Friday, November 22, 2019

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي


شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

( الملك ) ، بفتح الميم وسكون اللام ، هو الشدة . و ( المليك ) الشديد .
قال صاحب الصحاح : ملكت العجين أملكه ملكا - بالفتح - إذا شددت عجنا  
"" أضاف المحقق : قال الشيخ صدر الدين القنوي في رسالة الفكوك فك ختم الفص اللوطي: (إنما قرن الشيخ رضي الله عنه  هذه الحكمة بالصفة (الملكية) مراعاة الأمر الغالب على حال لوط عليه السلام  وأمته، وما عامل الحق به قومه من شدة العقوبة في مقابل الشدة التي قاساها لوط منهم حتى نطق لسان حاله معهم بقوله: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد).  ""
وإنما نسب هذه ( الحكمة ) إلى كلمة ( لوط ) ، عليه السلام ، لأنه كان ضعيفا  في قومه ، وهم أقوياء شديد الحجاب ، ما كانوا تقبلون منه ما أتى به من الله إليهم .
وكانوا يفسدون في الأرض بالاشتغال بالشهوة البهيمية والانهماك في الأمور الطبيعية ، حتى قال : ( لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد ) .
فالتجأ إلى الله  من حيث إنه القوى الشديد حتى استأصلهم بشدة العذاب .
(الملك ) الشدة . و ( المليك ) الشديد . يقال : أملكت العجين . إذا شددت عجنه . قال قيس بن الحطيم ، يصف طعنه :  
ملكت بها كفى فانهرت فتقها  .....  يرى قائم من دونها ما ورائها
أي ، شددت بها كفى ، يعنى ، الطعنة .
) معنى البيت : إني شددت بالطعنة كفى . أي ، مسكت الرمح قويا ،
فضربت به العدو ، فأوسعت ما فتقت الطعنة حتى يرى القائم ما وراء تلك الطعنة
من جانب آخر . كأنه جعل موضع الطعنة مثل شباك يرى منها ما وراءها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فهو قوله تعالى عن لوط : " لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أخي لوطا ، لقد كان يأوى إلى ركن
شديد " . فنبه ، عليه السلام ، أنه كان مع الله من كونه شديدا . ) أي ، ( الملك ) المفسر
بالشدة مستفاد من قوله تعالى عن لسان لوط ، عليه السلام : ( لو أن لي بكم قوة )
والمراد ب‍ ( القوة ) الهمة القوية المؤثرة في النفوس ، لأن القوة منها جسمانية ، ومنها
روحانية ، وهي الهمة .
والروحانية أقوى تأثيرا ، لأنها قد تؤثر في أكثر أهل العالم أو كله ، بخلاف الجسمانية .
( أو آوى ) أي ، التجئ إلى ( ركن شديد ) . أي ، قبيلة قوية غالبة على خصمائها .
هذا بحسب الظاهر . وأما بحسب الباطن ، فإنه التجأ إلى الله من حيث إنه قوى شديد ، كما نبه عليه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والذي قصد لوط ، سلام الله عليه ، القبيلة ب‍ ( الركن ) الشديد ، والمقاومة  بقوله : " لو أن لي بكم قوة " . وهي ( الهمة ) هنا ، من البشر خاصة . )
( القبيلة ) مرفوعة على أنها خبر المبتدأ ، والرابطة محذوفة . أي الذي قصده لوط هي القبيلة. و ( المقاومة ) عطف على ( القبيلة ) .
وإنما قصد لوط ، عليه السلام ، القبيلة ب‍ ( الركن الشديد ) ، لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا يظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر ، فتوجه بسره إلى الله ، وطلب منه أن يجعل له  أنصارا ينصرونه على أعداء الله ، وقوة وهمة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " فمن ذلك الوقت يعنى من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السلام : أو آوى إلى ركن شديد ما بعث نبي بعد ذلك إلا في
منعة من قومه " . ) أي ، ما بعث نبي إلا بين منعة يمنعون شر الأعداء منه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان تحمية قبيلته كأبي طالب عليه السلام مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فقوله )
أي ، قول لوط ، عليه السلام : ( " لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " .
لكونه ، عليه السلام ، سمع الله يقول : " الله الذي خلقكم من ضعف " بالأصالة . )
أي ، هذا القول إنما وقع لكون لوط ، عليه السلام ، أدرك بالنور الإلهي معنى
قول الله تعالى : ( وهو الذي خلقكم من ضعف ) . وعلم أن الله خلق الخلق من العدم ، ومعنى الآية أيضا يرجع إليه ، إذ ( الضعف ) عدم القوة ، والعدم أصل كل متعين . وإليه ترجع الصفات الكونية كلها ، وعرف أن القوة لله جميعا بالأصالة ، ولغيره بالتبعية ، كما قال تعالى .
( ثم ، جعل من بعد ضعف قوة ، فعرضت القوة بالجعل . ) أي ، بالإيجاد
بالخلق الجديد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهي قوة عرضية . ثم ، جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة . فالجعل تعلق بالشيبة . ) لأنها خلق جديد . ( وأما ( الضعف ) فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله : " خلقكم من ضعف" ) وهو العدم ، لأنه عبارة عن عدم القوة .
( فرده لما خلقه منه ) . ( اللام ) بمعنى إلى . ( كما قال تعالى : " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " . فذكر أنه رد إلى الضعف الأول .  فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف . ) الكل ظاهر .
والمقصود أن القوة للخلق ، من حيث إنه غير وسوى ، عارضي . ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) . والضعف والعجز ذاتي له ، لأنه من العدم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين ، وهو زمان أخذه في النقص والضعف . فلهذا قال : " لو أن لي بكم قوة " مع كون ذلك يطلب همة مؤثرة . ) معناه ظاهر.
وإنما كانت ( البعثة ) بعد تمام ( الأربعين ) ، لأن أحكام النشأة العنصرية غالبة على أحكام النشأة الروحانية في تلك المدة ، والقوة الطبيعية مستعلية  على القوى الروحانية بحيث لا يظهر أثرها إلا أحيانا ، ولذلك يغلب السواد ، أيضا في تلك المدة ، على الشعر . والحكمة في هذه الغلبة واختفاء القوى  الروحانية ، تكميل النشأتين وتحصيل السعادتين ، لأن الرب كما يرب الظاهر في  ذلك الزمان ، يرب الباطن أيضا  .
ولما كانت النشأة الدنياوية منقضية متناهية ، يتوجه تلك القوة إلى الضعف  إلى أن تفنى . ولكون الآخرة دائمة أبدية ، تزداد القوى الروحانية ، إلى أن ينتهى إلى الكمال المقدر له .
وقوله تعالى : ( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) . إشارة إلى فناء قابلية الآلة التي بها يظهر العلم في الخارج ، لأن النفس الناطقة يطرء عليها الجهل بعد العلم ، وإلا ما كان تبقى العلم بعد المفارقة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت : فما يمنعه من الهمة المؤثرة ، وهي موجودة في السالكين من الاتباع ، والرسل أولى بها ؟
قلنا : صدقت ، ولكن نقصك علم آخر . وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة تصرفا ، فكلما علت معرفته ، نقص تصرفه بالهمة . وذلك لوجهين : الوجه الواحد ، لتحققه بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي . )
أي ، لظهوره  بمقام العبودية ، وهي يقتضى الإتيان بأوامر السيد . والتصرف إنما يكون
عند الظهور بالربوبية ، لأن للسيد المالك أن يتصرف في ملكه لا لعبده ، ولنظره إلى أصل خلقه الطبيعي ، وهو الضعف والعجز ، كما قال تعالى : ( الله الذي خلقكم من ضعف ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والوجه الآخر ، أحدية المتصرف والمتصرف فيه . فلا يرى على من يرسل همته فيمنعه ذلك . ) والوجه الآخر ، أن العارف يعرف أن المتصرف والمتصرف فيه في الحقيقة واحد ، وإن كانت الصور مختلفة ، فلا يرى أحدا غيره ليرسل همته عليه ، فيهلكه فيمنع المتصرف ذلك العرفان عن تصرفه .
ف‍ ( الرؤية ) رؤية البصر ، و ( من ) مفعوله . و ( على ) متعلق بقوله : ( يرسل ) .
ويجوز أن يكون ( الرؤية ) بمعنى العلم ، و ( من ) استفهامية . أي ، فلا يعلم على أي موجود يرسل همته على سبيل القهر والغضب ، فيهلكه . وليس في الوجود غيره .
وأيضا ، ( التصرف ) إنما يكون بالجهة الربوبية . فالمتصرف إن قلنا إنه رب ، فليس للعبد فيه شئ ، وهو المالك يفعل في ملكه ما يشاء . وإن قلنا إنه عبد ، فلا يخلو من أنه يتصرف بأمر المالك أو لا .
فإن كان بالأمر على التعيين ، فالمتصرف أيضا المالك على يد العبد ، وهو آلة فقط .
وإن كان بالأمر على الإجمال ، كقول المالك : تصرف فيما شئت ، فهو بما شئت . فهو الخليفة . وهو أيضا مظهر الرب لا يفعل شيئا لنفسه . فإن لم يفعل بأمر المالك ، يعلم أن المتصرف فيه هو الحق الظاهر بتلك الصورة ، أو لا .
فإن علم ، فهو ممن أساء الأدب مع الله ، فلا يكون تام المعرفة . وإن لم يعلم ، فهو الجاهل بمرتبة المتصرف فيه ، وبجهله يرسل همته عليه بالإهلاك .
فالحاصل أن المعرفة تمنع العارف من التصرف . ومن تصرف من الأنبياء والأولياء ، إنما تصرف بالأمر الإلهي ، لتكميل المتصرف فيه والشفقة عليه ، وإن كانت الصورة صورة الإهلاك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي هذا المشهد يرى أن المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلا ما كان له في حال العدم في الثبوت ، فما تعدى حقيقته ، ولا أخل بطريقته . )
( المشهد ) مقام الشهود . أي ، وفي هذا المقام من المعرفة ، وهو مقام شهود الأحدية ، يعلم العارف أن من ينازعه وينازع الأنبياء والأولياء ما عدل عن اقتضاء حقيقته التي هي العين الثابتة ، فإنها كانت على المنازعة مع حقائق الأنبياء والأولياء حال كونها ثابتة في العدم ، لأن حقائقهم اقتضت الهداية والرشاد وطاعة أمر الله ، وحقيقة المنازع معهم اقتضت الضلالة والغواية والإباء عما جاء به النبي . فكل على طريقته الخاصة به ، وكل عند ربه مرضى . كما مر بيانه .
فما ظهر في الوجود العيني شئ إلا على صفة ما كانت عليها في الوجود العلمي ، فما تعدى المنازع عن حقيقته ، ولا أخل بشئ في طريقته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتسمية ذلك نزاعا ) أي ، ب‍ ( النزاع ) . ( إنما هو أمر عرضي ، أظهره الحجاب الذي على أعين الناس ، كما قال الله تعالى فيهم : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون،  يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " . )
ضمير ( إنما هو ) عائد إلى ( التسمية ) . ذكره باعتبار ( القول ) ، أو تغليبا للخبر . ومعناه : فتسمية ما عليه المنازع من الطريق الخاص به ( نزاعا ) ، إنما هو أمر عرضي ، حصل
للمحجوبين بواسطة الحجاب الذي على أعينهم من سر القدر . فإنهم يتوقعون من جميع الخلائق الاهتداء والرشد لما جاء به الأنبياء ، عليه السلام ، وما يعلمون أن كل عين لا تقبل إلا ما يعطيه الاسم الحاكم عليه من الله ، وكل موافق لطريقه .
ولو كانوا يعلمون ذلك ، ما كانوا يسمونه منازعا مطلقا ، بل موافقا .
لذلك قال تعالى في حقهم : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " . أي ، سر القدر .
" يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " .  أي ، يعلمون ما ظهر لهم من النشأة الدنياوية ، وهم عن النشأة الأخراوية التي عندها يظهر سر القدر ، غافلون .
واعلم ، أن ما زعم المحجوب ، أيضا حق واقع . فإن للأسماء مقتضيات متوافقة ومتخالفة : الأول ، ك‍ ( الرحيم ) و ( الكريم ) . والثاني ، ك‍ ( الرحيم ) و ( المنتقم ) . فإذا اعتبر مقتضى كل اسم بحسبه ، أو بحسب الاسم الموافق له ، كانت عينه موافقة لطريقها ، كما مر من أن كل واحد من الأعيان على طريق مستقيم وهو عند ربه مرضى .
وإذا اعتبر بحسب اسم آخر مخالف له ، كانت عينه مخالفة ، فالتخالف والتضاد بين الأسماء والأعيان واقع .
والأنبياء ، عليه السلام ، أمروا بالدعوة ، علموا سر القدر ، أو لم يعلموا لمقاصد :
أحدها ، تميز أهل الدارين .
وثانيها ، إيصال كل بكمال ما يقتضى حقيقته .
وثالثها ، الحجة لهم وعليهم ، إذ الأنبياء ، عليه السلام ، حجج الله على خلقه .
كما قال تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " . فتسمية المحجوب أو النبي أو الولي أو المكاشف لسر القدر ، ذلك ( نزاعا ) إنما هو بالنسبة إلى عدم قبوله الأمر الإلهي التكليفي ، ومنازعه ما يعطى حقيقته من الضلال لما تعطى حقيقة النبي من الهداية ، فوقع النزاع .
وإنما كان عرضيا ، لأنه بالنظر إلى الغير لا إلى ذاته .
( وهو من المقلوب ، فإنه من قولهم : " قلوبنا غلف " . أي ، في غلاف ) ( هو ) يجوز أن يكون عائدا إلى ( النزاع ) المذكور .
أي ، النزاع المذكور ، مقلوب بالقلب المعنوي قلبه أهل الحجاب ، لكون قلوبهم في أكنة ، فإنه وفاق في نفس الأمر ، ولا يعلم الحق منه إلا كذلك ، وما يعطيه ربه الحاكم عليه إلا ذلك ، كما يعطى رب المحجوبين الوفاق نزاعا هذا وجه .
والأولى منه أن يكون الضمير عائدا إلى قوله : ( غافلون ) . أي ، ( الغافل ) مقلوب من ( الغلف ) ، فإنه من ( غفل ) ، المغلوب من غلف .
ويؤكده قوله : ( فإنه من قولهم : " قلوبنا غلف . . " ) . أي ، مأخوذ من ( الغلف ) . وهذا أيضا تقرير سبب تسميتهم للوفاق نزاعا .
قال تعالى - حاكيا عن الكفار - وقالوا : ( قلوبنا غلف ) . ( بل لعنهم الله بكفرهم ، فقليلا ما يؤمنون ) . أي ، قلوبنا في غلاف ، أي ، في حجاب . إذ لا شك أن الغافل إنما يغفل عن الشئ بواسطة الحجاب الذي يطرأ على قلبه . فالغافلون عن الآخرة هم الذين قلوبهم في غلاف
وحجاب .
( وهو ( الكن ) الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه . ) وهو ، أي الغلاف ، هو ( الكن ) المذكور في قوله تعالى : " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا " . فهو الذي ستر القلب وحجبه عن إدراك الحقائق على ما هي عليه .
ولما كان قوله : ( وهو من المقلوب . ) اعتراضا وقع في أثناء تقريره :
أن المعرفة تمنع العارف من التصرف ، قال : ( فهذا ) أي ، هذا الذي ذكرناه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمثاله يمنع العارف من التصرف في العالم . قال الشيخ أبو عبد الله بن قائد للشيخ أبى السعود بن الشبلي : لم لا تتصرف ؟ )
فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرف لي كما يشاء . ويريد قوله تعالى آمرا : " فاتخذه وكيلا " . ف‍ ( الوكيل ) هو المتصرف . ولا سيما وقد سمع ) أي ، سمع أبو السعود .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أن الله يقول : " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " . فعلم أبو السعود والعارفون أن الأمر الذي بيده ليس له ، وأنه مستخلف فيه .
ثم قال له الحق : هذا الأمر الذي استخلفتك فيه وملكتك إياه ، إجعلني واتخذني فيه وكيلا .
فامتثل أبو السعود أمر الله ، فاتخذه وكيلا . فكيف يبقى لمن شهد مثل هذا الأمر همة ، يتصرف بها ؟ والهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا متسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه .
وهذه المعرفة تفرقه عن هذه الجمعية ، فيظهر العارف التام المعرفة بغاية العجز والضعف .
قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزاق : قل للشيخ أبى مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين ، لم لا يعتاص علينا شئ ، وأنت تعتاص عليك الأشياء ، ونحن نرغب في مقامك ، وأنت لا ترغب في مقامنا ؟ وكذلك كان ) هذا كلام الشيخ رضي الله عنه  
. أي ، وكذلك كان أبو مدين تعتاص عليه الأشياء ، وكان يرغب غيره في مقامه ، وهو لا يرغب في مقام غيره . ( مع كون أبى مدين رضي الله عنه  كان عنده ذلك المقام ) أي ، مقام البدلاء . ( وغيره . ونحن أتم في مقام العجز والضعف منه . ) أي ، من أبى مدين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومع هذا قال له هذا البدل ما قال . وهذا ) أي ، وعدم التصرف والظهور بمقام الضعف والعجز .
( من ذلك القبيل أيضا . ) أي ، ومن قبيل ما يمنع من التصرف ، وهو المعرفة بمقام العبودية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال ، صلى الله عليه وسلم ، في هذا المقام عن أمر الله له بذلك : " ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم ، إن اتبع إلا ما يوحى إلى " . فالرسول يحكم ما يوحى إليه به ما عنده غير ذلك . )
أي ، ليس عنده إلا الظهور بالعجز ، وعدم العلم بما في الغيب  من الأحوال والحقائق .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن أوحى إليه بالتصرف بجزم ، تصرف ، وإن منع ، امتنع ، وإن خير ، أختار ترك التصرف . ) وظهر بمقام عبوديته وترك التصرف لربه تأدبا
بآداب العبودية ، وملازمة لما يقتضيه ذاته من الضعف والعجز .
( إلا أن يكون ) أي ، المخير . ( ناقص المعرفة . ) فإنه يتصرف لجهله بمقام المتصرف فيه ، وظهور نفسه بمقام الربوبية الذي هو نقص بالنسبة إلى الكمل ، وعدم علمه بما هو ذاتي له من الضعف والفقر والمسكنة والعجز ، ولعدم علمه بأن التخيير قد يكون ابتلاء من الله ، ولعدم التأدب بين يدي الله .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به : " إن الله أعطاني التصرف منذ خمس عشرة سنة ، وتركناه تظرفا " . هذا  لسان إدلال . ) أي ، هذا الذي ذكره أبو السعود ، لسان من يتدلل على ربه ، وهو نوع من سوء الأدب بالنسبة إلى الحضرة الإلهية . ( وأما نحن ، فما تركناه تظرفا وهو تركه إيثارا ،  ) أي ، ( التظرف ) عبارة عن ترك التصرف على سبيل الإيثار .
( وإنما تركناه لكمال المعرفة ، فإن المعرفة لا يقتضيه ) أي ، لا يقتضى التصرف .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بحكم الاختيار ، فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم ، فعن أمر إلهي وجبر لا بالاختيار . ولا شك أن مقام الرسالة تطلب التصرف لقبول الرسالة التي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدقه عند أمته وقومه ) من المعجزات وخارق العادات .
( ليظهر دين الله ، والولي ليس كذلك . ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر .)
أي ، ومع أن الرسول يحتاج في إظهار دين الله إلى التصرف وخرق العادة ، فلا يطلب التصرف في الظاهر .
( لأن للرسول الشفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في إظهار الحجة عليهم ، فإن في ذلك هلاكهم ، فيبقى عليهم . ) من ( الإبقاء ) . أي ، يبقى عليهم صورة الحجاب تعطفا ورحمة منه عليهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علم الرسول أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة ، فمنهم من يؤمن عند ذلك ، ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التصديق به ظلما وعلوا وحسدا ، ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام ) أي الشعبذة .
( فلما رأت الرسل ذلك وأنه لا يؤمن إلا من أنار الله قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا ، فلا ينفع في حقه الأمر المعجز . فقصرت الهمم ) أي ، همم الأنبياء . ( عن طلب الأمور المعجزة . ) أي ، من الله .
( لما لم يقم أثرها في الناظرين ) لعدم إعطاء حقائقهم وأعيانهم الثابتة قبولها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا في قلوبهم ، كما قال في حق أكمل الرسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال : " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " ).
ولو كان للهمة أثر ، ولا بد لم يكن أحد أكمل من رسول الله ، صلى الله عليه
وسلم ، ولا أعلى وأقوى همة منه ، وما أثرت في إسلام أبى طالب عمه ، وفيه نزلت الآية
التي ذكرناها ولذلك قال في الرسول : إنه ما عليه إلا البلاغ .
وقال : ( " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء " . ) كل هذا غنى عن الشرح .
( وزاد في سورة ( القصص ) : " وهو أعلم بالمهتدين " . أي ، بالذين أعطوه . )
أي ، أعطوا الحق . أي ، ( العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة . فأثبت
أن العلم تابع للمعلوم : فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ، ظهر
بتلك الصورة في حال وجوده . وقد علم الله ذلك منه أنه هكذا يكون ، فلذلك قال : "
وهو أعلم بالمهتدين " . فلما قال مثل هذا ، قال أيضا : " ما يبدل القول لدى " . لأن قولي
على حد علمي في خلقي . " وما أنا بظلام للعبيد " . أي ما قدرت عليهم الكفر الذي
يشقيهم ، ثم طالبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلا بحسب ما
علمناهم ، وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما هم عليه : فإن كان ظلما ،
فهم الظالمون .
ولذلك قال : " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " . فما ظلمهم الله . كذلك ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ، وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، ولا نقول كذا . فما قلنا إلا بما علمنا أنا نقول ، فلنا القول منا ، ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم . ) ألفاظه ظاهرة .
والمقصود بيان سر ( القدر ) . وقد مر في المقدمات أن الله يعلم ذاته وأسمائه  وصفاته بذاته ، ويعلم الأعيان التي هي صور الأسماء بعين ما يعلم ذاته ، فكما لا يعلم من ذاته وأسمائه وصفاته إلا ما تعطيه الذات والأسماء والصفات مما هي عليها ، كذلك لا يعلم من الأعيان إلا ما تعطيه الأعيان واستعداداتها مما هي عليها ، فعلمه تعالى تابع للمعلوم من هذا الوجه ، وإن كان المعلوم تابعا للعلم من وجه آخر .
فمن كانت عينه مؤمنة حال ثبوتها وحال كونها موصوفة بالعدم بالنسبة إلى الخارج ، فهو يظهر مؤمنا عند سماع أمر الله بقوله : ( كن ) . ومن كان كافرا أو عاصيا أو منافقا ، فهو يظهر في الوجود العيني بتلك الصفة . فالحق ما يعاملهم إلا بما يقتضى أعيانهم باستعداداتها وقبولها : إن خيرا ، فخير ، وإن شرا ، فشرا . فمن وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن
وجد دون ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه – " فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .
ولما تكلم من طرف القابل ، تكلم من طرف الفاعل بقوله : ( كذلك ما قلنا لهم . . . ) أي ، ما أمرناهم إلا ما يقتضيه ذاتنا وأسماؤنا ، فمنا القول والأمر ، ومنهم السماع والامتثال .
ولما كان الأمر من الله على قسمين :
قسم لا يمكن أن لا يمتثل له شئ من الأعيان.
وقسم يمكن أن لا يمتثل له بعض الأعيان.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم . ) أما الأول ، فهو الأمر الذي به توجد الأعيان ، وهو قول : ( كن ) .
إذ عدم الامتثال فيه محال ، لأن أعيان الممكنات كلها طالبة للوجود العيني من الحضرة الإلهية ، فلا يمكن أن لا يمتثل له شئ منها .
وأما الثاني ، فهو الأمر بالإيمان والهداية وتوابعهما ، فإن من لا تكون عينه قابلة له أو للوازمه ، لا يمكن أن يمتثل له .
قال الشيخ رضي الله عنه : 
(فالكل منا ومنهم  .....  والأخذ عنا وعنهم )
أي ، فكلما يحصل من التجليات والأحوال العارضة على الموجودات ، منا بحسب الفاعلية ، ومنهم بحسب القابلية ، وتلك التجليات والأحوال بحسب أخذ العلم عن ذاتنا مما هي عليها من الأسماء والصفات ، وعن ذواتهم ، لأن ذواتهم حال كونها في العدم ، منتقشة بجميع ما يطرأ عليها من الأزل إلى الأبد ، فالأخذ عنا بالإيجاد والإظهار ، والأخذ عنهم بالاتصاف والقبول .
أو فالكل منا بحسب القابلية وإعطاء أعياننا للحق ما يفيض علينا من التجليات والأحوال ، ومنهم ، أي ومن الأسماء الأسماء الإلهية ، بحسب الفاعلية .
والأخذ عنا ، أي ، يأخذ الحق عنا ما تعطيه ذواتنا . وعنهم ، أي ، يأخذ عن أسمائه ما تعطيه الأسماء من الإيجاد والقدرة وغيرها .
وهذا أنسب للبيت الثاني وهو قوله رضي الله عنه   :
( إن لا يكونون منا   .....   فنحن لا شك منهم)
) أي ، إن كانت الأسماء بحيث لا يكونون منا ، فوجودنا لا شك حاصل منهم ، أي ، من تلك الأسماء ، سواء كان الوجود علميا أو عينيا . ف‍ ( كان ) مع اسمها مقدرة بعد ( إن ) .
كقولهم : إن خيرا ، فخير .
فعلى المعنى الأول من البيت الأول ، معناه : إن لم يكن وجود الأعيان من الأسماء ، فوجود الأسماء لا شك منهم ، أي من الأعيان ، فيلزم انقلاب الرب مربوبا ، والمربوب ربا ، وكون الأعيان موجودة بأنفسها علما وعينا ، لأنها إذا كانت علة الأسماء ، كانت متقدمة عليها بالذات ، والذات الإلهية من حيث هي هي غنية عن العالمين .
فبقى أن توجد الأعيان بأنفسها من غير طلب الأسماء إياها ، ويلزم انخرام قواعد التوحيد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتحقق يا ولى هذه الحكمة الملكية من الكلمة اللوطية ، فإنها لباب المعرفة . )
إنما جعل هذه الحكمة ( لباب المعرفة ) لأنها مشتملة على بيان الضعف الأصلي الذي هو للخلق ذاتي ، وعلى بيان أن كمال المعرفة تمنع صاحبها من التصرف في العالم وأهل العالم يزعمون خلافه ، وعلى بيان أسرار القدر الذي لا يعلمها إلا أكابر الأولياء .
ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه :
 ( فقد بان لك السر ..... وقد اتضح الأمر )
أي ، ظهر لك سر القدر واتضح أمر الوجود على ما هو عليه ، والأمر الذي اشتبه
على علماء الظاهر كلهم ، حيث ذهب بعضهم إلى الجبر المحض بنسبة الفعل إلى الحق فقط ، وبعضهم
إلى القدر الصرف بنسبة الفعل إلى العبد فقط ،
فاتضاحه أن الفعل يحصل منهما . كما مر ، وسيجئ بيانه في الفص التالي لهذا الفص .
قال الشيخ رضي الله عنه : 
( وقد أدرج في الشفع  ..... الذي قيل هو الوتر )
أي ، الواحد الحقيقي الذي يوصف ب‍ ( الوتر ) أدرج في ( الشفع ) ، وهو أعيان العالم ، لأنها وقعت في المرتبة الثانية . وبهذا الإدراج حصلت الأعيان ، إذ الواحد هو الذي بتكراره يحصل منه الشفع ، وبزيادة الواحد عليه ، يحصل الفرد .
فقوله رضي الله عنه : ( الذي قيل هو الوتر ) مفعول أقيم مقام الفاعل للفعل المبنى للمفعول ، وهو ( أدرج ) . ولا ينبغي أن يتوهم أنه صفة ( الشفع ) ، فإنه قسيم للوتر ، إذ ( الوتر ) هو الفرد . ومن توهم فقد غلط .
ولا بد أن يعلم أن ( الوتر ) و ( الفرد ) قد يطلق ويراد به ما يقابل الشفع .
وبهذا الاعتبار إطلاقه على الحق يكون حسب مقام جمعه الإلهي ، كما قال : ( إن مسمى الله أحدي بالذات كل بالأسماء ) .
وقد يطلق ويراد به الواحد الذي ليس من العدد وهو أصله . وبهذا الاعتبار يكون إطلاقه على الحق حسب مقام جمع الجمع الذي هو الهوية المطلقة المسماة ب‍ ( الأحدية ) .
والله أعلم بالصواب .
.
واتساب

No comments:

Post a Comment