Monday, December 30, 2019

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
المراد بالحكمة ( الرحمانية ) ، بيان أسرار الرحمتين الصفاتيتين الناشئتين من الرحمتين الذاتيتين المشار إليهما بقوله تعالى : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم )
قوله : ( المشار إليهما بقوله تعالى . . . ) .

ولما كان اسم ( الرحمن ) عام الحكم شامل الرحمة بجميع الموجودات بالرحمة الوجودية العامة والرحمة الرحيمية الخاصة ، وكان سليمان ، عليه السلام ، مع اتصافه بنعمة النبوة والرسالة ورحمة الولاية سلطانا على العالم السفلى بل على العالم العلوي .
إذ التأثير في عالم الكون والفساد لا يكون إلا بتأييد من العالم الأعلى والعون .
وذلك باستنزال روحانيته إياه وبكونه خليفة عمن لا إله إلا هو وكان عام الحكم في الإنس والجن نافذ الأمر في أعيان العناصر .
لذلك كان يتبوء من الأرض حيث يشاء وكانت الجن يغوصون له في الماء بحكمه مع أنهم من النار وسخر له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب وكان يتصرف في جميع ما يتولد منها ويعلم ألسنة الجمادات ويفهم منطق الحيوانات - ناسب أن يذكر حكمته في كلمته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "إنه" يعنى الكتاب "من سليمان" . و "أنه" أي ، مضمونه : " بسم الله الرحمن الرحيم " . فأخذ بعض الناس في تقديم اسم "سليمان" على اسم "الله" . ولم يكن كذلك . وتكلموا في ذلك بما لا ينبغي مما لا يليق بمعرفة سليمان ، عليه السلام ، بربه . وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه : "إني ألقى إلى كتاب كريم " أي ، يكرم عليها .
وإنما حملهم على ذلك تمزيق كسرى كتاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وما مزقه حتى قرأه كله وعرف مضمونه .
فكذلك كانت تفعل بلقيس لو لم توفق لما وفقت له ، فلم يكن يحمى الكتاب عن الإحراق بحرمة صاحبه تقديم اسمه ، عليه السلام ، على اسم الله تعالى ولا تأخيره . )

قال بعض أصحاب التفسير : إن سليمان ، عليه السلام ، قدم اسمه على اسم الله تعالى في الكتاب ، لئلا تخرق بلقيس بحرمته بالمزق وغيره ، كما فعل كسرى بكتاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
والشيخ ذهب إلى أنه ، عليه السلام ، ما قدم اسمه على اسم الله تعالى وما أوهم التقديم إلا حكاية بلقيس مع حواشيها . أي ، قالت لهم : "إني ألقى إلى كتاب كريم . إنه " أي ، أن ذلك الكتاب . ( من سليمان ) .  
و ( أنه ) أي ، وأن مضمون الكتاب "بسم الله الرحمن الرحيم . ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين " . وما قالوه لا يليق
بحال النبي العالم بالله ومراتبه ، وبأن اسمه واجب التعظيم . وكيف يليق ما قالوه وبلقيس قالت فيه : ( إني ألقى إلى كتاب كريم ) .
أي ، مكرم عليها ومعظم عندها . ولو أن بلقيس كانت مريدة للخرق وما كانت موفقة لإكرام الكتاب ، لم يكن تقديم اسمه حاميا له من الخرق ولا تأخيره ، بل كانت تقرأ الكتاب وتعرف مضمونه ، كما فعل كسرى ، ثم كانت تمزقه لو لم تكن موفقه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأتى سليمان بالرحمتين : رحمة الامتنان ، ورحمة الوجوب اللتان هما " الرحمن الرحيم " . فأمتن بالرحمن وأوجب بالرحيم ، وهذا الوجوب من الامتنان ، فدخل "الرحيم " في "الرحمن " دخول التضمن . )
اعلم ، أن الرحمة صفة من الصفات الإلهية ، وهي حقيقة واحدة ، لكنها ينقسم بالذاتية وبالصفاتية ، أي ، يقتضيها أسماء الذات وأسماء الصفات عامة . وكل منهما عامة وخاصة ، فصارت أربعة ، ويتفرع منها إلى أن يصير المجموع مائة رحمة .
وإليه أشار رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( إن لله مائة رحمة ، أعطى واحدة منها لأهل الدنيا كلها ، وادخر تسعة وتسعين إلى الآخرة يرحم بها عباده ) فالرحمة العامة والخاصة الذاتيتان ما جاء في البسملة من ( الرحمن الرحيم ) .

والرحمة الرحمانية عامة ، لشمول الذات جميع الأشياء علما وعينا ،
والرحيمية خاصة ، لأنها تفصيل تلك الرحمة العامة الموجب لتعين كل من الأعيان بالاستعداد الخاص بالفيض الأقدس .
والصفاتية ما ذكره في الفاتحة من ( الرحمن الرحيم ) ، الأولى عامة الحكم ، لترتبها على ما أفاض الوجود العام العلمي من الرحمة العامة الذاتية ، والثانية تخصيصها بحسب الاستعداد الأصلي الذي لكل عين من الأعيان .
وهما نتيجتان للرحمتين الذاتيتين :
العامة والخاصة فإذا علمت  ذلك ، فاعلم أن سليمان أتى بالرحمتين ، منها رحمة الامتنان . وهي ما حصل من الذات بحسب العناية الأولى .

وإنما سماها ب‍ ( الامتنان ) لكونها ليست في مقابلة عمل من أعمال العبد ، بل منة سابقة من الله في حق عبده .
ورحمة الوجوب أي رحمة في مقابلة العمل .
وأصل هذا الوجوب قوله تعالى : ( كتب على نفسه الرحمة ) . أي ، أوجبها على نفسه ( فامتن ) أي ، الحق تعالى . ( بالرحمن ) العام الحكم على جميع الموجودات بتعيين أعيانها في العلم وإيجادها في العين ، كما قال : ( رحمتي وسعت كل شئ ). و

قال : ( ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما ) . أي ، وجودا وعلما .
فإن الرحمة العامة هو الوجود العام لجميع الأشياء ، وهو النور المذكور في قوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) . الذي به يظهر كل شئ من ظلمة العدم .
( وأوجب بالرحيم ) المخصص على نفسه أن يوصل كلا من الأعيان إلى ما يقتضيه استعداده .

ولما كان هذا الإيجاب أيضا منة منه تعالى على عباده ، قال : ( وهذا الوجوب من الامتنان ) أي ، من الرحمة الامتنانية ، إذ ليس للمعدوم أن يوجب شيئا على الحق فيما يوجده ، ويمكنه من الطاعات والعبادات . فدخل الرحمة الرحيمية في الرحمة الرحمانية دخول الخاص تحت العام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه كتب على نفسه الرحمة سبحانه ، ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحق من الأعمال التي يأتي بها هذا العبد حقا على الله أوجبه له على نفسه يستحق بها هذه الرحمة ، أعني رحمة الوجوب . ) هذا تعليل لقوله : ( وهذا الوجوب من الامتنان ) .
وذلك إشارة إلى وجوب الرحمة على نفسه .

و ( حقا ) منصوب بقوله : ( ليكون ) . أي ، إيجاب الحق على نفسه الرحمة للعباد من الامتنان ، لأنه كتب وفرض على نفسه الرحمة ، ليكون ذلك حقا على الله للعبد في مقابلة أعماله التي كلفه بها مجازاة له وعوضا عن عمله ، وذلك على سبيل الامتنان .
فإن العبد يحب عليه طاعة سيده والإتيان بأوامره ، فإذا أعطاه شيئا آخر في مقابلة أعماله ، يكون ذلك رحمة للعبد وامتنانا منه عليه .
فقوله : ( أوجبه ) أي ، أوجب ذلك الوجوب الحق للعبد على نفسه ، ليستحق العبد بها ، أي بتلك الأعمال ، الرحمة التي أوجبها الحق على نفسه امتنانا .

( ومن كان من العبيد بهذه المثابة ، فإنه يعلم من هو العامل منه ) وفي بعض النسخ : ( به ) . أي ، ومن كان من العبيد بمثابة أن يكون الحق موجبا على نفسه الرحمة له ، يكون ذا نور من الله منور القلب به محبوبا .
كما قال تعالى : ( فسأكتبها للذين يتقون ) . ومن كان كذلك ، يكون الحق سمعه وبصره ، كما نطق به الحديث .
فيعلم يقينا أن العامل الحقيقي من نفس العبد هو الحق الذي معه .
أو العامل في الحقيقة هو الحق ، لكن بالعبد ليكون العبد كالآته له .
( والعمل ينقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان ) وهي : اليدان ، والرجلان ، والسمع ، والبصر ، واللسان ، والجبهة . إذ باليدين يتمكن من التوضي والتطهر ، وعلى الرجلين يقوم في الصلاة ويسعى ويحج ، وبالسمع يتمكن من سماع كلام الله وكلام رسول الله ، وبالبصر يتمكن من المشاهدة في جميع أعماله ، وباللسان يثنى على الله تعالى ويسبحه ويقرء كلامه ، وبالجبهة
يسجد في صلاته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد أخبر الحق تعالى أنه هوية كل عضو منها ، فلم يكن العامل فيها غير الحق . والصورة للعبد والهوية مندرجة فيه ، أي في اسمه ، لا غير . ) أي ، أخبر الحق تعالى بأنه عين كل عضو .

بقوله : ( كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ) .
والعامل بحسب الظاهر الشخص وأعضاؤه - والحق عينها - فلا يكون العامل غير الحق ، غير أن الصورة صورة العبد والهوية الإلهية مندرجة في العبد لما كانت الهوية إنما تندرج في أسمائه.
فسر بقوله : ( أي في اسمه ) ليعلم أن عين العبد هو أيضا اسم من أسمائه . ( لا غير ) ليلزم اندراج الحق في غيره مطلقا ، فيتوهم منه الحلول .
وبيان أن الموجودات بأسرها أسماء الله الداخلة تحت الاسم "الظاهر"  قد مر في المقدمات   

قال الشيخ رضي الله عنه :  (لأنه تعالى عين ما ظهر ، وسمى خلقا وبه  كان الاسم "الظاهر" و "الآخر" للعبد ، وبكونه لم يكن ، ثم كان )
هذا تعليل قوله : ( الهوية مندرجة في العبد ) أي ، في اسمه لا غير .

وذلك لأنه تعالى عين ما ظهر ، وسمى بالاسم الخلقي ، كما مر أن صور الموجودات كلها طارية على النفس الرحماني ، وهو الوجود ، والوجود هو الحق ، فالحق هو الظاهر بهذه الصور ، وهو المسمى بالخلق .
وبما ظهر في صور الموجودات ، حصل الاسم "الظاهر"، ويكون العبد ، أي الخلق ، لم يكن ثم كان ، حصل الاسم "الآخر" للحق الظاهر في صورة العبد ، فإنه اسمه "الآخر" ، لأنه آخر الموجودات التي هي الأسماء ظهورا في العين الحسية ، وإن كان أول الأسماء حقيقة في العلم والمرتبة الروحية .
فالاسم "الآخر" بعينه هو الاسم "الأول" ، وكذلك "الظاهر"بعينه هو "الباطن" .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وبتوقف ظهوره عليه وصدور العمل منه ، كان الاسم "الباطن " و "الأول " )
أي ، بسبب توقف وجود العبد وظهوره على الله وبسبب صدور العمل من الله حقيقة من باطن العبد ، وإن كان من العبد ظاهرا ، حصل الاسم "الباطن" و "الأول".
أو بتوقف ظهور الحق على العبد وبتوقف صدور العمل من الحق عليه ، حصل بالعبد الاسم "الباطن" و "الأول". وهذا أنسب من الأول .
لأنه قال : (وبه ) أي بما ظهر . ( وسمى خلقا ) حصل الاسم "الظاهر" و "الآخر" ، فكذلك
هنا بالعبد يحصل "الباطن" و "الأول".
لذلك قال : ( فإذا رأيت الخلق رأيت " الأول " ) أي ، رأيت الهوية الموصوفة بالأولية .
( و "الآخر " و " الظاهر " " والباطن ") .
لأن الخلق المرئي آخر مراتب الوجود ، فهو "الآخر" و "الظاهر". "الباطن"
أي ، ورأيت "الباطن" من حيث روحه وجميع ما في عينه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان ، عليه السلام ، بل هي من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، يعنى ، الظهور به في عالم الشهادة . )
أي ، لا تفوت مثل هذه المعرفة عن سليمان ، لأنه من المرسلين لكافة الخلائق جنا وإنسا ، ومن الخلفاء المتصرفين في الرعية .
وقد علمت أن الخليفة لا بد وأن يكون متحققا بالأسماء الإلهية ومعرفتها ، ليمكن له التصرف بها في العالم .
وإنما جعل المعرفة من الملك ، لأن الملك دولة الظاهر وسلطنته ، وهي لا تحصل إلا بروحها التي هي الدولة الباطنة ، وروح هذه الدولة هي المعرفة بالله وأسمائه التي بها يتصرف في الأكوان ، فالمعرفة روح دولته ، كما أن الولاية باطن نبوته وروحها .

وقوله : ( يعنى الظهور به ) تفسير ( لا ينبغي لأحد ) أي ، لا ينبغي لأحد أن يظهر بهذا لملك في الشهادة ، لا أنه لا يؤتى لأحد . فإن الأقطاب والكمل متحققون بهذا المقام قبله وبعده ، ولكن لا يظهرون به .

( فقد أوتى محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ما أوتيه سليمان وما ظهر به ) أي ، فلم يظهر به ( محمد ، عليه السلام : فمكنه الله تعالى تمكين قهر من العفريت الذي جاء بالليل ليضل به . )
وفي نسخه : ( ليفتك به ) ( فهم بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد ) أي ، بعمود من عمد المسجد .
( حتى يصبح فيلعب به ولدان المدينة فذكر ) أي ، رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
( دعوة سليمان ، عليه السلام ، فرده الله خاسئا ) أي ، رد العفريت خاسئا عن الظفر عليه .
( فلم يظهر ، عليه السلام ، بما أقدر عليه ) على المبنى للمفعول . أي ، جعله الله قادرا . (
وظهر بذلك سليمان .
ثم قوله : ( ملكا ) ، فلم يعم ، فعلمنا أنه يريد ملكا ما ) من الأملاك المتعلقة بالعالم ، أي ملكا خاصا .
( ورأيناه قد شورك في كل جزء جزء من الملك الذي أعطاه الله ، فعلمنا أنه ) أي ، إن سليمان . ( ما اختص إلا بالمجموع من ذلك وبحديث العفريت ) أي ، وعلمنا بحديث العفريت .
( إنه ما اختص إلا بالظهور . وقد يختص سليمان بالمجموع والظهور . ) ( وقد ) هاهنا للتحقيق .
كقوله تعالى : ( قد يعلم الله ) . أي ، سليمان اختص بمجموع أجزاء الملك وبالظهور بالتصرف فيها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو لم يقل ، صلى الله عليه وسلم ، في حديث العفريت : "فأمكنني الله تعالى منه " لقلنا إنه لما هم بأخذه ، ذكره الله دعوة سليمان ، ليعلم رسول الله أنه لا يقدره الله)
بسكون القاف من ( الإقدار ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( على أخذه ، فرده الله خاسئا . فلما قال : "فأمكنني الله منه " علمنا أن الله تعالى قد وهبه التصرف فيه . ثم إن الله ذكره ، فتذكر دعوة سليمان ، فتأدب معه ، فعلمنا من هذا أن الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظهور بذلك في العموم . )

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وليس غرضنا من هذه المسألة إلا الكلام والتنبيه على "الرحمتين " اللتين ذكرهما سليمان في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب : "الرحمن الرحيم " . )
نبه بهذا الكلام على أن الأسماء اللفظية أسماء الأسماء الإلهية .
وهي عبارة عن الحقائق الإلهية وأعيانها التي هي مظاهرها . كما مر بيانه في المقدمات .
( فقيد رحمة الوجوب . ) كما قال : ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) .
وقال : "سأكتبها للذين يتقون " .
( وأطلق رحمة الامتنان في قوله : " ورحمتي وسعت كل  شئ " . حتى الأسماء الإلهية ، أعني ، حقائق النسب . )
وإنما فسره بقوله : " أعني حقائق النسب " لأن الأسماء تدل على الذات الإلهية مع خصوصيات تتبعها ، وبها تصير الأسماء متكثرة ، فإن الذات الواحدة لا تكثر فيها ، والذات لا تدخل في  حكم الرحمة ، لتكون مرحومة ، فتعينت الخصوصيات وهي النسب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فامتن عليها بنا ، فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية والنسب الربانية . )
أي ، فامتن على الأسماء بوجودنا ، فإنها مظاهر أحكامها ومجاري أقدارها ومرائي أنوارها ، فنحن نتيجة تلك الرحمة الامتنانية ، فلزم وجودنا منها أولا في العلم ، وثانيا في العين . كما مر تحقيقه في المقدمات .
ولا ينبغي أن يتوهم أن قوله ( بنا ) و ( نحن ) مخصوص بالكمل ، كما ذهب إليه بعض العارفين ، فإن الكمل منا مظاهر كليات الأسماء ، وغير الكمل مظاهر جزئياتها التالية لها . بل قوله : ( بنا ) إنما هو من لسان العالم كله ، شريفا كان أو حقيرا ، فإن لكل منها ربا يربه ، وهو الاسم الحاكم عليه .
والحق رحم جميع الأسماء لا بعضها دون البعض .
( ثم ، أوجبها على نفسه بظهورنا لنا ) أي ، أوجب الرحمة على نفسه ، ليرحمنا بالرحمة الرحيمية الموجبة للكمال عند معرفتنا أنفسنا وظهور حقائقها علينا .
( وأعلمنا أنه هويتنا ، لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا لنفسه ، فما خرجت الرحمة عنه ، فعلى من أمتن ، وما ثم إلا هو . ) هذا عن لسان غلبه حكم الأحدية  . ومعناه ظاهر .
( إلا أنه لا بد من حكم لسان التفصيل ) لأن الكثرة واقعة لا يمكن رفعها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ، حتى يقال أن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) وهذا التفاضل من تفاوت الأعيان واستعداداتها بحسب القوة والضعف والظهور والخفاء والقرب والعبد من الاعتدال الحقيقي الروحاني والجسماني ، مع أن الذات الظاهرة بهذه الصور واحدة لا تكثر فيها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومعناه معنى نقص تعلق الإرادة عن تعلق العلم ، فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية وكمال ) بالجر عطف على ( تعلق الإرادة ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وفضلها وزيادتها على تعلق القدرة . وكذلك السمع والبصر الإلهي ، وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض .
كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال هذا أعلم من هذا مع أحدية العين . ) أي ، ومعنى تفاضل بعض الخلق على البعض ، كمعنى تفاضل بعض الصفات والأسماء على البعض ،
ونقص بعضها عن البعض بحسب الإحاطة والتعلق ، فإن ( العليم ) يتعلق بالمعلومات ، ولا شك أن الذات الإلهية وجميع أسمائه وصفاته وجميع الممتنعات والممكنات جواهرها وأعراضها داخلة في حيطته .
و ( المريد ) لا يتعلق إلا بالممكنات في الإيجاد ، أو في الإيجاد والإعدام إذا كانت الإرادة بمعنى المشيئة .
و ( القادر ) أيضا لا يتعلق إلا بالممكنات لإيجادها وإعدامها .
هذا إن قلنا : إن الأعيان لا يتعلق بها الجعل .
وإن قلنا بجعلها ، فالقدرة متعلقة بها أيضا وكذلك الإرادة ، فصح أن ( العليم ) أكثر حيطة وأرفع درجة من غيره من الأسماء .
وتفاضل الإرادة على القدرة من حيث إنها سابقة على القدرة وشرط لحصول تعلقها ، فظاهر ، وزيادة تعلق الإرادة على تعلق القدرة غير معلوم ،إذ كل ما يتعلق بها الإرادة ، يتعلق بها القدرة.
اللهم إلا أن يقال : إن الإرادة الإلهية قد يكون متعلقة بإيجاد شئ ، فيمحوها قبل الإيجاد ، أو يعدمه ، فيتعلق ثانيا بوجوده ، فيوجده بحكم : " يمحو الله ما يشاء ويثبت " .
فيكون الإرادة متعلقة بدون القدرة .
أو يؤخذ الإرادة مطلقا ، أعم من إرادة الحق والعبد ، والقدرة أيضا كذلك ، فيتعلق الإرادة بكثير من الأشياء مع عدم تعلق القدرة بها ، لمانع يمنع من ذلك ، فتصح زيادة تعلق الإرادة على القدرة . وأما في غير هذه الصور ، فغير معلوم .
فرحم الله لمن عرف مثالا لما يتعلق بها الإرادة دون القدرة وألحق بهذا المقام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكما أن كل اسم إلهي إذا قدمته سميته بجميع الأسماء ونعته بها ، كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهلية كل ما فوضل به ، فكل جزء من العالم مجموع العالم ، أي ، هو قابل لحقائق متفرقات العالم كله . ) وفي نسخه : ( منفردات العالم ).
( فلا يقدح قولنا : إن زيدا دون عمر وفي العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو ويكون ) أي ، العلم . ( في عمرو أكمل منه ) أي ، من العلم في زيد . ( كما تفاضلت الأسماء الإلهية وليست غير الحق . )  .
أي ، كما أن الأسماء الكلية إذا قدمتها ، صارت مسماة بجميع الأسماء التالية لها ومنعوته بكل توابعها في قولك : ( إن الله هو السميع العليم - إنه هو التواب الرحيم ) فهي متفاضلة ، ومع ذلك هوية الحق مع كل منها ، سواء كان اسما كليا متبوعا ، أو جزئيا تابعا .
وإذا كانت الهوية مندرجة في كل منها ، كان كل واحد منها مجمعا لجميع الأسماء ، كذلك المظاهر الخلقية ، وإن كان بعضها أفضل من البعض.
لكن المفضول فيه أهلية كل فاضل عليه ، لأن الهوية الإلهية مندرجة فيه ، فهو بحسب ذلك الاندراج مجمع لجميع الأسماء ، فخصائصها أيضا مندرجة فيه ، فله الأهلية لجميع الكمالات ، فكل جزء من العالم فيه مجموع ما في العالم   
ثم ، فسر بقوله : ( أي ، هو قابل لحقائق متفرقات العالم ) أي ، قابل لظهور المعاني والخواص التي هي في العالم متفرقة ، دفعا لوهم من يتوهم أنه قائل بكون تلك الأهلية ظاهرة بالفعل في كل جزء من العالم . والباقي ظاهر .
وفي بعض النسخ : ( يكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ) . فمعناه : ويكون الحق من حيث الظهور في عمرو أكمل وأعلم من الحق في زيد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو تعالى من حيث هو ( عالم ) أعم في التعلق من حيث ما هو ( مريد ) و ( قادر ) وهو هو ليس غيره ) ، ظاهر مما مر .
( فلا تعلمه يا وليي ) بالإضافة إلى ياء المتكلم . ( هنا وتجهله هنا وتنفيه هنا وتثبته هنا ) أي ، فلا تعلم الحق في مظهر وتجهله في مظهر ، أو تنفيه في مظهر وتثبته في مظهر ، بل شاهد الحق في كل المظاهر لتكون مؤمنا به في كل المقامات ، عالما به في كل المواطن ، متأدبا معه في كل الحالات ، فيتجلى لك من كلها ، ويرحمك ويرزقك من صفاته ، فيغفر لك ويثني عليك بألسنتها ويحمدك ، فتكون وليا حميدا لا شيطانا مريدا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا أن أثبته بالوجه الذي أثبت نفسه ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه ، كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين قال : "ليس كمثله شيء" . فنفى ، "وهو السميع البصير" فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير من حيوان . )
أي ، إلا أن أثبت الحق كما أثبت نفسه ، ونفيت عنه كما نفى عن نفسه ، فحينئذ لا يكون المثبت
والنافي إلا الحق ، لا أنت ، فتكون عبدا متأدبا مع الحق . والباقي ظاهر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ثم إلا حيوان ، إلا أنه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس ، وظهر في الآخرة لكل الناس ، فإنها الدار الحيوان . وكذلك الدنيا ، إلا أن حياتها مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله بما يدركونه من حقائق العالم ) .
واعلم ، أن سريان الهوية الإلهية في الموجودات كلها أوجب سريان جميع الصفات الإلهية فيها ، من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها ، كليها وجزئيها ، لكن ظهر في بعضها بكل ذلك ، كالكمل والأقطاب ، ولم يظهر في البعض ، فظن المحجوب أنها معدومة في البعض ، فسمى البعض حيوانا والبعض جمادا .
فالشيخ رضي الله عنه  نبه أن الكل حيوان ، ما ثم من لا حيوة له .
ثم نبه بقوله : ( إلا أنه بطن عن إدراك بعض الناس ) على أن كونه حيوانا .
ليس باطنا في نفس ذلك الشئ حتى تكون له الحياة بالقوة لا بالفعل ، كباقي الصفات ، بل هو
حيوان بالفعل ، وإن كان باقي صفاته بالقوة وظهر في الآخرة كونه حيوانا لكل الناس ، فإنها الدار الحيوان .
لذلك تشهد الجوارح بأفعال العبد في الآخرة . وكذلك الدنيا حيوان وحياتها ظاهرة ، لكن للكمل . كما قال أمير المؤمنين ، كرم الله وجهه : ( كنا في سفر مع رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، ما استقبلنا حجر ولا شجر إلا سلم على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ) .
فظهر بإدراك الحقائق ولوازمها وصفاتها الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله .

(  فمن عم إدراكه ، كان الحق فيه أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم).
لأن الظهور بالعلم ، وهو النور الإلهي الذي به تظهر الأشياء ، ولولاه ، لكانت في ظلمة العدم وخفائه .
( فلا تحجب ) على صيغة المبنى للمفعول . و ( لا ) للنهي . ( بالتفاضل وتقول ) أي ، والحال إنك قائل . ( لا يصح كلام من يقول إن الخلق ) أي ، مهيتة الخلق ، هي عين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هوية الحق بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت أنها هي الحق ومدلولها المسمى بها ليس إلا الله تعالى )
أي ، لا تكن محجوبا ولا تقل : إن هوية الخلق مغائرة لهوية الحق لاتحادها وتكثر هويتهم
ووقوع التفاضل فيهم . لأنا بينا لك أن الأسماء الإلهية متفاضلة ، وبعضها أتم حيطة من البعض ، وأنها متكثرة مع أحدية عين الحق ، وليس مدلولها ومسماها إلا الله الواحد الأحد .
ولما فرع من تقرير المفاضلة بين الأسماء ومظاهرها ، رجع إلى المقصود من الفص

فقال : ( ثم إنه كيف يقدم سليمان اسمه على اسم الله كما زعموا ، وهو من جملة من أوجدته الرحمة ) أي ، الرحمة الرحمانية ، والرحمان الذي هو الموجد له متأخر عن اسم الله ، فمعلوله ومرحومه بالطريق الأولى أن يتأخر عنه .
( فلا بد أن يتقدم ( الرحمن الرحيم ) ليصح إسناد المرحوم ) أي ، فلا بد أن يتقدم الاسم ( الله ) و ( الرحمن ) الذي يوجد سليمان على ( الرحيم ) ، والرحيم الذي يخصه بالكمالات على المرحوم الذي هو سليمان ، لأن العلة بالذات متقدمة على معلولها ، ليصح الإسناد المرحوم إلى راحمه وموجده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا عكس الحقائق : تقديم من يستحق التأخير وتأخير من يستحق التقديم في الموضع الذي يستحقه . )
أي ، هذا القول الذي قيل في سليمان ، عكس ما يقتضيه علوم الحقائق من تقديم من يستحق التأخير ، وهو سليمان ، وتأخير من يستحق التقديم ، وهو الله وأسماؤه ، في موضع لا يستحق إلا التقديم .
فإن العادة في ابتداء الأمور تقديم اسم الحق عليها .
كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ، فهو أبتر ) .
فقوله : ( تقديم ) يجوز أن يكون خبر للمبتدأ المحذوف ، أي ، هو تقديم . أو عطف بيان لهذا .
( ومن حكمة بلقيس وعلو علمها ) أي ، ومن جملة معارفها وعلو مرتبة علمها .
( كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ، وما عملت ذلك إلا لتعلم أصحابها ) من ( الإعلام ) . أي ، عملت بلقيس ذلك لتعلم وتخبر توابعها .
( أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ) أي ، إلى أسرار ومعاني من عالم الجبروت والملكوت ، لا يعلمون طريق الوصول إليها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا من التدبير الإلهي في الملك ، لأنه إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك ، خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم ، فلا يتصرفون إلا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم ، يأمنون غائلة ذلك التصرف . فلو تعين لهم على يدي من يصل الأخبار إلى ملكهم ، لصانعوه وأعظموا له الرشى ) "الرشى " جمع رشوة .
فلو تعين لهم أن الأخبار على يدي من يصل إلى الملك ، لخدموه وأعظموا له أنواعا من الرشوة.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى يفعلوا ما يريدون ولا يصل ذلك إلى ملكهم . فكان قولها : ( ألقى إلى ) ولم تسم من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها ، وبهذا استحقت التقدم عليهم . ) كله المعنى كله ظاهر .  ظاهر .
( وأما فضل العالم من الصنف الإنساني . ) وهو ( آصف بن برخيا ) .
( على العالم من الجن ) وهو الذي قال : أنا أتيك به قبل أن تقوم من مقامك وهو المتصرف ( بأسرار التصريف وخواص الأشياء ) أي ، التصرفات النفسانية مع معاونة من التأثيرات الفلكية وخواص طبائع الأشياء . ( فمعلوم ) أي ، في هذه الصورة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بالقدر الزماني : فإن رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه لأن حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه ، أسرع من حركة الجسم فيما يتحرك منه ، فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر ، عين الزمان الذي يتعلق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور .
فإن زمان فتح البصر زمان تعلقه بفلك الكواكب الثابتة ، وزمان رجوع طرفه إليه هو عين زمان عدم إدراكه .
والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك ، أي ، ليس له هذه السرعة . فكان قول آصف بن برخيا
أتم في العلم من الجن . )
لأنه تصرف في عين العرش بالإعدام والإيجاد في واحد حتى أعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان ، عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزمن الواحد ، فرأى في ذلك الزمان بعينه سليمان ، عليه السلام ، عرش بلقيس مستقرا عنده )
لأن القول من الكمل كقول الحق للشئ المطلوب وجوده : ( كن ) فيكون ذلك الشئ بإذن الله . وذلك لأن الحق صار عين جوارحهم وعين قواهم الروحانية والجسمانية . وبهذه النسبة كان هذا الكامل وزيرا لسليمان ، عليه السلام ، الذي كان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم .

وخوارق العادات قل ما يصدر من الأقطاب والخلفاء ، بل من وزرائهم وخلفائهم بقيامهم العبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلى ، فلا يتصرفون لأنفسهم في شئ . ومن جملة كمالات الأقطاب ومنن الله عليهم أن لا يبليهم بصحبة الجهلاء ، بل يرزقهم صحبة العلماء الأمناء ، يحملون عنهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم .

( لئلا يتخيل أنه أدركه وهو في مكانه من غير انتقال ) تعليل لقوله : ( فرآه مستقرا عنده في الحال ) لئلا يتخيل - على صيغة المبنى للمفعول - أن سليمان ، عليه السلام ، أدرك العرش وهو في مكانه ، أي العرش في مكانه ، من غير انتقال .
وذلك بأن ارتفع الحجاب من البين ، فرأى سليمان ذلك وشاهده .

( ولم يكن عندنا باتحاد الزمان انتقال . ) أي ، لا يمكن أن يكون مع اتحاد زمان القول والفعل انتقال ، لأن الانتقال حركة ، والحركة لا بد أن تكون في زمان ، والقول أيضا واقع في زمان ، وزمان القول لا يمكن أن يكون عين زمان الانتقال ، ( وإنما كان إعدام وإيجاد من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرفه . )
أي ، أعدمه في سبا وأوجده عند سليمان ، عليه السلام ، بالتصرف الإلهي الذي خصه الله وشرفه به بحيث لا يشعر بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن ( وهو قوله تعالى : "بل هم في لبس من خلق جديد" . )
أي ، عدم شعورهم بذلك ، هو معنى قوله : ( بل هم في لبس من خلق جديد )  

( ولا يمضى عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤون له ) أي ، إنما كانوا في اللبس من الخلق الجديد ، لأنه لا يمضى عليهم زمان لا يرون في العالم ما كانوا راؤون له وناظرون إليه ، إذ كل ما يعدم يوجد ما هو مثله في آن عدمه ، فيظنون أن ما هو في الماضي هو الذي باق في المستقبل .  وليس كذلك .

( وإذا كان هذا كما ذكرناه ) أي ، إذا كان حصول العرش عند سليمان بطريق الإعدام والإيجاد. ( فكان زمان عدمه أعني عدم العرش من مكانه ، عين وجوده ) أي ، عين زمان وجوده

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( عند سليمان من تجديد الخلق مع الأنفاس . ولا علم لأحد بهذا القدر . بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنه في كل نفس لا يكون ثم يكون . )
قيل : ذلك لاقتضاء إمكانه عدمه كل وقت على الدوام ، واقتضاء التجلي الدائم الذاتي وجوده وفيه نظر .
لأن الممكن هو الذي لا يقتضى ذاته الوجود ولا العدم عند قطع النظر عما يقتضى الوجود أو العدم ، وكونه بهذه المثابة هو الإمكان ، فالإمكان لا يقتضى العدم كمالا يقتضى الوجود ، وإلا لا فرق بينه وبين الامتناع .

وتحقيقه أن الذات الإلهية لا تزال متجلية من حيث أسمائه وصفاته على أعيان العالم ، وكما يقتضى بعض الأسماء وجود الأشياء ، كذلك يقتضى بعضها عدمه ، وذلك ك‍ ( المعيد ) و ( المميت ) و ( القهار ) و ( الواحد ) و ( الأحد ) و ( القابض ) و ( الرافع ) و ( الماحي ) وأمثال ذلك .

وإن كان لبعض هذه الأسماء معان آخر غير ما قلنا ، لكن ليس منحصرا فيها . فالحق تارة يتجلى للأشياء بما يظهرها ويوجدها ويوصلها إلى كمالاتها ، وتارة يتجلى بما يعدمها ويخفيها . ولما كان الحق كل يوم ، أي كل آن ، في شأن ، وتحصيل الحاصل محال ، كان متجليا لها دائما بالأسماء المقتضية للإيجاد ، فيوجدها ، ومتجليا عليها بالأسماء المقتضية للإعدام ، فيعدمها ، فيكون متجليا لها في زمان واحد بالإيجاد والإعدام .

وبهذا الإعدام تم حكم قوله تعالى : ( وإليه يرجع الأمر كله ) . وبه تحصل أنواع القيامات المذكورة في المقدمات .
ولما كانت ذاته تعالى مقتضية لشؤونه دائما ، يكون تجلياته دائمة وظهوراته مستمرة ، وشؤونه وتعيناته متعاقبة .

وإنما قلنا ( في زمان واحد ) كما قال الشيخ أيضا ، فكان زمان عدمه عين زمان وجوده ، لأن أقل جزء من الزمان منقسم بالآنين ، فيحصل في آن منه إيجاد وفي الآخر إعدام .

( ولا تقل "ثم " يقتضى المهلة ، فليس ذلك بصحيح . ) أي ، لا تقل لفظة ( ثم ) الواقعة في قولك : ( بل الإنسان لا يشعر أنه في كل نفس لا يكون ، ثم يكون ) مقتضى المهلة ، فعدم الكون والكون لا يكون في زمان واحد .
لأن ( ثم ) قد تجئ للتقدم كقوله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) . وقوله : ( ثم كان من الذين آمنوا ) .
إذ لا مهلة بين خلق الأرض وخلق السماء ، ولا بين إطعام المسكين وبين كونه من المؤمنين . وإليه أشار بقوله : ( وإنما هي يقتضى تقدم الرتبة العلية عند العرب في مواضع مخصوصة ، كقول الشاعر : ( كهز الردينى ، ثم اضطرب ) .

وزمان الهزعين زمان اضطراب المهزوز بلا شك ، وقد جاء ب‍ ( ثم ) ولا مهلة . ) يجوز أن يكون ( العلية ) بفتح العين ، من العلو .
أي ، العالية الشريفة . وبكسرها ، مع تشديد اللام ، من العلة .
لأن ( ثم ) يقتضى الترتيب والتراخي ، والترتيب يقتضى تقدم البعض على الآخر .
وذلك قد يكون بالزمان ، وقد يكون بالرتبة والشرف ، وقد يكون بالذات ، كما في العلية المعلولية . لكن الأول أنسب ، لأن التقدم بالرتبة والشرف أعم من التقدم بالعلية ، فهو أكثر وجودا ، وإن
كان المثال الذي ذكره الشيخ فيه العلية والمعلولية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس زمان العدم زمان وجود المثل ، كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة . ) أي ، كما أن زمان ( الهز ) عين زمان اضطراب المهزوز ، وكذلك زمان العدم عين زمان وجود المثل في تجديد الخلق .
وإنما شبه بقول ( الأشاعرة ) في الأعراض ، لأن قوله بالتبدل في جميع الجواهر والأعراض لا في الأعراض وحدها . وقد مر تحقيقه من قبل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصته) من الإيجاد والإعدام .
( فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلا حصول التجديد في مجلس سليمان . )
إما منه بأمر الله تعالى ، أو من الحق في صورته وصورة قوله ، كما مر في الإحياء من الاعتبارات . والكل صحيح .
( فما قطع العرش مسافة ، ولا زويت ) أي ولا طويت . ( له أرض ولا خرقها ) أي ، ولا خرق آصف الأرض ، ( لمن فهم ما ذكرناه . وكان ذلك ) أي ، وحصل ذلك .
( على يدي بعض أصحاب سليمان ليكون أعظم لسليمان ) أي ، ليكون صدور مثل ذلك الفعل العظيم والتصرف القوى من أصحاب سليمان وحواشيه أكثر إعظاما لسليمان ، عليه السلام .
( في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها وسبب ذلك . ) أي ، وسبب ذلك الاختصاص الحاصل لسليمان وأصحابه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كون سليمان ، عليه السلام ، هبة الله تعالى لداود من قوله تعالى : "ووهبنا لداود سليمان" . و" الهبة "عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الجزاء الوفاق . )
مستفاد من قوله تعالى : ( جزاء وفاقا ) . أي ، جزاء موافقا لأعمال العابد . ( أو الاستحقاق ) أي ، بحسب استحقاق العمل . ولا يتوهم أنه يريد بالاستحقاق الاستعداد الذي عليه جميع ما يفيض من الله .
والمراد أن وجود سليمان حصل من العناية الإلهية السابقة في حق داود ، عليه السلام ، بحسب اقتضاء أعيانهما الثابتة ذلك ، لذلك خصه الله بالخلافة والملك الذي لا ينبغي لأحد من التصرف في الأكوان .

( فهو ) أي ، ذلك التصرف في مجلس سليمان . ( هو النعمة السابقة ) المتممة للنعم التي قبلها في حق سليمان . أو وجود سليمان هو النعمة السابقة في حق داود ، عليه السلام .
( والحجة البالغة ) أي ، على عينه يوم القيامة وأعيان أمته . ( والضربة الدامغة . ) أي ، الواصلة إلى الدماغ . في حق أعدائه من المخالفين والكفار .

( وأما علمه ) أي ، وأما اختصاص سليمان بالعلم . ( فقوله تعالى : " ففهمناها سليمان " مع نقيض الحكم . ) أي ، وجود الحكم المناقض في المسألة الصادرة من داود ، عليه السلام . ( وكلا ) من الأنبياء ، عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أتاه الله  حكما وعلما . فكان علم داود علما مؤتى أتاه الله ، وعلم سليمان علم الله في المسألة ، إذ كان هو الحاكم بلا واسطة . )
أي ، كان علم داود علما عطائيا ، صادرا من الحضرة الوهاب والمعطى ، وكان علم سليمان علما ذاتيا ، لذلك علم المسألة كما في علم الله.

وفي التعليل بقوله : ( ( إذ كان . . . ) ) إشارة إلى فناء بشريته في حقيته بحصول التجلي الذاتي . أي ، فنيت بشرية سليمان وحكم الحق بالمسألة كما يعلمها ، لكن في الصورة السليمانية ، كما تجلى لموسى ، عليه السلام ، في صورة الشجرة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فكان سليمان ترجمان حق في مقعد صدق ، كما أن المجتهد المصيب لحكم الله الذي يحكم به الله في المسألة لو تولاها بنفسه أو بما يوحى به إلى رسوله ، أجران ، والمخطئ لهذا الحكم المعين ، له أجر . )
أي ، فله أجران من حيث إنه ترجمان الحق في المسألة بحسب مقامه ومرتبته ، كما أن المجتهد المصيب له أجران .
أو هو ترجمان الحق ، كما أن المجتهد المصيب في الحكم ترجمان الحق وإن لم يعلم ذلك .
وكلا الوجهين صحيح . ويدل على صحتهما ما قال في أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم : " وإنما كان للمصيب أجران " .
لكونه أصاب في الحكم وبذل جهده فيه ، فصار في مقابلة الإصابة أجر ، وفي مقابلة بذل الجهد أجر . لذلك جعل للمخطئ أجر واحد ، لأنه بذل جهده فاستحق أجره ( مع كونه حكما وعلما ) أي ، مع كون حكم المخطئ فيما اجتهد فيه علما بحسب الشرع ، وحكما واجب العمل به إلى
حين ظهور خطائه وهو زمان المهدى ، عليه السلام .
لذلك ترتفع المذاهب فيه ويصير مذهبا واحدا .
قال رضي الله عنه :  ( فأعطيت هذه الأمة المحمدية رتبة سليمان في الحكم ورتبة داود ، عليهما السلام . فما أفضلها من أمة . ) أما رتبة سليمان ، فبالإصابة في الحكم ،كما أصاب فيه.
وأما رتبة داود ، فبالاجتهاد ، وإن وقع خلاف ما في علم الله   ولما رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدة عندها ،

قالت : ( "كأنه هو" . ) أي ، حكمت بالمغايرة والمشابهة ، فإن التشبيه لا يكون الا بين المتغائرين . ( وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال . )
ومثل الشئ لا يكون عينه من حيث التعين . ( وهو هو وصدق الأمر . ) أي ، هو هو
بحسب الحقيقة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما أنك في زمان التجديد عين ما أنت في الزمن الماضي . ثم إنه من كمال علم سليمان التنبيه الذي ذكره في الصرح ، فقيل لها : ( ادخلي الصرح ) وكان صرحا أملس لا أمت فيه ) أي ، لا عوج فيه ولا نتو . ( من زجاج . ) بيان (صرحا ).

قال رضي الله عنه :  ( فلما رأته حسبته لجة ، أي ماء ، "فكشفت عن ساقيها " حتى لا يصيب الماء ثوبها . فنبهها بذلك على أن عرشها الذي رأته من هذا القبيل . وهذا غاية الإنصاف .
فإنه أعلمها بذلك إصابتها في قولها : "كأنه هو " ) . أي ، نبهها على أن حال عرشها كحال الصرح في كون كل منهما مماثلا مشابها للآخر : أما العرش ، فلأنه انعدم ، وما أوجده الموجد مماثل لما انعدم .
وأما الصرح ، فلأنه من غاية لطفه وصفائه صار شبيها بالماء الصافي مماثلا له ، وهو غيره .
فنبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها : ( كأنه هو ) .
فإنه ليس عينه بل مثله . وهذا غاية الإنصاف من سليمان ، فإنه صوبها في قولها : ( كأنه هو ) . وهذا التنبيه الفعلي كالتنبيه القولي الذي في سؤاله بقوله : ( أهكذا عرشك ) . ولم يقل : أهذا عرشك .
( فقالت عند ذلك : "رب إني ظلمت نفسي " ) أي ، بالكفر والشرك إلى الآن .
( "وأسلمت مع سليمان " أي ، إسلام سليمان لله رب العالمين ) أي ، والآن أسلمت مع سليمان ، أي ، كما أسلم سليمان لله رب العالمين . و ( مع ) في هذا الموضع ك‍ ( مع ) في قوله هو : ( لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه ) .
وقوله : ( وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله والذين معه ) .
ولا شك أن زمان إيمان المؤمنين ما كان مقارنا لزمان إيمان الرسول .
وكذلك إسلام بلقيس ما كان عند إسلام سليمان .
فالمراد : كما أنه آمن بالله ، آمنت بالله ، وكما أنه أسلم ، أسلمت لله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما انقادت لسليمان ، وإنما انقادت لرب العالمين ، وسليمان من العالمين . فما تقيدت في انقيادها ، كما لا يتقيد الرسل في اعتقادها في الله . )
أي ، انقيادها كان لله حيث قالت : ( أسلمت لرب العالمين ) .
وما قالت : أسلمت لسليمان . ولا تقيدت في انقيادها لله برب دون رب ، بل بالرب المطلق ، وهو رب العالمين ، رب سليمان وغيره من أهل العالم ، كما لا يتقيد الرسل برب دون رب .

وهو المراد بقوله : ( في اعتقادها في الله ) . وذلك لأنهم أولياء كاملون عارفون بمراتب الحق
وظهوراته في المظاهر وبربوبيته بجميع الأسماء .
وتقيدهم بالشرائع المقتضية للربوبية ببعض الأسماء ، إنما هو بأمر الحق وتقييده .
فهم مقيدون بما يقتضى ظواهر الشرائع بحسب ظواهرهم وكونهم أنبياء مرسلين .
وأما بحسب بواطنهم وكونهم أولياء ، فلا تقيد لهم ، لشهودهم الحق في جميع المقامات وربوبيته في كل المواطن
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بخلاف فرعون ، فإنه قال : "رب موسى وهارون" . وإن كان يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجه ، ولكن لا يقوى قوته ، فكانت أفقه من فرعون في الانقياد لله . )
أي ، فرعون قيد إيمانه في قوله : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل برب موسى وهارون . لأن الذي آمنت به بنو إسرائيل هو رب موسى وهارون ، كما قالت السحرة : ( رب موسى وهارون ) .
فقول الشيخ رضي الله عنه   : ( فإنه قال ) مجاز ، إذ لم يقع هذا القول منه صريحا .
وهذا الانقياد وإن كان يلحق بانقياد بلقيس من حيث إن ربهما رب العالمين ، لكن لا يقوى بتلك القوة ، لنوع من التقييد الواقع في قوله : ( فكانت أفقه ( وأعلم ) من فرعون ) بدقائق الكلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال : "آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل " . فخصص . وإنما خصص لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم بالله : " رب موسى وهارون " . ) هذا اعتذار من جهة فرعون في التخصيص والتقييد .
أي ، كان فرعون وقت إيمانه بحكم ما يقتضى وقته من الغم والغرق والهلاك .
وكان السحرة قالوا في إيمانهم بالله : ( رب موسى وهارون ) ، وخصصوا ، لذلك خصص فرعون بقوله : ب‍ "الذي آمنت به بنوا إسرائيل وهو رب موسى وهارون " .
تذكارا لما سبق ، وعدم اعطاء وقته غير ذلك .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان ، إذ قالت : "مع سليمان" فتبعته . ) أي ، كان إسلام بلقيس كإسلام سليمان غير مقيد برب مخصوص ، بل مطلقا ، لذلك قالت : ( أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) . فتبعته في الإسلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما يمر بشئ من العقائد إلا مرت به معتقدة ذلك ، كما كنا نحن على الصراط المستقيم الذي الرب تعالى عليه ، لكون نواصينا في يده ، وتستحيل مفارقتنا إياه . )
أي ، ما يمر سليمان بشئ من المراتب ولا يعتقد في الحق عقيدة بحسب ما يدركه من الحق ذوقا وشهودا وعلما ووجودا ، إلا مرت بلقيس معه بذلك العقد واعتقدت في الحق كذلك ، لأنه ، عليه السلام ، كان متبوعها ، والتابع للشخص في عقائده لا يكون إلا على تلك العقائد ، وإلا لا يكون تابعا فيها .
فذلك ، أي  ذلك المرور والمتابعة ، كمتابعتنا للرب في قوله تعالى : ( وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم ) .
وامتناع مفارقتنا منه لكون نواصينا في يده .

فقوله : ( ذلك ) مبتدأ ، خبره : ( كما كنا نحن ) . ولا يتوهم أنه مفعول لقوله : ( معتقدة ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فنحن معه بالتضمين ، وهو معنا بالتصريح . فإنه قال : "وهو معكم أينما كنتم" . ونحن معه لكونه آخذا بنواصينا . )
لما كان كل ما هو مشهود ومحقق عين الوجود الحق ، والأعيان باقية على حال عدمها ، أو موجودة بالوجود ، وكان الحق معنا ظاهرا صريحا ، وأعياننا معه باطنا وضمنا . هذا في التحقق .

وكذلك في المشي على الصراط المستقيم : فإنه يكون على الصراط صريحا ، ونحن عليه بالتبعية ، لأنه ليس في الوجود غيره ، وأعياننا العدمية على ذلك الصراط بتبعيته وفي ضمن وجوده ، لكونه آخذا بنواصينا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو تعالى مع نفسه حيث ما مشى بنا من صراطه . فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم ، وهو صراط الرب تعالى . )
أي ، إذا كان كل ما هو مشهود عين الحق ، فالحق مع نفسه حيث ما كان ، إذ ليس هويتنا إلا وجودا متعينا ، والوجود عين الحق ، فهو مع نفسه لا مع غيره ، وهو على صراط مستقيم ، فما أحد من العالم إلا وهو على صراط مستقيم .
وهو صراط الرب أي ، صراط اسم ( الرب ) ، إذ لكل اسم صراط خاص موصوف بالاستقامة بالنسبة إلى ذلك الاسم ، وصراط الله هو المستقيم المطلق الجامع للطرق كلها ، وله الربوبية
الكاملة .

لذلك قال تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) .
( وكذا علمت بلقيس من سليمان ،فقالت : "لله رب العالمين". وما خصصت عالما من عالم.) أي ، علمت بلقيس أن سليمان مع الله بالتبعية ، فتبعته لتكون مع الله بالتبعية .
وما خصت في قولها : ( رب العالمين ) عالما من عالم ، ليكون لها نصيبا من الربوبية في العوالم كلها ، فإن الله يرب جميع العالمين وهي بالتبعية معه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما التسخير الذي اختص به سليمان ، عليه السلام ، وفضل به غيره و جعله الله له من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، فهو كونه عن أمره . ) أي ، فهو
وجود الشئ حاصلا بأمره .

( فقال : "فسخرنا له الريح تجرى بأمره " . فما هو ) أي ، فليس ذلك الاختصاص .
( من كونه تسخيرا ، فإن الله يقول في حقنا كلنا من غير تخصيص : ) بأحد منا ، سليمان كان أو غيره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " . وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ، ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر الله . فما اختص سليمان إن عقلت إلا بالأمر من غير جمعية ، ولا همة ، بل بمجرد الأمر .
وإنما قلنا ذلك ، لأنا نعلم أن أجرام العالم تنفعل بهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية .
وقد عاينا ذلك في هذا الطريق ، فكان من سليمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير جمعية ولا همة . )
والمقصود هو أن اختصاصه بالتسخير هو التسخير بالأمر المجرد ، من غير جمعية القلب والعزيمة بالهمة ، ولا بالمعاونة بالأرواح الفلكية ، ولا بخواص الأمور الطبيعية والأسماء الإلهية وغيرها .
فأمره في التسخير كان قائما مقام أمر الله . وبذلك اختص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (  واعلم ، أيدنا الله وإياك بروح منه ، أن مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد ، أي عبد كان ، فإنه لا ينقصه ذلك من ملك آخرته ، ولا يحسب عليه ، مع كون سليمان عليه السلام طلبه من ربه فيقتضى ذوق الطريق أن يكون قد عجل له ما ادخر لغيره
ويحاسب به ، إذا أراد الحق في الآخرة . )
وهذا الاقتضاء إذا كان الطلب من العبد نفسه . أما إذا كان الطلب أيضا بأمر الله ، فلا يكون كذلك .
( فقال الله له : ) أي لسليمان . ( "هذا عطاؤنا" . ولم يقل : لك ولا لغيرك . "فامنن" أي ، أعط . "أو أمسك بغير حساب " . )
أي ، هذا إعطاؤنا ، لا يحاسب عليك في الآخرة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعلمنا ، من ذوق الطريق ، أن سؤاله ، صلى الله عليه وسلم ، ذلك كان عن أمر ربه . والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي ، كان الطالب له الأجر التام على طلبه .
والباري تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه ، وإن شاء أمسك . فإن العبد قد وفى ما أوجب الله تعالى عليه من امتثال أمره فيما سأل ربه فيه ، فلو سأل ذلك من نفسه ، من غير أمر ربه له بذلك ، لحاسبه به . وهذا ) أي ، وهذا الحكم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( سار في جميع ما يسأل فيه الله تعالى ، كما قال لنبيه محمد ، صلى الله عليه وسلم : "رب زدني علما" . فامتثل أمر ربه ، فكان يطلب الزيادة من العلم حتى كان إذا سيق له لبن ) أي ، في نومه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يتأوله علما ، كما تأول رؤياه ، لما رأى في النوم أنه أوتى بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب قالوا : فما أولته ؟ قال : ( العلم ) . وكذلك لما أسرى به ، أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر ، فشرب اللبن .
فقال له الملك : أصبت الفطرة ، أصاب الله بك أمتك . فاللبن متى ظهر ، فهو صورة العلم ، تمثل في صورة اللبن ، كجبرئيل تمثل في صورة بشر سوى لمريم . )
إنما شبه ظهور العلم في الصورة اللبنية بظهور جبرئيل عليه السلام  في الصورة البشرية لمريم ، عليها السلام ، لأن كلا منهما من عالم الحقائق المجردة المتعالية عن الصورة الحسية .
ظهر بأمر الحق ، ليحصل به مراد الله في العين الخارجية ، وهو تكميل العباد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما قال ، عليه السلام : "الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا" . نبه على أنه كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم : خيال فلا بد من تأويله . )
( الواو ) في ( ولما ) عطف على ( لما أسرى . ) أي ، نبه ، صلى الله عليه وسلم ، بهذا الحديث على أن الحياة الحسية حياة ظلية للحياة الحقيقية ، والظل خيال . كما نبه في ( الفص اليوسفي ) . فكل ما في الحس من الأشياء خيالات وصور لمعان غيبية وأعيان حقيقية ، ظهرت في هذه الصور لمناسبة بينها وبين تلك الحقائق ، فلا بد من تأويل كل ما يسمع ويبصر في العالم الحسى إلى المعنى المراد في الحضرة الإلهية .
ولا يعلمه إلا العالمون بالله وتجلياته وأسمائه وعوالمه ، وهم الراسخون في العلم .
فمن وفق بذلك وهدى ، فقد أوتى الحكمة . "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا " .
(إنما الكون خيال  ...  وهو حق في الحقيقة
كل من يفهم هذا  ....  حاز أسرار الطريقة )
يجوز أن يكون المراد ب‍ ( الكون ) عالم الصور . ويجوز أن يكون العالم بأسره ، لأن العالم كله ظل للغيب المطلق وعالم الأعيان .
وقوله : ( وهو حق ) يجوز أن يكون ما يراد في مقابله الباطل . أي ، هذا القول حق في الحقيقة ، وكل من يفهم هذا المعنى وعرف تأويلات ما يشاهد في الكون ، حاز أسرار السلوك إلى الله . ويجوز أن يكون الحق تعالى .

ومعناه : أن الكون وإن كان خيالا باعتبار ظليته ، لكنه عين الحق باعتبار حقيقته ، لأنه عين الوجود المطلق ، تعين بهذه الصور ، فتسمى بأسماء الأكوان ، كما أن الظل باعتبار آخر عين الشخص . وكل من يفهم أن الكون باعتبار ظل للحق وسوى وغير مسمى بالعالم ، ويعلم أنه باعتبار آخر عين الحق ، عرف أسرار السلوك والطريقة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان ، صلى الله عليه وسلم ، إذا قدم إليه لبن ، قال : "اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه " . لأنه كان يراه صورة العلم ، وقد أمر بطلب الزيادة من العلم .
وإذا قدم إليه غير اللبن ، قال : "اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه" . فمن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي ، فإن الله لا يحاسبه به في الدار الآخرة ، ومن أعطاه الله تعالى ما
أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهي ، فالأمر فيه إلى الله تعالى : إن شاء حاسبه به ، وإن شاء لم
يحاسبه به . وأرجو من الله في العلم خاصة أنه لا يحاسبه به . ) أي ، وأرجو من الله في العلم أنه لا يحاسب الطالب بالعلم الذي أعطاه في الدنيا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن أمره لنبيه ، عليه السلام ، بطلب الزيادة من العلم عين أمره لأمته ، فإن الله يقول : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) وأي أسوة أعظم من هذا التأسي لمن عقل عن الله . ولو نبهنا على المقام السليماني على تمامه ، لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه .
فإن أكثر علماء هذه الطريقة جهلوا حالة سليمان ، عليه السلام ، ومكانته ، وليس الأمر كما زعموا . والله يقول الحق وهو يهدى السبيل . )
أي ، ظنوا من أنه قدم اسمه على اسم الله واختار ملك الدنيا وطلب أن لا يكون ذلك لغيره . وهو أعظم مكانة عند الله مما قالوا في حقه ، لأنه مظهر اسم ( الرحمن ) الذي هو جامع الأسماء .
ومطلوبه ملك لا يتعلق بالدنيا ، لذلك نكره وتنكيره للتعظيم .
والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة قد كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فليس الأمر كما قيل في حقه .

والله الهادي .

.
واتساب

No comments:

Post a Comment