Sunday, January 19, 2020

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
المراد بالحكمة الوجودية حكمة وجود العالم الإنساني ، لا مطلق الوجود ،  فإنه غير مختص بشئ من الأشياء فضلا عن أن يكون مختصا بنبي من الأنبياء .
ولما كان آدم ، عليه السلام ، أول الأفراد ولم يظهر فيه إلا ما يقتضيه تعينه من  جمعية الحقيقة الإنسانية ، وما يليق باستعداده واعتدال مزاجه الشخصي ، وما أمكن ظهور مقام الخلافة بتمامه فيه ، كما لم يظهر مقام الرسالة أولا إلا في نوح عليه السلام ، فكان أول المرسلين - ظهرت آثار تلك الجمعية وأحكامها في كل من الأنبياء بالتدريج حتى ظهرت بتمامها في داود ، عليه السلام ، وكملت في ابنه سليمان ، عليه السلام .
ولاشتراكهما في هذه الجمعية ، شركه الحق في ذلك بقوله : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما ) .
وبقوله : ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ ) .

وقال رضي الله عنه : ( وكلا آتيناه حكما وعلما ) . وقالا شكرا لتلك النعمة :  ( الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) .
ولكون داود ، عليه السلام ، أول من ظهر فيه أحكام الخلافة بتمامها ، صرح الحق بخلافته ، ولم يصرح في آدم مخاطبا
فقال رضي الله عنه  : ( يا داود ، إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ) .
فناسب أن يقرن الحكمة الوجودية الخصيصة بالإنسان بهذه الكلمة الداودية .  والله أعلم .
( اعلم ، أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شئ  من الاكتساب ، أعني نبوة التشريع ، كانت عطاياه تعالى لهم ، عليهم السلام ، من هذا  القبيل ) أي ، من قبيل الاختصاص والامتنان : ( مواهب ليست جزاء ولا يطلب عليها منهم جزاء . فإعطاؤه إياهم على طريق الإنعام والإفضال )
قد تقدم مرارا أن الحق تعالى لا يعطى أعيان العالم إلا ما يقتضيه بأعيانها واستعداداتها الثابتة في
حال عدمها . فالنبوة والرسالة اللتان هما اختصاص إلهي في حق المصطفين من عباده وإن كان بحسب العناية الإلهية ، لكنها أيضا ترجع إلى أعيانهم .
كما قال في  ( الفص الشيثي ) . إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له ، هي من جملة
أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف .
فقوله  رضي الله عنه : ( اختصاصا إلهيا ) لا ينافي اقتضاء أعيانهم ذلك ، بل الاقتضاء علة الاختصاص في الفيض المقدس ، وفي الفيض الأقدس علة اقتضاء الأسماء الأول ، فلا يرد .
والغرض أنهما ليستا مكتسبتين بالأعمال والعبادات ، فهما  موهبتان من الله تعالى من حيث اسمه ( الوهاب ) و ( الجواد ) .
وليستا جزاء لعمل ، ولا يطلب الحق عليهما منهم جزاء ، أي عملا على إزائهما ، أو شكرا وثناء
على عطائهما .
فإعطاؤه ، أي إعطاء الحق ، إياهم النبوة والرسالة على طريق الإنعام عليهم والإفضال في حقهم .  ( فإعطاؤه ) إضافة إلى الفاعل ، وأحد المفعولين محذوف .
وإنما قيد ( نبوة التشريع ) ، لأن النبوة العامة التي تلزم الولاية خارجة عن هذا الحكم ، فإن الولاية في المحبين مكتسبة وفي المحبوبين غير مكتسبة .
وفي الجملة ، للكسب مدخل في الإنباء العام . ومعنى ( الكسب ) تعلق إرادة الممكن بفعل ما دون غيره ، فيوجده الاقتدار الإلهي عند هذا التعلق ، فسمى ذلك ( كسبا ) .
هذا كلام الشيخ رضي الله عنه  : ذكره في الجلد الأول من فتوحاته في المسائل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال : " ووهبنا له إسحاق ويعقوب " يعنى لإبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وقال في أيوب ، عليه السلام : " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم " . وقال في حق موسى ، عليه السلام : " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " إلى مثل ذلك . فالذي تولاهم  أولا ، هو الذي تولاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرها . )
أي ، الذي تولاهم أولا وأوجدهم من غير عمل سابق وكسب ، وجعلهم أنبياء مرسلين وتمم عليهم
نعمة ، تولاهم آخرا بحفظ تلك النعم عليهم وإيصالهم إلى كمالاتهم المقدرة  لهم .
أو تولاهم أولا حال إفاضة أعيانهم الثابتة بحيث كانت مستعدة لهذه النعم  وقابلة طالبة لها ، تولاهم آخرا بإيجادهم على مقتضى تلك الأعيان .
وإنما قال رضي الله عنه : ( في عموم أحوالهم أو أكثرها ) لئلا يلزم وجوب كونهم في جميع الأحوال كذلك .
( وليس ) ذلك المتولي .
( إلا اسمه "الوهاب" . وقال في حق داود ، عليه السلام : "ولقد آتينا داود منا فضلا " . فلم يقرن به جزاء منه يطلبه منه ) أي ، فلم يقرن الحق ما أعطاه لداود جزاء ، أي عملا ، يطلب الحق إياه من داود ، عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا أخبر أنه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء . ولما طلب الشكر على ذلك  بالعمل ، طلبه من آل داود ولم يتعرض لذكر داود ، ليشكره الآل على ما أنعم به على داود . )
لأن الإنعام على نبي أمة في الحقيقة أيضا إنعام على تلك الأمة ، فأوجب الشكر عليهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو في حق داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حق آله على غير ذلك لطلب المعاوضة . فقال تعالى : " اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور " . وإن كانت الأنبياء ، عليهم السلام ، قد شكروا الله تعالى على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك عن طلب من الله ، بل تبرعوا بذلك من نفوسهم ، كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، حتى تورمت قدماه ، شكرا لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فلما قيل له في ذلك ، قال : "أفلا أكون عبدا شكورا " . وقال في نوح : " إنه كان عبدا شكورا " . والشكور من عباد الله قليل . فأول نعمة أنعم الله بها على داود ، عليه السلام ، أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال . )
أي ، ليس فيه حرف يتصل بما بعده واتصال ما قبله من الحروف به .
واتصال ما قبله في غير هذا الاسم ، لا يوجب كونه من حروف الاتصال مطلقا  ( فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرد هذا الاسم ، وهي "الدال " و " الألف " و " الواو " ) ( إخبارا ) منصوب بفعل مقدر .
تقديره : أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال ، وجعله إخبارا لنا عنه .
أو ، فأخبر ذلك الاسم إخبارا لنا . أو حال من ( الاسم ) .
أو من ضمير الفاعل في ( قطعه ) ، أي مخبرا .
ولما كان بين الاسم والمسمى عند أهل الحقيقة مناسبة جامعة ، أشار بأن كون اسمه من حروف منقطعة بعضها عن البعض في الوجود الكتابي ، إشارة من الله وإخبار لنا أنه تعالى قطعه عن العالم ، إذ الحروف متكثرة ، والكثرة للعالم ، كما أن الوحدة للحق .
فانقطاع بعضها عن البعض يوجب اتصال كل منها إلى  نفسه وحقيقته التي هو بها هو ، فالمنقطع عن العالم والكثرة ، واصل إلى حقيقته الواحدة ، وهو الحق .
لذلك قيل : ( الاستيناس بالناس يوجب الإفلاس ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمى الله محمدا صلى الله عليه وسلم  بحروف الاتصال والانفصال ، فوصله به ) أي ، بالحق .
 ( وفصله عن العالم ، فجمع له بين الحالتين في اسمه ، كما جمع لداود بين الحالين من طريق المعنى ) أي ، طريق المسمى .
( ولم يجعل ذلك في اسمه ، فكان ذلك اختصاصا لمحمد على داود ، صلوات الله عليهما ، أعني ، التنبيه عليه باسمه . فتم له الأمر ) أي ، لمحمد ، صلى الله عليه وسلم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من جميع جهاته ، وكذلك في اسمه "أحمد" . فهذا من حكمة الله . )
قوله : ( هذا ) إشارة إلى ما ذكره من التنبيه بالاسم : من قطعهما عن العالم ووصلهما بالحق . أي ، هذا المعنى من جملة حكم الله الحاصلة في الوجود ، لا يخلو عن حكمة إلهية .
( ثم قال في حق داود ، عليه السلام ، فيما أعطاه ) أي ، في جملة ما أعطى داود .
( على طريق الإنعام عليه ، ترجيع الجبال معه التسبيح ) بالنصب ، على أنه مفعول لقوله ( ترجيع ) . وهو منصوب على أنه مفعول ثان ( إعطاه ) .
أو  بنزع الخافض المبين ( ما ) ، أي من ( ترجيع الجبال ) . والمفعول الثاني الضمير . أي ، فيما أعطاه إياه .
( فتسبح لتسبيحه ، ليكون له عملها . وكذلك الطير . ) بالجر . أي ، ترجيع الطير وتسبيحه . أو بالنصب . أي ، وكذلك سخر له الطير يسبح معه تسبيحه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأعطاه القوة ونعته بها ، وأعطاه الحكمة وفصل الخطاب . ) "بإيضاح غوامض الأمور وإزالة الإتباس وكشف حقيقتها " .
أي ، قال في حقه : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب ) .
وقال : ( يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ) . فجعل ترجيع الجبال معه التسبيح ، فكانت تسبح بتسبيحه لتكون له ذلك التسبيح أيضا .
وكذلك تسخير الطير لتسبح معه ليكون تسبيحه معه أيضا تسبيحا له .
وأعطاه القوة ونعته بها بقوله : ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد أنه أواب وأعطاه الحكمة ) .
بأن جعله عالما بالحقائق ، عارفا بالله ومراتبه وأسمائه ، عاملا بمقتضى علمه ، وجعله
( فصل الخطاب ) . أي ، واسطة بين الله وعباده .
كما قال رضي الله عنه  : ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) . فعينه ذلك الحجاب الذي يتجلى الحق من ورائه على العباد .
واعلم ، أن روحه ، عليه السلام ، لما توجه بكليته إلى الحضرة الإلهية بالتسبيح والتحميد ، انعكس منه النور الإلهي الفائض عليه إلى قواه وأعضائه ، فسبحت تسبيح الروح بالمتابعة ، غير التسبيح المخصوص بكل منها ، فكان كل ذلك للروح أصالة ولغيرها تبعية .
" التسبيح المخصوص قوله تعالى : "وإن من شئ إلا يسبح بحمده " "
ولما كانت الجبال الظاهرة والطير المحشورة مثالا للأعضاء والقوى الروحانية والجسمانية - وصورا ظاهرة في الخارج لهذه الحقائق التي في العالم الإنساني وكانت الأعضاء والقوى يسبحن معه بالعشي والإشراق.
حصل ذلك التأثير الروحاني أيضا في روحانية الجبال والطيور ، فيسبحن ذلك التسبيح بعينه ، فكان ذلك التسبيح له "داود" عليه السلام  بالأصالة ، ولهن بالتبعية ،
كما قال الشاعر :
فلو قيل مبكاها بكيت صبابة  ....  بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكاء  .... بكاها ، فقلت : الفضل للمتقدم
فقال الشيخ رضي الله عنه  : ( ثم ، المنة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصه الله تعالى بها ، التنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ، وإن كان فيهم خلفاء .
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) .

أي ، ما يخطر لك في حكمك من غير وحى منى . ( فيضلك عن سبيل الله ) أي ، عن الطريق
الذي (أوحى به . ) بسكون ( الياء ) للمتكلم . ( إلى رسلي ) .
قوله : ( ثم المنة ) مرفوع على الابتداء ، وخبره : ( التنصيص ) .
أو بكسر الميم ، من المنة ، عطفا على ( الإنعام ) . أي ، أعطاه على طريق الإنعام عليه . ثم ، المنة الكبرى والمكانة الزلفى . أو بفتحها ، عطفا على المفعول الثاني لأعطاه .
أو مرفوع على الابتداء ، وخبره ( التنصيص ) ، و ( ثم ) هنا للرتبة ، كقوله تعالى : ( ثم كان من الذين آمنوا ) .
وإنما كانت الخلافة المنة الكبرى والمكانة الزلفى ، لأنها صورة مرتبة الألوهية المعطاة لمن هو خليفة على العالم بالتبعية ، ولا مرتبة أعلى منها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، تأدب سبحانه معه ، فقال : "إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " . ولم يقل له : فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد . ) ظاهر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت : وآدم ، عليه السلام ، قد نص على خلافته . قلنا ما نص مثل التنصيص على داود . وإنما قال للملائكة : " إني جاعل في الأرض خليفة " . ولم يقل : إني جاعل آدم خليفة في الأرض . ولو قال أيضا مثل ذلك ، لم يكن مثل قوله : " إنا جعلناك خليفة " . في حق داود .  فإن هذا محقق وليس ذلك كذلك .
وما يدل ذكر آدم في القصة بعد ذلك على أنه عين ذلك الخليفة الذي نص الله عليه . فاجعل بالك
لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر . وكذلك في حق إبراهيم الخليل ، قال : " إني جاعلك للناس إماما " . ولم يقل : خليفة . وإن كنا نعلم أن الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها ، لأنه ما ذكرها بأخص أسمائها وهي الخلافة . ) كله غنى عن الشرح .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم . وليس ذلك إلا عن الله تعالى ، فقال : "فاحكم بين الناس بالحق" . وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة ، فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنه نائب عن الله في خلقه بالحكم الإلهي فيهم . وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه والتصريح به . )
أي ، اختص داود ، عليه السلام ، بالخلافة في الحكم ، ليحكم على العالمين بالحق .
وليست هذه الخلافة إلا عن الله ، فإن الله هو الحاكم على عباده لا غيره .
وخلافة آدم وإن كانت أيضا واقعة من الله ، لكن لما لم يكن منصوصا عليه بالخلافة من الله في الحكم ، يمكن أن يتوهم متوهم أنه خليفة ممن سبقه من الملائكة أو غيرها .

( وانه ) وفي بعض النسخ عوض ( وإنه ) : " ولله في الأرض" ( خلائف عن الله هم الرسل . وأما الخلافة اليوم فعن الرسل لا عن الله . ) الضمير للشأن .
أي ، والشأن أنه في الأرض خلفاء عن الله ظاهرا وباطنا .
أما ظاهرا ، فهم الرسل ومتابعوهم من العلماء بالشرائع والأحكام الإلهية ، كالأئمة والمجتهدين في الأمة المحمدية
وأما باطنا ، فكالكمل والأقطاب ، وسنذكره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنهم لا يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول ، لا يخرجون عن ذلك . غير أن هاهنا دقيقة لا يعلمها إلا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به مما هو شرع للرسول . )
الدقيقة هي أن الأولياء الكمل لغاية صفاء بواطنهم وظهور الحق و تجليه فيهم ، يعلمون بعض أحكام الله ويأخذونه منه ، كما يأخذ الرسول أو الملك منه ، فيحكمون به . وذلك إما بانكشاف الأعيان الثابتة وأحكامها ، وإما بإخبار الله عن تلك الأحكام . كما مر في ( الفص الشيثي ) .
وقوله رضي الله عنه   : ( ذلك ) إشارة إلى الدقيقة ، ذكره باعتبار المعنى . و ( شرع ) على صيغة المبنى للمفعول .
و ( من ) في ( مما ) بيان ما يحكمون به . أي ، وتلك الدقيقة في صورة أخذ ما يحكمون به من الحق سبحانه من حكم ما هو شرع للرسول .
ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل . و ( من ) صلة ( الأخذ ) ، و ( ما ) عبارة عن الحق .
أي ، ذلك في أخذ ما يحكمون به من الحق الذي هو شرعه للرسول .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه ، عليه السلام ، أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه ، عليه السلام . وفينا من يأخذه عن الله ، فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم ، فتكون المادة له من حيث كانت المادة لرسوله ، صلى الله عليه
وسلم فهو ) أي ، ذلك الآخذ من الله .

( في الظاهر متبع لعدم مخالفته في الحكم ، كعيسى ، عليه السلام ، إذا نزل فحكم . ) بما حكم به رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
(وكالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده".)
أمر نبينا ، عليه السلام ، باتباع هدى الذين سبقوا عليه من الأنبياء والرسل . لا باتباعهم ، بل باتباع هداهم ، ليكون
آخذا من الله ، كما أخذوا منه . فكذلك من له التأسي به في جميع أحواله ، يأخذ
الحكم من الله تأسيا برسل الله ، صلوات الله عليهم أجمعين ، مع أنه في الظاهر
متبع له وتحت حكمه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو في حق ما يعرفه من صورة الأخذ مختص موافق ، هو فيه بمنزلة ما قرره النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من شرع من تقدم من الرسل ، بكونه قرره.)
( هو ) مبتدأ ، خبره ( مختص ) ، ( موافق ) خبر ثان .
قوله : ( هو فيه ) مبتدأ آخر بمنزلة خبره .
ومعناه : هذا الولي الآخذ من الله ، عين الحكم الذي قرره الرسول الشارع ، مختص بالإختصاص الإلهي في حق ما يعرفه من صورة الأخذ ، أي مخصوص بهذا المعنى ، موافق لشريعة الرسول المشرع في ذلك الحكم .
( هو فيه )  أي ، هذا الآخذ فيما أخذه من الله وقرره في شرع رسول الله بمنزلة ما قرره رسول الله من أحكام شريعة من تقدم عليه من الرسل .
( فاتبعناه من حيث تقريره ، لا من حيث إنه شرع لغيره قبله . ) أي ، فاتبعنا ما قرر رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، من شرع من تقدم عليه من حيث إنه ، عليه السلام ، قرره وجعله من شريعته وأخبر أن الحكم كذلك عند الله ، لا من حيث إنه شريعة غيره . فإنا لسنا مأمورين بشريعة الغير .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك أخذ الخليفة عن الله عين ما أخذه منه الرسول . فنقول فيه بلسان الكشف "خليفة الله " ، وبلسان الظاهر "خليفة رسول الله " . ولهذا مات رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وما نص بخلافة عنه إلى أحد ولا عينه لعلمه أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه ، فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع . فلما علم ذلك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لم يحجر الأمر . )
 أي ، لما
علم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن لله تعالى عبادا من أمته ، وفي قوتهم أن يأخذوا الخلافة من الله سبحانه ، ما عين من يخلفه وجعل التعيين إلى الله  ولما كان في تعيينه ، عليه السلام ، منعا للبعض الذي ما عين ذلك المقام ،
قال الشيخ رضي الله عنه :  رضي الله عنه : ( ولم يحجر الأمر ) أي ، لم يمنع أحدا من هذا الأمر ، يعنى أمر الخلافة .
(فلله خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ) "اللام " للعهد ، والمعهود نبينا ، صلى الله عليه وسلم . "والرسل " . أي ، يأخذون من معدن نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، أو من معدن الرسل الذين تقدموا عليه . ( ما أخذته الرسل ، عليهم السلام . ) من أحكام الشرائع والعلوم والمعارف وغيرها .
والمراد ب‍ ( المعدن ) عين الذات الإلهية وأسماؤه والأعيان التي لا يأخذ الحق أيضا إلا منها ، كما مر في ( الفص العزيري ) و ( الشيثي ) . فهؤلاء الكمل محكومون معه بذلك الحكم المأخوذ من الله بالجهتين : من جهة الرسول ، ومن جهة الحق المكلف بذلك .
فصدق في حقهم ما قاله الشاعر"ابن نباته المصري ":
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من دونهم وحدي
الغوث يا من إليه قد مددت يدي ... ثم اقتدحت فاوْرى بالثنا زندي
 ( ويعرفون فضل المتقدم هناك ، لأن الرسول قابل للزيادة ، وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة التي لو كان الرسول قبلها . )
( الرسول ) منصوب على أنه خبر ( كان ) . و ( قبلها ) على صيغة الماضي . أي ، الأولياء الخلفاء لله ، يعرفون فضل المتقدم من الرسل عليهم عند الله هناك ، أي في ذلك الأخذ .
والمراد بالتقدم ليس التقدم الزماني ، بل التقدم الرتبي ، لذلك علل بقوله : ( لأن الرسول قابل للزيادة ) والنقصان .
فالتقدم بالرتبة هو الذي يكون أرفع درجة وأعلى مرتبة وأكثر أخذا وأشد علما بالله وأسمائه .
وله فضيلة على غيره من الرسل .
وأما الخليفة فليس لقابل للزيادة التي لو كان هو رسولا لقبل تلك الزيادة ، فإن من جعله الله خليفة على العالم ، هو الذي جعله متحققا بأسمائه كلها ، فلا يمكن الزيادة فيه .
وأما من يكون خليفة على بعض العالم ، كخلفاء الأقطاب ، فيقبلون الزيادة والنقصان ، كما مرت الإشارة إليه من أن لكل إنسان نصيبا من الخلافة الكبرى والنيابة العظمى على حسب استعداده وقربه من الخلافة المطلقة .

( فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرع إلا ما شرع للرسول خاصة . ) أي ، لا يعطى الله هذا الولي الأخذ من الله شيئا من العلم والحكم فيما شرع له ، إلا مثل ما
شرع للرسول خاصة .
( فهو في الظاهر متبع غير مخالف ، بخلاف الرسل ) فإن الله شرع لكل منهم أحكاما يوافق بعضها شريعة من قبله ، ولا يوافق بعضها إلا بزيادة حكم ، أو نسخه.   

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى عيسى ، عليه السلام ، لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على موسى - مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول - آمنوا به وأقروه ، فلما زاد حكما أو نسخ حكما - كان قد قرره موسى لكون عيسى رسولا - ثم يحتملوا ذلك ، لأنه خالف اعتقادهم فيه ، وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه . )
أي ، أمر الرسالة . فإنها يقتضى الزيادة والنقصان بحكم الوقت واستعداد قوم أرسل الرسول إليهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (  فطلبت قتله . وكان من قصته ما أخبرنا الله تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم . فلما كان رسولا قبل الزيادة ، إما بنقص حكم قد تقرر ، أو بزيادة حكم ، على أن النقص زيادة حكم بلا شك . )
لأن نقص الحكم المقرر في الشرع رفع ذلك الحكم ، ورفع الحكم حكم بالرفع زائد على ما قرر.
( والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب . ) أي ، منصب الزيادة والنقصان .
( وإنما ينقص أو يزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد ، لا على الشرع الذي شوفه به محمد ، رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . ) أي ، خوطب به مشافهة .
وفي بعض النسخ : ( شرعه محمد ، عليه السلام ) .
وإنما يدخل الزيادة والنقصان على الشرع المتقرر بالاجتهاد ، لأنه حكم من
وراء الحجاب ، فإذا ظهر من يكون عالما بنفس الأمر مكشوفا بالحقائق ، غير ما ليس في نفس الأمر كذلك . وأما في المشروع المنصوص عليه ، فلا يدخل فيه الاجتهاد ولا التغيير أصلا . لأنه في نفس الأمر كذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ) الآخذ من الله الحكم . ( ما يخالف حديثا ما في الحكم ، فيتخيل أنه من الاجتهاد ، وليس كذلك . وإنما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ) لعله بطريق الكشف ما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم
( ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل ، فما هو ) أي ، فليس ذلك العدل.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( معصوم من الوهم ولا من النقل على المعنى . فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى ، عليه السلام ، فإنه إذا نزل ، يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر فيتبين برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه النبي ، صلى الله عليه وسلم . ) أي ، يبين صورة الحكم المشروع برفعه كثيرا من شرائع الاجتهاد . فالحق هنا مقابل الباطل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة ، فيعلم قطعا أنه لو نزل وحى ، لنزل بأحد الوجوه ، فذلك هو الحكم الإلهي . وما عداه وإن قرره الحق ، فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها . )
كما قال تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .
وقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) . فتقريره لرفع الحرج إلى أن يبين الله أحكامه .
والحاصل ، أن الولي الآخذ من الله لا يرفع ما نص الرسول عليه من الأحكام ، بل يرفع الأحكام الاجتهادية التي اختلفت فيها ، ويحكم بما عليه الأمر في نفسه وعند الله ، فيرتفع الخلاف .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قوله ، صلى الله عليه وسلم : "إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الأخير منهما " . فهذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف . وإن اتفقا فلا بد من قتل أحدهما ، بخلاف الخلافة المعنوية ، فإنه لا قتل فيها . )
لما ذكر أن لله خلفاء يأخذون الحكم من الله ، ثم جعلهم ظاهرا وباطنا ، أورد الحديث وبين محل الحكم جوابا عن اعتراض مقدر .
وهو قول القائل : كيف يكون لله خلفاء ظاهرا وباطنا ، وقد قال نبيه ، صلى الله عليه وآله : ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الأخير منهما ) .
وإنما لم يكن القتل في الخلافة المعنوية ، لأن الخليفة في الباطن هو القطب ، ولا يمكن أن يكون أكثر من واحد ، وباقي الخلفاء المعنوية تحت حكمه وتصرفه .

