Thursday, November 21, 2019

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

(1) فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
(1) يتصل موضوع هذا الفص اتصالًا وثيقاً بموضوع الفص السابق في كثير من الوجوه لأنه يبحث في مشكلة القضاء والقدر التي هي مشكلة عالم الغيب حيث التقدير الأزلي والجبرية التي يخضع لها الوجود بأسره.
وقد شرحنا في مواطن أخرى من هذا الكتاب معنى «سر القدر» وما يتصل به من بعض المسائل، و لكننا لم نشر بعد إلى الصلة بين القضاء والقدر، ولا بين القدر ومسألة الخلق، كما أننا لم نتعرض لذكر معرفة الإنسان بعالم الغيب ومدى إمكان هذه المعرفة.
وهذه كلها أمور يناقشها المؤلف في هذا الفص.
وقد صوِّر لنا عُزَيْراً في صورة النبي الذي ينشد المعرفة بعالم الغيب عن طريق الوحي ويطلب الاطلاع على سر القدر، وساق لنا الآية التي أخبر اللَّه عز وجل فيها عن عزير أنه قال في قرية من القرى «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟»، مظهراً بذلك شكه وعَجَبه، ومستلهماً من اللَّه حكمته الأزلية في إماته القرية. ثم بيَّن أن العلم بسر القدر ليس مما يوحَى به إلى الأنبياء، وإنما هو أمر ينكشف للعارفين من الأولياء انكشافاً ذوقياً، وهنا نراه يقابل بين الأنبياء والأولياء من جهة، وبين علم الأولين ومعرفة الآخرين من جهة أخرى.
والحقيقة: أن مسألة عزير عن القرية ليس لها كبير صلة بموضوع الفص ولكنه يتخذ الآيات القرآنية الواردة فيها أساساً يبني عليه آراءه في القضاء والقدر ويخرج منها المعاني الفلسفية والصوفية التي يريدها.

(2) «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» (قرآن س 6 آية 150).
(2) أي فللّه الحجة البالغة على عباده، لأنهم استحقوا الثواب والعقاب بذواتهم، فمنهم تصدر الأفعال، و في ذواتهم تتقرر من الأزل.
و لا يحكم قضاء اللَّه على الأشياء إلا بها- أي بمقتضى طبيعتها، فهي الحاكمة على نفسها بما استقر في أعيانها الثابتة. و ليس للَّه في الأمر إلا أن تقتضي عنايته تحقق ما في هذه الأعيان على ما هي عليه.
فإن فَعَلَ الإنسان الخير فمن استعداده الأزلي لفعل الخير، و إن فعل الشر فمن استعداده الأزلي لفعل الشر، و هو يجني في الحالين ثمرة غرسه، أو ثمرة ما غُرسَ في جبلته.
فإن قيل فما معنى الجزاء، و ما معنى الثواب و العقاب في مذهب جبري كهذا المذهب، أجاب ابن العربي أن الثواب و العقاب ليسا إلا اسمين لما عليه حال العباد من طاعة أو معصية، و ما يعقب هذه الحالة من لذة أو ألم في حياة العباد في هذه الدنيا نتيجة لأفعال طاعتهم أو معصيتهم. بل إن هذه الحال نفسها من جملة الأحوال التي تقتضيها أعيان العباد في فطرتها الأولى.
فكما أن العبد مفطور على فعل الخير أو الشر ومفطور على عمل الطاعة أو المعصية، كذلك هو مفطور على أن يكون شقياً أو سعيداً بأفعاله.
ومعنى هذا أن الثواب والعقاب ليسا جزاء من اللَّه يقضي به في الدار الآخرة، بل هما أقرب ما يكون إلى الجزاء الطبيعي الذي يجلبه على الفاعل فعله.
قارن ما ورد في الثواب والعقاب وحمد الإنسان وذمه نفسه: الفص الخامس: التعليقان 6، 7، والسابع: التعليق 11، والثامن التعليقان 5، 6، والعاشر: التعليق 2 إلخ.

(3) «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (قرآن س 17 آية 55).
(3) التفاضل حاصل بين الرسل كما نصت عليه الآية المذكورة وبين النبيين بدليل قوله تعالى «ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ»، بل بين الناس عامة كما قال تعالى «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ».
وعلى هذه الآيات يبني ابن العربي نظرية لا تخلو من طرافة في معنى أفضلية بعض الرسل على بعض، وأفضلية بعض الخلق على بعض، كما يشير إلى اختلاف الرسل في رسالاتهم باختلاف الأمم التي أرسلوا إليها.
فاللَّه قد فضل بعض الرسل على بعض- لا بمعنى أنه خص بعضهم بفضل ما وحرم الآخرين منه، أو أكرم بعضهم أكثر مما أكرم غيره، أو غير ذلك مما هو أدخل في المعاني الخلقية، ولكنه بمعنى أنه أرسل بعض الرسل برسالات لم يرسل بها غيرهم لاختلاف الأمم في مدى استعدادهم لقبول الرسالات الإلهية والعمل بها.
فاختلفت الرسل، واختلفت رسالاتهم باختلاف أممهم.
وفي هذا الاختلاف معنى التفاضل، ولكنه ليس تفاضلًا أخلاقياً ولا تفاضلًا يستند إلى قيمة الرسول عند اللَّه. ليس أحد من الرسل أفضل من الآخر في عمله ولا في درجة قربه من اللَّه، ولكن الرسل يتفاوتون فيما أرسلوا به من الشرائع والأحكام، كل في الزمان والمكان وإلى الأمة التي هي أحق من غيرها برسالته.
فالشرائع إذن تختلف بساطة وتعقيداً كما تختلف في أنواعها، ويحددها في حالة كل رسول طبيعة الأمة التي أرسل إليها وظروفها، فهي متفاضلة أي مختلفة متفاوتة، وكذلك الرسل المرسلون بها.
ولكن لكل رسول نوعين من العلم يختلف فيهما عن غيره من الرسل:
الأول العلم الخاص بشريعته: وهذا مقيد كما قلنا بظروف الأمة التي بعث إليها.
الثاني علم بالأمور الأخرى غير المتصلة بشريعته وهذا مقيد بطبيعته هو واستعداده.
أما الأنبياء فيقع التفاضل بينهم- أي الاختلاف- في النوع الثاني فقط، ومن أهم أجزائه العلم بالمغيبات وأما غير الأنبياء والرسل من الخلق فيقع التفاضل بينهم في الرزق، والرزق منه ما هو مادي كالأغذية ومنه ما هو روحاني كالعلوم. ولا يعطي الحق العباد من الرزق إلا بقدر استحقاقهم، واستحقاقهم هو استعدادهم أو ما تتطلبه حقائقهم وأعيانهم الثابتة. فالتفاضل في الأحوال الثلاثة اختلاف وزيادة ونقص لا تمييز وأفضلية.

(4) «فالتوقيت في الأصل للمعلوم، والقضاء و العلم و الإرادة و المشيئة تبع للقدر».
(4) عرَّف «القدر» في أول الفص بأنه «توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد»، كما عرَّف القضاء بأنه «حكم اللَّه في الأشياء».
فالقدر هو تعيين حدوث شي ء من الأشياء على ما هو عليه في عينه الثابتة في وقت معين، والقضاء هو حكم اللَّه في الأشياء أن تكون كيت وكيت على النحو الذي قدِّر لها أن تكون عليه.
وعليه كان القدر سابقاً على القضاء.
واللَّه ينفذ حكمه في الأشياء بحسب علمه بها، وعلمه بها راجع إلى ما تعطيه الأشياء نفسها مما هي عليه في ذاتها.
فكأن القضاء والعلم تابعان للمعلوم، وكذلك الإرادة والمشيئة.
أما القدر، وهو تعيين الوقت، فسابق على هذه كلها.
وهو راجع إلى الشي ء المقدر نفسه- المشار إليه بالمعلوم.
و يظهر أنه يستعمل كلمتي الإرادة و المشيئة بمعنيين مختلفين جرياً على عادته (راجع الفص الثالث و العشرين) مع أنه لا فرق بينهما في الاصطلاح العادي.
فالارادة عنده تتعلق بوجود ما لا وجود له فقط، و لكن المشيئة تتعلق بوجود ما لا وجود له كما تتعلق بعدم ما هو موجود.
وهذه التفرقة نفسها ملاحظة في القرآن الكريم الذي يظهر أن ابن العربي أخذها منه. يقول اللَّه تعالى «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً».
و يقول «وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ»، «إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَ يَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» *.

(5) «فسِرُّ القدر من أجلِّ العلوم ... فالعلم به يعطي الراحة الكلية للعالِم به، و يعطي العذاب الأليم للعالم به أيضاً».
(5) سر القدر إما الأعيان الثابتة للموجودات الحاصلة من الأزل في العلم القديم، أو كون الموجودات تظهر في وجودها على نحو ما كانت عليه في ثبوتها.
فالعلم بسر القدر إذن هو العلم بسر الوجود و حقيقته، لأن به ينكشف معنى الوجود و معنى شيئية الأشياء، و كيف ظهرت على النحو الذي ظهرت عليه.
كذلك تنكشف به الصلة بين الحق وبين هذا النظام الوجودي الذي نسميه بالعالم، ويظهر للعالم به كيف يقرر كل موجود مصيرَه بنفسه.
لا عجب إذن أن العلم بسر القدر مصدر راحة تامة لصاحبه ومصدر عذاب أليم له أيضاً.
فهو مصدر راحة من حيث إنه يكشف لصاحبه أن كل ما يجري في الوجود إنما هو نتيجة للقوانين المغروسة في طبيعة الوجود ذاتها، وأن كل إنسان مقدّر عليه أن يكون ما هو عليه في الواقع، وأن يظهر بالصورة التي ظهر فيها.
لا مناص من ذلك ولا معدى عنه.
ومن شأن هذا العلم أن يبعث في نفس صاحبه الرضا التام بكل ما يحكم به القضاء، وأن يوقفه من الوجود كله موقف التفاؤل.
وأي شيء أدعى للتفاؤل وأجلب لرضا النفس من أن تعلم أن كل ما يصد منها إنما هو من غرس يدها ومن مقتضى طبيعتها، وأن كل جزاء تلقاه إنما هو جزاء عادل؟
وأي رحابة صدر بل أي تسامح أعظم من ذلك الذي يشعر به الواقف على سر القدر وهو ينظر إلى غيره من العباد وقد ضلوا سواء السبيل وارتكبوا المعاصي و الآثام؟
بل أي الناس أقبل منه لما يأتي به قضاء اللَّه المحتوم من محن وآلام، وأبعد عن الشكوى ولو كانت إلى اللَّه؟
ولكن العلم بسر القدر كما يورث صاحبه كل الراحة والطمأنينة النفسية والتفاؤل، يورثه، من ناحية أخرى الألم والقلق والتشاؤم، لأنه يرى في الكون شقاءً كثيراً وآلاماً مبرحة ومعاصي ترتكب ضد أوامر الدين ونواهيه، ولكنه قد لا يعلم في الوقت نفسه إذا كان الخلاص من كل هذه الشرور وقد قُدِّر أيضاً في طبيعة الوجود كما قدرت الشرور ذاتها.

والعلم بسر القدر من مكنونات أسرار اللَّه وحده، ولكنه قد يطلع عليه من يختصه بفضله من عباده، وهؤلاء قد يقفون على سر القدر مجملًا أو مفصلًا، وبذلك يعلمون ما في علم اللَّه، وتنكشف لهم أعيان الموجودات الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى.
وبذلك يأخذون العلم بحقائق الأشياء من نفس المعدن الذي يأخذ اللَّه منه علمه بها.
راجع الفص الثاني.

(6) «وبه وصف الحق نفسه بالغضب والرضا، وبه تقابلت الأسماء الإلهية».
(6) سر القدر هو القانون المتحكم في الوجود كما قلنا، ومن أجله وصف الحق
نفسه بالغضب والرضا بل وسائر الأسماء الإلهية المتقابلة.
والمراد بالغضب هنا جملة الصفات الإلهية التي يسميها الصوفية «صفات الجلال»، وبالرضا جملة الصفات التي يسمونها «صفات الجمال».
وكلا النوعين يتصف به الحق من حيث صلته بالخلق أو بالعالم.
وقد ذكرنا أن كل ما يظهر في الوجود إنما يظهر بالصورة التي تقتضيها عينه الثابتة. فمن الموجودات ما تتجلى فيه جميع الصفات الوجودية كالإنسان الكامل، ومنها ما هو دون ذلك كسائر بني الإنسان، ومنها ما هو على حظ من الوجود أدنى من ذلك كالحيوان والنبات والجماد.
ومن الخلق من تصدر أفعاله موافقة لأوامر الشرع، ومنهم من يخالفه.
وكذلك منهم من قدر له أن يفعل ما يسميه العرف خيراً ومن يفعل ما يسميه العرف شراً وهكذا.
وهذه تفرقة نجدها في الديانات المنزلة جميعها، ونجد أن الحق قد وصف نفسه بالرضا بالاضافة إلى نوع من الخلق وبالغضب بالاضافة إلى نوع آخر.
ولكن «الحق» كما يتصوره ابن العربي ليس ذلك الإله الذي يغضب ويرضى ويحب ويكره كما تتحدث عنه الأديان، لأنه ليس «شخصية» تتجمع فيها هذه الصفات، وإنما هو الوجود كله، أو هو باطن الوجود والعالَمِ ظاهره.
لم يبق إذن إلا أن نقول إن هذه الصفات إن هي إلا أسماء تعبر عن نسب أو إضافات بين الحق والخلق من وجهة نظر خاصة هي وجهة نظر الدين.
فإذا أتى الإنسان معصية مثلًا اقتضى ذلك- من ناحية الدين- عقابه وغضب اللَّه عليه.
ولكن ابن العربي لا يقول بالعقاب، ولا بغضب اللَّه إلا من ناحية أنه مجرد اسم أطلق عليه. بإزاء العبد العاصي.
إن منطق مذهبه في الجبر لا يسمح إلا بهذا وإلا تناقض مع نفسه، فإن العالم الذي تصور كل ما يجري فيه خاضعاً لطبيعة وجوده لا يمكن أن يكون به متسع لغضب اللَّه ورضاه.
وقد صرح نفسه بذلك في الفص السابع عند ما قال: والسعيد من كان عنده مرضياً، وما ثَمَّ إلا من هو مرضي عند ربه (أي الاسم الذي يتجلى فيه).
قارن التعليق الرابع على هذا الفص.
أما تقابل الأسماء- ود أشار إليه فيما مضى بتقابل الحضرتين- فراجع إلى أن الوجود الواحد الذي هو الحق، يتجلى في صور أعيان الممكنات كل أنواع التجلي الممكنة ويظهر فيها بكل أنواع الأسماء المتقابلة.
ولهذا لا تحدِّد الجبرية التي يقول بها ابن العربي الوجود المقيد وحده (الخلق) بل الوجود المطلق أيضاً (الحق).
وهذا ظاهر في قوله: «فحقيقته (حقيقة سر القدر) تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيد، لا يمكن أن يكون شي ء أتم منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدي وغير المتعدي».

(7) «مطلب العُزَيْر».
(7) لما مرّ عُزير ببيت المقدس (أورشليم) بعد أن هدمه «نبوخادنصر» ورأى القرية خاوية على عروشها صاح قائلًا: «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» (قرآن س 2 آية 261).
فأماته اللَّه مائة عام ثم بعثه وطلب منه أن ينظر إلى طعامه الذي لم يفسد، وإلى حماره الذي مات وبلي فلم يبق منه إلا عظامه، فإذا به يرى الحمار وهو يبعث حياً وتكسى عظامه باللحم.
هذه هي القصة كما وردت في القرآن، ويفهم منها عادة أن عزيراً قد داخله الشك وتملكه العجب من بعث أورشليم الحربة وأهلها إلى الحياة مرة أخرى، فأراه اللَّه بعث الأجسام رأي العين فيما فعل بحماره.
ولكن ابن العربي لا يفهم أن هذا كان مطلب عزير، فعزير- في نظره- لم يشك في إحياء اللَّه الموتى ولم يستعظم ذلك على اللَّه، وإنما أراد أن يعرف سرّ القدر في الخلق: أي أراد أن يعرف كيف خلق اللَّه الخلق وأخرجه إلى الوجود، لا كيف يحيي ميتاً أو أمواتاً بالذات، وأراد أن يعرف ذلك عن طريق الوحي وهو الطريق الذي يتلقى به الأنبياء علمهم من اللَّه.
وبعبارة أخرى أراد عزير أن يقف على أحوال الممكنات في أعيانها الثابتة في العلم الإلهي القديم- أو بلغة ابن العربي نفسه- أراد أن يعرف «مفاتح الغيب» التي لا يعلمها إلا اللَّه وحده بدليل قوله: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» (قرآن س 6 آية 59).
ولذلك لم يحبه إلى طلبه حيث لا إجابة على مثل ذلك، إذ لا وسيلة إلى العلم به عن طريق الوحي.
وكل ما أجيب به كان برهاناً عملياً في كيفية إحياء اللَّه الموتى، تنبيهاً لعزير بأن يقطع عن مطلبه الأصلي.
ولكنه ألحّ في السؤال حتى عاتبه اللَّه- كما ورد بذلك الخبر- بقوله له: «لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة لأن طريق الأنبياء إلى العلم هو الوحي- أي ولأثبتنّ اسمك في ديوان طائفة أخرى هي أصحاب الكشف والذوق الذين خصَّهم اللَّه بالعلم بمثل ذلك.
فكأنه أراد بهذا العتاب تنبيه عزير إلى أن مثل هذا الطلب لا ينبغي أن يكون من نبي ولا أن يصدر منه على هذه الصورة، لأن ذلك ليس من علم الأنبياء، بل هو من علم اللَّه الذي قد يطلع عليه من شاء من خاصة أوليائه بطريق الكشف لا الوحي.
على أن العتب قد وقع على عزير من طريق آخر، وذلك أنه أراد أن يقف على سرّ الخلق أي حال تعلق القدرة الإلهية بالموجودات، ولا ذوق لغير اللَّه في ذلك إذ لا قدرة ولا فعل إلا للَّه خاصة.
فكأنه بهذا السؤال أراد أن يكون له ما للَّه: أي أراد أن تكون له قدرة تتعلق بالمقدور، فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق.
ومما يدلنا على أنه طلب هذا المطلب المستحيل إلحاحه في السؤال بعد أن أراه اللَّه كيفية إحياء الموتى، و لو أنه أراد معرفة هذه الكيفية لاكتفى بالدليل العملي الذي أظهره اللَّه له، و لكنه تمادى في السؤال فعاتبه اللَّه.

(8) «واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام».
(8) أعظم ما يمتاز به الولي المسلم في نظر ابن العربي هو تحققه بالوحدة الذاتية مع الحق، وفناؤه التام فيه، وإدراكه ذوقاً أن الكثرة الوجودية عين الوحدة.
هذه أيضاً هي صفات «الإنسان الكامل» عنده، ولذلك كانت الولاية صفة عامة أو قدراً مشتركاً بين أفراد الإنسان الكامل جميعهم، لا فرق في ذلك بين ولي أو نبي أو رسول.
كل هؤلاء يجمعهم عنصر واحد هو عنصر الولاية- بالمعنى الذي أسلفناه- وتفرقهم صفات أخرى يمتاز بها كل منهم عن الآخر، و هي صفات عارضة لا تتنافى مع جوهرهم الذي هو الولاية.
فالنبي ولي اختص إلى جانب ولايته بالقدرة على الإنباء ولإخبار بالمغيبات، والرسول ولي اختص إلى جانب ولايته بتبليغ رسالة إلهية إلى الناس.
والولي ولي وحسب، ولو أنه يستطيع هو الآخر أن يطلع على عالم الغيب في بعض أحواله، ولكن ليس له هذا المقام بين الناس.
والولاية- بهذا المعنى- لا تنقطع ما دام في الناس من يصل إلى مقامها، بينما تنقطع الرسالة والنبوة الخاصة، بل إنهما قد انقطعا فعلًا بموت النبي محمد صلى اللَّه عليه وسلم آخر الأنبياء والمرسلين الذي قال «لا نبي بعدي»: أي لا نبي بعده مشرِّعاً أو مشرَّعاً له ولا رسول: والنبي المشرِّع هو الرسول مثل موسى وعيسى ومحمد، والمشرَّع له هو الداخل في شريعة مشرِّع. مثل أنبياء بني إسرائيل.
يقول ابن العربي «وقد قصم هذا الحديث ظهور أولياء اللَّه» لأن الكاملين من الأولياء لا يريدون أن يتسموا باسم من الأسماء الإلهية تحقيقاً لعبوديتهم الخالصة، واسم «الولي» من الأسماء التي أطلقها الحق على نفسه في مثل قوله تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» وقوله: «وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ».
فلم يبق للكاملين إذن اسم يختصون به دون الحق لانقطاع اسمي النبوة والرسالة، بل لم يبق لهم سوى اسم الولي الذي يشاركون فيه سيدهم وهذا عزيز عليهم، لأن مقامهم الحقيقي الجدير بهم هو مقام العبودية الخالصة وما يلزمها من صفات.

(9) «فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو ولي وعارف».
(9) المراد بالنبي هنا أي نبي كان، وقد سبق أن ذكرنا أن كل رسول وكل نبي هو إلى جانب رسالته أو نبوته ولي.
فإذا رأيت نبياً من الأنبياء يتكلم بكلام لا وجود له ولا أصل له في الشرع الخاص الذي يتبعه، فإنما يأتيه علمه بما يتكلم فيه من جهة ولايته لا من جهة نبوته.
وبعبارة أخرى يريد ابن العربي أن يقول إن هذا العلم هو من علم الوراثة، ككلام الصوفية في التخلق بأخلاق اللَّه وكلامهم في قرب النوافل والفرائض وفي مقام التوكل والرضا والتسليم والفناء والتوحيد والجمع والفرق وما شاكل ذلك مما يمكن إدخاله تحت «الرهبانية» التي قال اللَّه فيها إن أتباع عيسى بن مريم ابتدعوها ولم يكتبها اللَّه عليهم.
ولكن الرهبانية ليست قاصرة على المسيحيين، فإن الإسلام فيما يوازيها وهي تعاليم الزهاد والصوفية، وكلها مستمد- في نظر الصوفية- من العلم الباطن الذي ورثوه عن صاحب هذا العلم وهو محمد عليه السلام: فإن محمداً كان له في زعمهم علمان: علم بظاهر الشرع وهذا هو الذي أوحى اللَّه به إليه، وعلم بباطن الشرع ورَّثه أولياء المسلمين من بعده.
على هذه النظرية التي شرح فيها ابن العربي ماهية الرسالة والنبوة والولاية بنى دفاعه عن الرهبانية والتصوف، ونظر إلى تعاليم الصوفية على أنها جزء من تعاليم الإسلام بمعنى أعمّ من المعنى الذي يفهمه الناس عادة- لا الإسلام الذي يحتوي قواعد الشرع المنزل وحده، بل الإسلام الذي يحتوي هذه، كما يحتوي علم باطن الشريعة الذي أشرق في قلب النبي من عالم الغيب بلا وساطة، وانكشف له من حيث هو ولي لا من حيث هو نبي، والذي ما زال ينكشف في كل ولي مسلم من بعده.
و يظهر لي أنه لا تناقض مطلقاً بين هذه النظرية و ما ذكره القرآن عن الرهبانية التي ابتدعها المسيحيون، بل أرى- على العكس من ذلك- أن نظرية ابن العربي تفسر لنا الآية القرآنية المشكلة التي وردت فيها الإشارة إلى الرهبانية تفسيراً معقولًا (راجع القرآن س 57 آية 27).
فالقرآن يقول إن الرهبانية نظام ابتدع ابتداعاً ولم يكتبه اللَّه على أصحابه:
ومعنى هذا أنه لم يكن في وقت من الأوقات جزءاً من شرع منزل.
ألا يمكن أن يكون هذا الابتداع من عمل قلوب الأولياء، وراجعاً إلى طبيعة بواطنهم كما يقول ابن العربي؟
بل إنه ليذهب إلى أبعد من ذلك كما يدل عليه الفص فيما بعد، فيضع العلم الباطن في درجة أعلى من علم الشرع الذي هو علم الظاهر كما فعل أوائل الصوفية، ويعتبر أي رسول من حيث هو ولي أتم وأكمل منه من حيث هو رسول أو نبي: أي أن الولي فوق الرسول والنبي في شخص واحد، لا أن مطلق ولي أفضل من مطلق نبي أو رسول كما فهم بعض الكتاب خطأ.

(10) «والولي اسم باق للَّه تعالى، فهو لعبيده تخلقاً وتحققاً وتعلقاً».
(10) «الولي» اسم من أسماء اللَّه كما قلنا، ولكنه يطلق على العبد أيضاً إذا اكتملت فيه صفات الولاية ووصل إلى مقامها.
وأخص صفات الولاية الاسلامية في نظر ابن العربي هي الفناء في اللَّه والتحقق بالوحدة الذاتية بين الحق والخلق.
فإذا وصل الصوفي إلى هذا المقام فقد وصل إلى غاية الطريق الصوفي كما يرسمه متصوفه وحدة الوجود، وحق له أن يسمي نفسه لا باسم الولي وحده، بل بأي اسم من الأسماء الإلهية.
وللفناء عندهم درجات لكل منها اسم خاص: فإذا فني الصوفي عن صفاته البشرية وتخلق بصفات الألوهية سموا ذلك تخلقاً، وإن فني عن ذاته وتحقق بوحدته مع الحق، سموا ذلك تحققاً، وإن بقي بعد الفناء، وعرف أن لا وجود له ولا قوام إلا باللَّه وحصل في مقام القرب الدائم منه، سموا ذلك تعلقاً.
ولكن ابن العربي قد استعمل هذه الألفاظ الثلاثة استعمالًا آخر في رسالة في «شرح أسماء اللَّه الحسنى» فأضاف هذه الصفات إلى الأسماء ذاتها لا إلى المتصفين بها، أو اعتبرها دلالات مع نسب ثلاث بين الحق والخلق، أو بين الواحد والكثرة. فالتخلق هو نسبة كل اسم من الأسماء الإلهية إلى الخلق: أي ظهوره وتجليه في الكثرة الوجودية.
والتحقق هو دلالته على الحق (اللَّه) من حيث ذاته.
أي أن التخلق يشير إلى جهة الكثرة في حين أن التحقق يشير إلى جهة الوحدة. أما التعلق فهو دلالة الأسماء الإلهية على النسبة بين الحق والخلق.
الوسيلة التي بها يصير ما بالقوة موجوداً بالفعل.

(11) «إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية».
(11) لما كان كل نبي و كل رسول ولياً، كانت النبوة و الرسالة مرتبتين خاصتين تلحقان بالولاية و تزولان عنها بزوال أسبابهما، كما تزول عن المَلِك صفة الملكية فيرجع إلى ما كان عليه.
والنبوة والرسالة من شئون هذا العالم لاتصال أصحابهما به. أما الولاية فلا صلة لها بشأن من شئون العالم، ولذلك لم يكن لها زمان دون زمان.
وسواء فهمنا خطاب اللَّه لعُزَيْر في قوله: «لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة» بمعنى الوعد أو بمعنى الوعيد، فإن النبوة وهي إحدى مراتب الولاية- مقضي عليها بالانقطاع لأنها من الصفات التي تزول عمن يتصفون بها. أما الولاية فلا زوال لها.
فإذا أخرج هذا الخطاب الإلهي مخرج الوعد، دلّ على أن اللَّه تعالى أبقى على عُزير مرتبة الولاية التي هي مرتبة جميع الأنبياء و الرسل في الدار الآخرة التي لا تشريع فيها.

(12) «لما شرع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصغار و المجانين».
(12) لما ذكر أن لا شرع ولا تكليف في الدار الآخرة، قيده بأن ذلك لا يكون بعد دخول الخلق الجنة أو النار.
أما قبل الدخول في الدارين فسيكون في الآخرة تشريع وتكليف لأصحاب الفترات وصغار الأطفال والمجانين، وتكليف لبعض الخلق بالسجود بين يدي اللَّه كما يَدل عليه قوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ».
أما الأطفال فسيحشرهم اللَّه في دور الرشد، وأما المجانين فسيرد إليهم صوابهم ثم يجمع الجميع في صعيد واحد ويُرسَل إليهم رسول من أفضلهم يأتي لهم بنار عظيمة ويطلب إلى من آمن به منهم أن يلقي بنفسه فيها، فيطيعه بعضهم ويقتحم هذه النار ويعصاه البعض الآخر.
فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه في النار وجدها برداً وسلاماً كنار إبراهيم واستحق بطاعته الجنة: ومن عصاه استحق العقوبة بنار جهنم.
هذا لسان أهل الظاهر يردده ابن العربي في كتابه من غير أن يحاول وضع تأويل باطني عليه، ولكن لا بدّ لنا من تأويل عباراته وإلا وقع في تناقض صريح لأنه قرر في مواضع أخرى من هذا الكتاب ما يفهمه من معنى الدار الآخرة ومعنى الجنة والنار والثواب والعقاب وما إلى ذلك.
إذا كانت الدار الآخرة في مذهبه ليست إلا الحال التي يكون عليها الموجود بعد اختفاء صورته وظهوره بصورة أخرى، وإذا كانت الجنة والنار ليستا سوى مقامين من مقامات المعرفة بحقيقة الوجود، فما ذا يا ترى يقصد بالأطفال والمجانين وبحشرهم على النحو الذي وصفه، أمام نبي يدعوهم إلى اقتحام نار أعدها لاختيار إيمانهم به أو تكذيبهم به؟
إنني لا أرى مخرجاً من التناقض الذي يوقعه فيه أخذ هذه العبارات على ظاهرها إلا أن نفترض أن الأطفال والمجانين رمز للقاصرين عند تحصيل المعرفة الكاملة بالحق، وأن النبي الذي يرسل لهم يوم القيامة رمز للشخص الذي يرشد هؤلاء لضالين إلى معرفة الطريق المؤدية إلى اللَّه- أو هو رمز للصوفي العارف الذي يرشد مريديه، وأن النار التي يدعوهم إلى اقتحامها رمز للطريق الصوفي الشاق الذي يطالبهم بالدخول فيه، فإذا سلكوه فازوا بالمعرفة التي هي جنتهم، وإذا أبوا الدخول فيه شقوا بالجهل الذي هو نارهم.
  
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment