Sunday, December 15, 2019

15 -  فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

15 -  فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

قال العبد : أضيفت هذه الحكمة النبويّة إليه عليه السّلام لاختصاصه بالنبوّة وهو في المهد قبل بلوغه إلى زمان البعث للنبوّة ، كما أشار إليه الكامل صلى الله عليه وسلم :
« ما بعث نبيّ إلَّا على رأس أربعين » فإنه عليه السّلام قد أنبأ أمّه - وهو في بطنها - بقوله :
" أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا "  .
لقد أسند الشيخ حكمته إلى النبوّة لكون الغالب على عيسى عليه السّلام الإنباء عن الحق وإنباء الحق عنه له وعن نفسه ولعلوّه وارتفاعه الروحي والإلهي عن أبناء البشر ، كما ستعرف .
وبقوله في المهد : " وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " كما مرّ في الفهرس ويأتي فيما بعد .
قال رضي الله عنه :
(عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين ... في صورة البشر الموجود من طين)
(تكون الروح في ذات مطهرة   ...... من الطبيعة تدعوها بسجين )

يشير رضي الله عنه إلى أنّ تكوّن الروح في حكم النظر العقلي يجوز أن يكون عن نفخ جبرئيل عليه السّلام فإنّ الروح الأمين على أنباء الله التي أنبأ بها جميع الأنبياء عن الحق بنبوّاتهم .
ويجوز أن يكون من حيث طهارة المحلّ وهو مريم عليها السّلام فإنّها أيضا منبأة من عند الله بما يكون عنها بقوله تعالى : " إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه ُ اسْمُه ُ الْمَسِيحُ " وذلك عين الإنباء من عند الله وقد أنبأت نبيّ الله زكريّا بقولها :

" هُوَ من عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ " ، فصلحت إضافة تكوّن عيسى عليه السّلام نبيّا عن نفخ جبرئيل الأمين في صورة البشر ، وعن مائها الطاهر ، وعنهما معا ، ومقتضى الكشف أنّ النبوّة كانت مدرجة في الكلمة الإلهية وهي وجود عيسى ، فبدأ - رضي الله عنه - في نظمه مستفهما لهذا الاحتمال في النظر العقلي .
قال : الأصل في وجود نشأته عليه السّلام إمّا جبرئيل عليه السّلام أو مريم عليها السّلام أو هما معا .

وفي الكشف الاسم هو الكلمة الإلهية التي أنبأ الله بها أمّه وجبرئيل بكلّ نبأ واقع على لسانه وفي قلب أمّه وعن جبرئيل بالنسبة إلى أمّه وإليه ، لأنّ الإنباء الحقيقي إنّما هو للوجود المتعيّن في مظهرية كلّ منهم ، وهو الكلمة والروح الحقيقي .

قال - رضي الله عنه - :
(لأجل ذلك قد طالت إقامته ... فيها فزاد على ألف بتعيين )
يشير رضي الله عنه إلى إقامة روح الله في الصورة البشرية الطبيعية من جهة أمّه .
فإنّ تكوّن الروح بشرا إنّما كان من أجل المحلّ القابل وهي الطبيعة ، فإنّ وجود مريم من أظهر المظاهر الطبيعية وأصفاها ، ووجوده عليه السّلام ضرب مثل وإنباء من الله لمن عقل عنه لوجود الروح الإنساني الكمالي عن الطبيعية من حيث التعيّن وظهور أحكام الروح وآثاره وقواه في مظاهرها الطبيعية الجسمانية .
لأنّ الروح الإنساني بعينه حادث بحدوث البدن ، ولم يكن هذا التعيّن موجودا قبل النشأة الطبيعية ، فإنّ وجود الروح قبل وجود البدن وجود روحاني في صورة روحانية نورانية فلكية وعرشية ونورية ومثالية .
وإنّما ظهرت آثار قواه وتصرّفاتها في العالم مظاهرها بين البدن ، ومتعلَّق الحدوث إنّما هو التعيّن ، والحدوث في الصور العنصرية والمزاج الجسماني ، وليس ذلك إلَّا لقواها وآثارها وتصرّفاتها في الأرواح الثلاثة : الطبيعيّ والحيواني والنفساني ، فافهم .

قال رضي الله عنه  :
(روح من الله لا من غيره فلذا ... أحيا الموات وأنشا الطير من طين)
يشير رضي الله عنه إلى أنّ هذا الروح الكامل مظهر الاسم « الله » وأنّ النافخ له هو الله من حيث الصورة الجبرئيلية ، ليس من حضرة اسم آخر من الأسماء التابعة الفرعية .
فإنّ كلم أرواح سائر الأنبياء كما علمت ممّا تقدّم وإن كانت من حضرة الاسم « الله » ولكن من حيث تجلَّيه من سائر الحضرات الإلهية إلَّا أنّه من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية .
كما مرّ في شرح فصّ شيث عليه السّلام فتذكَّر ، فتعيّن هذا الروح من باطن الحضرة الإلهية ، ولهذا قال الله تعالى إنّه روح الله وكلمته ، فالكلمة لباطن الله وهويّته الغيبية ، والروح لله ، ولهذا هو عبد الله ومظهره وقد ظهر به ، من الدلائل على ذلك الإحياء والإبراء والخلق .

قال رضي الله عنه :
(حتى يصح له من ربه نسب ... به يؤثر في العالي وفي الدون )
يشير رضي الله عنه : إلى الإحياء والخلق ، فإنّ الإحياء من خصوص الإلهية وكذلك الخلق ، " قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ "  فلمّا ظهرا منه ، صحّ له نسب من الاسم الله ، فأثّر بالإحياء والإبراء وقد عجز عن ذلك غيره في الصور العالية الإنسانية ، وأثّر في الدون بالخلق ، وهو صورة الخفّاش .
قال رضي الله عنه :
(الله طهره جسما ونزهه  ....  روحا وصيره مثلا بتكوين )
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ جسمانيّته تمثّليّ روحاني ، ليس فيها من التلوينات الطبيعية البشرية ما يقدح في روحانيته ، فإنّ صورته روح متجسّد في رأي العين وليس فيها من الجسم إلَّا حقيقة الجسمية التي بها يثبت متحيّزا لعيان العيون ، ويبقى كذلك مدّة مديدة .
وذلك من طينة أمّه الطيّبة الطاهرة ، وتنزيه روحه عن التقيّد بمرتبة جزئيّة من


مراتب الأسماء وعن آثار الطبيعة فيه ، كما في غيره من الأرواح البشرية ، فإنّها بحسب الطبيعية والصور الجسمانية ، بخلاف صورته - صلوات الله عليه - فإنّها روحانية بحسب الروح ، فلا يقيّده حيّز بالحصر والحبس ، بل هو مطلق.
ولهذا ما قتل وما صلب في الصحيح كما أخبر الله عنه ولكن خيّل لهم ذلك ، وشبّه شبهه حين ألقي شبهه على من سعى في دمه ، وكذلك جميع أحواله الطبيعية من الأكل والشرب تمثيل إلَّا ما قال الله تعالى عنه : " كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ "  في رأي العين ، فكان يتغذّى بروحانية الطعام الذي يريهم أنّه يأكله أو يشربه لا غير .

وأمّا تصيّره مثلا فهو بتكوين الجوهر الطيري من الطين ، وتكوين الأعراض من الحياة والصحّة والألوان بلا مادّة ظاهرة ، فصحّت له المثلية من هذه الوجوه ظاهرا في نشأته الأولى النبويّة ، وبكونه خليفة الله في نشأته الثانية بختمية الولاية العامّة ، كما علمت في شرح الفصّ الشيثي ، فتذكَّر .
قال رضي الله عنه : ( اعلم : أنّ من خصائص الأرواح أنّها لا تطأ شيئا إلَّا حيي ذلك الشيء وسرت الحياة فيه ، ولهذا قبض السامريّ " قَبْضَةً من أَثَرِ الرَّسُولِ "  الذي هو جبرئيل وهو الروح ، وكان السامريّ عالما بهذا الأمر .
لمّا عرف أنّه جبرئيل ، عرف أنّ الحياة قد سرت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرسول - بالصاد أو بالضاد - أي بملء يده أو بأطراف أصابعه ، فنبذها في العجل فخار العجل ، إذ صوت البقر إنّما هو الخوار ، ولو أقامه صورة أخرى نسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء للإبل والثؤاج للكباش والثغاء للشياه ، والصوت للإنسان ، أو النطق أو الكلام » .)
قال العبد : قد علمت فيما تقدّم أنّ الروح نفس رحماني ، فالحياة ذاتية له ، وإذا أثّر أو باشر بصورته المثالية جسما من الأجسام ، ظهر سرّ الحياة فيه بحسب صور ذلك الجسم ، والجسم ليست له الحياة التي تفيد الحركة والحسّ الخاصّة بالحيوان ، وإنّما هي من خاصّة الروح .

ثمّ الروح إذا كان كلَّيا يكون تأثيره بحسبه وبحسب قوّته ، وجبرئيل هو الروح الكلَّي المسلَّط على عالم العناصر كلَّها وسلطانها ، ومقامه سدرة المنتهى ، وليس كما يزعم الفلاسفة أنّه العقل الفعّال يعنون روح فلك القمر .
فإنّ روحانية فلك القمر هو إسماعيل ، وليس بإسماعيل النبيّ ، بل هو ملك مسلَّط على عالم الكون والفساد ، هو من أتباع جبرئيل عليه السّلام .
وليس لإسماعيل حكم فيما فوق فلك القمر ، ولا لجبرئيل فيما فوق السدرة ، وحكمه على السماوات السبع وما تحتها من الأسطقسّات والعناصر والمواليد ، فلمّا ظهر هذا الروح الأمين الكلَّي متمثّلا على البراق ، والبراق أيضا روح متمثّل كذلك من روح البراق المتمثّل أثّر في التراب الذي وطئ عليه ، فسرت فيه الحياة ، لقوّة روحانيته المتعدّية ، فلمّا نبذ التراب في تلك الصورة المسوّاة على صورة البقر ، أثّر فيها من الحياة هذا القدر .
قال رضي الله عنه  : (« فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمّى لاهوتا ») .
يعني رضي الله عنه : لمّا كانت الحياة من خصوص الإلهية ، فأيّ شيء سرت فيه الحياة - أيّ نوع كان من أنواع الحياة المختلفة الظهور في الأجسام القابلة التي تسري فيها - يسمّى لاهوتا .

قال رضي الله عنه : ( والناسوت هو المحلّ القائم به ذلك الروح ، فسمّي الناسوت روحا بما قام به ) .
يعني رضي الله عنه : بالتضمّن ، ولكن إذا كان الروح قائما بصورة إنسانية يسمّى ناسوتا بالحقيقة ، وإذا قام بغير الصورة الإنسانية ، قد يسمّى ناسوتا بالمجاز ، لكونه محلا للَّاهوت .

قال رضي الله عنه : ( فلمّا تمثّل الروح الأمين الذي هو جبرئيل عليه السّلام لمريم بشرا سويّا ، تخيّلت أنّه بشر يريد مواقعتها ، فاستعاذت بالله منه استعاذة تجمّعيّة منها ليخلَّصها الله منه ، لما تعلم أنّ ذلك ممّا لا يجوز ، فحصل لها حضور تامّ مع الله وهو الروح المعنوي ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ حضورها لأجل التنفيس عنها استدعى روحا معنويا ، لأنّه لا يكون إلَّا بتجلّ نفسي رحماني في معنى الإنسان .

قال رضي الله عنه : ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على تلك الحالة ، خرج عيسى لا يطيقه أحد ، لشكاسة خلقه لحال أمّه ) .
يعني : أنّ ظهور الروح وتعيّنه في كل محلّ إنّما يكون يحسب حال ، فلمّا كانت حال مريم عليها السّلام حال الاستعاذة والضجر والتحرّج من تخيّلها وقوع المواقعة ، فلمّا رأت صورة بشرية على صورة التقيّ النجّار ، وكانت متبتّلة إلى الله ، زاهدة في الدنيا وفي النكاح ، حصورة ، فخرجت نفسها ممّا رأت ، فلو نفخ جبرئيل فيها روح الله وكلمته وأمانته على تلك الحالة ، لسرت حالتها في الروح ، فخرج كذلك منكَّس الخلق لا يطيقه أحد ، فعلم الروح الأمين منها ذلك ، فأنسها بقوله : " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ".

قال رضي الله عنه : « فلمّا قال لها : " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " جئت " لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا "  ، انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها ، فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى ، فكان جبرئيل ناقلا كلمة الله لمريم ، كما ينقل الرسول كلام الله لأمّته وهو قوله : " وَكَلِمَتُه ُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه ُ " . فسرت الشهوة في مريم ، فخلق جسم عيسى من ماء محقّق من مريم ومن ماء متوهّم من جبرئيل سرى في رطوبة ذلك النفخ ، لأنّ النفخ من الجسم الحيواني رطب ، لما فيه من ركن الماء ، فخلق جسم عيسى من ماء متوهّم ومن ماء متحقّق .
وخرج على صورة البشر من أجل أمّه ومن أجل تمثّل جبرئيل في صورة البشر ، حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد ) .
قال العبد : أمّا سراية الشهوة في مريم فبأمر الله " لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كانَ مَفْعُولًا " ، ولا سيّما وكان الله قبل ذلك أنبأ مريم وبشّرها " بِكَلِمَةٍ مِنْه ُ اسْمُه ُ الْمَسِيحُ " ابن مريم ، أي تولَّد منها روح حين " قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ " .
وإنّما قالت ذلك بحكم العادة المتعارف في التوليد البشري ، فلو غلب عليها إذ ذاك شهود قدرة القدير ، لم تقل ذلك بحكم العرف ، بل بحكم الكشف والشهود .
فقال الملك : " كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ " ، أي خلق الولد بلا مسّ البشر بصورة الوقاع ، " وَلِنَجْعَلَه ُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا " هذا في وقت النفخ .
والذي قبل ذلك وهي في محرابها " إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه ُ اسْمُه ُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمن الْمُقَرَّبِينَ " الآية « 6 » ، فانتظرت ذلك من الله .
فلمّا قال جبرئيل : " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا " تذكَّرت وزال عنها القبض ، فسرت الشهوة من حيث ما اشتهرت ، وتمنّت وقوع ما بشّرها الله به ، فنفخ أمين الله عند انشراح صدرها روح الله .
فخرج منشرح الصدر ، غالبا عليه البسط ، حسن الصورة ، بسّاما ، طليق الوجه ، مستبشرة ، رزقنا الله وإيّاك الاجتماع به يقظة ورؤيا في الدنيا والآخرة ، إنّه قدير .
وأمّا خلق جسم عيسى عليه السّلام من ماء محقّق فمن حيث سراية الشهوة فيها ، ومن ماء متوهّم فمن حيث توهّم مريم أنّ الرسول بشر أو روح في صورة بشرية ، وإذا ظهر الروح في صورة بشرية بأمر الله لإيجاد الولد ، فبما زعمت عرفا لا يكون إلَّا من ماء الرجل ، فتأثّرت بالوهم ، فوجد من ذلك ماء روحاني نوراني ، منه خلق جسم  الروح صلوات الله عليه ثمّ الروح لمّا لم يكن جسمانيا وليس فيه ماء حسيّ عرفا ، ولكن في قانون التحقيق لمّا تحقّقت ممّا أسلفنا في هذا الكتاب أنّ الأرواح وإن كانت غير متحيّزة ولكن في قوّتها ومن شأنها أنّها شاءت أو شاء الحق .
ظهرت في صورة متمثّلة كالمتحيّز وحينئذ أضيف إليها ما يضاف إلى تلك الصورة الجسمية من الأوصاف والأحكام واللوازم ، فلمّا ظهر الروح الأمين لمريم في صورة من شأنها أن يكون الولد عند التوليد من مائها ، أعني صورة البشر السويّ ، أي التامّ الخلق .
فتوهّمت عليها السّلام من حيث هذا السرّ مضافا إلى ما ذكر قبل أن يكون الولد من ماء وبه النفخ الواقع من الصورة الجبرئيلية التمثيلية في صورة البشر .
فظهرت رطوبة الحياة الروحية من ذلك الريح المنفوخ وهو هواء حارّ رطب ، ولا سيّما وجبرئيل سلطان العناصر أجرى في نفسه الرحماني روح الماء والحياة الذي عليه عرش الرحمن ، فتكون صورة الروح الظاهرة من هذا الماء الروحاني الإلهي الرحماني الساري في الماء البشري المريمي القدسي .
وأمّا خروجه على صورة البشر فلأنّ صورته نتيجة الصورة البشرية من جانب جبرئيل ومن جانب أمّه ، فأشبه الأصل ، ولما ذكره سلام الله عليه فاذكر ، حتى لا يكون التكوين والإيجاد الإنسانى إلَّا بالصورة الإنسانية تشريفا لهذه الصورة وتنزيها أن يتكوّن إلَّا عن الإنسان في الإنسان .
فإنّ خلق الإنسان مخصوص بالله من كونه متجلَّيا في صورة إنسانية ، ولهذا خمّر طينة آدم بيديه أربعين صباحا ، فكان الله تبارك وتعالى يتجلَّى في صورة إنسانية وتخمّر طينة في مادّة نورية لاهوتية .
من حيث الأحدية الجمعية البرزخية العظمى التي مرّ مرارا ذكرها ، فتذكَّر ، وكذلك الله ما تجلَّى من حضرة من الحضرات لإيجاد نوع أو جنس فما دونها وما فوقها إلَّا على صورة ذلك النوع والجنس والصنف والشخص الذي يريد إيجاده كائنا ما كان .
وبعد خلقه تامّا كاملا ارتضاه صورة له ، وكان هو ربّه وروحه ، فهو صورة أنانيّة الحقّ ، وهويتها - من حيث ذلك التجلَّي الأوّل الذي تجلَّى لإيجاده - على صورة عينه الثابتة ، فافهم - وما أظنّك تفهم - إن شاء الله العليم .

قال رضي الله عنه : ( فخرج عيسى يحيي الموتى ، لأنّه روح إلهي ، وكان الإحياء لله والنفخ لعيسى ، كما كان النفخ لجبرئيل والكلمة لله ) .
قال العبد : اعلم أن الكلم وإن كانت كثيرة بحسب حضرات المتكلَّم منها ، ولكنّها تنحصر في أمّهات ثلاث :
الأولى : كلمة هي هيئة أحدية جمعية من حروف ظاهرة ملكية شهادية كونية جسمانية كسائر الموجودات الجسمانية ، فإنّ كل موجود موجود جسمانيّ كلمة إلهية كذلك .
الثانية : وكلمة هي هيئة جمعية من حروف باطنة ملكوتية روحانية ، كالموجودات الإبداعية الروحية كالأرواح والعقول والنفوس والملائكة ، فإنّها كلمات رحمانية قدسية طاهرة سبّوحيّة .
والثالثة : كلمة هي هيئة أحدية جمعية بين حقائق حرفية إلهية ، وحروف روحية جسمانية وهي حقائق الكمّل من النوع الإنساني ، ولكنّ الغالب على كل واحد من الكمّل حكم مرتبة من هذه المراتب .
فكانت الكلمة العيسوية المسيحية الظاهرة هيأة أحدية جمعية بين حقائق حرفية إلهية ، وحقائق حرفية روحية إلهية أيضا ، وحقائق حرفية جسمانية روحانية إنسانية في مرتبة البطون ، والغالب على حرف جسمانيته الحروف الروحية والغالب على حرف روحيته الحروف اللاهوتية.
ولهذا قيل فيه : " إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " غلطا من جهة القائل المنحرف .
فلو قالوا : هو الله ، لم يكن غلطا ، فإنّ هوية الصورة العيسوية المسيحية الروحية لله ، كما أنّه هوية الإنيّات كلَّها بلا حصر في شيء منها ، ولكنّهم ادّعوا الحصر ، فكفروا وجهلوا وغلطوا ، فافهم ، فإنّه بحث شريف لطيف عال غال ، حقّقنا الله وإيّاك بتحقّقه وتحقيقه بحسن توفيقه ، إنّه على ما يشاء قدير .
قال رضي الله عنه : (فكان إحياء عيسى للأموات إحياء محقّقا من حيث ما ظهر عن نفخه) .
يعني : من حيث حصول الإحياء عن نفخه ظاهرا رأي عين ، فتصحّ إضافة الإحياء إليه

بمشاهد الحسّ عرفا عاديا وتحقيقا أيضا ، لأنّ هويته الله ، وهو أحدية جمع اللاهوت والروحية والصورة ، فيضاف إليه حقيقة من حيث هويته اللاهوتية ، فافهم .

قال رضي الله عنه : ( كما ظهر هو عن صورة أمّه ) .
يعني رضي الله عنه : في المعتاد من إيلاد الأولاد ، وبهذا الوجه أضيف إلى أمّه ونسب إليها ، فقيل فيه : إنّه عيسى بن مريم ، وهكذا إضافة الإحياء إلى الصورة العيسوية النافخة للإحياء .

قال رضي الله عنه : ( وكان إحياؤه أيضا متوهّما أنّه منه ، وإنّما كان من الله ، فجمع لحقيقته - التي خلق عليها كما قلناه - أنّه مخلوق من ماء متوهّم وماء محقّق ، ينسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه وبطريق التوهّم من وجه ، فقيل فيه من طريق التحقيق : « وتحيي الموتى » و قيل فيه من طريق التوهّم : " فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي " فالعامل في المجرور يكون « تكون » لا « تنفخ »  ويحتمل أن يكون العامل فيه « تنفخ » فيكون طائرا من حيث صورته الجسمية الحسّية ) .
يشير رضي الله عنه : إلى إنّه لمّا كان أصل خلقته من متحقّق ومتوهّم ، ظهر ذلك في فعله الذي هو فرع عليه متوهّم الإضافة إليه من وجه ، ومتحقّق الإضافة إليه أيضا من آخر ، فاعتبر الحق في العبارة المعجزة القرآنية كلا الوجهين ، لكونهما من مقتضى أصل خلقته ، فقال في الأوّل " فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي " فكان التقدير يكون المنفوخ فيه بإذن الله طائرا ، فيكون العامل في المجرور - أعني « بإذن الله » - « تكون » لا « تنفخ » ، فيكون الموجب لكونه طيرا بإذن الله ، فيكون طائرا بنفخه .
سرّ للخواصّ اعلم : أنّ حقيقة الإذن أمر من الله ، يمكَّن المأذون له من إيجاد الفعل الخارق للعادة الذي لا يضاف إلَّا إلى الله عرفا عاديا .
ثمّ إنّ تمكين الله تعالى للعبد وأمره بذلك إنّما يكون بخصوص استعداد ذاتي للعبد من حيث صورته المعلومية


لله أزلا وعينه الثابتة ، لأنّ الله علم من حقيقة قفداء العبد أنّ له صلاحية في الوجود وقابلية في الحقيقة لمثل هذا التمكين والأمر من الله بخلاف غير المأذون .
فهو من قدم الصدق الذي كان له عند ربّه المليك المقتدر ، اقتضى هذا العبد بتلك الخصوصية من الله هذا النوع من العناية والتمكين ، فأظهر الله في الوجود العيني من العبد هذا التمكين ممّا كان عليه في وجوده العلمي ، فإذن الله هو تمكين العين الثابتة ، وحسن تأتّيها باستعدادها الذاتي للوجود الحق أن يظهر هذا التمكين والإذن فيه بالحق ، فافهم .

قال رضي الله عنه - : ( وكذلك " تُبْرِئُ الأَكْمَه َ وَالأَبْرَصَ " وجميع ما ينسب إليه وإلى إذن الله وإذن الكناية في مثل قوله : " بِإِذْنِي " و " بِإِذْنِ الله " فإذا تعلَّق المجرور بـ « تنفخ » فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ويكون الطائر عن النافخ بإذن الله ، وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن ، فيكون التكوين للطائر طائرا بإذن الله ، فيكون العامل عند ذلك « فتكون » فلو لا أنّ في الأمر توهّما وتحقّقا ، ما قبلت هذه الصورة هذين الوجهين ، بل لها هذان الوجهان ، لأنّ النشأة العيسوية تعطي ذلك ).
قلت : كلّ هذا ظاهر بيّن .
قال رضي الله عنه : ( وخرج عيسى من التواضع إلى أن شرّع لأمّته أن " يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ " وأنّ أحدهم إذا لطم في خدّه وضع الخدّ الآخر أن يلطمه ، ولا يرتفع عليه ، ولا يطلب القصاص منه ، هذا له من جهة أمّه ، إذ المرأة لها السفل ، فلها التواضع ، لأنّها تحت الرجل حكما وحسّا ) .
يعني رضي الله عنه : بقوله : « حكما » ما قال الله تعالى : " الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ

وقوله " لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " و " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ " وغير ذلك .
قلت : وأمّا حسّا فظاهر .

قال رضي الله عنه : ( وما كان فيه من قوّة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبرئيل في صورة البشر  فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر ، ولو لم يأت جبرئيل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها  من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد ، لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى إلَّا حين يتلبّس بتلك الصورة
ولو أتى جبرئيل في صورته النورية الخارجة عن العناصر والأركان - إذ لا يخرج عن طبيعته - لكان عيسى لا يحيي الموتى إلَّا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمّه ، فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى : « هو لا هو » وتقع الحيرة في النظر إليه ) .

يشير ضي الله عنه : فيما سردنا وأوردنا من نصّ الفصّ إلى أنّ الإحياء والإبراء من خصائص الأرواح ، لكونها جملة أسماء اللاهوت ، وإحياء عيسى لما أحياء من جهة جبرئيل الأمين ، فإنّ الحياة للأرواح ذاتية ، فإنّها أنفاس رحمانية ، وإحياء عيسى وغيره ممّن أحيا فمن الروح الأمين أو غيره ، فلا يكون الإحياء منه إلَّا إذا كان عيسى على تلك الصورة التي كان عليها جبرئيل حين تمثّل لإلقاء الكلمة إلى مريم .
وفيما ذكر رضي الله عنه : إشارة أيضا إلى أنّ جبرئيل سلطان العناصر ، وأنّ له أن يظهر في السماوات السبع وما تحتها من العنصريات والعناصر لأهلها بأيّ صورة شاء من صور العنصريات بحسب الموطن والمقام والمناسبة واستعداد من ظهر له ، وأنّ صورته الأصلية غير عنصرية ، بل طبيعية نورية ما بين الثامن والسابع ، وأنّه ليس له أن يخرج عن هذه الطبيعة التي هي له بالأصالة إلى ما فوقها إلَّا أن يشاء الله ، فهو لا يتعدّى سدرة المنتهى .
فلو كان تمثّل جبرئيل عند النفخ في صورة عنصر أو عنصرين ، لما كان الإحياء من عيسى إلَّا بعد ظهوره بتلك الصورة ، ولو كان جبرئيل إذ ذاك في صورته الأصلية الطبيعية النورية ، لكان الحكم كالحكم في الواقع ، فلم يكن يحيي عيسى إلَّا إذا ظهر في صورة جبرئيل الأصلية مع جمعه بين ذلك وبين صورته البشرية من جهة أمّه ، إذ لا يخرج على كل حال عن صورته الأصلية وطبيعته ، فلا بدّ له من الظهور بصورة أصله من جهة جبرئيل ومن جهة أمّه ، حتى لا يخرج بالكلَّية عن طبيعته وصورته الإنسانية .
فيقال فيه :
« هو لا هو » وفات المراد المطلوب وهو إحياؤه وإبراؤه في صورة بشرية ، وإلَّا لكان إحياء عيسى على ذلك التقدير في تلك الصورة الجبرئيلية مع الصورة البشرية ، فيراه الرائي متحوّلا من صورته العيسوية إلى صورته الجبرئيلية ووقعت الحيرة .

قال رضي الله عنه : ( كما وقعت في العاقل عند النظر الفكريّ ، إذا رأى شخصا بشريّا من البشر يحيي الموتى - وهو من الخصائص الإلهية - إحياء النطق لا إحياء الحيوان ، بقي الناظر حائرا ، إذ يرى الصورة بشرا بالأثر إلهيا ) .
يعني رضي الله عنه : كان يحيي بالنطق ، فيقول : قم حيّا بالله أو بإذن الله أو باسم الله ، فتخرج الموتى بالنطق والدعاء ، فتجيبه فيما كلَّمها به نطقا ، لا إحياء الحيوان الذي يبقى حيّا عمرا على ما نقل في قصّة أنّه أحيا بنطقه سام بن نوح عليه السّلام فشهد بنبوّته ، ثمّ ترجّع على حالته .

قال رضي الله عنه : ( فأدّى بعضهم فيه) أي عند إحيائه الموتى
( إلى القول بالحلول ) يعني نسبوا الإحياء إلى الله حال حلوله في صورة عيسى
( وأنّه هو الله بما أحيا به الموتى ، ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو الستر ، لأنّهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى ، فقال : "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ "  فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام ). بعد قولهم : إنّ الله هو .

وقال : ( لا بقولهم هو الله ) يعني : لم يكفروا بقولهم : إن الله هو ، فإنّ الله هو لنفسه هو .
( ولا بقولهم : المسيح ابن مريم ) بل بما حصروا الله في هوية عيسى بن مريم ، ولم يكفروا بقولهم : إنّ الله هو حملا لهوية عيسى على الله ، إذ هوية عيسى مع هوية العالم كلَّه هو الله المتجلَّي

بوجوده الحق في جميع العالم أبدا ، كما مرّ ، ولكن كفروا بوصفهم هوية الله في صورة ابن مريم على التعيين.
قال رضي الله عنه : ( فعدلوا بالتضمين من الله من حيث أحيا الموتى إلى الصورة الناسوتيّة البشرية بقولهم : ابن مريم وهو ابن مريم بلا شكّ ، فتخيّل السامع أنّهم نسبوا الإلهية للصورة وجعلوها عين الصورة وما فعلوا ، بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصورة والحكم ، لا أنّهم جعلوا الصورة عين الحكم ) .

يعني رضي الله عنه : أنّهم قالوا : " إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " ، ففصلوا بين الصورة المسيحية المريمية وبين الله بالهوية .
ولم يقولوا : الله المسيح بن مريم ، فتخيّل السامع أنّهم نسبوا الألوهية القائمة بذات الله إلى الصورة المسيحية وما فعلوا ذلك ، بل فصلوا بالهوية بين الصورة العيسوية وبين الحكم بحمل اللاهوت على الهوية ، فاقتضت حصر الإلهية في عيسى بن مريم .

قال رضي الله عنه : « بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم » .
أي جعلوا الله بهويته موضوعا ، وحملوا الصورة عليه فحدّدوا الهوية الإلهية وجعلوها محصورة في صورة الناسوت المعيّنة وهي غير محصورة ، بل له هوية الكلّ ، فجمعوا بين الكفر بأنّ الله هو هذا .
فستروا الهوية الإلهية في عيسى ، وبين الخطأ بأنّه ليس إلَّا فيه - أي هي هي هو لا غير ، وقد كان هو عين الكلّ - ولا في البعض ، بل مطلقا في ذاته عن كل قيد وإطلاق ، كما عرفت .

قال رضي الله عنه : « كما كان جبرئيل في صورة البشر ولا نفخ ، ثم نفخ ، ففصل بين الصورة والنفخ ، وكان النفخ من الصورة ، فقد كانت الصورة ولا نفخ ، فما هو النفخ من حدّها الذاتي ».
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ هذا الاختلاف كما كان بين حقيقة الصورة البشرية ،


لكون الصورة متحقّقة بلا وجود النفخ ، وليس النفخ من ذاتيات الصورة البشرية ، فكذلك كانت الهوية الإلهية موجودة متحقّقة بلا صورة عيسوية .
وكانت الصورة العيسوية أيضا، قبل ظهور الإحياء الإلهية المنسوبة إليه، من حيث ذاك الإحياء ، فليست هذه الصورة من حدّ الألوهية ، ولا الألوهية وهويّته من حدّها ، فكذلك ولذلك وقع الاختلاف بالفصل في هذه الصورة .

قال رضي الله عنه : « فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟ فمن ناظر فيه من حيث صورته البشرية ، فيقول : هو ابن مريم . ومن ناظر فيه من حيث الصورة المتمثّلة البشرية ، فينسبه لجبرئيل . ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى ، فينسبه إلى الله بالروحية » .
يعني رضي الله عنه : يقول من حيث إنّه أحيا الموتى : هو روح الله ، أو كلمة الله ، أو هو الله ، أو هو ابن الله على الخلاف المشهور بين المسيحيّين ، وأنّه ابن مريم من حيث الصورة الناسوتية ، ومنهم من ينسبه إلى الروح الأمين من كونه نافخا له في الصورة البشرية .

قال رضي الله عنه : ( فيقول : روح الله ، أي منه ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه ، فتارة يكون الحق فيه متوهّما - اسم مفعول - وتارة يكون الملك فيه متوهّما ، وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهّمة ، فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه ، فهو كلمة الله وهو روح الله ، وهو عبد الله ، وليس ذلك في الصورة الحسيّة البشرية لغيره ، بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية ، فإنّ الله إذا سوّى الجسم الإنساني - كما قال : " فَإِذا سَوَّيْتُه ُ " نفخ فيه هو تعالى من روحه ، فنسب الروح في كونه وعينه إلى الله تعالى ، وعيسى ليس كذلك ، فإنّه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي ، وغيره - كما ذكرنا - ليس  كذلك ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ صورة عيسى تكون بنفخ الروح الأمين ، فجسمه روح متجسّد متمثّل في مادّة ، يعني الرطوبة التي في النفخ للإحياء والحياة ، وغير عيسى ليس كذلك ، لأنّ الملك - بإذن الله - أو الله ينفخ فيه الروح بعد تسوية الجسم وإعداد الصورة البشرية المسوّاة المخلَّقة في الرحم .

ثم قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالموجودات كلَّها كلمات الله التي لا تنفد ، فإنّها عين « كن » و « كن » كلمة الله ، فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه ، فلا تعلم ماهيتها ، أو ينزل هو - تعالى - إلى صورة من يقول له : « كن » فيكون قول : « كن » حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها ؟ فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ، وبعضهم إلى الطرف الآخر ، وبعضهم يحار في الأمر ، ولا يدري ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الموجودات كلَّها لمّا كانت تعيّنات الوجود الحق وتنوّعات صور تجلَّياته الإلهية ، فهي كلمات الله على ما مرّ مرارا ، ولأنّها صور «كن» فهي تحتمل اعتبارين:
أحدهما : اعتبارها من حيث وجودها الحقّ : فتترك مطلقة على حقيقتها ، فلا تعلم حقائقها ، فإنّها كلمات الله المطلقات ، كهو مطلقا .
والاعتبار الثاني : اعتبار تنزّل الوجود الحق إلى صور التعيّنات ، فيكون المتعيّن عين التعيّن ، فيكون كلمة « كن » إذن عين الصورة ، فذوق بعض العارفين اعتبر الوجه الأوّل ،
فقال : التعيّن عين المتعيّن بذلك التعين ، والمتعين عين الحقيقة المطلقة غير المتعيّنة ، وعلى إطلاقه .
وبعضهم قالوا : نزل عن الإطلاق بالتعين فتعين ، فكان الوجود الحق المتعيّن في كل تعيّن عين التعيّن وبحسبه على التعيين .

وبعضهم رأى احتمال الاعتبارين معا من غير ترجيح ، فحار الحيرة الكبرى التي للأكابر . وأمّا أهل الأكملية من أرباب الكمال فلم يحاروا ، بل قالوا بتحقّق الأمرين معا دائما في كل عين عين ، وهذا الذوق من مشرب الختم ، ويختصّ بالخاتميّين والمحمديّين ، جعلنا الله وإيّاك منهم .

قال رضي الله عنه : « وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلَّا ذوقا كأبي يزيد - رضي الله عنه - حين نفخ في النملة التي قتلها ، فحييت ، فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ ، وكان عيسويّ المشهد».
يشير : إلى أنّ معرفة الإحياء وكيفية نسبته إلى الحق في صورة عبده أو إلى النافخ بالله لا تحصل إلَّا بالذوق ، فمن لم يحي ولم يحي هكذا شهودا محقّقا ، لم يعرف ، ذوقا كيف الإحياء ؟ فإنّ الكيفيات لا تعلم بالحكاية ، وهو لا يتحكَّى كما قيل قبل .

قال رضي الله عنه : « وأمّا الإحياء المعنوي بالعلم فتلك الإحياء الإلهية الذاتية العلمية النورية التي قال الله فيها : " أَوَمن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه ُ وَجَعَلْنا لَه ُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُه ُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها " فكلّ من أحيا نفسا ميتة بحياة علميّة في مسألة خاصّة متعلَّقة بالعلم بالله ، فقد أحياه بها وكانت له نورا يمشي به في الناس  أي بين أشكاله في الصورة » .
يعني رضي الله عنه : أنّ الإحياء المعنويّ الحقيقيّ هو إحياء النفس الميتة بالجهل بالعلم ، فإنّه الحياة الحقيقية لنفوس العالمين العارفين بالله في الطبقة العليا ولنفوس الموتى بالجهل لله وأسمائه وآياته وكلماته وأنبائه.
 ولكن لا مطلقا في جميع مراتب العلم الكونيّ - أعني ليس لكلّ علم هذه الحياة والإحياء - بل هو العلم بالله خاصّة ، وقد أعطى الله ذلك لكمّل أوليائه وندّر الأفراد ، فهم يحيون بنفائس أنفاسهم نفوس المستعدّين ، ويفيضون عليهم أنوار الحياة العلمية النورية الذاتية ، وذلك أنّهم

أقيموا في مقام التحقّق بالعليم وعلَّام الغيوب وعالم الغيب والشهادة وبالحيّ المحيي بهذه الحياة العلمية الإلهية الذاتية النورية ، وهي مخصوصة بالله ومن أحياه بهذا العلم خاصّة من خاصّة الخاصّة وصفوة الخلاصة ، فأقامهم الله به وقام بهم ، وهذا الإحياء مثل إحياء الموتى صورة ، فإنّ كلا من خصائص الله ومن أعطاه ذلك وأذن له أو أمره به .
بل هو أعني الإحياء بالحياة العلمية أعلى وأرفع ، لأنّه إحياء النفوس والأرواح ، وذلك إحياء الأجسام والأشباح ، ولكن لمّا قلّ طلَّاب هذه الحياة وكثر طلَّاب الآخرة ، وجد حصول هذا من كمّل الرسل والأنبياء والأولياء ، وشوهد كثيرا .
ولم يشهد إحياء الأجسام والموتى في الناس إلَّا في عيسى ومن كان عيسويّ المشهد من الأولياء ، وذلك بالنادر مع توفير الرغبات في ذلك ، واستشراف النفوس إلى ذلك ، استعظموا ذلك ، لعزّته وعدم الظفر به ، وأنّه - والله - عظيم ولكن إحياء النفوس بهذه الحياة العلمية النورية أعظم وأعزّ وأشرف ، لكون الأرواح والنفوس أشرف من الأجسام ، فافهم .

قال رضي الله عنه  : ( فلولاه ولولانا  ....  لما كان الذي كانا)
يعني - رضي الله عنه - : أنّه لا بدّ في كون الأفعال الكونية والإلهية من الله من صدور وجود أعيانها ، ولا بدّ أيضا من الحقائق الكلَّية الكمالية العبدانية القابلة للوجود الحق الواحد وأكوانه الفعلية من التجليات والتعيّنات ، فنحن بعبوديّتنا ومألوهيّتنا ومربوبيتنا نظهر كونه ذا أسماء وتجلَّيات .
والله بإلهيته وربوبيته يفيض علينا الوجود وعلى الأكوان وعلى الأفعال الصالحة ، إضافة إلى الله من وجه ، و إلينا من وجه ، ولا بدّ منه .
كما قلنا في الغرّاء التائية :
فلا بدّ منه     ....   إنّه كلّ بدّنا
ولا بدّ منّا     ....  في أصحّ الأدلَّة
قال رضي الله عنه  :
(فإنّا أعبد حقّا    .....    وإنّ الله مولانا)
(وإنّا عينه فاعلم  .....   إذا ما قلت إنسانا)

يعني : أنّ المظهر كهو في ذاته بخلاف غير الإنسان من الأعيان ، وإن كان الحق عين الكلّ وعين كلّ عين ، ولكن كون الحق في كل عين بحسبها لا بحسب الحق ، فلا يصحّ فيها أن يقال : إنّ هذا العين عين الحق ، بخلاف الإنسان مع كون الحق عينه يكون هو عين الحق .

قال رضي الله عنه  :
(فلا تحجب بإنسان    ......   وقد أعطاك برهانا )
يعني : أنّ الإنسان وإن كان في العرف اسما من أسماء الأكوان من حيث شخصه ، ولكنّه في الحقيقة هو اسم للحق مع كونه - تعالى - عين الأعيان والوجود والمراتب ، فإنّ الحق من كونه إنسانا هو عين العالم لا من كونه ربّا إلها ، فإنّ الإله إله أبدا لا مألوه ، والربّ ربّ أبدا لا مربوب ، والإنسان - برزخيّة بين بحرى الربوبية والمربوبية - عين البحرين ، فافهم ، فإنّه البرهان الذي أعطاكه الإنسان .

قال رضي الله عنه - :
(فكن حقا وكن خلقا   ......   تكن بالله رحمانا)
يشير رضي الله عنه : إلى تمام المدّعى أنّك بإنسانيتك وبرزخيتك لك أن تكون عين الحق ، فتقوم بك جميع الأشياء الإلهية ، ولك - بما ذكرنا كذلك - أن تكون خلقا فتكون في أعمّ الحقائق والأعيان ، فتعمّ الحق بمظهريتك الكلَّية الجامعة للذات الإلهية والأسماء كلَّها ، وتعمّ الخلق برحمة الله وفيضه الواصل إلى العالم كلَّه ، من كونك خليفته والواسطة ، وتقوم بجميع ما يحتاج العالم إليه وتسعه ، فتسع الحق والخلق بعين ما وسع الحقّ بك ذلك ، فتكون رحمانا ، لعموم وجودك .

قال رضي الله عنه :
( وغذّ خلقه منه   .....    تكن روحا وريحانا)
يشير رضي الله عنه :  إلى ما قرّرنا من قبل أنّ الحقّ بالوجود غذاء الخلق ، إذ به قوامه وبقاءه وحياته ، كالغذاء به يكون قوام المغتذي وحياته وبقاؤه .
وكذلك تغذّي أنت بالوجود الحق الفائض جميع الخلق ، لأنّك النائب في ذلك عن الله ، وكذلك تغذّي الوجود الحقّ بأحكام الكون وصوره ، وتوجد بذلك له أسماء وصفات ونعوتا وأحكاما ونسبا وإضافات ، وبهذا تكون روحا للحقائق الكونية العدمية تريحها بالوجود عن العدم ، وتروّحها عن ظلمتها بنور القدم ، وكذلك تكون ريحانا للوجود الحق بالروائح الخلقية الكيانية والنشآت الصورية الإمكانية .

قال رضي الله عنه  :
(فأعطيناه ما يبدو     .....    به فينا وأعطانا)
( فصار الأمر مقسوما  .....     بإيّاه و إيّانا )
أي أعطانا الحق من خصوصيات قابلياتنا ما يظهر به فينا في تعيّنه بنا ، وأعطانا وجودا به أيضا ظهورنا لنا ، فصار الأمر الوجودي ذا وجهين له نسبة إلينا ونسبة إليه ، فيقسم في العقل قسمين لا في العين فقرّبنا عين العينين ، ولهذا سمّانا إنسان العين لأهل الإشارة والفوز بالحسنيين في الطرفين .
قال رضي الله عنه  :
( فأحياه الذي يدري    ....    بقلبي حين أحيانا )
(وكنّا فيه أكوانا        ......   وأزمانا وأعيانا )
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الحقائق الكلَّية الإنسانية أعيان الشؤون الذاتية الإلهية ، والوجود الحق مظهر ومجلى لتلك الأعيان ، فإنّا نحن فيه أكوانه الأزلية التي كان بنا ولم نكن معه لأعياننا ، لكوننا عين كونه الذي كان ولم نكن في غيب العلم الأزلي .
وكذلك في الوجود العيني بكوننا ، ويكون سمعنا وبصرنا وأعياننا وقوانا وجوارحنا في قرب النوافل ، ونكون أيضا كذلك سمعه وبصره ولسانه وأعيان أسمائه وأكوانه .
وأمّا كوننا أزمانا فيه فمن حيث إنّ مظهرياتنا موجبة لتقدّر الاسم الدهر ، فإنّ مبدأ إضافة الوجود وتعيّنه امتداد النفس الرحماني والفيض الوجودي إلى أبد الأبد ، لا يتقدّر ولا يتعين إلَّا بحسب القوابل ، والزمان مقدار حركة الفلك المحيط عرفا فلسفيا  وهو عند المحقّق صاحب الكشف صورة الزمان لا حقيقته ، وحقيقته معنى امتداد أمداد الأنفاس الرحمانية والتجلَّيات الوجودية بالتعلَّقات الإرادية الإلهية إلى الحقائق والأعيان لإيجاد الأكوان في حضرة الإمكان .

فلو لا الحقائق الكيانية ، وأقدارها في قابلياتها وخصوصياتها في مراتبها الذاتية ، وتقدّمها وتأخّرها المرتبتان الذاتيتان ، لما تعيّنت المقادير الإيجادية ، فنحن بكمال قابلياتنا وسعتها نقبل أمداد الأنفاس الرحمانية بالتقدّم وبالتأخّر في القابليات الناقصة التابعة ، فإنّ الحقائق منها تابعة ومنها متبوعة ، وملزومة ولازمة ، ولوازم لوازم وعوارض ولواحق .
فالحقائق المتبوعة الملزومة الكاملة تقبل الوجود أوّلا ومنها ينفذ نور الوجود إلى التوابع واللوازم وما ذكر ، فتحقّق بين المبادي والغايات حقيقة التقدّم والتأخّر الذاتي والمرتبي بحقيقة معقولية امتداد الوجود من أوّل قابل - مثلا - إلى آخر موجود .
فحقيقة الزمان معقولية ذلك الامتداد ، ومعقولية تعلَّقه بكل عين عين حقيقة الآن الذي لا ينقسم ، فإنّ تعلَّق النور النفسي الوجودي الحق بكل عين غير قبوله باستعداده الذاتي ، ومعقولية أحدية جمع الامتدادات والتعلَّقات النورية الوجودية النفسية الإلهية إلى ما لا يتناهى حقيقة الاسم الدهر ، فمن حيث إن الوجود بنا وبحقائقنا يتقدّر ويتعين كنّا فيه أزمانا .

وقد قال بعض المحقّقين من أهل الحق :
الوقت وعاء لما قدّر أو فيه ، ونحن كذلك أوعية لما يتقدّر فينا من التجلَّي والتعين وتنوّعاتهما إلى الأبد ، فافهم .
وفيه إشارة أيضا إلى أنّا بحقائقنا وأعياننا الثابتة كنّا في الحق قبل قبول الوجود أزمانا لا تعرف أوّليّة ، إذ لا مبدأ وأزماننا بمعنى الحقيقة الذاتية ، لا بصورة الزمان ، فافهم ذلك .

قال رضي الله عنه :
( وليس بدائم فينا   ....   ولكن ذاك أحيانا )
يشير إلى ما قاله زين العابدين عليه السّلام : « لنا وقت يكوننا فيه الحق ولا نكونه » وإلى قوله صلى الله عليه وسلم « لي مع الله وقت » وهو زمان غلبة حقّية الإنسان الكامل على خلقيته ، وليس ذلك بدائم فيه ، فإنّ ذلك مقتضى الحقيقة الإنسانية الكمالية ، فإنّه الحق الخلق الجامع بين بحري الوجوب والإمكان ، المطلق في جمعه بين الحقّية والخلقية عن الجمع والإطلاق دائما ، فليس له أن يكون على الدوام حقا محضا ، فإنّ ذلك لحقيقة الحق لا غير ، لا شريك له في خصوصه سبحانه .

وفي هذا المقام سرّ للخواصّ وهو :
أنّ الإنسان الكامل في كل عصر يقابل دائما بمألوهيته ومربوبيته وعبوديته الذاتية وخلقيته الكاملة حضرة الألوهية ، والربوبية والحقّية ، وكذلك يقابل بربوبيته وبما فيه من الألوهة وصورة الله من جهة خلافته وتحقّقه بجميع الأسماء الإلهية حضرة الكون والخلق بالإمداد والفيض الواصل إلى العالم بواسطته ولا بدّ ، وإلَّا فلا يكون خليفة ، فهو يسع بأحد طرفيه ما يقابله من الحقية والخلق ، وبجمعه بينهما يحاذي ويقابل الجمعية الإلهية بين حضرات الأسماء والمسمّيات وحقائق المسمّيات - بكسر الميم اسم فاعل - والمعيّنات كذلك وهي - دون تعيّن حقا وخلقا - جانب إطلاق الحق ، فهو من هذا الوجه حق دائما ، وخلق دائما ، جامع بينهما ، مطلق في كل ذلك ، كما هو ربّه ، فيكون على هذا الذوق .
قوله رضي الله عنه : « وليس بدائم فينا » فافهم هذا السرّ .

قال رضي الله عنه : ( وممّا يدلّ على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري هو أنّ الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني ولا بدّ لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع  ما تستلزمه تلك الصفة ، وقد عرفت أنّ النفس في المتنفّس لم يلزمه ، فلذلك قبل النفس الإلهيّ صور العالم .
فهو لها كالجوهر الهيولاني ، وليس إلَّا عين الطبيعة ، فالعناصر صورة من صور الطبيعة ، وما فوق العناصر وما تولَّد عنها فهو أيضا من صور الطبيعة وهي الأرواح العلوية التي فوق السماوات السبع ،  وأمّا أرواح السماوات السبع وأعيانها فهي عنصرية ، فإنّها من دخان العناصر المتولَّد عنها ، وما يكون عن كل سماء من الملائكة فهو منها ، فهم عنصريون ، ومن فوقهم طبيعيون ، ولهذا وصفهم الله بالاختصام ، أعني الملأ الأعلى ، لأنّ الطبيعة متقابلة ، والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب إنّما أعطاه النفس ، ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ؟ فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم وليس إلَّا النفس الإلهيّ  ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ النفس لمّا نسب إلى الرحمن وكان صفة له ، فإنّه يضاف وينسب إلى الحق الرحمن جميع ما يستلزمه النفس من التنفيس وقبول صور الحروف والكلمات الكونية والأسماء الإلهية والحرارة والرطوبة والحياة وسرّ التقابل الذي في حقيقة الجمعية الأحدية والنفسية الرحمانية .
فإنّ النفس عبارة عن الوجود الفائض بمقتضيات الأسماء الإلهية ومقتضيات قوابلها وحقائقها جميعا ، فله أحدية جمع الجمعين مع الوجود بين المتقابلات والمتماثلات والمتنافيات والمتشاكلات الإلهية والكونية جميعا ، وفيه أيضا سرّ الجمع بين الفعل والانفعال ، والهيولانية المّادّة القابلة للصور كلَّها والطبيعة الفعّالة لها فيه ، كما قد أشرنا إلى كل ذلك في الفصّ الآدمي والشيثي وغيرهما بما فيه مقنع للأولياء ، فاذكر .

ونزيد هاهنا بما لم يذكر وهو أنّ الطبيعة الكلَّية وإن كانت - كما ذكرنا - هي الحقيقة الفعّالة للصور كلَّها إلهيّها وكونيّها ، علوا وسفلا ، فإنّها أيضا عين المادّة التي حصرت قوابل العالم كلَّه ، ففيه قابلية هيولانية لأن يفعل في النفس جميع الصور ، فهي بانفعالاتها المادية الهيولانية تفعل صور الفاعليات الأسمائية أيضا من الوجود الحق ، فهي فاعلة من وجه ، منفعلة من آخر ، لحقيقتها الجمعية الأحدية النفسية ، فإنّها عين النفس الممتدّ من حقيقة الحقائق الكبرى بأحدية جمع الحقائق الفعلية والانفعالية جامعا لحقائق المراتب والوجود ، فافهم .

قال رضي الله عنه : ( فبما فيه من الحرارة علا في الصور الأسمائية الربانية ، وبما فيه من البرودة سفل).
يعني رضي الله عنه : في الصور الكيانية والعوالم الإمكانية
قال رضي الله عنه : ( وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ، فالرسوب للبرودة والرطوبة ، ألا ترى الطبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ، ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه رسب ، علم أنّ النضج  قد حصل ، فيسقيه الدواء ليسرع في النجح ، وإنّما رسب لرطوبيته وبرودته الطبيعية ، ثمّ إنّ هذا الشخص الإنساني عجن طينته بيديه وهما متقابلتان وإن كانت كلتا يديه يمينا ، فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ، ولو لم يكن إلَّا كونهما اثنتين أعني اليدين ، لأنّه لا يؤثّر في الطبيعة إلَّا ما يناسبها ، وهي متقابلة فجاء باليدين ) .

يشير رضي الله عنه :  في كلّ ذلك إلى أنّ التقابل في الأمر الواحد من جهتين مختلفتين موجود ومشهود ، وأنّ الطبيعة التي لها التضادّ والتقابل عامّة الحكم في الصور الأسمائية والكونية ، ولولا أنّ في حقيقة الحق قبول كلّ ذلك ، لما وجدت هذه المتقابلات منها .
ولأنّ في طبيعة البشر جمعا بين المتقابلات توجّه الحق في إيجاده باليدين المتقابلتين ، وهما الفعل والانفعال اللذين في حقيقتي الربّ والمربوب ، والإله والمألوه في الذات ، أو الجلال والجمال ، واللطف والقهر في الإلهيات ، وكل ذلك مشير إلى التقابل في الأصل ، فافهم .

قال رضي الله عنه : ( ولمّا أوجده باليدين سمّاه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه ، وجعل ذلك من عنايته لهذا النوع الإنسانيّ ، فقال لمن أبي عن السجود له : " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ " على من هو مثلك يعني عنصريا " أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " عن العنصر ولست كذلك . ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريّا وإن كان طبيعيّا ، فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلَّا بكونه بشرا من طين ، فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة باليدين ) .
يعني : من كونه باشر الله خلقه بيديه ، وهو حقيقة الجمع بين المتقابلات والمتماثلات كلَّها .

قال رضي الله عنه : ( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية ، والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني بالنصّ الإلهي ) .
يعني : أنّ الملائكة العالين وهم المهيّمة في سبحات وجه الحق - لفناء خلقيتهم واستهلاكهم عن أنفسهم وعن سوى الحق في الحق خير من نوع الإنسان الحيوان لا الإنسان الكامل ، لكون هذا النوع حقيقتهم مستهلكة في خلقيتهم ونوريتهم في ظلمتهم ، بعكس الملائكة العالين ، وقد ذكرنا فتذكَّر .

قال رضي الله عنه : ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي ، فليعرف العالم ، فإنّ من عرف نفسه عرف ربّه الذي ظهر فيه : أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفّس الله به عن الأسماء الإلهية ما تجده من عدم ظهور آثارها بظهور آثارها فامتنّ على نفسه ) .
يعني: على أسمائه ونسبه وشئونه الذاتية ، فإنّها فيه عينه لا غيره ، فامتنّ عليها
قال رضي الله عنه : ( بما أوجده في نفسه ، فأوّل أثر كان للنفس إنّما كان في ذلك الجناب ، ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس الهموم إلى آخر ما وجد ) .
قال العبد : هذه المباحث ذكرت مرارا ، فلا حاجة إلى الإعادة .
قال رضي الله عنه :
(فالكلّ في عين النفس   ....   كالضوء في ذات الغلس)
يشير - رضي الله عنه - إلى أنّ صور الأسماء الإلهية والحقائق الوجوبية وصور الممكنات والحقائق الكونية المربوبية في عين النفس كالضوء في المادّة المشتعلة بالنور ، فالربّ بصور جميع الحقائق الربانية الحقّية في عماء الربّ في أعلى النفس والخلق ، وكذلك تصوّر جميع الحقائق الخلقية منها في عماء الكون من هذا النفس ، فتذكَّر .
قال رضي الله عنه :
(والعلم بالبرهان في  ....   سلخ النهار لمن نعس )
(فيرى الذي قد قلته   ......   رؤيا تدلّ على النفس)

يشير إلى أنّ العلم بالنفس وما ذكرت من لوازمه لا ينال إلَّا بالكشف .
وأمّا البرهان الفكري - بتركيب المقدّمات واستنتاج النتائج منها والاستدلال بذلك على المطالب - فليس إلَّا لمن سلخ نهار الكشف عن يوم عمره ، فهو في ليل الحجاب والغفلة نائم عن التجلَّي الوجودي والنهار الكشفي الشهودي والفيض الدائم النوري الجودي ، تهبّ عليه مع الأنفاس فوائح روائح الأنفاس ، وهو لا يهبّ من النعاس ، يعتبر في تعبير رؤياه في المنام ، حقائق ما قلت ممّا يدلّ على النفس عند الكاشف العلَّام ، أنّها أضغاث أحلام .

قال رضي الله عنه :
(فيريحه عن كلّ  .....  كرب في تلاوته عبس) 
يشير إلى أنّ الذي تذكَّره ويذكره إن هو تفكَّر فيه فتدبّره يريحه عن كلّ كرب وضيق يجده في ظلمة حجابه بما أكشف له وأشهده وألقّنه على وجهه سرّ " وُجُوه ٌ يَوْمَئِذٍ ( مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ ) مُسْتَبْشِرَةٌ " بعد عبوسه في تلاوة " عَبَسَ وَتَوَلَّى " حال جهله بمن هو دائما كان عليه يتجلَّى .

قال رضي الله عنه  :
( ولقد تجلَّى للذي  .....   قد جاء في طلب القبس)
يعني : طالما انجلى هذا السرّ الخفيّ لمن طلب الحق الجليّ ، كما ظهر لموسى بن عمران لمّا كان مجدّا في طلب الجذوة ، فرآه رأي العيان .

قال رضي الله عنه :
(فرآه نارا وهو نور  ....   في الملوك وفي العسس)
يعني : تجلَّى له نور وجهه في مثال النار على صورة الشجرة ، فظنّه نارا وكان نورا هو نور الأنوار ، فلم يعبّر رؤياه ولم يعبر عن صورة مطلبه الطبيعي إلى حقيقة ما رآه ، فلو عبّر ، وعبر ، واعتبر الحقيقة ، واستبصر ، لعلم أنّه النور الحق المتجلَّي في الملوك والشرفاء العلويّين والعمّال في أدنى الأعمال الليلية الحجابية السفليّين ، فإنّ ظهوره بحسب القوابل ، وإلَّا فهو هو في الأواخر والأوائل .

قال رضي الله عنه  :
( فإذا عرفت مقالتي    ....   تعلم بأنّك مبتئس )
إذا فهمت ما قلت ، فهمت فيما نلت ممّا أعطيتك ، ونلت أنّك في طلب أمر سواه فقير مبتئس ، ومغبون ، سحر ، مفلس " كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُه ُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَه ُ لَمْ يَجِدْه ُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِنْدَه ُ " حاضرا لم يزل ، وبدا له من الله ما لم يحتسب ولم يتخيّل .

قال رضي الله عنه :
(لو كان يطلب غير ذا  ....  لرآه فيه وما نكس )
يعني : أنّ موسى ما طلب غير النار ، فلمّا بلغ غاية طاقته في الجهد والطلب ، تجلَّى له الحق في صورة مطلوبه ، ولو طلب غير ذلك ، لرآه في ذلك الآخر ، وأنت أيضا حيث تطلب أمرا سواه ، فاعلم أنّك محجوب ، فمطلوبك في زعمك ومبلغ علمك ، فمحتجب عنك بصورة مطلبك الله ، فطوبى لمن لم تتعلَّق همّته بغير مولاه ، ولم يطلب طول عمره إلَّا إيّاه .

قال رضي الله عنه  : ( وأمّا هذه الكلمة العيسوية لمّا قام لها الحق في مقام « حتى نعلم ويعلم » استفهمها عمّا نسب إليها هل هو حق أم لا ؟ مع علمه الأوّل بهل وقع ذلك الأمر أم لا ؟
فقال له : " أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله " فلا بدّ من الأدب في الجواب للمستفهم ، لأنّه لمّا تجلَّى له في هذا المقام وبهذه الصورة ، اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع ، فقال - وقدّم التنزيه - : « سُبْحانَكَ » فحدّد بالكاف الذي يقتضي المواجهة والخطاب ) .
يعني : لمّا تجلَّى الحق لتحقيق العلم المطلق في التعيّن المقيّد - مع أنّ الحقيقة تقتضي الوحدة - فقام بعيسى مقام المخاطبة وثنّى وانفرد ، وكلّ منهما بتعيّنه الاختبار بأنّه هل يعلم مع علمه عمّا يستفهمه ، وهذا معنى قيام الحق له في مقام « حَتَّى نَعْلَمَ » من حيث تعيّننا في مادّة هذا التجلَّى والمادّة العيسوية .
وحتى يعلم هو من كونه هو ، لا من كونه نحن ، فحدّد عيسى بكونه عبدا مخاطبا ، فقال : " أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله "  فاقتضت الحكمة العيسوية أن يثبت للتجلَّي بحسبه ، فأفرد الحق أيضا كذلك وحدّده بالكاف في " سُبْحانَكَ " كما أفرده الحق وحدّده في " قُلْتَ " وأجابه في التفرقة بعين الجمع كما خاطبه الحق .
قال : « " ما يَكُونُ لِي " من حيث أنا لنفسي دونك " أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ " .
يعني : من حيث الامتياز والانفراد دونك من حيث التعين ما ليس لي بحق أن أقول مثل هذا ، فليس حقّا للمتعيّن المتقيّد أن يدعو إلى نفسه مطلقا من دون الله بالعبادة .

ثمّ قال رضي الله عنه : ( أي ما تقتضيه هويّتي ولا ذاتي ذلك " إِنْ كُنْتُ قُلْتُه ُ فَقَدْ عَلِمْتَه ُ " لأنّك أنت القائل ، ومن قال أمرا ، فقد علم ما قال ، وأنت اللسان الذي أتكلَّم به ، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربّه في الخبر الإلهي . فقال : « كنت لسانه الذي يتكلَّم به » فجعل هويته عين لسان المتكلَّم ونسب الكلام إلى عبده . ثم تمّم العبد الصالح الجواب بقوله : " تَعْلَمُ ما في نَفْسِي " والمتكلَّم الحق ، ولا أعلم ما فيها من كونها أنت ، فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث إنّه قائل وذو أثر ) .
يعني : أنّ القائل والمتكلَّم حق ، لما قدّم أنّ الحق عين لسانه .
قال : (" إِنَّكَ أَنْتَ " فجاء بالفصل والعماد ،تأكيدا للبيان واعتمادا عليه أن لا يعلم الغيب إلَّا الله).

يعني : أكَّد المخاطبة بالتفرقة في عين الجمع بالفصل والعماد ، وهو تحقّق الإفراد للحق المطلق من حيث تعيّنه في إطلاقه وفصله عن تعيّنه الشخصي ونسبة العلم كلَّه إلى الله في الإطلاق والتقييد والجمع والفرق ، فإنّه هو علَّام الغيوب .

قال رضي الله عنه : « وفرّق وجمع ووحّد وكثّر ووسّع وضيّق » .
يعني بالتفرقة إفراد المخاطب عن المخاطب ، وبالجمع أنّه جعل الله في المادّة العيسوية وفي كل عالم من العالم وفي ذاته مطلقا ، وكثّر من حيث هذا الفرقان ، ووحّد من حيث الجمع ، وضيّق ووسّع كذلك .

قال رضي الله عنه : « ثم قال متمّما للجواب : ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به فنفى أوّلا مشيرا إلى أنّه ما هو ثمّ »
يعني في قوله : « ما قُلْتُ لَهُمْ » ) ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم (
يعني في قوله : « إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به » .
قال رضي الله عنه  : ) ولو لم يفعل كذلك ، لاتّصف بعدم علم الحقائق وحاشاه من ذلك ، فقال : « إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به » وأنت المتكلَّم على لساني وأنت لساني ( .
قال رضي الله عنه : « فانظر إلى هذه التنبئة الروحية ما ألطفها وأدقّها ! »
يعني في قوله : « ما أَمَرْتَنِي » مع أنّه عينه ، فأفرد الحق بتاء الكناية عن المخاطب ، وحدّد نفسه وميّزه من حيث مأموريته بياء كناية المتكلَّم « أَنِ اعْبُدُوا الله » فجاء بالاسم « الله » لاختلاف العبّاد في العبادات واختلاف الشرائع ، ولم يعيّن اسما خاصّا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكلّ
ثم قال الشيخ رضي الله عنه :  ( « رَبِّي وَرَبَّكُمْ » ومعلوم أنّ نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر .
فلذلك فصّل بقوله : « رَبِّي وَرَبَّكُمْ » بالكنايتين : كناية المتكلَّم وكناية المخاطب . « إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به » فأثبت نفسه مأمورا وليست سوى عبوديته ، إذ لا يؤمر إلَّا من يتصوّر منه الامتثال وإن لم يفعل ، ولمّا كان الأمر ينزل بحكم المراتب ، لذلك ينصبغ كلّ من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة ، فمرتبة المأمور ، لها حكم يظهر في كل مأمور ، ومرتبة الآمر ، لها حكم يبدو في كل آمر ، فيقول الحق : أَقِيمُوا الصَّلاةَ فهو الآمر ، والمكلَّف المأمور .
ويقول العبد اغْفِرْ لِي فهو الآمر ، والحق المأمور ، فما يطلبه الحق من العبد بأمره هو بعينه ما يطلبه العبد من الحق بأمره » يعني الإجابة « ولهذا كان كلّ دعاء  مجابا ولا بدّ وإن تأخّر ، كما تتأخّر بعض المكلَّفين ممّن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة ، فلا يصلَّي في وقت فيؤخّر الامتثال ويصلَّي في وقت آخر إن كان متمكَّنا من ذلك ، ولا بدّ من الإجابة ولو بالقصد .
(ثم قال : وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ ولم يقل : على نفسي معهم .
كما قال : رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، " شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم . " فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي " أي رفعتني إليك وحجبتهم عنّى وحجبتني عنهم.
" كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " في غير مادّتي بل في موادّهم ، إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة ، فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إيّاه ، وجعله باسم « الرقيب »)  لأنّه جعل الشهود له 
يعني : بعين شهودهم أنفسهم بالحق ، فأراد أن يفصل بينه وبين ربّه حتى يعلم أنّه هو ، لكونه عبدا في الواقع وأنّ الحق هو الحق ،لكونه ربّا له ، فجاء لنفسه بأنّه شهيد وفي الحق بأنّه رقيب .
يعني : لأنّ الشهيد يكون بالنسبة إلى وقت دون وقت وبالنسبة إلى مشهود دون مشهود ، والرقيب يقتضي دوام الرقبى إلَّا إذا أضيف إلى الحق الدائم الوجود ، فيقتضي دوام الشهود ، فافهم .

قال رضي الله عنه :  ( وقدّم « هم » في حق نفسه ، فقال : " عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " إيثارا لهم في التقدّم وأدبا ) .

يعني: إيثار التربية والرقيب  بلا وساطة كله لأمرهم إلى ربّهم وربّه وأدبا مع ربّهم .

قال رضي الله عنه : ( وأخّر « هم » في جانب الحق عن الحق في قوله : " الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " لما يستحقّه الربّ من التقدّم في الرتبة .
وأعلم  أنّ للحق الرقيب الاسم الذي جعله عيسى لنفسه وهو « الشهيد » في قوله :
" عَلَيْهِمْ شَهِيداً " فقال "َأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " فجاء بـ « كلّ » للعموم وبـ « شيء » لكونه أنكر النكرات .
وجاء بالاسم الشهيد فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود ، فنبّه على أنّه - تعالى - هو الشهيد على قوم عيسى حين قال : " وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " فهي شهادة الحق في مادّة عيسوية ، لما ثبت أنّه لسانه وسمعه وبصره .
ثم قال كلمة عيسويّة ومحمدية ، أمّا كونها عيسويّة فإنّها قول عيسى بإخبار الله في كتابه . وأمّا كونها محمدية فلموقعها من محمّد صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وقعت منه ، فقام بها ليلا كاملا يردّدها لم يعدل إلى غيرها ، حتى طلع الفجر " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " و « هم » ضمير الغائب كما أنّ « هو » ضمير الغائب
كما قال : " هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " بضمير الغائب ، فكان الغيب سترا لهم عمّا يراد بالمشهود الحاضر ، فقال : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " بضمير الغائب ،وهو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق ).

يعني : حجاب تعيّن عيسى وحجابيّتهم ، فإنّهم إنّما حجبوا بالصورة الشخصية التعيّنية وحصروا الحق فيه ، فكفروا أي ستروا وغابوا عن الحق المتعيّن فيه وفيهم وفي الكلّ من غير حصر ، وذلك الحجاب الستر كان غيبا لهم .
« فذكَّرهم الله قبل حضورهم » يعني الحق المتجلَّي في الفرقان يوم الجمع والفصل ،

قال رضي الله عنه :  ( حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكَّمت في العجين )
يعني : من حيث أحدية جمع العين « فصيّرته مثلها .
قال رضي الله عنه :  ( فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ " فأفرد الخطاب ، للتوحيد الذي كانوا عليه )
من حيث العين في الحقيقة وإن كانوا مشركين في زعمهم ومعتقدهم وغيرهم من أهل الاعتقاد والتقليد .
قال رضي الله عنه : ( ولا ذلَّة أعظم من ذلَّة العبيد ، لأنّهم لا تصرّف لهم في أنفسهم ، فهم بحكم ما يريد بهم سيّدهم ، ولا شريك له فيهم ، فإنّه قال : " عِبادُكَ " فأفرد ، والمراد بالعذاب إذ لا لهم ، ولا أذلّ منهم ، لكونهم عبادا ، فذواتهم تقتضي أنّهم أذلَّاء فلا تذلَّهم ، فإنّك لا تذلَّهم بأدون ما هم فيه من كونهم عبيدا " وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ " أي تسترهم  عن إيقاع العذاب الذي يستحقّونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم عنه ، " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ  ، أي المنيع الحمى ) .
يعني رضي الله عنه : لا يصلون إليك من حيث إنّك ربّ الكلّ على ما يقتضي من حيث ذاتك في نفسك ، فربوبيتك بالنسبة إلى عبدانيتهم بحسبهم وبحسبها ، وعبدانيتهم مقيّدة جزئيّة ، لكونهم كذلك ، فأنّى لهم عبادتك الحقيقية الكلَّية التي تستحقّها لنفسك ؟
وكيف اتّصالهم بربّ الكلّ وإله العالمين - تبارك وتعالى - وهو العزيز الحكيم ؟ !

قال رضي الله عنه : ( وهذا الاسم إذا أعطاه الحق لمن أعطاه من عباده يسمّى الحق ب « المعزّ » والمعطى له هذا الاسم بـ « العزيز » فيكون منيع الحمى عمّا يريد به « المنتقم » و « المعذّب » من الانتقام والعذاب . وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله : " إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " وقوله : " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " فجاء أيضا بـ " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " فكان سؤالا من النبيّ عليه السّلام وإلحاحا منه على ربّه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يردّدها طلبا للإجابة ، فلو سمع الإجابة في أوّل سؤاله ، ما كرّر ، وكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصّلا ، فيقول له في كل عرض عرض ، وعين عين : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه ،لدعاء عليهم لا لهم ، فما عرض عليه إلَّا ما استحقّوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله ).
يعني : ممّا تعطيه هذه الآية من تفويض أمرهم إليه تعالى .

قال رضي الله عنه  : ( من التسليم لله والتعريض لعفوه . وقد ورد أنّ الحق إذا أحبّ صوت عبده في دعائه إيّاه ، أخّر الإجابة عنه ، حتى يتكرّر ذلك منه ، حبّا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء بالاسم « الحكيم » ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ولا يعدل بها عن الذي تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها ، فالحكيم هو العليم بالترتيب ، فكان صلى الله عليه وسلَّم بترداد هذه الآية على علم عظيم عن الله ، فمن تلا فهكذا يتلو » يعني : فليتل « وإلَّا فالسكوت أولى به . وإذا وفّق الله العبد إلى نطق بأمر ما ، فما وفّقه إليه ) .
يعني « عليه » فإنّ حروف الجرّ يبدل بعضها عن بعض ، ولا سيّما « إلى » و « على » كما قال الله - تعالى - : " أُنْزِلَ إِلَيْكَ " و " أَنْزَلَ عَلَيْكَ " في مواضع .

قال رضي الله عنه : ( فما وفّقه إليه إلَّا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته ، فلا يستبطئ أحد ما يتضمّنه ما وفّق له ، وليثابر مثابرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الآية في جميع أحواله ، حتى يسمع بأذنه أو بسمعه ، كيف شئت أو كيف أسمعك الله الإجابة ، فإن جازاك بسؤال اللسان أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ).
قال العبد : لم أجد مزيدا على ما فسّر الشيخ هذه الآية في المناجاة المحمدية العيسوية ، فقد وفّى حقّ تفسيرها ، وحرّر بحسن تخبيره تقريرها .


  .
واتساب

No comments:

Post a Comment