Monday, December 2, 2019

السفر الخامس عشر فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الفقرة التاسعة والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر الخامس عشر فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الفقرة التاسعة والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

السفر الخامس عشر فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الفقرة التاسعة والعشرون .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله

15 - The Wisdom of Prophecy in the Word of Jesus

الفقرة التاسعة والعشرون :
كتاب تعليقات د أبو العلا عفيفي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي 1385 هـ :
الفص الخامس عشر حكمة نبوية في كلمة عيسوية
(1) «الحكمة النبوية في الكلمة العيسوية».
(1) يظهر أن السبب في نسبة الحكمة النبوية إلى عيسى واختصاصه بالنبوة أكثر من الرسالة، هو ما ورد في القرآن من الآيات التي تنص على نبوته منذ ولادته حتى أنطقه اللَّه بما يثبت ذلك وهو لم يزل بعد في المهد صبياً.
قال عيسى يخاطب قومه ويدافع عن أمه التي حام شك الناس حولها: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (قرآن س 19 آية 32).
هذا من ناحية: ومن ناحية أخرى يعتقد المسلمون أن عيسى سينزل من السماء آخر الزمان ويحكم في الناس بشريعة محمد صلى اللَّه عليه وسلم ويعيد الإسلام إلى سيرته الأولى: أي أنه سيكون نبياً تابعاً لا نبياً رسولًا ولا مشرّعاً وهذه هي النبوة العامة أو النبوة المطلقة التي تختلف عن النبوة الخاصة التي هي نبوة التشريع.
ولهذا يعتبره ابن العربي خاتم الأنبياء: أي خاتم من تكون لهم هذه النبوة العامة. أما خاتم الأنبياء المشرعين فمحمد عليه السلام.
على أن عيسى- إذا نظر إليه من ناحية حياته في هذه الدنيا- قد كان نبياً رسولًا، لأن كل رسول له إلى جانب رسالته صفتا النبوة والولاية كما ذكرنا.
وجانب النبوة فيه يختلف عن جانب الرسالة وينحصر في قدرته على الإخبار بما هو في عالم الغيب، تلك القدرة التي تظهر في كل نبي عند سن الأربعين.
ولا يتردد ابن عوبي في أن يسمي تلك النبوة العامة التي هي قدر مشترك بين الأنبياء
والرسل جميعاً بالاسم الذي أطلقه عليها الغزالي وهو النبوة المكتسبة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيرى أن في إمكان الأولياء اكتساب هذه القوة بعد وصولهم إلى درجة خاصة في معراجهم الروحي (راجع الفتوحات ج 2 ص 3، 4).

(2) «عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين»
الأبيات الثلاثة الأولى.
(2) يفهم البيتان الأولان من هذه الأبيات بمعنى الاستفهام، ولكن الأفضل أن يفهما بمعنى الإخبار
و أن تفهم «أو» الواردة في الشطر الأول من البيت الأول بمعنى «و» لأنه يريد أن يقرر أن طبيعة المسيح ركّبت على هذا النحو أي ركبت من مادة محققة هي ماء مريم و من روح هي روح جبريل المعبر عنها بالنفخ.
ويؤيد هذا التفسير ما يلي من نصوص الكتاب فيما بعد. فابن العربي لا يتساءل عما إذا كانت كلمة اللَّه قد تكوّن منها المسيح في صورة مادية بحتة- هي ماء مريم، أو في صورة روحية بحتة هي النفخ المذكور، وإنما يريد أن يضع أمامنا نظريته الخاصة في طبيعة المسيح، وهي نظرية لا تخلو حقاً من طرافة وغرابة معاً.
تكوّن المسيح في رأيه من عنصرين أحدهما مادي وهو ماء أمه والآخر روحي وهو كلمة (روح) اللَّه التي ألقاها جبريل إلى مريم بواسطة النفخ بعد أن تمثل لها في صورة البشر السويِّ.
أما كلمة «الذات» الواردة في الشطر الأول من البيت الثاني فيمكن أن تؤخذ على أنها ذات المسيح أي مادة جسمه، أو ذات أمه التي تكوَّن فيها.
ومعنى تطهيرها من الطبيعة تخليصها من شوائب الطبيعة التي تعرضها للفساد.

فكأنه يريد أن يقول إن جسم المسيح ولو أنه طبيعي، إلا أنه غير عنصري لأن الأجسام الطبيعية نوعان: عنصرية كالأجسام الأرضية، وغير عنصرية كالأجرام السماوية وكجسم عيسى لهذا السبب قد طالت إقامة عيسى في العالم ولم يعتبر جسمه الفساد الذي يصيب الأجسام الأرضية الأخرى، وستطول إقامته في السماء حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان ويحكم بشرع محمد كما ذكرنا.
وقد وردت كلمة «سجّين» في القرآن (في س 83 آية 7، 8) بمعنى الكتاب المرقوم الذي أحصى فيه اللَّه أعمال الفجار.

ولكنها مشتقة من سجن على رأي أبي عبيدة، واستعملت بمعنى «جهنم» أو واد خاص بالفجار فيها، أو كتاب الفجار الذي سيطلعهم اللَّه عليه في جهنم وغير ذلك.
ولكن مما لا شك فيه أن ابن العربي يستعملها بمعنى السجن جرياً على عادة الصوفية والفلاسفة الاسلاميين الذين أخذوا بنظرية أفلاطون في طبيعة الجسم والنفس، فنظروا إلى الطبيعة (البدن) على أنه سجن النفس وجحيم المؤمنين في هذه الدنيا.

(3) «روح من اللَّه لا من غيره فلذا أحيا الموات و أنشا الطير من طين»
(3) يذهب الفلاسفة المسلمون الذين تأثروا بنظرية أفلوطين في الفيوضات إلى أن أول ما فاض عن «الواحد» هو «العقل الأول» ثم توالت الفيوضات بعد ذلك في نظام تنازلي حتى انتهى الأمر بالعقل الفعال آخر العقول و مبدأ الحياة الناطقة في كل ما يحتوي عليه فلك ما تحت القمر.
فالعقول البشرية في نظرهم ليست سوى تعينات أو صور للعقل الفعال:
تهبط على الأجسام وتبقى بها زمناً محدوداً، فإذا فارقتها رجعت إلى أصلها واتصلت به.
أما فلاسفة الصوفية فلم يصوروا المسألة هذا التصوير بالرغم من استعمالهم ألفاظ الفيض والصدور وما إليها.
فمذهب ابن العربي على الأقل- وهو في مقدمة المذاهب الصوفية الفلسفية في الإسلام- يحمل طابع وحدة الوجود التي لا أرى أنها تتفق تماماً مع نظرية الفيوضات الأفلوطينية.

نعم يستعمل كلمة الفيض وما يتصل بها من اصطلاحات، وقد يذكر فيوضات أفلوطين بأسمائها وعلى النحو الذي ذكره هذا الفيلسوف، ولكن للفيض عنده معنى يختلف تماماً عن معنى أصحاب الأفلاطونية الحديثة كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
فالوجود فائض عن «الواحد» - على مذهبه- بمعنى أن «الواحد» متجلّ في صور أعيان الممكنات التي لا تتناهى: كان ذلك منذ الأزل وسيبقى كذلك على الدوام.

لم يجد ابن العربي وأصحابه إذن حرجاً- كما وجد الفلاسفة المشاءون من المسلمين- في القول بأن الكثرة قد صدرت عن الواحد بالمعنى الذي ذكرناه: أي أن الواحد قد ظهر بصور الأعيان المتكثرة في الوجود الخارجي.
ولم يأخذ بالقاعدة التي أخذ بها المشاءون وجعلوها أساساً لمذهبهم، وهي أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، بل قال إن الواحد قد صدر عنه العقل الأول كما صدر عنه الأرواح المهيمة و أرواح الكاملين من الخلق كالأنبياء و الأولياء، بل و روح كل موجود (و ليس في الوجود إلا ما له روح).
بعبارة أخرى صدر عن الواحد الحق كل شيء، لأنه حقيقة كل شيء والمتجلي في كل شيء.

فالمسيح الذي هو روح من اللَّه صدر عن اللَّه بهذا المعنى:
أي أن اللَّه قد تجلى في صورته كما تجلى في صور ما لا يحصى من الممكنات الأخرى، وليس كما يقول القيصري إنه صدر عن اللَّه لأنه في الصف الأول من الأرواح التي صدرت مباشرة عن اللَّه، بينما صدر غيره من الأرواح عن اللَّه بوساطة العقل الأول أو العقول الكونية الأخرى.
وفي هذا التأويل بمعنى من الأفلاطونية الحديثة لا تحتمله فلسفة ابن العربي العامة ولا يتفق مع ما سيرد من النصوص في هذا الفص.

ومن كون المسيح روحاً من اللَّه، أو من كونه مجلى من المجالي الإلهية التي لا تحصى، كانت له القدرة على الخلق و إحياء الموتى و غير ذلك مما لا ينسب عادة إلا إلى اللَّه.
والحقيقة أن في نسبة هذه الأفعال إلى المسيح شيئاً من التجوز، لأن الخالق على الإطلاق والمحيي على الإطلاق هو اللَّه، ولم يكن في هذه الحالة سوى اللَّه في الصورة العيسوية الخاصة.

(4) «جبريل عليه السلام و هو الروح».
(4) ليس من الغريب أن يكون لجبريل في مذهب ابن العربي شأن آخر غير شأن جبريل الملك الموكل بالوحي، فقد أشرنا فيما مضى إلى أنه يرى أن الوحي تلقائي ينكشف للموحَى إليه من ذاته، حيث لا يحتاج لوساطة ملك أو غيره (الفص السابع: التعليق العاشر).

جبريل عنده هو مبدأ الحياة في الكون: هو الروح الكلي المنبث في الوجود بأسره على ما في الموجودات من تفاوت في درجات الحياة ومقدرتهم على الظهور بمظاهرها.
وليس في الوجود في مذهبه إلا ما هو حي وما هو ناطق، وإن كنا قاصرين عن إدراك هاتين الناحيتين في كثير من الموجودات.
فيجب إذن ألا نسارع إلى إنكار وجودهما في بعض الكائنات لأننا عجزنا عن إدراكهما فيها عن طريق العقل أو الحس.
فجبريل ليس إلا الحق ذاته متجلياً في صورة ذلك الروح الكلي، وما ظهر منه في أي موجود من الموجودات هو «لاهوت» هذا الموجود أو جهة الحق فيه : كما أن الصورة التي يظهر فيها هي ناسوته  أو جهة الخلق فيه.

"" يستعمل ابن العربي كلمة اللاهوت للدلالة على «ذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء» والناسوت «للمحل القائم به الروح».
وقد استعمل الاصطلاحين من قبله الحلاج كما استعمل كلمتي الطول والعرض.
قارن الفتوحات ج 1 ص 219 حيث يشرح ابن العربي نظرية الحلاج.
على أن كلمة الروح قد تطلق مجازاً على الناسوت من ناحية أنه محلها الذي تقوم به. ""
 وإن شئت فقل إن الروح والمادة هما وجها الحقيقة الوجودية اللذان أطلقنا عليهما اسم الحق والخلق، أو الباطن والظاهر فيما سبق.
وهذه نظرة إلى الحق لا من ناحية إطلاقه وتنزهه عن الخلق، بل من ناحية تعينه ووجوده فيه. فهو تلك القوة التي لا تطأ شيئاً في الوجود إلا دبت فيه الحياة، وهو الذي قبض السامري قبضة من أثره وصنع منها عجل بني إسرائيل، وهو الذي نفخ في مريم فولدت عيسى عليه السلام.

وليس من الخطأ أن نقول إن هذا الروح المعبر عنه بجبريل يشبه من بعض الوجوه النفس الكلية التي قال بها أفلوطين، ولكن من الخطأ أن نغفل الفرق الذي أشرنا إليه مراراً بين منزلة جبريل في مذهب ابن العربي ومنزلة النفس الكلية في مذهب أفلوطين في الفيوضات.

وبالرغم من تصوير المسألة هذا التصوير الفلسفي يأبى ابن العربي وأتباعه إلا أن يخلعوا على جبريل بعض الصفات غير الفلسفية ويعينوا له مكاناً خاصاً من الوجود.
فهم يقولون إنه هو المدبّر للأفلاك السبعة وكل ما يوجد فيها، و إن مقامه سدرة المنتهى (قرآن 53 آية 14) التي هي صورة الفلك السابع.
وهذا مخالف لما ذهب إليه الفلاسفة الإسلاميون من أن لكل فلك نفساً أو عقلًا يدبره و أن آخر العقول- و هو العقل الفعال- هو الذي يدبر فلك ما تحت القمر أو فلك الكون و الفساد.

"" يقول القاشاني: وأما روح فلك القمر الذي سماه الفلاسفة العقل الفعال فالعرفاء (الصوفية) يسمونه اسماعيل وهو ليس بإسماعيل النبي عليه السلام بل هو ملك مسلط على عالم الكون والفساد من إعوان جبريل وأتباعه وليس له حكم فيما فوق فلك القمر كما لا حكم لجبريل فيما فوق السدرة» شرح الفصوص ص 259 - 260.""

(5) «فحصل لها حضور تام مع اللَّه وهو الروح المعنوي».
(5) لما تمثل جبريل لمريم في صورة البشر السوي ولم يكن في الحقيقة إلا صورة من خلق خيالها كما يقول ابن العربي خافت واستعاذت باللَّه منه وتوجهت بكل ما فيها من جمعية روحية إلى اللَّه، فحصل لها حضور تام معه، فَنِيَتْ فيه عن نفسها وكانت على أتم استعداد لقبول الكلمة الإلهية التي هي روح عيسى أو حقيقته.
وليس وصف عيسى بالكلمة اختصاصاً له، فإن كل موجود كلمة من كلمات اللَّه التي لا تنفد كما قال عزّ وجل «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً».
فعيسى إحدى هذه الكلمات: أما الكلمة بالألف واللام فاسم يقصره ابن العربي على الحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي الذي يصفه بجميع الصفات التي يصف بها المسيحيون الكلمة (المسيح) في نظريتهم.
أما إلقاء الكلمة الإلهية إلى مريم فمعناه ظهور الكلمة الإلهية في مظهر خارجي بالصورة العيسوية كما ينقل الرسول كلام اللَّه لأمته بأن يصوغ المعاني العقلية التي لا صورة لها ولا جرس في صورة ألفاظ خارجية تسمع وتقرأ.

(6) «فَسَرَتْ الشهوة في مريم فخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم و من ماء متوهم من جبريل».
(6) لم يجد ابن العربي صعوبة في تعليل لاهوتية "هوية" المسيح، ولكن الصعوبة التي واجهته كانت في تعليل ناسوتيته، لأن المسيح في نظره كما هو في نظر المسلمين جميعاً إنسان بكل معاني الكلمة: له جسم كسائر الأجسام بالرغم من أنه لم يكن له أب بشري.
حاول ابن العربي أن يعلل هذه الظاهرة الغريبة فوضع لها تفسيراً أعتقد أنه لم يسبق إليه وقرّب ما أمكنه التقريب بين ولادة المسيح الشاذة والقانون الطبيعي العام، وبين تكوين جسد المسيح وتكوين غيره من الأجساد.
يقول إن عيسى لم يكن له أب من البشر فلم يتكوّن جسده من امتزاج ماء ذلك الأب بماء أمه على نحو ما تجري به العادة، ولكن لما ظهر جبريل لمريم في صورة بشرية وأخبرها بأنه رسول من عند اللَّه جاء ليهب لها غلاماً زكيّاً، سرت فيها الشهوة لما توهمت أن هذا الشاب الجميل يريد مواقعتها وجرى ماؤها.

وفي هذه اللحظة نفخ جبريل فيها روح اللَّه فامتزجت رطوبة النفخ التي هي الماء المتوهم بمائها الحقيقي وتكوّن جسد عيسى.
ولم يكن ذلك النفخ سوى الروح الإلهي الذي مسّ ماء مريم فسرت فيه الحياة.
ولا يرى القيصري (شرحه على الفصوص ص 252 - 3) أن تولد المولود من ماء المرأة وحدها أمر مستحيل لاحتمال وجود جراثيم اللقاح فيها.
وعدم جريان العادة بذلك لا ينهض دليلًا عنده على استحالته.

(7) «ويحتمل أن يكون العامل فيه «تنفخ» فيكون طائراً من حيث صورته الجسمية الحسية».
(7) يبحث عن العامل في المجرور «بِإِذْنِ اللَّهِ» في قوله تعالى في حق عيسى «وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي»: هل هو «يكون» فيكون المعنى «فيكون بإذن اللَّه طيراً»، أو «تنفخ» فيكون المعنى «فتنفخ فيه بإذن اللَّه فيكون طيراً؟» بعبارة أخرى هل كان خلق الطير من الطين من عمل عيسى بواسطة النفخ الذي أذن اللَّه له به، أم كان الخلق بإذن اللَّه و لم يكن لعيسى فيه سوى النفخ؟
إذا قلنا إن عيسى لم يكن سوى أداة في الخلق من حيث إنه سوَّى الطين في صور كهيئة الطير و نفخ فيها، و إن الخالق في الحقيقة هو اللَّه، كان قولنا هذا أشبه بقول الأشاعرة في خلق الأفعال أو أشبه بنظرية ديكارت و ملبرانش في تفسير الحركة، و هي النظرية المعروفة بنظرية المصادفة  Occasionalism :  ولكن هذا تفسير لا يتمشى مع الروح العامة لمذهب يقول بوحدة الوجود.
وإذا قلنا إن خلق الطير من الطين كان من عمل عيسى نفسه، لزم أن يكون تحقق هذا الفعل راجعاً إلى أن اللَّه أمره بالنفخ في الطير المصور في الطين.

والتفسير الصحيح المتمشي مع مذهب المؤلف هو أن الخالق للطير من الطين هو اللَّه المتجلى في الصورة العيسوية، والذي صدر عنه كل ما صدر عن عيسى من الأعمال الخارقة للعادة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيرهما:
أي أنه ليس في الأمر ثنوية كما يذهب إليه الأشاعرة وأصحاب مذهب المصادفة: خالق يفعل كل شيء، ومحل يظهر فيه فعل الخلق، أو إنسان يظهر على يديه ذلك الفعل.
كما أن الخلق لم يكن لعيسى مستقلًا عن اللَّه.
و يذهب القيصري إلى أن خلق الطير من الطين كان من فعل عيسى نفسه و أنه كان من جملة المعجزات التي ظهر بها في قومه.
وإذا كان كذلك فلا يكفي أن يكون عيسى قد صنع أجسام الطير من الطين، وأنه نفخ فيها، في حين أن الذي خلق الطير الحقيقي منها هو اللَّه، لأن هياكل الطير الطينية ليست طيراً والمنصوص عليه هو أن عيسى خلق طيراً.
ولذلك يعيد الضمير في قوله «من حيث صورته الجسمية» إلى عيسى نفسه لا إلى الطير: أي أن الطين صار طيراً بواسطة نفخ عيسى الصادر عن صورته الجسمية المحسوسة- لا أن الطين صار طيراً من حيث صورته الجسمية المحسوسة.
ولكني أرى أن القيصري في نسبته الخلق إلى عيسى، مهما كان فيه من تأييد لمعجزته، قد خرج على روح مذهب ابن العربي في وحدة الوجود.

(8) «ولو أتى جبريل أيضاً بصورته النورية الخارجة عن العناصر والأركان إذ لا يخرج عن طبيعته إلخ»:
(8) إن السر في أن عيسى أحيا الموتى وخلق من الطين طيراً بالمعنى المتقدم وهو في صورة بشرية، يرجع إلى أن جبريل الروح تمثل لأمه مريم في صورة بشرية، ولو أنه أتى إليها في صورة أخرى لما كان عيسى ليستطيع أن يفعل ما فعل إلا إذا ظهر هو الآخر بهذه الصورة لأن جبريل كان له بمثابة الأب والولد سر أبيه.
أما أن جبريل لا يخرج عن طبيعته فمعناه أنه لا يتجاوز في عمله من حيث هو مبدأ الحياة في عالم الكائنات الحية الفلك السابع أو سدرة المنتهى التي هي حد الفلك السابع: وهو آخر الأفلاك في العالم الطبيعي.
فجبريل يستطيع الظهور بأية صورة شاء من صور الأفلاك السبعة بما في ذلك فلك الأرض، بل يستطيع أن يظهر في صورته النورية المحضة الخارجة عن العناصر والأركان، ولكنه لا يستطيع أن يتعدى حدود الطبيعة: إذ ليس وراء الطبيعة إلا الواحد الحق المنزه عن جميع الصفات.
و الطبيعة طبيعتان:
نورية و عنصرية.
أو طبيعة عنصرية و طبيعة غير عنصرية.
 و هي تفرقة أخذها مفكرو الإسلام عن أرسطو الذي ميز بين الطبيعة الأثيرية التي هي مادة الأفلاك.
والطبيعة العنصرية التي هي عادة عالم الكون والفساد.
فإذا قلنا إن جبريل يستطيع أن يظهر بأية صورة في عالم الطبيعة بناحيتيه، كان معنى هذا أنه مبدأ الحياة الساري في كل صورة من صور هذا العالم.
(9) «ولذلك نُسِبُوا إلى الكفر وهو الستر لأنهم ستروا اللَّه الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى».
(9) لما أحيا عيسى الموتى و خلق الطير من الطين و أتى بغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، ذهب الناس في أمره مذاهب شتى.
فمنهم من قال بحلول اللَّه فيه فنسب كل هذه الخوارق إلى اللَّه «المستور» خلف الصورة العيسوية: وهذا هو الكفر في نظر ابن العربي إذ الكفر معناه «الستر»
والإشارة هنا إلى قوله تعالى «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».
ولكن بأي معنى، ومن أي وجه كفر الذين قالوا إن اللَّه هو المسيح عيسى ابن مريم؟
يقول إنهم لم يكفروا بقولهم إن اللَّه هو المسيح، ولا بقولهم إن المسيح هو عيسى ابن مريم، ولكنهم كفروا بالقولين معاً: أي بقولهم إن اللَّه هو المسيح عيسى ابن مريم وحده دون غيره.
فكفرهم راجع إلى قولهم بالحلول!.
أي سترهم الحق وراء الصورة العيسوية وقولهم إنه حال في هذه الصورة دون غيرها:
مع أن الحق لم يحلّ في صورة المسيح ولا في غيرها، وإنما تجلى في كل صورة من صور الوجود بما فيها صورة المسيح.
وقد كان السبب في كفرهم جهلهم بطبيعة الوجود وتقييدهم الحق بصورة معينة مع أنه منزه عن التقييد، إذ لا صورة من صور الوجود أحق به من غيرها.

(10) «وكان النفخ من الصورة، فقد كانت و لا نفخ، فما هو النفخ من حدِّها الذاتي».
(10) ظهر جبريل لمريم في صورة بشرية ثم نفخ فيها كلمة اللَّه: أي أنه كان في هذه الصورة ولا نفخ. فالنفخ إذن ليست جزءاً من حد الْبَشَر ولو أنه يصدر عنه.

أي أن ظهور جبريل في صورة بشرية شيء ونفخه في مريم بهذه الصورة شيء آخر.
كذلك الحال في ظهور الحق في صورة عيسى، فإنه لا يلزم منه أن تكون الألوهية التي هي صفة ذاتية للحق صفة لهذه الصورة الخاصة.
أي أن تجلي الحق في أية صورة من صور الوجود شيء وكونه عين هذه الصورة شيء آخر: أو أن الألوهية ليست جزءاً من حد الصورة التي يتجلى فيها اللَّه، كما أن النفخ ليس جزءاً من حد الصورة البشرية التي ظهر فيها جبريل.
كان النفخ إذن من جبريل الروح لا من الصورة التي ظهر فيها.
ولهذا ينسب النفخ إليه لا إليها، كما أن الألوهية تنسب إلى اللَّه لا إلى الصورة التي يتجلى فيها.

(11) «كما قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ*. نفخ فيه هو تعالى من روحه فنسب الروح في كونه وعينه إليه تعالى».
(11) الإشارة هنا إلى قوله عز و جل «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (قرآن س 38 آية 72) فنسب الروح في كون الإنسان و في عينه إلى نفسه تعالى.
أي نسبها إلى نفسه عند ما وصف كيفية خلق الإنسان وعند ما أشار إلى عينه. أما الأولى فتعبر عنها الآية في قوله «سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ» وأما الثانية فتعبر عنها في قوله «مِنْ رُوحِي» لأن عين الإنسان الحقيقية هي روحه التي هي روح اللَّه.
أما في حالة عيسى فالأمر بخلاف ذلك، لأن اللَّه تعالى عند ما خلق الإنسان سوى صورته أولًا ثم نفخ فيه من روحه فظهر في الوجود بهذه الصورة الخاصة.
ولكن عيسى جاءت تسوية صورته الجسمية بعد أن تلقت أمه كلمة اللَّه: أي بعد أن نفخ فيها روح اللَّه.
وقد اقتضى ذلك أن الروح الإلهي قد سرى في جميع جسد عيسى قبل أن يسوى ذلك الجسد في الصورة الخاصة.
ومعنى هذا أن تسوية جسمه وصورته البشرية قد تمّا معاً بالنفخ الروحي.
وفي هذا تعليل لما قلناه من قبل (التعليق الثاني) من أن جسد المسيح ليس جسداً عنصرياً يخضع للكون والفساد كسائر أجساد البشر ولكنه طبيعي نوري: أو طبيعي غير عنصري.

(12) «فالموجودات كلها كلمات اللَّه التي لا تنفد فإنها عن «كنْ».
(12) سبق أن أشرنا (التعليق الخامس) إلى أن ابن العربي يعتبر كل شيء في الوجود كلمة من كلمات اللَّه من حيث إن الموجودات جميعها مظاهر للكلمة الإلهية أو العقل الإلهي الذي غالباً ما يسميه بالروح المحمدي أو الحقيقة المحمدية، كما يطلق عليه أحيانا اسم جبريل على نحو ما رأينا فيما سبق.
وقد سميت الموجودات «كلمات» من حيث إنها مخلوقة بكلمة التكوين «كن» هذا كلام أهل الظاهر.
أما حقيقة المسألة وباطنها فالكلمة «كن» رمز للعقل الإلهي الذي هو واسطة في الخلق بين الواحد الحق والكثرة الوجودية التي هي أعيان العالم.
فهو البرزخ الذي تمر به الموجودات من وجود بالقوة- وجود معقول- إلى وجود بالفعل و هذه صفة من الصفات التي يصف بها ابن العربي ما يسميه بالكلمة  Logos  وبالحقيقة المحمدية و الإنسان الكامل وغير ذلك من الأسماء.
فنحن لا نتردد إذن في القول بأن كلمة التكوين هي الحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي- ولكن لا الكلمة القولية «كن» بل الكلمة الوجودية على حَدِّ تعبير شراح الفصوص.
وعلى هذا تكون الكثرة الوجودية كلمات للَّه من حيث هي تعينات جزئية أو مظاهر للكلمة بالمعنى المتقدم.
وإذا صح لنا أن نقول إن الكلمات التي يتلفظ بها الإنسان إنما هي صور للنَّفَس الخارج من صدره، أمكننا أن نقول بالقياس إلى ذلك إن الكلمات الوجودية صور خارجية للنفس الرحماني أو للذات الإلهية.
ولا يبعد أن يكون مصدر هذه التعبيرات متصلًا بالآية القرآنية: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي» (س 18 آية 109) ولكنني أعتقد أن الاصطلاح قد تسرب إلى مفكري الإسلام من فلاسفة الأفلاطونية الحديثة بالاسكندرية ومن كتابات فلاسفة اليهود الذين عاشوا فيها لا سيما فيلون.

يتساءل ابن العربي بعد ذلك فيقول «فهل تنسب الكلمة إليه (إلى اللَّه) بحسب ما هو عليه فلا تعلم ماهيتها، أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول «كُنْ» فيكون قول كن حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها»؟
أما إذا أخذنا كلمة التكوين بهذا المعنى الميتافيزيقي على أن المراد بها العقل الإلهي أو الحقيقة المحمدية التي هي واسطة في الخلق، ونسبناها إلى الواحد الحق، كانت غير معلومة الماهية كما أن الحق نفسه غير معلوم الماهية.
وأما إذا فهمناها على حرفيتها فلا يمكن نسبتها إلى الحق مطلقاً لأن الحق يتعالى عن التلفظ والنطق بالكلمات.

وإذن يجب نسبتها إلى من ينزل الحق إلى صورته وتكون له القدرة على الخلق كما كان الحال في عيسى عليه السلام وابي يزيد البسطامي الصوفي، فإن الحق قد نزل إلى صورة هذين- كما نزل إلى صور غيرهما من الموجودات التي لا تحصى- وكانت لهما القدرة على الخلق وقالا لمخلوقاتهما كوني فكانت.
في هذه الحالة تكون نسبة الكلمة التكوينية إلى الصورة التي نزل إليها الحق نسبة حقيقية.
غير أننا إذا أضفنا الخلق إلى عيسى أو أبي يزيد أو أي كائن آخر يجب ألا ننسى أن الخالق في الحقيقة ليس هو صورة عيسى أو أبي يزيد أو غيرهما، وإنما هو النازل إلى تلك الصور- أي هو الروح الإلهي الساري في هذه الصور.
ففي نسبة الخلق إلى المخلوقات ضرب من التجوز، كما أن في نسبة كلمة التكوين- من حيث هي كلمة- إلى الحق ضرباً من المجاز، وهي لا تنسب على الحقيقة إلا إلى واحد من المخلوقات لأنها من عالم الخلق.

(13) «وإنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا»
(13) كثرت في هذا البيت وفي البيت الذي يليه الألفاظ المزدوجة المعنى فانبهم المراد وكثرت في تأويله الآراء.
فكلمتا «عين» و «إنسان» إما أن يفهما بمعنى العين الجارحة وإنسان العين أو العين الباطنة وإنسانها الذي هو موضع السر منها، وإما أن يفهما بمعنى الذات الإلهية و العالم: العين الذات، والإنسان الإنسان الكبير العالم.
واللبس واقع حتى في كلمة «إنّا» فقد يكون المراد بها الجنس البشري، الإنسان الذي هو أكمل المخلوقات، وقد يكون المراد بها المخلوقات كلها أو ما يطلق عليه سوى اللَّه.
ولكل من هذه التفسيرات أساس من كلام ابن العربي نفسه.

فالبيت إذن يحتمل أحد التأويلين الآتيين:
1 - إنك إذا تكلمت عن الإنسان الذي هو الإنسان الكبير أو العالم فاعلم أنه عين الذات الإلهية لا غيرها، و هو عينها من حيث هو ظاهرها و هي باطنه.
أو إن شئت فقل إن العالم عين الأسماء الإلهية التي هي عين الذات.
2 - إنك إن تكلمت عن الإنسان الذي هو الجنس البشري فاعلم أنه من حيث كمال صورته التي تتجلى فيها جميع كمالات الحق، عين الحق التي يرى بها نفسه في مرآة الوجود.
وقد أشار إلى هذا المعنى ذاته في الفص الأول في قوله: «لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها:
وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله إلخ إلخ». فبالانسان تحققت الغاية من الوجود وهي أن يُعْرَف الحق، وهو يعرف عن طريق الإنسان الذي يعرف الحق في نفسه وفي غيره: فهو عينه لأنه أكمل مجلى من مجاليه، و هو له بمثابة العين الباصرة الذي يدرك بها صاحبها ما حوله من الوجود.
وإلى هذا المعنى أيضاً أشار الحسين بن منصور الحلاج في بيتيه المشهورين.
سبحان من أظهرنا سوتُه سرَّ سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا لخلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب.

غير أننا يجب ألا نغفل عن الفرق الكبير بين الحلاج وابن العربي:
فالأول حلولي يرى أن اللَّه قد يحل في الإنسان فتظهر بذلك كمالاته وأسرار ألوهيته.
أما الثاني فاتحادي يرى أن الإنسان هو المظهر الكامل الدائم للَّه، وأنه لا فرق بين ناسوت ولاهوت إلا بالاعتبار.
ولذلك قال: فكن حقاً وكن خلقاً تكن باللَّه رحمانا
أي اعتبر نفسك هذا أو ذاك، فأنت حق من وجه وخلق من وجه، وأنت حق وخلق معاً.
وإذا نظرت إلى نفسك هذه النظرة كنت مظهراً كاملا للاسم «الرحمن» الذي هو جماع الأسماء الإلهية كلها.

وقد عرفنا فيما سبق أن المراد بالاسم الرحمن الاسم الذي يعطي الموجودات حظها من الوجود الذي تتطلبه أعيانها.
فهو مرادف للوجود المطلق الذي هو الحق.
وعلى ذلك فالإنسان هو المظهر الكامل للوجود كما أنه المظهر الكامل للأسماء (قارن الفص الأول: التعليق الخامس).

(14) «وغذ خلقه منه تكن رَوْحاً وريحاناً»
(14) ذكر فيما مضى تشبيه الحق الساري في الخلق بالغذاء الذي يسري في الجسم و يقومه (الفص الخامس: التعليق الأول).
و المراد بالبيت: اعتبر الحق غذاء للخلق لأنه هو الذي يمد الخلق بوجودهم و حياتهم كما يمد الغذاء الجسم المتغذي بحياته. وقد عبر عن هذه الحياة بالريحان.
أما الروح بفتح الراء وسكون الواو فهو الراحة، والمراد به التفريج عن الكرب الذي كانت تضطرب به أعيان الموجودات التائقة إلى الوجود كيما تمنَحَ الوجود.
والخطاب هنا موجه إلى الإنسان الكامل "الخليفة" الذي هو سر الوجود وعلته.
فبوجوده عمت الرحمة جميع الموجودات كما قلنا، وشملتهم الراحة واستنشقوا رائحة الريحان.
على أن «التغذية» ليست من الحق للخلق فحسب، بل هي من الخلق للحق
أيضاً، فإن الخلق يغذي الحق بإظهار كمالات أسمائه وصفاته التي لم تكن لتوجد لو لا وجود الخلق.

ولذلك قال: «فأعطيناه ما يبدو به فينا وأعطانا» أي فأعطيناه الظهور وأعطانا الوجود.
«فصار الأمر مقسوما بإياه. وإيانا» أي فصار أمر الوجود منقسماً بين الحق والخلق: إذ هو حق في خلق وخلق في حق، أو فصار المعطى منقسماً إلى ما يعطيه الحق للخلق وما يعطيه الخلق للحق.
«فأحياه الذي يدري بقلبي حين أحيانا» الضمير في أحياه عائد على الحق، والجار والمجرور في «بقلبي» متعلق بأحيا أو بيدري.
والمعنى أن الجزء الخاص في القلب الذي له صفة المعرفة قد أحيا اللَّه في القلب كما أحيا اللَّه الناس.
ومعنى إحياء اللَّه في القلب إيجاد صورة له فيه من صور المعتقدات.
وهذا معنى طرفه ابن العربي مراراً فيما مضى.
وفي ذلك قوله: «لذاك الحق أوجدني فأعلمه فأوجده»
(الفص الخامس) وقد يكون للبيت معنى آخر وهو الذي ذهب إليه «بالي» في شرحه على الفصوص إذ اعتبر الضمير في أحياه عائداً على القلب المتأخر لفظاً المتقدم معنى: فأصبح معنى البيت على حد فهمه: أحيا قلبي بالحياة العلمية الحقُّ الذي يدري قلبي ويعلم استعداده الأزلي:
فهو يحيينا بالحياة العلمية الروحية كما أحيانا بالحياة الحسية.
«فكنا فيه أكوانا و أعيانا و أزمانا»
«كان» في كنا تفيد الاستمرار لا الزمان الماضي المنقطع كما في قوله تعالى: «كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» *.
و المراد أننا على الدوام في الحق: ففيه كوننا و وجودنا و فيه دواتنا التي هي أعياننا.
و هذا إشارة إلى ما يسميه أصحاب وحدة الوجود بمقام قرب الفرائض، و هو مقام الوحدة الذاتية الحاصلة بالفعل بين الحق و الخلق.
و لكن هناك مقاماً آخر هو مقام قرب النوافل الذي يشير إليه الحديث القدسي «لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع و بصره الذي به يبصر إلخ» و في هذا المقام يتحقق العبد من وحدته الذاتية مع الحق فهو مقام اثنينية و الأول مقام أحدية.
و لا ضرورة إلى ما ذهب إليه «بالي» من إرجاع الضمير في «فيه» إلى عالم الغيب إذ لا ذكر له في الأبيات:
«و ليس بِدَائِمٍ فينا و لكن ذاك أحيانا»
الإشارة هنا إلى التجلي الشهودي لا التجلي الوجودي كما يقول «جامي» (شرح الفصوص ج 2 ص 172).
فالحق يتجلى بالتجلي الوجودي في الخلق على الدوام، و لكنه لا يتجلى بالتجلي الشهودي- أي لا يدركه الخلق إدراكاً ذوقياً شهودياً إلا في بعض الأحيان.
و ليس إدراك الحق بالشهود رؤية بعين البصر أو البصيرة فهذا أمر برهن ابن العربي على استحالته في مواطن عدة من هذا الكتاب، و إنما المراد إدراك الوحدة الوجودية ذوقاً في مقام يسميه مقام الشهود و هو مقام الفناء.

(15) «فلذلك قَبِلَ النَّفَسُ الإلهي صور العالم».
(15) يظهر من ناحية الاشتقاق اللغوي أن كلمتي «النَّفْس» والنّفَس آتيتان من أصل واحد، و لعل هذا راجع إلى اعتقاد القدماء بأن النفْس- أو الروح- جوهر لطيف شفاف أكثر ما يكون شبهاً بالهواء الذي منه النَّفَس الحيواني.
ولهذا كان من السهل تصور انتقال الروح إلى الجسم بواسطة النفخ كما صرح بذلك القرآن في حكاية خلق آدم وعيسى:
قال في الأول: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» *،
و قال في الثاني: «وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا».
فالنفخ الإلهي كناية عن منح الحياة للجسم المنفوخ فيه، و النَّفَس الإلهي كناية عن النَّفْس أو الروح الإلهي.
و لكن القرآن لم يتكلم عن نَفَسٍ إلهي يقبل صور الموجودات أو عن نَفْسٍ إلهية تتفتح فيها صور العالم، أي أن القرآن لم يحدثنا عن جوهر روحي عام تتعين فيه صور الموجودات في العالم، و إن ذكر لنا أن اللَّه هو واهب الحياة لكل كائن حي.
ولذلك كان من الواجب أن نبحث عن أصل ما يقوله ابن العربي في هذا الصدد في مصدر آخر غير القرآن، وأغلب الظن عندي أنه استمد فكرة النفس الكلية التي تفتحت فيها صور العالم، من الكتابات الهلينية المتأخرة المتأثرة بالفلسفة الهرميسية.
فقد ذكر في المقالة التاسعة من مجموعة الفلسفة الهرميسية إن نَفَس الحياة الساري في العالم على الدوام يمد الأجسام بما يتعاقب عليها من الصفات، ويجعل من العالم كتلة واحدة حية.

وفي موضع آخر «إن الحياة والعقل يُنْفَخان نفخاً في كل ذي روح من الموجودات، وإن اللَّه قد نفخ الحياة والعقل في العالم منذ أنشأته».
وليس هذا النّفَس الساري في الوجود الذي نفخ به اللَّه في كل كائن، سوى ما يسميه ابن العربي بالنفس الرحماني على ما بين الفكرتين من اختلاف في التفاصيل.
وسواء أ قلنا- كما يقول النص- إن النَّفَس الإلهي قد قبل صور العالم أو إن صور العالم قد قبلته، فإننا في الحالين يجب ألا نفهم من القبول والإعطاء معناهما الحرفي، فإن اثنينية القابل والفاعل ليست إلا اثنينية اعتبارية كما قررنا فيما سبق.

ولما ذكر النفس الرحماني وقارن بينه وبين النفس الحيواني رأى أن ينسب إلى النفس جميع ما يستلزمه من التَّنفيس، وقبول صور الحروف والكلمات، ووجود الفاعل (النافخ) والقابل (المنفوخ فيه) وحرارة النَّفَس ثم برودته، ورطوبته، و صعوده و هبوطه و غير ذلك.
أما التَّنْفيس وقبول صور الكلمات فقد مر ذكرهما، وأما الفاعل والقابل فهما الطبيعة وهيولى العالم على التوالي.
و المراد بالطبيعة القوة الكلية السارية في جميع الموجودات عقولًا كانت أو نفوساً، مجردة كانت أو غير مجردة.
ولهذا اعتبر العناصر وما فوق العناصر من أرواح علوية و ما تولد عنها، و أرواح السموات السبع، من صور الطبيعة.
أما الفلاسفة المشاءون من المسلمين فالطبيعة عندهم هي القوة السارية في الأجسام، بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعي. فهي لذلك نوع من الطبيعة الكلية كما يفهمها الصوفية.
و نسبة الطبيعة الكلية إلى النفس الرحماني كما يقول القيصري (ص 261) أشبه بنسبة الصورة النوعية إلى الجسم الكلي أو أشبه بنسبة جسم معين إلى الجسم من حيث هو.

(16) «وأما أرواح السماوات السبع وأعيانها فهي عنصرية».
(16) في كلام ابن العربي شيء من التخبط في هذا الموضوع، فقد ذكر فيما مضى ما يُفْهَم منه أن الأجرام السماوية غير عنصرية بالرغم من أنها طبيعية، وهذا هو سر بقائها وعدم خضوعها لقانون الكون والفساد.
ولكنه يقول هنا إن أرواح السماوات السبع وأعيانها عنصرية لأنها تكونت من دخان العناصر الذي هو ألطف وأدق صور المادة.
وقد وردت كلمة «الدخان» في القرآن بصدد خلق السماوات في قوله تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (س 41 آية 10)، ولكنها وردت أيضاً في هذا المعنى في نصوص أقدم من القرآن ذكر فيها الدخان على أنه عنصر خامس وأنه أعلى العناصر وأنقاها وألطفها.
 (راجع  Hermetica P. 115, 123)
وعلى ذلك انقسمت الأشياء الطبيعية إلى قسمين: عنصرية وهي ما تألفت من العناصر الأربعة في العالم الطبيعي، وما تألفت من دخان العناصر وهي الأجرام الفلكية والأرواح التي تدبرها، وكذلك كل ما تولد عن هذين.
أما الطبيعية غير العنصرية فهي الأرواح التي فوق السماوات السبع وهي المجردات من النفوس والعقول، مثل روح العرش وروح الكرسي وغيرهما.
وطبيعة هذه نورية لا عنصرية: أي غير مادية كما أسلفنا.
فهناك إذن فرق بين طبيعة الملائكة المتولدة في الأفلاك والملائكة التي فوقها، لأن طبيعة الأولى عنصرية
كطبيعة أجرام الأفلاك نفسها، في حين أن طبيعته الثانية نورانية.

(17) «فلهذا أُخْرِج العالم عن صورة من أوجدهم وليس إلا النَّفَس الإلهي».
(17) ليس المراد بإخراج العالم هنا خلقه من العدم، بل إظهاره بالصورة التي هو عليها.
و الذي أخرج العالم بالصورة التي هو عليها هو النّفَس الإلهي الذي قبل جميع صور الوجود، أو هو حضرة الأسماء الإلهية كما سبق أن ذكرنا.
فالعالم الذي هو «الإنسان الكبير» خلق على صورة الحق- بل هو صورة الحق، كما أن آدم- العالم الأصغر- قد خلق على صورة الحق.
و الفرق بين الصورتين أن الأولى صورة مفصلة و الأخرى مجملة، و الأولى مركبة من أكوان و صور مختلفة، و الأخرى كون واحد جامع يحتوي ما في العالم كله أعلاه و أسفله.
ولما كان النفس الإلهي قد قبل الأضداد وتفتحت فيه الكثرة الوجودية المتناقضة كل أنواع التناقض، ظهر العالم بصورة من أوجده فانعكس فيه كل ما هو في الأصل الذي صدر عنه وظهر فيه التقابل و التناقض ايضاً.
و يستوي عند ابن العربي أن نقول إن الأسماء الإلهية تعددت و تناقضت لظهور أحكام الكثرة الوجودية فيها، أو أن العالم وقع فيه الكثرة و التناقض من أجل ظهور أحكام الأسماء الإلهية فيه.

(18) «ثم إن هذا الشخص الانساني عَجَنَ طينته بيديه وهما متقابلتان و إن كانت كلتا يديه يمينا».
(18) الشخص الانساني هو آدم أو الجنس البشري. و قد عجن اللَّه صورته بيديه المتقابلتين أي أظهر فيه كمالات أسمائه و صفاته المتقابلة: و هي أسماء الجمال و أسماء الجلال.
على أن الأسماء و الصفات الإلهية المتقابلة لم تظهر في الصورة الانسانية وحدها، بل هي ماثلة في جميع مظاهر الوجود.
أما وصفه يدي الحق بأن كلتيهما يمين فيرجع فيما أرى إلى سببين:
الأول: أن اليد اليمنى أقوى وأشدُّ في عملها عادة من اليد اليسرى.
وإذا فهمنا أنه يريد باليدين هنا أسماء الجمال و أسماء الجلال، أدركنا أنه يريد أن يقول إن جميع الأسماء الإلهية متكافئة في قوة فعلها و تأثيرها في الوجود، و إن الصفات الإلهية المتقابلة أيضاً متكافئة في قوة ظهورها في الموجودات.
الثاني: أن اليد اليمنى عادة هي اليد التي تعطي. فكأنه يريد أن يقول إن الأسماء الإلهية والصفات متكافئة في إعطاء الوجود ما هو عليه من الصفات والخصائص.
فاختلفت اليدان ظاهراً فقط واتحدتا في الحقيقة، وقد اختلفتا لأن الطبيعة التي يؤثران فيها مختلفة متقابلة، ولا يؤثر فيها إلا ما يناسبها.

(19) «ولما أوجده باليدين سمّاه بَشَراً للمباشرة اللائقة بهذا الجناب».
(19) عقد صلة لفظية ولكنها بعيدة بين كلمتي «بَشَر» و «مباشرة» وقال إن الإنسان سمِّيَ بشراً لأن الحق تعالى باشر عجن طينته بيديه بطريقة تليق بالجناب الإلهي.
والمباشرة التي تليق بالجناب الإلهي في نظر ابن العربي ليست المباشرة «بلا كيف» كما كان يقول مثبتو الصفات، بل إظهار الكمالات الإلهية المودعة في الأسماء (المعبر عنها باليدين) في الصورة البشرية التي خلقها اللَّه على صورته (قارن الفص الأول).
على أن كلمة «الجناب» قد يراد بها جناب الإنسان: أي أن يدي الحق توجهتا إلى خلق الإنسان ومباشرة ذلك الخلق على نحو يليق بالكرامة الانسانية.
ولكن التفسير الأول أولى وأدنى إلى المراد.
ولما كان الإنسان وحده هو الذي توجهت يدا الحق إلى مباشرة خلقه على نحو ما شرحنا، كان أفضل الأنواع العنصرية إطلاقاً.
ولكنه لم يفضلها إلا بأن الحق باشر خلقه بيديه جميعاً: أي أنه أظهر فيه جميع كمالات أسمائه وصفاته، وغيره من الكائنات العنصرية لا تظهر فيه هذه الكمالات مجتمعة. فالإنسان- من هذا الوجه- أفضل من الملائكة العنصريين: أي ملائكة السماوات السبع.
أما من فوق هؤلاء من الملائكة فهم أفضل منه.
ولهذا قال اللَّه لإبليس لما أبى السجود لآدم «أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟» أي أستكبرت على من هو عنصري مثلك، أم كنت من العالين عن العناصر؟

(20) «فأول أثر كان للنَّفَس إنما كان في ذلك الجناب، ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد».
(20) قد ذكرنا مراراً أن الأسماء الإلهية يقتضي تطبيقها وجود المألوه الذي هو العالَم وأنه على حد قول المؤلف لو لا التَّنفيس عن هذه الأسماء بإظهار آثارها في الصور الوجودية التي ظهرت فيها، لأحست بكرب عظيم لما يحتبس فيها حينئذ من قوة خالقة لاتحد ما تخلقه.
و في هذا التصوير المجازي للقوة الخالقة في الوجود معنى فلسفي عميق، إذ يتصور ابن العربي الحقيقة الوجودية على أنها شيء يندفع من ذاته إلى الظهور دائماً و يتحوَّل في كل لحظة ما استقر فيه من كوامن القوة إلى صور وجودية فعلية.
وأول أثر ظهر لهذا التَّنْفيس الوجودي كان في حق الحق ذاته، لأن أول مرحلة من مراحل ظهور الحق كانت تجليه لنفسه في نفسه في صور أعيان الممكنات، أو في الحضرة الأسمائية وهي الفيض الأقدس الذي أشرنا إليه (راجع الفص الأول: التعليق الثالث).
ثم توالت الفيوضات بعد ذلك في صورة تنازلية إلى آخر ما وجد من الممكنات، وهذا هو المعبر عنه بالفيض المقدس.
وفي كل فيض: أي في كل حال يتجلى فيها الحق في الخلق، «تنفيس» بالمعنى الذي شرحناه.

(21) «فالكل في عين النَّفس كالضوء في ذات الْغَلَس» الأبيات
(21) النّفَس بمثابة الجوهر الهيولاني الذي تتفتح فيه صور الموجودات، و إذا أخذناه في إطلاقه و عدم تعينه كان بعيداً عن الإدراك و التصور، و هذا هو السر في تشبيهه بالظلمة الحالكة.
أما إذا نظرنا إليه من ناحية ظهور «الكل» فيه أمكننا أن ندرك صور «الكل» في فحمة هذا الظلام، لما سكب الحق على هذه  الصور من نور الوجود و لما كان الظلام لا يمكن إدراكه إلا عن طريق ما يتخلله من النور، لم ندرك «النّفَس الإلهي» إلا عن طريق ما تفتح فيه من صور الوجود.
و لكن كيف ظهر الخلق في الحق؟
أو كيف تفتحت صور الوجود في النّفَس الإلهي؟
كيف ظهر الخلق؟
هذا سؤال حاول الاجابة عنه أهل النظر بالبرهان، و أجاب عنه الصوفية بالكشف، و طريق أهل النظر عقلي منطقي، و طريق الصوفية ذوقي شهودي.
أما الأولون فلما طلبوا حقيقة الأمر وأعياهم مطلبها قعدوا عن طلبها واستكانوا.
وأما الآخرون فجدوا في الطلب حتى وصلوا إلى غايتهم و شاهدوا الأمر شهوداً عينياً ليس فيه لبْسٌ أو تأويل.
أما صاحب النظر فيرى أمر الخلق كما يرى النائم حلماً من الأحلام: أي أنه يرى رمز الحقيقة لا الحقيقة نفسها.
وإلى اصحاب النظر (الفلاسفة) يشير بقوله:
والعلم بالبرهان في سلخ النهار لمن نعس أي والعلم بمسألة الخلق وظهور الكل في النفس الإلهي من خواص الناعسين الذين تبدو لهم الحقيقة في ثوب من الخيال، فيطلبون تأويلها كما تبدو للنائم الحقائق في صور الأحلام.
وسلخ النهار رمز لآخر مرحلة من مراحل السلوك إلى الحق.
فيرى الذي قد قلته رؤيا تدل على النفس أي فيرى الأمر الذي شرحته كما يرى الحالم رؤياه لا كما يرى العارف رؤيته.
فيريحه من كل غم في تلاوته عبس أي فتريحه هذه الرؤيا الناقصة من كل غم يشعر به من جراء الحيرة العقلية التي يشعر بها إزاء هذه المشكلة.
والمراد بعبس هنا القلق والحيرة لا السورة القرآنية المسماة بهذا الاسم (س 80).

أما أصحاب الكشف والشهود فيشير إليهم بقوله:
و لقد تجلى للذي قد جاء في طلب القبس أي و لقد تجلى هذا الأمر و ظهر على حقيقته لأولئك الذين جدوا في الطلب وسعوا وراء النور (اللَّه).
والإشارة هنا إلى موسى الذي قال لأهله «امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» (قرآن س 20 آية 10 - 11).
فموسى جاء في طلب القبس فرآه ناراً و هو نور.
وكذلك كل سالك إلى اللَّه يطلب هذا النور.
فرآه ناراً وهو نور في الملوك وفي العسس أي أن موسى رأى الحق في صورة النار و هي في الحقيقة النور الذي ظهر في كل شيء في الوجود:
أعلاه وهو المشار إليه بالملوك- وأسفله، وهو المشار إليه بالعسس.
واستعمال كلمة العسس للمظاهر الوجودية الدنيا لا يخلو من مغزى، لأن العسس وهم حرّاس الليل، لا يظهرون في صورة كاملة واضحة لاشتمال الليل عليهم، وكذلك المظاهر الوجودية الدنيا لا يظهر فيها كمالات النور الإلهي واضحة لقصور استعدادها عن قبول ذلك النور.
أما الملوك وهم أظهر الناس، فهم رمز للمجالي الإلهية العليا التي قبل استعدادها أكبر قسط من النور الإلهي.
ويمكن أن يكون معنى البيت- كما يفهمه القيصري أن الحق (النور) ظهر للكاملين من العارفين وهم الملوك ولأولئك الذين هم أقل حظاً في الكمال منهم وهم العسس.

بعد ذلك أشار إلى إفلاس طرق الفلاسفة في الوصول إلى الحقيقة وابتئائهم في قوله:
فإذا فهمت مقالتي فاعلم بأنك مبتئس
ثم عرج على قصة موسى ثانية فقال لو أنه طلب الحق في صورة أخرى غير صورة القبس لرآه في الصورة التي طلبه فيها، لأن الحق يظهر في كل صورة من صور الموجودات ولا يخيب أمل عبده فيه.
فمن طلب الحق في شيء وجده:
وهذا بالضبط الحق المعتقد فيه لا الحق المطلق كما أشرنا إلى ذلك من قبل. فمن الجهل إذن في نظر ابن العربي أن تطلب الحق في صورة معينة وتقول هو ذي دون غيرها من الصور، فان ذلك عين الكفر الذي وقع فيه المسيحيون.
بل اطلبه في أية صورة من الصور ولا تحصره فيها فإن الحقيقة تمنع من الحصر والتقييد.
اجعل قلبك هيولى المعتقدات كلها وشاهد الحق في كل شيء. هذا هو الدين العام الذي يدعو إليه ابن العربي وقد سبق شرحه فيما مضى (راجع مثلا الفص 12 التعليق 2).
أما الإشارة إلى طلب موسى ففي قوله: لو كان يطلب غير ذا لرآه فيه وما نكس.

(22) «مقام حتى نعلم».
(22) هذا هو مقام الفرق أي مقام التمييز بين الواحد والكثرة.
و قد قام الحق بالنسبة لعيسى عليه السلام في هذا المقام عند ما سأله عن صحة ما نسب إليه من الأقوال مما ورد ذكره في القرآن في سورة المائدة: (آية 116 - 117) .
و ترجع تسمية هذا المقام «بمقام حتى نعلم» إلى قوله تعالى: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ" (قرآن س 47 آية 31).
فهنا وضع الحق نفسه في مقام من يأخذ علمه بالناس من الناس أنفسهم مع أن علمه قديم سابق عليهم. هذا إذا نظرنا إلى اثنينية العالم والمعلوم- الحق والخلق- ولكن الحقيقة تأبى الاثنينية إذ العالم عين المعلوم.
وكذلك الحال في عيسى الذي أقامه الحق مقام المسئول وطلب منه معرفة حقيقة ما قاله الناس في ألوهيته.
هذا مقام «حَتَّى نَعْلَمَ» أيضاً، وهو مقام اثنينية اعتبارية ووحدة حقيقية.
وغني عن البيان أن ما أورده الحق سبحانه في القرآن من حديث بينه وبين عيسى إنما قصد به أمراً آخر غير ما يقصده ابن العربي:
ويستوي عنده أن هذا الحديث قد وقع بالفعل أو لم يقع، ولكنه يأخذه على أنه مثال يوضح به وحدة السائل والمسئول ووجود الكثرة في عين الوحدة.
ولذلك فسر جميع الآيات التي وردت في هذا الخطاب تفسيراً يتفق مع مذهبه في وحدة الوجود: كقوله مثلًا في تفسير: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» أي علمته «لأنك أنت القائل، ومن قال أمراً فقد علم ما قال: وأنت اللسان الذي أتكلم به» إلخ.
وكقوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي»: والمتكلم الحق.
ولا أعلم ما فيها (بدلًا من قوله تعالى: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ).
فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث إنه قائل و ذو أثر».
يريد بذلك أننا إذا نظرنا إلى عيسى من حيث هو صورة من صور الحق قلنا إنه ليس له علم بذاته.
وإذا نظرنا إليه من حيث إنه الحق متجلياً بهذه الصورة العيسوية الخاصة التي قالت ما قالت، نسبنا إليه العالم.
والمراد بالأثر خلق عيسى الأشياء وتصرفه فيها.
فالعلم المنفي عن عيسى إنما نفي عنه من حيث صورته الشخصية لا من حيث حقيقته.

(23) «فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها».
(23) أوردت المخطوطات التي رجعت إليها كلمة «تثنية».
ويرفض القيصري هذه القراءة لسببين:
الأول: أن الاثنينية لا يمكن أن توصف بأنها روحية إلهية بينما يمكن وصف التنبئة بهما.
الثاني: أَن عنوان الفص هو الحكمة النبوية لا الحكمة الثنوية. والنبوية والتنبئة مشتقان من أصل واحد.
ولرفض القيصري ما يبرره، ولكنه يجب ألا نفسي أن ابن العربي يفيض في هذا الجزء من الفص في شرح الآيات القرآنية السالف ذكرها على أساس فكرته في وحدة الاثنينية والجمع (راجع شرح القيصري ص 268).

(24) «إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل».
(24) شرحنا في أكثر من موضع في هذا الكتاب معنى الأمر الإلهي وفرقنا بين الأمر التكليفي والأمر التكويني.
وكذلك شرحنا الصلة بين الأمر الإلهي والجزاء على طاعة العبد ومعصيته.
كل من يؤمر بأمر إلهي يتصوَّر منه الامتثال لهذا الأمر، وإلا كان أمر من لا يتصور منه الامتثال ضرباً من العبث.
ولكن العباد منهم من يمتثل ومنهم من لا يمتثل حسبما قدر في طبيعتهم من الأزل.
فإن بعض أعيان الموجودات طبعت أزلًا على الطاعة في حين طبع غيرها على المعصية.
ولكن هذا لا يمنع في نظر ابن العربي من توجيه الأوامر الإلهية إلى الجميع على السواء، لأن الجميع يتصور في حقهم امتثال ما أمروا به.
ومهما تكن استجابة العبد لأوامر اللَّه التكليفية، فإنها امتثال تام لأوامره التكوينية:
أي أن العبد الذي يعصي الأمر التكليفي إنما يطيع بفعله هذا الأمر الإلهي التكويني.
(قارن الفص الثامن التعليق 1، 2، 6).

(25) «فكان الغيب ستراً لهم عما يراد بالمشهود الحاضر».
(25) المراد بالغيب ضمير الغائب «هم» في مثل قوله تعالى: «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» *.
والمشهود الحاضر هو الحق الظاهر المتجلي في صور أعيان الممكنات. هذا إذا نظرنا إلى الحقيقة الوجودية من حيث إنها «حق».
أما إذا نظرنا إليها من حيث إنها خلق وأثبتنا للخلق وجوداً، فقد سترنا الحق وراء صورها.
وهذا معنى قوله أن الغيب (و المراد به الخلق المشار إليه بالضمير هم) ستر للمشهود الحاضر.
أما أن الحق هو المشهود الحاضر، فذلك لأن أعيان الممكنات في ذاتها عدم محض ولم تبرح كذلك لأنها صور معقولة في عالم الغيب العلمي:
وهذا هو الوجه الذي يرتضيه ابن العربي الذي يُغَلب جانب الحق على جانب الخلق دائماً في وحدته الوجودية.
وقد اختار قوله تعالى: «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» لا ليوضح فكرته بضمير الغائب الوارد فيها فحسب، بل ليفهم كذلك كلمة «كفروا» فهماً خاصاً يدعم به هذه الفكرة.
فكفروا هنا ليست بمعنى لم يؤمنوا، بل بمعنى ستروا أو أخفوا، وهذا هو المعنى الحرفي للكلمة. فهم كفروا أي ستروا الحق وراء صورهم فأخفوا بذلك حقيقتهم. إن العالم كله حجاب على الحق، فمن أثبت للعالم وجوداً فقد وضع أكثف حجاب بينه وبين الحق.

(26) «حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكمت في العجين فصيرته مثلها»
(26) العجين هو الناحية البشرية في الإنسان- الناسوت. والخميرة ما في الإنسان من لاهوتية يستطيع بها الوصول إلى مقام الفناء في اللَّه، و يتحقق بوحدته الذاتية معه، بعد أن يتخلص من قيود عبودية أنانيته.
والحضور هو الوصول إلى هذا المقام. فإذا حصل العبد في مقام الفناء غلبت لاهوتيته ناسوتيته أو انمحت ناسوتيته وتحقق بالوحدة الكاملة .
 .
الفقرة التاسعة والعشرون على منتدي إتقوا الله ويعلمكم الله
واتساب

No comments:

Post a Comment