Sunday, January 19, 2020

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن ابن أحمد ابن محمد الجامي على متن فصوص الحكم للشيخ الأكبر
الفصّ اليونسي
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ هذه النّشأة الإنسانيّة بكمالها روحا وجسما ونفسا خلقها اللّه على صورته ، فلا يتولّى حلّ نظامها إلّا من خلقها ، إمّا بيده - وليس إلّا ذلك - أو بأمره .
ومن تولّاها بغير أمر اللّه فقد ظلم نفسه وتعدّى حدّ اللّه فيها وسعى في خراب ما أمره اللّه بعمارته .)
فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
لما نفس اللّه سبحانه بنفسه الرحماني عن كرب يونس عليه السلام بتخليص نفسه القدسية عن توهم خراب صورته الجسمانية وعدم نشأته العنصرية المانعين لها عن الوصول بكمالها حين ألقاه من بطن الحوت إلى ساحل اليم ، وصف حكمته بالنفسية بسكون الفاء كما ذهب إليها أكثر الشارحين ، أو النفسية بفتحها كما تشهد بها النسخة المقروءة على الشيخ رضي اللّه عنه .
وظهر من ذلك وجه تصدير قصته عليه السلام بما يدل على وجوب المحافظة للنشأة الإنسانية عن هدمها وحل نظامها حيث قال :
و ( اعلم أن ) هذه ( النشأة الإنسانية بكمالها ) ، أي بتمامها ( روحا وجسما ونفسا خلقها اللّه على صورته ) الجامعة بين التنزيه الذي تدركه الروح والتشبيه الذي تحكم به القوى الجسمانية ، والجمع بينهما الذي ينكشف للطيفة القلبية الجامعة بين أحكام الروح والجسم المتوسط بينهما ، وكأنه رضي اللّه عنه أراد بهذه اللطيفة النفس وإن كانت مسماة القلب في عرفهم ،
وهي في الحقيقة غير الروح لكن باعتبار تفاعل واقع بين صفاته التجريدية الذاتية وبين أحوالها التعلقية العرضية واستقرارها على حالة متوسطة اعتدالية من غير غالبية فاحشة ولا مغلوبية كذلك كما تقول الحكماء في المزاج ( فلا يتأتى حل نظامها إلا من خالقها ) ، وهو اللّه سبحانه ( إما بيده ) ، أي بغير واسطة الأمر التشريعي التكليفي ( وليس ) في الحقيقة ( إلا ذلك ) لأن الكل بمشيئته ( أو بأمره ) التشريعي التكليفي ( ومن تولاها بغير أمر اللّه فقد ظلم نفسه وتعدى حدود اللّه فيها ) ، أي تعدى ما عين اللّه وأوجبه عليه في شأنها من حفظها ( وسعى في خراب ما أمره اللّه بعمارته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم أنّ الشّفقة على عباد اللّه أحقّ بالرّعاية من الغيرة في اللّه.
أراد داود بنيان البيت المقدس فبناه مرارا ، فكلّما فرغ منه تهدّم ، فشكا ذلك إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدّماء ، فقال داود يا ربّ ألم يكن ذلك في سبيلك ؟ قال : بلى ولكنّهم أليسوا عبادي ؟ فقال :
يا ربّ فأجعل بنيانه على يدي من هو منّي فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ ابنك سليمان يبنيه . فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النّشأة الإنسانيّة ، وأنّ إقامتها أولى من هدمها . ألا ترى عدوّ الدّين قد فرض اللّه في حقّهم الجزية والصّلح إبقاء عليهم ، وقال :وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [ الأنفال : 61 ] ؟ .
ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرّع لوليّ الدّم أخذ الفدية أو العفو ؟
فإن أبى فحينئذ يقتل ؟ ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدّم جماعة فرضي واحد بالدّية أو عفاه ، وباقي الأولياء لا يريدون إلّا القتل ، فكيف يراعى من عفا ويرجّح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا ؟ ألا تراه عليه السّلام يقول في صاحب النّسعة « إن قتله كان مثله » ؟)

