Sunday, January 26, 2020

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص التاسع عشر حكمة غيبية في كلمة أيوبية
(1) فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
(1) يبحث هذا الفص بوجه عام في عالم الغيب الذي يشير إليه أصحاب وحدة الوجود بهوية الحق و يشير إليه ابن العربي خاصة باسم النفس الرحماني و باسم الماء الوارد ذكره في القرآن في قصة أيوب.
 و ليس المراد بأيوب هنا النبي المعروف المشهور بالصبر و احتمال الأذى و البلاء الذي ابتلاه الله به، بل يصوره ابن العربي بصورة السالك إلى الله الباحث عن العلم اليقيني بعالم الغيب.
أما الألم الذي يحسه ذلك السالك فليس بالألم الجسماني الذي يصاحب أحيانا أدواء البدن، و لكنه عذاب روحي يشعر به رجل محجوب عن حقائق العلم اليقيني، فهو يدعو الله أن يكشف عنه ضره فيكشف الله عنه ضره بأن يريه مغتسل الماء الذي تحت قدميه و يأمره بأن يغتسل فيه.
فلما اغتسل أيوب بالماء ذهب عنه ضره لأنه رفع عنه الحجاب و ظهر له الطريق إلى الله.
فالماء رمز لعالم الغيب كما قلنا أو هو رمز لمبدإ الحياة الساري في جميع أجزاء الوجود، أو هو الله. فباغتساله في الماء أي بانغماسه في بحر الوجود عرف سر الوجود، أو بعبارة أخرى بشربه من الماء أروى تعطشه إلى العلم بحقيقة الوجود و هي الله.
أما ما عدا هذه المسألة من المسائل التي يعالجها الفص فمرتبط بها ارتباط النتيجة بالمقدمات لا سيما مسألة الأسباب النوعية و السبب الواحد العام الذي هو الله.

(2) «فأشار إلى نسبة التحت إليه كما أن نسبة الفوق إليه».
(2) يرى المؤلف أن نسبتي «الفوق» و «التحت» نسبتان لله بمعنى خاص سنشرحه فيما بعد.
أما القرآن فقد وردت فيه نسبة «الفوق» إلى الله في مثل الآيات الآتية: «يخافون ربهم من فوقهم» و «و هو القاهر فوق عباده» و غيرهما.
و لكن المراد بالفوقية هنا مجموع صفات الألوهية فإن كل آية وردت فيها هذه الفوقية تشير إلى ناحية خاصة من نواحي صلة الألوهية بالكون.
و لكن ابن العربي يشير إلى نسبة أخرى بين الحق و الخلق أو بين الله و العالم و هي نسبة «التحتية» ثم يشرع في تلمس مصدر من القرآن أو الحديث يعزز به فكرته فلا يجد إلا الحديث القائل «لو دليتم بحبل لهبط على الله»، و هو في نظره دليل كاف على نسبة التحتية إلى الله على معنى أن الله أصل كل الموجودات و أساسها.
على أنه تلمس لفكرته أسانيد من القرآن أيضا فعثر على بعض النصوص التي أولها تأويلا بعيدا خرج بها عن معناها الأصلي مثل قوله تعالى: «و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم».
و الفكرة التي يريد أن يشير إليها بسيطة و واضحة بقطع النظر عما يؤيدها به من حديث أو نص قرآني، ذلك أن نسبة التحتية عنده نسبة الذات الإلهية الواحدة إلى صور الموجودات الكثيرة المتجلية فيها. هي بعبارة أخرى مذهبه في وحدة الوجود.

و قد يبدو أن بين نسبتي الفوقية و التحتية تناقضا ظاهرا لأن الأولى تشير إلى فكرة عن الله (بالمعنى الديني) في حين أن الثانية تشير إلى فكرة الواحد في الكل (فكرة وحدة الوجود).
و لكن لا وجود لهذا التناقض في الحقيقة، لأن ابن العربي لا يعتبر الفوقية و التحتية إلا وجهين لنظرنا نحن إلى حقيقة الوجود الواحدة: فإن الله في نظره ليس الإله الذي يصوره الدين و إنما هو الحقيقة الوجودية التي إن نظرنا إليها من وجه قلنا إنها «فوق» كل شيء بمعنى أنها تتعالى عن كل شيء، و هذه هي صفة التنزيه التي شرحناها من قبل،
و إذا نظرنا إليها من وجه آخر قلنا إنها «تحت» كل شيء أو إنها أصل كل شيء- و هذه هي صفة التشبيه التي ذكرناها أيضا.

(3) «و إنما قلنا هذا من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه».
(3) الإشارة هنا إلى مسألة النعيم الدائم و العذاب الدائم في الدار الآخرة،
و قد شرحنا هذه المسألة في الفص السابع (التعليقين 15، 16) (راجع أيضا الفتوحات ج 3 ص 98 السطر الرابع من أسفل).

(4) «فزال الغضب لزوال الآلام ... إلى قوله حجابا و سترا».
(4) أي فزال غضب الله عن أهل النار بزوال الآلام عنهم، و ذلك لأن صفة الغضب لا تكون لله إلا عند ما يعذب أهل النار بآلامها، فإن زالت هذه الآلام عنهم ارتفع وصف الغضب عن الله، و ابن العربي يعتقد أن عذاب أهل النار إلى حين، و أن مآلهم في النهاية إلى النعيم المقيم، كما يعتقد أن وصف الغضب وصف يزول عن الله بزوال سببه و أن وصفه بالرضا إنما هو الوصف الدائم الذي لا يزول عنه أبدا.
غير أننا يجب أن نتذكر أن اللغة الرمزية التي يصوغ بها المؤلف نظريته في وحدة الوجود لا تسمح بوجود جنة حقيقية ولا نار حقيقية في دار غير هذه الدنيا.
فإن النار عنده ليس لها معنى إلا «ألم الحجاب» أو الحال التي لا يدرك فيها الإنسان الوحدة الوجودية للموجودات، كما أن الجنة عنده ليست سوى الحال التي يدرك فيها الإنسان هذه الوحدة.
والحجاب عن الحقيقة يستلزم الألم كما أن إدراكها على الوجه الصحيح يستلزم السعادة.
وحيث إن الحق في زعم ابن العربي هو هوية كل موجود فإنه يلزم من ذلك أنه هو الذي يشعر بهذه السعادة أو ذلك الألم في صورة كل من يشعر بهما.
فأهل التنزيه عنده محجوبون عن الحقيقة لأنهم ينزهون الحق عن الاتصاف باللذة أو الألم أو ما شابههما من صفات الحوادث، أما أصحاب الكشف والذوق فلا يتحرجون عن وصف الحق بهذه الأوصاف بل ينسبون كل ما يجري في الكون إليه على أنه حادث فيه.
يقول ابن العربي إن قوله تعالى: «وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه» يمكن تفسيره على وجهين: الوجه الصوفي وهو الذي يرد كل شيء إلى الله لأن كل شيء منه وإليه، والوجه الآخر هو رأي المتكلمين الذين يعتبرون الله مخالفا لجميع الحوادث وينظرون إليه من حيث هو إله معبود، فإن العبادة تتضمن اثنينية العابد والمعبود ولا يقول بهذه الاثنينية إلا المحجوبون عن حقيقة الوحدة الوجودية.

(5) «ثم كان لأيوب عليه السلام ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الذي هو من النصب والعذاب الذي مسه به الشيطان».
(5) كلمة شيطان مشتقة من شطن التي من معانيها بعد، فالشيطان الذي مس أيوب و ورد ذكره في القرآن في قوله: «أني مسني الشيطان بنصب و عذاب» إنما هو البعد عن الحقيقة و الجهل بها.
ومن معاني كلمة شيطان في اللغة العربية عطش الصحراء لأن العرب يسمون العطش شيطان القلا.
ولهذا قرن المؤلف الشيطان بالماء الذي شربه أيوب ليزيل عنه ألم ذلك العطش، فهو لا يريد بالشيطان مطلقا المعنى المتعارف. فالعطش الذي أحس أيوب بألمه- كما شرحنا ذلك في التعليق الأول من تعليقات هذا الفص- إنما كان شوقه إلى معرفة الحقيقة التي كان يجهلها، و الشيطان الذي مسه بالنصب و العذاب لم يكن سوى حالة الحرمان الروحي التي كان عليها. (راجع الفيروزآبادي في مادة شطن).

(6) «فكل مشهود قريب من العين ولو كان بعيدا بالمسافة، فإن البصر يتصل به من حيث شهوده ولو لا ذلك لم يشهده، أو يتصل المشهود بالبصر».
(6) تشير هذه العبارة إلى نظريتين من أقدم النظريات في الإبصار:
الأولى نظرية أفلاطون في طيماوس وهي أن البصر كغيره من الحواس يدرك المبصرات إدراكا لمسيا بواسطة شعاع يخرج من العين ويقع على الأشياء المبصرة، والثانية هي نظرية أرسطاطاليس وهي أن المبصرات تنطبع صورها على شبكية العين عند ما ينيرها مصدر من مصادر الضوء، وعلى كلتا النظريتين يحصل اتصال مباشر بين البصر والمبصرات مهما بعدت المسافة بينهما.

(7) «ولهذا كني أيوب في المس فأضافه إلى الشيطان مع قرب المس».
(7) لو فهمنا الشيطان على أنه حالة البعد، والمس على أنه حالة القرب، كان معنى قول أيوب: «أني مسني الشيطان» أن حالة البعد عن إدراك الحقيقة قد قربت مني قرب اللامس من الملموس.
فهو يستعمل كلمة مس على سبيل الكناية بدلا من كلمة قرب، وينسب المس إلى الشيطان الذي هو البعد، بالرغم من أن المس يقتضي القرب أو أنه هو القرب نفسه.

فكأنه قال: «إنني قريب من حالة البعد عن إدراك الحقيقة».
ويتضح المعنى بعض الشيء عند ما نقرأ قول المؤلف بعد ذلك «البعيد مني قريب لحكمه في».
فالبعيد منه هو إدراكه للحقيقة الوجودية، و هو يلمس في نفسه أثر ذلك البعد (و هو الذي يسميه بالحكم)، أو أن حالة الحجاب عن الحقيقة شديدة القرب مني لأني أحس بها.

(8) «و اعلم أن سر الله في أيوب الذي جعله عبرة لنا و كتابا مسطورا حاليا ... »
(8) يمكننا أن نقرأ الكلمة حاليا بتشديد الياء على أنها نسبة إلى الحال أو بالياء المخففة حاليا على أنها من الحلية
و يقرؤها جامي في شرحه على الفصوص (ج 2 ص 243) حاكيا أي مخبرا،
فمعنى الجملة على الوجه الأول أن الله جعل من قصة أيوب لنا كتابا مسطورا ندرك معناه بالحال أي بالذوق الصوفي،
و على الوجه الثاني أن الله صاغ لنا قصة أيوب في كتاب مسطور مزدان بالحكمة و الموعظة،
و على الوجه الثالث أن الله أخبرنا بقصة أيوب في كتاب مسطور يحكي لنا أمره.
وجامي هو المفسر الوحيد الذي انفرد بهذه القراءة الأخيرة ولم أجد في نص من النصوص القديمة ما يؤيدها.

(9) «و إنما جنح إلى سبب خاص لم يقتضه الزمان و لا الوقت».
(9) يشير إلى عدم استجابة الله لدعاء بعض الناس لأنهم لا يتوجهون في دعائهم إلى الله ذاته وإنما يتوجهون إلى الأسباب الخاصة:
أي لا يتوجهون إلى المسبب بل يتوجهون إلى الأسباب التي لا فعل لها ولا أثر لها من ذاتها، وإنما تفعل وتؤثر لأن الله يفعل عند حضورها.
والأسباب الخاصة التي يفعل الله عند حضورها كثيرة. فإذا اتجه الإنسان بالدعاء إلى الله أن يكشف عنه ضرا بواسطة سبب خاص ولم يتعلق العلم الإلهي بهذا السبب ولم يقتضه زمان معين أو وقت خاص قدر الله فيه رفع الضر عن هذا الداعي، لم يحصل له استجابة من الله، فيظن الداعي أنه دعا الله ولم يستجب له، والواقع أنه لم يدع الله وإنما دعا ذلك السبب.

بقي أن نشرح الوقت و الزمان.
أما الزمان فهو في عرف الفلاسفة مقياس حركة الفلك الأطلس.
و في عرف المتكلمين مجموعة من الآنات نستطيع بوساطتها أن نعين وقوع حدث غير معلوم بحدث معلوم.
أما الوقت فهو «الحال» في عرف الصوفية و هو «الآن» الذي يكون فيه أي شيء على ما هو عليه.
فالسبب الخاص الذي لم يحن زمانه و لا وقته في رفع الضر عمن يتوجه إلى الله برفعه بوساطته ليس من الأسباب التي يستجيب الله عندها لدعاء الداعي.

و يفرق ابن العربي بين السبب الكلي و الأسباب الكونية الخاصة على نحو ما فرق بين الحق و الخلق و الواحد و الكثير و الله و العالم.
و هو يرى أن الأسباب الخاصة إنما هي أمور اختلقها العقل في محاولته فهم حقيقة الوجود: لأن العقل البشري غير المؤيد بالوحي أو الإلهام الصوفي قد عجز عن إدراك الوجود في وحدته.
أما السبب الكلي فهو أصل كل ما نسميه بالأسباب أي أنه هو الفاعل على الحقيقة و المؤثر في كل ما نعزوه إلى الأسباب الخاصة.
هو الجزء الإلهي في كل موجود، الصادر عنه كل تغير و كل حركة.
و إذا كان لا بد لنا من القول بوجود كثرة في الأسباب لوجود كثرة في المسببات، فإننا لا بد أن نعترف بأن هذه الأسباب ليست إلا وسائل أو وسائط على يديها يعمل المسبب الواحد الذي هو الحق.
و هذه نظرية تذكرنا من بعض الوجوه بالنظرية الحديثة المعروفة باسم «نظرية المناسبات"Occasionalism"
إلا أن الفرق بينهما هو أن ابن العربي في نظريته لا يعترف بوجود كثرة حقيقية في الأسباب ولا في الموجودات إطلاقا، ويعتبر ما نسميه كثرة ضربا من ضروب الأوهام، وهذا رأي قد لا يوافقه عليه كثير من أنصار النظرية الحديثة.
وإذا كانت الأسباب كلها ترجع إلى سبب واحد هو الفاعل على الحقيقة، ففيم التوجه إلى أي سبب خاص لإحداث أثر من الآثار؟
إن علمنا بالأسباب الخاصة علم ناقص وكذلك علمنا بالأوقات التي تقع فيها آثار هذه الأسباب.
لهذا يجب أن نغفل الأسباب الخاصة في دعائنا ونتوجه إلى مسبب الأسباب.

.
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment