Sunday, January 19, 2020

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
هذا فص الحكمة اليونسية ، ذكره بعد حكمة داود عليه السلام لأنه تهذيب فيها وتكميل لها وبيان لاحترام النوع الإنساني مطلقا بقدر الإمكان ، اعتبارا للخلافة العامة الثابتة لكل مكلف فيما يملك من الحقوق ، وإن جار فيها وظلم وتجاوز الحد ، فإنه مسؤول عن ذلك بعد عزله بالموت .

قال تعالى :"وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ"[ الحديد : 7 ] . وقال تعالى :"وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ"[ الأنعام : 165 ] ، وقال تعالى :"إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ"[ الأنعام : 133 ] . وقال تعالى ":وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ"[ الأعراف :69 ] وقال تعالى :"وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ" [ الأعراف : 74 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع بني آدم خلفاء في الأرض ،
لكن ليست الخلافة الكاملة في الظاهر كخلافة الملوك أو في الظاهر والباطن كخلافة الأنبياء عليهم السلام وورثتهم من الأولياء
.
(فص حكمة نفسية) ، أي منسوبة إلى النفس الإنسانية (في كلمة يونسية) ، إنما اختصت حكمة يونس عليه السلام بكونها نفسية ، لأن الكلام فيها على النفس الإنسانية ولزوم احترامها وخلاصها من ظلمة المعصية على حسب الإمكان كما تخلصت نفس يونس عليه السلام من نفس الحوت الذي ابتلعته ونجاه اللّه تعالى من الظلم الثلاثة ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت . 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ هذه النّشأة الإنسانيّة بكمالها روحا وجسما ونفسا خلقها اللّه على صورته ، فلا يتولّى حلّ نظامها إلّا من خلقها ، إمّا بيده - وليس إلّا ذلك - أو بأمره . ومن تولّاها بغير أمر اللّه فقد ظلم نفسه وتعدّى حدّ اللّه فيها وسعى في خراب ما أمره اللّه بعمارته ).
(اعلم) يا أيها السالك (أن النشأة)، أي الخلقة (الإنسانية) الآدمية (بكمالها) ظاهرا وباطنا (روحا)، أي من جهة الروح (وجسما)، أي من جهة الجسم (ونفسا)،

أي من جهة النفس وكذلك من جهة العقل (خلقها)، أي تلك النشأة (اللّه) تعالى (على صورته) كما ورد في الحديث : « أن اللّه خلق آدم على صورته » .
وفي رواية : « على صورة الرحمن »  وصورة الشيء مجموع صفاته ومدلولات أسمائه إذا سألت أحدا عن صورة شيء وأردت منه بيانها إذا كانت غائبة عنك لتعرفها ، فإنه يأتي لك بصفات ذلك الشيء ومدلولات أسمائه ،
فيقول لك مثلا ، الورد أحمر طيب الرائحة مستدير الورق في وسطه صفرة أخضر الساق مشوكه ونحو ذلك ، فالذي ذكره لك صورته ، وأنت تعلم أن الورد جسم مخلوق ، فتتخيل معنى الصفات التي ذكرها لك على حسب فهمك ، فتصير عارفا بالورد وصورة كل شيء عندك من محسوس ومعقول مناسبة لذلك الشيء ،
وإذا سألت أحدا عن صورة أمر معقول كمسألة ونحوها فإنه يأتيك بصفاتها أيضا ، فتفهمها وتتخيلها على حسب قوتك العقلية ، فتكون عارفا بتلك المسألة ،
وكذلك إذا أردت أن تعرف صورة ما ليس بمحسوس ولا معقول ولا جسم ولا عرض ، فإنه يوصف لك بصفاته ، فإذا فهمتها على حسب ما هو عندك من أنه ليس بمحسوس ولا معقول ولا جسم ولا عرض ، فقد عرفت ذلك الشيء وميزته عن غيره ،
وأما إذا فهمتها على غير ما هو عنك لذلك الشيء بأن فهمتها على حد ما هي منسوبة إلى غير ذلك الشيء من المحسوسات أو المعقولات أو الأجسام أو الأعرض ،
فقد أدركت ذلك الفهم إلى الضلالة في ذلك الشيء وإلى تناقضك فيه ، من أنك تعرف أنه ليس بمحسوس ولا معقول ولا جسم ولا عرض ،
ومع ذلك تفهم أوصافه أنها مثل أوصاف المحسوس أو المعقول أو الجسم أو العرض ، فيكون عندك في نفسك من تلك الصفات المذكورة لك صورة تخالف صورة ذلك الشيء التي أرادها الواصف لك وهو الجهل الفاحش والخبث القبيح ،
فاعرف صورة اللّه تعالى الواردة في الحديث التي هي مجموع صفاته سبحانه ومدلولات أسمائه ، فإن الشرع شرع لك ذلك وبسط الكلام فيه في الكتاب والسنة ،
وأنت تعلم عقلا أن الخالق لا يساوي المخلوق ولا من وجه أصلا ، إذ لو ساواه من وجه ، لجاز في حقه ما جاز في حق ذلك المخلوق من ذلك الوجه ، الجائز في حق المخلوق الفناء والزوال من كل وجه ،
والخالق تعالى لا يجوز في حقه ذلك وإلا لكان مخلوقا مثله والمخلوق عاجز ،  والعاجز ليس بخالق ، فأضيف إلى هذا التنزيه العقلي التشبيه الشرعي ، وخالف الفلاسفة ومن تبعهم في إنكارهم واقتصارهم على التنزيه العقلي حتى تبعتهم المعتزلة في إنكار رؤية الرب تعالى في الآخرة .

وافهم الصفات الشرعية الواردة في حق اللّه تعالى على حسب التنزيه العقلي تكن من المؤمنين العارفين ، وتحقق أن صورة اللّه تعالى هي مجموع صفاته ومدلولات أسمائه الواردة في الكتاب والسنة ، ولا تفهم شيئا من ذلك كما تفهمه إذا نسب إلى المخلوق ، تعرف حينئذ معنى أن اللّه تعالى خلق آدم على صورته ،
وكذلك كل إنسان من أولاد آدم مخلوق على الصورة الإلهية أي مخلوق له أعضاء جسمانية وقوى روحانية مسماة بأسماء الصفات والأسماء الإلهية ، وكل عضو منها وقوّة منها مظهر لما يناسبها من الصفات والأسماء الإلهية ،
والجميع مظهر للجميع حتى الذات للذات ، فالصورة الآدمية مظهر للصورة الإلهية ، والحضرة الربانية عند قوم ، وحجابه عليها عند قوم آخرين .

