Sunday, December 15, 2019

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي


شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
إنما نسب الحكمة النبوية إلى الكلمة ( العيسوية ) لأنه عليه السلام نبي بالنبوة العامة أزلا وأبدا ، وبالنبوة الخاصة حين البعثة .
لذلك أنبأ عن نبوته في المهد بقوله : ( وآتاني الكتاب وجعلني نبيا ) . وأنبأ في بطن أمه عن سيادته الأزلية بقوله : ( لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ) . أي ، سيدا على القوم ، ولذلك غلب عليه الأنبياء عن أحوال الروحانيين ، وكانت دعوته إلى الباطن أغلب .
وقيل إنها من ( نبا ، ينبوا ) - غير مهموز - بمعنى ارتفع ، لارتفاعه إلى السماء ،
كما قال تعالى : ( بل رفعه الله إليه ) .

وليس المراد بالنبوة التشريعية التي هي مشتركة بين الأنبياء ، ليلزم اشتراكهم فيها ، بل المراد بها النبوة العامة الأزلية .
ولا اشتراك لأحد من الأنبياء والأولياء فيها ، لأن النبوة العامة نتيجة الولاية ، والأنبياء والأولياء لا يأخذون الولاية إلا من مشكوته ، وهو صاحب هذا المقام أزلا وأبدا لخاتميته كما مر في الفص الثاني ، فله النبوة العامة الأزلية بالأصالة .
وغيره لا يتصف بالولاية والإنباء إلا عند تحصيل شرائطها ، كما أن نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، نبي أزلا بالنبوة التشريعية وغيره من الأنبياء لا يكون إلا عند البعثة .

ولهذا السر جعل هذه الحكمة بعد الحكمة القدرية ، لأنه بين الولاية فيها ، وجعل لها النبوة العامة ، وتكلم عليها بما قدر الله ، فأردفها ليتكلم على بعض خواصها في الكلمة العيسوية . والله أعلم .
شعر :
( عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين  ... في صورة البشر الموجود من طين)
(تكون الروح في ذات مطهرة   ......       من الطبيعة تدعوها بسجين )
استفهام على سبيل التقرير .
تقديره : أعن ماء مريم أو عن نفخ جبرئيل ، أو عنهما معا ، تكون هذا الروح ؟
ف‍ ( أو ) بمعنى ( الواو ) .
و ( جبرين ) لغة في جبرئيل كجبرئيل . أي ، يكون روح الله عن ماء مريم ونفخ جبرئيل معا حال كونه متمثلا في صورة البشر الذي خلق من الطين ، كما قال تعالى : ( فتمثل لها بشرا سويا ) .
فجسمانيته من ماء مريم ، وروحانيته من نفخ جبرئيل ، فإنه تلقاها من الله بغير واسطة وألقاها إلى مريم .
وإنما قال : ( في صورة البشر ) لأنه ملك ظاهر في الصورة البشرية وليس ببشر .
و ( الذات المطهرة ) يجوز أن يكون مريم ، عليها السلام ، التي تطهرت من غلبة أحكام الطبيعة المطلقة عليها ، أو من الطبيعة المسماة ب‍ ( السجين ) .
فالمراد الطبيعة الخاصة التي هي في المرتبة السفلى ، وهو عالم الكون والفساد ، لا مطلق الطبيعة ، لذلك سميت بالسجين ، إذ الأملاك السماوية والسماوات كلها عنده طبيعة عنصرية ، وما فوقها طبيعة غير عنصرية . كما سنذكره في هذا الفص .

وتطهرها منها خروجها عن أحكام عالم التضاد لغلبة النورية عليها .
ويجوز أن يكون الذات العيسوية  التي تعلقت به الروح العيسوي . فالتكون بمعنى الظهور ، لا الحدوث .

ويؤيد الثاني قوله : ( لأجل ذلك قد طالت إقامته ) وإن كان الأول أسبق في الذهن .
و ( تدعوها ) صفة ( الطبيعة ) . أي ، من الطبيعة المدعوة بالسجين .
و ( تاء ) هـ للخطاب إلى العارف المحقق ، أي بتسميها . أو ب‍ ( الياء ) المنقوطة من تحت .
أي ، يدعوها الله في كلامه بالسجين . وفيه إشارة إلى أن عالم الكون والفساد عين الجحيم ، كما قال ، عليه السلام : ( الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر ) .
أو مآله إلى الجحيم عند قيام الساعة . و ( من الطبيعة ) متعلق ب‍ ( مطهرة ) و ( السجين ) مأخوذ من السجن .
وإنما جعل عالم الكون والفساد سجينا ، لأن كل من هو فيها مسجون محبوس مقيد بالتعلقات الجسمانية والقيود الظلمانية ، محجوب عن الأنوار الروحانية ، إلا العارفون الذين قطعوا تعلقاتهم الجسمانية ، وخلصوا عن القيود الظلمانية ، ورفعوا الحجب ، وتنور بواطنهم بأنوار الروح ، فخرجوا إلى فضاء عالم القدس .
فهم الذين فازوا بالنعيم بعد ورودهم إلى الجحيم ، كما قال الصادق ، عليه السلام ، حين قرئ عنده : وإن منكم إلا واردها : ( جزناها وهي خامدة ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (لأجل ذلك قد طالت إقامته  ... فيها فزاد على ألف بتعيين  )
أي ، لأجل أن الذات المنفوخ فيها الجسم العيسوي ، وهي مريم عليها السلام ،
كانت مطهرة عن غلبه أحكام الطبيعة عليها ، طالت إقامته في السماء ، فإن طهارة
بدن الوالدين - مما يوجب النقص - توجب طهارة بدن الولد أيضا منه هذا على الأول
.
وأما على الثاني ، فمعناه : ولأجل أن الذات المنفوخ فيها الروح العيسوي وهو بدنه - كانت مطهرة من أدناس الطبيعة وأرجاسها ومن أحكامها المتضادة المقتضية للانفكاك وخراب البدن سريعا - طالت إقامته فيها .
أي ، إقامة الروح في تلك الذات حتى زاد ألف سنة .
فإنه ، عليه السلام ، بعث قبل نبينا ، صلوات الله عليهما ، بخمسمائة وخمس وخمسين سنة . وهذا مبنى على أنه ببدنه في السماء ومن ولادة نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، إلى زماننا هذا سبعمأة وأحد وثمانون سنة ، فالمجموع ألف وثلاثمأة وست وثلاثون سنة .

وتحقيقه : أن البدن الحاصل من الجسم الكثيف الظلماني مشارك في الحقيقة والجوهرية مع الجسم اللطيف النوراني الذي منه أجسام الأفلاك ، بل لا يمكن أن يتعلق الروح المجرد بهذا الجسم الكثيف أيضا إلا بواسطة ذلك الجسم اللطيف .

ولذلك يتعلق أولا بالروح الحيواني الذي هو الجسم اللطيف البخاري الحاصل من امتزاج لطائف الأركان الأربعة بعضها مع بعض ، ثم بواسطته يتعلق بالقلب ، ثم الكبد ، ثم الدماغ . على ما هو مقرر عند الحكماء . وفي قوة هذه الجسم الكثيف أن تبدل بذلك الجسم اللطيف وبالعكس ، عند تعلق القدرة الإلهية بذلك ، إذ الكثافة واللطافة من عوارض حقيقة الجسم ، خصوصا إذا تنورت النفس بالنور الرباني ، فتنورت بدنها ، كما قال : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) .
وحينئذ يشارك صاحبه الملائكة ويرتفع إلى مقامهم . فارتفاع عيسى ، عليه السلام ، إلى السماء من هذا القبيل . وسيجيئ بيانه أكثر من هذا ، كما سنذكره في ( الفص الإلياسي ) .
والسماء ، عند أهل الحقيقة ، عنصري ، قابل للخرق والالتيام ، كما سنذكره ، وقوله تعالى عن لسانه : ( فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) .
حينئذ يكون محمولا على أن ( التوفي ) عبارة عن رفعه إلى السماء ، لا على المفارقة
بين الروح وبدنه .
قيل : إن حقيقة عيسى ، عليه السلام ، ظهرت بالصورة المثالية المتجسدة في هذا العالم . كما صرح هذا القائل بقوله : ( فإنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني ، لذلك بقي مدة مديدة ) . وفيه نظر .
لأن الصورة المتجسدة لا يحتاج إلى الأكل والشرب في دار الدنيا ، وقد قال الله فيه وفي أمه : ( وكانا يأكلان الطعام ) .
وأيضا ، إنما يتجسد الأرواح بالصورة الحسية بأمر الله تعالى لمقاصد تتعلق بالعباد ، فإذا انقضت ، رجعوا إلى ما كانوا عليه .
وذلك مدة يسيرة بين العباد الذين في دار الدنيا ، لا مدة ألف سنة وفي السماء .
والظهور ثانيا لا يحتاج إلى بقاء الصور المتجسدة مدة طويلة ، لأن لهم قوة الظهور والتجسد في كل آن  ( روح من الله لا من غيره فلذا  ..... أحيا الموات وأنشأ الطير من طين )
واعلم ، أن الأرواح المهيمة التي منها العقل الأول وأرواح الأفراد والكمل كلها

صف واحد ، حصل من الله ليس بعضها بواسطة بعض ، وإن كانت الصفوف  الباقية من الأرواح بواسطة العقل الأول ، فإنه واسطة التدوين والتسطير للكمالات الوجودية .
والروح العيسوي من الصف الأول ، لذلك قال : ( روح من الله لا من غيره . )
أي ، الروح العيسوي فائض من الحضرة الإلهية مقام الجمع بلا واسطة اسم من الأسماء وروح من الأرواح ، كما قال تعالى : ( وروح منه ) .

أي ، من الله . لذلك أحيا الأموات وخلق الطير من الطين ، وهو الخفاش .
قال تعالى حاكيا عنه : ( إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ) . فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله . وأبرء الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله .
فهو مظهر للإسم الجامع الإلهي ، كنبينا ، صلى الله عليه وسلم .
لذلك كمل نسبته إليه في كونه صاحب الاسم الأعظم ، وقرب ظهوره بظهوره ، وينزل من السماء مرة أخرى ، ويدعو الخلق بدين نبينا ، صلى الله عليه وسلم .
( حتى يصح له من ربه نسب .... به يؤثر في العالي وفي الدون )
( النسب ) بفتح النون ، وبالكسر ، وهم . أي ، إحياء الأموات وخلق الطير ، ليصح نسبه ، ونسبته إلى الله بكونه صادرا منه مظهرا للإسم الجامع الإلهي ، لا  بأنه ابنه ، كما يقول الظالمون . تعالى عنه علوا كبيرا .

( به يؤثر ) أي ، بذلك النسب يؤثر في العالي ، أي فيمن له العلو المرتبي كالإنسان ، وفيمن له السفل المرتبي وهو الدون كالطير ، بإحياء الموتى وخلق الطير ، أو يؤثر ويتصرف في العالم العلوي السماوي والسفلى الأرضي كلها .
(الله طهره جسما ونزهه ..... روحا وصيره مثلا بتكوين )
 وفي بعض النسخ : ( لتكوين ) .
أي ، الله طهر جسمه وبدنه من الأدناس الطبيعية التي بواسطتها يتصرف الشيطان في الإنسان ، كما شق جبرئيل صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطهره ونزه روحه عما يوجب النقائص والمذام ، وحلاه بجميع الكمالات والمحامد .

( وصيره مثلا ) أي ، متماثلا لربه في إحياء الأموات وخلق الطير وتكوينه لكونه مخلوقا على صورته .
وإطلاق المثلية هنا مجاز ، إذ لا مثل له ولا نظير ، لكون الكل منه . أو صيره مماثلا لآدم في كونه تكون من غير أب ، كما تكون آدم من غير أب .
قال تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) .
وتقديم اسم ( الله ) يفيد التعظيم - كما يقال : السلطان أمر بهذا الحكم - واحصر ، على أنه طهر جسمه من غير واسطة لا غيره ، كما أوجد روحه من غير واسطة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم ، أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيى ذلك الشئ وسرت الحياة فيه . ولهذا قبض السامري قبضة من أثر الرسول الذي هو جبرئيل ، عليه السلام ، وهو الروح . وكان السامري عالما بهذا الأمر . فلما عرف أنه جبرئيل ، عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرسول - بالصاد أو بالضاد . أي ، بملء ء يده ، أو بأطراف أصابعه فنبذها في العجل ، فخار العجل ، إذ صوت البقر إنما هو خوار . ولو أقامه صورة أخرى ، لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة ، كالرغا للإبل والثؤاج للكباش واليعار للشاة والصوت للإنسان ، أو النطق أو الكلام).

اعلم ، أن الأرواح مظاهر اسم ( الرب ) . فإن الحق بها يرب مظاهره .
و ( الحياة ) بحسب الوجود أول صفة يلزمها ، وهي أصل جميع الصفات الوجودية ، لذلك جعل الاسم ( الحي ) إمام الأئمة السبعة ، فإن العلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات لا يتصور وجودها إلا بعد الحياة ، ولكل شئ روح يخصه فائض عليه من ربه ، فله حياة خاصة تناسبه ، تظهر فيه هي وما يتبعها من لوازمها ، كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها بحسب مزاج ذلك الشئ.
فإن مزاجه إن كان قريبا من الاعتدال ، كالإنسان ، يظهر فيه جميع خواصه ، أو أكثرها .
وإن كان بعيدا منه ، يختفي نفس الحياة فيه وجميع لوازمه ، كما في الجماد والمعدن .

وجبرئيل ، عليه السلام ، هو المتصرف في السماوات السبع والعناصر وما يتركب منها ، إذ هو روحانيتها ومقامه ( السدرة ) كما قال تعالى : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) .

