقياد لحكمه ، فما بقي بعد ذلك احتمال لكون الكتاب مكتوبا فيه ، كما قالوا ، وهذا ظاهر .

قال الشيخ رضي الله عنه : « وإنّما حملهم على ذلك ربما تمزيق كسرى كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم و ما مزّقه حتى قرأه كلَّه وعرف مضمونه .
فكذلك كانت تفعل بلقيس لو لم توفّق لما وفّقت له ، فلم يكن يحمي الكتاب عن الإخراق لحرمة صاحبه تقديم اسم سليمان عليه السّلام على اسم الله ولا تأخيره عنه » .
قال العبد : وإنّه رضي الله عنه وإن أقام عذرهم ، فإنّ قوله : « ربما حملهم على ذلك » إشارة إلى أنّهم علَّلوا فيما ذكروا تمزيق كتاب رسول الله .
ثمّ بيّن أنّ هذا التعليل أيضا غير صحيح ، لكون كسرى إنّما مزّق الكتاب ، لكون مضمونه دعوته إلى خلاف دينه ومعتقده ، لا لأنّ اسم الله مقدّم على اسمه .
وتقديم اسم رسول الله على اسمه كان جزءا لعلَّة التمزيق ، فمزّقه الله كلّ ممزّق .
فوفّق الله بلقيس ، فقرأت الكتاب وآمنت باطنا ، فذكرت لقومها أنّها ألقي إليّ كتاب كريم ، أرسله إليها سلطان عظيم .
فلو لم توفّق لما وفّقت ، لمزّقت ، سواء كان اسم سليمان مقدّما على اسم الله أو لم يكن ، فليس تقديم اسمه ولا تأخيره بمانع عن التمزيق والإحراق ، كما زعموا .

قال رضي الله عنه : « فأتى سليمان بالرحمتين » يعني : في مضمون كتابه أوّلا في البسملة « رحمة الوجوب ورحمة الامتنان اللتين هما الرحمن الرحيم » .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الرحمتين عين الاسمين في حق الحق ، لأحدية الاسم والمسمّى في ذاته .
واعلم : أنّ الرحمن كما ذكرنا عبارة عن الحق من كونه عين الوجود العامّ بين العالمين ،
فعمّ بهذه الرحمة جميع الأسماء والحقائق ، فهي رحمة الامتنان على كل موجود لم يكن لعينه موجودا ، فأوجده الله بهذه الرحمة .
ولفظ الرحمن في وزانه يقتضي العموم ، ولمّا عمّت رحمته الكلّ اقتضت أن يخصّ بعمومها كلّ عين عين من الأعيان بخصوصية ذاتية .
لذلك التعيّن فيرحمها برحمة يصلح لها ويصلحها ، فالرحيم فيه مبالغة لتعميم التخصيص ، وللرحمن من الرحيم تخصيص التعميم ، وللرحيم من الرحمن تخصيص التعميم ، وللرحيم من الرحمن تعميم التخصيص ، فكلّ منهما إذن في كلّ منهما .

قال رضي الله عنه : « فامتنّ بالرحمن وأوجب بالرحيم ، وهذا الوجوب من الامتنان ، فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمّن ، فإنّه كتب على نفسه الرحمة ، سبحانه ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحق من الأعمال يأتي بها هذا العبد حقا على الله أوجبه له على نفسه يستحقّ بها هذه الرحمة أعني رحمة الوجوب » .
يشير إلى قوله :  ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) فامتنّ على الكلّ بتعميم الرحمة ثمّ أوجبها بقوله  تعالى :   ( فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ )   .
وقوله : « سبقت رحمتي غضبي » امتنان على الكلّ أيضا بإيجاب الرحمة ، فافهم ، فإنّه ذوق نادر غريب ، هذا معنى قوله : « فدخل الرحيم في الرحمن » .
وقوله : « فإنّه ( كَتَبَ عَلى نَفْسِه ِ الرَّحْمَةَ ) » يعني الرحمة التي سبقت غضبه .
وقوله : « ليكون للعبيد » أي أجاب الرحمة بالكتابة على نفسه حقا عليه ، « استحقّوها بها » أي بالأعمال بإيجابه لهم هذه الرحمة .

قال رضي الله عنه : « ومن كان من العبيد بهذه المثابة ، فإنّه يعلم من هو العامل به ؟ » .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ رحمة الوجوب هي التي استحقّها المتّقون بتقواهم وأعمالهم الصالحة ، فإنّها رحمة خاصّة من الرحيم بهذه الأعمال المستدعية لمجازاة الله بما يناسبها ، ثمّ أشار إلى من يكون له هذه التقوى والرحمة الخاصّة ، فإنّه يكون عالما بأنّ الله هو العامل به جميع أعماله المقتضية لهذه الرحمة ، فإنّ هذا العلم أعلى مراتب هذه الرحمة للمتّقي .

قال رضي الله عنه : « والعمل مقسّم على ثمانية أعضاء من الإنسان ، وقد أخبر الحق - تعالى - أنّه هويّة كل عضو منها ، فلم يكن العامل غير الحق والصورة للعبد ، والهوية مدرجة فيه أي في اسمه لا غير » .
يعني : أنّ هويّة العبد هو الله .

قال رضي الله عنه : « لأنّه تعالى عين ما ظهر ، وسمّي خلقا ، وبه كان الاسم « الظاهر » و « الآخر » للعبد ، وبكونه لم يكن ثم كان » .
يعني : من حيث إنّ هذا العبد لم يكن ثمّ كان تحقّقت الآخرية ، فهو الآخر وفي مادّته تسمّى الله بالآخر « وبتوقّف ظهوره عليه وصدور العمل منه كان الاسم الباطن والأوّل » .
يعني رضي الله عنه : بتوقّف وجود العبد على الله الموجد له تحقّقت الأوّلية له تعالى ومن حيث إنّ الأعمال صادرة ظاهرا من العبد تحقّق للحق اسم « الباطن » من غيب هوية العبد . . . فإنّ الحق هو العامل به وفيه .

قال رضي الله عنه : « فإذا رأيت الخلق رأيت الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان عليه السّلام بل هي من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده » .
يعني الظهور به في عالم الشهادة يشير إلى أنّ سليمان كان عارفا بأنّ الله هو العامل بسليمان وغيره ما يصدر عنه من الأعمال والتصرّفات والتسخيرات ، ولو لم يشهد أنّ الله عينه وجميع قواه وجوارحه ، لما يأتي له هذا السلطان والحكم الكلَّي والأمر الفعلي .

قال رضي الله عنه : « فقد أوتي محمّد صلى الله عليه وسلَّم ما أوتي سليمان عليه السّلام وما ظهر به ، فمكَّنه الله - تعالى - تمكين قهر من العفريت الذي جاءه بالليل ليفتك به ، فهم بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد ، حتى يصبح ، فيلعب به ولدان المدينة ، فذكر دعوة سليمان عليه السّلام فردّه الله خاسئا ، فلم يظهر عليه السّلام بما أقدره الله عليه ، فظهر بذلك سليمان . ثم قوله : « مُلْكاً » فلم يعمّ ، فعلمنا أنّه يريد ملكا ما ، ورأيناه قد شورك في كل جزء من الملك الذي أعطاه الله ، فعلمنا أنّه ما اختصّ إلَّا بالمجموع من ذلك ، وبحديث العفريت أنّه ما اختصّ إلَّا بالظهور ، وقد يختصّ بالمجموع والظهور ، ولو لم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث العفريت : « فأمكنني الله منه » لقلنا : إنّه لمّا همّ بأخذه ، ذكَّره الله دعوة سليمان عليه السّلام فعلم أنّه لا يقدره الله على أخذه ، فردّه الله خاسئا ، فلمّا قال : « فأمكنني الله منه » علمنا أنّه قد وهبه الله التصرّف فيه ، ثم إنّ الله ذكَّره فتذكَّر دعوة سليمان عليه السّلام فتأدّب معه ، فعلمنا من هذا أنّ الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظهور بذلك في العموم » .

قال العبد : كل هذا مشروح لا مزيد عليه .
ثمّ قال رضي الله عنه : « وليس غرضنا من هذه المسألة إلَّا الكلام والتنبيه على الرحمتين اللتين ذكرهما سليمان عليه السّلام في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب « الرحمن » « الرحيم » فقيّد رحمة الوجوب وأطلق رحمة الامتنان
في قوله : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) حتى الأسماء الإلهية ، أعني حقائق النسب » .

يعني رضي الله عنه : من حيث إحدى دلالتها - التي يقتضي امتياز كل اسم بخصوصه - لا الأخرى التي هي الدلالة على الذات عينها والذات عينه ، فلا يطلق عليها أنّها مرحومة ، فالمرحومة الداخلة تحت « كل شيء » هي حقائق النسب وهي على وجهين :
أحدهما : كالوجود والحياة والعلم والقدرة وسائر النسب التي لا تحقّق لها في أعيانها إلَّا بالله ، والرحمة الذاتية .
والثاني : ما ينسب إلى الحق من حيث هذه النسب ، كالعالمية والقادرية والخالقية والرازقية ، فإنّها نسب لهذه النسب المذكورة أوّلا إلى المسمّى الواحد الأحد وهو الله سبحانه ، فهي التي وسعتها رحمة الامتنان مع العالمين .

قال رضي الله عنه : « فامتنّ عليها بنا ، فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية والنسب الربانية » .
يعني الكمّل من نوع الإنسان ، فإنّ آدم وبنيه هم الذين أكرمهم الله تعالى واصطفاهم بتعليمه الأسماء لنا منّا ، فتذكَّر .

ثم قال رضي الله عنه : « ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا ، وأعلمنا أنّه هويّتنا ليعلم أنّه ما أوجبها على نفسه إلَّا لنفسه ، فما خرجت الرحمة منه ، فعلى من امتنّ وما ثمّ إلَّا هو ؟
إلَّا أنّه لا بدّ من حكم لسان التفصيل لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ، حتى يقال إنّ هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ، ومعناه معنى نقص تعلَّق الإرادة عن تعلَّق العلم ، فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية وكمال تعلَّق الإرادة وفضلها أو زيادتها على تعلَّق القدرة ، وكذا السمع الإلهي والبصر وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض ، كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال : هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ، وكما أنّ كل اسم إلهي إذا قدّمته سمّيته بجميع الأسماء ونعتّه بها ، كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهلية كلّ ما فوضل به فكل جزء من العالم مجموع العالم ، أي هو قابل لحقائق متفرّقات العالم كلَّه ، فلا يقدح قولنا : « إنّ زيدا دون عمرو في العلم » أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو ، ويكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ، كما تفاضلت الأسماء الإلهية وليست غير الحق ، فهو تعالى من حيث هو عالم أعمّ في التعلَّق من حيث هو مريد وقادر ، وهو هو ليس غيره ، فلا تعلَّمه يا وليّي هنا وتجهله هنا ، وتثبته هنا وتنفيه هنا إلَّا أن تثبته بالوجه الذي أثبت نفسه ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه ، كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين
قال :  ( لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) فأثبت بصفة تعمّ كلّ سامع وبصير من حيوان وما ثمّ إلَّا حيوان إلَّا أنّه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس ، وظهر في الآخرة لكل الناس » .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الحياة للحيوان وفيه عرفا عامّا ، وهي سارية في الحيوان والجماد والنبات وغيرهم عرفا خاصّا بالمحقّقين ، فإنّ الله كشف عن وجه هذا السرّ لهم ، وحجب عنه البعض وهم عامّة أهل الحجاب وقد مرّ مرارا فتذكَّر ، فإذا ارتفع الحجاب - وهو عقلك القابل - وكشف الغطاء - وهو وهمك الحائل - عمّت المعرفة ، فعرفته وعرفه كل أحد كذلك .

قال رضي الله عنه : « فإنّها الدار الحيوان » يعني الآخرة ، وأنّ كلّ من فيها حيوان حقيقة مبالغة « وكذلك الدنيا إلَّا أنّ حياتها مستورة عن بعض العباد ، ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله وما يدركونه من حقائق العالم ، فمن عمّ إدراكه كان الحق فيه أظهر في الحكم ممّن ليس له ذلك العموم ،
فلا تحجب بالتفاضل وتقول : لا يصحّ كلام من يقول : إنّ الخلق هوية الحق ، بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشكّ أنت أنّها هي الحق ومدلولها المسمّى بها وليس إلَّا الله ، ثم إنّه كيف يقدّم سليمان اسمه على اسم الله - كما زعموا - وهو من جملة من أوجدته الرحمة ؟!
فلا بدّ أن يتقدّم الرحمن الرحيم » أي على اسم سليمان « ليصحّ استناد المرحوم ، هذا عكس الحقائق :
تقديم من يستحقّ التأخير وتأخير من يستحقّ التقديم في الموضع الذي يستحقّه » .
يشير رضي الله عنه إلى حقيقة التفاضل بين الأسماء ، كتفاضل الرحمن على الرحيم ، فمع أنّ سليمان اسم إلهي في نفسه على مقتضى التحقيق ، ولكن بالنسبة إلى الله المتعيّن بذاته في ألوهيته متقيّد عن كل تقدير بخصوصية مادّة سليمانية ، وسليمان عارف بذلك .

فلا يقدّم المقيّد على المطلق ، كما لا يتقدّم الرحيم على الرحمن ، إذ الرحمن - الموجد لسليمان والمظهر عموم حكم سلطانه على العالم - يستحقّ التقديم بالذات على من أوجده ممّن سليمان واحد منهم ولا سيّما في أوّل الكتاب أو صدره ، فهذا لا يليق بكمال سليمان عليه السّلام وعلمه ومعرفته ، حاشاه عن ذلك .

قال رضي الله عنه : « ومن حكمة بلقيس وعلوّ علمها - كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ، وما عملت ذلك إلَّا لتعلم أصحابها أنّ لها اتّصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ، وهذا من التدبير الإلهي في الملك ، لأنّه إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك ، خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرّفاتهم ، فلا يتصرّفون إلَّا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم يأمنون غائلة ذلك التصرّف ، فلو تعيّن لهم على يدي من تصل الأخبار إلى ملكهم ، لصانعوه وأعظموا له الرشى ، حتى يفعلوا ما يريدون ، ولا يصل ذلك إلى ملكهم ، فكان قولها : ( أُلْقِيَ إِلَيَّ ) ولم تسمّ من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواصّ مدبّرها ، وبهذا استحقّت التقدّم عليهم » .

قال العبد : كلّ هذا مشروح لا يحتاج فيه إلى مزيد بيان .

قال رضي الله عنه : « وأمّا فضل العالم الإنسان على العالم من الجنّ بأسرار التصرّف وخواصّ الأشياء فمعلوم بالقدر الزماني ، فإنّ رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه ، لأنّ حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه أسرع من حركة الجسم فيما يتحرّك منّا ، لأنّ الزمان الذي يتحرّك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلَّق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور ، فإنّ زمان فتح البصر زمان تعلَّقه بفلك الكواكب الثابتة ، وزمان رجوع طرفه إليه عن زمان عدم إدراكه ، والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك ، أي ليس له هذه السرعة ، فكان آصف بن برخيا ، أتمّ في العمل من الجنّ ، وكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزمان الواحد ، فرأى في ذلك الزمان بعينه سليمان عليه السّلام عرش بلقيس مستقرّا عنده ، لئلَّا يتخيّل أنّه يدركه وهو في مكانه من غير انتقال » .

قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أنّ وجود عرش بلقيس عند سليمان عليه السّلام قبل ارتداد طرفه إليه ليس كما زعم الجمهور من أهل الظاهر وعلماء الرسوم من إتيان آصف بعرش بلقيس من سبأ على ما كان موجودا ، ولم يره سليمان عليه السّلام في سبأ كشفا واطَّلاعا ، بل كان تصرّفا عجيبا غريبا إلهيا بإعدام عرشها في سبأ في عين إيجاده عند سليمان ، بمعنى أنّه سلب بتصرّفه العلمي الكامل الصورة العرشية عن وجوده المتعيّن فيها بسبإ ، وخلع عنه تلك الهيئة ، وخلعها عليه عند سليمان في عين ذلك الزمان .
فزمان قول آصف :   ( أَنَا آتِيكَ به قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )  كان عين زمان انعدام عرش بلقيس في سبأ وإيجاده عند سليمان عليه السّلام وذلك من عين التصرّف الكلَّي الذي أعطاه الله - تعالى - كرامة لسليمان عليه السّلام وهذا التصرّف أعلى تصرّف أقدر الله من شاء من عباده عليه ، وهو من حيث العلم الكامل بالخلق الجديد ، كما عرفت فيما أسلفنا لك .

إنّ صور العالم كلَّها هيئات وأشكال ونقوش ظهرت في مرآة الوجود الحقّ أو تعيّنات الوجود الحق في صور حقائق العالم ، وأعيانها الثابتة في العلم القديم - التي كانت معدومة من حيث هي هي - لها حقائق الأعيان ،
فالقابل من الوجود الحق لصورة عين من الأعيان على الوجه الأوجه الأوّل الأولى أو المتعيّن منه في عين من الأعيان ، والظاهر بها وفيها ، والمظهرة المعيّنة هي له على الوجه الثاني في ذوق أهل المعاني والمغاني إنّما يتلبّس بصورتها عند انسحابه أو ملابسته أو محاذاته لتلك العين ، وباتّصال الفيض الوجودي الذي يعقب ذلك الفيض الأوّل ينخلع الأوّل عن تلك الصورة إلى غيرها من الصور الأخر التي لتلك العين في غير ذلك الموطن والحضرة ،

حتى يظهر ذلك الوجود بصورة ذلك التعيّن في جميع مراتب الوجود ومواطنه ، ويتلبّس الوجود المتعيّن ثانيا العاقب للأولى بتلك الصورة عند انسحابه عليها أو محاذاته لها كذلك ،
وكذلك الأمر دائما أبدا لا إلى نهاية أو غاية . كما كان لا عن بداية كالماء الجاري في نهر ( وَلَه ُ الْمَثَلُ الأَعْلى )  إذا حاذى موضعا من النهر ،
فإنّ الماء يتشكَّل بحسب ذلك الموضع ويجري عليه بحسبه ويظهر فيه بموجبه ، ولا يثبت ولا يبقى بل يمرّ بالجريان ويعقبه الماء بالفيضان بقطرات أو أجزاء مائية غير الأجزاء والقطرات الأولى ، وهذا لا ريب فيه عقلا وكشفا صحيحا ،
ولكنّ الحسّ يدرك الاتّصال في أحدية سطح الماء دائما ، لغلبة الوحدة الوجودية الحقّة على الكثرة وجودا وعينا ، كغلبة الكثرة على الوجود علما وتعقّلا ،
فكذلك الفيض النفسي الرحماني ، والوجود الجودي الإحسانيّ دائم الجريان متوالي الفيضان من الغيب والشهادة ، ثم منها إلى الغيب متواصل السريان في صور الحقائق كدوام الذاتي بالاقتضاء الذاتي لا يتغيّر عنه أزلا وأبدا ،
ولا يزال عليه دائما أبد الآبدين ودهر الداهرين ما دامت ذات المفيض المتجلَّي بالتجلَّي الذاتي وهي دائمة ، والذي اقتضته الذات الإلهية لذاتها فإنّها لا تزال عليه فلا يزال ولا يزول ولا يحول أبد الآباد ومنتهى الآماد ، فالوجود الحق الجاري والنفس الرحمانيّ الساري في حقائق الأشياء وأعيانها دائم أبدا وما ثمّ إلَّا وجود واحد وتجلّ واحد لا ينتهي أبد الآبدين ،
ولكنّه دائم التعيّن متنوّع التجلَّي والتبيّن بحسب خصوصيات القوابل وبموجب قابليات الأعيان والمظاهر ، كالماء ماء واحد وتعيّن القطرات والأجزاء المائيّة بحسب المعيّنات ممّا يجري عليه بتقدير العلم وفرض العقل من حيث كل موضع معيّن معيّن له بحسبه وموجبه ، فافهم

واعلم : أنّه أعلى الأذواق وأجلى المشاهد وأحلى المشارب ، جعلنا الله وإيّاك من أهله بمنّه وفضله وطوله .
فلمّا كان آصف عليه السّلام عارفا بهذه الحقيقة إمّا كشفا أو إعلاما من الله بذلك أو من كون الله أعطاه التصرّف في الوجود الكوني جمعا أو فرادى ، فاستمرّ تصرّفه على ذلك كرامة له ولسليمان ولما أراد الله من كمال الظهور بكمال التصرّف الوجودي في النوع الإنساني لتسخير الجنّ والإنس وغيرهما لمظهره الأكمل في ذلك العصر وهو سليمان عليه السّلام ،
فتصرّف آصف بخلع الصورة العرشية من وجوده في سبأ ، وخلعها عليه في الحال عينه عند سليمان في زمان واحد من غير ريث ولا تراخ ، إظهارا لكمال تصرّفه الذي آتاه الله .

وإنّما حملته على ذلك ، الغيرة على سليمان وله وللملك الذي آتاه الله من الجنّ لئلَّا يتوهّموا أنّ تصرّفهم أعلى وأتمّ من تصرّف سليمان وآصف ، فأظهر لهم أنّ الملك والتصرّف الذي أعطاهما ، أعني سليمان وآصف عليهم السّلام خارق لعادات الجنّ وسحرتهم في تصرّفاتهم الخصيصة بهم من تقريب البعيد وبالإتيان بالأعمال الشاقّة الخارجة عن قوّة البشر ، والخارقة لعادات أهل النظر بالفكر في المعتاد ،
وذلك بفضل روحانية في الجنّ وقوّة آتاهم الله من التصوّر والتشكَّل بأشكال مختلفة للرائين من البشر ، فإنّ وجود صورهم من الهواء والنار على أنحاء مختلفة وضروب متخالفة ومؤتلفة لا تتناهى شخصياتها وجزئيّاتها وإن انحصرت أمّهات أصنافهم .
وأممهم على أربع أمّهات ، فإنّ الغالب على نشآتهم إمّا الهواء أو النار أو هما معا متساويين غير متساويين على الماء والتراب مطلقا ، والعنصران الثقيلان - وهما الماء والأرض - مغلوبان في نشآت الجنّ على نحو غلبتهما على الهواء والنار في المولَّدات المعهودة المشهودة الكثيفة الثقيلة مثل مغلوبية البرودة والرطوبة في الفلفل وأمثاله ،
ومثل غلبة البرودة والرطوبة على الحرارة واليبوسة في لبّ الخيار - مثلا - وأمثاله على درجات دقائق لا تكاد تنحصر ولا يحصيها إلَّا موجدها ، الله تعالى.

 ثمّ مع مغلوبية هذين الأسطقسّين الثقيلين في نشآت الجنّ والشياطين ، فإمّا أن يكون الغالب الجزء الهوائيّ على الجزء الناري أو بالعكس .
والأوّل : الجنّ المؤمنون بالله والملائكة والكتب والرسل المتديّنون بالأديان والملل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين .
والثاني : الشياطين والمردة والعفاريت والأبالسة الكفرة ، فهم نوعان وكل واحد من النوعين بعد ذلك مع مغلوبية الثقيلين وأغلبية اللطيفين ، فإمّا أن يكون أحد الثقيلين غالبا على الآخر كالماء مثلا أو الأرض .
فالصنف الغالب في نشأتهم الماء على الأرض ، مع مغلوبيتهما تحت اللطيفين ، على أصناف : صنف أشخاصهم عمّار البحار ، وآخر في الأنهار ، وآخر أشخاصه في الآبار ، وآخر أشخاصه في العيون .
والغالب عليهم الأرض على الماء في نشأتهم أيضا على أصناف كذلك ،
منهمعمرة الدور والمساكن والنواويس والمقابر ، 
ومنهم : عمرة الأودية ، 
ومنهم : عمرة الجبال والشعاب والمعادن ،
ومنهم : عمرة البساتين والمواضع النزيهة والرياض ، 
ومنهم : من يكونون في الفيافي والمهامه   والمجاهل والمعالم والطرقات .
والغالب على الكلّ إمّا النار على باقي الأجزاء أو الهواء ، وقد ذكرنا من أحوال نشآتهم وأخلاقهم وصورهم وأشكالهم ضوابط كلَّية فيما أسلفنا في هذا الكتاب ، فاذكر .
وأمّا قبائلهم وأساميهم وأفعالهم وصورهم فمذكورة مفصّلة في كتب علوم الروحانيات والدعوات والاستنزالات والتسخيرات ، ما هذا الكتاب موضع ذكر ذلك ، والله الموفّق .
ولا يحصي على التفصيل أشخاصهم إلَّا الله تعالى .
وبموجب نشآتهم أعطاهم الله التصرّف بما ليس في قوّة البشر غير الكمّل والمتصرّفين والروحانيين من صنف الإنسان الكامل ، ولكن ليس للجنّ هذا العلم وقوّة الهمّة من غير توسّط حركة جسمانية إلَّا القول ، وكان قول آصف عليه السّلام حين فعله اختصاصا من الله وإكراما من عين إكرامه لسليمان .
فلمّا رأت الجنّ هذا النوع من التصرّف آمنوا به وبسليمان إلَّا أفذاذا شذّوا ، فقيّدهم وسجنهم سليمان وآصف .
والجنّ وأكابرهم وملوكهم وكبراؤهم إلى الآن منقادون مسخّرون للخواتيم السليمانية والعزائم والأقسام الآصفية على أيدي أهل العلم الروحاني والله الموفّق الوهّاب يهب من يشاء ما يشاء ، لا ربّ غيره ، عليه التكلان وهو المستعان .

قال رضي الله عنه  : « ولم يكن عندنا باتّحاد الزمان انتقال » .
يعني : استقرار العرش عند سليمان لم يكن باتّحاد الزمان وانتقاله .

« وإنّما كان إعداما وإيجادا من حيث لا يشعر أحد بذلك إلَّا من عرفه وهو قوله تعالى  :  "بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " . ولا يمضي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤون له ، إذا كان هذا كما ذكرناه ، فكان زمان عدمه أعني عدم العرش من مكانه عين وجوده عند سليمان من تجديد الخلق مع الأنفاس ، ولا علم لأحد بهذا القدر ، بل الإنسان لا يشعر من نفسه أنّه في كل نفس لا يكون ثم يكون » .

يعني : لاقتضائه من حيث إمكانه وعدميته من حيث إمكانه أن يرجع إلى عدمه الأصلي ، ولاقتضاء اتّصال التجلَّيات لتكوينه بعد العدم في زمان واحد من غير بعدية ولا قبلية زمانية توجب لبس الأمر عليهم ، بل عقلية معنوية .

قال رضي الله عنه : « ولا تقل : « ثمّ » يقتضي المهلة ، فليس ذلك بصحيح وإنّما « ثمّ » يقتضي تقدّم الرتبة العليّة عند العرب في مواضع مخصوصة ،
كقول شاعر : « كهزّ الرّدينيّ ، ثم اضطرب »
وزمان الهزّ عين زمان اضطراب المهزوز بلا شكّ وقد جاء ب « ثمّ » ولا مهلة ، كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس ، زمان العدم زمان وجود المثل ، كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة ، فإنّ  مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلَّا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصّته ، فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلَّا حصول التجديد في مجلس سليمان عليه السّلام » .

يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الإيجاد - إمّا التعيّن الوجودي في صورة عرش بلقيس ، أو في صورة مثلها ، أو ظهور الصورة في الوجود الحق - إنّما هو للحق ، وليس لآصف إلَّا صورة التجديد والتجسيد في مجلس سليمان ، وتعيينه بالقصد منه ، وذلك أيضا للحق من مادّة آصف ، ولكن لسان الإرشاد يقضي بما رسم .

قال رضي الله عنه : « فما قطع العرش مسافة ، ولا زويت له الأرض ، ولا خرقها ، لمن فهم ما ذكرناه ، وكان ذلك على يدي بعض أصحاب سليمان ليكون أعظم لسليمان عليه السّلام في نفوس حاضرين من بلقيس وأصحابها ، وسبب ذلك كون سليمان عليه السّلام هبة الله - تعالى - لداود عليه السّلام من قوله :  ( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ )  والهبة : عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الجزاء الوفاق أو الاستحقاق ، فهو النعمة السابغة والحجّة البالغة والضربة الدامغة » .
يعني سليمان عليه السّلام بالنسبة إلى داوود عليه السّلام فقد كملت الخلافة الظاهرة في داوود ، وظهرت الملكية وجودها في سليمان عليه السّلام سائر الليالي والأيّام .

قال رضي الله عنه : « وأمّا علمه فقوله :  ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ )  مع نقيض الحكم » يعني مع منافاة حكمه لحكم داوود .
قال رضي الله عنه :   ( وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً )   ، فكان علم داوود علما مؤتى آتاه الله ، وعلم سليمان علم الله في المسألة ، إذا كان الحاكم بلا واسطة  ، وكان سليمان ترجمان حقّ في مقعد صدق ، كما أنّ المجتهد المصيب بحكم الله الذي يحكم به الله في المسألة ، لو تولَّاها بنفسه أو بما يوحي به لرسوله ، له أجران ، والمخطئ لهذا الحكم المعيّن له أحد مع كونه علما وحكما ، فأعطيت هذه الأمّة المحمدية رتبة سليمان في الحكم ورتبة داوود ، فما أفضلها من أمّة ! ولمّا رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدّة عندها ،   ( قالَتْ كَأَنَّه ُ هُوَ )   وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال ، وهو هو ، وصدق الأمر ، كما أنّك في زمان التجديد عين ما أنت في الزمان الماضي ، ثمّ إنّه من كمال علم سليمان التنبيه الذي ذكره في الصرح ف   ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ )   وكان صرحا أملس ، لا أمت فيه ، من زجاج   ( فَلَمَّا رَأَتْه ُ حَسِبَتْه ُ لُجَّةً )   أي ماء   ( وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها )   ، حتى لا يصيب الماء ثوبها ، فنبّهها بذلك على أنّ عرشها الذي رأته من هذا القبيل ، وهذا غاية الإنصاف » .

يشير رضي الله عنه : إلى أنّ تقييد الوجود في الصورة العرشية عند سليمان وبلقيس لم يكن إعادة العين ، ولا نقل الموجود المشهود في سبأ إلى مجلس سليمان ، فإنّ ذلك محال ، ولكنّه إعدام لذلك الشكل العرشي في سبأ وإيجاد لمثله عندهما من علم الخلق الجديد ، فهو إيجاد المثل ، لا إيجاد العين وذلك إيهام وإيماء وتنبيه للمثل بإظهار المثل .
وكذلك كان الصرح يوهم من رآه أنّه ماء صاف يموج مثل ما يتخيّل من لا معرفة له بحقيقة تجديد الخلق مع الأنفاس أنّ الثاني عين الأوّل ، وأنّ المجسّد الممثّل من الصورة العرشية عين عرش بلقيس الذي في سبأ .
فصحّح سليمان في تنبيهه إيّاها في قوله :  ( إِنَّه ُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ من قَوارِيرَ )  لا كما ظنّت أنّه الماء أو اللجّة فكشفت عن ساقيها - أنّ قولها :  ( كَأَنَّه ُ هُوَ )  صادق ، إذ ليس هو هو ، بل كأنّه ، هو ، وهكذا سؤال سليمان عنها  ( أَهكَذا عَرْشُكِ )  لعلمه بالأمر في نفسه .
قال رضي الله عنه  : « فإنّه أعلمها بذلك إصابتها في قولها :  ( كَأَنَّه ُ هُوَ )  فقالت عند ذلك :  ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ )  » .
يعني : ظلمت نفسي بتأخير الإيمان إلى الآن ، و « أسلمت » - برفع التاء - عطف على ما نوت من التوبة والرجوع إلى الله من الظلم الذي اعترفت بها .

بمعنى تبت ورجعت عمّا ظلمت نفسي واعترفت وأسلمت مع سليمان لله ، لو كان عطفا على « ظلمت » لم يستقم الكلام ، ولم ينتظم ولو عطفت الكلمة أعني « أسلمت » على « قالت » لصحّ المعنى ، وكان إخبارا عن الجنّ أنّها قالت : ظلمت نفسي ، وأسلمت هي مجزوم التاء ، كناية عن بلقيس ، أنّها أسلمت لله ربّ العالمين مع سليمان ، أي إسلام سليمان لله ربّ العالمين .

قال رضي الله عنه : « فما انقادت لسليمان وإنّما انقادت لربّ العالمين وسليمان من العالمين ، فما تقيّدت في انقيادها كما لا يتقيّد الرسل في اعتقادها بالله ، بخلاف فرعون ، فإنّه قال : ( رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ) ».
يعني : أنّ فرعون قيّد إسلامه بقوله :  ( رَبِّ مُوسى وَهارُونَ )  وإن كان ربّ موسى وهارون هو ربّ العالمين ، ولكن في لفظ فرعون مقيّد بموسى وهارون ، وفي قول بلقيس : ( لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ )  مطلق يعمّ سليمان وموسى وهارون وغيرهم .

قال رضي الله عنه : « وإن كان يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجه ،ولكن لا يقوى قوّتها».
يعني رضي الله عنه : لا تقوى قوّة إسلام فرعون قوّة انقياد بلقيس ، لما ذكرنا ، ولا سيّما وقد كان إسلام فرعون في حال الذعر والخوف من الغرق ، ورجاء النجاة بالإسلام الفرعوني لا الانقياد البلقيسي ، فإنّ كل واحد منهما أتبع إسلامه إسلام نبيّه ، فأسلم فرعون لله الذي آمنت به بنو إسرائيل وآمن موسى به ، فإيمانه وإسلامه تبع لإيمانه ،
وقوله : أنا من المؤمنين ومن المسلمين فيهما دلالة إطلاق الإيمان والإسلام ، فإنّ المؤمنين والمسلمين الذين جعل نفسه منهم آمنوا وأسلموا لله مطلقا فينسحب حكم ذلك عليهم ، ولكن إسلام بلقيس وإن كان مقيّدا بالمعية ، فإنّه يقتضي المشاركة .

قال رضي الله عنه : « فكانت أفقه من فرعون في الانقياد لله وكان فرعون تحت حكم الوقت ، حيث قال : آمنت بالَّذى  ( آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ )  فخصّص ، وإنّما خصّص لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم باللَّه :  ( رَبِّ مُوسى وَهارُونَ )  ، فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان ، إذ قالت :  ( مَعَ سُلَيْمانَ )  فتبعته فما يمرّ بشيء من العقائد إلَّا مرّت به معتقدة ذلك كما نحن على الصراط المستقيم الذي الربّ عليه ، لكون نواصينا بيده وتستحيل مفارقتنا إيّاه ، فنحن معه بالتضمين ، وهو معنا بالتصريح .
 فإنّه قال :   ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ )  ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا » .

يعني رضي الله عنه : أنّ كوننا على الصراط المستقيم لكون نواصينا بيد الحق الذي هو على الصراط المستقيم ، فنحن معه على الصراط في ضمن كونه على الصراط المستقيم ، ككون بلقيس في إسلامها بالتضمين والتبعية لإسلام سليمان .

قال رضي الله عنه : « فهو تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه فما من أحد من العالم إلَّا على صراط مستقيم وهو صراط الربّ تعالى ، وكذا علمت بلقيس من سليمان .
فقالت :  ( لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ )  وما خصّصت عالما من عالم . وأمّا التسخير - الذي اختصّ به سليمان ، وفضل به غيره ، وجعله الله من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده - فهو كونه عن أمره ،
فقال :  ( فَسَخَّرْنا لَه ُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِه ِ ) ، فما هو من كونه تسخيرا ، فإنّ الله تعالى يقول في حقّنا كلَّنا من غير تخصيص :  ( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه ُ )   وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك .
ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر الله ، فما اختصّ سليمان إن عقلت إلَّا بالأمر من غير جمعية ولا همّة ، بل بمجرّد الأمر وإنّما قلنا ذلك ، لأنّا نعرف أنّ أجرام العالم تنفعل لهم  النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية قد عاينّا ذلك في هذا الطريق ، فكان من سليمان مجرّد التلفّظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همّة ولا جمعية » .

يشير رضي الله عنه : إلى أنّ التسخير السليمانيّ لم يكن بالهمّة والجمعية وتسليط الوهم ، وبالأقسام العظام ، وأسماء الله الكرام ، بل بمجرّد الأمر ، ويحتمل ذلك ، لمن يكون اختصاصا له من الله بذلك ، وفي ظاهر الاحتمال دلالة أن يكون بأسماء الله العظام ، وبالكلمات والأقسام في بدو أمره ، ثمّ بلغ الغاية في إتقانها حتى انقادت له الخلائق ، وأطاعه الجنّ والإنس والطير وغيرها بمجرّد الأمر والتلفّظ بما يريد من غير جمعية ولا تسليط وهم وهمّة ، عطاء وهبة من الله ، أن يقول للشيء : كن ، فيكون .

قال رضي الله عنه : « واعلم - أيّدنا الله وإيّاك بروح منه - : أنّ مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد - أيّ عبد كان - فإنّه لا ينقصه من ملك آخرته ولا يحسب عليه ، مع أنّ سليمان طلبه من ربّه - تعالى - فيقضي ذوق التحقيق أن يكون قد عجّل له ما ادّخر لغيره ويحاسب به إذا أراده في الآخرة ،
فقال الله له :  ( هذا عَطاؤُنا )   ولم يقل : لك ولا لغيرك  ( فَامْنُنْ )  أي أعط  ( أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ )  فعلمنا من ذوق الطريق أنّ سؤاله ذلك كان عن أمر ربّه ، والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي ، كان الطالب ، له الأجر التامّ على طلبه .
والبارئ تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه ، وإن شاء أمسك ، فإنّ العبد قد وفّى ما أوجب الله عليه من امتثال أمره فيما سأل ربّه فيه ، فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربّه له بذلك ، يحاسبه به.
 وهذا سار في جميع ما يسأل فيه الله تعالى كما قال لنبيّه ، محمّد صلى الله عليه وسلم :  ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً )  فامتثل أمر ربّه ، فكان يطلب الزيادة من العلم حتى إذا سيق له لبن تأوّله علما ،كما تأوّل رؤياه لمّا رأى أنّه أتي بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطَّاب.
قالوا : فما أوّلته ؟
قال : العلم ، وكذلك لمّا أسري به أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر ، فشرب اللبن ،
فقال له الملك : أصبت الفطرة أجاب الله بك أمّتك ، فاللبن متى ظهر ، فهو صورة العلم ، فهو العلم تمثّل في صورة اللبن كجبرئيل تمثّل في صورة بشر سويّ لمريم » .

قال العبد : إنّما أفرد الشيخ رضي الله عنه هذه المسألة التمثيلية هاهنا ، لكونها تتمّة البحث والحكمة التي كان في بيانها من تجديد المثل مع الأنفاس في الخلق الجديد ، فإنّه تمثيل للمعاني وتجسيد للحقائق وتشخيص للنسب في مثل ما كانت من الوجود الظاهر بها والمتعيّن فيها أو بالعكس ، على الذوقين من مشربي الفرائض والنوافل ، فافهم واذكر إن شاء الله تعالى .

قال رضي الله عنه : « ولمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا » ، نبّه على أنّ كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنّما هو بمنزلة الرؤيا للنائم خيال فلا بدّ من تأويله » .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ مضمون الحديث تصريح لنا معشر أهل الذوق والشهود ، أنّ المحسوسات المشهودة كالرؤيا للنائم ، تخييل وتمثيل ، فإنّ الخيال إنّما هو تشخّص المعاني وتمثّل الحقائق والأرواح من قبل الحق للرائي ، وتجسّد النفوس في أمثله صور ثقيلة كبيرة أو خفيفة وصغيرة أو متوسّطة ، كلَّها تمثّلي .
وكذلك عالم الحسّ من الجسمانيات الطبيعيّة والعنصرية إنّما هي صور تمثيلات وتشخيصات وتجسيدات لما فوقها من العوالم الروحانية والنفسانية والعقلية والمعنوية ، مثّلها وجسّدها وشخّصها الحق أمثلة قائمة وصورا زائلة ودائمة لوجوده الحقّ في نسبه ونسب نسبه ولوازمه الذاتية والمرتبية ولوازم لوازمه .

