Sunday, January 19, 2020

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن ابن أحمد ابن محمد الجامي على متن فصوص الحكم للشيخ الأكبر
الفصّ الداودي
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّه كانت النّبوّة والرّسالة اختصاصا إلهيّا ليس فيها شيء من الاكتساب أعني نبوّة التّشريع ، كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السّلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء ، ولا يطلب عليها جزاء فإعطاؤه إيّاهم على طريق الإنعام والإفضال .
فقال تعالى : "وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ"[ الأنعام : 84 ] يعني لإبراهيم الخليل عليه السّلام وقال في أيّوب عليه السّلام : وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ"[ ص : 43 ] )
فص حكمة وجودية في كلمة داودية
إنما وصف الحكمة المودعة في الكلمة الداودية بالوجودية ، لأن المراد بالوجودية إما معناه المشهور أو بمعنى الوجدان وعلى كل من التقديرين فلوصف الحكم الداودية بالوجودية به نوع اختصاص ، أما على الأول فلأن المراد بالوجود الإنساني الكمالي لا مطلقا إذ لا اختصاص له بشيء ، وكمال الوجود الإنساني إنما هو بظهور حقائق الخلافة بتمامها ، وهي قد ظهرت فيما تقدم من الأنبياء بالتدريج حتى ظهرت بتمامها في داود عليه السلام كلمة ابنه الذي هو منه ، وأما على الثاني فلأن داود عليه السلام إنما وجد هذا الحكم بمجرد الوهب من غير تجشم كسب كما سيأتي فتكون حكمة وجدانية محضة لا دخل فيها للتعمل والكسب حتى لا يصح استنادها إليه إلا بأنه وجدها لا بأنه اكتسبها إلى غير ذلك من العبارات .

( اعلم ) أيها الطالب المسترشد ( أنه لما كانت النبوة والرسالة ) التي هي خصوص مرتبة في النبوة ( اختصاصا إلهيا ليس ) يجزي ( فيها شيء من الاكتساب أعني ) بالنبوة المحضة ببعض العمل اختصاصا إلهيا ( نبوة التشريع كانت عطاياه تعالى لهم ) ، أي للأنبياء ( عليهم السلام من هذا القبيل ) ، أي من قبيل الاختصاص والامتنان ( مواهب ليست جزاء ) لعمل من أعمالهم ( ولا يطلب عليها منهم جزاء فإعطاؤه إياهم على طريق الإنعام والإفضال ) ، ولذلك عبر سبحانه عن هذا الإعطاء بالهبة التي لا يطلب عليها عوض ولا عرض ( فقال تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ[ الأنعام : 84 ] ، يعني ( لإبراهيم الخليل عليه السلام وقال في أيوب عليه السلام :وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ[ ص : 43 ] ، وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) سورة ص

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال في حقّ موسى عليه السّلام وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا( 53 ) [ مريم : 53 ] إلى مثل ذلك . فالّذي تولّاهم أوّلا هو الّذي تولّاهم [ آخرا ] في عموم أحوالهم أو أكثرها ، وليس إلّا اسمه الوهّاب .
وقال في حقّ داود - عليه السّلام -وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [ سبأ : 10 ] فلم يقرن به جزاء يطلبه منه ، ولا أخبر أنّه أعطاه هذا الّذي ذكره جزاء . ولمّا طلب الشّكر على ذلك العمل طلبه من آل داود ولم يتعرّض لذكر داود ليشكره الآل على ما أنعم به على داود .
فهو في حقّ داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حقّ آله على غير ذلك لطلب المعاوضة فقال تعالى :اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ[ سبأ : 13 ] . وإن كانت الأنبياء عليهم السّلام قد شكروا للّه على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك على طلب من اللّه ، بل تبرّعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى تورّمت قدماه شكرا لما غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر . فلمّا قيل له في ذلك )

وقال في حق موسى عليه السلام : "وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا"( 53 ) [ مريم : 53 ] ) ، متضمنا ذلك الوهب الإلهي المذكور في هؤلاء الأنبياء ( إلى مثل ذلك ) الوهب بالنسبة إلى من عداهم ( فالذي ) ، أي الاسم الذي ( تولاهم أولا ) حيث اختصهم بالنبوة والرسالة ( هو ) بعينه الاسم ( الذي تولاهم ) ثانيا بعد اختصاصهم بهما ( في عموم أحوالهم وأكثرها وليس ذلك ) الاسم المتولي ( إلا اسمه الوهاب ) .
ثم لما بين ذلك المعنى في بعض الأنبياء أراد أن ينتقل إلى داود عليه السلام الذي هو المقصود بالذكر ههنا فقال : ( وقال في حق داود :"وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا "فلم يقرن فيه ) ، أي بالفضل الذي آتاه داود ( جزاء يطلبه منه ) ، كالشكر مثلا ( ولا أخبر أنه أعطاه هذا الذي ذكره ) من الفضل ( جزاء ) العمل من أعماله ( ولما طلب الشكر على ذلك ) الفضل ( العمل طلبه من آل داود ولم يتعرض لذكر داود ) ،
وإنما طلب من آل داود ( ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ، فهو في حق داود عطاء نعمة وإفضال وفي حق آله على غير ذلك ) ، أي على غير كونه عطاء نعمة وإفضال بل عطاء ( لطلب المعاوضة ) منهم ( فقال تعالى ) آمرا لهم طالبا منهم الشكر بالعمل (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [ سبأ : 10 و 13 ] ،

فداود عليه السلام ليس يطلب منه الشكر على ذلك العطاء ( وإن كانت الأنبياء عليهم السلام قد شكرو اللّه تعالى على ما أنعم به عليهم ووهبهم ) إياه ( فلم يكن ذلك ) الشكر الواقع منهم منبعثا ( عن طلب من اللّه تعالى بل تبرعوا بذلك من ) عند ( نفوسهم كما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تورمت قدماه ) ، من غير أن يكون مأمورا بالقيام على هذا الوجه ( شكرا لما غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخير.)