(فلا يتولى حل) ، أي إزالة (نظامها) ، أي هذه النشأة الإنسانية وإماتتها (إلا من خلقها) وهو اللّه تعالى (إما بيده ) سبحانه وهو الموت حتف الأنف وغيره (وليس) الواقع (إلا ذلك) كما قال تعالى :"يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها"[ الزمر : 42 ]
وإن كان بواسطة ملك الموت ولكن لما كان التأثير له تعالى وحده ولا تأثير لملك الموت في ذلك لم يذكره تعالى في هذه الآية في قوله سبحانه :"قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ"[ السجدة : 11 ] لم يذكر سبحانه أنه هو المتوفي لهم وذكر ملك الموت ،
لأنه خطاب للكافرين وهم لا يعرفون اللّه تعالى ولكن يعرفون المخلوق ، فنسبت الوفاة إليه مناسبة لهم (أو بأمره )، أي اللّه تعالى كقتل المحصن بالحد ، والقتل بالقصاص ، وقتل أهل الحرب والردة ونحو ذلك .

(ومن تولاها )، أي تلك الفعلة في هذه النشأة الإنسانية (بغير أمر اللّه) تعالى بأن قتل أحدا من غير حق ببغي أو قطع طريق أو نحوه (فقد ظلم) ذلك المتولي للقتل نفسه المكلفة شرعا بالكف عن مثل ذلك (وتعدى حد اللّه) تعالى (فيها ) ،
أي في تلك الفعلة المذكورة وسعى في خراب من أمر اللّه تعالى بعمارته من هذه البنية الآدمية والنشأة الإنسانية ، قال تعالى :وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً[ المائدة : 32 ] .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أنّ الشّفقة على عباد اللّه أحقّ بالرّعاية من الغيرة في اللّه .  أراد داود بنيان البيت المقدس فبناه مرارا ، فكلّما فرغ منه تهدّم ، فشكا ذلك إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدّماء ،
فقال داود يا ربّ ألم يكن ذلك في سبيلك ؟  قال : بلى ولكنّهم أليسوا عبادي ؟
فقال: يا ربّ فأجعل بنيانه على يدي من هو منّي فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ ابنك سليمان يبنيه.)

(واعلم) يا أيها السالك (أن الشفقة) من الإنسان (على عباد اللّه) تعالى سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ولو في حد أو قصاص ونحو ذلك (أحق) وأولى (بالرعاية) لها (من الغيرة في اللّه) تعالى بالقتل وسفك الدم .
وأما قوله تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ"[ النور : 2 ] ،
وذلك في غير القتل وسفك الدم من أنواع الحدود والتعازير وغيرهما وقد ورد في الخبر أنه (أراد داود) عليه السلام (بنيان بيت المقدس فبناه مرارا فكلما فرغ منه )،
أي من بنيانه تهدم ولم يستقم بنيانه على يديه فشكى ، أي داود عليه السلام ذلك ،
أي تهدم البنيان إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه قائلا إن بيتي هذا لا يقوم ،
أي يثبت بنيانه على يدي من سفك الدماء ، وذلك أن داود عليه السلام مع طالوت في بني إسرائيل غزا الجبابرة الكنعانيين وسفك دماءهم بأمر اللّه تعالى وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك (فقال داود) عليه السلام (يا رب ألم يكن ذلك) ،
أي سفك دماء الجبارين (في سبيلك) ،
أي طريقك المشروع لنا بالوحي منك طلبا لمرضاتك وامتثالا لأمرك .
قال اللّه تعالى: (" بلى") ، يعني كان ذلك كذلك (ولكنهم) ،
أي المسفوك دماؤهم من الكفار الجبارين (أليسوا عبادي) ،
أي أنا خلقتهم ورزقتهم وأقمتهم فيما أردت من الأحوال وخلقت لهم ما شئت من الأعمال والأقوال .
(قال) داود عليه السلام عند ذلك (يا رب فاجعل بنيانه) ،
أي بيت المقدس على يدي من هو مني ،
أي أحد من ذريته ليكون له نصيب من الثواب ولا يحرم ذلك بالكلية (فأوحى اللّه) تعالى (إليه) ،
أي إلى داود عليه السلام (أن ابنك سليمان) عليه السلام (يبنيه) ، أي بيت المقدس ويستقيم بنيانه على يديه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النّشأة الإنسانيّة ، وأنّ إقامتها أولى من هدمها .
ألا ترى عدوّ الدّين قد فرض اللّه في حقّهم الجزية والصّلح إبقاء عليهم ، وقال :"وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ"[ الأنفال : 61 ] ،. ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرّع لوليّ الدّم أخذ الفدية أو العفو ؟ فإن أبى فحينئذ يقتل ؟
ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدّم جماعة فرضي واحد بالدّية أو عفاه ، وباقي الأولياء لا يريدون إلّا القتل ، فكيف يراعى من عفا ويرجّح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا ؟
ألا تراه عليه السّلام يقول في صاحب النّسعة « إن قتله كان مثله » ؟ )

(فالغرض من) ذكر (هذه الحكاية) عن داود عليه السلام هنا بيان المهم (مراعاة هذه النشأة)،
أي الخلقة (الإنسانية وأن إقامتها)، أي إبقاءها قائمة (أولى من هدمها ) وإزالتها بحسب الإمكان على كل حال (ألا ترى) يا أيها السالك (عدوّ اللّه) تعالى يعني جنسهم وهم الكافرون .
" وفي نسخة [ عدو الدين ] بدل [ عدو اللّه ]"
(قد فرض)، أي قدر اللّه تعالى (في حقهم) شرعا (الجزية والصلح إبقاء عليهم) وتسليم حالهم كما قال تعالى ": حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ"[ التوبة : 29 ] .
(وقال) اللّه تعالى ("وَإِنْ جَنَحُوا") ، أي مالوا ("لِلسَّلْمِ") بالفتح فالسكون الصلح ضد الحرب ("فَاجْنَحْ")، أي مل أنت أيضا ("لَها") ، أي لتلك الحالة التي جنحوا لها ("وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ")[ الأنفال : 61 ] تعالى فإن اللّه تعالى يكفيك مؤونة ذلك ،
(ألا ترى كل من وجب عليه القصاص) من الناس (كيف شرع) بالبناء للمفعول ، أي شرع اللّه تعالى (لولي الدم أخذ الفدية ) منه وهي الدية في النفس (أو العفو عنه) فهو مخير في ذلك ،
(فإن أبى) ، أي امتنع من ذلك إلا القتل (فحينئذ يقتل) ذلك الذي وجب عليه القصاص (ألا تراه سبحانه) وتعالى حكم في الشرع المحمدي أنه (إذا كان أولياء الدم ) في المقتول عمدا (جماعة فرضي واحد) منهم (بالدية أو عفا) واحد منهم ،
(وباقي الأولياء لا يريدون) من ذلك القاتل (إلا القتل كيف يراعى) جانب (من عفا) عن القاتل أو رضي بالدية (ويرجح على) جانب (من لم يعف) وطلب القصاص ،
(فلا يقتل) لأجل ذلك هذا القاتل (قصاصا) وفي مسند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه عنه روى بإسناده عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من عفى عن دم لم يكن له ثواب إلا الجنة » . رواه النسائي و الترمذي وغيرهما
"" الحديث: عن أبي هريرة قال : قتل رجل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدفع القاتل إلى وليه فقال القاتل : يا رسول اللّه واللّه ما أردت قتله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أما إنه إن كان قوله صادقا فقتلته دخلت النار فخلى عنه الرجل قال وكان مكتوفا بنسعة قال : فخرج يجر نسعته قال : فكان يسمى ذا النسعة » . والنسعة حبل ، وروي الحديث بألفاظ أخرى .""
ألا تراه ، أي النبي صلى اللّه عليه وسلم (يقول في) حق (صاحب النّسعة) بكسر النون قطعة من النسع بالكسر سير ينسج عريضا على هيئة أعبية البغل تشد به الرحال وسمي نسعا لطوله .
كذا في القاموس (إن قتله) أحد (كان مثله ) ، \
أي مثل المقتول يعني ميتا فلا زيادة فائدة للمقتول بقتل قاتله ، وإنما الفائدة للأحياء تزجر بعضهم عن بعض ؛ ولهذا قال تعالى :"وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ"[ البقرة : 179 ] .

قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا تراه تعالى يقول :وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فجعل القصاص سيّية ، أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا .فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[ الشورى: 40 ]  لأنّه على صورته . فمن عفا عنه ولم يقتله . فأجره على من هو على صورته لأنّه أحقّ به إذ أنشأه له .
وما ظهر بالاسم الظّاهر إلّا بوجوده فمن راعاه إنّما يراعي الحقّ وما يذمّ الإنسان لعينه وإنّما يذمّ الفعل منه ، والفعل ليس عينه ، وكلامنا في عينه . ولا فعل إلّا للّه ؛ ومع هذا ذمّ منها ما ذمّ وحمد ما حمد .  ولسان الذّمّ على جهة الغرض مذموم عند اللّه تعالى .
فلا مذموم إلا ما ذمّه الشّرع ، فإنّ ذمّ الشّرع لحكمة يعلمها اللّه أو من أعلمه اللّه كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النّوع وإرداعا للمتعدّي حدود اللّه فيهوَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ[ البقرة : 179 ] وهم أهل لبّ الشيء الذّين عثروا على سرّ النّواميس الإلهيّة والحكميّة . )

(ألا تراه ) ، أي اللّه (تعالى يقول :"وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها"[ الشورى : 40 ] فجعل) سبحانه (القصاص سيئة ، أي يسوء ذلك الفعل) يعني القصاص لا يجب (مع كونه) ، أي القصاص فعلا (مشروعا) وفيه حياة .
قال اللّه تعالى :" وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ " [ البقرة : 179 ] (فَمَنْ عَفا) فيه عن القاتل ("وَأَصْلَحَ") في عفو ذلك بأن علم انزجار القاتل لا تجرؤه على القتل ("فَأَجْرُهُ")، أي فاعل العفو("عَلَى اللَّهِ") [ الشورى : 40 ] "واللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [ هود : 115] ،

(لأنه) ، أي القاتل المعفو عنه (على صورته) ، أي صورة اللّه تعالى كما بيناه (فمن عفى عنه) ، أي عن القاتل بعد استحقاقه للقتل ووجوب القصاص في حقه (ولم يقتله فأجره) ، أي ثوابه في الآخرة والدنيا (على من هو على صورته) ، وهو اللّه تعالى (لأنه) ، أي من هو على صورته (أحق به) أن يبقى مظهرا له من غير قتل (إذ) هو سبحانه (أنشأه) ، أي خلقه (له وما ظهر) ، أي اللّه تعالى سبحانه (بالاسم الظاهر) الوارد في قوله تعالى :"هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ" [ الحديد : 3].

(إلا بوجوده) ، أي وجود هذا القاتل المذكور (فمن راعاه) ، أي راعى القاتل من الناس فإنه (إنما يراعي الحق) تعالى ، لأنه الظاهر به كما أنه الباطن عنه والأوّل بغيبه والآخر بشهادته (وما يذم الإنسان) شرعا وعرفا (لعينه) ، أي لذاته أصلا (وإنما يذم) في الشرع والعرف (الفعل منه) فقط وهنا القتل الصادر منه مذموم لا هو في نفسه مذموم وإن كان حكم القتل أهدر دمه وصيره مذموما كله (وفعله) الذي صدر منه (ليس عينه) ، أي ذاته (وكلامنا في) وجوب احترام (عينه) ، أي القاتل (ولا فعل إلا للّه) تعالى خلقا وإيجادا .

قال تعالى :وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [ الصافات : 96 ] ، أي وعملكم (ومع هذا) ، أي كون الفعل للّه مخلوقا سبحانه (ذم) تعالى (منها) ، أي من أفعال العبد التي خلقها (ما ذم وحمد) منها سبحانه (ما حمد) كما ورد ذلك في الكتاب والسنة (ولسان الذم) من كل إنسان (على جهة الغرض) النفساني لشيء من ذلك (مذموم عند اللّه) تعالى .

قال تعالى :قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ( 59 ) [ يونس : 59 ] (فلا مذموم) عند المؤمنين (إلا ما ذمه الشرع) كما أنه لا محمود إلا ما حمده ولا مدخل للذم العقلي والمدح العقلي عند المؤمنين أصلا (فإنّ ذم الشرع) في كل ما ذمه إنما هو (لحكمة يعلمها اللّه) تعالى (أو) يعلمها (من أعلمه اللّه) تعالى بها ، وكذلك حمد الشرع فيما حمده وتخييره فيما خير فيه (كما شرع القصاص) في القاتل عمدا (للمصلحة) في حق المكلفين (إبقاء لهذا النوع) الإنساني في الحياة الدنيا (وإرداعا) ، أي زجرا (للمتعدي حدود اللّه) تعالى (فيه) ، أي في هذا النوع .

قال تعالى : ("وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ") [ البقرة : 179 ] باعتبار كف الناس عن القتل خوفا من القصاص إذا أقيم على القاتل ، فيحيا من لولا الكف من القادر على القاتل لقتل ("يا أُولِي الْأَلْبابِ") ، أي أصحاب العقول الكاملة (وهم) ، أي أولو الألباب (أهل لب الشيء) ، أي خلاصته وزبدته فلهم خلاصة العقول وزبدتها (الذين عثروا) ، أي اطلعوا (على سر النواميس) ، أي الشرائع (الإلهية و) القوانين الحكمية ، وعلموا حكمها وخفايا معانيها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذ علمت أنّ اللّه راعى هذه النّشأة وإقامتها وإدامتها فأنت أولى بمراعاتها إذ لك بذلك السّعادة ، فإنّه ما دام الإنسان حيّا ، يرجى له تحصيل صفة الكمال الّذي خلق له .  ومن سعى في هدمها فقد سعى في منع وصوله لما خلق له .
وما أحسن ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر اللّه " .
وذلك أنّه لا يعلم قدر هذه النّشأة الإنسانيّة إلّا من ذكر اللّه الذّكر المطلوب منه ، فإنّه تعالى جليس من ذكره ، والجليس مشهود الذاكر ومتى لم يشاهد الذّاكر الحقّ الّذي هو جليسه فليس بذاكر .  فإنّ ذكر اللّه سار في جميع العبد .
لا من ذكره بلسانه خاصّة . فإنّ الحقّ لا يكون في ذلك الوقت إلّا جليس اللّسان خاصّة ، فيراه اللّسان من حيث لا يراه الإنسان بما هو راء .
فافهم هذا السّرّ في ذكر الغافلين . )

(وإذا علمت) يا أيها السالك (أن اللّه) تعالى (راعى) ، أي اعتبر شرعا (هذه النشأة) ، أي الخلقة الإنسانية (وإقامتها) أي إبقاءها واستدامتها حتى يكون اللّه تعالى هو الذي يحل نظامها ويفض ختامها (فأنت) يا أيها السالك (أولى بمراعاتها) ،
أي المحافظة على حقوقها ، لأنك المندوب إلى ذلك والمشار عليك به (إذ) ،
أي لأنه (لك بذلك) ، أي بسببه (السعادة) في الدنيا والآخرة لأنك راعيت حكم ربك وقمت بما ندبك إليه (فإنه) ، أي الشأن (ما دام الإنسان حيا) في هذه الدنيا فإنه (يرجى) بالبناء للمفعول (له) ، أي لذلك الإنسان تحصيل صفة الكمال الإنساني الذي خلق هذا الإنسان له ،
أي لأجل تحصيله وهو معرفته بربه وقيامه به عن كشف وشهود (و) كل (من سعى في هدمه) ، أي هدم بنيان الإنسان (فقد سعى في منع وصوله) ، أي الإنسان (لما خلق) ، أي خلقه اللّه تعالى (له) من تحصيل صفة الكمال ويصير قاطعا عليه طريق احتمال الوصول إلى حضرة ذي الجلال .
قال تعالى :" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها" [ البقرة : 114 ] ،
وقال تعالى : " أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ( 9 ) عَبْداً إِذا صَلَّى ( 10 ) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ( 11 ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ( 12 ) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( 13 ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى( 14 ) [ العلق : 9 - 14 ] .

(وما أحسن ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ) للصحابة رضي اللّه عنهم (ألا أنبئكم) ، أي أخبركم (بما) ، أي بأمر (هو خير لكم وأفضل) عند اللّه تعالى (من أن تلقوا) ، أي لقاءكم (عدوكم) يعني جنسه وهم الكافرون (فتضربوا رقابهم) بسيوفكم في الحرب (ويضربوا) أيضا (رقابكم) بسيوفهم (ذكر اللّه)  تعالى بقلوبكم وألسنتكم فإنه أفضل من ذلك كله. رواه الحاكم  والترمذي
"" الحديث :  عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا : وما ذاك يا رسول اللّه
قال : ذكر اللّه عز وجل . أهـ.
وقال معاذ بن جبل: "ما عمل آدمي من عمل أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه عز وجل"أهـ.""

لأن ضرب الرقاب قطع لتحصيل الكمال ففيه ، ضرر بأحوال القابلين لأشرف الأحوال ، وهو ذكر اللّه تعالى في الغدو والآصال .
فأشار صلى اللّه عليه وسلم بالذكر إلى الإبقاء وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً[ الإسراء : 44 ] .
وذلك ، أي كان الأمر كما ذكر لأجل أنه ، أي الشأن لا يعلم قدر هذه النشأة ، أي الخلقة الإنسانية عند اللّه تعالى إلا من ذكر اللّه تعالى الذكر المطلوب حصوله منه وهو شهود المذكور الحق لا إله إلا اللّه ، ومتى غفل عن شهوده خرج عن ذكره لأن الذكر ضد الغفلة وهما لا يجتمعان فإنه تعالى جليس من ذكره من الناس كما ورد في الحديث : « أنا جليس من ذكرني » . اخرجه الدينوري المالكي في المجالسة ورواه ابن ابي شيبه والبيهقى وابي نعيم الأصفهاني في الحلية.
"" أضاف الجامع :
1 - الحديث :عن، كعب، قال: " قال موسى: أي رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ قال: يا موسى , أنا جليس من ذكرني , قال , يا رب , فإنا نكون من الحال على حال نعظمك أو نجلك أن نذكرك عليها , قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط , قال: يا موسى , اذكرني على كل حال ".رواه ابن ابي شيبه والبيهقى و ابي نعيم الأصفهاني في الحلية وابن القيم في الوابل الصيب ومجموع الفتاوى لابن تيمية والسيوطي في الجامع والدر المنثور .
2 - الحديث : عن ابن عباس قال: «يكره أن يذكر الله وهو جالس على الخلاء، والرجل يواقع امرأته؛ لأنه ذو الجلال يجل عن ذلك» " أخرجه ابن أبى شيبة وابن المنذر عن ابن عباس موقوفاً ""

(إذ الجليس مشهود للذاكر) ، لأنه متى ذكره كان جليسه والجليس مشهود على كل حال ، ومن لم يكن جليسه بجانبه فإنه غائب عنه حينئذ ، والجليس حاضر لا غائب وإلا فليس بجليس ومتى لم يشاهد العبد الذاكر للحق تعالى الحق تعالى الذي هو جليسه فليس ذلك العبد بذاكر للحق تعالى ، وكل ذاكر للحق تعالى مشاهد له بالعضو منه الذي فيه الذكر ،
وإن غفل العضو الآخر فإنّ ذكر اللّه تعالى سار في جميع العبد
فكان عضو منه ظاهره وباطنه ذاكرا للّه تعالى مشاهد له وهو العبد الكامل في العبودية لا من ذكره للّه تعالى بلسانه خاصة وبقية أعضائه غافلة لتقييدها بعبودية غيره تعالى وهي الانفعال للغير ولو بالخاطر
كانفعال أهل الدنيا للدنيا في ظواهرهم وبواطنهم من جهلهم باللّه تعالى وعدم معرفتهم به
فإن الحق تعالى لا يكون في ذلك الوقت ، أي وقت الذكر باللسان خاصة إلا جليس اللسان
خاصة دون بقية الأعضاء فيراه ،

أي يرى الحق تعالى ذلك اللسان ويشهده من حيث لا يراه ذلك الإنسان الذاكر بلسانه خاصة ولا يشهده لغفلته عنه بما متعلق بيراه اللسان هو ، أي ذلك الإنسان راء للأشياء وهو ، البصر المعروف .
فافهم يا أيها السالك هذا السر العجيب في ذكر الغافلين عن اللّه تعالى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالذّاكر من الغافل حاضر بلا شكّ ، والمذكور جليسه فهو يشاهده  والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر فما هو جليس الغافل فإنّ الإنسان كثير ما هو أحديّ العين ، والحقّ أحديّ العين كثير بالأسماء الإلهيّة : كما أنّ الإنسان كثير بالأجزاء : وما يلزم من ذكر جزء ذكر جزء آخر .
فالحقّ جليس الجزء الذاكر منه والآخر متّصف بالغفلة عن الذّكر .
ولا بدّ أن يكون في الإنسان جزء يذكر به فيكون الحقّ جليس ذلك الجزء فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية . )

(فالذاكر) للّه تعالى (من) أعضاء العبد (الغافل) عن اللّه تعالى (حاضر) ، أي مشاهد للّه تعالى (بلا شك) في ذلك (والمذكور له) وهو اللّه تعالى (جليسه) ،
أي مجالس له كما ورد في الحديث السابق : « أنا جليس من ذكرني »  .
(فهو) ، أي العضو الذاكر من الغافل (يشاهده) ، أي يشاهد اللّه تعالى (والغافل) عن اللّه تعالى (من حيث غفلته) عنه سبحانه (ليس بذاكر) له تعالى فما هو ، أي اللّه تعالى (جليس الغافل) عنه سبحانه (فإن الإنسان) الواحد (كثير) بالأعضاء والأجزاء (ما هو) ،
أي الإنسان (أحدي العين) ، أي الذات لكثرة أعضائه وأجزائه (والحق) تعالى (أحدي العين) أي هو واحد في ذاته ، فلا تعدد له أصلا ، وواحد في أسمائه وصفاته ، فهو موصوف بالواحدية في كل اسم منها وكل صفة .
قال تعالى : "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" [ الإخلاص : 1 ] ،
واللّه اسم من أسمائه تعالى ، أي هذا المسمى بهذا الاسم أحد من حيث ذاته لعدم تغير ذاته وعدم تبدلها وبقائها أزلا وأبدا بخلاف ذات الإنسان فإنها وإن كانت واحدة في نفس الأمر لكنها متغيرة بالمثل في كل حين متبدلة لا بقاء لها أصلا فما هي بأحدية ،
وإنما هي واحدة من حين خلقها اللّه تعالى إلى الأبد قد ولاها اللّه تعالى على أعضاء الجسد وأجزائه وصرفها في ذلك بأمره تعالى إلى أن يعزلها بالموت ثم يحاسبها على كل ما صدر منها في موضع ولايتها (كثير) ، أي متعدد من حيث ظهوره (بالأسماء الإلهية) وإن كان تعالى أحدا في ذاته (كما أن الإنسان) الواحد (كثير) ،

أي متعدد (بالأجزاء) الجسمانية وإن كان واحدا في ذاته (وما يلزم من ذكر جزء ما) يعني أي جزء كان من أجزاء اللسان للّه تعالى (ذكر جزء آخر) من أجزائه للّه تعالى كما أنه لا يلزم من ظهور ذات الحق تعالى في اسم من أسمائه سبحانه بأثر خاص ظهور ذات الحق تعالى أيضا في اسم آخر من أسمائه تعالى بمثل ذلك الأثر الخاص ، وإنما تظهر الذات الإلهية كل لمحة من الزمان في كل اسم من أسمائها بأثر خاص لا يظهر عن غير ذلك الاسم في غير تلك اللمحة أصلا لا فيما مضى ولا فيما سيأتي إلى الأبد .

(فالحق) تعالى (جليس الجزء الذاكر) للّه تعالى (منه) ، أي من الإنسان(و) الجزء (الآخر) منه (متصف بالغفلة عن الذاكر) ، أي ذاكر اللّه تعالى (ولا بد أن يكون في الإنسان جزء يذكر) اللّه (به) ، أي بذلك الجزء منه ، أي إنسان كان مؤمنا أو كافرا أو جاهلا أو عالما ، عرف الإنسان ذلك الجزء أو لم يعرفه ، ولا يكون أن يكون غافلا مطلقا ولا ذاكرا مطلقا أيضا ، بل إذا غفل منه جزء ذكر منه كما أن العالم لا يخلو من غافل ومن ذاكر أصلا ، فإذا غفل الذاكر ذكر الغافل وبالعكس (فيكون الحق) تعالى (جليس ذلك الجزء) الذاكر من الإنسان (فيحفظ) ذلك الجزء أو الحق تعالى (باقي الأجزاء) من الإنسان (بالعناية) الإلهية .

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما يتولّى الحقّ هدم هذه النّشأة بالمسمّى موتا وليس بإعدام كلّيّ وإنّما هو تفريق ، فيأخذه إليه ، وليس المراد إلا أن يأخذه الحقّ إليهوَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود : 123 ] فإذا أخذه إليه سوّى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدّار الّتي ينتقل إليها ، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال .  فلا يموت أبدا ، أي لا تفرّق أجزاؤه . )

(وما يتولى) ، أي تولية (الحق) تعالى (هدم) بنيان (هذه النشأة) ، أي الخلقة الإنسانية (بالمسمى موتا) حيث يتولى اسم اللّه المميت على ذلك العبد بعد عزل اسم اللّه المحيي عنه (فليس) ذلك الموت (إعداما) للعبد وإرجاعه إلى ما كان فيه من العدم الأصلي ، فإن اللّه تعالى لا يكرر حالة واحدة على عبد أصلا لسعة التجلي وعدم تناهيه إلى الأبد (وإنما هو) ،

أي الموت (تفريق) بين الروح والبدن أوّلا بقصر تصرفها عنه وإظهار عجزها لها ، ثم بين أجزاء البدن ، فلا يبقى لها قدرة على إمساك تلك الأجزاء بالكلية ليكشف لها بعد الموت عن قدرته النافذة في كل شيء ، وذلك في ضعيف الروح عن الكشف المذكور في حال الحياة ، ومن كشف في حياته عن ذلك فكان متحققا في نفسه بلا حول ولا قوّة إلا باللّه لا يفنى جسده بعد الموت وتبقى روحه ممسكة لأجزائه بقدرة اللّه تعالى القائمة بها في الحياة وبعد الموت ، كرامة لها عند اللّه تعالى وهم الأنبياء والأولياء ، لتحققهم بذلك في الحياة الدنيوية ، والشهداء لتحققهم عند الموت وشهودهم له ، بذلك سموا شهداء ، ودخل في الأولياء العلماء العاملون ، والمؤذنون المحتسبون ، وغيرهم ممن لا يبلوا في قبورهم فيأخذه ، أي اللّه تعالى ذلك الميت (إليه) سبحانه ، أي حضرته ويذيقه سطوة تصرفه فيه ويغيبه عن شهود تصرف الواسطة في ظاهره وباطنه
 .
(وليس المراد) ، أي المقصود من الموت (إلا أن يأخذه الحق تعالى) ، أي يأخذ الإنسان إليه سبحانه ، فيشهده حضرته ويغيب عن نفسه بالكلية .
قال تعالى :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ[ هود : 123 ] الإلهي الواحد الذي كل شيء صورته ، فهو من حيث ما هو قيوم واحد أمر ، ومن حيث ما هو كل شيء بالصور المختلفة في الحس والعقل خلق ، فالخلق ما ظهر والأمر ما بطن وما ظهر هو عين ما بطن ؛
ولهذا أكده من حيث ظهوره بقوله (كله) ، أي لا يبقى شيء إلا ويرجع إليه بسبب رجوع الأمر الواحد إليه ، فإن نور الشمس إذا رجع إليها رجعت جميع الشعاعات كلها إليها وانقبضت في الحال بعد انبساطها على أقطار الأرض برا وبحرا .

(فإذا أخذه) ، أي أخذ الحق تعالى ذلك الإنسان (إليه) سبحانه (سوّى) ، أي خلق اللّه تعالى (له) ، أي لذلك الإنسان (مركبا) بالتشديد ، أي بدنا آخر مؤلفا من أجزاء أخرى لطيفة برزخية غير هذا المركب بالتشديد أيضا ، أي البدن الذي كان فيه أو بالتخفيف ، أي بدنا أيضا يركبه هذا الإنسان يعني يستولي عليه ويتصرف فيه كما يستولي صاحب الدابة على دابته ويتصرف في تحريكها وتسكينها (غير هذا المركب) ، أي البدن الذي كان متوليا عليه وراكبا له في الدنيا (من جنس الدار) البرزخية (التي ينتقل إليها) هذا الإنسان بعد الموت (وهي دار البقاء) وعدم الزوال (لوجود الاعتدال) ، أي تساوي أجزاء تلك النشأة الأخروية بسبب القوّة الروحانية وتحققها بما هو الأمر عليه في نفسه وزوال الوهم والالتباس (فلا يموت) ذلك الإنسان بعد هذا الموت (أبدا أي لا تفرّق أجزاؤه) بعد هذا الافتراق أصلا إذ المقصود قد حصل وهو الرجوع إلى اللّه تعالى بتحقيق أن لا فاعل غيره ذوقا من نفسه . قال تعالى :لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى[ الدخان : 56 ] .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا أهل النّار فمآلهم إلى النّعيم ، ولكن في النّار إذ لا بدّ لصورة النّار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها ، وهذا نعيمهم .
فنعيم أهل النّار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل اللّه حين ألقي في النّار فإنّه عليه السّلام تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرّر من أنّها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد اللّه فيها ومنها في حقّه .
فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصّورة اللّونيّة في حقّه وهي نار في عيون النّاس . فالشّيء الواحد يتنوّع في عيون النّاظرين : هكذا هو التّجلّي الإلهيّ . )

(وأما أهل النار) الذين هم أهلها وهم الكافرون على اختلاف أنواعهم بعد إخراج العصاة فيها (فمآلهم) ، أي مرجعهم في آخر أمر العذاب المستولي عليهم من تجلي اسم اللّه تعالى المنتقم والضار والخافض والمانع ونحو ذلك من أسماء الجلال (إلى النعيم) المؤبد بظهور تجلي اسم اللّه تعالى اللطيف النافع الرافع المعطي ونحو ذلك من أسماء الجمال (ولكن) ذلك النعيم لهم (في النار) ، أي في طبقاتها التي هم فيها فلا يخرجون منها إلى غيرها أصلا كما قال تعالى :وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ[ الحجر : 48 ] ،
ولا يحتاج إلى إخراجهم إذا أراد اللّه تعالى نعيمهم ، فإنه على كل شيء قدير إذا أراد خلق النعيم للمعذب بعين ما هو به معذب وخلق العذاب للمنعم بعين ما هو به منعم ،
وذلك أمر ذوقي لا ظهور له عند الغير ، ولهذا لم يرد التصريح بهذه المسألة في الشرع إلا بطريق الإشارة الخفية ، لأنها من علوم الأذواق لا علوم الأفكار والعقول ، فإن تلك الأسماء الجلالية تتحوّل عين الأسماء الجمالية ، لأن كل اسم منها عين الاسم الآخر بالنسبة إلى الحق تعالى ، وإن امتاز بالأثر المظهر له ،
فإن اللّه تعالى واحد في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه كما تقرر في علم الكلام .
(إذ) ، أي لأنه (لا بد لصورة النار) فإنها مجرد صورة في الأمر الإلهي قائمة به كقيام الموج بالماء ، وهكذا كل شيء في الدنيا والآخرة لأنهما مخلوقتان والخلق صورة الأمر والأمر حقيقة الخلق وسرهم . قال تعالى :أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ[ الأعراف : 54 ] ،
(بعد انتهاء) ، أي انقضاء (مدة العقاب) التي قدرها اللّه تعالى وقضى بها في علمه الأزلي (أن تكون) ، أي صورة النار في الآخرة (بردا) لا حرارة فيها ، لأن الحرارة منهم هي ما في طبيعتهم الغريزية بسبب جهلهم باللّه تعالى الموجود دونهم ، فإذا ختم اللّه وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة قويت تلك الحرارة فيهم ، وحيث ماتوا على ذلك حشروا عليه ودخلوا به حبس الآخرة المسمى بجهنم ، فجاؤوا بنيرانهم إليه كما ورد : « قوموا لنيرانكم فأطفؤوها ».

" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله عز وجل ملكا ينادي عند كل صلاة يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فاطفؤها بالصلاة". رواه القديسي في المختارة والطبراني في الأوسط والصغير وحليه الأولياء ومصنف عبد الرزاق الصنعاني
" قال صلى الله عليه وسلم  : «إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم». رواه البخاري ومسلم واحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم

فكان سر ذلك كله جهلهم بالمتجلي الحق عليهم وهم لا يشعرون لكفرهم ، وتغطيتهم له بما يدعون من مقتضيات الكفر ، فإذا غلب نور التجلي على نار الاستتار أطفؤوها وحالهم على ما هو من غير تغيير ظاهرا فصارت نارهم بردا وسلاما ،
أي أمانا من العذاب بها على من فيها، أي النار وهذا الحال المذكور هو نعيمهم، أي نعيم أهل النار في النار من غير أن يخرجوا منها .
(فنعيم أهل النار) كما ذكر (بعد استيفاء) عقابهم على ترك (الحقوق) الواجبة عليهم للّه تعالى من الإيمان وغيره، فإن للعقاب مدة معلومة عند اللّه تعالى كما قال تعالى :لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً( 23 ) [ النبأ : 23 ] ، ولا ينافيه قوله سبحانه :كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ[ النساء : 56 ] ، وقوله تعالى :لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ[ البقرة : 162 ] ،
أي من عذابها، فإنهم كما يذوقونه ألما ووجعا يذوقونه أيضا لذة وعذوبة، وعينه لا تتغير .

أرأيت أن المحب العاشق إذا رأى في ظلمة أحدا من الناس يضربه فإنه يتألم ويتوجع بذلك الضرب ، فإذا تبين له وتحقق أن محبوبه ومعشوقه الهاجر له المعرض عنه هو الذي يضربه فإنه لا شك أن ذلك الألم والوجع الذي كان يجده من الغير ينقلب لذة وعذوبة عنده من غير أن يخفف منه شيء ، وذلك بمجرد انكشاف محبوبه له وتحققه به ،
ولا يعرف هذا ويصدق به إلا من عشق وذاق أحوال العشاق (كنعيم) إبراهيم (خليل اللّه) تعالى (عليه السلام) حين ألقاه عدوّه النمرود في النار ،

فصارت عليه بردا وسلاما مع أنها في نفسها على ما هي عليه نار لم تتغير ، فلو دخلها النمرود أو غيره لاحترق بها ، وما منع إبراهيم عليه السلام من الاحتراق بها إلا كونه متحققا في نفسه بربها الحق تعالى التي هي صورة تجليه بها ، وانتفت عنه خواطر الأغيار وانكشفت لوامع الأسرار (حين ألقي في النار) ؛
 ولهذا لما جاء جبريل عليه السلام فقال له : « ألك حاجة ، قال : أما إليك فلا وأما إلى اللّه فبلى . فقال له : سل اللّه ، فقال : علمه بحالي يغني عن سؤالي » .
"أورده العجلوني في كشف الخفاء: (حسبي من سؤالي علمه بحالي) ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء بلفظ وروي عن كعب الأحبار أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك ثم رموا به في المنجنيق إلى النار فاستقبله جبريل، فقال يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا قال جبريل فسل ربك، فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي . انتهى،
وذكر البغوي في تفسير ... (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم) ... أن إبراهيم عليه السلام قال حسبي الله ونعم الوكيل حين قال له خازن المياه لما أراد النمرود إلقاؤه في النار إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الرياح فقال له إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل انتهى. "

وكذلك أهل النار ألقاهم عدوّهم الشيطان فيها بمنجنيق وساوسه وتسويله كما قال تعالى :الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ[ محمد : 25 ] فإذا آمنوا بالله عند رؤية النار ، وأبصروا الحق في الآخرة من حين خروجهم من قبورهم ، وقال تعالى :قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ[ يس : 52 ] .
وقال تعالى :رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ[ السجدة : 12 ] ، قال تعالى :وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ[ فاطر : 37 ] ، فقال إِنَّكُمْ ماكِثُونَ[ الزخرف : 77 ] ، فإذا زاد تحققهم بوضع الجبار قدمه في النار .

كما ورد في الحديث ، ونفذت بصائرهم إلى ذوق الحقيقة بوضع القدم ، وقعوا في عين الحق على ما هم عليه ، وتنعموا بما هم معذبون به ، واللّه على كل شيء قدير ، واللّه لطيف بعباده ، ورحمته وسعت كل شيء .

(فإنه) ، أي إبراهيم خليل اللّه عليه السلام (تعذب برؤيتها) ، أي النار لأنها من مظهر الجلال الإلهي وهو قد أوفى الحقائق حقها ، لأنه من الكاملين (وبما تعود في علمه) بأن النار محرقة (وتقرر) عنده (من أنها) ، أي النار (صورة) خلقية قائمة بالحقيقة الأمرية (تؤلم) ،
أي تعطي الألم والوجع لكل (من جاورها) ، أي اقترن بها (من الحيوان) إنسانا كان أو غيره (وما علم) إبراهيم عليه السلام في ذلك الوقت (مراد اللّه) تعالى (فيها) ،
أي في النار ومراده تعالى (منها) ، أي من النار (في حقه) عليه السلام بخصوصه .
(فبعد وجود هذه الآلام) والأوجاع الوهمية فيه من كونه بشرا عليه السلام (وجد) في وقت مسه لتلك النار ("بَرْداً وَسَلاماً") [ الأنبياء : 69 ] .
عكس ما كان في ظنه منها من الحرارة والهلاك فبدله اللّه تعالى بالبرد والأمان مع شهود الصورة الكونية ، أي المخلوقة في حقه عليه السلام وهي ، أي تلك الصورة نار في عيون الناس كما كان يراها عليه السلام من قبل ثم رآها بردا وسلاما .

(فالشيء الواحد يتنوع) إلى أنواع كثيرة (في عيون الناظرين) إليه إما في آن واحد كنار إبراهيم عليه السلام ، وهي نار في عين غيره وبردا وسلاما في عينه عليه السلام ، وكالصورة المنحوتة من حجر أو خشب يراها الجاهل بها إنسانا أو حيوانا ويراها العارف بها حجرا أو خشبا ، وكالصورة المرئية من بعيد يراها المتوهم فارسا أو راجلا فتؤثر في نفسه خوفا ورعبا ، ويراها المتحقق بها شجرة أو حجرا كبيرا

ونحو ذلك ، وإما في آنات كثيرة كالحبة حشيشة ثم حبة ثم طحينا ثم رغيفا ثم كيموسا ثم دما ثم منيا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم صورة إنسانية ثم جنينا ثم مولودا ثم طفلا ثم غلاما ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم ميتا ثم جيفة ثم ترابا هكذا هو التجلي الإلهي في عيون الناظرين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن شئت قلت إنّ اللّه تجلّى مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت إنّ العالم في النّظر إليه وفيه مثل الحقّ في التّجلّي .
فيتنوّع في عين النّاظر بحسب مزاج النّاظر أو يتنوّع مزاج النّاظر لتنوّع التّجلّي وكلّ هذا سائغ في الحقائق .
فلو أنّ الميّت - والمقتول - أيّ ميّت كان ، أو أيّ ، مقتول كان - إذا مات أو قتل لا يرجع إلى اللّه ، لم يقض اللّه بموت أحد ولا شرّع قتله .  فالكلّ في قبضته فلا فقدان في حقّه .
فشرع القتل وحكم بالموت لعلمه بأنّ عبده لا يفوته : فهو راجع إليه . على أنّ قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُأي فيه يقع التّصرّف ، وهو المتصرّف ، فما خرج عنه شيء لم يكن عينه ، بل هويّته هو عين ذلك الشّيء .  وهو الّذي يعطيه الكشف في قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود : 123 ] .  ( والتّوفيق من اللّه تعالى ) . )

(فإن شئت) يا أيها السالك (قلت إن اللّه) سبحانه (تجلى) ، أي انكشف (مثل هذا الأمر) ، أي الشأن المذكور كما قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29].
(وإن شئت قلت : إن العالم) بفتح اللام (في النظر إليه) ، أي إلى نفسه (وفيه) ، أي في نفسه (مثل الحق) تعالى (في التجلي) المتنوّع المذكور (فيتنوّع) ، أي العالم (في عين الناظرين) إليه لا في نفسه (بحسب مزاج الناظرين) إليه وقوّة استعدادهم في إدراكه فيدركونه في وقت هكذا وفي وقت آخر هكذا بمقتضى ما هم فيه من المزاج ، كالأحول يرى الواحد اثنين ، وكالصفراوي يرى العسل مرا ونحو ذلك لسبب فيه لا في المرئي ، والمرئي على ما هو عليه لم يتغير (أو بتنوّع مزاج الناظرين) إلى العالم (لتنوّع التجلي) الإلهي المفيض عليهم ذلك ، ثم يتنوّع العالم في أعينهم بحسب تنوّع مزاجهم .
قال تعالى : " وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [ يونس : 61 ] ، وقال :أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [ الرعد : 33 ] ، وكل هذا الاعتبار (سائغ) ، أي ممكن القول به (في الحقائق) الإلهية الظاهرة والإشارة إليه واردة في الشرع عند أهلها .
(ولو أن) الإنسان (الميت) ، (أو) الإنسان (المقتول) الغافل إذ صاحب اليقظة راجع إلى اللّه تعالى في حياته (أي ميت كان وأي مقتول كان) صغيرا أو كبيرا مؤمنا أو كافرا وغير الإنسان كذلك لكن لا يتعلق به حكم هنا (إذا مات أو قتل) ، أي ذلك الإنسان (لا يرجع) من شهود نفسه وغفلته (إلى) شهود (اللّه) تعالى ويقظته وصاحب اليقظة تزداد يقظته بذلك قال تعالى :وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ[ البقرة:281] الآية .
وقال تعالى : يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ[ النور : 37 ] ، وهو يوم الموت تتقلب فيه القلوب من الغفلة إلى اليقظة .
وفي الحديث : "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " . رواه البيهقي وابونعيم في الحلية والزهري

وقال عليه السلام : « إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا » . رواه النسائي والطبراني في مسند الشاميين والسنة لأبي عاصم والمختارة للمقديسي والشريعة للآجري والفتن لنعيم بن حماد.
وقال تعالى :وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ[ الروم : 23 ] ، أي غفلتكم في الحياة الدنيا إلى الموت .
لم يقض اللّه تعالى أي لم يحكم من الأزل بموت أحد من الناس أصلا ولا شرع سبحانه قتله في مهدر الدم بردّة أو حرب أو قصاص أو زنا محصن أو تعزير بليغ ونحو ذلك .
فالكل ، أي الأحياء والأموات في تصريف قبضته سبحانه كما قال تعالى :وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ[ الإسراء : 60 ]  .
 وقال سبحانه : وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [ البروج : 20 ] ، وقال : واللّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ[ فصلت : 54 ] ، فلا فقدان لأحد في حقه تعالى بل الكل حاضرون عنده تعالى .
فشرع القتل فيمن يستوجبه وحكم بالموت على كل حي لا ليدخلوا في قبضته ويحضروا عنده بل لعلمه سبحانه بأن عبده لا يفوته وإن غفل عنه وظن أنه يفر منه في الدنيا دون الآخرة .
وقال تعالى :يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لا وَزَرَ ( 11 ) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ( 12 ) [ القيامة : 10 - 12 ] ، فهو ، أي عبده راجع إليه

تعالى على كل حال على أن في قوله تعالى وَإِلَيْه ِسبحانه، أي لا إلى غيره يُرْجَعُ الْأَمْرُ الإلهي الذي كل شيء مخلوق صورته في الحس والعقل كله فلا يبقى غيره أي فيه سبحانه من حيث أنه أمر متوجه على تصوير كل شيء يقع التصرف من كل متصرف وهو سبحانه المتصرف في كل شيء لا غيره .
فما خرج عنه تعالى شيء من محسوس أو معقول لم يكن عينه تعالى بل هويته تعالى عين ذلك الشيء من حيث وجود ذلك الشيء لا من حيث صورته المحسوسة والمعقولة ، فإنها فانية بحكم قوله تعالى :كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [ الرحمن : 26 ] ، أي على أرض الوجود هالكة بحكم قوله سبحانه :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : 88 ] ،

ومنفية بحكم قوله عليه السلام : « كان اللّه ولا شيء معه » وهو الآن على ما عليه كان.
"" العبارة زادها العارفون باللّه تعالى أخذا من قوله تعالى :هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ[ الحديد : 3 ].
وقوله تعالى :كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ( 26 ) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ( 27 ) [ الرحمن: 26 – 27] . ""
وهو ، أي هذا الكلام المذكور الذي يعطيه الكشف الصحيح في معنى قوله تعالى :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود : 123 ] عند أهل المعرفة باللّه .

تم الفص اليونسي
.
واتساب

No comments:

Post a Comment