Sunday, January 26, 2020

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
لما كان الحق تعالى غيب الغيوب كلها وكانت هويته سارية في جميع الأشياء العلوية والسفلية المكانية والمرتبية وقال تعالى في أيوب عليه السلام :
( أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) . فاظهر له ماء الحياة الحقيقية من الغيب وطهره به من الأمراض الحاصلة من مس الشيطان ، أي من البعد عن جانب الرحمن ، كما سنبينه - يسمى هذه الحكمة ( غيبية ) لأن الماء المطهر له كان مستورا تحت رجله ، وغيبا فيما يمشى عليه بكله .
وهو في الحقيقة إشارة إلى الماء الذي قال تعالى فيه : ( وكان عرشه على الماء ) . ولذلك طهر باطنه عن ملاحظة الأغيار ، كما طهر ظاهره من الأمراض الموجبة للنفار . ومن جنس هذا الماء كان ما غسل به جبرئيل صدر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

وإضافتها إلى الكلمة ( الأيوبية ) لنزول الخطاب في حقه . فالمراد بالحكمة ( الغيبية ) ظهور الحق له بالسلوك والرياضة والطاعة والعبادة ، وحصول ماء الحياة التي هي في عين الظلمات بالصبر في أنواع البلايا والمحن الواقعة في نفسه وأهله وأمواله وأولاده ، فكان كلها رفعا لدرجاته وتحصيلا لكمالاته وترقيا في حالاته وتجلياته ، لشهوده المبلى والممتحن في عين البلايا والمحن ، وصبر به على مقاساة الشدائد ومتاعبها ، ولم يشتغل بإزالتها ومداراتها حتى وصل في عين القرب من الرب وحصل في مقام الأنس برفع وحشة الطلب ، فنادى : ( إني مسني الشيطان بضر ) . فكشف الله عنه ضره وطهر عن أدناس الموانع سره .
لا يقال : إنما سمى حكمته ( غيبية ) لأن أموره كلها ما ظهرت إلا من الغيب أولا وآخرا .
لأن أهل العالم كلهم لا يظهر أمورهم إلا من الغيب ، فلا اختصاص  حينئذ   

قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم ، أن سر الحياة سرى في الماء ، فهو أصل العناصر والأركان ، ولذلك جعل الله من الماء كل شئ حي . وما ثم شئ إلا وهو حي ، فإنه ما من شئ إلا وهو يسبح بحمد الله ولكن لا نفقه تسبيحه إلا بكشف إلهي . ولا يسبح إلا حي . )

سر الحياة هو الهوية الإلهية السارية في جميع الأشياء بظهورها في ( النفس الرحماني )
أولا ، وبسريانها بواسطته في كل شئ حصل منه ثانيا . وذلك لأن سر الشئ غيبه
المستور فيه ومعناه الظاهر بصورته .
ويجوز أن يراد به نفس الحياة وحقيقتها .
أي ، حقيقة الحياة سارية في الماء وكلاهما متقاربان ، لأن الهوية الإلهية هي المتجلية بالصفة الحياتية لا غيرها .
وإنما جعل الماء أصلا لغيره من العناصر والأركان ، لما نطق به الحديث النبوي من

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ان الله خلق درة بيضاء ، فنظر إليها بنظر الجلال والهيبة ، فذابت حياء ، فصار نصفها ماء ونصفها نارا ، فحصل منهما دخان ، فخلق السماوات من دخانها والأرض من زبدها ) .

قيل : ( الدرة ) هي ( العقل الأول ) . وفيه نظر . لأن ما ذاب وصار شيئا آخر لا يكون باقيا على تعينه الذاتي ، والعقل الأول باق على تعينه ، لا تقبل التغيير أصلا . بل المراد بها ما قبل
صور العناصر من الهيولى العنصرية ، والله أعلم
 ولأجل سريان هذه الحياة الذاتية في الماء ، جعل الله من الماء كل شئ حي .
أي ، كل ماله حياة خلق من الماء ، إذ النطف التي تخلق الحيوان منها ماء ، وما يتكون بغير توالد فهو أيضا بواسطة المائية المتعفنة .
وكذلك النباتات أيضا لا تنبت إلا بالماء .
ولما كان كل ما هو في الوجود مسبح لربه تعالى بالنص الإلهي ، ولا يسبح إلا الحي ،

قال : ( فكل شئ حي ، وكل شئ الماء أصله . ألا ترى العرش كيف كان على ( الماء ) لأنه منه تكون فطفا عليه . ) أي ، علا وارتفع عليه .
والمراد بالماء الذي هو أصل كل شئ ( النفس الرحماني ) الذي هو الهيولى الكلى والجوهر الأصلي ، كما تقدم أن صور جميع الأشياء حاصلة عليه ، لا الماء المتعارف .
فهو الماء الذي كان عرش الله عليه ، إذ العرش كما يطلق ويراد به ( الفلك الأطلس ) ، كذلك يطلق ويراد به ( الملك ) .
كما قال الشيخ رضي الله عنه في الباب الثالث عشر من الفتوحات :
( إن العرش ) في لسان العرب يطلق على ( الملك ) يقال : ثل عرش الملك . أي ، دخل خلل في ملكه . ويطلق ويراد به ( السرير ) .

"" قال الشيخ رضي الله عنه في الباب الثالث عشر من الفتوحات :
اعلم أيد الله الولي الحميم أن العرش في لسان العرب يطلق ويراد به الملك يقال ثل عرش الملك إذا دخل في ملكه خلل ويطلق ويراد به السرير
فإذا كان العرش عبارة عن الملك فتكون حملته هم القائمون به وإذا كان العرش السرير فتكون حملته ما يقوم عليه من القوائم أو من يحمله على كواهلهم والعدد يدخل في حملة العرش وقد جعل الرسول حكمهم في الدنيا أربعة وفي القيامة ثمانية
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ".
ثم قال وهم اليوم أربعة يعني في يوم الدنيا وقوله يومئذ ثمانية يعني يوم الآخرة .أهـ
و قال الشيخ رضي الله عنه في الباب الثالث والسبعون من الفتوحات :
فلا بقاء للعالم إلا بالله السلطان ظل الله في أرضه العرش
ظل الله يوم القيامة العرش عين الملك
يقال ثل عرش الملك إذا اختل ملكه عليه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
أي على ملكه سجود القلب إذا سجد لا يرفع أبدا
لأن سجوده للأسماء الإلهية لا للذات فإنها هي التي جعلته قلبا
فهي تقلبه من حال إلى حال دنيا وآخرة...أهـ ""

غيره أيضا ، من أكابر الأولياء بعد هذا الكلام ، تعليل أن ( العرش ) الذي على ( الماء ) هو الملك . ولكون العرش الجسماني صورة من الصور الفائضة على الهيولى ، يصدق عليه أيضا أنه على الماء ، كما أشار قوله تعالى : ( والبحر المسجور ) أي ، الممتلئ من الموجودات . وهو البحر الذي موجه صور الأجسام كلها  .
وإنما أطلق اسم ( الماء ) عليه ، لأن الماء العنصري مظهر له ، لذلك اتصف بصفاته ، فصار مادة لجميع ما في العالم الجسماني من السماوات والأرض والنبات والحيوان .
وأيضا ، لما أطلق عليه ( النفس ) مجازا ، تشبيها بالنفس الإنساني ، أطلق اسم ( الماء ) عليه مجازا ، لأن ( النفس ) بخار ، والبخار أجزاء صغار مائية مختلطة بأجزاء هوائية .
فحصل أن ( الماء ) كما يطلق على الماء المتعارف ، كذلك يطلق على الهيولى وعلى ( النفس الرحماني ) الذي هو هيولى جميع العالم وأصله .

ولا يقال : إن المراد ب‍ ( الماء ) الذي عليه العرش والذي هو أصل العناصر هو ( العلم ) ، وإن كان يتجسد في المثال بصورة الماء ، لأن المراد بيان أصل الموجودات في الخارج ، لا في العلم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو يحفظه من تحته ، كما أن الإنسان خلقه الله عبدا ، فتكبر على ربه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنظر إلى علو هذا العبد الجاهل بنفسه . )  وفي بعض النسخ : ( بربه ) . وكلاهما صحيح .

لأن الجاهل بالنفس جاهل بالرب وبالعكس . أي ، فالماء الذي هو النفس الرحماني ، يحفظ هذا الملك وتعيناته من تحته ، أي باطنه .
كما أن الحق سبحانه يحفظ الإنسان الجاهل بنفسه وعبوديته من باطنه وغيبه ، نظرا إلى علو مرتبته من حيث حقيقته ومكانته الزلفى عند الله ، وهو يدعى الربوبية ويتكبر على الله من جهله بنفسه وعبوديتها ، إذ لو لم يكن حفظ الحق تعالى له وللعالم كله من الباطن ، لانعدم في الحال ، فإنه بلا وجود عدم .

(وهو قوله ، عليه السلام : " لو دليتم بحبل لهبط على الله " . فأشار إلى أن نسبة التحت إليه ، كما أن نسبة الفوق إليه . " وفي بعض النسخ : ( كما نسبة الفوق إليه ) .
ف‍ ( ما ) زائدة . كقوله : " فبما رحمة من الله " .
( في قوله : " يخافون ربهم من فوقهم " ) وهو القاهر فوق عباده " . فله الفوق والتحت . " أي ، هذا المعنى المذكور هو معنى قوله ، صلى الله عليه وسلم : " لو دليتم بحبل لهبط على الله " .
وإنما كان نسبة الفوقية والتحتية إليه سواء ، لأن الحق محيط بالظاهر والباطن على العالم ، فكما
تنسب إليه الفوقية ، تنسب إليه التحتية . فله الفوق والتحت جميعا ، لأنهما من جملة مراتبه الوجودية .

( ولهذا ما ظهرت الجهات الست إلا بالإنسان ، وهو على صورة الرحمان . )
أي ، ولكون نسبة الفوقية والتحتية ، بل نسبة جميع الصفات المتقابلة ، إلى الله تعالى سواء ، ما ظهرت الجهات الست إلا بالإنسان ، لكونه هو المخلوق على صورة الرحمان الجامع للصفات المتقابلة .
واعلم ، أنه لو كان المراد بالظهور العلم بالجهات ، لكان غير منحصر في الإنسان ، لأن النفوس الفلكية أيضا عالمة بها ، بل جميع الحيوانات . فالأنسب أن نقول : المراد بالظهور ، التحقق .
أي ، لا يتحقق بهذه الجهات المتقابلة بحسب المقام إلا الإنسان ، لأن جميع مراتب الوجود مقاماته ، بخلاف غيره .

فإن لكل منها مقاما معلوما لا يتعداه ، كما قال تعالى : " وما منا إلا له مقام معلوم " . فهو الذي في السماء له ظهور ، وهو الذي في الأرض له ظهور .
كما أن أصله الذي ظهر الإنسان على صورته : "هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " . وكذلك باقي الجهات . وقد مر تحقيقه في المقدمات من أن الحقيقة الإنسانية هي التي ظهرت في جميع صور العالم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولا مطعم إلا الله . وقد قال في حق طائفة : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل " ثم نكر وعمم ، فقال : " وما أنزل إليهم من ربهم " . فدخل في قوله : " وما أنزل إليهم من ربهم " كل حكم منزل على لسان رسول أو ملهم ، " لأكلوا من فوقهم " وهو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه الحق " ومن تحت أرجلهم " وهو المطعم من التحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه ، صلى الله عليه وسلم . )
لما قال : إن نسبة الفوقية والتحتية إليه سبحانه سواء ، أراد أن يبين أنه تعالى يربي عباده منهما.
فقوله : ( لا مطعم إلا الله ) مأخوذ من قوله تعالى : ( وهو يطعم ولا يطعم ) .
وإنما جاء به ، لأنه تعالى قال في حق قوم موسى وعيسى ، عليهما السلام : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) ، أي ، أحكامهما .  ( وما أنزل إليهم من ربهم )

من الكتب الإلهية على لسان أي رسول كان ، أو على قلوب عباده بطريق الإلهام ، ( لأكلوا ) أي ، الرزق المعنوي من العلوم والمعارف والحكم . ( من فوقهم ) أي ، من ربهم الذي يطعمهم ويربيهم من الجهة الفوقية . ( ومن تحت أرجلهم ) ، أي ، لأكلوا رزق الوجدانيات ولذاقوا ذوق التجليات ونالوا الحالات الذوقية والواردات الإلهية التي تحصل بالسلوك بالأرجل والحق هو المطعم والمربى من جهة التحتية أيضا ، كما نسبها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،
بقوله : " لو دليتم بحبل لهبط على الله " .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولو لم يكن العرش على الماء ، ما انحفظ وجوده ، فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي . ألا ترى الحي إذا مات الموت العرفي ، تنحل أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص . )
أما العرش الجسماني ، فإنه لولا الهيولى القابلة للصورة الجسمانية ، لما كان للصورة العرشية وجود ضرورة .
وأما العرش بمعنى ( الملك ) فإنه لولا النفس الرحماني القابل لصور حقائق العالم ، لما كان شئ منها موجودا ، فضلا عن دوامها .
وأما السماوات والأرض التي كل منها عرش لاسم من الأسماء ، فلأنه لولا وجود الماء المتعارف ، لما كان شئ منها موجودا .
وقد تقدم أن الهيولى والنفس الرحماني يسمى في اصطلاح أهل الله ب‍ ( الماء ) ، كما يسمى الماء
المتعارف به .
ولما كان الماء مظهرا للإسم ( الحي ) وكل شئ حي قال : ( فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي . ) والباقي ظاهر .

ولما كان ما ذكره من أول الفص إلى هاهنا تمهيدا للمقدمات في بيان حال أيوب عليه السلام ،

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال تعالى لأيوب : " أركض برجلك هذا مغتسل بارد" ، يعنى ماء بارد . ولما كان عليه من إفراط حرارة الألم ، فسكنه الله ببرد الماء . )
ولما كان  عليه من إفراط حرارة الألم ، ( فسكنه الله ببرد الماء . ) أي ، قال تعالى لأيوب ، عليه السلام : اضرب برجلك الأرض ، ليظهر لك ماء تغتسل به ، بارد مسكن حرارة الألم ، مطهر لبدنك من الأمراض والأسقام . فلما أتى بالمأمور به ، سكن الله إفراط الحرارة ببرودة الماء . هذا ظاهره .

وأما باطنه ، فهو أمر بالرياضة والمجاهدة بضرب أرض النفس ، ليظهر له ماء الحياة الحقيقة متجسدا في عالم المثال : فيغتسل به ، فيزول من بدنه الأسقام الجسمانية ومن قلبه الأمراض الروحانية . فلما جاهد وصفا استعداده وصار قابلا للفيض الإلهي ، ظهر له من الحضرة الرحمانية ماء الحياة ، فاغتسل به ، فزال من ظاهره وباطنه ما كان سبب الحجاب والبعد من ذلك الجناب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا كان الطب النقص من الزائد والزيادة في الناقص . والمقصود طلب الاعتدال . ولا سبيل إليه إلا أنه يقاربه . )
أي ، أزال الحق منه إفراط الحرارة الذي كان سبب الآلام ، لا الحرارة مطلقا . ولهذا المعنى كان الطب والتداوي بالتنقيص من الكيفية الزائدة ، والازدياد من الناقصة ، ليحصل المقصود وهو القرب من الاعتدال ، إذ لا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي إلا أن الطبيب يجعل المزاج قريبا من الاعتدال .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإنما قلنا : ولا سبيل إليه ، أعني الاعتدال ، من أجل أن الحقائق والشهود يعطى التكوين مع الأنفاس على الدوام . ولا يكون التكوين إلا عن ميل في الطبيعة ،
يسمى انحرافا أو تعفينا ، وفي حق الحق إرادة ، وهي ميل إلى المراد الخاص دون غيره .
والاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع . وهذا ليس بواقع . فلهذا منعنا من حكم الاعتدال ) أي ،

وإنما قلنا : لا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي ، لأن معرفة  الحقائق والشهود اليقيني ، يعطى للعارف المشاهد أن الأشياء لا تزال تتكون في كل آن ونفس على الدوام ، كما قال تعالى : ( بل هم في لبس من خلق جديد ) .

والكون لا يكون إلا بعد الانعدام ، وكل منهما لا يمكن بلا ميل أما الانعدام ، فلأنه لا يحصل إلا بالميل إلى الباطن .
وهذا الميل في الحيوان يسمى ( انحرافا ) في الطبيعة ، وفي غيره من المركبات يسمى ( تعفينا ) ، كما إذا تغير مزاج فاكهة أو لبن أو عصير ، أو غير ذلك ، يقال : عفن . وذلك الميل بالنسبة إلى جناب الحق يسمى ( إرادة ) .
وذلك لأنها المخصصة والمرجحة في حق الممكنات ، إما إلى الوجود ، أو العدم ، والتخصيص والترجيح عين الميل بأحد الحكمين المتساويين نسبتهما إلى ذات الممكن ، وإذا كان التكوين لا يحصل إلا بالميل ، فلا يمكن الاعتدال الحقيقي ، لأنه الجمع بين الشيئين على السواء ، فلا يمكن وقوعه   .

واعلم ، أن الاعتدال وعدمه لا يكون إلا بالنسبة إلى المركب من الشيئين المتغائرين ، وليس بين الوجود والعدم تركيب حتى يعتبر فيه الاعتدال أو عدمه .


وغرض الشيخ رضي الله عنه ، من هذا الكلام إثبات أن العالم وجد عن الميل المسمى ب‍ ( الإرادة ) ، فلا يزال الميل متحققا فيه ، سواء كان المائل بسيطا أو مركبا .

ومع وجود الميل لا يمكن الاعتدال ، لأنه إنما يتصور إذا كان الشئ مركبا بحيث لا يكون لشئ من أجزائه بحسب الكمية والكيفية زيادة على الآخر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضا والغضب وبالصفات . ) أي ، المتقابلة . ( والرضا مزيل للغضب . ) أي ، عن المغضوب عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والغضب مزيل للرضا عن المرضى عنه . والاعتدال أن يتساوى الرضا والغضب ، فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض . ) أي ، ويرضى عنه أبدا ، كما يذكر من بعد من أنه زعم المحجوبين .
( فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه . ) أي ، فقد اتصف الغاضب الذي هو الحق بأحد الحكمين ، وهو الغضب في حقه ، أي في حق المغضوب عليه السلام.
(وهو ميل ) أي ، فقد اتصف الراضي وهو الحق بأحد الحكمين ، وهو الرضا في حقه ، أي في حق المرضى عنه .
( وما رضى الحق عمن رضى عنه وهو غاضب عليه.) أي ، يغضب عليه أبدا .
( فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه . ) أي ، فقد اتصف الراضي الذي هو الحق بأحد الحكمين ، وهو الرضا في حقه ، أي في حق المرضى عنه . ( وهو ميل . )
فليس فيها أيضا اعتدال ، لأن كلا منهما موجب لعدم الآخر . وهذا بالنسبة إلى القوابل . وأما بالنسبة إلى أعيان تلك الصفات الحاصلة في الجناب الإلهي والحضرة الأسمائية ، فليس كذلك ، لأنه مقام الجمع ولا غلبة لأحدهما على الآخر ، وإن كان يسبق بعضها بعضا ، كسبق الرحمة الغضب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإنما قلنا هذا من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه . فما لهم حكم الرضا من الله ، فصح المقصود . ) .
أي ، إنما قلنا لا يتعلق حكم الرضا على من يتعلق به حكم الغضب عليه ، وبالعكس ، بناء على زعم أهل الحجاب من أن أهل النار لا يزال حكم الغضب جار عليهم دائما أبدا ، ولا يتعلق بهم حكم الرضا من الله . فإن كان الأمر كما زعموا ، فصح المقصود .


فقوله : ( فصح المقصود ) جواب الشرط المحذوف يدل عليه قوله : ( فإن كان كما قلنا ، مآل أهل النار إلى إزالة الآلام ، وإن سكنوا النار ، فذلك رضا ، فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت ) .
أي ، فإن كان مآل أهل النار إلى إزالة الآلام والنعيم المناسب لأهل الجحيم ، كما قررناه من قبل في مواضع وذلك عين الرضا منهم ، لأن زوال الألم عين زوال الغضب ، وإذا زال الغضب ، حصل الرضا .

وإنما قال : ( فإن كان كما قلنا ) مع أنه على يقين من ربه أن الأمر كما قال إلزاما للمحجوبين . وذلك كما قال أمير المؤمنين ، كرم الله وجهه في بعض أشعاره :
قال المنجم والطبيب كلاهما  ....  لن تحشر الأجسام ، قلت إليكما  
إن كان قولكما فلست بخاسر  ....  أو كان قولي فالخسار عليكما

مع أنه عليه السلام ، قال : " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن غضب فقد تأذى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه ، إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك ، فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه .
والحق إذا أفردته عن العالم ، يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحد .
وإذا كان الحق هوية العالم ، فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه )
أي ، الغاضب والمنتقم إنما يغضب وينتقم ليجد الراحة بذلك الانتقام ، وينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه .
والحق تعالى من حيث ذاته وانفراده عن العالم غنى عن العالمين ، متعال عن هذه الصفة علوا كبيرا .
ومن حيث إن هوية العالم عين هوية الحق ، فما ظهر أحكام الرضا والغضب كلها إلا من الحق وفي الحق .
فإن خطر ببالك أن هذا الكلام مبنى على أن الغضب والانتقام المنسوب إليه تعالى كالغضب والانتقام المنسوب إلينا ، وأما إذا كان بمعنى آخر فلا يكون كذلك .

فعليك أن تتأمل في قوله ، صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق آدم على صورته ) .
ليندفع ذلك الوهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو قوله : "وإليه يرجع الأمر كله " . حقيقة وكشفا " فاعبده وتوكل عليه " حجابا وسترا . ) أي ، قولنا : ( فما ظهرت الأحكام إلا فيه ومنه ) .

وهو معنى قوله تعالى : " وإليه يرجع الأمر كله " . أي ، مآل الأمور ، حسنها وقبيحها ، نعيمها وجحيمها ، كلها يرجع إليه تعالى حقيقة وكشفا ، كما قال تعالى : ( قل كل من عند الله ) .
فإذا كان الأمر كذلك ، فاعبده بما أمرك به وما استطعت عليه ، وتوكل على الله حال كونه محجوبا مستورا عن نظرك . أو حال كونك في الحجاب والستر عن الله . والمعنى واحد .

( فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنه على صورة الرحمن . ) أي ،
فإذا كان هويته تعالى هوية العالم ، ويرجع جميع ما في العالم من الأمور إليه تعالى ، فليس في الإمكان أبدع وأحسن من نظام هذا العالم ، لأنه مخلوق على صورة الرحمن .

وإنما جعل العالم مخلوقا على صورة الرحمن ، لأنه تفصيل ما تجمعه الحقيقة الإنسانية المخلوقة على صورة الرحمن ( أوجده الله ، أي ، ظهر وجوده تعالى بظهور العالم ، كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية . ) أي ، أوجد الحق العالم .

ثم ، لما كان وجود العالم مستدعيا لوجود الحق - لأنه محدث ولا بد له من محدث أحدثه وهو الحق سبحانه - فسر ( أوجده الله ) تعالى بقوله : ( أي ظهر ) .
وذلك لأن الحق غيب العالم وباطنه ، فظهر بالعالم ، كما أن الحقيقة الإنسانية غيب هذه الصورة الطبيعية ، فظهرت بها .
( فنحن ) أي ، أعيان العالم مع جميع الصور الروحانية والجسمانية
( صورته الظاهرة ، وهويته تعالى روح هذه الصورة المدبرة لها ، فما كان التدبير إلا
فيه . ) أي ، في الحق . ( كما لم يكن ) أي ، التدبير .
( إلا منه . فهو " الأول " بالمعنى ، و " الآخر " بالصورة . وهو " الظاهر " بتغير الأحكام والأحوال ، و " الباطن " بالتدبير . ) .

أي ، الحق هو " الظاهر " بهذه الصورة المتغيرة وأحكامها وأحوالها ، و " الباطن " بحسب التدبير والتصرف ، كما قال تعالى : " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض" .

( "وهو بكل شئ عليم " . وهو على كلي شئ شهيد . ) أي ، حاضر مشاهد ، ( ليعلم عن شهود ، لا عن فكر . ) و ( العليم ) محيط بمعلومه ، مشاهد له شهودا أعيانيا ، فعلمه شهودي لا مستفاد عن القوة الفكرية .
هذا إذا قرئ ( ليعلم ) مبنيا للفاعل . أما إذا قرئ مبنيا للمفعول ، فمعناه : "فهو على كل شئ شهيد " أي ، حاضر ليعلم ، أي ليعلمه كل شئ عن شهود ، لا عن فكر ، إذا الفكر لا يكون إلا
للغائب . والأخير أنسب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك علم الأذواق لا عن فكر وهو العلم الصحيح . وما عداه فحدس وتخمين ، ليس بعلم أصلا . ) ظاهر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، كان لأيوب ، عليه السلام ، ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الذي هو من النصب والعذاب الذي مسه به الشيطان ، أي ، البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه . )
( النصب ) بفتحتين وضمتين وضمة وسكون ، وهي لغات فيه . والمعنى من الضر في البدن .
والعذاب الذي مسه به الشيطان ، هو عذاب الحجاب من الجناب الإلهي والبعد والحرمان من النعيم الأبدي .
لذلك فسر ( الشيطان ) بالبعد عن الحقائق وإدراكها ، لأنه ( فيعال ) من ( شطن ) ، و (الشطن) هو البعد عن الحقائق وإدراكها  .

وإن كان معذبا بالعذاب الجسماني ، لكن لما كان العذاب الروحاني أشد ايلاما ، قلنا هو عذاب الحجاب مسمى ب‍ ( نصب ) وعذاب .
فلما شرب ماء الحياة وحيى به ظاهره وباطنه وتنور قلبه بإدراك الحقائق ، زال منه ألم الفراق ونار الشوق والاشتياق .
( فيكون بإدراكها في محل القرب ) لأن المدرك قريب من مدركه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكل مشهود قريب من العين ، ولو كان بعيدا بالمسافة ، فان البصر متصل به من حيث شهوده ، ولولا ذلك ) الاتصال .
( لم يشهده . ) إشارة إلى مذهب من يقول بخروج الشعاع من البصر في زمان الإبصار .
( أو يتصل المشهود بالبصر . ) إشارة إلى مذهب من يقول بالانطباع .
( كيف كان ، فهو قرب بين البصر والمبصر . ) أي ، سواء كان الأول حقا أو الثاني ، كيف ما كان ، فلا بد من القرب بين البصر والمبصر .

( ولهذا كنى أيوب في المس ، فأضافه إلى الشيطان مع قرب المس . ) أي ، ولأجل هذا القرب أتى أيوب ، عليه السلام ، بكناية المتكلم وضميره في فعل ( المس ) .
أي ، جعل المس قريبا من نفسه ، مع أنه نسبه إلى الشيطان بقوله : ( إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) . وهو البعد .
( فقال ) أيوب ، عليه السلام بلسان الإشارة في هذا القول : ( البعيد منى قريب لحكمه في . ) أي ، البعيد قريب منى لمعنى ركزه الله في عيني ، وهو الحجاب الذي حصل من التعين ، فإن الشيطان لا يدخل على أحد ولا يتصرف فيه إلا لمعنى له فيه .

فهذا الكلام شكاية إلى الله من نفسه وتعينه الموجب للثنوية والبعد من الرحمن والقرب من الشيطان .
ويمكن أن يحمل على معنى آخر . وهو أن البعيد ، الذي هو الشيطان ، قريب منى لحكمة في . أي ، لمعنى حاصل في باطني ، وهو أن الشيطان أيضا مظهر من المظاهر الحقانية ، والمظهر قريب من الظاهر فيه .
فالبعيد الذي هو الشيطان في نظري قريب من الحق الذي هو ظاهر في صورتي .
ولما قال البعيد منى قريب - كأن القائل يقول : كيف يكون البعيد قريبا منه ؟

فقال : ( وقد علمت أن القرب والبعد أمران إضافيان ، فهما نسبتان ، لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامهما في القريب والبعيد ) .

ألا ترى أن الحق تعالى إذا تجلى لعين من الأعيان ، يقرب منه كل بعيد ، فيشاهده شهودا عيانيا ، كما يقرب البعيد بالمسافة من عين الناظر إليه .
وإذا خفى عن عين ، يبعد منه كل قريب لغلبة الظلمة واستيلائها عليها ، مع أن هويته تعالى في هوية كل عين . فالقرب والبعد أمران إضافيان بالنسبة إلى الأعيان واستعداداتها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم ، أن سر الله في أيوب الذي جعله الله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاكيا ، تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه ، فتلحق بصاحبه تشريفا لها . )
أي ، السر في  قصة أيوب ، عليه السلام ، الذي جعل الله عينه مع أحوالها ، عبرة لنا وكتابا
مسطورا مقروا بلسان الحال ، ما كتب فيها يقرؤه عرفاء هذه الأمة المحمدية ، لتعلم ما فيه من الأسرار .
وهو إظهار الماء المطهر للظاهر والباطن من أرض نفوسهم ، وطلب الفناء في الله وتحمل المشاق والصبر على المجاهدات ، فتلحق بمقامه ، فيكون هذا الإخبار تشريفا لها
.
(فأثنى الله عليه ، أعني على أيوب عليه السلام ، بالصبر مع دعائه في رفع الضر عنه . فعلمنا أن العبد إذا دعا الله في كشف الضر عنه ، لا يقدح في صبره . ) بل عدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند أهل الطريقة ، لأنه كالمقاومة مع الله ودعوىالتحمل بمشاقه .

كما قال الشيخ المحقق ، ابن الفارض ، رضي الله عنه :
(ويحسن إظهار التجلد للعدى  ....   ويقبح غير العجز عند أحبة )
( وأنه صابر وأنه نعم العبد ، كما قال تعالى : ) أي ، كما قال الله في حقه ، ( نعم العبد ) و ( ( إنه أواب ) . أي ، رجاع إلى الله ، لا إلى الأسباب ، والحق يفعل عند ذلك بالسبب ) أي ، الحق يعطى ما يطلبه على يد عبد من عبيده فيجعله سببا .

( لا أن العبد يسند إليه ) أي ، إلى السبب . وفي بعض النسخ : ( لأن العبد يسند إليه ) .
أي ، لأن وجود العبد مستند إلى الله تعالى ، فينبغي أن يرجع إلى مستنده .
( إذ الأسباب المزيلة لأمر ما ) أي ، من المضار .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كثيرة ، والمسبب واحد العين ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاص ربما لا يوافق ذلك علم الله فيه ، فيقول : إن الله لم يستجب لي . وهو ما دعاه ) .
( ما ) نافيه . أي ، والحال أن العبد الداعي لم يدع الحق ، بل دعا ما يطلق عليه اسم الغيرية ومال إليه ، وهو السبب القريب في الصورة .

وهذا معنى قوله : ( وإنما جنح إلى سبب خاص لم يقتضه الزمان ولا الوقت . فعمل أيوب بحكمة الله ، إذ كان نبيا ، لما علم أن الصبر هو حبس النفس عن الشكوى عند الطائفة . )
أي ، عند علماء الظاهر وأهل السلوك الذين لم يصلوا إلى مقام التحقيق بعد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليس ذلك بحد للصبر عندنا . وإنما حده حبس النفس عن الشكوى لغيره الله ، لا إلى الله . )
لأن الشكاية إلى الغير يستلزم الإعراض عن الله وعدم الرضا أيضا بأحكامه ، وذلك يستلزم ادعاء العبد بالعلم بالأولوية ، وكلها مذمومة .
والشكاية إلى الله تستلزم إظهار العجز والمسكنة والافتقار إلى الله ، وإظهار أن الحق قادر على إزالة موجبات الشكوى ، وكلها محمودة .
( فحجب الطائفة نظرهم في أن الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء .
وليس كذلك . فإن الرضا بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى الله ، ولا إلى غيره ، وإنما يقدح في الرضا بالمقضى .
ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضى ، والضر هو المقضى ، ما هو عين القضاء )
أي ، وإنما منع هذه الطائفة عن الشكاية نظرهم في أن من يكون شاكيا لا يكون راضيا بالقضاء ، سواء كانت الشكاية إلى الله ، أو إلى غيره .


ووليس كذلك . لأن القضاء حكم الله في الأشياء على حد علمه تعالى بها ، وما يقع في الوجود المقضى به ، الذي يطلبه عين العبد باستعداده من الحضرة الإلهية ، ولا شك أن الحكم غير المحكوم به والمحكوم عليه ، لكونه نسبة قائمة بهما .

فلا يلزم من الرضا بالحكم الذي هو من طرف الحق الرضا بالمحكوم به ، ومن عدم الرضا
بالمحكوم به لا يلزم عدم الرضا بالحكم .
وإنما لزم الرضا بالقضاء ، لأن العبد لا بد أن يرضى بحكم سيده .

وأما المقضى به فهو مقتضى عين العبد ، سواء رضى بذلك ، أو لم يرض .


كما قال : ( من وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
ولو قال قائل : المقضى به لازم للقضاء ، وعدم الرضا باللازم الذي هو المقضى به يوجب عدم الرضا بملزومه الذي هو القضاء .
نقول : إن القضاء هو الحكم بوجود مقتضيات الأعيان وأحوالها ، فوجودها لازم للحكم لأنفسها.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وعلم أيوب أن في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضر مقاومة القهر الإلهي . وهو جهل بالشخص إذا ابتلاه الله بما تتألم منه نفسه ، فلا يدعو الله في إزالة ذلك الأمر المولم ، بل ينبغي له عند المحقق أن يتضرع ويسأل الله في إزالة ذلك عنه ، فإن ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف . )
لأنه هويته هوية الحق ، فالإزالة عن نفسه إزالة عن الحق تعالى ما يؤذيه .
( فإن الله تعالى قد وصف نفسه بأنه يؤذى به ) على المبنى للمفعول .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال : "إن الذين يؤذون الله ورسوله " . وأي أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه ؟ أو عن مقام إلهي لا تعلمه ؟ ) أي ، الابتلاء إنما يحصل للعبد بسبب الغفلة عن الله ، أو عن حضرة من حضراته الكلية ، وذلك من غيرته على عبده ، فابتلاؤه إياك من محبته فيك ، لأن المحبوب يحب من يحبه ويغار عليه إذا اشتغل بغيره .
فإذا رأى أنك اشتغلت عنه بغيره ابتلاك ببلاء .

( لترجع إليه بالشكوى ، فيرفعه عنك ، فيصح الافتقار الذي هو حقيقتك . ) إنما جعل الافتقار الذي هو صفة العبد عين حقيقته ، لكونه لازما ذاتيا له وبه يتميز العبد عن ربه .
( فيرتفع عن الحق الأذى بسؤالك إياه في رفعه عنك . ) وذلك لأن حقيقتك هوية الحق الظاهر في صورتك ، فإذا سألت رفع الأذى عنك ، سألت رفع الأذى عنه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ أنت صورته الظاهرة . كما جاع بعض العارفين ، فبكى .
فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفن معاتبا له .
فقال له العارف : إنما جوعني لأبكي . فيقول :" أي صاحب البلاء .
" إنما ابتلاني بالضر لأسأله في رفعه عنى ، وذلك لا يقدح في كوني صابرا . فعلمنا أن الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله . ) ظاهر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأعنى بالغير وجها خاصا من وجوه الله . وقد عين الحق وجها خاصا من وجوه الله ، وهو المسمى وجه الهوية ، فيدعوه من ذلك الوجه في رفع الضر عنه ، لا من الوجوه الأخر المسماة أسبابا . وليست إلا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه . )
هذا جواب عن سؤال مقدر .
وهو قول القائل : جميع الموجودات مظاهر الحق وليس للغير وجود ، فكيف يتصور الشكوى لغير الله ؟
فأجاب بأن المراد بالغير هو الهوية المتعينة بتعينات مقيدة ، جزئية كانت أو كلية ، وهي الوجوه الخاصة .
والحق سبحانه قد عين وجها خاصا ، وهي المرتبة الإلهية الأحدية الجامعة ،  لتكون قبلة الحاجات ، فيطلب المطالب من ذلك الوجه الجامع لجميع الوجوه والتعينات بأحدية جمعه .
 (وهو المسمى وجه الهوية) أي وجه الهوية المطلقة التي يجمع الوجوه كلها، وهو الاسم (الله) . فيدعوه الداعي من ذلك الوجه ، لا من الوجوه الأخر التي هي منعوتة بالسوى والغيرية والأسباب .
وإن كانت هذه الوجوه أيضا ليست إلا تفصيل ذلك الوجه الجامع ، فهي هو في الحقيقة لكن من حيث التفصيل ، لا من حيث الجمع ، كما قيل :
كل الجمال غدا لوجهك مجملا  .....     لكنه  في  العالمين  مفصلا

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالعارف لا يحجبه سؤاله هوية الحق في رفع الضر عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة .
وهذا لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد الله ، الأمناء على أسرار الله .
فإن لله أمناء لا يعرفهم إلا الله ويعرف بعضهم بعضا. وقد نصحناك فاعمل وإياه سبحانه فاسأل.)
أي ، العارف إذا سأل عن الوجه الجامع الإلهي في رفع الضر عنه ، لا تحتجب به عن الوجوه الأخر التي هي الأسباب في كونها عينه من حيثية أخرى خاصة ، كما احتجب به غيره وحكم بالمغايرة بين ذلك الوجه وبين الوجوه الآخر مطلقا ، بل يحكم بأن الوجوه كلها مجتمعة في حقيقة
واحدة هي يجمعها .

والوجه الذي صار قبلة الحاجات في الشرع ، مجمل تلك الوجوه ومجمعها ، وهي تفصيله ، فبالجمع والتفصيل وقعت المغايرة بينهما لا بالحقيقة .
وهذا المعنى لا يلزم طريقته ولا يعرف حقيقته إلا الأدباء من عباد الله ، الأمناء على أسرار الله ، لا يعرفهم حق المعرفة الا الله والعارفون .
وقد نصحناك في أن لا تسأل في البلوى والضراء إلا من الله .
فاعمل بمقتضاه ، ومن الحق سبحانه فاسئل لا من غيره وسواه .
والله الموفق للخير وهو يهدى السبيل .
واتساب

No comments:

Post a Comment