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال : « أفلا أكون عبدا شكورا » ؟ وقال في نوح :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً[ الإسراء :3  ] .
والشّكور من عباد اللّه تعالى قليل . فأوّل نعمة أنعم اللّه بها على داود - عليه السّلام - أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتّصال .
فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرّد هذا الاسم ، وهي الدّال والألف والواو .
وسمّى اللّه محمّدا عليه الصّلاة والسّلام بحروف الاتّصال والانفصال ، فوصله به وفصله عن العالم فجمع له بين الحالتين . في اسمه كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ، ولم يجعل ذلك في اسمه ، فكان ذلك اختصاصا لمحمّد صلوات اللّه عليهما أعني التّنبيه عليه باسمه . فتمّ له الأمر عليه الصلاة والسّلام من جميع جهاته ، وكذلك في اسمه « أحمد » فهذا من حكمة اللّه تعالى . ثمّ قال في حقّ داود )

قال رضي الله عنه :  (فلما قيل له في ذلك) قال : « أفلا أكون عبدا شكورا » وقال في نوحإِ نَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً[ الأسراء : 3 ] والشكور من عباد اللّه قليل ، فأول نعمة أنعم اللّه بها على داود أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال ) ، وهي الحروف الذي من شأنها أن تتصل بما بعدها ، فالاتصال والانفصال إنما يعتبران بالنسبة إلى ما بعد ، وأما بالنسبة إلى ما قبل فكل الحروف تقبل الاتصال ( فقطعه ) ، أي نبه على قطعه
قال رضي الله عنه :  ( عن العالم بذلك ) ، أي بأن أعطاه حرفا ليس فيه حرف الاتصال ( إخبارا لنا عنه بمجرد هذا الاسم ) ، من غير نظر إلى شيء آخر .
( وهي الدال والألف ووالواو ) ، فإن المناسبة بين الاسم والمسمى مما يفهمها أهل الحقيقة.
قال رضي الله عنه :  ( وسمي محمدا صلى اللّه عليه وسلم بحرف من حروف الانفصال هي الدال وما عداها من حروف الاتصال ) فحروف الانفصال هي الدال وما عداها من حروف الاتصال ( فوصله ) ،

أي دل على وصوله ( به ) ، أي بالحق سبحانه بحروف الاتصال (وفصله عن العالم فجمع له) ، أي لمحمد عليه الصلاة والسلام ( بين الحالتين ) الاتصال بالحق والانفصال عن العالم ( في اسمه كما جمع لداود عليه السلام بين الحالتين من طريق المعنى ) ، فإنه لا بد لكل من الكمل من ذلك الاتصال والانفصال .
قال رضي الله عنه :  ( و ) لكن ( لم يجعل ذلك في اسمه ) كما جعل في اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم ( فكان ذلك اختصاصا بمحمد وتفضيلا له على داود ) صلوات اللّه عليهما ( أعني ) باسم الإشارة المذكور في قوله فكان ذلك ( التنبيه عليه ) ، أي على الجمع بين الحالتين ( باسمه فتم له الأمر من جميع جهاته ) ، جهة الاسم وجهة المسمى .
قال رضي الله عنه :  ( وكذلك ) الأمر ( في اسمه أحمد ) جمع فيه بين الحالتين بحروف الاتصال وهي الحاء والميم وحروف الانفصال وهي الألف والدال ( فهذا من حكمة اللّه سبحانه ثم قال ) تعالى ( في حق داود ) عليه السلام :يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ[ سبأ : 10 ] ترك المقول لكونه معلوما في كتاب اللّه ولدلالة ما بعده عليه

قال الشيخ رضي الله عنه :  (عليه السّلام ، فيما أعطاه إيّاه على طريق الإنعام عليه ، ترجيع الجبال معه التّسبيح ، فتسبّح لتسبيحه ليكون له عملها ، وكذلك الطّير .
وأعطاه القوّة ونعته بها ، وأعطاه الحكمة وفصل الخطاب .
ثمّ المنّة الكبرى والمكانة الزّلفى الّتي خصّه اللّه تعالى بها التّنصيص على خلافته . ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه وإن كان فيهم خلفاء فقال :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي منّي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الطّريق الّذي أوحي به إلى رسلي .
ثمّ تأدّب سبحانه معه فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما)

 ( عليه السّلام فيما أعطاه ) ، أي في جملة ما أعطى داود ( على طريق الإنعام عليه ترجيع الجبال معه ) أو منصوب على أنه مفعول القول بتضمينه معنى الذكر ، أي ذكر أو منصوب على أنه المفعول الثاني لأعطاه وتكون ما مصدرية أو على أنه مفعول للإنعام ( التسبيح ) بالنصب على أنه مفعول للترجيع ( فتسبح ) الجبال ( لتسبيحه ليكون له ) ، أي لداود ( عملها ) ، أي عمل الجبال لأن تسبيحها لما كان لتسبيحه منشأ منه لا جرم يكون ثوابه عائدا إليه لا إليها لعدم استحقاقها لذلك ( وكذلك الطير ) ،
أي مثل الجبال الطير في الترجيع ، وإنما كان تسبيح الجبال والطير لتسبيحه لأنه لما قوى توجهه عليه السلام بروحه إلى معنى التسبيح والتحميد سرى ذلك إلى أعضائه وقواه ، فإنها مظاهر روحه ومنها إلى الجبال والطير ، فإنها صور أعضائه وقواه في الخارج ، فلا جرم يسبحن تسبيحه ويعود فائدة تسبيحها إليه (وأعطاه) أي داود ( القوة ونعته بها ) ،
حيث قال :وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ[ ص : 17 ] ، فإن الأيد هي القوة ( وأعطاه الحكمة ) ، أي العلم بالأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها إن كان متعلقا بكيفية العمل ( وفصل الخطاب ) لبيان تلك الحكمة على الوجه المفهم .

قال رضي الله عنه :  ( ثم المنة الكبرى والمكانة ) ، أي المرتبة ( الزلفى التي خصه اللّه بها ) ، أي ميزه بها عمن سواه حيث أعطاه إياه ولم يعطهم ( التنصيص على خلافته ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ) ، وهم الأنبياء عليهم السلام ( وإن كان فيهم خلفاء فقال :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أي عن الطريق الذي أوحى به ) .
على صيغة المتكلم الواحد ( إلى رسلي ) ، إنما كان التنصيص على الخلافة المنة الكبرى والمكانة الزلفى لأنها صورة المرتبة الإلهية أعطيت للخلفاء ( ثم تأدب سبحانه معه ) ، أي مع داود عليه السلام

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ[ ص : 26 ] ولم يقل : " فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد " .
فإن قلت وآدم عليه السّلام قد نصّ على خلافته ، قلنا ما نصّ مثل التّنصيص على داود ، وإنّما قال للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [ البقرة : 30 ] ولم يقل إنّي جاعل آدم خليفة في الأرض ولو قال أيضا مثل ذلك ، لم يكن مثل قوله :" إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً" [ ص : 26 ] في حقّ داود ، فإنّ هذا محقّق وذلك ليس كذلك . وما يدلّ ذكر آدم في القصّة بعد ذلك على أنّه عين ذلك الخليفة الّذي نصّ اللّه عليه فاجعل بالك لإخبارات الحقّ عن عباده إذا أخبر .
وكذلك في حقّ إبراهيم الخليل :"قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً"[ البقرة : 124 ] ولم )

قال رضي الله عنه :   ( فقال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا) ، أي بسبب نسيانهم (يَوْمَ الْحِسابِ) [ ص : 26 ] حيث لم يسند الضلال إليه ( ولم يقل له فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد ) ، كما هو مقتضى الظاهر بل أسنده إلى الجماعة الغائبين الذين داود عليه السلام واحد منهم .
قال رضي الله عنه :  ( فإن قلت : وآدم عليه السلام ) أيضا ( قد نص ) ، أي اللّه سبحانه ( على خلافته ) فليس داود مخصوصا بالتنصيص على خلافته ( قلنا ما نص ) على خلافة آدم ( مثل التنصيص على ) خلافة ( داود وإنما قال سبحانه للملائكة ) في قصة آدم عليه السلام (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ولم يقل سبحانه ( إني جاعل آدم في الأرض خليفة ) فيحتمل أن يكون الخليفة الذي أراده اللّه سبحانه غير آدم بأن يكون بعض أولاده ( ولو قال ) أيضا : "إني جاعل آدم خليفة" .

قال رضي الله عنه :  ( لم يكن مثل قوله :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) بضمير الخطاب ( في حق داود فإن هذا أمر محقق ) ليس فيه احتمال غير المقصود ( وذلك ) ، أي قوله : إني جاعل آدم خليفة ( ليس كذلك ) ، أي مثل قوله :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً، فضمير المخاطب لا يحتمل الغير بخلاف اسم الغائب .

ثم لما كان ههنا مظنة أن يقال : ذكر آدم في القصة قرينة دالة على أن المراد بالخليفة آدم عليه السلام ، فيكون التنصيص عليه مثل التنصيص على داود عليه السلام دفعه بقوله :
قال رضي الله عنه :  ( وما يدل ذكر آدم عليه السلام في القصة بعد ذلك ) دلالة تحتمل الغير ( على أنه ) ، أي آدم عليه السلام ( عين ذلك الخليفة الذي نص اللّه عليه ) لاحتمال أن يكون بعض أولاده كما قلنا ، مع أن التنصيص الحاصل بلا قرينة ليس مثل التنصيص الواقع بها كما لا يخفى.
قال رضي الله عنه :  ( فاجعل بالك لإخبارات الحق سبحانه عن عباده ) ، فاجتهد في إدراك خصوصيتها ( إذا أخبر ) عنهم حتى يفهم ما فضل به بعضهم على بعض ( وكذلك ) الحال ( في حق إبراهيم الخليل ) عليه السلام ليس التنصيص على خلافته مثل التنصيص على خلافة داود ، فإنه تعالى قال في حق الخليل عليه السلام : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يقل خليفة ، وإن كنّا نعلم أنّ الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها ، لأنّه ما ذكرها بأخصّ أسمائها وهي الخلافة .
ثمّ في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ، وليس ذلك إلّا عن اللّه تعالى فقال له فاحكم بين النّاس بالحقّ ، وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنّه نائب عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهيّ فيهم ، وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلّا في التّنصيص عليه والتّصريح به .
وللّه في الأرض خلائف عن اللّه ، وهم الرّسل . وأمّا الخلافة اليوم فعن الرّسل لا عن اللّه .
فإنّهم ما يحكمون إلّا بما شرع لهم الرّسول لا يخرجون عن ذلك . غير أن ههنا دقيقة لا يعلمها إلّا أمثالنا . وذلك في أخذ ما يحكمون به ممّا هو شرّع للرّسول عليه السّلام .
فالخليفة عن الرّسول من يأخذ الحكم بالنّقل عنه صلى اللّه عليه وسلم أو بالاجتهاد الّذي أصله أيضا منقول عنه صلى اللّه عليه وسلم . وفينا من يأخذه عن اللّه بعين ذلك الحكم ، فتكون المادّة له من )