وجواب ( ما ) قوله من بعد : ( فمن حكم الأصل ) .
( وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة ، وإن لم يكن لذلك الخليفة ) أي ، الخليفة الأولى الذي لا يقتل . ( هذا المقام . ) أي ، مقام الخلافة ، أو أخذ الأحكام من الله .

( وهو خليفة رسول الله إن عدل . ) أي ، الذي قرر على الخلافة خليفة رسول الله إن عدل في الحكم بين الناس . وإن لم يعدل فهو خليفة ظاهرا ، لكن لا خليفة رسول الله ( فمن حكم الأصل الذي به يخيل وجود إلهين . ) هذا جواب ( أما ) .
أي أما قوله : ( إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الأخير منهما ) . فمن حكم الأصل الذي هو وجوب كون الله تعالى واحدا . والثاني الذي به يخيل جواز وجود إلهين واجب القتل ، لئلا يكونا خليفتين ، كما لا يكون إلهين .



وإنما كان بالخليفة الثانية تخيل ذلك ، لأن الخليفة مظهر الحق في الظاهر ، فكونها اثنين ، يكون دليلا وعلامة على الهين ظاهرين فيهما .
فيخيل أن الأمر كذلك ، لكن الثاني منتف بحكم الأصل ، فكذلك مظهره أيضا

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " . وإن اتفقا ) يعنى الإلهين . قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنحن نعلم أنهما لو اختلفا ، تقديرا ، لنفذ حكم أحدهما ، فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة ، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله . ) غنى عن الشرح .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن هاهنا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم فإنه حكم الله - وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا - إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر ، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية ، لا على حكم الشرع المقرر . )

لما كان الإله في الوجود واحدا ، علم أن جميع الأحكام النافذة في العالم لا ينفذ إلا بحكم الله وإرادته وتنفيذه بين عباده ، وإن وقع ذلك الحكم مخالفا لما قرره الشرع ، لأن كل ما يقع في العالم إنما هو بحكم المشيئة الإلهية ، لا بحكم غيره .
فما شاء الحق وقوعه ، يقع البتة ، وما لم يشأ لم يقع ، سواء كان قرره الشرع أو لا .
( وإن كان تقريره من المشيئة ، ولذلك نفذ تقريره خاصة . ) ( إن ) للمبالغة .
أي ، وإن كان تقرير الشرع المقرر أيضا واقعا بالمشيئة الإلهية ، فإن الحق شاء أن يقرر ، ( لذلك نفذ تقريره خاصة ) أي وقع التقرير ، لا العمل به عند من لم يعمل بذلك .

( وأن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير ، لا العمل بما جاء به )
( وأن ) بالفتح ، معطوف على قوله : ( ومن هاهنا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم فإنه
حكم الله . ) أي ، فعلم أن المشيئة ليست لها فيه ، أي في ذلك الشرع المقرر ، إلا  التقرير ، لا العمل بما جاء به ذلك الشرع ، إلا ما تعلقت المشيئة أيضا بعمله .
( فالمشيئة سلطانها عظيم ، ولهذا جعلها أبو طالب " عرش الذات " )
أي ، مظهرا به يظهر مقتضيات الذات في الوجود العلمي والعيني ، ( لأنها لذاتها تقتضي الحكم ، فلا يقع في الوجود شئ ولا يرتفع خارجا عن المشيئة ، فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى "معصية " ) أي ، بما يسمى معصية .
( فليس إلا الأمر بالواسطة . لا الأمر التكويني ) أي ، الأمر قسمان : أمر بواسطة المظاهر ، كالأنبياء والأولياء والمجتهدين ، وأمر بغير الوسائط . وما لا واسطة فيه ، وهو الأمر التكويني ، لا يمكن المخالفة فيه.
كقوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) . وما كان بالواسطة ، فقد يقع المخالفة فيه . لذلك آمن بعض الناس بالأنبياء وكفر بعض ، وممن آمن أتى بجميع أوامرهم بعضهم ، ولم يأت بعضهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما خالف الله أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشية . ) لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ( فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة . فافهم . )
أي ، فالمخالفة ما وقعت إلا في أمر الواسطة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه إلى إيجاد عين الفعل ، لا على من ظهر على يديه فيستحيل أن لا يكون ، ولكن في هذا المحل الخاص ) .
أي ، لا يتعلق أمر المشيئة على الحقيقة إلا بإيجاد عين الفعل ، لكن في هذا المحل الخاص ، لا على فاعله ليلزم أن يكون عدم الفعل منه مستحيلا .
فالمحل شرط صدور الفعل ، وتعلق أمر المشيئة بالمشروط لا الشرط ، والتعلق به بأمر آخر وبمشيئة أخرى .
كما وقع الخلاف بين العلماء أن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم ذلك الشئ إلا به ، أو لا .
كالوضوء للصلاة . فذهب بعضهم إلى أن الأمر به ليس بعينه أمرا بما لا يتم إلا به ، بل بأمر آخر .
أما لو نازع فيه منازع ، لكان في موضعه ، لأن المشيئة تعلقت بالإيجاد في ذلك المحل ، فتعلقت المشيئة به أيضا .
ولما كان التوجه هاهنا متضمنا معنى الحكم ، عداه ب‍ ( على ) في قوله : ( لا على من ظهر ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فوقتا يسمى به مخالفة لأمر الله ، ووقتا يسمى موافقة وطاعة لأمر الله ، ويتبعه لسان الحمد والذم على حسب ما يكون . )
أي ، يسمى الفعل الصادر بسبب تعلق أمر المشيئة بعين ذلك الفعل ، عند كونه غير موافق لأمر الشارع ، ( معصية ) ومخالفة لأمر الله .
وعند كونه موافقا ، موافقة وطاعة ، وحينئذ يتبعه لسان الحمد في الطاعة ، والذم في المعصية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه ، لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها . ) أي ، لما كانت الأفعال كلها بمشيئة الله كما قررناه - من أنه لا يقع شئ إلا بالمشيئة الإلهية ولا يرتفع إلا بها - كان مآل الخلق في الآخرة إلى السعادة على اختلاف أنواع الخلائق وسعاداتهم .

( فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شئ وأنها سبقت الغضب الإلهي . ) أي ، عبر الحق عن لسان هذا المقام ب‍ ( أن الرحمة وسعت كل شئ ) .
فإن المشيئة الإلهية وسعت جميع الأشياء أعيانها وأحوالها ، لأنها بها وجدت في العلم ، وبها ظهرت في العين .
وقال أيضا : ( إن رحمتي سبقت غضبي ) . فرحمته السابقة مشيئته الذاتية العامة السابقة على كل شئ ، ( 23 ) أسماء كانت أو أعيانا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والسابق متقدم ، فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر ، حكم عليه المتقدم ، فنالته الرحمة إذ لم يكن غيرها سبق ) أي ، إذا لحقه حكم الغضب الذي هو المتأخر بواسطة المخالفة ، حكم عليه المتقدم بالرحمة السابقة ، فأخذته من يد ( المنتقم ) .
وحكم الغضب إما قبل أخذ المنتقم حقه منه ، أو بعده ، أو حال الانتقام ، لأن السابق على الغضب هو الرحمة ، فالمآل أيضا إليها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا معنى سبقت رحمته غضبه ) اعلم ، أن ( السبق ) يستعمل على معان : منها التقدم بالوجود ومنها قولهم : سبق الفرس الفرس . أي ، لحقه وتعداه .
ومنها سبقه فلان في الصنعة ، أو في الكرم . أي ، زاد عليه وغلبه .
وفي قوله تعالى : ( سبقت رحمتي غضبي ) . جميع هذه المعاني مرعية:
 أما الأول ، فإنه لو لم تكن رحمته ، لما وجد شئ من الأشياء فضلا عن الغضب .
وأما الثاني ، فلأنه يلحق الرحمة فتأخذ المجرم من يد المنتقم .
وأما الثالث ، فعند توجه ( المنتقم ) إليه من الانتقام ، قد يتوجه ( الرحمن ) بالمغفرة والرحمة إليه ، فلا يبقى له حكم عليه .

فقوله رضي الله عنه  : ( هذا ) إشارة إلى قوله : ( والسابق متقدم ) إلى آخره .
وهو يجمع المعاني الثلاث . لذلك قال : ( فهذا معنى سبقت رحمتي غضبي ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لتحكم على من وصل إليها ، فإنها في الغاية وقفت ) أي ، لتحكم الرحمة على كل من وصل إليها ، أي ، إلى الرحمة . وفاعل (وصل) ضمير عائد إلى (من) .
فإن الرحمة السابقة على كل شئ لا يقف إلا في الغاية والنهاية ، ليكون ( الأول ) عين ( الآخر ) . فالرحمة الإلهية أول الأشياء وآخرها .
( والكل سالك إلى الغاية فلا بد من الوصول إليها ) أي ، إلى الغاية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب . ) أي ، وكل العباد ، بل وكل الأشياء ،
سالك بقطع مراتب الوجود العلمي والعيني بالحركة الدورية الوجودية ، فلا بد من الوصول إلى غاياتها وكمالاتها ، فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب وأحكامه ، لأن غايات الأشياء وكمالاتها لا يكون إلا مرغوبا فيها ، لا مهروبا عنها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها . )
أي ، فحينئذ يكون الحكم للرحمة في كل عين من الأعيان التي وصلت إلى الغاية ، فتعم الرحمة عليها جميعا ، لكن على حسب درجاتهم وتفاوت طبقاتهم : فيكون للبعض نعيم في عين الجحيم ، ولبعض آخر في الجنة ، ولآخر في ( الأعراف ) الذي بينهما .
( فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ....  وإن لم يكن فهم فيأخذه عنا )
أي ، فمن كان ذا بصيرة وعرفان مكشوف القلب ، فيشاهد ما قلنا في الوجود شهودا أعيانيا . ومن لم يكن كذلك ، ويكون مؤمنا بالأنبياء والأولياء ، فيأخذه عنا تقليدا ايمانيا .

(فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد  ....  عليه وكن بالحال فيه كما كنا )
أي ، فما في نفس الأمر إلا ما ذكرناه وبيناه لك . فاعتمد على قولنا وكن مشاهد أصحاب الحال في هذا الوجود الدنياوي ، كما كنا ، ليكون لك أرفع الدرجات ، لأنك لا تحشر إلا كما تنشر حال المفارقة .
( فمنه إلينا ما تلونا عليكم  .....  ومنا إليكم ما وهبنا كم منا )
أي ، فمن الحق نزل إلينا ما تلونا عليكم وبينا عندكم . ومنا نزل إليكم ما وهبناكم من المعارف والعلوم .
وفي بعض النسخ : ( وليس إليكم ما وهبناكم منا )
. أي ، ليس ما ورد إليكم مما وهبناكم منا ، بل من الله . والظاهر تصحيف من الناسخ .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما تليين الحديد ، فقلوب قاسية يلينها الزجر والوعيد تليين النار الحديد . )
أي ، وأما كونه بحيث يلين الحديد ، فإشارة إلى تليينه بالمواعظ والحكم والتصرفات الروحانية القلوب القاسية الجافية كتليين النار الحديد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ، فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها.) أي ، تليين الحديد أمر سهل ، وإنما الصعب تليين قلوب هي أشد قساوة وصلابة من الحجارة التي هي أشد من الحديد .
فإن النار تلين الحديد ولا تلين الحجارة ، بل تكسرها وتكلسها ، أي تجعلها كليسا وهو النورة .
فالقلوب القاسية أصعب تليينا من كل شئ . "الكلس : الجص "

( وما ألأن ) أي الحق ( له ) أي لداود عليه السلام ( الحديد إلا لعمل الدروع الواقية ) أي ، الحافظة من العدو . ( تنبيها من الله إذ لا يتقى ) على صيغة المبنى للمفعول .
(الشئ إلا بنفسه فإن الدرع يتقى به السنان والسيف والسكين والنصل فاتقيت الحديد بالحديد.) أي ، فاتقيت أنت من الحديد بالحديد .
( فجاء الشرع المحمدي ب‍ "أعوذ بك منك " . فافهم . ) أي ، كما يتقى بالحديد
من الحديد ، لذلك قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بك منك " .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا روح تليين الحديد ، فهو "المنتقم الرحيم" . والله الموفق . ) أي ، هذا الذي ذكرته من أن تليين الحديد إشارة إلى تليين القلوب القاسية ، وأنه تعالى ألأن الحديد الصوري ، ليندفع الحديد بالحديد .
كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك ) .
فهو روح تليين الحديد ومعناه ، فإن الحق هو (المنتقم) وهو (الرحيم) ، فينبغي أن يستعاذ من الاسم ( المنتقم ) بالاسم ( الرحيم ) ، لتكون الاستعاذة بالله من الله ،
والله الموفق لهذه الاستعاذة والاطلاع لأسرارها ، لا غيره .
تم الفص الداودي
.
واتساب

No comments:

Post a Comment