فإذا تجسد بصورة مثالية أو جسمية ووطأ أرضا من الأراضي ، يهب ذلك المقام حياة زائدة على حياة ما لم يطأ بخصوصيته منه . وجميع الأرواح العالية بهذه المثابة .
فلما عرف السامري هذا المعنى وعرف جبرئيل حين تجسده بنور باطنه وقوة استعداده ، فقبض قبضة من أثرها ، فنبذها على صورة العجل المتجسدة من حلي القوم ، فحيى ، فخار .
ولو كان صورة أخرى ، لكان صوتها بحسب تلك الصورة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى " لاهوتا " . ) لأن ( الحياة ) صفة إلهية ، و ( الحي ) اسم من أسمائه وإمام الأئمة السبعة .
( و " الناسوت " هو المحل القائم به ذلك الروح . ) أي ، البدن هو المسمى ب‍ ( الناسوت ) ، كما تسمى الروح المجردة ب‍ ( اللاهوت ) .
( فيسمى " الناسوت " روحا بما قام به . ) والمراد ب‍ ( الروح ) هنا ، الروح المنطبعة في البدن ، إذا الروح قد تكون مجردة ، وقد تكون منطبعة وتسمى بالنفس المنطبعة ، وقد تسمى ( البدن ) باشتماله على الروح روحا مجازا ، كما يقال لبائع الخبز : يا خبز .
ف‍ ( الباء ) في ( بما قام ) للسببية . ويجوز أن يكون بمعنى ( مع ) أي ، البدن مع ما قام به من الروح يسمى روحا ، لذلك سمى الله تعالى عيسى ( روحا ) بقوله : ( وروح منه ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبرئيل لمريم ، عليها وعليه السلام ، بشرا سويا ، تخيلت أنه بشر يريد مواقعتها ، فاستعاذت بالله منه استعاذة بجمعية منها . )  أي ، بجميع همها وقواها الروحانية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ليخلصها الله منه لما تعلم أن ذلك مما لا يجوز ، فحصل لها حضور تام مع الله وهو الروح المعنوي . )
أي ، ذلك الحضور التام هو الروح المعنوي .
لذلك يجعل ( الحضور ) في الصلاة بمثابة الروح لها ، والصلاة مع عدم الحضور ، كالبدن الذي
لا روح فيه .
وفي بعض النسخ : ( فحصل لها حضورا تاما ) . - من ( التحصيل ) .
أي ، حصل جبرئيل لمريم ، عليهما السلام ، الحضور التام بتمثله عندها في الصورة
البشرية مريدا مواقعتها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة ، لخرج عيسى ، عليه السلام ، لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه كحال أمه . ) لأن الولد إنما يكون بحسب ما غلب على الوالدين من الصفات والهيئات النفسانية والأعراض الجسمانية . و ( شكاسة الخلق ) ردائته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما قال لها : " إنما أنا رسول ربك جئت لأهب لك غلاما زكيا " . انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها ، فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى ، عليه السلام . ) وإنما انشرح صدرها وانبسطت من ضجرها ، لأن الله تعالى كان بشرها بعيسى ، كما

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) .
فتذكرت ذلك وزال انقباضها ، فخرج عيسى ، عليه السلام ، منبسطا منشرح الصدر ( وكان جبرئيل ناقلا " كلمة الله " لمريم ، كما ينقل الرسول كلام الله لأمته . )
أي أخذ الكلمة العيسوية جبرئيل من الله ، فنقلها إلى مريم من غير تصرف فيها ، كما ينقل الرسول كلام الله لأمته من غير تغير وتبديل .
وفي هذا التشبه إيماء إلى تشبيه الكلمة الإلهية الروحانية بالكلمة اللفظية الإنسانية ، لأن كلا منهما إنما يحصل بواسطة التعين اللاحق على النفس في مراتبه التي تعبر النفس عليها .
والفرق أن هذه الكلمة تعينها يعرض على النفس الإنساني ، والكلمة الروحانية تعينها يعرض على النفس الرحماني . وبهذا الاعتبار تسمى الأرواح ، بل الموجودات كلها ، بكلمات الله . كما مر بيانه في صدر الكتاب .



( وهو قوله : " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " . ) الضمير عائد إلى ( كلام الله ) أي ، ذلك الكلام المنقول مثل قوله تعالى : ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) .
وإنما أتى بالآية المعينة ، لكونها دالة على ما هو في صدد بيانه .
وتلك الكلمة المنقولة هو الذي قال تعالى عنه : ( وكلمته ألقاها إلى مريم ) .
وتذكير الضمير باعتبار المعنى وهو عيسى ، عليه السلام . أو يكون عائدا إلى ( النقل ) الذي يتضمنه قوله : ( ناقلا ) . أي ، وذلك النقل ثابت بقوله تعالى : ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) . وهذا أنسب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسرت الشهوة في مريم وخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم ومن ماء متوهم من جبرئيل . سرى في رطوبة ذلك النفخ من الجسم ، لأن النفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه من ركن الماء . )
اعلم ، أن للشهوة روحا معنويا  وهي المحبة الذاتية التي كانت سببا لوجود العالم ، كما قال : ( فأحببت أن أعرف ) .
فلما تعلق إرادة الله بإيجاد عيسى عليه السلام ، من مريم ، تحرك الشهوة الكامنة فيها بأمر الله ، ونفخ الروح الأمين حين تمثله بالصورة البشرية فيها ماء يشبه البحار ، فإن في النفس أجزاء صغارا مائية مختلطة بالأجزاء الهوائية ، فخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم ، ومن ماء متوهم من جبرئيل .

وإنما جعله متوهما ، لأن النافخ روح متمثل ، والمنفوخ أيضا معنى جزئي تمثل بصورة بخار الحسى في العالم المثالي ، ومن شأن الوهم إدراك المعاني الجزئية ، فكان متوهما : لا محسوسا محضا ولا معقولا صرفا .
وأيضا ، أن مريم لما شاهدت عرفا أن الإنسان لا يتولد إلا من منى الرجل والمرأة ، توهمت أن لهذا المتمثل ماء كماء المولد للولد ، فتأثرت تأثرا تاما بوهمها ، فحصل جسم عيسى .
فعلى الأول تكون جسمه منهما ،
وعلى الثاني تكون من الماء المحقق ، والماء والمتوهم كالشرط لذلك التكون . وأطلق التكون منهما مجازا .

فإن قلت : كيف يمكن حصول الولد من ماء الأنثى وحده ، وليس لها حرارة تامة صالحة للتولد وهي من شروط التكوين ؟
وأيضا ، منى الرجل كالبذر الذي به يتولد الولد ، فعند عدمه لا يمكن حصول الولد .
قلت : لم لا يجوز أن يفيض عليها عند ظهور الروح الأمين عندها من الله تلك الحرارة الغريزية الصالحة للتوليد ؟ خصوصا عند إرادة الحق تعالى منها ذلك .
وقد قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبد خيرا هيأ أسبابه ) .
بل في قدرة القادر المطلق أن يوجد من غير وجود الوالدين ، كآدم وعزير ، ومن غير وجود المرأة ، كايجاد حوا من آدم .

وكون منى الرجل كالبذر لا ينافي أن يكون منى المرأة أيضا ذلك البذر .
ولا دليل لأحد على عدمه ، بل الدليل ثابت على وجوده .
وهو أن لنفس كل منهما قوة ما يولد المثل ، فالمني الذي حصل منها إن لم تكن صالحا لتوليد المثل ، لا يكون فيها تلك القوة .
غاية ما في الباب ، أن تلك القوة في نفس الرجل أقوى ، وقد يكون نفس المرأة أقوى تأثيرا من نفوس كثيرة من الرجال ، خصوصا إذا صارت مرأة للتجليات الإلهية .
فإذا أرادت النفس التي هذا شأنها حصول النتيجة ، أثرت في بدنها ، فحصلت الحرارة الغريزية الصالحة للتوليد .
كما مر أن العارف بهمته يخلق ما يشاء ، لكونه متصفا بالصفات الإلهية ، والعادة التي هي السنة الإلهية لا تمنع القدرة الخارقة لها .
فبولادة عيسى من غير أب ثبت الأقسام الأربعة التي للولادة : وهو حصول الولد من غير أبوين ، وحصوله بهما ، وبالذكر وحده ، وبالأنثى وحدها .
( فسبحان الذي هو على كل شئ قدير . فتكون جسم عيسى من ماء متوهم وماء محقق ).

) قوله : ) وخرج على صورة البشر من أجل أمه ومن أجل تمثل جبرئيل في صورة البشر حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد .
) جواب سؤال مقدر . وهو قول القائل : لما كان النافخ جبرئيل ، والولد سر أبيه ، كان الواجب أن يظهر عيسى على صورة الروحانيين . فقال : إنما كان على صورة البشر ، لأن الماء المحقق كان من أمه وهي بشر ، ولأجل تمثل جبرئيل عند النفخ بالصورة البشرية والصور التي يشهدها المرأة ويتخيلها حال المواقعة ، لها تأثير عظيم في صورة الولد .
حتى قيل : إن امرأة ولدت ولدا صورته صورة البشر وجسمه جسم الحية . ولما سئل عنها ، أخبرت بأنها حين المواقعة رأت حية .

ثم علل الشيخ تمثل جبرئيل بصورة البشر بقوله : ( حتى لا يقع التكوين )
أي ، الإيجاد في هذا النوع ، إلا على السنة المعتادة . وأيضا ، الصورة الإنسانية هي أشرف الصور . وأيضا ، لو كان على صورة غيرها ، لما حصلت المناسبة بينه وبين العباد المبعوث إليهم ، لكنه واجب أن يخلق عليها للدعوة ، كما قال : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) .
(فخرج عيسى يحيى الموتى ، لأنه روح إلهي ، وكان الإحياء لله والنفخ لعيسى ،
كما كان النفخ لجبرئيل والكلمة لله . )
لما كان وجود عيسى ، عليه السلام ، بالنفخ الجبرئيلي بلا واسطة أب بشرى وروحه فائضا من الحضرة الإلهية بلا واسطة روح من الأرواح أو اسم من الأسماء ، حصل في الوجود الخارجي متصفا بالصفة  الإلهية ، وهو إحياء الموتى ، لغلبة لاهوته على ناسوته وروحانيته على جسمانيته حتى قيل فيه إنه ( روح الله ) . ولذلك ارتفع إلى السماء مقام الملائكة .

وإنما أضاف ( الإحياء ) إلى ( الله ) و ( النفخ ) بعيسى ، وإن كان في الظاهر لا يحصل إلا منه ، لأن الصفات الكمالية بالأصالة لله وبالتعبية لغيره ، لذلك أضاف ( النفخ ) إلى جبرئيل ، وأضاف ( الكلمة ) إلى الله .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان إحياء عيسى ، عليه السلام ، للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر عن نفخة ، كما ظهر هو عن صورة أمه . وكان إحياؤه أيضا متوهما أنه منه ، وإنما كان لله .
فجمع بحقيقته التي خلق عليها . كما قلناه أنه مخلوق من ماء متوهم ومن ماء محقق ، ينسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه ، وبطريق التوهم من وجه . )
أي ، الإحياء تارة ينسب إلى عيسى ، عليه السلام ، من حيث إنه يظهر من نفخه وحصل من مظهره ، وكان هو السبب القريب فيه على سبيل الحقيقة .
فمن هذه الحيثية يكون إحياؤه إحياء محققا ، كما كان في أصل خلقته ماء محقق وهو ماء مريم ، لأنه منها ظهر بحسب الصورة الحسية .
وأخرى نسب إلى الله على الحقيقة ، لأن الفاعل الحقيقي وصاحب الصفات الكمالية هو الله لا غيره .
فإحياؤه إحياء متوهم ، كما كان في أصل خلقته ماء متوهم . فجمع عيسى بما في حقيقته التي خلق عليها من الماء المحقق والماء المتوهم هذين الوجهين فيما حصل منه من الإحياء وخلق الطير ، فينسب إليه الإحياء تارة على سبيل الحقيقة ، وأخرى على سبيل المجاز .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقيل فيه من طريق التحقيق : " ويحيى الموتى " ، وقيل فيه من طريق التوهم " فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله " . فالعامل في المجرور ، " فيكون " لا " تنفخ " . و يحتمل أن يكون العامل فيه " تنفخ " ، فيكون طيرا . )
أي ، قال تعالى في حقه : "ويحيى الموتى " . ونسب الإحياء إليه وأضافه بطريق التحقيق ، وإن كان من حيث إنه آلة والفاعل على الحقيقة والمحيي للأموات هو الله ، فنسبة الإحياء إليه بطريق التوهم ، وخلق الطير ينسب إليه بطريق التحقيق ، وبطريق التوهم .
كما قال أيضا في حقه : ( فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ) ومتعلق بإذن الله .
والعامل فيه يجوز أن يكون ( فيكون ) ، ويجوز أن يكون ( فتنفخ ) . وعلى الأول ، فيكون النفخ من عيسى والكون من الطير بإذن الله وأمره . كما مر في ( الفص اللوطي ) أن الأمر من الله والتكون من نفس المأمور ب‍ ( كن ) . أو من أمر الله . وعلى التقديرين ، لا يكون من عيسى إلا النفخ فقط . وعلى الثاني ، يكون الخلق منه حين كونه مأذونا به . فاجتمع فيما صدر منه من الإحياء والخلق جهتا التحقيق والتوهم ، كما اجتمع فيما خلق منه .

وقوله : ( من حيث صورته الحسية الجسمية ) قيل معناه : إنه يكون من حيث صورته طيرا ، ولا يكون طيرا بالحقيقة وفيه نظر .
لأن المخلوق الطير بالحقيقة وهو الخفاش لا صورة الطير ، وليس جعل صورة الطير مجردا عن روحه مما يعد من المعجزات .
بل معناه : فيكون طائرا محققا صادرا من عيسى من حيث صورته المحققة في الحس ، لأن كلامه حينئذ في إثبات كونه محققا .
كما قال هذا القائل : ( وإن جعلنا العامل ينفخ ، كان الموجب لكونه طيرا هو نفخ عيسى
بإذن الله ) .
وإذن الله لعبده في الإتيان بخوارق العادات قسمان : ذاتي قديم ، وعرضي حادث أما الأول .
فهو جعل الحق عين العبد مستعدا قابلا للتصرف  في الوجود العيني على سبيل الخرق عند تجليه بفيضه الأقدس الموجب لتعين الأعيان في العلم أزلا . وأما الثاني ، فهو تمكين العبد من التصرف مع إلهام قلبي أو وحى نازل لذلك التصرف حين حصول الوقت المقدر ، وجميع شرائطه بفيضه المقدس .
فلا ينبغي أن يتصور أن الإذن هو الأمر بالتصرف ، سواء كان مستعدا له أولا . فإن روح ذلك الأمر أيضا هو الاستعداد الذاتي الذي يستدعى بلسان الحال من الله إظهار كماله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وكذلك " تبرئ الأكمه والأبرص " وجميع ما ينسب إليه وإلى إذن الله . )
وكذلك جميع ما ينسب إلى عيسى من خوارق العادات من إبراء الأكمه والأبرص وغيرهما ، يشتمل على الجهتين المذكورتين ، أي ، جهة التحقق وجهة التوهم .
لذلك جاء في الكل ( بإذن الله ) أو ( بإذني ) كما قال : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ) .
وهو المراد بقوله : ( أو إذن الكناية في مثل قوله تعالى : " بإذني وبإذن الله " فإذا تعلق المجرور ب‍ ( تنفخ ) فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ، ويكون ) أي ، تحصل .
( الطائر على النافخ بإذن الله . ) هذا إشارة إلى الجهة المحققة كما مر بيانها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن ، فيكون التكوين للطائر طيرا بإذن الله . ) أي ، يكون عين الطائر نفسه في الخارج . كما مرت الإشارة إليه من أن الأمر من الله ، والتكوين من نفس الشئ المكون .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيكون العامل عند ذلك "فيكون" . فلولا أن في الأمر توهما وتحققا ، ما قبلت هذه الصورة هذين الوجهين . ) أي ، ولولا أن في أصل الخلقة العيسوية - وهو المراد ب‍ ( الأمر ) - جهتا التوهم والتحقق ، ما قبلت صورة عيسى لهذين الوجهين .
( بل لها هذان الوجهان ، لأن النشأة العيسوية تعطى ذلك . ) ظاهر مما مر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وخرج عيسى من التواضع إلى أن شرع لأمته أن " يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " ، وأن أحدهم إذا لطم في خده ، وضع الخد الآخر لمن يلطمه ، ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه . هذا له من جهة أمه ، إذ المرأة لها السفل ، فلها التواضع ، لأنها تحت الرجل حكما وحسا.)
إنما قال : ( شرع لأمته ) على صيغة الماضي ، والمشرع لها رسول الله ، عليه السلام ، لأنه حين نزوله من السماء لا بد أن يقرر أمر الجزية ، كما شرع عليهم رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، فهو بمعنى المضارع .
ومثله قوله تعالى : ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ) . أي ، ينادى في الآخرة . وذلك لأن ما هو ثابت في علم الله لا بد أن يكون ، فهو بمنزلة ما كان وتحقق .