وكيفية ذلك والله أعلم بها على ما علمنا وأعلمنا بذلك : أنّ المعاني إذا قبلت الوجود الحق من التجلَّي النفسي ، أو الحقائق الكلَّية المتبوعة إذا تعيّنت في الوجود الفائض ، حصلت هيئات اجتماعية بين الوجود والحقائق المتبوعة .
ثمّ يسري نور الموجود من الملزومات والمتبوعات إلى اللوازم ولوازم اللوازم ، ومنها إلى العوارض واللواحق والنسب المنتسبة في البين ، فيتّصل أحكام بعضها بالبعض بالوجود الساري من الأصل إلى الفرع ومن الملزومات إلى اللوازم ولوازم اللوازم .

فيوصل خصائص بعضها إلى البعض ، ويفيد حقائق الكلّ للكلّ ويصبغ الكلّ بصبغة الكلّ ، فيلتحم ويتمثّل ويتشخّص صورا وهيئات وجودية ، كما هو مشهود رأي عين ، ومثال سراية الوجود من الأصول والملزومات والحقائق المتبوعة إلى الفروع واللوازم والتوابع في انتساج ملابس الكون والتمثيل والتجسيد كالسدى واللحمة ،
نظير منوال الحقائق المتبوعة المترتبة من أقصى مراتب المكان ، إلى أنهى غايات وجود الكيان ، ونظير الحقائق التابعة واللوازم كاللحمة .

فإذا وجدت الحقائق المتبوعة والملزومات ، وانسحب عليها الفيض الوجودي والتجلَّي النفسي الرحماني الجودي ، ممتدا من أوّل موجود وجد إلى آخر مولود ولد ، سرى منها منبسطا إلى ما حواليها من اللوازم القريبة ثمّ إلى لوازم اللوازم .
وهكذا إلى العوارض واللواحق ، فانتسجت المعاني والحقائق الكونية على هذا المنوال بهذا المثال ، وكلَّما تضاعف حكم التجلَّي الوجودي وأوصل كوامن أحكام الحقائق بعضها إلى البعض وأظهرها ، تكاثفت الصور وثبّتت وثبتت بالنسبة والإضافة ، إذ لا ثبات للأعراض على الحقيقة فإنّها في التبدّل والتغيّر بالخلق الجديد ، فافهم ، وتنزّه فيما صرّحنا به .

واعلم : أنّ هذه الصور والأشكال والهيئات أظهرها الله آيات ونصبها أمثلة للصور والهيئات المعنوية المعقولة الأزلية التي هي شؤونه وأحواله الذاتية ، وما يعقلها إلَّا العالمون بالله الذين يعرفون تأويلها ويعبرون من صورها إلى حقائقها ، والله الموفّق له الحمد لا ربّ غيره .
قال رضي الله عنه  :
إنّما الكون خيال  ....  وهو حق في الحقيقة
والذي يفهم هذا  ....    حاز أسرار الطريقة
يعني رضي الله عنه : أنّه من حيث الصور والهيئات والأشكال والنقوش خيال يظاهر كثراء في مراء ، وهو من حيث الوجود الواحد الحق المتنوّع ظهوره والمنبسط عليها نوره .
وفي هذه الصور حق بلا شكّ ولا مراء ، فلو لم تشهد التبدّل والتحوّل فأنت عن الحق محجوب ، وفي عين اللبس من خلق جديد موهوب ، وإن شهدت التبدّل وقلت به ولم تر الحق المتحوّل في الصور والمتشكَّل في الأشكال من كل ما بطن فظهر ، فأنت في عين السفسطة ، فانتبه .

قال رضي الله عنه : « وكان صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قدّم له لبن ، قال : « اللهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه » لأنّه كان يراه صورة العلم وقد أمر بطلب الزيادة من العلم ، وإذا قدّم إليه غير اللبن ، قال : « اللهمّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه » فمن أعطاه الله ما أعطاه عن أمر إلهي ، لا يحاسبه به في الدار الآخرة ، ومن أعطاه ما أعطاه بسؤال لا عن أمر إلهي ، فالأمر فيه إلى الله ، إن شاء حاسبه به ، وإن شاء لم يحاسبه به .
وأرجو من الله في العلم خاصّة أنّه لا يحاسبه به ، فإنّ أمره لنبيّه بطلب الزيادة من العلم عين أمره لأمّته فإنّ الله يقول : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )  أي أسوة أعظم من هذا التأسي لمن عقل عن الله تعالى .
ولو نبّهنا على المقام السليماني على تمامه ، لرأيت أمرا يهولك الاطَّلاع عليه ، فإنّ أكثر علماء هذه الطريقة جهلوا حالة سليمان ومكانته و ليس الأمر كما زعموا »

ذلك عن ملك آخرته ، وهم غفر الله لهم غفلوا عن كمال تجلَّي الله وظهوره في أكملية مرتبة الخلافة في مظهرية سليمان .
وأنّ الوجود الحق تعيّن به وفيه على أكمل الصور الإلهية والرحمانية ، مع كمال إيفائه وقيامه بحقّ كمال العبدانية ، فإنّه عليه السّلام في عين شهوده ربّه على هذا الكمال ، كان يعمل بيديه ، ويأكل من كسبه ، ويجالس الفقراء والمساكين ، ويفتخر بذلك .
فيقول : « مسكين جالس مسكينا » رزقنا الله وإيّاك من كماله ، ولا حرمنا من علمه ومقامه وحاله ، إنّه قدير وهّاب ، مفتّح الأبواب ، وميسّر الأسباب .

  .
واتساب

No comments:

Post a Comment