Sunday, January 26, 2020

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
هذا فص الحكمة الأيوبية ، ذكره بعد حكمة يونس عليه السلام ، لأن معراج أيوب عليه السلام كان باغتساله بماء تلك العين التي نبعت له لما ركض برجله عن أمر اللّه تعالى ، ومعراج يونس عليه السلام كان بسيره في الماء في بطن الحوت في تلك الظلمات الثلاث ، فناسب ذكره بعده ، فقد مس سر الحياة بواسطة الحوت ومسه أيوب عليه السلام بلا واسطة .
(فص حكمة غيبية) ، أي منسوبة إلى الغيب وهو مقابل للشهادة (في كلمة أيوبية ) إنما اختصت حكمة أيوب عليه السلام بكونها غيبية ، لأن التكلم فيها على سر الحياة الإلهية القائم بها على كل شيء والسر غيب لا شهادة ، وهو ما غاب عن الحس والعقل بحيث لا يحصره أحد إلا غاب عن حسه وعقله .
 قال الشيخ رضي الله عنه :  (إعلم أنّ سرّ الحياة سرى في الماء فهو أصل العناصر والأركان ، ولذلك جعل اللّه مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ[ الأنبياء : 30 ] وما ثمّ شيء إلّا وهو حيّ ، فإنّه ما من شيء إلّا وهو يسبّح بحمد اللّه ولكن لا تفقه تسبيحه إلّا بكشف إلهيّ . ولا يسبّح إلّا حيّ .

فكلّ شيء حيّ فكلّ شيء الماء أصله . ألا ترى العرش كيف كان على الماء لأنّه منه تكوّن فطفا عليه فهو يحفظه من تحته ، كما أنّ الإنسان خلقه اللّه عبدا فتكبّر على ربّه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنّظر إلى علوّ هذا العبد الجاهل بنفسه.

وهو قوله عليه السّلام : « لو دلّيتم بحبل لهبط على اللّه » فأشار إلى نسبة التّحت إليه كما أنّ نسبة الفوق إليه في قوله :يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ[ النحل : 50 ]
،وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه ِ[ الأنعام : 18 ] فله الفوق والتّحت .
ولهذا ما ظهرت الجهات السّتّ إلّا بالإنسان وهو على صورة الرّحمن . )

قال رضي الله عنه :  (اعلم ) يا أيها السالك (أن سر الحياة) الإلهية (سرى) من غير سريان إذ هو القيوم (في الماء) على كل ما خلق منه (فهو) ، أي الماء باعتبار ذلك (أصل العناصر) ، أي الأصول (والأركان الأربعة) التي هي الماء والتراب والهواء والنار (ولذلك) :
أي لكون الماء أصلا (جعل اللّه) تعالى "من الماء كلّ شئ حىّ" كما قال تعالى :وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ[ الأنبياء : 30 ] (وما ثم ) بالفتح ، أي هناك (شيء) محسوس أو معقول أو موهوم (إلا وهو حي) بحياة تناسبه مستفادة من حياة اللّه تعالى لقيوميتها عليه ،

قال رضي الله عنه :  (فإنه) ، أي الشأن ما من شيء مطلقا إلا وهو يسبح بحمد اللّه تعالى ، أي ينزهه تعالى عما لا يليق به مما يدرى ذلك الشيء بنطق عربي لا بلسان حال .
قال اللّه تعالى الذي أنطق كل شيء ولكن لا يفقه بالبناء للمفعول تسبيحه ، أي تسبيح ذلك الشيء إلا بكشف إلهي لمن يشاء اللّه تعالى من عباده .
قال تعالى :تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً( 44 ) [ الأسراء : 44 ] .
ولا يسبح بحمد اللّه تعالى إلا حي إذ الميت لا ينسب إليه علم ولا حركة ، فلا ينسب إليه تسبيح على أنه لا ميت أصلا بالمعنى الذي عند الغافلين الجاهلين ، والموت صفة من صفات الشيء لا ينافي الحياة فيه كالعقود والكلام فكل شيء حي بحياة تناسبه كما ذكرنا فكل شيء الماء أصله ، أي منشؤه منه ألا ترى يا أيها السالك العرش العظيم كيف كان على الماء كما قال تعالى :وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ[ هود : 7 ] ،
لأنه ، أي العرش منه ، أي من الماء تكوّن ، أي أنشىء وخلق فطفا ، أي علا ذلك العرش عليه ، أي على الماء فهو ، أي الماء الذي هو أصله يحفظه ، أي يحفظ العرش من تحته ، أي من تحت العرش بقوّة سريان الحياة الإلهية فيه كما أن الإنسان خلقه اللّه تعالى عبدا ذليلا من حقه أن يكون قائما بمولاه تعالى في جميع أحواله متحركا ساكنا بأمره كالملائكة الذين هم بأمره يعملون فتكبر ذلك العبد على ربه الذي هو خالقه ومنشيه وعلا ،
أي ارتفع عليه سبحانه بالغفلة عنه والغرور فيه ودعوى الاستقلال بنفسه في جميع شؤونه الظاهرة والباطنة دون الحق تعالى فهو ، أي اللّه سبحانه مع هذا ، أي كونه خالقا له يحفظه ، أي يحفظ ذلك العبد من تحته بالنظر إلى علو ، أي ارتفاع هذا العبد الجاهل باللّه تعالى بنفسه فيدعي ما ليس له من الحول والقوّة ، وليست هذه التحتية للّه تعالى بالنظر إليه تعالى لأنه تعالى موجود ولا شيء معه ،
وكذلك الفوقية له سبحانه كما قال تعالى :يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ[ النحل : 50 ] ، فهي أيضا بالنظر إلى انخفاض العبد العارف باللّه تعالى بنفسه ، فلا يدعي مع اللّه تعالى حولا ولا قوّة ، فهو تعالى فوق العارفين به وتحت الجاهلين الغافلين .

قال رضي الله عنه :  (وهو) ، أي ذكر نسبة التحتية إليه سبحانه قوله أي النبي عليه السلام : لو دلّيتم يا أيها الجاهلون باللّه تعالى باعتبار دعواكم الترفع على اللّه تعالى بالاستقلال بالأعمال كما ذكرنا بحبل وهو القرآن العظيم من قوله تعالى :"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا"[ آل عمران  :103]،
أي نظرتم فيه واعتبرتم ما تضمنه من الآيات ، على أن كل ما ادعيتموه من ترفعكم عليه بالاستقلال في أنفسكم باطل وأنكم في تلك الحالة قائمون به تعالى أيضا متحركون ساكنون به ، وإن غفلتم عن ذلك لهبط ، أي سقط ذلك الحبل الذي دليتم به (على اللّه)  تعالى أي أوصلكم إلى اللّه سبحانه ، وكشف لكم عن ترفعكم عليه بالباطل ، فوجدتموه مجعولا عندكم تحتكم افتراء منكم عليه ، وهو تعالى غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ[ آل عمران : 97 ] .
" ورد الحديث بلفظ : « والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على اللّه ثم قرأ :« هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( 3 ) [ الحديد : 3 ] » . جز من حديث طويل رواه الترمذي في سننه"

قال رضي الله عنه :  (فأشار) صلى اللّه عليه وسلم بهذا الحديث (إلى أن نسبة التحت إليه تعالى) وهي حق (كما أن نسبة الفوقية إليه) تعالى أيضا وهي حق (في قوله) تعالى (يخافون) ، أي المؤمنون العارفون ربهم ، أي هم قائمون به في ظواهرهم وبواطنهم من فوقهم لأنهم لم يرتفعوا عليه بدعوى نفوسهم ، كالجاهلين به الذين ترفعوا عليه بدعوى نفوسهم وجعلوه تحتهم ليظهروا بالأمر دونه ، وهؤلاء ظهر هو بالأمر دونهم وقوله تعالى وهو ، أي اللّه تعالى القاهر ، أي لا غيره لنفوس العارفين به فلا يتركها تدعي حركة ولا سكونا فوق عباده المؤمنين باستيلائه عليهم في ظواهرهم وبواطنهم بخلاف عباد الدرهم والدينار الذي قال النبي صلى اللّه عليه وسلم "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة". رواه الطبراني في الأوسط ورواه الحافظ ابن القاسم ورواه البزار في مسنده والهيثمي في مجمع الزوائد

 وفي رواية : « تعس عبد الزوجة » ذكره الغزالي ، فإن اللّه تعالى ليس فوقهم على علم منهم لكونهم ليسوا من العباد المنسوبين إليه في نفوسهم ، وإنما هم عباد الهوى والشيطان ، فليست فوقية عندهم بل تحتية كما ذكرنا .

فله ، أي اللّه تعالى الفوق والتحت صفتان ثابتتان شرعا بلا كيف ولا تشبيه وليس المراد بهما الجهتان المعروفتان ، لأنه تعالى ليس بجسم حتى ينسب إلى جهة محسوسة ، وإنما ظهر بالجهتين المحسوستين ، وهما الجهتان المعروفتان اللتان يأتي
الإمداد منهما في عالم الحس ينزل الغيث من الفوق ، ويخرج النبات من التحت ، والجهات الأربعة الباقية اليمين والشمال والقدام والخلف جهات الشيطان كما حكى تعالى عنه بقوله :لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ[ الأعراف : 17 ].
 قال رضي الله عنه :  ولهذا ، أي لكون الفوق والتحت له سبحانه ما ظهرت الجهات الست فوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف إلا بالنسبة إلى الإنسان لا غيره لإدراكه وانتصاب قامته في تبيين تلك الاعتبارات وتمييزها ، إذ هي مجرد اعتبار لا حقيقة له ؛ ولهذا تختلف باختلاف الانحراف والتحوّل ، فقد يصير الفوق تحتا بالصعود على السطح ونحوه ، والتحت فوقا بالهبوط إلى غار ونحوه ، واليمين شمالا والشمال يمينا والقدام خلفا والخلف قداما بالتحوّل .
وهو ، أي الإنسان مخلوق على صورة الرحمن المستوي على العرش بما لا يعلمه الجاهل إذ هو حال العارف الكامل ، وعلى صورة الشيطان أيضا المستولي عليه بما لا يدركه إلا المخلص الذي هو ممن قال فيهم كما حكاه تعالى :وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ( 40 ) [ الحجر : 39 - 40 ] ، إذ هو حال الغافل الجاهل الناقص ، فاتصف لذلك بالجهات الست المذكورة وظهرت به وتميزت عنده الجهتان اللتان للرحمن والأربع جهات التي للشيطان ، فمن تميزت عنده جهاته الست كان مظهر الرحمن والشيطان ، صاحب جمال وجلال وهو القرآن العظيم الذي قال تعالى عنه :يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً[ البقرة : 26 ] .
وقال تعالى :وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا[ الشورى : 52 ] ، وقال تعالى :وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى[ فصلت : 44 ] .

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا مطعم إلّا اللّه ، وقد قال في حقّ طائفة :وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَثمّ نكّر وعمّم فقال :وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْفدخل في قوله :وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْكلّ حكم منزل على لسان رسول أو ملهم ،لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْوهو المطعم من الفوقيّة الّتي نسبت إليه ،وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ[ المائدة : 66 ] وهو المطعم من التّحتيّة الّتي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه صلى اللّه عليه وسلم . )

قال رضي الله عنه :  (ولا مطعم) في نفس الأمر إلا اللّه تعالى كما قال :وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ[ الأنعام : 14 ] وقد قال تعالى في حق طائفة من أهل الكتابين ولو أنهم أقاموا التوراة وهم اليهود والإنجيل وهم النصارى ، أي عملوا على مقتضى ذلك وتركوا هوى نفسهم والعمل بحسب أغراضهم الدنيوية ثم إنه بعد ذلك نكّر ولم يبين
القسم الثالث وهم هذه الأمة سترا عليها احتراما ما لنبيها عليه السلام وعمّم بما يشملها ويشمل القسمين قبلها فقال تعالى : ("وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ") [ المائدة  : 66]
وهو القرآن العظيم نزل إلى هذه الآية من ربهم (فدخل في قوله) تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ  كل حكم) من أحكام اللّه تعالى (منزل منه) تعالى (على لسان رسول) أولا أو لسان ولي وارث لرسول (ملهم) بصيغة اسم المفعول ، أي يلهمه اللّه تعالى ذلك الحكم المنزل

كما قال الجنيد رضي اللّه عنه : "المريد الصادق غني عن علم العلماء"
وصدق استقامته في الدين كما قال تعالى :إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 30 ) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ[ فصلت : 30 - 31 ] "وإذا أراد الله بالمريد خيرا أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء " ، " وإن لم يجد شيخا مرشدا بسبب التباس الناس عليه من كثرة الفتن، واشتداد ظلمات الأغنياء والمحن، فعليه بملازمة كتب العارفين من المتقدمين والمتأخرين، فإن في ذلك كفاية لمن وفقه اللّه تعالى "  كتاب الوجود الشيخ عبد الغني النابلسي

قال رضي الله عنه :  (لأكلوا) ، أي أولئك الذين أقاموا كتبهم ، أي جاءهم الإمداد الجسماني والروحاني (من فوقهم وهو المطعم) سبحانه (من الفوقية) الروحانية (التي تنسب إليه) باعتبار العارفين به (ومن تحت أرجلهم وهو المطعم من التحتية) النفسانية (التي نسبها) اللّه سبحانه وتعالى إلى نفسه في الحديث (على لسان رسوله المترجم عنه صلى اللّه عليه وسلم) باعتبار الجاهلين به تعالى كما ذكرنا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده ، فإنّه بالحياة ينحفظ وجود الحي . ألا ترى أنّ الحيّ إذا مات الموت العرفيّ تنحلّ أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النّظم الخاصّ ؟
قال تعالى لأيّوب :ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ[ ص : 42 ] يعني ماء بارد - وشراب لما كان عليه من إفراط حرارة الألم فسكّنه اللّه ببرد الماء .
ولهذا كان الطّبّ النّقص من الزّائد ، والزّيادة في النّاقص . والمقصود طلب الاعتدال ، ولا سبيل إليه إلّا أنّه يقاربه . )

قال رضي الله عنه :  (ولو لم يكن العرش) العظيم (على الماء) كما أخبر تعالى (ما انحفظ) عليه (وجوده) لمحة من اللمحات (فإنه) ، أي الشأن (بالحياة) السارية (ينحفظ وجود الحي) فلا يموت.
قال رضي الله عنه :  (ألا ترى) يا أيها السالك أنّ الحيوان (الحي إذا مات الموت العرفي) ، أي المعروف تنحل ، أي تتفرق (أجزاء نظامه) ، أي تركيبه المخصوص (وتنعدم قواه) العرضية الصادرة فيه (عن ذلك النّظم) ، أي التركيب (الخاص قال اللّه تعالى لأيوب) عليه السلام (أركض) ، أي اضرب الأرض (برجلك) تخرج لك

عين ماء صافية ، فركض برجله فخرجت فقيل له : (هذا مغتسل يعني ماء بارد) تغتسل به

قال رضي الله عنه :  (وشراب) تشرب منه فيشفيك (لما) ، أي قيل له ذلك لأجل (ما كان) أيوب عليه السلام (عليه من إفراط )، أي كثرة حرارة الألم ، أي الوجع الذي فيه (فسكنه) ، أي إفراط الحرارة (اللّه) تعالى (ببرد الماء) الذي أخرجه له (ولهذا) ، أي لأجل ما ذكر (كان الطب) عند علمائه في حصول صحة الأبدان معناه (نقصا) في المزاج من الخلط الزائد والكيفية الزائدة كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والزيادة في الخلط .
قال رضي الله عنه :  (الناقص) والكيفية الناقصة حتى تعتدل الأخلاط والكيفيات في البدن ، وإن كان الاعتدال الحقيقي لا يمكن حصوله إلا بالنسبة إلى المزاج الكثير الانحراف ، فهو اعتدال نسبي إذ لو كان حقيقيا لما قبل الموت والانحلال ، ولهذا لما تتركب الأجسام في يوم القيامة تركبا معتدلا اعتدالا حقيقا كما زعم بعضهم لا تفسد بعد ذلك أصلا إلى الأبد ، ولا يغلب عليها الحرارة بمجاورة النار ولا البرودة بمجاورة الزمهرير في جهنم بل يبقى الاعتدال فيها ، لأنها نشأة أخرى صحيحة غير نشأة الدنيا كما قال تعالى وأن عليه النشأة الأخرى .
قال رضي الله عنه :  (فالمقصود) من علم الطب في معالجة أجسام المرضى (طلب) حصول (الاعتدال) الحقيقي فيها حتى يستقيم نشؤها (ولا سبيل) ، أي لا طريق إليه ، أي إلى ذلك الاعتدال المطلوب فلا يمكن حصوله إلا أنه ، أي الاعتدال المطلوب يعني الطب يقاربه ، أي يقارب ذلك الاعتدال الحقيقي وهو الاعتدال النسبي كما ذكرنا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّما قلنا ولا سبيل إليه أعني الاعتدال من أجل أنّ الحقائق والشّهود تعطي التّكوين مع الأنفاس على الدّوام ، ولا يكون التّكوين إلّا عن ميل يسمّى في الطبيعة انحرافا أو تعفينا ، وفي حقّ الحقّ إرادة وهي ميل إلى المراد الخاصّ دون غيره . والاعتدال يؤذن بالسّواء في الجميع وهذا ليس بواقع فلهذا منعنا من حكم الاعتدال .
وقد ورد في العلم الإلهيّ النّبويّ اتّصاف الحقّ بالرّضا والغضب ، وبالصّفات .
والرّضا مزيل للغضب ، والغضب مزيل للرّضا عن المرضيّ عنه والاعتدال أن يتساوى الرّضا والغضب ؛ فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض . فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه وهو ميل . وما رضي الحقّ عمّن رضي عنه وهو غاضب عليه ؛ فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه وهو ميل .) .

قال رضي الله عنه :  (وإنما قلنا هنا ولا سبيل إليه أعني الاعتدال) الحقيقي في الحياة الدنيا ولا في الآخرة في مزاج من الأمزجة مطلقا (من أجل أن الحقائق) ، أي أعيان الأشياء المخلوقة كلها (وأن الشهود) ، أي المعاينة لها من بعضها لبعض بالحس أو العقل (يعطى) ذلك لمن كشف عنه (التكوين) ، أي الإيجاد الجديد مع الأنفاس فكل نفس بفتح الفاء يذهب اللّه تعالى فيه بجميع المخلوقات ويأتي بمخلوقات أخرى غيرها على صورتها وشكلها مما يشبه الأولى أو يقاربها على الدوام في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ[ ق : 15 ] ، وقدمنا ذكر هذا مفصلا (ولا يكون) هذا (التكوين) المذكور (إلا عن ميل) ، أي توجه من الذي يكون عليه (يسمى) ذلك الميل إذا ظهر (في) عالم (الطبيعة) الإنسانية وغيرها (انحرافا) ، أي خروجا عن حد الاعتدال النسبي أو يسمى (تعفينا) لاقتضائه فساد الأخلاط وتغير المزاج (وفي حق الحق) تعالى يسمى (إرادة وهي) ، أي الإرادة الإلهية ميل ، أي توجه قديم أزلي أبدي ليس بمعنى غرضي ولا يشبهه إلى المراد اللّه تعالى الخاص في علمه سبحانه دون غيره من بقية المرادات ، فكل مراد له ميل يخصه عن تلك الإرادة الإلهية هو عين تلك الإرادة باعتبار فاعليته ، وغيرها باعتبار انفعاله لما اقتضاه العلم القديم .
قال رضي الله عنه :  (والاعتدال) الحقيقي (يؤذن بالسواء في) طبيعيات (الجميع) وكيفيات أمزجتهم (وهذا) الأمر (ليس بواقع) أصلا ولا يمكن وقوعه إلا إذا شاء اللّه تعالى كما قال سبحانه :أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً[ الفرقان : 45]
، فأشار إلى حركة ظل الكائنات عن شمس أحدية وجوده القديم ، ولو شاء لجعله ساكنا بإرجاعه إلى الثبوت العلمي كما قال سبحانه :وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ[ الأنعام : 13 ] ، يعني والمتحرك لنفسه لا له لدعواه الاستقلال في الخلق الجديد ، وهو قوله تعالى :وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ [ الأعراف : 143] 
، يعني في الثبوت العلمي والعدم الأصلي فسوف تراني ؛
قال رضي الله عنه :  (فلهذا) ، أي لكون الأمر كما ذكر (منعنا من) وجود (حكم الاعتدال) الحقيقي أصلا كيف (وقد) ورد إلينا (في العلم الإلهي) النبوي ، أي المنقول عن النبي صلى اللّه عليه وسلم اتصاف الحق تعالى فيه (بالرضا) عن قوم (وبالغضب) على قوم (وبالصفات) من ذلك كالراضي والغضبان وغير ذلك من المتقابلات (والرضا مزيل للغضب) ، لأنه يقابله في كل ما تعلق به (والغضب) أيضا (مزيل للرضا عن المرضى) عنه كذلك .
قال رضي الله عنه :  (والاعتدال) في ذلك (أن يتساوى الرضا والغضب) معا في حقيقة واحدة فتقبل ظهور الأثرين معا وهو ممتنع (فما غضب الغاضب) القديم سبحانه والحادث (على من غضب عليه وهو) ،

 أي ذلك الغاضب (عنه) ، أي المغضوب عليه (راض) أصلا (فقد اتصف) تعالى (بأحد الحكمين) ، أي حكم الرضى وحكم الغضب (في حقه) ، أي حق ذلك المغضوب عليه الواحد
قال رضي الله عنه :  (وهو) ، أي الاتصاف بأحد الحكمين ميل إلى أحدهما عن الآخر ينافي الاعتدال وما رضي الحق تعالى (عمن رضي عنه) من عباده (وهو غاضب عليه أصلا فقد اتصف) تعالى (بأحد الحكمين) المذكورين أيضا (في حقه) ، أي في حق ذلك المرضي عنه (وهو) ، أي الاتصاف بأحد الحكمين أيضا ميل إلى أحدهما عن الآخر فلا اعتدال .

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّما قلنا هذا من أجل من يرى أنّ أهل النّار لا يزال غضب اللّه عليهم دائما أبدا في زعمه فما لهم حكم الرّضا من اللّه فصحّ المقصود .
فإن كان كما قلنا مآل أهل النّار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النّار ، فذلك رضا . فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت .
فمن غضب فقد تأذّى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلّا ليجد الغاضب الرّاحة بذلك ، فينتقل الألم الّذي كان عنده إلى المغضوب عليه والحقّ إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصّفة على هذا الحدّ .)

قال رضي الله عنه :  (وإنما قلنا هذا) الكلام المذكور هنا (من أجل من يرى) ، أي يعتقد من الناس (أهل النار) الذين هم أهلها وهم الكافرون (لا يزال غضب اللّه) تعالى عليهم في جهنم يوم القيامة دائما أبدا من غير تناهي (في زعمه) ، أي زعم هذا القائل المذكور (فما لهم) ، أي لأهل النار (حكم الرضا من اللّه) تعالى أصلا بل لهم حكم الغضب فقط (فصح المقصود) حينئذ لثبوت حكم إحداهما عند هذا القائل دون الآخر وهو ميل والميل هو المقصود إثباته (فإن كان) الأمر في حق أهل النار يوم القيامة كما قلنا فيما تقدم مآل ، أي مرجع حال أهل النار في جهنم (إلى إزالة الآلام) ، أي الأوجاع وأنواع العذاب عنهم وإن سكنوا النار ولم يخرجوا منها بحيث يصير لهم فيها نعيم مخصوص من جنس طبائعهم يلائم أمزجتهم النارية كالسمك في الماء يلائم مزاجه طبيعة الماء فلو خرج منه تألم بمفارقته .

قال رضي الله عنه :  (فذلك) المقدار رضا لهم من الحق تعالى حكم به عليهم فاقتضى ظهور أثره فيهم (فزال) عنهم (الغضب) الإلهي لزوال الآلام التي هي أثر ذلك الغضب فيهم (إذ) ، أي لأن (عين الألم) من حيث هو ألم (عين الغضب) الإلهي عليهم كان معلوما في نفس الحق تعالى مقدرا مقتضيا به على مقتضى الإرادة الإلهية فتوجه الحق تعالى به عليهم فأظهره في نفوسهم فهو في نفسه تعالى يسمى غضبا وفي نفوسهم يسمى ألما وأوجاعا إن (فهمت) ،

يا أيها السالك فما زالت الآلام من نفوسهم الا وقد تحوّل التوجه الإلهي بالغضب الذي في نفسه عنهم وتوجه عليهم بما يقابل ذلك ولا يقابله إلا الرضى فظهرت في نفوسهم اللذة بالعذاب فانقلب عذوبة وقد بين ذلك بقوله :

قال رضي الله عنه :  (فمن غضب) على أحد (فقد تأذى) في نفسه ، أي وصل إليه الأذى ممن غضب عليه .
وقد ورد في الكتاب والسنة وصف اللّه تعالى بالتأذي من خلقه ، قال تعالى :إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً( 57 )  [ الأحزاب : 57 ]
، وفي الحديث قال عليه السلام : « لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه عز وجل ، إنه ليشرك باللّه ويجعل له الولد ، ثم يعافيهم ويرزقهم » ، أخرجه البخاري ومسلم  بإسنادهما إلى أبي موسى.
قال رضي الله عنه :  (فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه) ، أي انتقامه منه (بإيلامه) له (إلا ليجد الغاضب) في نفسه الراحة ، أي الفراغ من حمل ألم الغضب الذي يسمى غضبا في نفسه ، ويسمى آلاما في نفس المغضوب عليه .
وقد وصف اللّه تعالى نفسه بالفراغ في قوله سبحانه :سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ( 31 ) [ الرحمن : 31 ] ، أي نضع في نفوسكم يوم القيامة ما هو في نفسنا اليوم لكم من حمل ألم الغضب على قوم مما يسمى غضبا فينا ويسمى آلاما فيكم .
وحمل لذة الرضى كذلك ( بذلك) - السعي في الانتقام وإن كان اللّه تعالى منزها عن صورة ما يفهمه الغافل القاصر من ذلك الذي وصف اللّه تعالى به نفسه من غضب غيره .
قال رضي الله عنه :  (فينتقل الألم الذي كان عنده) ، أي في نفس الغاضب حيث يسمى غاضبا بسبب وجوده في نفسه المتوجه به على المغضوب عليه ليفرغ منه ويصيغه فيه ما سمي غاضبا عليه (إلى) ذلك (المغضوب عليه) من الناس (والحق) تعالى إذا (أفردته) ، أي اعتبرته متميزا (عن العالم) جميعه غير متعلقة صفاته وأسماؤه بشيء أصلا (يتعالى) ، أي يرتفع ويتقدس ويتنزه (علوا كبيرا عن هذه الصفة) التي هي وجود الراحة في نفسه بالانتقام من المغضوب عليه والتشفي منه (على هذا الحد) المفهوم بحسب ما يجده المخلوق في نفسه إذا غضب على غيره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان الحقّ هويّة العالم ، فما ظهرت الأحكام كلّها إلّا منه وفيه.
وهو قوله تعالى :"وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" حقيقة و"كشفا فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود : 123] حجابا وسترا .  فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنّه على صورة الرّحمن .
أوجده اللّه أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصّورة الطّبيعيّة . )

قال رضي الله عنه :  (وإذا كان الحق) تعالى (هوية العالم) كله محسوسه ومعقوله وموهومه ، لأن الهوية ما به الشيء هو هو ، والعالم كله ليس هو هو إلا بالحق تعالى لا بشيء غيره أصلا ،
فالحق تعالى هوية العالم بهذا الاعتبار لصدق تعريفهم الهوية عليه ، ولأن الكل ثابت في علمه تعالى غير منفي عنه من غير وجود له أصلا فيه ، والوجود كله واحد مطلق قديم ظاهر على كل ما هو فيه مشرق عليه به من غير أن يحل فيه شيء من ذلك الذي فيه أصلا ،
ولا يحل هو في شيء منه أصلا ، إذ الكل معدوم والمعدوم لا يتصوّر فيه حلول أصلا لا منه في غيره ولا من غيره فيه .
ولا يضر الجاهلين الغافلين إلى رؤيتهم العالم موجودا بقيومية وجود اللّه تعالى عليه وظنهم ، إذ كلامنا عنه في تلك الحالة ، وإنه في حال وجوده باللّه تعالى حال في اللّه تعالى ، واللّه تعالى حال فيه ، وهو فهم قبيح جدا وقصور بليغ وتناقض فاحش ، إن عقلوا ما هم قائلون به من أنه تعالى قيوم على كل شيء ،
وإنما مرادنا من ذلك اعتبار العالم في نفسه مع قطع النظر عن وجود اللّه تعالى القيوم عليه ، فإنه كله حينئذ معدوم صرف بالإجماع منا ومن هؤلاء الجاهلين الغافلين ، ولا وجود حينئذ إلا وجود واحد قديم هو وجود اللّه تعالى المطلق المنزه عن كل شيء بالإجماع منا ومنهم ، وهذه وحدة الوجود التي قصدناها إذا أطلقناها ،
وهي مذهب العارفين المحققين قبلنا ، بل هي مذهب كل أحد من الناس لو عقل الكل وفهموا لمرادهم ، ولكن أهلها يناديهم مناديها من مكان قريب واستمع "يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ "[ ق : 41 ] يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ،
وغير أهلها إنما هم حولها يدندنون ويحومون عليها ، أولئك ينادون من مكان بعيد ، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون .
قال رضي الله عنه :  (فما ظهرت الأحكام) الإلهية بإيجاد كل شيء معدوم صرف ثابت في الحضرة العلمية من غير وجود (كلها) ، أي جميع تلك الأحكام قال تعالى :وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ[ الرعد : 41 ] إلا فيه ، أي في الحق تعالى إذ لولا الوجود لما كان شيء أصلا ، والوجود كله للّه تعالى كما ذكرنا ، فالكل ظاهر فيه .

ومنه سبحانه أيضا ، قال تعالى :قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[ النساء : 78 ] وهو قوله سبحانه ("وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" حقيقة )، أي في نفس الأمر وإن جهله الجاهلون وأنكره المنكرون وكشفا عند العارفين به المحققين (له "فَاعْبُدْهُ ") يا أيها السالك إليه بما صوّر لك في نفسك من الحول المخلوق والقوة المخلوقة ("وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ") [ هود : 123 ] ، أي فوّض أمرك إليه في ظاهرك وباطنك فلا تعتمد على حولك وقوتك حجابا ، أي في حال انحجابك عنه بشهود نفسك وسترا ، أي في وقت استتاره عنك بظهوره عليك على مقدار ما قبل ثبوت عينك في علمه القديم من تجلي وجوده وأنت لا تشعر لاشتغالك بك عنه .

قال رضي الله عنه :  (فليس في الإمكان) الاعتباري مما تراه العقول الفاضلة (أبدع من هذا العالم) المحسوس والمعقول والموهوم (لأنه) ، أي هذا (على صورة) مجموع صفات (الرحمن) عز وجل المستوي على العرش الذي هو مجموع العالم كله (أوجده) ، أي العالم اللّه تعالى (أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم) فهو يتبدل به في الصور المختلفة على حسب ما يريد سبحانه ، ويتحوّل في الحس والعقل إلى الأبد من غير أن يتغير تعالى عما هو عليه في الأزل (كما ظهر الإنسان) في الدنيا من حيث الروحانية اللطيفة الحاملة للمعاني الشريفة (بوجود الصورة الطبيعية) الآدمية الجسمانية المتركبة من العناصر الأربعة ، ثم يختفي الإنسان بموت هذه الصورة وزوال تركيبها واضمحلالها ، ثم يعود إليها في النشأة الآخرة ظاهرا بها إلى الأبد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنحن صورته الظّاهرة وهويّته تعالى روح هذه الصّورة المدبّرة لها . فما كان التّدبير إلّا فيه كما لم يكن إلّا منه . فهو الْأَوَّلُ بالمعنى وَالْآخِرُ بالصّورة وهو وَالظَّاهِرُ بتغيّر الأحكام والأحوال وَالْباطِنُ بالتّدبير ،وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ الحديد : 3 ] فهو على كلّ شيء شهيد ، ليعلم عن شهود لا عن فكر .
فكذلك علم الأذواق لا عن فكر وهو العلم الصّحيح وما عداه فحدس وتخمين ليس بعلم أصلا . )

قال رضي الله عنه :  (فنحن) معشر الكائنات (صورته) تعالى (الظاهرة) في الدنيا والآخرة لأنا موصولون بما هو موصوف به على حد ما يليق به ، فنحن علمه بنفسه لأنه علم نفسه فعلمنا ، ونحن كثيرون وهو واحد لكمال تنزيهه ورفعة شأنه عن أن يدركه علمه فيحصره فضلا عن علم غيره لعظمة إطلاقه الكلي ، ونحن نتبدل ونتحوّل وهو ثابت لا يتغير لفنائنا واضمحلالنا ووجوده وتحققه وثبوته أزلا وأبدا وهويته سبحانه ، أي وجوده الحق (روح) ، أي قيوم (هذه الصورة) الظاهرة التي مجموع روحانية وجسمانية المدبر هو سبحانه لها ، أي لتلك الصورة ، قال تعالى يدبر الأمر .

قال رضي الله عنه :  (فما كان التدبير) للصورة المذكورة (إلا فيه) تعالى ، لأن الكل في علمه أزلا وأبدا (كما لم يكن) ذلك التدبير (إلا منه) سبحانه وإن ظهر بالأسباب العلوية فقال تعالى :فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً( 5 ) ، لأنها مظاهره تعالى ، فإنها مدبرة به وهو المدبر بها ، فلا مدبر سواه (فهو الأول) قبل ظهور كل شيء (بالمعنى) الذي في علمه تعالى من أحوال كل شيء وهو المرتبة الألوهية التي له تعالى بما صدر عنه كل شيء ، فإن وجوده المطلق من حيث هو لا يتكلم عنه إذ لم يصدر عنه شيء من هذا الوجه أصلا ، لأنه لا يفيد الكلام عن الشيء إلا من حيث رتبته كالقاضي إذا تكلمت عنه من حيث هو إنسان ، فلا تميز له عن غيره من هذا الوجه ، ولا كبير فائدة في ذلك وإن تكلمت عنه من حيث هو قاض فقد تكلمت عنه من حيث رتبته فالكلام عنه مفيد حينئذ وهو لا يتحكم إلا من حيث رتبته ، لا من حيث ذاته .

قال رضي الله عنه :  (و) هو أيضا (الآخر بالصورة) التي هي مجموع الكائنات ، لأنه عين من قام به ذلك المعنى وتبين به هذا المبنى
وهو أيضا (الظاهر بتغيير الأحكام) الإيجادية والإعدامية والأحوال الملكية والملكوتية.
(و) هو أيضا (الباطن) بالتدبير في الكل على ما تقتضيه الحكمة وتشمله الرحمة وهو سبحانه وتعالى بعد ذلك "بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [ البقرة : 29 ] أزلا وأبدا
قال رضي الله عنه :  (فهو على كل شهيد كذلك ليعلم) بكل شيء (عن شهود) ومعاينة (لا عن فكر) وتخيل لاستحالة ذلك في علم اللّه تعالى (فكذلك) ، أي مثل علم اللّه تعالى في هذه الصفة السلبية علم الأذواق ، أي الكشف والمنازلة عند الأنبياء والأولياء لا ذلك العلم حاصل (عن فكر) كعلم الظاهر من علماء الرسوم (وهو) ، أي علم الأذواق (العلم الصحيح) الموروث عن الأنبياء عليهم السلام كما ورد في الحديث : « العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء » . رواه القزويني في أخبار قزوين  وعزاه العجلوني في كشف الخفاء إلى ابن عدي عن علي رضي اللّه عنه وهو حديث صحيح كما قال المناوي » .
وفي رواية : « العلم ميراثي وميراث الأنبياء قبلي » أخرجه السيوطي في جامعه الصغير ورواه أبو حنيفة في مسنده.
وعلماء الظاهر إن وعوا ما في الكتاب والسنة من العلوم الظاهرة فهم حملة العلم وليسوا بعلماء،

وإن وعوا غير ذلك من علوم العربية والعلوم الفلسفية ونحو ذلك فليسوا بحملة العلم ولا علماء أصلا ؛ ولهذا قال رضي اللّه عنه .
وما عداه ، أي غير علم الأذواق (فحدس) ، أي ظن وتوهم (وتخمين) افتتنت به أهله كما افتتن أهل الدنيا بالدرهم والدينار (وهو ليس بعلم أصلا) ،
قال صلى اللّه عليه وسلم : « العلم ثلاثة : كتاب ناطق وسنة ماضية وقول لا أدري » . أخرجه السيوطي أيضا في جامعه الصغير ،
فقول : لا أدري في مقابلة ذلك الحدس والتخمين ، فالعالم يقول : لا أدري والجاهل يتكلم بالحدس والتخمين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ كان لأيّوب عليه السّلام ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الّذي هو من النّصب والعذاب الّذي مسّه به الشّيطان ، أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه .
فيكون بإدراكها في محلّ القرب . فكلّ مشهود قريب من العين ولو كان بعيدا بالمسافة ، فإنّ البصر يتّصل به من حيث شهوده ولولا ذلك لم يشهده أو يتّصل المشهود بالبصر . كيف كان . فهو قرب بين البصر والمبصر .
ولهذا كنّى أيّوب عليه السّلام في المسّ ، فأضافه إلى الشّيطان مع قرب المسّ فقال البعيد منّي قريب لحكمة فيّ . )

قال رضي الله عنه :  (ثم كان لأيوب عليه السلام ذلك الماء) الذي خرج بركض رجله شرابا يشربه (لإزالة ألم العطش الذي هو من النّصب) بضم النون وسكون الصاد المهملة ، أي الشر والبلاء .
قال الجوهري في صحاحه : والنصب الشر والبلاء ومنه قوله تعالى :مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ[ ص : 41 ] .

قال رضي الله عنه :  (و) من (العذاب) وهو العقوبة (الذي مسه) ، أي أيوب عليه السلام (به الشيطان) من قولهم شطت داره إذا بعدت (أي البعد عن الحقائق) الإلهية (أن يدركها) أيوب عليه السلام (على ما هي عليه السلام ) في نفسها لا على حسب ما يعطي البعد عنها من المعاني النفسانية .
قال رضي الله عنه :  (فيكون) ، أي أيوب عليه السلام (بإدراكها) ، أي تلك الحقائق كذلك (في محل القرب) إلى اللّه تعالى (فكل) شيء (مشهود) من تلك الحقائق على ما هو عليه قريب من العين الشاهدة له ولو كان بعيدا عنها بالمسافة الجسمانية ( فإن البصر) من تلك العيون (متصل به) ، أي بذلك المشهود (من حيث شهوده) ،
أي البصر لذلك المشهود وهو الاتصال المعنوي الروحاني الأصلي ، إذ جميع الأشياء في الأصل الأوّل وهو العلم الإلهي واحدة لا كثرة فيها ، وكذلك في الأصل الروحاني الطبيعي والعنصري ثم تفترق بالتولد وتظهر فيها صورة الأصول فإذا أدركت بعضها بعضا إنما تدركه بصورة تلك الأصول التي فيها .

قال رضي الله عنه :  (فلو لا ذلك) الاتصال (لم يشهده) ولهذا انفصل عنه بالصورة المتولدة من الأصول المذكورة فغابت عنها الصورة الأخرى (أو يتصل) ذلك الشيء (المشهود بالبصر) من حيث اتصاله الأصلي كما ذكرناه فيشهده البصر (كيف كان) الأمر في نفسه (فهو قريب) روحاني (بين البصر والمبصر) بصيغة اسم المفعول ؛
(ولهذا) ، أي ما ذكر من القرب (كنى أيوب عليه السلام في المس) ، أي أصابته بالسوء (فأضافه) ، أي المس يعني نسبه (إلى الشيطان) حين قال :مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ[ ص : 41].

مع قرب المس حين هو مشهود له دون قرب الشيطان ، لأنه لم يشهده لانفصاله عنه بحقيقة أخرى سرت في حقيقته عليه السلام الجسمانية من قوله صلى اللّه عليه وسلم :  "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " . رواه ابن إسحاق بن راهويه   والديلمي في الفردوس عن أبي هريرة  ورواه غيرهما .

وقدمنا بيان عصمة الأنبياء عليهم السلام منه من أي وجه هي فاقتضى سريانها فيه ما أصاب من النصب والعذاب بتقدير اللّه تعالى
فقال ، أي أيوب عليه السلام في تقرير معنى كلامه (البعيد مني) بحيث لم أشهده (قريب) إلي (لحكمة) ، أي إظهاره (فيّ) ، أي في جسدي أثره المؤلم من النصب والعذاب جزاء على عدم شهودي له كما قال تعالى :"وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" [ الزخرف : 36 ] .
وهذا حكم عام لا خصوص له فيشمل المعصوم وغير المعصوم وأما قوله بعد ذلك :" وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ " [ الزخرف : 37 ] ،
فهو حال الالتباس وذلك مخصوص بغير المعصوم من الناس ولهذا غير اللّه نظام الآية بالجمع بين صيغة الإفراد .

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علمت أنّ القرب والبعد أمران إضافيان ، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامها في القريب والبعيد .
واعلم أنّ سرّ اللّه في أيّوب الّذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليّا تقرؤه"
هذه الأمّة المحمّديّة لتعلم ما فيه فتلحق بصاحبه تشريفا لها
.
فأثنى اللّه عليه - أعني على أيّوب - بالصّبر مع دعائه في رفع الضّرّ عنه .
فعلمنا أنّ العبد إذا دعا اللّه في كشف الضّرّ عنه لا يقدح في صبره .
وأنّه صابر وأنّه نعم العبد كما قال تعالى :إِنَّهُ أَوَّابٌأي رجّاع إلى اللّه لا إلى الأسباب ، والحقّ يفعل عند ذلك بالسبب لأنّ العبد يستند إليه ، إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة والمسبّب واحد العين ).

قال رضي الله عنه :  (وقد علمت) يا أيها السالك من غير هذا المحل (أن البعد والقرب أمران إضافيان) لا يعقلان إلا من شيئين باعتبار الزمان كما يقال مصنف هذا الكتاب قدس اللّه سره أقرب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منا ،
أي من زمانه أقرب إلى زمان النبوة من زماننا أو باعتبار المكان
قال رضي الله عنه :  (كما يقال) : داري أقرب إلى الجامع من دارك (فهما) ، أي القرب والبعد (نسبتان) ، أي أمران منتزعان من النظر في حقيقتين باعتبار زمان أو مكان (لا وجود لهما) ، أي لتلك النسبتين (في العين) ، أي في عين كل واحدة منهما مع ثبوت ، أي تحقق (أحكامهما) ، أي القرب والبعد (في) الشيء (البعيد) عن الشيء الآخر البعيد عنه (و) الشيء (القريب) إلى الشيء الآخر القريب إليه .
قال رضي الله عنه :  (واعلم) يا أيها السالك (أن سر اللّه) تعالى (في أيوب) عليه السلام (الذي جعله) اللّه تعالى عبرة لنا نعتبر به في أحوالنا مع اللّه تعالى (و) جعله (كتابا مستورا) ، أي آيات قرآنية نزلت في حق أيوب عليه السلام (حاكيا) ." وفي نسخة : حاليا  بدل حاكيا ".
 ذلك الكتاب ما كان في الزمان الأوّل ، فنزل جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى اللّه عليه وسلم فتلاه علينا بلسان عربي مبين (تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه) من الأسرار والعلوم (فتلحق) ، أي هذه الأمة (بصاحبه) ، أي صاحب هذا الكتاب المسطور بطريق الإرث النبوي (تشريفا لها) وتعظيما لشأنها (فأثنى اللّه) تعالى (عليه السلام ) ، أي مدحه في القرآن العظيم (أعني على أيوب) عليه السلام (بالصبر) حيث قال تعالى :إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ ص : 44 ] مع دعائه ، أي أيوب عليه السلام في رفع ، أي إزالة الضر ، أي البلاء عنه .
قال تعالى : "وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ "[ ص : 41 ] ، وقال تعالى : " وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" ( 83 ) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ( 84 ) [ الأنبياء : 83 - 84 ] .
قال رضي الله عنه :  (فعلمنا) من ذلك (أن العبد) المؤمن (إذا دعا اللّه) تعالى (في كشف الضر) والسوء (عنه لا يقدح) ذلك ، أي لا ينقص ولا يطعن (في صبره) على ذلك الضر والسوء (فإنه) ، أي ذلك العبد مع طلبه من اللّه تعالى وتضرعه في إزالة ضره عنه صابر على ما أصابه به وأنه ، أي ذلك العبد حينئذ .
(نعم العبد كما قال تعالى) في أيوب عليه السلام :" إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ "، أي رجاع ، من نفسه إلى اللّه تعالى على وجه الكثرة فإذا كان بنفسه دعا اللّه تعالى في إزالة الضر عنه ثم رجع إلى اللّه تعالى فترك الدعاء وقام بالتفويض إليه سبحانه والتوكل عليه ،
ثم كان بنفسه وقام بالأسباب ، ثم رجع ذلك وتكرر منه هذا الحال ، فهو أوّاب صيغة مبالغة من آب إذا رجع ، ورجوعه في كل مرة إلى اللّه تعالى.

قال رضي الله عنه :  (لا إلى الأسباب) من نفسه ودعائه ونحو ذلك بل من الأسباب إلى مسببها تعالى وهي أكمل الأحوال ، لأنها قيام بالحق تعالى من حيث أسماؤه كلها لا بعضها ، فإنه إذا كان في الأسباب قام باسمه تعالىالْأَوَّلُ،وَالْباطِنُوإذا أعرض عن الأسباب قام باسمه تعالى الآخر والظاهر ، وهذه الأسماء الأربعة أمهات الأسماء الفاعلة وغيرها .
قال رضي الله عنه :  (والحق) تعالى (يفعل عند ذلك) ، أي عند رجوع العبد إليه سبحانه (بالسبب) وهو رجوع العبد إليه (لأن العبد يستند إليه) ، أي إلى الحق تعالى في حال رجوعه إليه سبحانه فيكون ذلك الإسناد سببا يفعل اللّه تعالى به ما يريد لعبده (إذ الأسباب المزيلة لأمر ما) يعني أي أمر كان حسي أو معنوي (كثيرة) جدا (والمسبّب) لتلك الأسباب كلها (واحد العين) ، أي الذات لا كثرة فيه أصلا وهو الحق تعالى .

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسّبب ذلك الألم أولى من الرّجوع إلى سبب خاصّ ربّما لا يوافق علم اللّه فيه .
فيقول إنّ اللّه لم يستجب لي وهو ما دعاه ، وإنّما جنح إلى سبب خاصّ لم يقتضه الزّمان ولا الوقت .   فعمل أيّوب بحكمة اللّه تعالى إذ كان نبيّا .
لمّا علم أنّ الصّبر هو حبس النّفس عن الشّكوى عند طائفة وليس ذلك بحدّ الصّبر عندنا ، وإنّما حدّه حبس النّفس عن الشّكوى لغير اللّه لا إلى اللّه .
فحجب الطّائفة نظرهم في أنّ الشّاكي يقدح بالشّكوى في الرّضا بالقضاء ،
وليس كذلك ، فإنّ الرّضا بالقضاء لا تقدح فيه الشّكوى إلى اللّه ولا إلى غيره ، وإنّما تقدح في الرّضا بالمقضيّ ونحن ما خوطبنا بالرّضا بالمقضيّ . والضّرّ هو المقتضيّ ما هو عين القضاء.)

قال رضي الله عنه :  (فرجوع العبد) إذا أصابه الضر أودعته حاجة (إلى الواحد العين) المزيل عنه (بالسبب ذلك الألم) الذي هو فيه (أولى) ، أي أحق وأسهل (من الرجوع) عند ضرورته (إلى سبب خاص) يتعلق به من دعاء ونحوه (ربما لا يوافق) ذلك السبب الخاص (علم اللّه) تعالى (فيه) ، أي في الألم بزوال أو بقاء (فيقول) ذلك العبد حينئذ (إن اللّه) تعالى (لم يستجب لي) دعائي (وهو) ، أي ذلك العبد ما دعاه في نفس الأمر ، أي ما دعا اللّه تعالى فيستجيب له .
(وإنما جنح) ، أي مال في دعائه اللّه تعالى (إلى سبب خاص) عينه في نفسه وهو صورة المدعو التي تخيلها الداعي ، أي داع كان فإنه لا بد من الصورة في كل داع وكل عابد ، كما ورد أن اللّه في قبلة المصلي  .
وذلك لا يضر في الإيمان باللّه تعالى إذا لم يقتض الحصر في صورة من ذلك إذ هو من صورة الخيال ، فإذا استسلم العارف إلى اللّه تعالى بالتفويض إليه لم يقف عند الصورة الخيالية لانحلالها بعدم القصد إليها ، فإن الدعاء فعل والتفويض ترك الفعل (لم يقتضه) ، أي ذلك السبب الخاص
قال رضي الله عنه :  (الزمان ولا الوقت) لتحصل الإجابة به وقد يقتضيه الزمان فيستجاب له بذلك السبب (فعمل أيوب) عليه السلام (بحكمة اللّه تعالى) التي أوتيها كما قال سبحانه :" يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ "[ البقرة : 269 ]
إذ ، أي لأنه يعني أيوب عليه السلام كان نبيا من أنبياء اللّه تعالى المعصومين القائمين بالحكمة والنبوّة .
لما تعليل للقول بأنه عليه السلام عمل بالحكمة علم بالبناء للمفعول (أن الصبر) على البلوى (هو حبس) ، أي إمساك (النفس عن الشكوى) إلى أحد (عند الطائفة) الصوفية (وليس ذلك) المذكور (بحد) ، أي تعريف صحيح (للصبر عندنا) معشر العارفين المحققين وإنما حدّه ، أي الصبر عندنا حبس ، أي إمساك النفس الإنسانية (عن الشكوى لغير اللّه) تعالى من البلوى لا حبس النفس عن الشكوى إلى اللّه تعالى (فحجب الطائفة) الصوفية القائلين بما ذكر (نظرهم) ، أي قياسهم (في أنّ الشاكي يقدح) ،

 أي يطعن (بالشكوى) ولو إلى اللّه تعالى (في الرضى بالقضاء) الإلهي ، والتقدير الأزلي على العبد فالصبر مثل الرضى يقدح فيه الشكوى ولو إلى اللّه تعالى وليس الأمر (كذلك) ، أي كما قالوا في ذلك كما نظروا (فإن الرضا بالقضاء) والتقدير على العبد (لا يقدح فيه الشكوى إلى اللّه) تعالى (ولا إلى غيره) سبحانه أيضا (وإنما يقدح) ذلك (في الرضا بالمقضي) وهو الشيء الذي قضى اللّه تعالى به كالبلاء مثلا ، فمن شكى من البلاء لم يكن راضيا بذلك البلاء ولا يطعن شكواه من ذلك في الرضى بقضاء اللّه تعالى عليه بذلك البلاء .
قال رضي الله عنه :  (ونحن ما خوطبنا) ، أي خاطبنا اللّه تعالى (بالرضا بالمقضي) وإنما خوطبنا بالرضى بالقضاء الذي هو حكم اللّه تعالى والضر ، أي البلاء الذي شكى منه أيوب عليه السلام (هو المقضي ما هو) ، أي ذلك الضر (عين القضاء) ، أي حكم اللّه تعالى الذي يجب الرضا به .

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلم أيّوب عليه السّلام أنّ في حبس النّفس عن الشّكوى في دفع الضرّ إلى اللّه مقاومة القهر الإلهيّ وهو جهل بالشّخص إذ ابتلاه اللّه بما تتألّم منه نفسه ، فلا يدعو اللّه في إزالة ذلك الأمر المؤلم ، بل ينبغي له عند المحقّق أن يتضرّع ويسأل اللّه في إزالة ذلك عنه ، فإنّ ذلك إزالة عن جناب اللّه عند العارف وصاحب الكشف .
فإنّ اللّه تعالى قد وصف نفسه بأنّه يؤذى فقال :إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ الأحزاب : 57 ] . وأيّ أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه أو عن مقام إلهيّ لا تعلمه لترجع إليه بالشّكوى فيرفعه ، فيصحّ الافتقار الّذي هو حقيقتك ، فيرتفع عن الحقّ الأذى بسؤالك إيّاه في رفعه عنك .
إذ أنت صورته الظّاهرة ، كما جاع بعض العارفين فبكى فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفنّ معاتبا له ، فقال العارف : « إنّما جوّعني لأبكي » يقول إنّما ابتلاني بالضّرّ لأسأله في رفعه عنّي ، وذلك لا يقدح في كوني صابرا .
فعلمنا أنّ الصّبر إنّما هو حبس النّفس عن الشّكوى لغير اللّه . )

قال رضي الله عنه :  (وعلم أيوب) عليه السلام كمال حكمته وشريف فطنته (أنّ في حبس) ، أي إمساك (النّفس) الإنسانية (عن الشكوى إلى اللّه) تعالى (في رفع الضر) ، أي البلاء عنه (مقاومة القهر الإلهي) كما قال تعالى :وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ[ الأنعام  : 18]
، وقال تعالى :وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ[ الرعد : 16 ] ، (وهو) ، أي فعل المقاومة المذكورة (جهل بالشخص) ، أي الإنسان (إذا ابتلاه اللّه) تعالى (بما تتألم) ، أي تتوجع (منه نفسه) من أنواع البلاء (فلا يدعو اللّه) تعالى (في إزالة ذلك الأمر المؤلم) ، أي الموجع عنه (بل ينبغي له) ، أي الشخص المبتلي بشيء من البلوى عند المحققين من أهل اللّه تعالى أن يتضرع في دعائه ويسأل اللّه تعالى في إزالة ذلك البلاء عنه المؤلم له .

فإن إزالة ذلك البلاء عنه إزالة عن جناب اللّه تعالى الظاهر له بصورته عند العارف باللّه تعالى (صاحب الكشف) الإلهي (فإن اللّه) تعالى (قد وصف نفسه) في كلامه القديم (بأنه يؤذى فقال) سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [ الأحزاب : 57 ] وسبق أيضا وصفه تعالى بذلك في الحديث كما ذكره .

(وأي أذى أعظم من أن يبتليك) ربك أيها العبد (ببلاء) مؤلم لك (عند غفلتك عنه) سبحانه أو غفلتك (عن مقام إلهي لا تعلمه) أنت أي ذلك المقام وهو يريد أن يوصلك إليه (لترجع) يا أيها العبد إليه تعالى (بالشكوى) من ذلك البلاء (فيرفعه) سبحانه ، أي يزيله (عنك) بتضرعك إليه .
قال رضي الله عنه :  (فيصح) منك إليه سبحانه (الافتقار) في جميع أحوالك الظاهرة والباطنة (الذي هو حقيقتك) الذاتية (فيرتفع) بذلك (عن الحق) تعالى الظاهر لك بصورتك المتجلي بها عليك الأذى الذي هو بلاء باعتبارك وأذى باعتباره تعالى إذ لم يرد أنه تعالى يوصف بالبلاء ، وورد أنه يوصف بالأذى كما مر في الآية والحديث .

قال رضي الله عنه :  (بسؤالك) ، أي دعائك إياه سبحانه (في رفعه) ، أي إزالة ذلك الأذى (عنك إذ) ، أي لأنك (أنت صورته) تعالى (الظاهرة) بتجليه عليك (كما) ورد أنه (جاع بعض العارفين) باللّه تعالى (فبكى) من جوعه (فقال له في ذلك) ، أي البكاء (من لا ذوق له) ، أي لا تحقيق عنده (في هذا الفن) ، أي العلم الإلهي (معاتبا له) على بكائه من الجوع (فقال العارف) المذكور (إنما جوّعني لأبكي يقول) ، أي ذلك العارف (إنما ابتلاني) اللّه تعالى (بالضر) ، أي البلاء المؤلم (لأسأله) ، أي أطلب منه تعالى وأدعوه (في رفعه) ، أي إزالة ذلك الضر الذي ابتلاني به (عني وذلك) ، أي السؤال في رفعه والبكاء منه ل(ا يقدح) ، أي لا يطعن في كونه ، أي كون ذلك المبتلى بالضر صابرا على بلواه وضره .

قال رضي الله عنه :  (فعلمنا) مما ذكر (أن الصبر) عند المحققين من أهل اللّه تعالى (إنما هو حبس النفس) ، أي إمساكها (عن الشكوى لغير اللّه) تعالى من الناس .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأعني بالغير وجها خاصّا من وجوه اللّه . وقد عيّن الحق وجها خاصّا من وجوه اللّه وهو المسمّى وجه الهويّة فتدعوه من ذلك الوجه في رفع الضّرّ عنه لا من الوجوه الأخر المسمّاة أسبابا ، وليست إلّا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه .
فالعارف لا يحجبه سؤاله هويّة الحقّ في رفع الضّرّ عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثيّة خاصّة . وهذا لا يلزم طريقته إلّا الأدباء من عباد اللّه الأمناء على أسرار اللّه ، فإنّ للّه أمناء لا يعرفهم إلّا اللّه ؛ ويعرف بعضهم بعضا . وقد نصحناك فاعمل وإياه سبحانه فاسأل ).

قال رضي الله عنه :  (وأعني) ، أي أقصد (بالغير) ، أي غير اللّه تعالى (وجها خاصا) ظاهرا بالشيء الهالك من وجوه اللّه تعالى الكثيرة كما قال تعالى :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ[ القصص : 88 ] ،
وقال :فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ[ البقرة : 115 ] ، (وقد عين الحق) تعالى في الشرع (وجها خاصا من وجوه اللّه) تعالى الكثيرة (وهو المسمى وجه الهوية) الإلهية في قلب العارف باللّه تعالى وهو من جملة تلك الوجوه الكثيرة ، وما تميز عنها إلا بتعيين اللّه تعالى له بحكمه الشرعي لضرورة صرف العبادة إليه والرجوع في المهمات (فيدعوه) ،

أي يدعو اللّه تعالى ذلك العبد المؤمن من ذلك الوجه الذي عينه الحق تعالى (في رفع) ،
أي إزالة (الضر) ، أي البلاء المؤلم عنه لا يدعوه من تلك (الوجوه الأخر) الكثيرة التي له تعالى (المسماة) بين المؤمنين أسبابا يفعل اللّه تعالى المسببات عندها لا بها وليست ،
أي تلك الوجوه الأخر (إلا هو) سبحانه (من حيث تفصيل الأمر) الإلهي الواحد (في نفسه) بصور الخلق المختلفة .

قال رضي الله عنه :  (فالعارف) باللّه تعالى الكامل (لا يحجبه سؤاله) ، أي طلبه ما يريد من (هوية) ، أي ذات (الحق) تعالى الظاهرة له بصورة كل شيء محسوس أو معقول (في رفع) ، أي إزالة الضر الذي ابتلاه اللّه تعالى به عنه ، أي عن ذلك العارف عن أن متعلق بيحجبه تكون جميع الأسباب التي هي وجوه الحق تعالى إلى كل شيء عينه ، أي عين الحق تعالى من حيثية خاصة يعرفها العارف باللّه تعالى في نفسه ذوقا وكشفا ، وتخفى على الجاهل المحجوب .

وهذا المقام المذكور لا يلزم طريقته إلا الأدباء جمع أديب من عباد اللّه تعالى المحققين الأمناء جمع أمين وهو المحتفظ على أسرار اللّه تعالى في خلقه ، وقد ورد أن يعقوب عليه السلام كان يجلس على طرق من طريق العامة فيشكو لهم ما يجده من فقد يوسف عليه السلام ، ويحكى حالته للمارة حتى قال له بقية أولاده :"تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ"[ يوسف : 85 ] ،

فقال لهم مجيبا من هذا المقام المذكور "أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ"[ يوسف : 86 ] وهو علمه بوجه الحق تعالى من تلك الحيثية الخاصة مما لا يعلمه غيره
 .
قال رضي الله عنه :  (فإن للّه) تعالى (أمناء) على أسراره من عباده (لا يعرفهم) أحد إلا اللّه تعالى (و) هم (يعرف بعضهم بعضا) بأسرار سيشيرون إليها وأحوال يقفون عليها (وقد نصحناك) يا أيها السالك بما شرحنا لك من العلم الإلهي (فاعمل) عليه في باطنك وظاهرك (وإياه سبحانه) ، أي لا غيره (فأسأل) ، أي أطلب منه كل ما تريد فإنه لطيف بالعبيد .
تم الفص الأيوبي
.
واتساب

No comments:

Post a Comment