وفيه سر آخر يظهر لمن عرف أحوال الكمل ودرجاتهم . والمراد أنه لما كان عيسى ، عليه السلام ، من ماء مريم ، وهي الجهة المتحققة في أصل خلقته ، خرج في غاية التواضع إلى أن يشرع لأمته ، أي ، تقرر حكم الشريعة المحمدية لأمته عند نزوله أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون متواضعون جاعلون لأنفسهم حقيرا منقادا ، كما قرر لأمته أنه إذا لطم أحدهم في خده ، يدير الخد الآخر ليلطمه ، و لا يطلب الارتفاع على اللاطم ولا القصاص منه ، لأن المرأة تحت الرجل ( حكما ) .
كما قال تعالى : ( الرجال قوامون على النساء وللرجال عليهن درجة وللذكر مثل حظ الأنثيين ) . و ( حسا ) كما يتصرف الرجل فيها تصرف الملاك في أملاكهم ، فسرى أحكامها في ابنها وأمته  

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما كان فيه من قوة الإحياء والإبراء، فمن جهة نفخ جبرئيل في صورة البشر، فكان عيسى يحيى الموتى بصورة البشر . ).
أي ، قوة الإحياء والإبراء التي كانت في عيسى ، عليه السلام ، هي مستفاد من نفخ جبرئيل في مريم ، عليها سلام الله ، حين تمثل في صورة البشر ، كما استفاد التواضع من مريم ، فإن الهيئات الغالبة على نفوس الوالدين حال اجتماعهما مؤثرة في نفس الولد وسارية فيها .
فكذلك ظهر عيسى بحيث يحيى الموتى وتبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، كما ظهر
من جهة أمه متواضعا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو لم يأت جبرئيل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية ، من حيوان أو نبات أو جماد ، لكان عيسى ، عليه السلام ، لا يحيى الموتى إلا حين يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها . )
أي ، ولو أتى جبرئيل على صورة غير الصور الإنسانية ، لكان عيسى يظهر بتلك الصورة ، إذ الولد أكثر مشابهة لوالده من غيره .
أو حين الإحياء ، كما يظهر بتلك الصورة ، ليؤثر ويتصرف في غيره ، لأن للصورة أيضا مدخلا في العلية . لذلك يخلق من نطفة الإنسان من هو على صورته ، ومن نطفة الحمار ما هو على صورته . فيتحفظ صور الأنواع بمراعاة الصور .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو أتى جبرئيل بصورته النورية الخارجة عن العناصر والأركان - إذ لا يخرج عن طبيعته - لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية ، لا العنصرية . )
أي ، لو ظهر جبرئيل بصورته النورية التي له في السدرة الخارجة عن طبيعة السماوات والعناصر - فإن كلها عنصرية - لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين تظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية ، لأن تلك الصورة أيضا جزء للعلة ، وهي له طبيعية ، والشئ لا يخرج عن طبيعته بمجرد تنزله إلى مرتبه ما هو تحته . ففي الكلام تقديم وتأخير .
هذا على أن ( إذ ) للتعليل . ويجوز أن يكون بمعنى ( حين ) ، فيكون إذ لا يخرج في موضعه . ومعناه
حينئذ : لو أتى جبرئيل بصورته النورية حين لا يخرج عن طبيعته النورية ولا يتمثل بالصورة العنصرية ، لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة .

(مع الصورة البشرية من جهة أمه ، فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى : هو لا هو . )
أي ، كان يظهر عيسى حين الإحياء في الصورة الطبيعية النورية مع الصورة البشرية المستفادة من جهة أمه ، فكان يقال فيه حينئذ : بشر وليس ببشر . كما قال الناظرون في يوسف ، عليه السلام : ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) . لغلبة النورية عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويقع الحيرة في النظر إليه ، كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا من البشر يحيى الموتى ، وهو من الخصائص الإلهية إحياء النطق لا إحياء الحيوان ، بقي الناظر حائرا . إذ يرى الصورة بشرا بالأثر الإلهي . )
( الباء ) في قوله : ( بالأثر ) باء الملابسة . أي ، ملتبسا بالأثر الإلهي . ومعناه : أنه لو كان
كذلك ، لوقع الناظر إليه في الحيرة ، كما تحير أرباب العقل عند النظر الفكري في
حاله . لأنهم رأوا شخصا بشريا بالصورة أحيا الموتى بقوله : ( قم بإذن الله ) . أو :
قم باسم الله .
( إحياء النطق ) أي ، إحياء للميت الناطق مع نطقه ، فقام الميت ناطقا ملبيا مجيبا لدعوته . لا إحياء كحياة الحيوان حتى يتحرك الميت في قبره ، أو يقوم منه ويمشي بحيث يعلم أنه حي مجردا عن النطق ، إذ لو كان كذلك ، لنسبوه إلى السيميا من النيرنجات والطلسمات وغيرهما .
فلما قام ونطق - كما جاء في قصته أنه أحيا سام بن نوح : فقام وشهد بنبوته ، ثم رجع على ما كان تحيروا في إحيائه ، لأنه من الخصائص الإلهية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول ، وأنه هو الله بما أحيا به الموتى . ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو الستر ، لأنهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى ، عليه السلام . )
أي ، فأدى نظر بعضهم فيه إلى القول بالحلول ، فقالوا : إن الله حل في صورة عيسى ، فأحيى الموتى . وقال بعضهم : إن المسيح هو الله . ولما ستروا الله بالصورة العيسوية المقيدة فقط ، نسبوا إلى الكفر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال الله تعالى : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم " . فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كله . ) أي ، جمعوا بين الكفر ، وهو ستر الحق بالصورة العيسوية ، وبين الخطأ ، وهو حصر هوية الله في كلمة العيسوية .
والمراد بقوله : ( في تمام الكلام ) أي ، بمجموع قولهم ، ( إن الله هو المسيح بن مريم ) .
جمعوا بين الكفر والخطأ .
( لا بقولهم هو الله ، ولا بقولهم ابن مريم . ) لأن قولهم : ( هو الله ) أو ( الله هو ) صادق من حيث إن هوية الحق هي التي تعينت وظهرت بالصورة العيسوية ، كما ظهرت بصورة العالم كله.
وقولهم : ( المسيح بن مريم ) أيضا صادق ، لأنه ابن مريم بلا شك ، لكن تمام الكلام ومجموعه غير صحيح ، لأنه يفيد حصر الحق في صورة عيسى ، وهو باطل ، لأن العالم كله غيبا وشهادة صورته ، لا عيسى فقط . "بل احدي تجلياته في صوره تعالي اللانهائية "

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعدلوا بالتضمين من الله من حيث أحيا الموتى إلى الصورة الناسوتية البشرية بقولهم :" ابن مريم " وهو " ابن مريم " بلا شك ) .
( من الله ) متعلق بقوله : ( فعدلوا ) . و ( الباء ) في قوله : ( بالتضمين ) بمعنى ( مع ) . أي ، فعدلوا من الله إلى الصورة البشرية مع تضمينه فيها من حيث إنه إحياء الموتى ، فقالوا : ( المسيح بن مريم ) .
وهو ابن مريم بلا شك ، كما قالوا ، لكن جعلوا الله في ضمن صورته ، وهو القول بالحلول 

(فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية للصورة وجعلوها عين الصورة . وما فعلوا ، بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصورة والحكم . )
أي ، تخيل السامع أن الذين قالوا بالحلول ، نسبوا الألوهية إلى الصورة العيسوية وجعلوا الألوهية عين تلك الصورة . وليس كذلك .
بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء حالة في الصورة البشرية التي لعيسى ، وتلك الصورة هي ابن مريم ، فالقائلون بالحلول فصلوا أولا بين الصورة وبين الإلهية في الحكم ، أي ، بين الحكم عليها بأنها إله .
أو بين الحكم ، أي ، بين المحكوم عليه وهو الهوية الإلهية . ف‍ ( الحكم ) مستعمل بمعنى المحكوم عليه ، كما يستعمل بمعنى المحكوم به .

( إلا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) أي ، فصلوا بين الصورة وبين الهوية الإلهية ابتداء ، إلا أنهم جعلوا الصورة في ثاني الحال عين تلك الهوية في الحمل بقولهم : ( إن الله هو المسيح بن مريم ) . لأن المحمول عين الموضوع في الحمل بالمواطاة .
فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية إلى الصورة العيسوية ، فحصروها في تلك الصورة . وهو الخطاء .
وقوله : ( عين الحكم ) أي ، جعلوا الصورة عين ما وقع الحكم عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما كان جبرئيل في صورة البشر ولا نفخ ، ثم نفخ ففصل بين الصورة والنفخ ، وكان النفخ من الصورة ، فقد كانت ولا نفخ . )
أي ، كانت الهوية الإلهية وما كانت الصورة العيسوية ، وكانت الصورة العيسوية ، وما كان الإحياء .
كما كان جبرئيل متمثلا في صورة البشر وما كان النفخ حاصلا ، ثم نفخ ، فحصل الفصل بين الصورة والنفخ بأن كانت الصورة موجودة ولا نفخ ، وإن كان النفخ حاصلا من الصورة .
( فما هو النفخ من حدها الذاتي ) ، ( ما ) بمعنى ( ليس ) . والضمير للفصل .
أي ، فليس النفخ من الحدود الذاتية للصورة وأجزائها ، لتحقق الصورة قبل وجود النفخ .
وكذلك الصورة العيسوية ليست من الحدود الذاتية للهوية الإلهية ، لتحقق الهوية قبل تلك الصورة ، وليس الإحياء أيضا من ذاتيات الصورة العيسوية ، لتحققها مع عدم الإحياء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟ فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية ، فيقول هو ابن مريم . ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية ، فينسبه لجبرئيل . ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى ، فينسبه إلى الله تعالى بالروحية ، فيقول روح الله ، أي ، به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه .
فتارة يكون الحق فيه متوهما - اسم مفعول - وتارة يكون الملك فيه متوهما ، وتارة
يكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة ، فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه . فهو كلمة الله ، وهو روح الله ، وهو عبد الله . ) كله ظاهر .
(وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره ، بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري ، لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية . )
أي ، وليس ذلك الخلاف والتوهمات لغير عيسى في الصورة الحسية ، وإن كان النافخ لأرواحهم الحق تعالى أو الملك .
بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى من نفخ أرواحهم في صورهم ، وإن كان وقع الإحياء وغيره من خوارق العادات على أيدي عباد الله من الأولياء والأنبياء أحيانا . أو وليس مثل ذلك النفخ لغير عيسى ليقع فيه الخلاف كما وقع في عيسى .
وتعليله بقوله : ( فإن الله ) يدل على الثاني . وقوله : ( وغيره ، كما ذكرناه ، لم يكن مثله ) تصريح بأن المراد هو الثاني .
(فإن الله إذا سوى الجسم الإنساني ، كما قال : ( فإذا سويته ) ، نفخ فيه هو تعالى من روحه ) تقدير الكلام : فإن الله إذا سوى الجسم الإنساني ، نفخ فيه كما قال : ( فإذا سويته ) - الآية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فنسب الروح في كونه وعينه إليه تعالى . وعيسى ليس كذلك ، فإنه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي ،وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله.)
 تعليل لقوله : ( وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره ) لأن الله إذا سوى جسم آدم ، نفخ فيه الروح ، كما قال : ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) .
فنسب ( الروح ) في كونه ، أي وجوده وعينه ، إلى الله تعالى . وجميع أولاد آدم أيضا كذلك : فإن تسوية أبدانهم قبل نفخ أرواحهم . وتسوية جسم عيسى وصورته البشرية ليست كذلك .
فإنها كانت مندرجة في النفخ الروحي بحيث لم يتميز بين أجزاء جسمه ، وهو الماء المحقق من ماء مريم والماء المتوهم من جبرئيل ، والروح المنفوخ في تلك الصورة العيسوية ، ولم يتقدم حصول جسمه على روحه ، فما كانت تسوية جسمه قبل النفخ ، كما كانت لغيره ، فحصل الفرق .
وليس في هذا الكلام إشارة إلى أن بدن عيسى بدن مثالي ، كما توهم بعضهم .
ولو كان اندراج الأجزاء المثالية الروحانية في الأجزاء الجسمانية موجبا لصيرورة البدن بدنا مثاليا ، لكانت أبداننا أيضا أبدانا مثالية ، إذ لا يمكن أن يوجد منها جزء مجرد عن الأجزاء الروحانية التي هي من جنس الجوهر المثالي ، وهي الروح الساري في أجزاء البدن .

( فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد ، فإنها عن ( كن ) ، و( كن ) كلمة الله . )
لما كان كلامه في عيسى وأنه كلمة من كلماته تعالى الصادرة بقول ( كن ) ، أعقب بأن الموجودات كلها كلمات الله التي لا نهاية لها ، فإنها كلها صادرة عن قول ( كن ) .
كما قال : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )  و ( كن ) أيضا كلمته ، إلا أنه أصل لتكوين غيرها من الكلمات .
والفرق بينه وبين غيره من الكلمات ، أنه كلمة قولية صادرة من الاسم ( المتكلم ) ، وغيره كلمة
وجودية . وإطلاق الكلمات عليها مجاز ، من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب بهذا الاعتبار.
وإن كان باعتبار آخر على الحقيقة ، وهو : أن كلا من الكلمات القولية والوجودية عبارة عن تعينات واقعة على النفس ، إذا القولية واقعة على النفس الإنسانية ، والوجودية على النفس الرحماني .  كما مر في صدر الكتاب وسيأتي في هذا الفص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه ، فلا تعلم نفس ماهيتها ؟ أو تنزل هو تعالى إلى صورة من يقول ( كن ) فيكون . قول (كن) حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها. )
( اللام ) في ( الكلمة ) للعهد ، والمعهود كلمة ( كن ) ، وضمير ( إليه ) عائد إلى الحق .
وقوله : ( فلا تعلم ) وقوله ( فيكون ) جواب للشرط المقدر .
معناه : هل تنسب كلمة ( كن ) إلى الله تعالى بحسب ما هو عليه في مرتبة إلهيته ؟ أو تنسب إليه بحسب تنزله تعالى إلى مرتبة الأكوان .
فإن كان بحسب ما عليه الحق في مقام إلهيته ، فلا يعلم مهية كلمة ( كن ) ، لأن كلامه عين ذاته
ومهية الذات غير معلومة لبشر .
وإن كان بحسب تنزله إلى مرتبة الأكوان ، إلى صورة من يقول ( كن ) ، فيكون قول ( كن ) حقيقة ، أي ، حقيقة تابعة لتلك الصورة القائلة ب‍ ( كن ) التي نزل الحق إليها وظهر فيها وتكلم بكن ، فأحيا الأموات وخلق الطير ، لأن الهوية الإلهية هي التي ظهرت في تلك الصورة ،
وأظهرت بعض صفاتها المختصة بمقام الإلهية لا غيرها .
( فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ) وهو أن الله هو المتكلم بكلمة ( كن ) ، وهو المحيى والخالق لا غيره .
( وبعضهم إلى الطرف الآخر ) وهو أن المتكلم بكلمة (كن) والمحيي والخالق هو العبد بإذن الله.
( وبعضهم يحار في الأمر ولا يدرى . ) كالعارف الذي لا يميز بين المراتب ويعلم حقيقة القولين ، فيحار في النسبة ، لأنه يعلم أن الإحياء من خصائص الله ويشاهد صدوره من العبد وهو مؤمن به ، فلا يقدر أن ينسبه إلى الله تعالى ولا إلى العبد ، إذ لا ذوق للحائر منه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلا ذوقا . كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها ، فحييت ، فعلم عند ذلك بمن ينفخ ، فنفخ فكان عيسوي المشهد . )
إنما كانت المسألة لا تعرف إلا بالذوق ، لأن المدرك لا يدرك شيئا كان ما كان إلا بما منه
فيه . ومن لا يكون عنده من قوة الإحياء والخلق ، لا يقدر على إدراكه ذوقا .
فإن التعريفات لا تنتج إلا بالتصور وهو غير كاف في إدراك الحقائق ووجدانها ، خصوصا في الكيفيا ، لأنها لا تحصل إلا بالذوق والوجدان . كما لا يمكن معرفة لذة الوقاع إلا بالذوق .
وإذا حصل إدراكه ذوقا لأحد ، يعلم ذوقا من النافخ : عينه أو ربه .
وفي قوله : ( فكان عيسوي المشهد ) إشارة إلى أن كل من حصل له هذا المقام من الأولياء ، يكون ذلك بواسطة روحانية عيسى ، عليه السلام .
( وأما الإحياء المعنوي بالعلم ، فتلك الحياة الإلهية الذاتية العلية النورية التي قال الله فيها : " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " . فكل من يحيى نفسا ميتة بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقه بالعلم بالله ، فقد أحياه بها ، وكانت له نورا يمشى به في الناس ، أي ، بين أشكاله في الصورة . )
إنما جعل الحياة الحاصلة بالعلم حياة إلهية ذاتية ، لأن حقيقة العلم عين الذات ، وكذلك حقيقة الحياة أيضا . فالعلم والحياة في المرتبة الأحدية شئ واحد .

ولما كان العلم أشرف الصفات الإلهية - إذ به تظهر الحقائق الإلهية والكونية - وصفه بالعلو .
ومن حيث إنه يظهر الأشياء ، وصفه بالنورية ، إذ النور هو ما يظهر بنفسه ويظهر لغيره . ووصفه رضي الله عنه  إياها بالصفات الكمالية إشارة إلى أن الحياة العلمية أشرف من الحياة الحسية ، لأنها حياة الروح ، والحياة الحسية حياة الجسد ، والروح أشرف من الجسد ، فحياته أيضا كذلك .
لكن الحسية أوقع في النفوس من العلمية ، لأنها مترتبة على القدرة التامة التي هي أيضا من الخصائص الإلهية ، لذلك صار أعز وجودا وأعظم وقعا .
ولما كان للعلم مراتب ، وأعظمها العلم بالله وأسمائه وصفاته ، خصه بالذكر ، وإن كان بحسب كل منها يحصل حياة مناسبة لها .
وقد أعطى الله أولياءه الكمل نصيبا تاما من الحياة العلمية ، ليفيضوا على نفوس المستعدين المؤمنين بهم منها ، فيحيونهم بالنور الإلهي ويمشون به في الناس .
كما قال : ( أو من كان ميتا ) أي ، بموت الجهل . ( فأحييناه ) أي ، بالحياة العلمية ( وجعلنا له نورا ) وهو العلم .
( يمشى به في الناس ) فيدرك ما في بواطنهم من استعداداتهم وخواطرهم ونياتهم ، وما في ظواهرهم من أعمالهم المخفية من الناس بذلك النور .
وقوله : ( أي بين أشكاله في الصورة ) المراد بالشكل ماله التشكل ، وهو البدن . أي ،ذلك النور يسرى بين أبدان الناس ، فيدرك ما فيها من النفوس ولوازمها واستعداداتها التي لا يطلع عليها إلا من شاء الله من الكمل .

ويجوز أن يكون المراد منها الهيئات والأوضاع التي للبدن الظاهرة في الصورة الإنسانية ، إذا المتفرسون يدركون منها ما في نفوسها وقواها وما هي عليها من الأعمال والأفعال .
ولما ذكر إن الإحياء الحسى والمعنوي إما من الله بواسطة الصورة الإنسانية وإما من العبد بإذن الله وأمره ، أعقب بقوله شعر :
(فلولاه ولو لأنا   ......   لما كان الذي كانا )
أي ، فلو لا الحق الذي هو منبع القوى والقدرة ومعدن الكمالات الظاهرة في البشر المفيض بأسمائه وصفاته الأنوار في العالم ، ولولا أعيان الثابتة في العدم ، لما حصل في الوجود ما حصل ، ولا ظهر في الكون ما ظهر .
والمراد بقوله : ( ولولا نا ) ليس الإنسان فقط ، بل أعيان العالم كله .

(فإنا أعبد حقا   ......   وإن الله مولانا )
لقبول ما يفيض علينا وإظهار صفاته الغيبية فينا ، والعبودية تطلب الربوبية ، فربنا ومولانا المفيض علينا الصفا ت الكمالية هو الله لا سواه . وإنما جاء بالاسم ( الله ) دون غيره من الأسماء ، لأنه هو الاسم الجامع للأسماء كلها ، والعالم بأسره مظاهره .
( وإنا عينه فاعلم  ......  إذا ما قلت إنسانا )
أي ، إنا وأعيان العالم عين الله ، لأنها أسماؤه ، والأسماء من وجه عين المسمى ، وهو من وجه ( الأحدية ) . كما مر في المقدمات .
ومعنى ( إذا ما قلت إنسانا ) أي ، إذا جعلت العالم من حيث أحدية جمعه ، مسمى بالإنسان لكبير ، وإنا عين الله ، إذا ما قلت إنه هو الذي ظهر بصورة الإنسان الكامل ، فيسمى باسم الإنسان .
كما قال - شعر :
( سبحان من أظهر ناسوته  .....  سر سنا لاهوته الثاقب )
( ثم بدأ في خلقه ظاهرا  ..... في صورة الآكل والشارب )  
لأنا مشتركون في الحقيقة الإنسانية مع الكامل .
فقوله : ( إنا ) يكون عن لسان أفراد الإنسان ، لا العالم .
( فلا تحجب بإنسان  ......    فقد أعطاك برهانا )
على صيغة المبنى للمفعول . أي ، فلا يحجبنك أحد بأنك مسمى بالإنسان ، والحق مسمى بالله . أو على صيغة المبنى للفاعل . أي ، فلا يحجب نفسك بأن تجعلها مسمى بالإنسان ، وتجعل الحق : مسمى بالله .
( فقد أعطاك ) البرهان الكشفي إنك عينه باعتبار الحقيقة ، وغيره باعتبار التعين والتقيد . وأعطاك البرهان النقلي إنك عينه ، كما قال : ( كنت سمعه وبصره ) - الحديث . وقال : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شئ عليم ) . وغير ذلك من الأخبار الواردة فيه .
( فكن حقا وكن خلقا  ......    تكن بالله رحمانا )
أي ، فكن حقا باعتبار روحك ، وخلقا باعتبار جسدك . أو فكن حقا باعتبار حقيقتك الجامعة للحقائق كلها الإلهية والكونية ، وكن خلقا باعتبار تعينك وتقيدك وكونك مظهرا للصفات الإلهية . تكن بالله عام الرحمة على العالم ، إذ بواسطتك يحصل له ما فيه من كمالاته دنيا وآخرة ، علما وعينا ، فتكون عين اسم ( الرحمان ) المشتمل على الأسماء .
( وغذ خلقه منه  ......  تكن روحا وريحانا  )
قد مر مرارا أن الحق غذاء الخلق من حيث وجودهم وبقائهم وجميع كمالاتهم ، إذ الحق هو الذي يختفي في صورة الخلق اختفاء الغذاء في المغتذى .
وبقاء الخلق بالحق ، كبقاء المغتذى بالغذاء . والخلق غذاء الحق من حيث إظهار أحكام أسمائه وصفاته ، إذ بالخلق تظهر الأحكام الأسمائية ، وبهم بقاؤها ، ولولا الخلق ، ما كان له أسماء وصفات .

فضمير ( خلقه ) و ( منه ) عائد إلى الله تعالى . أي ، غذاء العالم من وجود الحق بأسمائه وصفاته ، لأنك خليفة في ملكه . تكن ذا روح وراحة ، لأنك حينئذ تكون رحمة للعالمين ، فتستريح من أنفاسك الأرواح وتشم من نفحات عطرك الأشباح ، فتكون ريحانا للعالم بروحك ، وراحة للأكوان بعينك ، وأمانا  للخلق بوجودك ، فإن الدنيا لا تخرب ما دام كونك فيه .
قال تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) . والخطاب للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، وللوارثين نصيب منه  
( فأعطيناه ما يبدو  ......    به فينا وأعطانا )
أي ، فأعطيناه الحق ما يظهر بوجوده فينا من الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات الكمالية . فأعطيناه إياها برجوعنا إليه وفناءنا فيه ذاتا وصفة وفعلا ، كما قال : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) .
وأعطانا ما علم وظهر له من أعياننا من الإمكان والحدوث والفقر والعجز ، وفي الجملة ، ما طلبت استعداداتنا من صفات الكمال والنقصان بإيجادها وإظهارها في الوجود الخارجي  

(فصار الأمر مقسوما   .......      بإياه وإيانا )
أي ، فصار الأمر الوجودي منقسما بما أعطيناه إياه من أحوالنا التي كنا عليها حال كوننا معدومين ، وبما أعطاه إيانا من الوجود والكمالات اللازمة له مع مقتضى أعياننا .
( فأحياه الذي يدرى ....   بقلبي حين أحيانا )
أي ، أحيا قلبي بالحياة العلمية الذي هو عالم به واستعداده الحاصل له في الأزل حين أحيا أرواحنا وقلوبنا بالحياة الذاتية الحسية .

تقديره :
( الذي يدرى بقلبي   ..... أحياه حين أحيانا )
( فكنا فيه أكوانا  .....   وأعيانا وأزمانا )
أي ، فكنا في غيب الحق وفي علمه أعيانا ثابتة ، وفي عالم الأرواح أكوانا موجودة
مبدعة ، وكنا عند نزولنا إلى غيوب السماوات والأرض ومرورنا بهذه المنازل
وغيرها من منازل المعادن والنباتات والحيوانات إلى حين الوصول إلى هذه الصورة
الإنسانية أزمانا ودهورا في الغيب حتى ظهرنا في هذه الدار .
ولما ذكر كوننا في علم الحق ومراتب غيوبه وشهاداته دائما ، ذكر ما يتعلق
بطرف الحق أيضا بقوله :
(وليس بدائم فينا  .....   ولكن ذاك أحيانا )
أي ، وليس الحق بحسب ظهوره وتجليه بدائم فينا ، ولكن ذاك أحيانا يحصل لقلوبنا استعداد ذلك التجلي الذي به يحصل الشهود والعلم الحقيقي الموجب للحياة الروحانية ، وبه يصير الحق سمع العبد وبصره وجوارحه ، والعبد سمع الحق وبصره وباقي صفاته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري ، هو أن الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني ، ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما يستلزمه تلك الصفة ، وقد عرفت أن النفس في المتنفس ما يستلزمه ، فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم ، فهو لها كالجوهر الهيولاني ، وليس إلا عين الطبيعة.)
يريد أن يؤكد ما قرره أولا من أن الروح الأمين نفخ الروح العيسوي مع صورة البشر العنصري ، لا أنها كانت مسواة قبل النفخ ، فنفخ ، كما لغيره من آدم وأولاده .
وقد مر مرارا أن ( النفس الرحماني ) هو التجلي الوجودي الذي يتعين ويصير أعيانا موجودة ، أرواحا كانت أو أجساما .
وهو العين الجوهر القابل للصور الروحانية والجسمانية . ولا بد لكل ملزوم إذا استلزم شيئا ، أن يستلزم توابع ذلك الشئ أيضا ، لعدم انفكاك اللازم عن ملزومه ، وقد علمت أن النفس في المتنفس ، أي الإنسان ، ما يستلزمه ، أي أي شئ يستلزمه ، أي ، علمت أنه يستلزم إزالة الكرب ووجدان الراحة ، وظهور الكلمات والكمالات النطقية وغيرها ، فوصف الحق نفسه بالنفس ، وصف منه نفسه بجميع لوازم النفس .

وليس ذلك النفس الذي أصل تلك اللوازم إلا عين الطبيعة في الحقيقة ، إذ بها يحصل الفعل والانفعال في الفواعل والقوابل وما يترتب عليهما ، وهي كالصور النوعية للنفس .
فهي أول تعين عرض على النفس ، ثم بواسطتها تتعين الحروف والكلمات الوجودية ، كما تعرض أولا على النفس الإنسانية الصوت ، ثم تتعين الحروف والكمالات بمرور النفس مع الصوت على مراتب يظهر فيها الحروف وهي المخارج .
فالطبيعة عبارة عندهم عن معنى روحاني سار في جميع الموجودات ، عقولا كانت أو نفوسا ، مجردة وغير مجردة أو أجساما ، وإن كانت عند أهل النظر عبارة عن القوة السارية في الأجسام ، بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعي .

فما عند أهل النظر نوع من تلك الطبيعة الكلية . وفي التحقيق نسبة الطبيعة الكلية إلى النفس الرحماني بعينها نسبة الصورة النوعية التي للجسم الكلى إلى الجسم ، فإنه نوع من أنواع الجوهر ، فلا بد له من الصورة النوعية والروحانية المقومة له ، والامتداد المطلق الذي هو الصورة الجسمية مستفاد منها .
فلذلك ، أي فلذلك الاستلزام للطبيعة الكلية ، قبل النفس الإلهي صور الموجودات الروحانية والجسمانية ، كما قيل : النفس صور الحروف ، والكلمات بواسطة الصوت.
  
( فهو لها ) أي ، فالنفس لصور العالم كالجوهر الهيولاني الذي للأجسام ، لأنها فائضة عليه متعينة فيه ، فليس ما يستلزم النفس الرحماني إلا عين الطبيعة الكلية والصور فائضة عليها ، فالعناصر أيضا صورة من صور الطبيعة كما يذكر ، وكان نفخ الروح الأمين نفسه فيها منضما مع الصورة العنصرية وهو المطلوب .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالعناصر صورة من صور الطبيعة وما فوق العناصر وما تولد عنها فهو أيضا من صور الطبيعة . )
أي ، الصور النوعية التي للعناصر ، روحانية كانت أو جسمانية ، هي من جملة الصور الفائضة على الطبيعة الكلية والصور التي فوق العناصر الأربعة ، كصور السماوات السبع ، وما تولد منها من صور الملائكة السماوية أيضا من صور الطبيعية .
فضمير ( عنها ) راجع إلى ما أنثه باعتبار الكثرة التي في معناها ، وهي صور السماوات
وصور الملائكة المتولدة من السماوات . ويجوز أن يكون راجعا إلى ( العناصر ) .
ومعناه ، والصور التي فوق العناصر التي هي السماوات ، وفوق ما تولد من العناصر بعد وجود السماوات ، وهي الصور الملائكة السماوية ، فهي أيضا من صور الطبيعة .

ولما كانت السماوات وما تولد منها عنصرية وما فوقها من صورة العرش والكرسي والملائكة التي فيها طبيعة غير عنصرية ، قال : ( وهي الأرواح العلوية التي فوق السماوات السبع ) فالضمير عائد إلى الصور التي هي فوق العناصر والسماوات المعبر عنها بقوله .
( وأما فوق العناصر وما تولد عنها من صور الطبيعة ) أي ، الصور التي فوق السماوات ، هي صور الأرواح . أي ، الملائكة العلوية التي للعرش والكرسي وما فوقها من العقول والنفوس المجردة .
وإنما جعل السماوات داخلة في العناصر ، لتولدها منها ، كما جاء في الحديث : ( أنها خلقت من دخان ) . العناصر . وقال تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) .
لذلك قال : ( وأما أرواح السماوات السبع وأعيانها فهي عنصرية ، فإنها من دخان العناصر المتولد عنها . ) وإليه ذهب الحكماء الإسلاميون
والمحققون أصحاب الذوق والشهود وكثير من الحكماء الإشراقيين .
وأرواح السماوات نفوسها المنطبعة المدبرة لها ، لا عقولها ونفوسها المجردة ، فإنها من صور الطبيعية النورية العنصرية .
( وما تكون عن كل سماء من الملائكة فهو منها . ) ، ( تكون ) من ( التكون ) .
أو بالياء من ( الكون ). أي وما يكون عن جنس كل سماء ومادتها من الملائكة فهو من العناصر .
ولا ينبغي أن يتوهم أن المراد بالملائكة هنا نفوسها المنطبعة فقط ، فإن لكل سماء نفسا منطبعة ، وملائكة خلقها الله من مادة كل منها بحيث كادت لا يتناهى .

قال رضي الله عنه في الباب الثالث عشر من فتوحاته :
( ثم خلق جوف الكرسي أفلاكا فلكا من جوف فلك . وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه ، سماهم ( ملائكة ) يعنى رسلا .
( فهم عنصريون ومن فوقهم طبيعيون . ) أي ، الملائكة السماوية عنصريون ، ومن فوقهم من ملائكة العرش والكرسي ونفوسهما الناطقة والمنطبعة والعقول المجردة - كلها طبيعيون .
قال رضي الله عنه  في الباب الثالث عشر من فتوحاته :
( إن أول جسم خلقه الله أجسام أرواح الملائكة المهيمة في جلال الله . ومنهم العقل الأول والنفس
الكلية وإليها انتهت الأجسام النورية المخلوقة من نور الجلال . وما ثم ملك من هؤلاء الملائكة من وجد بواسطة غيره إلا النفس التي دون العقل .
وكل ملك خلق بعد هؤلاء ، فداخلون تحت حكم الطبيعة . فهم من جنس أفلاكها التي خلقوا منها وهم عمارها والمراد هاهنا بالطبيعة ، الطبيعة العنصرية .
لذلك قال : فهم من جنس أفلاكها . وبالجسم النوري الجسم الطبيعي الغير العنصري .
(ولهذا وصفهم الله ب‍ " الاختصام " ، " أعني الملأ الأعلى " لأن الطبيعة متقابلة ) أي ، ولأجل أن الملائكة التي فوق السماوات ، وهم الملأ الأعلى ، طبيعية ، وصفهم الله بالاختصام ، لأن الطبيعة متقابلة .

وذلك لأنها محل ولاية الأسماء ومظهر أحكامها . والأسماء الإلهية متقابلة : فإن ( الرحيم ) يقابل ( المنتقم ) ، ( القهار ) و ( المعز ) يقابل ( المذل ) . وكذلك جميع الأسماء .
ولما كانت الصفات المتقابلة التي في المرتبة الإلهية لا يظهر تقابلها إلا في مظاهرها - الموجودة في الخارج ومادة الوجود الخارجي التي منها يتعين الموجودات هو النفس الرحماني .
قال : ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب ، إنما أعطاه النفس . )
أي ، أظهره النفس بقابليته ، لأن التقابل غير حاصل في الأسماء ، ثم يحصل منه ، فإن التعينات الأسمائية في الحضرة الإلهية والعلمية يقتضى ذلك التقابل .
ولو لم يكن تقابلها في الباطن ، لم يكن أيضا في الظاهر ، إذا الظاهر صورة الباطن ، والوجود الخارجي يخرج ما في الباطن إلى الظاهر .
وكون أعيان السواد والبياض والحرارة والبرودة في الذهن مجتمعة ، لا يمنع تقابلها ، كما لا يمنع التقابل الذي بين النقيضين المجتمعين في العقل ، دون الخارج .
فلا يقال : الأسماء لا يتقابل إلا في صورها التي يتحقق بها حقائق تلك النسب ، ولولا وجوداتها بظهوراتها في الصور ، لم يتقابل ( ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم . )
أي ، عن حكم التقابل .
وهي الذات الإلهية من حيث المرتبة ( الأحدية ) . ( كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ؟ ) وقد مر في أول الكتاب أن الذات الإلهية من حيث أحديتها موصوفة بالغنى عن العالمين ، ومن حيث إلهيتها وأسمائها موصوفة بالافتقار حيث

قال : ( فالكل مفتقر   ......     ما الكل مستغن )
وهذا أيضا دليل على أن التقابل في الحضرة الأسمائية حاصل    

( فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم ، وليس إلا النفس الإلهي . )
أي ، فلهذا خرج العالم يتقابل بعضها بعضا ، كما يتقابل الأسماء بعضها بعضا .
فهو موجود على صورة من أوجدهم . وليس ذلك الموجود إلا ( النفس الرحماني ) .
وضمير المفعول في ( أوجدهم ) عائد إلى ( العالم ) . جمعه باعتبار ( الأعيان ) .
واعلم ، أن ظاهر هذا الكلام أن ( النفس الرحماني ) عين المرتبة الإلهية ، وفي الحقيقة هو التجلي الوجودي الظاهر عن المرتبة الإلهية ، وصورتها الحاملة أحكام الأسماء ، ولهذا نسب إلى ( الرحمان ) الذي هو الاسم الجامع .
ولما كان حاملا لما في المرتبة الإلهية من الأسماء وأحكامها وصورة كلية لها ، جعل النفس عين من أوجدهم ، كما يقال لنبينا ، صلى الله عليه وسلم ، الاسم الأعظم . وهو صاحبه ، لكونه مظهرا للإسم ( الله ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيما فيه من الحرارة علا ، وبما فيه من الرطوبة والبرودة سفل ، وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ، فالرسوب للبرودة والرطوبة . ألا ترى الطبيب إذا أراد سقى دواء لأحد ، ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه رسب ، علم أن النضج قد كمل ، فيسقيه الدواء ليسرع في النضج . وإنما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعية . )
ضمير ( فيه ) عائد إلى ( النفس ) . أي ، فيما فيه هذه الكيفيات المتقابلة المتضادة علا
بعض الأعيان لاقتضاء الاسم الحاكم عليه العلو ، كالنار والهواء والملائكة التي فيها ، وسفل بعضها لكون ربه طالبا للمركز في الوجود ، كالتراب . وإنما يحصل الرسوب في الماء المستشهد لأنه مشتمل على الأركان الأربعة .

فالأجزاء الصغار الأرضية إذا رسبت ، علم الطبيب أن الأخلاط البدنية استعدت أن ينفصل بعضها عن بعض ، وصارت قابلة للاندفاع ، وهو المراد ب‍ ( النضج ) .
فبالرطوبة يحصل السيلان ، وبالبرودة النزول ، إذ البرودة تكثفها ، فيندفع الطبيعة حينئذ ما زاد على الحاجة ويمسك ما يحتاج إليها .

واعلم ، أن كل من علم هذه المباحث النفسية ، ظهر له كون الخلأ ، محالا ، كما هو مقرر عند الحكماء أيضا ، إذ لو خلا النفس الرحماني عن الصورة ، لاندكت الجبال وانشقت السماء لتجلى الحق بارتفاع تلك الصورة الحجابية ، وظهر له وجود الهيولى الكلى ، وعروض الصور الروحانية والجسمانية عليه ، وكون الصور السماوية قابلة للتبديل والتغير بتجليه واظهاره لها مرة أخرى ، وكون الأبعاد غير متناهية ، إذا النفس الإلهي غير متناه .
كما قال : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ) . أي ، منقطعا . لكنه ما شاء انقطاعه ، فما انقطع ، وأن فوق الأطلس ، المسمى بالعرش الكريم ، أجسام نورية ، كالعرش المجيد وكرسيه والعرش العظيم ، كما صرح في الفتوحات بها .
ومنتهاها من هذا الطرف فلك الثوابت ومن الطرف الآخر هو الوجود البحت الحق والنور المطلق .
( فسبحان ربك رب العزة عما يصفون ) . وتعالى الله عما يقول الظالمون المحجوبون
علوا كبيرا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، إن هذا الشخص الإنساني عجن طينته بيديه ، وهما متقابلتان ، وإن كانت كلتا يديه يمينا ، فلا خفاء بما بينهما من الفرقان . ولو لم يكن إلا كونهما اثنين ، أعني يدين . )
لما ذكر أن الطبيعة متقابلة والأسماء الإلهية متقابلة - وكان عجن طينة آدم بيديه وهما متقابلتان - نقل الكلام إليه . وإنما كانت يداه متقابلتان ، لأنهما عبارة عن الصفات الجمالية والجلالية ، كالرضا والغضب واللطف والقهر .
وكونهما يمينا ، أي ، مباركا رحمانيا موصلا إلى الكمال ومتساويا في القدرة والقوة والتأثير ، والفرقان بينهما باقتضاء كل منهما صفة تقابل مقتضى الآخر ، وأقل مراتب الفرقان بينهما كون تعين أحدهما مغائرا لتعين الآخر ، ولذلك صار اثنين ، أي ( يدين ) .
ثم ، قال الشيخ رضي الله عنه : ( لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها ، وهي متقابلة ، فجاء باليدين)
تنبيها على أن المناسبة ثابتة بين العلة ومعلولها . فلما كان المعلول مقتضيا للتقابل بقابليته ، كانت العلة أيضا مقتضية له بفاعليتها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما أوجده باليدين ، سماه ( بشرا ) للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه. )
أي ، سماه ( بشرا ) في قوله : ( إني خالق بشرا من طين ) . لما باشره بيديه في خلقه .
وفيه إشارة إلى أن ( البشر ) مأخوذ من ( المباشرة ) ، كما يقال : يسمى ( الخمر ) خمرا لتخميره للعقل .
ولما علم أن المحجوب يتوهم من ( اليدين ) العضو الخاص ، ومن المباشرة المباشرة الحسية ، نزه بقوله : ( للمباشرة اللائقة بجنابه ) . و ( باليدين ) الممكنة إضافتهما إلى حضرته .
والمباشرة اللائقة بجنابه اقتضاء عنايته الذاتية ومشيئته الأصلية ومحبته الأزلية إظهار موجود جامع لصفاته المتقابلة ، ومحل لائق لسلطنة أسمائه المتعالية ، كما أشار إليه في صدر الكتاب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وجعل ذلك من عنايته بهذا النوع الإنساني ، فقال لمن أبى عن السجود له : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت " على من هو مثلك ، يعنى عنصريا . " أم كنت من العالين ؟ " عن العنصر ؟ ولست كذلك . ونعني ب‍ " العالين " من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا . )
المراد ب‍ ( العالين ) الملائكة المهيمون في أنوار جمال الذات ، المتجلية لها بالتجلي الجبالي . وهم الكروبيون والملائكة المقربون ، كجبرئيل وميكائيل وغيرهم من طبقتهم . لذلك وصفهم
بأنهم نوريون طبيعيون لا عنصريون .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا من طين ، فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة . )
أي ، فما فضل الإنسان غيره من الموجودات إلا بما باشر الحق بيديه في خلقه ، ليجمع بين الصفات المتقابلة ، وباشر غيره بيد واحدة ، ليظهر بصفة واحدة بلا واسطة ، كالصنف الأول ، أو بواسطة كالصفوف التي بعده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية ، والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني بالنص الإلهي . ) النص الإلهي قوله تعالى : ( أم كنت من العالين ؟ )
وقال في الفتوحات : ( إني رأيت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فسألته أن الإنسان أفضل أم الملائكة ؟ فقال ، عليه السلام : " أما سمعت بأن الله يقول : من ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ " . ففرحت بذلك .
فالملأ الذي خير منهم هم العالون . وهذه الخيرية إنما هي بحسب عموم أفراده ، لا بحسب الخصوص .

وتحقيقه : أنك قد علمت أن لكل موجود من الموجودات وجها خاصا لربه لا يشاركه فيه غيره ، والإنسان جامع لجميع تلك الوجوه ، لأنه جامع لجميع الحقائق الكونية والإلهية ، كما هو مقرر عند جميع المحققين ، فالإنسان من حيث حقيقته خير من جميع الموجودات ، لذلك صار خليفة عليها . ومن حيث خلقيته أيضا الإنسان الكامل والأقطاب والأفراد خير من جميعها ، لظهور الحق فيهم بجميع كمالاته وصفاته دون غيره .
وغيرهم من الأناسي لا يخلو إما أنه وقع في النصف الأعلى من دائرة حقيقة الإنسان ، أي وقع في الطرف الكمالي ، أو في النصف الأسفل ، أي الطرف النقصاني .
الأول خير من الملائكة الأرضية والسماوية جميعا ، لتسبيحهم للحق وتقديسهم له بألسنة أكثرهم ، بل كلهم كالمتوسطين في الكمال المتوجهين إلى حضرة ذي الجلال .
والنصف الثاني أدنى مرتبة من الملائكة السماوية ، دون الأرضية ، إلا من وقع في أسفل سافلين
من الإنسان ، فإنه شر من كل حيوان وأدنى مرتبة من كل شيطان .
وهذا مجمل شأنا ، فعليك تفصيله بيانا . والله أعلم بالمراتب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي ، فليعرف العالم ) لأن العالم صورته ، فإذا عرفت العالم بحقيقته ، عرف النفس الإلهي ونفسك أيضا .
( فإنه من عرف نفسه ، فقد عرف ربه ) لأن نفسه صورة ربه ومظهره ، فمن عرف نفسه معرفة تامة ، عرف ربه الذي ظهر فيه ضرورة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( الذي ظهر فيه ، أي ، العالم ظهر في النفس الرحماني الذي نفس الله تعالى به عن الأسماء الإلهية ما تجده من عدم ظهور آثارها بظهور آثارها . فامتن على نفسه بما أوجده في نفسه .)
قوله : ( الذي ظهر فيه ) صفة ( للعالم ) وإن كان صالحا أن يكون صفة للرب ، لذلك فسر بقوله : ( أي ، العالم ظهر في النفس الرحماني ) فالحديث اعتراض بين الصفة والموصوف ودليل للحكم .

والمقصود ، أن أعيان العالم هي التي ظهرت على النفس الرحماني ، وبظهورها نفس الله تعالى عن الكرب الذي كان يجده في نفسه ، لأن الأسماء التي هي النسب كانت طالبة لظهورها وأحكامها ، والأعيان الثابتة كانت طالبة لكمالاتها ، فكانت كرب الرحمان ، فبظهورها وظهور آثارها زال ذلك الكرب ، فامتن الله بنفسه على نفسه بما أظهره في نفسه من صور أعيان الموجودات .
ولما كان التنفيس للحق من حيث الأسماء ، لا من حيث الذات الغنية عن العالمين ، قال : ( نفس الله ) من الأسماء . و(ما) في (ما تجده) بمعنى (الذي) ،وضمير الفاعل عائد إلى (الأسماء) .
( فأول أثر كان للنفس الرحماني ، إنما كان في ذلك الجناب ، ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس الغموم إلى آخر ما وجدا . ) أي ، فأول أثر حصل من النفس الرحماني ، كان في الجناب الإلهي ، أي ، أول ما نفس من الاسم ( الله ) ، ثم من باقي الأسماء الكلية ، ك‍ ( الرحمان ) و ( الرحيم ) ، ثم من الأسماء التالية لها إلى أن نفس من الأسماء الجزئية التي يقتضى أعيان الموجودات الشخصية وتوابعها من الجزئيات المضافة إليها والتابعة لها .

وفيه إشارة إلى ما مر في المقدمات من أن أول ما تعين من الأعيان والمهيات في العلم ، عين الإنسان الكامل التي هي المظهر للإسم ( الله ) ، ولكونها جامعا للأسماء له أشد الكرب ، فوجب أن يكون أول التنفيس من جنابه ، ثم من غيره من الحضرات .

(فالكل في عين النفس ...... كالضوء في ذات الغلس )
( الغلس ) ظلمة آخر الليل . إنما شبه حصول جميع الأعيان الموجودة والأكوان الظاهرة والآثار الصادرة منها في عين النفس الرحماني بالضوء الحاصل في ظلمة الليل.
إشارة إلى قول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق الخلق في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور ، اهتدى ، ومن أخطأ ، ضل وغوى " .

وفي هذا التشبيه إيماء أيضا إلى كون العالم بأسره أعراضا ، فإن الضوء عرض والنفس عرض ، لأنه عبارة عن انبساط التجلي الوجودي وامتداده وظهوره ، ومعروضه حقيقة الوجود الحقيقي الذي هو الحق المطلق .

(والعلم بالبرهان في   .....   سلخ النهار لمن نعس )
( النعاس ) النوم . ( سلخ ) النهار آخره . أي ، إدراك هذه المعاني إنما هو بالكشف العياني ، لا بالدليل البرهاني ، فمن وجده كشفا وعيانا ، فقد أصاب ، لأنه أدرك الأمر على ما هو عليه ، ومن حصله بالنظر والبرهان من وراء ستور الحجب مع أن شمس الحقيقة طالعة ويوم الكشف الإلهي قد لاح صباحه بوجود العين المحمدي في هذه النشأة الدنياوية وبقى على حجابه إلى سلخ هذا اليوم الذي مقداره ألف سنة ، فهو ناعس في نوم الغفلة .
كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( الناس نيام ، فإذا ماتوا ، انتبهوا ) .
( فيرى الذي قد قلته  ......  رؤيا تدل على النفس )
أي ، الناعس المحجوب يرى ما قررته وأشرت إليه من النفس الرحماني وآثاره بنظر عقله ، كما يرى النائم رؤيا تعبيره وجود النفس المذكور .
وإنما شبهه بالرؤيا التي يجب التعبير عنها ، لأن الرائي صورة ما في نومه ، يدرك نفسه معنى ما من وراء حجابية تلك الصورة المتجسدة ، وقد يعلم حقيقة ما يراه وقد لا يعلم ، وكذلك صاحب النظر يحكم بعقله على ما يجد من وراء الحجاب ، وقد يكون على يقين من ربه ، وقد لا يكون .

( فيريحه من كل غم  .....   في تلاوته  عبس )
أي ، فيريحه العلم الحاصل بالبرهان عن كل غم وعبوس كان يجده حال عدم إدراكه وحين جهله . فكأنه كان تاليا ( عبس وتولى ) بلسان الحال ، إذ كانت نفسه في عبوس الفكر وضيق الجهل ، ثم زال ذلك عنه بالبرهان الذي حصل له لا بالقال .

( ولقد تجلى للذي  ......  قد جاء في طلب القبس )
أي ، العالم بالبرهان لو اجتهد وطلب من روحه القدسي نورا يرى به الأشياء كما هي ، يحصل له ذلك . كما حصل لمن سافر في ظلمة ليل طبيعته ، وطلب من قواه الروحانية نارا ينور بها بيت قلبه واجتهد في ذلك صادقا وتوجه إلى ربه ، فكشف له الحق وتجلى ، فعلم يقينا مطلوبه .

(فرآه نارا وهو نور   ......    في الملوك وفي العسس)
أي ، أراه نارا ، وهو في الحقيقة نور إلهي متجل به للكمل والأقطاب الذين هم ملوك الطريقة وسلاطين الولاية ، وعلى المتوسطين في السلوك ، الذين لا وصول لهم إلى عين الكمال الحقيقي بحسب مقاماتهم ودرجاتهم في العالم المثالي المطلق والخيال المقيد .
وإنما أطلق عليهم ( العسس ) ، لأنه له السلطنة في ظلمة الليل ، كما لهم التصرف في الوجود مع عدم الوصول إلى مقام الجمع الإلهي .

( فإذا فهمت مقالتي  ......   تعلم بأنك مبتئس )
( المبتئس ) الفقير . و ( إذا ) بمعنى ( إن ) . أي ، إن علمت ، يا عالم بالبرهان ، مقالتي في النفس الرحماني ولوازمه المدركة بالكشف ، تعلم بأنك مبتئس فقير مفلس ، فلا تدعى أنك عالم بالحقائق ، كما لا يليق بالمفلس أن يدعى الغنى ، حتى لا يكون كمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيه : ( المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور ) . وفي بعض النسخ : ( فاعلم فإذا بمعناه ) .
وقد يجزم ب‍ ( إذا ) في الشعر ضرورة ، كقول الشاعر :
(وإذا تصبك من الحوادث نكبة فاصبر ، فكل غيابة فستنجلي) فيكون ( تعلم ) مجزوما للضرورة .
(  لو كان يطلب غير ذا  ......   لرآه فيه ومانكس )
أي ، لو طلب موسى ، عليه السلام ، غير النار ، لرأى الحق في صورة مطلوبه كان ما كان ، وما نكس الحق وجهه عن المطلوب الحقيقي لقوة صدقه في الطلب وكثرة توجهه إلى الحق ، فلو طلب ما طلب ، لظهر له الحق فيه وما قلب وجهه عن حضرته . فطوبى لمن لا يتوجه إلا إليه ، ولا يضع رأسه إلا بين يديه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها الحق في مقام " حتى نعلم " ويعلم ، استفهمها عما نسب إليها هل هو حق أم لا ، مع علمه الأول بهل وقع ذلك الأمر أم لا ؟ ) .
لما تكلم في الإحياء الحسى الجسماني والإحياء المعنوي الروحاني في حكمة الكلمة العيسوية ، شرع في بيان مطلعات ما جاء في كلمته من الآيات .
ومعناه : أن الحق لما قام لها ، أي للكلمة العيسوية في مقام : ( حتى نعلم ويعلم ) الأول بالنون للمتكلم والثاني بالياء للغائب أي في مقام الفرق .
كما قال تعالى :( حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) . وقد تقدم بأنه كلمة محققة المعنى ، أي حتى نعلم ما تعطيه ذاته المعينة لنا من أحوالها ويعلم هو ما تعطيه تلك الذات له من حيث تعينها الموجب للفرق بيننا وبينه ، استفهم عن كلمته عما نسب إليها من الألوهية ، هل هو حق ؟ أي ، فهل ذلك المنسوب إليك ثابت في نفس الأمر ، أم لا . وهل وقع منك الأمر به ، أم لا.

( فقال له : " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " . ) ولما كان الاستفهام بقوله : ( أأنت قلت ) مفيدا معنى قوله : ( حتى نعلم ) ، قال أولا : ( قام لها الحق في مقام "حتى نعلم " )
( فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم ) أي ، يجيبه من مقام التفرقة لا مقام الوحدة ، فإن فيها نوعا من دعوى الألوهية . والأنبياء والأولياء الكمل لا يزالون مختارون مقام العبودية لما فيه من مراعا ت الأدب مع الله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنه لما تجلى له في هذا المقام وفي هذه الصورة ، اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع . )
أي ، لأنه تعالى يتجلى في مقام التفرقة ، فاستفهم على صورة الإنكار بقوله : ( أأنت قلت ؟ ) بضمير الخطاب مرتين ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يجب في مقام التفرقة التي هي في عين الجمع . فإن الكمل لا تحجبهم التفرقة عن مقام الجمع ، ولا الجمع عن التفرقة .
( فقال وقدم التنزيه : ( سبحانك ) . فحدد ب‍ ( الكاف ) التي يقتضى المواجهة والخطاب . )
أي ، نزه الحق أولا عن مقام هو فيه ، وهو العبودية المنعوتة بالإمكان ونقائصه اللازمة له ، وميز بين مقام الألوهية والعبودية - بكاف الخطاب - والمواجهة ، كما خاطبه الحق بضمير الخطاب ، وذلك التنزيه والتميز هو التحديد .
كما مر في ( الفص النوحي ) . لذلك قال : ( فحدد بالكاف ) . (
( ما يكون لي ) من حيث أنا لنفسي دونك ( أن أقول ما ليس له بحق ) . أي ، ما يقتضيه هويتي ولا ذاتي . ) قد مر مرارا أن لكل موجود جهتين : جهة الربوبية وجهة العبودية ، والثاني متحقق بالأول .
فقوله : ( ما يكون لي ) أي ، لنفس من جهة العبودية والأنانية مجردة عن جهة الربوبية والهوية الإلهية أن أقول ما ليس لنفسي بحق ثابت في نفس الأمر .

وقوله : ( أي ، ما يقتضيه هويتي ولا ذاتي . ) ، تفسير لقوله : ( ما يكون لي ) .
ومعناه : ما يقتضيه عيني وهويتي أن يظهر بدعوى الألوهية من حيث نفسها المتعينة ، كالفراعنة ، وإلا ما كانت نبيا ولا من المرسلين .
( إن كنت قلته فقد علمته ) لأنك أنت القائل في صورتي ، ومن قال أمرا ، فقد علم ما قال .
(وأنت اللسان الذي أتكلم به ) أي ، أنت القائل في صورتي ، وأنت اللسان الذي أتكلم به بحكم أنك متجل في هويتي وعيني ومحل لها بتلك الكمالات ، فهي لك في الحقيقة ، ومالي إلا العدم .
فإن قلت : ذلك تكون أنت القائل ، والقائل لا بد أن يعلم القول الذي صدر منه .
فإن قلت قوله : ( لأنك أنت القائل ) يدل على أن الحق هو المتكلم ، وقوله : ( وأنت اللسان الذي أتكلم به ) تدل على أن العبد هو المتكلم لا الحق ، فبينهما منافاة .
قلت : الأول إشارة إلى نتيجة قرب الفرائض .
والثاني إلى نتيجة قرب النوافل .
وفي الأول ، المتكلم هو الحق بلسان العبد ، وفي الثاني ، المتكلم هو العبد بلسان الحق ، فتغايرت الجهتان .
ولما فسره بما هو مناسب الحديث الرباني ، قال : ( كما أخبرنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن ربه في الخبر الإلهي فقال : "كنت لسانه الذي يتكلم به " . فجعل هويته عين لسان المتكلم ونسب الكلام إلى عبده . )
أي ، قال الله في حق عبده : ( فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه . فبي ينطق وبي يبصر وبي يسمع ) . فالمتكلم والسميع والبصير هو العبد ، لكن بالحق .
وذلك لأن هذا المقام ، أي مقام الفناء في الصفات ، مقام نتيجة النوافل لا مقام الفناء في الذات مقام نتيجة الفرائض .
( ثم ، تمم العبد الصالح الجواب بقوله : " تعلم ما في نفسي " . ) أي ، تعلم ما في نفسي من هويتك وكمالاتك المستترة في هويتي ، وما يخطر في خاطري .
( والمتكلم الحق . ) أي ، والحال أن المتكلم بهذا الكلام هو الحق من مقام تفصيله بلسان عيسى ، عليه السلام . و ( التاء ) للخطاب إلى مقام جمعه ، فهو السامع ، كما أنه هو المتكلم .
( ولا أعلم ما فيها . فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته ،لا من حيث إنه قائل وذو أثر.) أي ، نفى الحق المتكلم بلسان عيسى العلم عن هوية عيسى حتى لا يكون له العلم بها . وذلك النفي من حيث هويته العدمية ، لا من حيث إنه قائل أو قادر ، فإنه من هذه الحيثية حق لا غيره.
وإنما قال : ( ولا أعلم ما فيها ) ولم يقل : ( ما في نفسك ) . كما في القرآن ، تنبيها على أن نفسه عين نفس الحق في الحقيقة ، وإن كانت غيره بالتعين )  . (إنك أنت ) . فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان ، واعتمادا عليه ، إذ لا يعلم الغيب إلا الله . ) أي ، فقال : ( إنك أنت علام الغيوب ) . فجاء بضمير الفصل والعماد ، وهو ( أنت ) ، تأكيدا للبيان ، وأنه هو علام الغيوب لا غيره . أو تأكيدا لبيان الفرق في عين الجمع ، وتحقيقا لفردانية الحق ووحدانيته ، ليكون هو علام الغيوب جمعا وتفصيلا .
( ففرق وجمع ووحد وكثر ووسع وضيق ) إنما جاء بالتشديد في الكل للمبالغة .
كما يقال ( قطع ) للمبالغة في القطع . ومعناه : فرق بإفراد الحق وجعله مخاطبا ، وجمع بجعله ظاهرا في صورته وصورة كل العالم .
ووحد من حيث ذاته الأحدية ، وكثر من حيث مظاهره التفصيلية . ووسع من حيث شمول هويته
للكل ، وضيق في كل من مظاهره الشخصية ، إذ لا يسعه فيها غيره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم ،قال متمما للجواب : "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به" فنفى أولا مشيرا إلى أنه ما هو ثمة) لما كان ( ما ) في ( ما قلت ) للنفي ، قال : ( نفى أولا ) .
وهذا النفي إشارة إلى نفى وجوده وفناء تعينه في وجود الحق وتعينه الذاتي ، فما كان الوجود
العيسوي باقيا ليقول قولا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، أوجب القول أدبا مع المستفهم . ولو لم يفعل كذلك ، لا تصف بعدم علم الحقائق حاشاه عن ذلك ، فقال : " إلا ما أمرتني به " . وأنت المتكلم على لساني وأنت لساني )
أي ، أثبت أمر الحق وهويته . وقوله بلسان الصورة العيسوية بقوله : ( إلا ما أمرتني به ) بعد نفى هويته العدمية .

ولو لم يفعل كذلك ، لكان غير عالم بالحقائق ، إذ نفى الهوية العيسوية بلا إثبات الهوية الإلهية يكون نفيا مطلقا ، وليس ذلك من شأن العلماء الراسخين . ولما أثبت القول لعيسى والقائل هو الحق .
قال رضي الله عنه عن لسان عيسى ، عليه السلام : ( وأنت المتكلم وأنت لساني . )
( فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها . ) ( التنبئة ) تفعلة من ( نبأ ) . وأكثر الناظرين فيه قرأوا ( تثنئة ) من الثنى .
وهو تصحيف منهم ، إذ هذه الحكمة حكمة نبوية ولا يحتاج لتثنئة ، بالثاء ، إلى الوصف الروحية والإلهية أي ، فانظر إلى هذا الإنباء الروحاني الإلهي ما ألطفها ، أي عبارة ، وما أدقها ، أي إشارة .
وما جعلني الله مطلعا إلى مثل هذه الإشارات اللطيفة في هذا الكتاب إلا بعون ومدد من روحانية هذا الكامل ، رضي الله عنه ، وأرضاه منه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ("أن اعبدوا الله " . فجاء بالاسم ( الله ) لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع ، ولم يخص اسما خاصا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكل. )
أي ، جاء بالاسم ( الله ) الجامع للكل ، فإن لكل من العباد ربا خاصا من هذه الحضرة الإلهية ، ولكل شريعة اسما حاكما عليه من مطلق الشريعة الرحمانية .
( ثم ، قال له : "ربى وربكم " . ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ،ليست عين نسبته إلى موجود آخر ) لأن عبد ( المنعم ) ليس عبد ( المنتقم ) وعبد ( الرحيم ) ليس عبد ( القهار).

( فلذلك فصل بقوله : "ربى وربكم" بالكنايتين : كناية المتكلم وكناية المخاطب ) ظاهر .
("إلا ما أمرتني به " فأثبت نفسه مأمورا ، وليست سوى عبوديته ، إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل . ) نقل الكلام إلى ما مر ، ليقرر ما يتعلق بمقام العبودية .
أي ، قال : ( ما أمرتني به ) فجعل نفسه مأمورا .
وليست هذه الحالة ، أو المأمورية ، سوى مقام العبودية ، إذ لا يؤمر إلا من يمكن أن يمتثل
بالأمر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كان الأمر يتنزل بحكم المراتب ، لذلك ينصبغ كل من ظهر في مرتبه ما ، بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة . ) جواب ( لما ) محذوف ، يدل عليه ( لذلك ينصبغ ) .
تقديره : لما كان الأمر بحيث ينزل في المراتب الإلهية والكونية ، كان منصبغا بحكم كل من تلك المراتب .
والمراد ب‍ ( الأمر ) هنا الأمر المكلف ، أي ، أمر الحق بالتكليف يتنزل من مقام الجمع الإلهي ، فيتصف بالصفات الكونية ، كالحدوث والإمكان كباقي صفاته : فإن الأمر المضاف إلى القديم قديم واجب الإتيان به ، والأمر المضاف إلى المحدث حادث غير واجب الإتيان به . وأمر الشرع أمر الحق ، لذلك يجب الإتيان به.

ولأجل هذا الانصباغ تنصبغ وجود كل من ظهر في مرتبة من المراتب الوجودية بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة . ألا ترى أن الانسان قبل أن يولى له القضاء ، لا يسمع كلامه ولا ينفذ أحكامه ، وبعد التولي يسمع كلامه في دماء الناس وفروجهم وأموالهم ، والشخص الشخص في الحالتين .
فالحكم نتيجة القضاء . وكذلك غيره من المراتب .
( فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كل مأمور . ) وذلك الحكم هو الانقياد للأمر والطاعة للحكم والإجابة للدعاء .
( ومرتبة الآمر لها حكم يبدو في كل آمر . ) وهو التكليف للمأمور والحكم عليه .
( فيقول الحق : "أقيموا الصلاة" . فهو الأمر ، والمكلف والمأمور العبد .  

ويقول العبد : ( رب اغفر لي ) . فهو الأمر ، والحق المأمور . فما يطلب الحق من العبد بأمره
هو بعينه ما يطلب العبد من الحق بأمره . ) ( ما ) بمعنى ( الذي ) . وضمير ( بأمره ) الثاني عائد إلى ( العبد ) . أي ، الذي يطلبه الحق من العبد بالأمر هو الذي بعينه يطلبه العبد من الحق بأمره وقوله : ( رب اغفر لي ) وذلك المطلوب هو الإجابة .
أي ، كما يطلب الحق من العبد إجابة ما أمره ، كذلك العبد يطلب من الحق إجابة ما يأمره ويطلبه .
( ولهذا كان كل دعاء مجابا . ) ولأجل أن العبد أجاب الحق وأتى بأوامره ، أجاب الحق أيضا كل دعاء للعبد ، لتحصل المجازاة الموعودة .

لذلك قال عليه السلام : ( رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله

لأبره ) وذلك لكونه مطيعا لله في جميع أوامره ، فصار الحق أيضا مطيعا له في مطالبه بحكم ما أمره . كما قال تعالى : ( من أطاعني ، فقد أطعته ، ومن عصاني ، فقد عصيته ) .
واعلم ، أن قوله : ( كل دعاء مجاب ) مع أنه حديث نبوي محمول على الدعاء بلسان الاستعداد والحال ، لا بلسان النفس والقال ، ولذلك لا يحصل كثير من مطالب المحجوبين والكفرة لا في الدنيا ولا في الآخرة . وعدم الحصول للرحمة عليهم ، فإن أكثر مطالبهم مما تضرهم ولا تنفعهم .
( ولا بد وإن تأخر ) أي ، حصول الإجابة . ( كما يتأخر بعض المكلفين )

أي ، كما تتأخر الإجابة عن بعض المكلفين ، ( ممن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة ، فلا تصلى في وقت ، فيؤخر الامتثال ، ويصلى في وقت آخر ، إن كان متمكنا عن ذلك ، فلا بد من الإجابة ولو بالقصد . ) أي ، فلا بد من الإجابة من العبد ، ولو كان تأخير العبد ذلك المأمور بالقصد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قال : ( وكنت عليهم ) ولم يقل : على نفسي معهم . كما قال : " ربى وربكم شهيدا ما دمت فيهم " . لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم.)
أي ، قال : "وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم " .
ولم يقل : وكنت شهيدا على نفسي ، وأنفسهم المشهود عليهم . كما فصل بين ربه وربهم بقوله : ( ربى وربكم ) لأن الأنبياء شهداء على أممهم ، و ( الشهيد ) اسم من أسماء الحق ، فهم مظاهره ، فالحق هو الشهيد عليهم بأعيان الأنبياء ، لا غيره
 .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ("فلما توفيتني " أي ، رفعتني إليك وحجبتهم عنى وحجبتني عنهم "كنت أنت الرقيب عليهم" في غير مادتي ، بل في موادهم . )
أي ، كنت أنت الرقيب عليهم في عين موادهم الروحانية والجسمانية بحكم المعية وبحكم الهوية الظاهرة فيهم المتسترة بهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ كنت بصرهم الذي يقتضى المراقبة . فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه وجعله بالاسم الرقيب . ) أي ، جعل عيسى ذلك الشهود للحق بالاسم الرقيبي .
( لأنه جعل الشهود له . ) أي ، لأن عيسى ، عليه السلام ، جعل الشهود للحق بقوله : " كنت أنت الرقيب عليهم " . ومعناه : أن الحق يرقبهم ويشاهدهم من عين أعيانهم وهم لا يشعرون  

( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه حتى يعلم أنه هو ) أي ، ليعلم أن عيسى هو العبد .
( لكونه عبدا ) في الواقع . ( وأن الحق هو الحق ، لكونه ربا له ، فجاء لنفسه بأنه شهيد ، وفي الحق بأنه رقيب . ) أي ، أراد عيسى ، عليه السلام ، أن يفصل بينه وبين ربه ، فجاء لنفسه بالشهيد ، وللحق بالرقيب .
و ( الشهيد ) تارة يؤخذ بمعنى المشاهد ، فيكون بمعنى الرقيب . وتارة يؤخذ بمعنى الشاهد الذي
يشهد على الشخص والحاضر عنده .
ولما كانت الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بالمعنى الأخير ، أتى في حق نفسه بالشهيد وفي الحق بالرقيب ، لأنه يشهد عليهم ما دام فيهم لا غير ، والحق رقيب عليهم أزلا وأبدا حيث كانوا دنيا وآخرة .
( وقدمهم في حق نفسه ، فقال : "عليهم شهيدا ما دمت فيهم " . إيثارا لهم في التقدم وأدبا ، وأخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله : "الرقيب عليهم " لما يستحقه الرب من التقدم بالرتبة . ) أي ، قدم ضمير ( هم ) على الاسم ( الشهيد ) الذي جاء لنفسه بقوله : (عليهم شهيدا) وأخر ضمير ( هم ) عن الاسم ( الرقيب ) في قوله : ( كنت أنت الرقيب عليهم ) لما يستحق الرب من التقديم في المرتبة ، وتأخير ما جاء لنفسه ، لإيثار التقدم ولمراعاة الأدب بين يدي الحق ، إذ الكلام معه ، أو الأدب معهم ، لأنهم أيضا مظاهره ، وليتعلموا منه ذلك فيتأدبوا.

وأيضا ، التقديم يفيد الحصر فهو في حق الحق صادق ، إذ معناه : أنت الرقيب عليهم لا غيرك ، وفي حق نفسه لم يصدق ، لأنه ليس هو الشهيد عليهم فقط .

( ثم ، أعلم ) على صيغة الماضي من ( الإعلام ) . ( أن للحق " الرقيب " الاسم الذي جعله عيسى لنفسه وهو ( الشهيد ) في قوله : ( عليهم شهيدا ) فقال : "و أنت على كل شئ شهيد" . فجاء بكل للعموم ، وبشئ ، لكونه أنكر النكرات . وجاء بالاسم (الشهيد) فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما يقتضيه حقيقة ذلك المشهود . )
أي ، ثم أخبر إن الاسم ( الشهيد ) الذي قال في حق نفسه : "وكنت عليهم شهيدا " أيضا للحق بقوله : ( وأنت على كل شئ شهيد ) فجاء بلفظ ( الكل ) الذي هو للعموم ، وبلفظ ( الشئ ) الذي هو أنكر النكرات ، تفريقا بين كونه شهيدا وبين كون الحق شهيدا ، فإنه شهيد لقومه مدة بقائه فيهم ، والحق شهيد عليهم وعلى كل شئ أزلا وأبدا بحسب ما يقتضيه حقائقهم .
( فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال : "وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم". فهي شهادة الحق في مادة عيسوية ، كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره . )
أي ، نبه بقوله : "وأنت على كل شئ شهيد " أنه هو الشهيد أيضا في الصورة العيسوية ، لا غيره .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، قال : كلمة عيسوية ومحمدية . أما كونها عيسوية ، فإنها قول عيسى بإخبار الله عنه في كتابه . وأما كونها محمدية ، فلوقوعها من محمد ، صلى الله عليه وسلم ، بالمكان الذي وقعت منه ، فقام بها ليلة كاملة يرددها ، لم يعدل إلى غيرها حتى طلع الفجر : "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" . )
أي ، ثم قال عيسى كلمة ينسب إليه وإلى محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وهي : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك . . . ) أما نسبتها إلى الكلمة العيسوية ، فبإخبار الله في كتابه عنه ، وأما نسبتها إلى المحمدية ، فيكونه ، عليه السلام ، قام بها ليلة كاملة يقرأها ويكررها حتى طلع الفجر . ولما قال : ( وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) . وكان الفقر سترا - وضمير الغائب أيضا يدل عليه فإن الغائب عن الحس مستور عنه - نبه عليه بقوله : ( و ( هم ) ضمير الغائب ، كما أن ( هو )
ضمير الغائب ، كما قال : ( هم الذين كفروا ) بضمير الغائب . فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر ، فقال : ( إن تعذبهم ) بضمير الغائب )
أي ، ( هم ) في قوله : "إن تعذبهم وإن تغفر لهم " ضمير الغائب . كما أنه ( هو ) في قوله : " قل هو الله أحد " . و (هو الذي في السماء اله وفي الأرض إله ) و (هو الله الذي لا إله إلا هو).

وأمثاله ضمير الغائب . فيكون الغيب الذي يدل عليه ضمير ( لهم ) و ( هم ) سترا وحجابا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر . كما قال : ( هم الذين كفروا ) بضمير ( هم ) ووصفهم بالكفر الذي هو الستر . ففي الكلام تقديم وتأخير .
تقديره :
فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر ، كما قال هم الذين كفروا .
والمراد ب‍ ( المشهود الحاضر ) هو الحق الذي ظهر بنفسه الرحماني ، وصار مشهودا في مراتب عالم الأرواح المجردة بالصور النورية ، وفي عالم المثال والحس بالصور الحسية ، وذكر أيضا مرارا أن الأعيان ما شمت رائحة الوجود بعد ، وكل ما في الوجود هو تعينات وصور طارية على الوجود ، مثالا لها وعكسا ، فإن الأعيان لا تشاهد إلا في مرآة الوجود ، والوجود هو الحق ، فالمشهود الحق لا غير .

( وهو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق . ) أي ، ذلك الستر هو عين الحجاب الذي حجبهم عن الحق ، أي ، ذلك الغيب الذي يدل ضمير الغائب عليه ، عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق ، فإن الغيب من حيث هو غيب شئ واحد ، وهو غيب الحق الذي يتستر الكاملون من العباد فيه عند فنائهم من صفاتهم ، وهو الغيب الذي يحصل من التقرب بالنوافل .
كما قال الشاعر المحقق :
( تسترت عن دهري بظل جناحه .... فعيني ترى دهري وليس يراني)
(فلو تسأل الأيام ما اسمى ما درت .... وأين مكاني ما درين مكاني )  

لذلك قال رضي الله عنه  : ( فذكرهم الله قبل حضورهم حتى إذا حضروا ، تكون الخميرة قد تحكمت في العجين ، فصيرته مثلها . ) أي ، ذكرهم الله بقوله : ( وإن تغفر لهم ) .
وبالضمير الذي في ( لهم ) على أنهم في ستر من أستار الله في هذه الحياة الدنيا قبل حضورهم بين يدي الحق يوم القيامة الكبرى وانبعاث الخلائق من القبور التي ستروا بها وفيها ، وهي الأبدان والجثث التي هي القبور المعنوية ، وهذه القبور الصورية صورتها .
حتى إذا حضروا الحق وفنوا فيه وقامت قيامتهم وشاهدوا بعين الحق ما كانوا عليه قبل ذلك تكون الخميرة ، أي ، خميرة ما جعل في طينة أعيانهم من استعداد الكمال والقابلية للوصول إلى الفناء في حضرة ذي الجلال ، قد تحكمت في عجين أعيانهم وطينة استعداداتهم ، فصيرته مثل نفسها .
أي ، أوصلتهم إلى الكمال المراد منهم . وهو مقام الفناء المذكور والستر المطلوب المنبه عليه بقوله : " وإن تغفر لهم فإنهم عبادك " .
فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد ) أعاد قوله : (فإنهم عبادك) ليذكر ما فيه من الأسرار .
ومن جملتها الإفراد ب‍ ( الكاف ) ، فإنه يدل على التوحيد الذي كانوا عليه ، وإن لم يكن لهم شعور به . فإن العابد لكل معبود - كان ما كان - لا يعبد إلا لكونه إلها أو شفيعا عند الله ، كما قال : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) .
وفي الحقيقة لا يعبد إلا الحق الذي يظهر بتلك الصور . كما قال : ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) . وإطلاق ( العباد ) يدل على ذلة من يعبد ، ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم ، فهم بحكم ما يريده بهم سيدهم ، ولا شريك له فيهم ، فإنه قال : ( عبادك ) فأفرد .
والمراد بالعذاب إذ لا لهم . ولا أذل منهم ، لكونهم عبادا ، فذواتهم يقتضى أنهم أذلاء . فلا تذلهم ، فإنك لا تذلهم بأدون مما هم فيه من كونهم عبيدا .
( وإن تغفر لهم ) أي ، تسترهم عن إيقاع العقاب الذي يستحقونه بمخالفتهم ، أي ، تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم منه . ) استعمل ( الغفر ) بمعنى الغافر ، وهو الساتر . كما يستعمل ( العدل ) بمعنى العادل . يقال : رجل عدل . أي عادل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "فإنك أنت العزيز " أي ، المنيع الحمى ) تمنع ما تحميه عن أن يتسلط سلطان القهر عليه . ف‍ ( المنيع ) بمعنى المانع . و ( الحمى ) هو الممنوع . أو بمعنى الممنوع . أي ، ممنوع حماك عن أن يكون للغير وجود فيه . وحماه أحدية ذاته التي جميع الأشياء فانية فيها متلاشية عندها . أو عين العبد المحمى عن أن ينصرف فيه غيره .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا الاسم إذا أعطاه الله لمن أعطاه من عباده ) أي ، إذا جعله عزيزا .
( يسمى الحق ب‍ ( المعز ) والمعطى له هذا الاسم ب‍ " العزيز " ( لكونه مظهر العزة ( فيكون منيع الحمى عما يريد به ( المنتقم ) و ( المعذب ) من الانتقام والعذاب . )
أي ، فيكون الحق مانعا حماه ، وهو عين العبد الذي جعله الحق عزيزا ، عما يريد به ( المنتقم ) و ( المعذب ) من التسلط عليه . أو يكون العزيز ممنوع الحمى ، أي ، لا يكون للإسم ( المنتقم ) و ( المعذب ) عليه حكم . وذلك إما للعفو عن ذنوبه ، أو للمغفرة بهيئة ماحية للذنوب ، كقوله : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ، ولتكون الآية على مساق واحد في قوله : ( إنك أنت علام الغيوب ) . وقوله : ( كنت أنت الرقيب عليهم ) فجاء أيضا : "إنك أنت العزيز الحكيم " فكان ) أي ، تردد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قرائته ليلته الكاملة .
( سؤالا عن النبي ، عليه السلام ، وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة . فلو سمع الإجابة أول سؤال ، ما كرر .فكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب ) أي ، في كشفه أعيان العباد حال القراءة .

قوله : ( كان ) يجوز أن يكون ناقصة ، ويجوز أن يكون النون مشددة ( كأن ) لتكون من أخوات ( ان ) . والأول يفيد الجزم ، والثاني يفيد الظن والشك .
( عرضا مفصلا ) أي ، كان الحق يعرض عليه ، صلى الله عليه وسلم ، كل واحد واحد من أعيان العباد وذنوبهم . ( فيقول النبي ، عليه السلام له ) ، أي للحق .
( في كل عرض عرض وعين عين : ) أي ، في عرض فصل فصل وعرض عين عين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " . فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه ) أي ، ولو علم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في ذلك العرض أن الحق لا يريد العفو والمغفرة لهم ويريد القهر والانتقام منهم . ( لدعا عليهم لا لهم . ) لأن الأنبياء واقفون مع إرادة الحق ، ولا يشفعون للأمم إلا بإذن الله تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما عرض عليه إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله والتعريض لعفوه . ) .
أي ، ما عرض الحق تعالى على رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، ليلته الا شيئا استحقت أعيان العباد بذلك الشئ العفو والمغفرة ، وليس ذلك الشئ إلا ذنوبهم ، فإن الذنب هو الذي يطلب المغفرة ، وبه يصير الحق غفورا .
فما استحق العفو إلا الأعيان التي استحقت العفو والمغفرة في الأزل ، إلا الأعيان التي سبق العلم فيها بأنها داخلة في حكم ( المنتقم ) و ( المعذب )  فيجب تعذيبهم والانتقام منهم .

ف‍ ( ما ) في قوله : ( ما استحقوا ) بمعنى الشئ ، أو بمعنى الذي . أي ، ما عرض الحق عليه ، صلوات الله عليه ، إلا الذين استحقوا ما تعطيه ، إلا به من العفو وتسليم أمور العباد إلى الله . ف‍ ( ما تعطيه ) . مفعول ( استحقوا ) .
و ( ما ) فيما ( تعطيه ) بمعنى الذي ، أو بمعنى الشئ . و ( من التسليم ) بيانه .
ويجوز أن يكون ( ما تعطيه ) بدلا من ( ما استحقوا ) . أي ، ما عرض عليه إلا ما تعطيه إلا به في حقه ، وهو العفو والمغفرة . فمفعول ( استحقوا ) وهو ( العفو ) ، محذوف لوجود القرينة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه ، أخر الإجابة عنه حتى يتكرر . ذلك منه حبا فيه ، لا إعراضا عنه . ولذلك جاء بالاسم ( الحكيم ) . و ( الحكيم ) هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يعدل بها عما تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها . ).

( الباء ) في ( بها ) للصلة . يقال : عدل به فلان عن فلان . أي ، تجاوز عنه . أي ، ولأجل أن الحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها - التي يستحقها بذواتها وأعيانها - ولا يعدل عن مقتضى طبائعها ، جاء بالاسم ( الحكيم ) هنا .
فتأخير إجابة دعاء رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، وشفاعته في حق الأمة أيضا من جملة الحكمة . وهي محبته فيه وإرادته لدعائه وشفاعته في حق أمته .
قوله : ( وقد ورد . . . ) . أقول : أراد الشيخ رضي الله عنه  أن يبين أن تأخير الإجابة بواسطة
عرض الفصول إنما هو من مقتضيات عنايته به ، لا الإعراض عنه .
وقد ورد أن ضجيج التائبين خير من تسبيح المسبحين . قوله : حقائق الأشياء . أي ، حقائقها حال كونها متلبسة بصفاتها ، أو مع صفاتها ، فإنه للصفات أيضا مدخلية في اقتضاء خصوصيات المواضع ، فوضع تأخير إجابة دعائه ، صلى الله عليه وآله ، في موضع يكون تكرار الدعاء فيه مطلوبا من جملة الحكمة .
قوله في المتن : ( بالاسم الحكيم ) حيث أجراه أولا على لسان عيسى ، كذلك ليترتب عليه إجرائه على لسان محمد ( ص ) كذلك ، فيكون حين يجرى على لساني مبنيا على تلك الحكمة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالحكيم هو العليم بالترتيب . فكان صلى الله عليه وسلم ، بترداده هذه الآية على علم عظيم من الله . فمن تلا هذه الآية هكذا يتلو ، وإلا فالسكوت أولى به.)
هذا تحريض على التدبر والتفكر في معاني الآيات والحضور بين يدي الحق .
(وإذا وفق الله عبدا إلى نطق بأمر ما ، فما وفقه إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته.) وهذا أيضا سر إجابة الدعاء . فإن الله تعالى لا يمكن العبد في الدعاء إلا للإجابة .
( فلا يستبطئ أحد ما يتضمنه ما وفق له وليثابر مثابرة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ) . (ما يتضمنه) مفعول ( يستبطئ ) و ( ما ) موصولة ، أو بمعنى شئ .
و ( ما وفق له ) فاعل ( يتضمن ) وهو الدعاء . أي ، فلا يستبطئ أحد الإجابة التي يتضمنها الدعاء . وتذكير ضمير المفعول باعتبار لفظة ( ما ) .
ويجوز أن يكون ( ما ) في ( ما وفق ) بمعنى المدة . وفاعل ( يتضمن ) ضميرا راجعا إلى (الدعاء) ، إذ الكلام فيه . أي ، لا ينبغي أن يستبطئ أحدكم في دعائه الإجابة ما دام موفقا للدعاء ، وليواظب على دعائه وطلبه مواظبة رسول الله ، عليه السلام ، بتكراره ليلته . ( على هذه الآية في جميع أحواله حتى يسمع بأذنه أو بسمعه . )
أي ، حتى يسمع الداعي بأذنه التي هي آلة السماع . ( أو بسمعه ) أي ، بسمع قلبه . فإن السمع روحاني ، والأذن جسماني .
( كيف شئت ، أو كيف أسمعك الله الإجابة . فإن جازاك بسؤال اللسان ، أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى ، أسمعك بسمعك . ) لما كانت المجازاة في
مقابلة العمل والطلب من الله ، والدعاء عمل من الأعمال ، قال : ( فإن جازاك ) أي ، فإن جازاك الحق بسؤال لسانك وجارحتك ، أسمعك بأذنك التي من الجوارح قوله : (لبيك يا عبدي).

وإن جازاك بالعمل القلبي ، أسمعك بسمعك القلبي قوله : ( لبيك يا عبدي ) ورزقك مطلوبك ، إن كان الوقت وقته ، وإلا يؤخر مطلوبك إلى وقته المقدر له أزلا .
ولا يتأخر قوله : ( لبيك ) عن وقت الدعاء أبدا . كما مر في ( الفص الشيثي ) .
واتساب

No comments:

Post a Comment