واعلم أن الشفقة على خلق اللّه أحق بالرعاية من الغيرة في اللّه ) بإجراء الحد والمفضية إلى هلاكهم ( أراد داود عليه السلام بنيان البيت المقدس فبناه مرارا فكلما فرغ منه تهدم فشكا ذلك إلى اللّه فأوحى اللّه إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء فقال داود : يا رب ألم يكن ذلك ) ، أي سفك الدماء.
( في سبيلك قال : بلى ولكنهم أليسوا عبادي فقال : يا رب فاجعل بنيانه على يدي من هو مني فأوحى اللّه إليه أن ابنك سليمان يبنيه . والغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية وأن إقامتها أولى من هدمها . ألا ترى عدو الدين قد فرض اللّه في حقهم الجزية والصلح إبقاء عليهم .

وقال :وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [ الأنفال : 61 ] الجنوح الميل وضمير لها للسلم فإنه مؤنث سماعي .
( ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع لولي الدم أخذ الفدية أو العفو ؟ عنه فإن أبى فحينئذ يقتل . ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة فرضي واحد بالدية أو عفى وباقي الأولياء لا يريدون إلا القتل كيف يراعى من عفا ويرجح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا ؟ ألا تراه عليه السلام يقول في صاحب النسعة إن قتله كان مثله ؟ ) .
النسعة بكسر النون حبل طويل عريض يشبه الحزام وقصبتهما ، إنها كانت لرجل وجد مقتولا فرأى وليه نسعته في يد رجل فأخذه بدم صاحبها فلما قصد قتله ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن قتله كان

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا تراه تعالى يقول :وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فجعل القصاص سيّية ، أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا .فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[ الشورى : 40 ] لأنّه على صورته .
فمن عفا عنه ولم يقتله . فأجره على من هو على صورته لأنّه أحقّ به إذ أنشأه له .
وما ظهر بالاسم الظّاهر إلّا بوجوده فمن راعاه إنّما يراعي الحقّ وما يذمّ الإنسان لعينه وإنّما يذمّ الفعل منه ، والفعل ليس عينه ، وكلامنا في عينه .
ولا فعل إلّا للّه ؛ ومع هذا ذمّ منها ما ذمّ وحمد ما حمد .
ولسان الذّمّ على جهة الغرض مذموم عند اللّه تعالى .
فلا مذموم إلا ما ذمّه الشّرع ، فإنّ الشّرع لحكمة يعلمها اللّه أو من أعلمه اللّه كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النّوع وإرداعا للمتعدّي حدود اللّه فيه)
مثله ". رواه أبو داود  : « عن وائل بن حجر قال كنت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النسعة قال فدعا ولي المقتول فقال أتعفو قال لا قال أفتأخذ الدية قال لا قال أفتقتل قال نعم قال اذهب به فلما ولى قال أتعفو قال لا قال أفتأخذ الدية قال لا قال أفتقتل قال نعم قال اذهب به فلما كان في الرابعة قال أما إنك إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه قال فعفا عنه قال فأنا رأيته يجر النسعة " . والحديث رواه غير أبو داود .

، أي في الظلم إذ لا يثبت القصاص شرعا بمجرد وجدان النسعة في يد آخر وكلاهما هدم بنيان الرب ( ألا تراه تعالى يقول :وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فجعل القصاص سيئة أي لسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا ) ،
وما يقال : إنما يقع أمثال ذلك على سبيل المشاكلة فلا ينافي القصد من البلغاء إلى مثل تلك المعاني والخواص ( فمن عفى وأصلح فأجره على اللّه لأنه ) ، أي المعفو عنه ( على صورته ) ، أي صورة الحق ( فمن عفا عنه ولم يقتله فأجره على من هو ) ، أي المعفو عنه ( على صورته ) ، وهو الحق سبحانه ( لأنه ) ، أي الحق سبحانه ( أحق به ) ، أي بالعبد المعفو عنه ( إذ أنشأه له ) ، أي لنفسه حتى يظهر به أسماءه وصفاته .

( وما ظهر الحق باسم الظاهر إلا بوجوده فمن راعاه ) ، بأن عفى عنه ولم يقتله ( فإنما يراعي الحق ) بإبقاء مظهره حتى يتمكن من الظهور ( وما يذم الإنسان لعينه وإنما يذم لفعله وفعله ليس عينه وكلامنا في عينه ولا فعل إلا للّه ومع هذا ذم منها ) ، أي من الأفعال .
( ما ذم وحمد منها ما حمد ، ولسان الذم على جهة الغرض ) بأن ذم أحد شيئا لا يوافق غرضه ( مذموم عند اللّه بخلاف ما ذمه الشرع ) ، وهذا صريح في أن حسن الأشياء وقبحها شرعي لا عقلي ( فإن ذم الشرع لحكمة يعلمها اللّه أو من أعلمه اللّه كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النوع وإرداعا للمتعدي حدود اللّه فيه ) ، أي في هذا النوع .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ[ البقرة : 179 ] وهم أهل لبّ الشيء الذّين عثروا على سرّ النّواميس الإلهيّة والحكميّة .
وإذ علمت أنّ اللّه راعى هذه النّشأة وإقامتها وإدامتها فأنت أولى بمراعاتها إذ لك بذلك السّعادة ، فإنّه ما دام الإنسان حيّا ، يرجى له تحصيل صفة الكمال الّذي خلق له .
ومن سعى في هدمها فقد سعى في منع وصوله لما خلق له .
وما أحسن ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر اللّه " .)

وقيل : المعنى فيه أي في القصاص ورد به قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِوهم أهل لب الشيء الذين عثروا ) ، أي اطلعوا ( على أسرار النواميس الإلهية ) التي يحكم بها الشرع ( والحكمية ) التي يقتضيها العقل .
(وإذا علمت أن اللّه راعى هذه النشأة وإقامتها وإدامتها فأنت أولى بمراعاتها إذ لك بذلك ) ، أي بأن تراعيها ( السعادة ) ، من وجهين ( فإنه ما دام الإنسان حيا يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له ) ، فإذا أعنته على ذلك رجع أثر الإعانة إليك فذلك سعادة وأمنت من غائلة ترك الإعانة وذلك سعادة أخرى ( ومن سعى في هدمها فقد سعى في منع وصوله لما خلق له ) ، بل في منع وصول نفسه أيضا إليه لأنه يجازى بمثل ما فعل إما بالقصاص أو بغيره .

( وما أحسن ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ) ترغيبا للعبد فيما يوصله إلى ما خلق له وتفضيلا لهذا الموصل على هدم النشأة الإنسانية ، وإن كان بالأمر وكان للهادم رتبة إعلاء كلمة اللّه وثواب الشهادة .
( « ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر اللّه »  ) ، "" عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر اللّه تعالى فقال معاذ بن جبل رضي اللّه عنه ما شيء أنجى من عذاب اللّه من ذكر اللّه " . رواه الترمذي وابن ماجة  و غيرهما ""
أي ما هو خير لكم مما ذكر ، ذكر اللّه سبحانه

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وذلك أنّه لا يعلم قدر هذه النّشأة الإنسانيّة إلّا من ذكر اللّه الذّكر المطلوب منه ، فإنّه تعالى جليس من ذكره ، والجليس مشهود الذاكر ومتى لم يشاهد الذّاكر الحقّ الّذي هو جليسه فليس بذاكر .  فإنّ ذكر اللّه سار في جميع العبد .
لا من ذكره بلسانه خاصّة . فإنّ الحقّ لا يكون في ذلك الوقت إلّا جليس اللّسان خاصّة ، فيراه اللّسان من حيث لا يراه الإنسان بما هو راء .  فافهم هذا السّرّ في ذكر الغافلين .
فالذّاكر من الغافل حاضر بلا شكّ ، والمذكور جليسه فهو يشاهده والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر فما هو جليس الغافل فإنّ الإنسان كثير ما هو أحديّ العين ، والحقّ أحديّ العين كثير بالأسماء الإلهيّة : كما أنّ الإنسان كثير بالأجزاء : وما يلزم من ذكر جزء ذكر جزء آخر .)

(وذلك ) ، أي حسن ما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم بحيث يقضي منه العجب ( أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر اللّه الذكر المطلوب منه ) ، فيحصل فيها ما لا سعادة فوقه وهو سعادة شهود الحق سبحانه ، فنبه صلى اللّه عليه وسلم على أن ما يحصل للذاكر في هذه النشأة أفضل مما يحصل في هدمها ، وإن كان واقعا بموجب الأمر مثمرا لسعادات عظيمة هي الفوز بالجنة والتلذذ بملاذها من الحور والقصور وغيرها ، فإبقاء هذه النشأة أفضل من هدمها وإن كان بالأمر .

ثم شرع رضي اللّه عنه في بيان ما يحصل للذاكر في هذه النشأة فقال : ( فإنه تعالى جليس من ذكره والجليس مشهود الذاكر ومتى لم يشاهد الذاكر ) ، فجمع أجزاء وجوده ( الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر فإن ذكر اللّه سار في جميع ) أجزاء ( العبد ) ، فالذاكر له من ذكر بجميع أجزائه ( لا من ذكره بلسانه خاصة فإن الحق لا يكون في ذلك الوقت إلا جليس اللسان خاصة فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان بما هو ) ، أي اللسان راء به وهو البصر وفيه إشارة إلى أن لكل شيء نصيبا من الصفات السبعة الكمالية ولكن لا على الوجه المعهود ، ولذلك قال بما هو ( راء ) . )فافهم هذا السر في ذكر الغافلين). 

(فالذاكر ) الذي هو اللسان ( من الغافل حاضر بلا شك والمذكور جليسه فهو ) ، أي الذاكر ( يشاهده ) ، أي المذكور ( والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر فما هو ) ، أي الحق
( جليس الغافل فإن الإنسان ما هو أحدي العين والحق أحدي العين كثير بالأسماء الإلهية ، كما أن الإنسان كثير بالأجزاء ولا يلزم من ذكر جزء ما ذكر جزء آخر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالحقّ جليس الجزء الذاكر منه والآخر متّصف بالغفلة عن الذّكر . ولا بدّ أن يكون في الإنسان جزء يذكر به فيكون الحقّ جليس ذلك الجزء فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية .
وما يتولّى الحقّ هدم هذه النّشأة بالمسمّى موتا وليس بإعدام كلّيّ وإنّما هو تفريق ، فيأخذه إليه ، وليس المراد إلا أن يأخذه الحقّ إليهوَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود : 123 ] فإذا أخذه إليه سوّى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدّار الّتي ينتقل إليها ، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال .  فلا يموت أبدا ، أي لا تفرّق أجزاؤه .
وأمّا أهل النّار فمآلهم إلى النّعيم ، ولكن في النّار إذ لا بدّ لصورة النّار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها ، وهذا نعيمهم .)

فالحق جليس الجزء الذاكر منه و ) الجزء ( الآخر متصف بالغفلة عن الذكر ولا بد أن يكون في الإنسان جزء يذكر الحق به فيكون الحق جليس ذلك الجزء فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية ) الإلهية كما يحفظ العالم بوجود الكامل الذي يذكر اللّه في جميع أحيانه كما جاء في الحديث : « لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول : اللّه اللّه » .رواه مسلم وغيره
ولما ذكر أن العبد محفوظ ما دام جزء منه ذاكرا كان محال أن يقول : كيف يكون محفوظا وقد يطرأ عليه الموت فدفعه بقوله : ( وما يتولى الحق هدم هذه النشأة بالمسمى موتا فليس بإعدام ) له بالكلية ( وإنما هو ) أي الموت ( تفريق ) بين الجسم والروح ( فيأخذه ) ، أي العبد من حيث روحه ( إليه وليس المراد ) ، أي مراد العبد ( إلا أن يأخذه الحق ) ويخلصه من عالم الكون والفساد ( إليه ، وإليه يرجع الأمر كله فإذا أخذه ) الحق ( إليه ) ، أي إلى نفسه ( سوى له مركبا ) أي بدنا يكون له بمنزلة المركب ( غير هذا المركب ) الذي هو بدنه الصغرى ( من جنس الدار التي ينتقل إليها ) ، إما بدنا مثاليا كما في البرزخ أو بدنا أخرويا بعد الحشر شبيها بالبدن العنصري في دار الجزاء الجنة أو النار ( وهي دار البقاء لوجود الاعتدال ) الحقيقي الذي يحفظ الأجزاء عن الانفكاك ( فلا يموت أبدا أي لا تتفرق أجزاؤه ) ، كما قال تعالى :خالِدِينَ فِيها أَبَداً[ النساء : 57 ] .
( وأما أهل النار ) الخالدون فيها ( فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها وهذا نعيمهم ) . وقد جاء

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنعيم أهل النّار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل اللّه حين ألقي في النّار فإنّه عليه السّلام تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرّر من أنّها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد اللّه فيها ومنها في حقّه .
فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصّورة اللّونيّة في حقّه وهي نار في عيون النّاس . فالشّيء الواحد يتنوّع في عيون النّاظرين : هكذا هو التّجلّي الإلهيّ .
فإن شئت قلت إنّ اللّه تجلّى مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت إنّ العالم في النّظر)

في الحديث : « سيأتي على جهنم زمان ينبت من قعرها الجرجير » ،
"" عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الحوك بقلة طيبة كأني أراها نابتة في الجنة، والجرجير بقلة خبيثة كأني أراها نابتة في النار".
إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة ابن حجر العسقلاني.
وأخرج البزار عن ابن عمرو قال: "يأتي على النار زمان تخفق الرياح أبوابها فليس فيها أحد من الموحدين".
قال القرطبي: المراد بالنار الطبقة العليا التي هي للعصاة من أهل التوحيد، وقد قيل إنه ينبت على شفيرها الجرجير. تحقيق كتاب البدور السافرة  للسيوطي"".

( فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق ) ، أي بعد استيفاء الاسم المنتقم حقوق اللّه وحقوق الخلق منه ( كنعيم خليل اللّه عليه السلام حين ألقي في النار فإنه عليه السلام تعذب برؤيتها وبما تعود في علمه وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد اللّه فيها ومنها ) ومن راحته في صورة العذاب ونعيمه في عين الجحيم ( فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة الكونية ) ، أي المرئية على كون النار دون أثرها ( في حقه) ، أي في حق خليل اللّه عليه السلام ( وهي نار في عيون الناس ) ، ونور وراحة له عليه السلام ( فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين هكذا هو التجلي الإلهي ) فإنه واحد في ذاته مختلف القوابل فيرى متنوعا ، وكما أن التجلي الإلهي واحد في ذاته بحسب القوابل ،
فيرى كذلك العالم الواحد في نفسه مختلف بحسب الناظرين فيرى متبوعا ، فإنه إذا تجلى الحق فيه على الناظر بأسمائه الحجابية ترى أعيانه صورا حجابية متباينة مباينة للحق سبحانه ويبقى الناظر فيه محجوبا عن مشاهدة الحق سبحانه ،

وإذا تجلى فيه على الناظر بكثرته الاسمائية يرى أعيانها مجالي أسمائه ويصير الناظر حينئذ مكاشفا بأسمائه وصفاته ، وإذا تجلى فيه عليه بوحدته الذاتية ترى أعيانه مع أعيانه مع كثرتها واحدة ، ويصير الناظر فيه مشاهدا للحق سبحانه بوحدته الذاتية إلى غير ذلك من صور التجليات ، إذا عرفت هذا ظهر عليك أن الأمر الواحد الذي هو النار في هذه الصورة يصلح أن تجعل مثالا للتجلي الوحداني الإلهي المتنوع بحسب القوابل ، وأن يجعل مثالا للعالم الواحد في نفسه المحتمل ، لأن يظهر على الناظر بالصور المذكورة وغيرها ، وإذا نظرت إلى هذين الاحتمالين ( فإن شئت ) جعلته مثالا للتجلي الوحداني الإلهي .
( قلت : إن اللّه سبحانه تجلى ) بصور متنوعة ( مثل هذا الأمر ) يعني النار التي هي في

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إليه وفيه مثل الحقّ في التّجلّي .  فيتنوّع في عين النّاظر بحسب مزاج النّاظر أو يتنوّع مزاج النّاظر لتنوّع التّجلّي وكلّ هذا سائغ في الحقائق .
فلو أنّ الميّت - والمقتول - أيّ ميّت كان ، أو أيّ ، مقتول كان - إذا مات أو قتل لا يرجع إلى اللّه ، لم يقض اللّه بموت أحد ولا شرّع قتله . فالكلّ في قبضته فلا فقدان في حقّه .
فشرع القتل وحكم بالموت لعلمه بأنّ عبده لا يفوته : فهو راجع إليه . على أنّ قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُأي فيه يقع التّصرّف ، وهو المتصرّف ، فما خرج عنه شيء لم يكن عينه ، بل هويّته هو عين ذلك الشّيء .
وهو الّذي يعطيه الكشف في قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ[ هود : 123 ] .)

عين الخليل عليه السلام نور . وفي أعين الناظرين نار ( وإن شئت ) جعلته مثالا للعالم و ( قلت إن العالم في النظر ) المنتهي ( إليه و ) النافذ ( فيه ) بملاحظة تفاصيل أحواله المستورة فيه ( مثل الحق في التجلي ) ، أي تجليه بحسب القوابل .
( فيتنوع ) ، أي العالم ( في عين الناظر بحسب مزاج الناظر ) ، واستعداده لظهوره عليه كما عرفت ، ولما كان مزاج الناظر بحسب استعداده الكلي أمرا واحدا يتنوع بحسب تنوع التجلي المتنوع بحسب استعداداته الجزئية يصلح أن تجعل النار في الصورة المذكورة مثالا له وإلى هذه الصلاحية أشار بقوله : ( أو يتنوع مزاج الناظرين لتنوع التجلي فكل ) واحد من ( هذا ) المذكور من التمثيلات الثلاثة سائغ في معرفة ( الحقائق ) وبيانها .

( فلو أن الميت أو المقتول ، أي ميت كان أو أي مقتول كان ) سعيدا أو شقيا ( إذا مات أو قتل لا يرجع إلى اللّه لم يقض اللّه بموت أحد ولا شرع قتله فالكل في قبضته ) ،
وتحت حكم إحاطته ( فلا فقد في حقه فشرع القتل ( ، على ألسنة أوليائه ( وحكم بالموت ) ، في سابق قضائه ( لعلمه بأن عبده لا يفوته فهو راجع إليه ) ، بزواله عن الظاهر وانتقاله إلى الباطن وهذا ، أي رجوعه إليه وهو الظاهر ذوقا وكشفا ( على أن هذا ) الرجوع منطو ( في قوله تعالى :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ) [ هود : 123 ] ، أي أمر الوجود
(
كله . أي فيه يقع التصرف فهو المتصرف فيه ) ، يعني القابل . ( وهو المتصرف ) ، يعني الفاعل وأمر الوجود منحصر في القابل والفاعل ( فما خرج عنه شيء لم يكن عينه بل هويته عين ذلك الشيء وهو الذي يعطيه الكشف الصحيح في قوله تعالى :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُكله ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (والتّوفيق من اللّه تعالى ) .

فالضمير في إليه إشارة إلى هويته الغيبية ،
والرجوع لغة هو : العود إلى ما كان منه البدء . فدلت هذه الآية على أن هويته العينية مبدأ الأشياء كلها ومرجعها .
ومبدئية شيء لشيء على أنواع :
أحدها : أن يتنزل المبدأ عن صرافة إطلاقه بظهور شؤونه المستجنة في غيب ذاته وتقيده بها فيصير أمرا مقيدا مغايرا بالتقييد والإطلاق ،
ورجوع هذا المقيد إلى المبدأ بانسلاخه عن الصفات التقييدية بعودها من الظاهر إلى الباطن ، فحمل المبدئية والمرجعية على هذا الاحتمال وجعل ضمير الغائب إشارة إلى الهوية الغيبية مما يعطيه الكشف.
فإن العقل لا يستقل به واللّه أعلم .
تم الفص اليونسي
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment