Saturday, February 22, 2020

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي


كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
هذا فص الحكمة اللقمانية ، ذكره بعد حكمة إلياس الذي هو إدريس عليه السلام لأن الكلام فيه عن ظهور الحق تعالى في عين كل معلوم ، وتقرير ذلك بإشارات القرآن وعبارات الفرقان ، وحكمة إلياس عليه السلام مشتملة على ذلك ، فهي تكميل لها وتتميم لبيان ما ذكر فيها ، ولأن إلياس عليه السلام مختلف فيه بل هو إدريس عليه السلام أولا ، وهل إدريس عليه السلام رسول أو لا ؟
فناسب تعقيبه بلقمان عليه السلام المختلف في نبوّته أيضا بين العلماء .
(فص حكمة إحسانية) ، أي منسوبة إلى الإحسان وهو أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وهكذا ورد تفسيره في الحديث الشريف (في كلمة لقمانية).

إنما اختصت حكمة لقمان عليه السلام بكونها إحسانية ، لأن الكلام فيها عن مقام الإحسان في العبادة بشهود الحق تعالى في كل ما هو ظاهر من الأعيان ، وما هو متجدد في كل آن من الأكوان والألوان ، والتحقق بذلك على وجه الحكمة في حقيقة لقمان ، وعند المحمديين مقام الإحسان
[ شعر ]
قال الشيخ رضي الله عنه : ( 
إذا شاء الإله يريد رزقا  ...  له فالكون أجمعه غذاء
وإن شاء الإله يريد رزقا  ...  لنا فهو الغذاء كما يشاء
مشيئته إرادته فقولوا  ...  بها قد شاءها فهي المشاء
يريد زيادة ويريد نقصا  ...  وليس مشاءه إلّا المشاء
فهذا الفرق بينهما فحقّق  ...  ومن وجه فعينهما سواء ).

(إذا شاء الإله) سبحانه وتعالى ، أي المعبود بالحق في السماوات والأرض ، فهو حضرة أسمائه القائمة بذاته وهي الطالبة للغذاء ، أي المادة للظهور (يريد رزقا له) تعالى ، أي مادة لظهوره بها من حيث أسماؤه الحسنى لا من حيث ذاته فإنها غنية عن العالمين (فالكون) ، أي المخلوق (أجمعه) محسوسه ومعقوله غذاء له تعالى

مادة لظهوره سبحانه فيظهر به بحيث إذا تم ذلك المخلوق بطن تعالى من ظهوره به واستأنف له ظهور آخر بمخلوق آخر وهكذا فالكون له تعالى بمنزلة الغذاء للجسد الحيواني يمده في البقاء في الدنيا بوصف الحياة .

(وإن شاء الإله) تعالى (يريد رزقا لنا) معشر الكائنات المخلوقة (فهو) تعالى من حيث كونه ممدا لنا بقيوميته علينا (الغذاء) الذي نتغذى به فظهوره بصفة قيوميته لنا من حضرة اسمه القيوم والحفيظ والمقيت بكل مأكول ومشروب هو غذاؤنا (كما) هو على الوصف والمقدار والزمان والمكان الذي (يشاء) تعالى ثم لما وقع في الكلام شاء يريد في الموضعين ذكر قوله .

(مشيئته) تعالى (إرادته) بالنصب مفعول مشيئته يعني مشيئته لإرادته سبحانه (فقولوا) يا معشر المسترشدين بها ، أي بالمشيئة للإرادة قد شاءها ، أي الإرادة سبحانه في الأزل (فهي) ، أي الإرادة (المشاء) بالضم بصيغة اسم المفعول التي وقعت عليها المشيئة فهي مشيوء له تعالى ، أي مرادها مشيوء له سبحانه ،
فالمشيئة كأنها الحاكمة بطريق الإلزام من الأزل بما اقتضته الإرادة من الأمور المختلفة ، فاختلاف الأشياء راجع إلى تأثير الإرادة ، ولزوم ذلك الاختلاف راجع إلى تأثير المشيئة وليست الإرادة أثرا عن المشيئة وإنما تأثير الإرادة تأثير أيضا للمشيئة من وجه آخر غير وجه كونها تأثير الإرادة فقد اتحدت المشيئة والإرادة في صدور التأثير الواحد واشتراكهما في التعلق به واختلفتا في جهة التعلق به ، فالإرادة متعلقة به من جهة اختلافه في نفسه وزيادته ونقصانه ، والمشيئة متعلقة به من جهة إلزامه بما اقتضته الإرادة فيه ،

ولهذا قال :
(يريد) تعالى (زيادة) في بعض الأمور (ويريد) أيضا (نقصا) في بعض آخر من الأمور عن تلك الأمور الزائدة بالنسبة إلى هذه الناقصة ، هذا مقتضى الإرادة الإلهية من الأزل (وليس مشاءه) تعالى بالفتح أي موضع وقوع مشيئته ومظهر حصول تعلقها في الأزل (إلا المشاء) بالفتح أيضا ، أي موضعها ذلك ومظهر تعلقها المذكور من غير اعتبار الزيادة ولا النقصان في كل ما تعلقت به ، فيرجع تعلقها إلى الإلزام فقط كما ذكرنا .

(فهذا) الأمر المذكور وهو (الفرق بينهما) ، أي بين المشيئة والإرادة وهو فرق اعتباري ، لأن متعلقهما واحد وهو جهة التخصيص في الممكن ويختلف ذلك التخصيص باعتبار الزيادة والنقصان فيه ووقوع التفاوت بين المخصوصات ، وهو وجه تعلق الإرادة واعتبار قطعية التخصيص وإلزامه وعدم التردد فيه من الأزل ، لأنه محال وهو وجه تعلق المشيئة .

(فحقق) يا أيها السالك معرفة هذا الفرق المذكور (ومن وجه) آخر غير وجه الفرق بينهما (فعينهما) ، أي عين كل واحدة منهما (سواء) وهو وجه اشتراكهما في تخصيص الممكن ؛ ولهذا لما كان النظر في الأشياء من جهة لزومها بالإيجاد مع عدم اعتبار اختلافها بالزيادة والنقصان وغيرهما ، سميت أشياء جمع شيء وأصله شيء فعيل بمعنى مفعول ، أي مشيوء ، لأن المشيئة تعلقت به فألزمته بما هو فيه من زيادة أو نقصان من غير اعتبار تلك الزيادة ولا النقصان ، وبسبب ذلك كان الشيء أنكر النكرات لعموم مفهومه في كل كائن ، ولم يسم مرادا إلا باعتبار وجه خصوصه بما يميزه عن غيره من الأشياء .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال اللّه تعالى :" وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ" [ لقمان : 12 ] " وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" [ البقرة : 269 ] .
فلقمان بالنّصّ ذو الخير الكثير بشهادة اللّه تعالى له بذلك . والحكمة قد تكون متلفّظا بها وقد تكون مسكوتا عنها .
مثل قول لقمان لابنه :" يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ" [ لقمان : 6 ] .
فهذه حكمة منطوق بها ، وهي أن جعل اللّه هو الآتي بها ، وقرّر ذلك اللّه في كتابه ، ولم يردّ هذا القول على قائله . )

(قال اللّه)  تعالى : (" وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ") [ لقمان : 12]. وهو عبد حبشي لداود عليه السلام أعطاه اللّه تعالى الحكمة لا النبوّة على الأكثر ، وقيل : النبوّة ، ويؤيده ذكره هنا مع الأنبياء عليهم السلام .

وقد قال تعالى في الحكمة : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ("وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً") [ البقرة: 269 ].  أي لا نهاية له لظهوره إلى الأبد فلقمان عليه السلام (بالنص) من القرآن (ذو) ، أي صاحب (الخير الكثير بشهادة اللّه تعالى بذلك) في أنه آتاه الحكمة وكل من آتاه الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا (والحكمة) المذكورة (قد تكون متلفظا) بصيغة اسم المفعول (بها) ، أي قد تكلم بها صاحبها (وقد تكون مسكوتا عنها) بأن لا يتكلم بها صاحبها .

فالحكمة الأولى (مثل قول لقمان عليه السلام لابنه) كما حكى تعالى ذلك عنه فقال سبحانه : ("يا بُنَيَّ إِنَّها ") هو ضمير القصة نظير ضمير الشأن المذكور ("إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ ") ، أي تلك الحبة (" فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا") ، أي بتلك الحبة ("اللَّهُ [ لقمان : 16 ] فهذه حكمة منطوق بها") حيث تكلم بها لقمان عليه السلام .

(وهي) ، أي تلك الحكمة (أن جعل اللّه) تعالى (هو الآتي بها) ، أي بتلك الحبة المذكورة (وقرر) ، أي أثبت وحقق (اللّه) تعالى (ذلك) ، أي قول لقمان عليه السلام هذه الحكمة (في كتابه) تعالى وهو القرآن العظيم (ولم يرد) تعالى (هذا القول) المذكور (على قائله) لقمان عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا الحكمة المسكوت عنها وقد علمت بقرينة الحال ، فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبّة ، فما ذكره وما قال لابنه يأت بها اللّه إليك ولا إلى غيرك ، فأرسل الإتيان عاما وجعل المؤتى به في السّموات إن كان ، أو في الأرض تنبيها لينظر النّاظر في قوله :وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ[ الأنعام :3 ].
فنبّه لقمان بما تكلّم به وبما سكت عنه أنّ الحقّ عين كلّ معلوم ، لأنّ المعلوم أعمّ من الشّيء فهو أنكر النّكرات .  )

(وأما الحكمة) الثانية (المسكوت عنها) ، أي لم يتكلم بها صاحبها (وعلمت منه (بقرينة الحال) من كلامه أو غيره (فكونه) ، أي لقمان عليه السلام (سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبة) المذكورة من هو من الناس .
(فما ذكره) ، أي لقمان عليه السلام في كلامه ذلك (وما قال) ، أي لقمان عليه السلام لابنه يأت بها) أي بالحبة (اللّه) تعالى (إليك ولا) قال (إلى غيرك) من الناس قصدا منه للعموم (فأرسل) أي لقمان عليه السلام الإتيان من اللّه تعالى (عاما) في كل من تنسب إليه تلك الحبة من العمل الصالح أو القبيح .
(وجعل) أي لقمان عليه السلام المؤتى به وهو الحبة (في السماوات إن كان أو في الأرض تنبيها) منه لابنه ولغيره (لينظر الناظر) من الناس (في) مضمون (قوله) تعالى المتأخر النزول عنه لوجود المعنى من قبل (وهو) ، أي الشأن اللّه سبحانه ظاهر بطريق التجلي (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ") [ الأنعام : 3 ] .

وفي آية أخرى : "قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" [ يونس : 101 ] وهي مفسرة بالأولى .
(فنبه لقمان) عليه السلام (بما تكلم به) من الحكمة (وبما سكت عنه) منها أن (الحق) تعالى (عين كل معلوم) سواء كان موجودا في نفسه كالذي في الأرض ، أو غير موجود في نفسه بل موجود في غيره كالذي في الصخرة ، أو كان معلوما لغيره كالذي في السماوات مما هو من علوم الملا الأعلى في تدبير ما يوجد في الأرض ،

والكل معلوم للأسباب الأول العالية كاللوح والقلم فهو أصل للكل لأن المعلوم أعم من الشيء الذي هو اسم للموجود فهو ، أي المعلوم أنكر النكرات ههنا لعمومه بالنسبة إلى الشيء الموجود وإن كان الشيء أنكر النكرات أيضا باعتبار آخر فهو أعم مما دونه لكن المعلوم أعم منه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ تمّم الحكمة واستوفاها لتكون النّشأة كاملة فيها فقال : " إنّ اللّه لطيف " فمن لطفه ولطافته أنّه في الشّيء المسمّى بكذا المحدود بكذا عين ذلك الشّيء ، حتّى لا يقال فيه إلّا ما يدلّ عليه اسمه بالتّواطؤ والاصطلاح . فيقال هذا سماء وأرض وصخرة وشجر وحيوان وملك ورزق وطعام . والعين واحدة من كلّ شيء وفيه . )

(ثم) ، أي لقمان عليه السلام (تمم الحكمة) التي ذكرها لابنه (واستوفاها لتكون النشأة) ، أي الخلقة التي تركبت عليها هذه الحكمة (كاملة فيها) ، أي في هذه الحكمة (فقال) ، أي لقمان عليه السلام إن اللّه ، أي الساري بالظهور في كل معلوم (لطيف) ، أي ذو لطف عظيم بحيث لا يشعر به أحد في شيء أصلا ما لم يكن بإشعار منه تعالى بنفسه وهو قوله : كنت كنزا مخفيا ، أي في كل شيء وكان للدوام والاستمرار في حق اللّه تعالى والمخفي لا يمكن الشعور به إلا إذا تبين ، وما تبينه إلا بالمحبة فإن بها ينفك رصد هذا الكنز وينفتح كما قال : « فأحببت أن أعرف » .

فلا بد أن تكون المحبة محبته من غير دعوى لها من العبد حتى تكون بخور هذا الكنز والعزيمة قوله : فخلقت خلقا تعرفت إليهم فبي عرفوني .

(فمن لطافته) تعالى ، أي عدم كثافته ولهذا كان منزها عن مشابهة كل محسوس ومعقول وموهوم وقالوا : كل ما خطر في بالك فاللّه بخلاف ذلك ، فألطف الكائنات كلها الأرواح وهي بالنسبة إلى لطافته تعالى أكثف من الأجسام بالنسبة إلى الأرواح .
وذكر بعضهم في قوله تعالى :" لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" [ الأنعام : 103 ].

أن هذا تعليل بطريق اللف والنشر المرتب ، أي لا تدركه الأبصار ، لأنه لطيف وهو يدرك الأبصار ، لأنه خبير . (و) من (لطفه) تعالى أيضا ، أي حسن معاملته سبحانه مع مخلوقاته فالأوّل باعتباره تعالى في ذاته ، والثاني باعتباره مع خلقه الظاهر بهم
(أنه) ، أي اللّه تعالى ظاهر (في الشيء) الفلاني (المسمى بكذا) من محسوس أو معقول (المحدود) ، أي المعرف يذكر ذاتياته التي قامت ماهيته بها (بكذا) كالحيوان الناطق مثلا في تعريف الإنسان (عين ذلك الشيء) المسمى المحدود من حيث الوجود ، لأنه ما ثم غيره ، وخصوص الإلهية والصورة والحال أمور عدمية ظاهرة بالوجود الحق (حتى لا يقال فيه) ، أي في ذلك الشيء (إلا ما يدل عليه) ،
أي على ذلك الشيء هو (اسمه) ، أي اسم ذلك الشيء (بالتواطؤ) ، أي الاتفاق مع قوم مخصوصين ، أو بتساوي الأفراد فيما أطلق عليه ذلك الاسم (والاصطلاح) كاللغات المختلفة والأوضاع المخصوصة في الشرائع والمذاهب والصنائع وغير ذلك .

(فيقال) فيه (هذا سماء) وكذلك هذا (أرض) وهذه صخرة وهذه شجرة (و) هذا (حيوان) وهذا (ملك و) هذا (رزق و) هذا (طعام) ولا يقال اللّه في شيء من ذلك ولا في غيره من الأشياء ، لأن خصوص الوصف الحادث الزائد الحي القيوم القديم اقتضى خصوص ذلك الاسم ، فلا يطلق عليه إلا بإزائه كما يقال على الحجر أنه شجر وبالعكس ، لخصوص الوصف المميز وإن كان القائم بالوجود عليهما واحدا .

(والعين) ، أي الذات والماهية الكونية (واحدة من كل شيء) محسوس أو معقول لا تعدد لها أصلا (و) العين ، أي الذات الإلهية واحدة كذلك (فيه) ، أي في كل شيء بطريق الظهور منه وبه لا الحلول فيه والاتحاد معه ، لأن الوجود لا يحل في العدم ولا يتحد معه ونظير ذلك .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما تقول الأشاعرة : إنّ العالم كلّه متماثل بالجوهر : فهو جوهر واحد ، فهو عين قولنا العين واحدة .
ثمّ قالت : ويختلف بالأعراض ، وهو قولنا ويختلف ويتكرّر بالصّور والنسب حتّى يتميّز فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه كيف شئت فقل . وهذا عين هذا من حيث جوهره .
ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حدّ كلّ صورة ومزاج ، فنقول نحن إنّه ليس سوى الحقّ ؛ ويظنّ المتكلّم أنّ مسمّى الجوهر وإن كان حقّا ، ما هو عين الحقّ الّذي يطلقه أهل الكشف والتّجلّي ، فهذا حكمة كونه لطيفا . )

(كما تقول) ، أي كقول الطائفة (الأشاعرة) من المتكلمين (إن العالم) بفتح اللام (كله) محسوسه ومعقوله وموهومه (متماثل) ، أي بعضه يماثل بعضا يعني يشابهه (بالجوهر) ، أي العين التي لا تنقسم فجواهره كلها من جنس واحد
(فهو جوهر واحد) وتعداده بالعرض المباين له كالزمان والمكان (فهو عين قولنا) المذكوران العين المقومة لكل شيء بوجودها الواحد الساري بصفة قيوميتها (واحدة) لا تعدد لها .

(ثم قالت) ، أي الأشاعرة (ويختلف) ، أي العالم (بالأعراض) جمع عرض بالتحريك ، وهو ما لا قيام له بنفسه منه كالألوان والطعوم والروائح والصور والكيفيات والكميات والزمان والمكان ونحو ذلك (وهو) ، أي هذا القول (عين قولنا) أيضا (ويختلف) ، أي الذي قلنا عنه أنه عين واحدة ويتكثر ، أي يصير كثيرا (بالصور) جمع صورة (والنسب) جمع نسبة (حتى يتميز) بذلك بعضه عن بعض (فيقال) في ذلك (هذا) الشيء (ليس) هو (هذا) الشيء الآخر (من حيث صورته) الظاهر بها (أو عرضه) كحركته أو سكونه أو مزاجه ، أي تركيب أخلاطه المخصوصة (كيف شئت) يا أيها الإنسان.

 (فقل) فيما تتميز به الأشياء بعضها عن بعض من أنواع الخصوصيات (و) يقال أيضا مع ذلك (هذا) الشيء (عين هذا) الشيء الآخر (من حيث جوهره) ، أي ذاته المعروضة لجميع تلك الأعراض ؛ (ولهذا) ، أي لكون الأشياء كلها واحدة في الجوهر (يؤخذ عين الجوهر) المشترك بالأعراض المختلفة (في حد كل صورة ومزاج) من صور الأشياء كلها (فنقول نحن) معشر العارفين المحققين إنه ، أي ذلك الجوهر الذي تذكره الأشاعرة (ليس سوى الحق) تعالى عندنا الحي القيوم على كل شيء لا من حيث ما تتصوّره العقول بأفكارها وتتخيله بأنه مادة لكل شيء ، بل من حيث ما الأمر عليه في نفسه ما لا يعرف إلا كشفا وذوقا .

(ويظن المتكلم) ، أي الخائض في علم الكلام بعقله في شرعه من الأشاعرة وغيرهم (أن مسمى الجوهر) ، أي ما يسمى بالجوهر (وإن كان عنده (حقا) ، أي أمرا متحققا في نفسه من غير شبهة فيه أصلا لكنه (ما هو عين الحق) تعالى عنده (الذي يطّلعه أهل الكشف والتجلي) " وفي نسخة : يطلقه بدل  يطّلعه  ".

من العارفين المحققين بل هو عينه لكن المخالفون جهلوا ذلك ، لنظرهم العقل الغالب عليهم واستعمالهم الفكر في الأمور الإلهية وغيرها وتركهم تطهير القلوب بالإيمان بالغيب والإسلام له في كل ما ورد في الكتاب والسنة ،
وإعراضهم عن تصفية أحوالهم بالتقوى والعمل الصالح مع الإخلاص والزهد والخشوع حتى تتنوّر بصائرهم وتتنبه أبصارهم ، فيرون الحق حقا ويرزقون اتباعه ، ويرون الباطل باطلا ويرزقون اجتنابه كما ورد في دعائه صلى اللّه عليه وسلم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ " [ البقرة : 220 ] فهذه المعاني المذكورة هنا هي حكمة كونه تعالى لطيفا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ نعت فقال :خَبِيرٌ[ لقمان : 16 ] أي عالم عن اختبار وهو قوله :وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [ محمد : 31 ] . وهذا هو علم الأذواق . فجعل الحقّ نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما . ولا تقدر على إنكار ما نصّ الحقّ عليه في حقّ نفسه . ففرّق تعالى ما بين علم الذّوق والعلم المطلق .
فعلم الذّوق مقيّد بالقوى . وقد قال عن نفسه إنّه عين قوى عبده في قوله :
"كنت سمعه " ، وهو قوّة من قوى العبد ، « وبصره » وهو قوّة من قوى العبد ، " ولسانه " وهو عضو من أعضاء العبد ، « ورجله ويده » فما اقتصر في التّعريف على القوى فحسب حتّى ذكر الأعضاء : وليس العبد بغير هذه الأعضاء والقوى . فعين مسمّى العبد هو الحقّ ، لا عين العبد هو السّيّد . )

(ثم نعت) ، أي لقمان عليه السلام ربه تعالى (فقال : خبير ، أي عالم) بكل شيء علما صادرا (عن اختبار) ، أي امتحان منه تعالى لكل شيء (وهو) معنى (قوله) تعالى : (" وَلَنَبْلُوَنَّكُم")  ْيا معشر المكلفين ( "حَتَّى نَعْلَمَ") الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [ محمد : 31 ] ، فنبلوكم ، أي نختبركم ونمتحنكم ليظهر لكم عندكم اسمنا الخبير كما ظهر بإيجادكم ابتداء اسمنا العليم وبقية أسمائنا عندكم .

(وهذا) المعنى الحاصل بالبلاء (هو علم الأذواق) الذي يفتح اللّه تعالى به على قلوب الصديقين فيتخلقون باسمه تعالى العليم الخبير بعد أن يتحققوا به ويتعلقوا بأثره ومظهره (فجعل الحق) تعالى في هذه الآية (نفسه ) سبحانه (مع) كمال (علمه بما هو الأمر عليه) من حال كل شيء (مستفيدا علما) من غيره باعتبار ظهور أثر اسمه الخبير بامتحان العبد وابتلائه شيئا فشيئا لطفا منه تعالى بعباده ، حتى يتم ظهور اسمه الخبير من حيث استعداد ذلك العبد فيحصل علم الذوق والوجدان لذلك العبد على حسب ظهور الاسم الخبير بكثير المحنة وقليلها وحقيرها وجليلها .

ولا يقدر أحد من الناس على إنكار ، أي جحود ما نص الحق تعالى عليه في كلامه القديم في حق نفسه تعالى مما ذكر هنا وأمثاله (ففرق تعالى)

بمقتضى هذه الآية (ما بين علم الذوق) الذي يفتح به على قلوب الأولياء أثرا عن ظهور اسمه تعالى الخبير على حسب استعدادهم لذلك ؛ ولهذا لا يكون إلا بعد المحنة والفتنة والبلاء والصبر من العبد والاحتساب فيه لوجه اللّه تعالى (و) بين (العلم المطلق) عن قيد الذوق وهو علم الرسوم الظاهرة الحاصل في خيال العبد وفهمه وحفظه دون ذوقه وجدانه وكشفه الذي هو أثر عن ظهور اسمه تعالى العليم بحسب استعداد العبد لذلك ولا يلزم أن يكون بعد محنة وبلاء .

(فعلم الذوق) والوجدان (مقيد) إدراكه (بالقوى) جمع قوّة ، لأنه ذوقي وجداني لا بالخيال والفكر والتصوّر في الذهن كالعلم المطلق (وقد قال) تعالى (عن نفسه) بلسان نبيه عليه السلام في حديث : « لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به » إلى آخره .

(إنه) تعالى بوجوده القيوم القديم (عين قوى عبده) المؤمن به (في قوله) في الحديث المذكور (كنت سمعه) الذي يسمع به (وهو) ، أي سمع (قوة) روحانية منفوخة في جسد العبد من روح اللّه القائم بأمره سبحانه (من) جملة (قوى العبد) المؤمن (و) كنت (بصره) الذي يبصر به (وهو) أي البصر (قوّة) أيضا روحانية منفوخة في الجسد من جملة (قوى العبد) أيضا وكنت (لسانه) الذي ينطق به (وهو) ، أي اللسان (عضو) جسماني فيه قوة روحانية أيضا منفوخة من روح اللّه تعالى القائم بأمره تعالى من جملة (أعضاء العبد) المؤمن وكنت (رجله ويده) أيضا كما ورد في لفظ الحديث .

(فما اقتصر) تعالى (في التعريف) ، أي تعريف عبده به (على) أنه تعالى هو (القوى) ، أي قوى العبد الروحانية المذكورة (فحسب) ، أي فقط حتى أنه تعالى (ذكر الأعضاء) الجسمانية أيضا (وليس العبد بغير) ، أي بشيء زائد مغاير (هذه الأعضاء) الجسمانية (والقوى) الروحانية ، وقد ذكر في الحديث أمهات ذلك وأصوله وهي اللسان واليد والرجل ، ولم يذكر الفرج ولا الأنف ولا الأذن ونحوها لتبعيتها لما ذكر ، والسمع والبصر من أشرف القوى الروحانية فذكرتا ، والبقية تبع لذلك ، والمراد الجميع .

(فعين مسمى العبد) ، أي مجموع ما يسمى بالعبد من الأعضاء والقوى (هو الحق) تعالى من حيث التجلي بالوجود ، ولهذا قال : الذي يسمع به والذي يبصر به يبطش بها ، احترازا عن الصورة المسماة بسمعه وبصره ويده ورجله مما لا تأثير لها دون اللّه تعالى ، فكأنه قال : المؤثر من ذلك ، وليس هو إلا الحق تعالى (لا) أن (عين العبد) الذي هو مجموع صور تلك الأعضاء والقوى (هو السيد) ، أي الرب تعالى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ النّسب متميّزه لذاتها ؛ وليس المنسوب إليه متميّزا ، فإنّه ليس ثمّة سوى عينه في جميع النّسب . فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات .
فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيّين : لطيف خبير سمّى بهما اللّه تعالى . فلو جعل ذلك في الكون - وهو الوجود - فقال : « كان » لكان أتمّ في الحكمة وأبلغ. فحكى اللّه تعالى قول لقمان على المعنى كما قال لم يزد عليه شيئا .
وإن كان قوله :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [ لقمان : 16 ] من قول اللّه - فلما علم اللّه تعالى من لقمان أنّه لو نطق متمّما لتمّم بهذا . )

(فإن النّسب) جمع نسبة أي نسبة السمع مثلا ونسبة البصر ، وكذلك نسبة اللسان واليد والرجل بالنظر إلى كونها حضرات أسمائية (متميزة) بعضها عن بعض (لذاتها) بالصور والهيئات القائمة بها لها ، فإذا كان الحق تعالى عين كل واحدة منها بانفرادها كان متميزا عنها أيضا بما تميز به بعضها عن بعض ، فلا يكون الحق تعالى عين العبد وإن كان تعالى عين كل عضو منه وكل قوة من قواه .

(وليس) الحق تعالى (المنسوب إليه) كل عضو وقواه العبد (متميزا) عن ذلك المنسوب إليه حتى يكون عين العبد الذي هو مجموع ما به التمييز من الصور الجسمانية والروحانية ، بل هو تعالى عين كل عضو وقوة (فإنه ليس ثم) ، أي هناك في ظاهر العبد وباطنه سوى عينه تعالى في جميع النسب الجسمانية والروحانية .

(فهو) تعالى (عين واحدة ذات نسب وإضافات) كثيرة (وصفات) مختلفة وتلك النسب والإضافات والصفات تتميز عنه ويتميز بعضها عن بعض بمسمى العبد في الظاهر من الصور الحسية والعقلية .
(فمن تمام حكمة لقمان) عليه السلام (في تعليمه ابنه ما جاء به) من العلم الإلهي (في هذه الآية) المذكورة (من هذين الاسمين الإلهيين) وهما كونه تعالى (لطيفا خبيرا سمّى) ، أي لقمان عليه السلام (بهما) ، أي بهذين الاسمين (اللّه تعالى) في آخر حكمته تتميما لها بوحي من اللّه تعالى إليه بذلك

 (فلو جعل) ، أي لقمان عليه السلام (ذلك) ، أي تسميته للّه تعالى (في الكون وهو) ، أي الكون (الوجود) على وجه الدوام والاستمرار (فقال) ، أي لقمان عليه السلام (كان) اللّه لطيفا خبيرا (لكان) هذا (أتم) من عدم ذلك (في) بيان (الحكمة وأبلغ) منه (فحكى اللّه تعالى قول لقمان) عليه السلام (على المعنى) دون اللفظ (كما قال) ، أي مثل قوله عليه السلام (لم يزد عليه) تعالى (شيئا) وحاشا للّه تعالى من الزيادة والنقصان في حكاية قول أحد :
وما أصدق من اللّه تعالى (وإن كان قوله) ، أي لقمان عليه السلام (إن اللّه لطيف خبير من قول اللّه) تعالى لأنه حكاية منه تعالى عن لقمان عليه السلام (لما علم اللّه تعالى) في الأزل (من لقمان) عليه السلام (أنه لو نطق متمما) لحكمته (لتمم) لقمان عليه السلام حكمته (بهذا) التمميم المذكور ، فلهذا تممها اللّه تعالى بذلك في كلامه القديم حكاية عنه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا قوله :إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ[ لقمان : 16 ] لمن هي له غذاء ، وليس إلّا الذّرّة المذكورة في قوله تعالى  :فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8] فهي أصغر متغذّ والحبّة من الخردل أصغر غذاء.
ولو كان ثمّة أصغر لجاء به كما جاء بقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً ثمّ لمّا علم أنّه ثمّ ما هو أصغر من البعوضة قال : فَما فَوْقَها[ البقرة : 26 ] يعني في الصّغر . وهذا قول اللّه - والّتي في « الزّلزلة » قول اللّه أيضا . فاعلم ذلك فنحن نعلم أنّ اللّه تعالى ما اقتصر على وزن الذّرّة وثمّ ما هو أصغر منها ، فإنّه جاء بذلك على المبالغة واللّه أعلم).

(وأما قوله) ، أي لقمان عليه السلام في جملته المذكورة ("إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ")[ لقمان : 16 ] وذلك المقدار (لمن هي) ، أي حبة الخردل (له غذاء) وهو الحيوان الصغير الذي يغتذي بها (وليس) ذلك (إلا الذرة) واحدة الذر وهي صغار النمل المذكورة في قوله تعالى :" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"( 8 ) [ الزلزلة : 7 - 8 ] .
فهي ، أي الذرة المذكورة أصغر حيوان (متغذ) بالغذاء (والحبة من الخردل) بمفردها (أصغر غذاء) يغتذي به الحيوان الصغير جدا وهو الذرة (ولو كان ثمة) ، أي هناك في الوجود حيوان (أصغر) الذرة (لجاء) ، أي اللّه تعالى (به) ، أي بذلك الحيوان في كلامه .

 (كما جاء) تعالى (بقوله) سبحانه: ("إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً " ) [ البقرة : 26 ] .
سميت بذلك لأنها نصف ذبابة من صغرها ثم لما علم ، أي اللّه تعالى أنه ، أي الشأن ثم ، أي هناك في الحيوان (ما هو أصغر من البعوضة) وهي الذرة (قال) تعالى : (فَما فَوْقَها يعني) أزيد منها في صفة (الصغر) ، أي أصغر منها (وهذا) القول في البعوضة هو (قول اللّه) تعالى عن نفسه لا حكاية قول غيره تعالى والذرة التي ذكرت في سورة (الزلزلة قول اللّه) تعالى (أيضا) لم يحكها عن غيره سبحانه .

(فاعلم) يا أيها السالك (ذلك) وتحقق به (فنحن) معشر العارفين المحققين (نعلم) قطعا (أن اللّه تعالى ما اقتصر على وزن الذرة) في سورة الزلزلة والحال (أن ثم) ، أي هناك (ما) ، أي حيوان (هو أصغر منها) ، أي من الذرة (فإنه) تعالى (جاء بذلك) ، أي بوزن الذرة في مجازاة الأعمال (على) طريق المبالغة) في الكلام (واللّه) سبحانه (أعلم) بأنه لا أصغر من الذرة في الحيوانات .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا تصغيره اسم ابنه فتصغير رحمة ولهذا وصّاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك .  وأمّا حكمة وصيّته في نهيه إيّاه أن "لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" [ لقمان : 13 ] . والمظلوم المقام حيث نعته بالانقسام .
وهو عين واحدة فإنّه لا يشرك معه إلّا عينه وهذا غاية الجهل . وسبب ذلك أنّ الشّخص الّذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ولا بحقيقة الشّيء إذا اختلفت عليه الصّور في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أنّ ذلك الاختلاف في عين واحدة ، جعل الصّورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام فجعل لكلّ صورة جزءا من ذلك المقام . )

(وأما تصغيره) ، أي لقمان عليه السلام (اسم ابنه) في قوله في الآية السابقة وغيرها :يا بُنَيَّ (فتصغير رحمة) ، أي عطف وشفقة عليه (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك وصاه ، أي وصى ابنه (بما فيه سعادته) من حسن الحال والاتصاف بصفات الكمال (إذا عمل) ، أي ابنه (بذلك) الذي وصاه به .
(وأما حكمة وصيته) ، أي لقمان عليه السلام لابنه (في نهيه) ، أي نهي لقمان عليه السلام (إياه) ، أي ابنه (أن لا يشرك باللّه) تعالى (فإن الشرك) باللّه تعالى (لظلم عظيم) كما حكى اللّه تعالى ذلك عنه بقوله سبحانه :" وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " ( 13 ) [ لقمان : 13 ] .

(والمظلوم) بهذا الظلم العظيم الذي هو الشرك (المقام) الإلهي الصادر عنه كل شيء وهو مقام الألوهية حيث نعته ، أي وصف المشرك (بالانقسام) إلى مقامين فأكثر (وهو) ، أي ذلك المقام (عين واحدة) لا انقسام لها أصلا وإن صدر عنها ما لا يتناهى من الكثرة (فإنه) ، أي المشرك (لا يشرك معه) تعالى (إلا عينه) الواحدة حيث ظهرت في كثير وقد جهلها فعددها بتعدد المظاهر (وهذا غاية الجهل) باللّه تعالى وغاية الظلم له سبحانه وسبب ذلك ، أي الشرك المذكور (أن الشخص الذي لا معرفة له بالأمر) الإلهي (على ما هو) أي ذلك الأمر الإلهي عليه من الوحدة الحقيقة أزلا وأبدا ولا معرفة له أيضا (بحقيقة الشيء) الظاهر بظهور وجه الأمر إليه وهو فإن مضمحل كما قال تعالى : " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ"  [ القصص: 88].

وقد ورد أنه قرن إسرافيل عليه السلام بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ثلاث سنين يعلمه الكلمة والشيء ، ثم نزل عليه جبريل بالوحي عشرين سنة عشر سنين في مكة وعشر سنين في المدينة ، وكان ذلك بعد بلوغه الأربعين سنة من عمره ، وقد عاش صلى اللّه عليه وسلم ثلاثا وستين سنة .
ومعرفة الكلمة والشيء هو مقام الولاية والنبوّة بوحي جبريل عليه السلام إذا اختلفت عليه ، أي على ذلك الأمر أو الشيء (الصور) الكثيرة (في العين الواحدة) التي له (وهو) أي الشخص (لا يعرف أن ذلك الاختلاف) حاصل (في عين واحدة جعل) جواب إذا (الصورة) الواحدة مشاركة للأخرى من الصور (في ذلك المقام) الواحد الإلهي (فجعل لكل صورة) من صور تلك العين الواحدة (جزأ من ذلك المقام) الإلهي المذكور ، فينقسم المقام الإلهي عنه بالضرورة إلى أقسام كثيرة.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومعلوم في الشّريك أنّ الأمر الّذي يخصّه ممّا وقعت فيه المشاركة ليس عين الآخر الّذي شاركه إذ هو للآخر . فإذن ما ثمّة شريك على الحقيقة ، فإنّ كلّ واحد على حظّه ممّا قيل فيه إنّ بينهما مشاركة فيه .
وسبب ذلك ، الشّركة المشاعة ، وإن كانت مشاعة فإنّ التّصرف من أحدهما يزيل الإشاعة . "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ" [ الإسراء : 110 ] هذا روح المسألة .)

(ومعلوم) على حسب هذا الانقسام وحدة المقام الإلهي المذكور (في) حق (الشريك) الواحد أن (الأمر) ، أي الجزء (الذي يخصه) ، أي يخص هذا الشريك (مما وقعت فيه المشاركة) من المقام الإلهي المذكور (ليس عين الأمر) ، أي الجزء (الآخر الذي شاركه) ، أي صار شريكا له في زعم المشرك (إذ هو) ، أي الأمر الآخر (للآخر) ، أي للشريك الآخر .

(فإذن) ، أي حينئذ (ما ثم) بالفتح ، أي هناك (شريك) للمقام الإلهي المذكور أصلا (على الحقيقة) ، أي في حقيقة الأمر ، بل كل مدعي الشركة في شيء حسي أو عقلي متوهم جاهل بما الأمر عليه في نفسه ، فلو عقل وجد الحق تعالى ظاهرا في ذلك الشيء الذي جعله شريكا له تعالى وزالت عنه الشركة (فإن كل واحد) من المتشاركين في المقام الإلهي المذكور حاصل (على حظه) ، أي نصيبه الذي قد استعد له (مما) ، أي من المقام الذي (قيل) ، أي قال المشرك (فيه) ، أي في ذلك المقام أن (بينهما) ، أي بين المتشاركين (مشاركة فيه) ، أي في ذلك المقام المذكور .

(وسبب ذلك) ، أي حصول الحظ له من ذلك المقام (الشركة المشاعة) فيه من غير قسمة فيها بين المشاركين (وإن كانت مشاعة) بحيث لا يملك المقام أحدهما وحده (فإن التصريف) بحكم المقام الذي يصدر (من أحدهما) ، أي أحد المتشاركين (يزيل الإشاعة) من ذلك المقام بينهما فيقتضي اختصاص أحدهما به دون الآخر .
قال اللّه تعالى : (" قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ") [ الإسراء : 110 ] .

فأوقع تعالى المغايرة الاعتبارية في حضرات الأسماء الإلهية ، وأمر بدعاء كل واحدة على وجه التخيير للشركة المشاعة في المتجلي بذلك ، فإن التصريف له بالإجابة في كلا الحضرتين بمقتضى اختيار الداعي على حسب استعداده في الدنيا ، فكذلك خيره بين الاسم اللّه أو الاسم الرحمن وأخبر تعالى بعد ذلك بقوله :" أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى " ، فاللّه له الأسماء الحسنى ، والرحمن له الأسماء الحسنى وليس إلا ظهور التصريف بمقتضى التجلي العام .
(هذا) ، أي ما ذكر هنا هو (روح) ، أي سر هذه (المسألة) في أمر الشركة والشرك وسبب ظهوره في العالم وإن ترتب عليه الظلم العظيم والعذاب الأليم .
  تم الفص اللقماني
.
واتساب

No comments:

Post a Comment