ولم يقل له خليفة ، وإن كنا نعلم أن الإمامة هنا خلافة ولكن ما هي مثلها لأنه ما ذكرها ) ، أي الخلافة ( بأخص أسمائها وهي الخلافة ) ، لأنها خصوص مرتبة في الإمامة .

قال رضي الله عنه :  ( ثم في داود ) عليه السلام ( من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ) بأن حكم بين الناس بدلا من المستخلف ( وليس ذلك ) المذكور من الخلافة في الحكم ( إلا عن اللّه ) تعالى ( فقال ) تعالى ( له "فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ " وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة ) بحسب الاحتمال العقلي واللفظي .
قال رضي الله عنه :  ( فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها ) ، أي في الأرض ( قبل ذلك ) من الملك والجن وغيرهما ( لا أنه نائب عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهي فيهم وإن كان الأمر كذلك وقع ) فإن آدم عليه السلام خليفة في الحكم عن اللّه بحسب الواقع ( ولكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه والتصريح به . وللّه في الأرض خلائف عن اللّه وهم الرسل ) صلوات الرحمن عليهم ، ( وأما الخلافة اليوم فعن الرسل لا عن اللّه . فإنهم لا يحكمون إلا بما شرع الرسول لا يخرجون عن ذلك غير أن هنا دقيقة لا يعلمها إلا أمثالنا وذلك ) المذكور من الدقيقة واقع .

قال رضي الله عنه :  ( في أخذ ما يحكمون به مما هو شرع ) على صيغة المصدر ( للرسول فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه صلى اللّه عليه وسلم أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه صلى اللّه عليه وسلم وفينا من يأخذه عن اللّه ) ، بلا واسطة وذلك

قال الشيخ رضي الله عنه :  (حيث كانت المادّة لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فهو في الظّاهر متّبع لعدم مخالفته في الحكم كعيسى عليه السّلام إذا نزل فحكم ، وكالنّبيّ محمّد صلى اللّه عليه وسلم في قوله :أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] .
وهو في حقّ ما يعرفه من صورة الأخذ مختصّ موافق ، هو فيه بمنزلة ما قرّره النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم من شرع من تقدّم من الرّسل بكونه قرّره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث إنّه شرع لغيره قبله .
وكذلك أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرّسول فنقول فيه بلسان الكشف خليفة اللّه وبلسان الظّاهر خليفة رسول اللّه . ولهذا مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما نصّ بخلافة عنه إلى أحد . ولا عيّنه لعلمه أنّ في أمّته من يأخذ الخلافة عن ربّه فيكون خليفة عن اللّه مع الموافقة في الحكم المشروع . فلمّا علم ذلك رسول)

لكمال متابعته للنبي صلى اللّه عليه وسلم فإنه وصل به إلى مقام يأخذ الحكم بلا واسطة كما أخذه صلى اللّه عليه وسلم بلا واسطة ( فيكون خليفة عن اللّه بعين ذلك الحكم ) لا بغيره ( فتكون المادة له من حيث كانت المادة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ) ، أي مأخذ حكمه مأخذ حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( فهو في الظاهر متبع ) له صلى اللّه عليه وسلم (لعدم مخالفته) له ( في الحكم ) ، وإن كان في الباطن مستقلا لأخذه عن اللّه بلا واسطة (كعيسى عليه السلام إذا نزل فحكم ) بما حكم به الرسول صلى اللّه عليه وسلم أخذا من اللّه كما أخذه صلى اللّه عليه وسلم.

قال رضي الله عنه :  ( وكالنبي محمد صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى :أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [ الأنعام : 90 ] حيث أمر باتباع هداهم لاتباعهم ليكون أخذا من اللّه كما أخذوا منه ، والفرق بين أخذ النبي وعيسى عليهما السلام وبين أخذ التابع بغير واسطة أن التابع وصل إلى هذا المقام بواسطة المتابعة ، وهما عليهما السلام لم يصلا إليه بواسطة متابعة أحد .

قال رضي الله عنه :  ( وهو ) أي الخليفة منا الآخذ الحكم عن اللّه ( في حق ما يعرفه ) ويتحقق به (من صورة الأخذ) من اللّه ( مختص ) بهذا الأخذ باطنا ( موافق ) للنبي صلى اللّه عليه وسلم ظاهرا ( هو ) ، أي هذا الخليفة ( فيه ) ، أي في الحكم الذي اختص بأخذه عن اللّه ( بمنزلة ما قرره النبي صلى اللّه عليه وسلم ) ، أي بمنزلة النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحكم الذي قرره ( من شرع من تقدم من الرسل بكونه قرره ) ، أي من حيث كونه قرره .

قال رضي الله عنه :  ( فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث أنه شرع لغيره قبله ، وكذلك أخذ الخليفة ) ، أي ما أخذه الخليفة ( عن اللّه عين ما أخذه منه الرسول ) ، فيتبعه الخليفة من حيث أنه أخذه عن اللّه لا من حيث أنه أخذه الرسول عن اللّه ( فنقول فيه بلسان الكشف : خليفة اللّه وبلسان الظاهر خليفة رسول اللّه ) لموافقته له في الظاهر ( ولهذا مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما نص بخلافة عنه إلى أحد ولا عينه ) بوجه غير التنصيص ( لعلمه أن في أمته ، يأخذ الخلافة عن ربه فيكون خليفة عن اللّه مع الموافقة ) له صلى اللّه عليه وسلم ( في الحكم المشروع فلما علم ذلك

قال الشيخ رضي الله عنه :  (صلى اللّه عليه وسلم لم يحجر الأمر .
فللّه خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرّسول ما أخذته الرّسل عليهم السّلام .
ويعرفون فضل المتقدّم هناك لأنّ الرّسول قابل للزّيادة : وهذا الخليفة ليس بقابل للزّيادة الّتي لو كان الرّسول قبلها .
فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرع إلّا ما شرع للرّسول خاصّة ؛ فهو في الظّاهر متّبع غير مخالف ، بخلاف الرّسل .
ألا ترى عيسى عليه السّلام لمّا تخيّلت اليهود أنّه لا يزيد على موسى ، مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرّسول ، آمنوا به وأقرّوه ، فلمّا زاد حكما ونسخ حكما كان قد قرّره موسى - لكون عيسى رسولا - لم يحتملوا ذلك لأنّه خالف اعتقادهم فيه ؟
وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه .
فطلبت قتله ، فكان من قصّته ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز عنه)

صلى اللّه عليه وسلم لم يحجر الأمر ) ، أي أمر الخلافة ، لم يحصره في الخلافة عنه ( فللّه خلفاء في خلقه ) غير الرسل ( يأخذون من معدن الرسول ) أي رسولنا صلى اللّه عليه وسلم والرسل الذين تقدموا عليه بالزمان ( ما أخذته الرسل ) ، أي رسولنا وسائر الرسل ( عليهم الصلاة والسلام ، ويعرفون فضل ) الرسول ( المتقدم هناك لأن الرسول قابل للزيادة ) ، أي لأن يزيد في الأحكام ( وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة ، لو كان الرسول قبلها ) ، أي الرسول مرفوع وكان تامة وقبلها جواب لو ، أي الزيادة التي لو وجد الرسول ، أي في زمان ذلك الخليفة كان قابلا لتلك الزيادة أو ناقصة والخبر محذوف ، أي لو كان الرسول كائنا في زمان ذلك الخليفة لقبل تلك الزيادة واقتصر على الزيادة لأن النقصان أيضا زيادة .
قال رضي الله عنه :  ( فلا يعطى من الحكم والعلم فيما شرع إلا ما شرع للرسول خاصة فهو في الظاهر متبع غير مخالف بخلاف الرسل ) ، فإنه قد تقع بينهم المخالفة .

قال رضي الله عنه :  ( ألا ترى عيسى ) عليه السلام ( لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على موسى مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول آمنوا به وأقروا به فلما زاد حكما ونسخ حكما كان قد قرره موسى لكون عيسى رسولا لم يحتملوا ذلك ، لأنه خالف اعتقادهم فيه ) ، أي اعتقاد اليهود في شأن موسى عليه السلام أن شريعته لا تنسخ أو في شأن عيسى أن شريعته لا تنسخ شريعة موسى عليهما السلام .

قال رضي الله عنه :  ( وجهلت اليهود الأمر ) ، أي أمر الرسالة ( على ما هو عليه ) من اقتضائه الزيادة والنقصان بحكم الوقت واستعداد كل قوم أرسل الرسول إليهم ( فطلبت ) اليهود ( قتله فكان من قصته ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز عنه

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعنهم . فلمّا كان رسولا قبل الزّيادة ، إمّا بنقص حكم قد تقرّر ، أو زيادة حكم ، على أنّ النّقص زيادة حكم بلا شكّ .
والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب وإنّما تزيد وتنقص على الشّرع الّذي قد تقرّر بالاجتهاد لا على الشّرع الّذي شوفه به محمّد صلى اللّه عليه وسلم .
فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم فيخيّل أنّه من الاجتهاد وليس كذلك وإنّما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النّبيّ ؛ ولو ثبت لحكم به . وإن كان الطّريق فيه العدل عن العدل فما هو معصوم من الوهم ولا من النّقل على المعنى . فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى عليه السّلام ، فإنّه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرّر فيبيّن برفعه صورة الحقّ المشروع الّذي كان عليه السّلام عليه .
ولا سيّما إذا تعارضت أحكام الأئمّة في النّازلة الواحدة . فنعلم قطعا أنّه لو نزل)

وعنهم فلما كان ) عيسى عليه السلام ( رسولا قبل الزيادة ) ، على شريعة موسى بشيء ( إما بنقص حكم قد تقرر أو زيادة حكم على أن النقص ) ، أي نقص حكم ( زيادة حكم بلا شك ) فإن نقص حكم إباحة شيء مثلا عن الشريعة يستلزم زيادة الحكم ومنه عليها وبالعكس .

قال رضي الله عنه :  ( والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ) ، أي منصب الزيادة والنقصان ( وإنما تنقص ) ، أي الخلافة ( أو تزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد ) ، أي على المجتهد أن التي لا نص فيها حقيقة سواء نقل فيها نص أو لم ينقل وإنما حكم المجتهد فيها بالرأي قياسا ( لا على الشرع الذي شوفه به محمد صلى اللّه عليه وسلم ) ، أي خوطب به مشافهة من اللّه أو من أوحى به إليه .
قال رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ) الآخذ الحكم من اللّه ( ما يخالف حديثا مّا في الحكم فيتخيل أنه من الاجتهاد وليس الأمر كذلك وإنما هذا الإمام ) يعني الخليفة الآخذ من اللّه ( لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولو ثبت لحكم به وإن كان الطريق ) ، أي طريق الإسناد ( فيه العدل عن العدل فما هو ) ، أي العدل ( معصوم ) بالرفع على لغة بني تميم ( من الوهم ) الذي هو مبدأ السهو والنسيان ( ولا من النقل على المعنى ) الذي هو مبدأ التبديلات والتحريفات .

قال رضي الله عنه :  (فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم وكذلك يقع من عيسى فإنه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر ) بتقرير الأئمة المجتهدين ( فيبين برفعه صورة الحق المشروع الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة فنعلم قطعا أنه لو نزل

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وحي لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهيّ . وما عداه وإن قرّره الحقّ فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمّة واتّساع الحكم فيها .
وأمّا قوله عليه السّلام إذا بويع لخلفتين فاقتلوا الآخر منهما فهذا في الخلافة الظّاهرة الّتي لها السّيف . وإن اتّفقا فلا بدّ من قتل أحدهما بخلاف الخلافة المعنويّة فإنّه لا قتل فيها .
وإنّما جاء القتل في الخلافة الظّاهرة وإن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام وهو خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن عدل .  فمن حكم الأصل الّذي به تخيّل وجود إلهين .)

وحي لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهي وما عداه وإن قرره الحق ) في صورة المجتهدين . حديث « إذا بويع لخليفتين » رواه مسلم والبيهقي وغيرهما
قال رضي الله عنه :  ( فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها ) .
قال تعالى : "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " [ البقرة : 185 ]
.
وقال صلى اللّه عليه وسلم بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ، وظاهر أنه لو لم يقع الاختلاف في الأحكام الاجتهادية ما كان يظهر فيها الوجوه المتكثرة التي هي صورة سعة الرحمة المجبول عليها نبينا صلى اللّه عليه وسلم ،
ولما كان لمتوهم أن يتوهم أن استصواب اختلافات الخلفاء والمجتهدين لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها ينافي ما ثبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » .

ما دفعه بقوله : ( وأما قوله صلى اللّه عليه وسلم إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما فهذا في الخلافة ) .

وفي بعض النسخ : وهذا في الخلافة وهو يصلح أن يكون جواب إما ، يعني هذا الحكم إنما هو في الخلافة ( الظاهرة التي لها السيف وإن اتفقا فلا بد من قتل أحدهما ) ، وهو آخرهما ( بخلاف الخلافة المعنوية ) الغير المقرونة بالخلافة الظاهرة ( فإنه لا قتل فيها وإنما جاء القتل ) ، أي قتل الخليفة الآخر ( في الخلافة الظاهرة وإن لم يكن لذلك الخليفة ) الظاهري الآخر.
قال رضي الله عنه :   ( هذا المقام ) ، أي مقام الخلافة وأخذ الأحكام عن اللّه كالخليفة الظاهري الأول ( وهو ) ، أي الخليفة الآخر ( خليفة رسول اللّه إن عدل ) وحينئذ يكون بين الخليفتين تخالف في رتبة الخلافة ، فإن الأول خليفة اللّه والثاني خليفة رسول اللّه .
( فمن حكم الأصل ) ، أي وجوب القتل في الآخر مع هذا التفاوت القاضي بعدم تخالفهما في الحقيقة من حكم الأصل ( الذي به ) ، أي بهذا الحكم ( يخيل ) الأصل (وجود إلهين )

فالأصل هو برهان التمانع وحكمه ، أي نتيجته وحدة الواجب تعالى فبوجوب وحدة الواجب يحكم بوجوب وحدة الخليفة الذي هو ظله ونائبه وقتل الآخر من الخليفتين فقوله : فمن حكم الأصل جزاء لقوله : وإن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام ، ويجوز أن يكون جواب أما وتكون إن في قوله : وإن لم يكن ، وصلية .
ولما أشار رضي اللّه عنه إلى الأصل الذي هو برهان التمانع أخذ في تقريره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا[ الأنبياء : 22 ] .
وإن اتّفقا فنحن نعلم أنّهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما ، فالنّافذ الحكم هو اللّه على الحقيقة ، والّذي لم ينفذ حكمه ليس بإله .
ومن ههنا نعلم أنّ كلّ حكم ينفذ اليوم في العالم أنّه حكم اللّه عزّ وجلّ ، وإن خالف الحكم المقرّر في الظّاهر المسمّى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلّا للّه في نفس الأمر ، لأنّ الأمر الواقع في العالم إنّما هو على حكم المشيئة الإلهيّة لا على حكم الشّرع المقرّر .
وإن كان تقريره من المشيئة . ولذلك نفذ تقريره خاصّة .
وأنّ المشيئة ليس لها فيه إلّا التّقرير ، لا العمل بما جاء به .)

فقال رضي الله عنه  : ( لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا وإن اتفقا ) ، أي الإلهان فإن أقل مرتبة التعدد الاثنان ، وذلك لأنه على تقدير اتفاقهما إما أن ينفذ حكم كل منهما في الآخر فلا يكون واحد منهم إلها لنفوذ حكم الآخر فيه ، وإن لم ينفذ فكذلك أيضا لعدم القدرة والعجز ، وإن نفذ حكم أحدهما دون الآخر فالنافذ الحكم هو الإله ،
فلا يكون في الآلهة تعدد أصلا وأما إن اختلفا ( فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديرا ) ، أي فرضا ( لنفذ حكم أحدهما ) فقط.

 قال رضي الله عنه :  ( فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله ومن هنا ) ، أي من مقام نفاذ كون الحكم من خواص المرتبة الإلهية ( نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم اللّه وإن خالف ) ذلك الحكم النافذ ( الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلا للّه في نفس الأمر ) .

هذا تعليل للحكم المتقدم بإعادته والاستدلال عليه . ففي الحقيقة هو تعليل بما استدل به عليه أعني قوله رضي الله عنه : ( لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة ) الإلهية ( لا على حكم الشرع المقرر ) بالمشيئة فما شاء الحق وقوعه يقع البتة ، وما لم يشأ لم يقع سواء كان الشرع قرره أو لا ( وإن كان تقريره ) ، أي تقرير الشرع المقرر أيضا ( من المشيئة ) الإلهية ،
قال رضي الله عنه :  ( ولذلك نفذ تقريره خاصة ) لا العمل به ( فإن المشيئة ) المتعلقة بتقرير الشرع ( ليس لها ) خاصة ( فيه ) ، أي في الشرع ( إلا التقرير لا العمل بما جاء به ) إلا إن تعلقت المشيئة به أيضا

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالمشيئة سلطانها عظيم ، ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذّات .
لأنّها لذاتها تقتضي الحكم . فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة فإنّ الأمر الإلهيّ إذا خولف هنا بالمسمّى معصية فليس إلّا الأمر بالواسطة لا الأمر التّكوينيّ .
فما خالف اللّه أحد قطّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة ؛ فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة فافهم .
وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنّما يتوجّه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه ، فيستحيل أن لا يكون ؛ ولكن في هذا المحلّ الخاصّ .
فوقتا يسمّى به مخالفة لأمر اللّه ، ووقتا يسمّى موافقة وطاعة لأمر اللّه ، ويتبعه لسان الحمد والذّمّ على حسب ما يكون .)

 ( فالمشيئة سلطانها ) ، أي تأثيرها في الأشياء ( عظيم ) لا يتخلف عنها ما يتعلق به ( ولهذا ) ، أي لعظم شأنها ( جعلها أبو طالب عرش الذات ) ، فإنه إذا استقرت الذات واستوت عليها بالتجلي بها نفذت حكمها في أقطار الوجود ( لأنها لذاتها ) لا لغيرها ( تقتضي الحكم ) ونفوذها وما اقتضاه الذات لا يتخلف عنها ( فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة فإن الأمر الإلهي إذا خولف ههنا بالمسمى ).
أي بما يسمى ( معصية فليس إلا الأمر بالواسطة ) المسمى بالأمر التكليفي .

قال رضي الله عنه :  ( لا الأمر التكويني فما خالف اللّه أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة فافهم . وعلى الحقيقة فأمر المشيئة ) إذا تعلقت بأفعال العباد
 ( إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر ذلك على يديه فيستحيل أن يكون ) ، أي فيستحيل من حالتي الفعل وجوده وعدمه إلا وجوده فإنه غير مستحيل بل واجب .
وفي بعض النسخ يستحيل أن لا يكون ومعناه ظاهر .

قال رضي الله عنه :  ( ولكن في هذا المحل الخاص فوقتا يسمى ) عين الفعل ( به ) ، أي بأمر المشيئة ( مخالفة لأمر اللّه ) ، إذا لم يكن موافقا للأمر التكليفي ( ووقتا يسمى موافقة وطاعة لأمر اللّه ) إذا كان موافقا له ( ويتبعه ) ، أي الفعل الذي تتعلق به المشيئة ( لسان الحمد أو الذم على حسب ما يكون ) موافقا أو مخالفا للأمر التكليفي فإن كان موافقا يحمد وإن كان مخالفا يذم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كان الأمر في نفسه على ما قرّرناه لذلك كان مآل الخلق إلى السّعادة على اختلاف أنواعها.
فعبّر عن هذا المقام بأنّ الرّحمة وسعت كلّ شيء ، وأنّها سبقت الغضب الإلهيّ .
والسّابق متقدّم ، فإذا لحقه هذا الّذي حكم عليه المتأخّر حكم عليه المتقدّم فنالته الرّحمة إذ لم يكن غيرها سبق .  فهذا معنى سبقت رحمته غضبه .
لتحكم على ما وصل إليها فإنّها في الغاية وقفت .
والكلّ سالك إلى الغاية . فلا بدّ من الوصول إليها ، فلا بدّ من الوصول إلى الرّحمة ومفارقة الغضب .  فيكون الحكم لها في كلّ واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها . فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا  ....  وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا )

قال رضي الله عنه :  (ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه ) من أنه لا يقع شيء إلا بالمشيئة الإلهية ولا يرتفع شيء إلا بها ( لذلك كان مآل الخلق ) في الآخرة ( إلى السعادة على اختلاف أنواعها ) واشتراكها في رفع العذاب عنهم ( فعبر ) الحق سبحانه ( عن هذا المقام ) ،
أي مقام كون مآل الكل إلى السعادة ( بأن الرحمة وسعت كل شيء ) فكما أن الرحمة الوجودية وسعت كل الأشياء حتى الغضب ، كذلك الرحمة المقابلة للغضب أيضا وسعتها ( وأنها ) ، أي وعبر عن هذا المقام أيضا بأنها ، أي الرحمة ( سبقت الغضب الإلهي ) سبقا يعم جميع معاني السبق من التقدم في الوجود ومن التعدي عن الشيء بعد اللحوق به ومن الغلبة والاستيلاء.

 ( والسابق ) بهذه المعاني ( متقدم فإذا لحقه ) بالاستحقاق به ( هذا ) البعد ( الذي حكم عليه المتأخر ) يعني الغضب ( حكم عليه المتقدم ) يعني الرحمة ( فنالته الرحمة ) وأخذته من يد غضب المنتقم ( إذا لم يكن غيرها ) ، أي غير الرحمة .

قال رضي الله عنه :  ( سبق فهذا معنى سبقت رحمته غضبه ، لتحكم ) ، أي الرحمة ( على من وصل إليها فإنها في الغاية وقفت ، والكل سالك إلى الغاية فلا بد من الوصول إليها ) ، أي إلى الغاية ( فلا بد من الوصول إلى الرحمة ) ، التي هي الغاية ( ومفارقة الغضب ) الذي عليه الرحمة ( فيكون الحكم لها ) ، أي الرحمة ( في كل واصل إليها ) ، أي إلى الغاية ( بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها ) ، أي بحسب درجاتهم وتفاوت طبقاتهم فيكون للبعض نعيم في عين الجحيم ولبعض آخر في الجنة ولآخر في الأعراف الذي بينهما .

قال رضي الله عنه :  ( فمن كان ذا فهم ) عظيم يورثه الذوق والكشف ( يشاهد ما قلنا ) ، شهود أعياننا

قال الشيخ رضي الله عنه :  (
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلناه ... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنا
فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد ... عليه وكن بالحال فيه كما كنا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم ... ومنا إليكم ما وهبناكم منا .
وأمّا تليين الحديد فقلوب قاسية يليّنها الزّجر والوعيد تليين النّار الحديد .
وإنّما الصّعب قلوب أشدّ قساوة من الحجارة ، فإنّ الحجارة تكسّرها وتكلّسها النّار ولا تليّنها :
وما ألان له الحديد إلّا لعمل الدّروع الواقية تنبيها من اللّه : أي لا يتّقى الشّيء إلّا بنفسه ، فإنّ الدّرع يتّقى بها السّنان والسّيف والسّكّين والنّصل ، فاتّقيت الحديد بالحديد .
فجاء الشّرع المحمّديّ بأعوذ بك منك . فافهم ، فهذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرّحيم .
واللّه الموفّق .)

قال رضي الله عنه :  (وإن لم يكن ) له ( فهم فيأخذه عنا ) أخذا تقليديا وإيمانيا ( فما ثمة ) ، أي في نفس الأمر ( إلا ما ذكرناه فاعتمد . . عليه وكن بالحال فيه ) ، أي فيما ذكرناه يعني اجتهد حتى يصير حالك ولا تكتف بمجرد التقليد ( كما كنا ) الفعل منسلخ عن الزمان ، أي كما نحن بالحال فيه ( فمنه ) ، أي من الحق تعالى نزل ( إلينا ) وفاض علينا ( ما تلونا عليكم . . ومنا ) ، نزل ( إليكم ما وهبناكم منا ) فمنا ثانيا تأكيدا للأول أو متعلقا بوهبناكم من أحوالنا التي نزلت إلينا من الحق سبحانه .

قال رضي الله عنه :  ( وأما تليين الحديد فقلوب قاسية ) ، أي فتليين قلوب قاسية ( يلينها الزجر والوعيد مثل تليين النار ) ،أي مثل تليين النار ( الحديد وإنما الصعب قلوب أشد قسوة من الحجارة فإن الحجارة تكسرها أو تكلسها النار ) ، أي تجعلها كلسا ، وهي النورة .

قال رضي الله عنه :  ( ولا تلينها وما ألان ) ، أي الحق سبحانه ( له ) ، أي لداود عليه السلام ( الحديد إلا لعمل  الدروع يتقى به السنان والسيف والسكين والنصل ) ، وكلها حديد كالدرع .

قال رضي الله عنه :  ( فاتقيت الحديد بالحديد . فجاء الشرع المحمدي بـ "أعوذ بك منك" . فهذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرحيم ) ،
فينبغي أن يتقي من الاسم المنتقم بالرحيم ( واللّه الموفق ) الجواد المفضل الكريم .

تم الفص الداودي
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment