Sunday, December 15, 2019

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 
إنما اختصت الكلمة العيسوية بالحكمة النبوية ، وإن كان جميع هذه الحكم نبوية لأن نبوته فطرية غالبة على حاله ، وقد أنبأ عن الله في بطن أمه بقوله "أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ  رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا"   وفي المهد بقوله " آتانِيَ الْكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا " إلى بعثته وهو الأربعون لقوله عليه الصلاة والسلام « ما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين » .
وقيل إنها ليست مهموزة من النبأ ، بل ناقصة من نبا ينبو نبوا بمعنى ارتفع لارتفاع مقامه كما يأتي ، ولقوله : " بَلْ رَفَعَه الله إِلَيْه " ولختم الولاية عليه ، والله أعلم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  
( عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين  .... في صورة البشر الموجود من طين )
( تكون الروح في ذات مطهرة  .....   من الطبيعة تدعوها بسجين )
لما كانت النبوة مدرجة في الكلمة الإلهية التي هي حقيقة عيسى الملقب بروح الله في ذات مطهرة من عالم الطبيعة في حالة كونك تدعو تلك الطبيعة أو يدعوها الظاهرة في صورة بشرية طبيعية احتمل تكونه من ماء مريم لنشأته الطبيعية ، فإنها نفس طاهرة منبأة من عند الله بما يكون عنها في قوله تعالى : " إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه اسْمُه الْمَسِيحُ ".
"" أضاف بالي زادة : ( عن ماء مريم ) استفهام تقرير حذفت همزته ( أو ) بمعنى الواو ( عن نفخ جبرين ) أي جبريل ( في ) يتعلق بجبرين ( صورة البشر الموجود ) أي المخلوق ( من طين ) وعن متعلق بقوله : ( تكون الروح ) العيسوى ( في ذات مطهرة ) ذات مريم ( من الطبيعة ) أي من أدناسها وأرجاسها ومقتضياتها من اللذات الشهوانية ( تدعوها ) أي الطبيعة التي تدعو مريم أي شأن هذه الطبيعة أن تدعو مريم ( بسجين ) أي جحيم .اهـ بالى  زادة.""

ومن نفخ جبريل فإنه الروح الأمين على أنباء الله التي أنبأ بها جميع الأنبياء عن الحق ومنهما جميعا بحسب روحانيته وجسمانيته فاستفهم عن وجود نشأته ، أنه من أيهما تكون لاحتمال الجميع في النظر العقلي .
 فقال : أعن ماء مريم بل أعن نفخ جبرين تكون هذا الروح ، وهذا الاستفهام مبنى على النظر العقلي .
وأما بحسب الكشف فهو الكلمة الإلهية التي أنبأ الله أمه وجبريل هو الواسطة الذي وقع على لسانه إلى أمه وأداه إلى قلبها كسائر الأنباء التي ألقاها إلى الأنبياء ، ولا بد من توسط الروح الذي هو جبريل ليتعين هذا الروح والكلمة الإلهية ويصل إلى مريم عليها السلام :

(لأجل ذلك قد طالت إقامته  ....   فيها وزاد على ألف بتعيين )
أي من أجل تكون هذا الروح في ذات مطهرة من الطبيعة الفاسدة وهي الصورة المثالية ، أو ذات كائنة من عالم الطبيعة طهرت من الخبائث وهو صورة عيسى أو أمه .
"" أضاف بالي زادة : (لأجل ذلك ) أي لأجل تكون الروح العيسوى في الذات المطهرة ( قد طالت إقامته فيها ) أي في السماوات ، فإن طهارة المحل تبعد الحال عن الكون والفساد ( فزاد على ألف بتعيين ) مبين؟؟؟ في علم التواريخ إلى حين اهـ بالى . ""

طالت إقامتها في صورة البشر وزاد طول إقامتها على ألف على التعيين ، فإن مولد عيسى كان قبل مولد النبي عليه الصلاة والسلام بخمسمائة وخمس وخمسين سنة .
وقد بقي بعد ، وسينزل ويدعو الناس إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام فزاد على ألف بالتعين فعلى هذا طال إقامته في صورة البشر إما معللا بطهارته ونزاهته من الطبيعة وإما بطهارة أمه ، وكونه في صورة البشر إنما هو لأجل المحل القابل وهو الطبيعة :
( روح من الله لا من غيره فلذا   ....   أحيا الموات وأنشأ الطير من طين )
أي هو روح كامل مظهر لاسم الله ، والله هو النافخ له من حيث الصورة الجبريليه لا غيره ، فهو من اسم ذاتي لا من اسم من الأسماء الفرعية ، فيكون بينه وبين الله وسائط كثيرة كسائر أرواح الأنبياء .
فإنها وإن كانت من حضرة اسم الله لكن بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الأسمائية وعيسى تعين من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية ، ولهذا سماه روحه وكلمته وكانت دعوته إلى الباطن والعالم القدسي .
"" أضاف بالي زادة : ( روح ) خبر مبتدإ محذوف ( من الله لا من غيره ) أي خلقه الله بذاته لا بواسطة روح من الأرواح ( فلذا ) أي فلكون روحه من الله لا من غيره ( أحيا الموات وأنشأ الطير من طين ) بسبب تقربه إلى الله وتحققه بصفاته أحيا الموات وأنشأ الطير اهـ بالى . ""

 فإن الكلمة إنما هي من باطن الله وهويته الغيبية من الله واسمه الجبريلى ولهذا هو عبد الله ومظهره ، وظهر عليه صفاته من إحياء الموتى والخلق وأنشأ الطير من الطين وأبرأ الأكمه وغيرها :
( حتى يصح له من ربه نسب  ....  به يؤثر في العالي وفي الدون )
أي لما صدر من الله بلا وسائط لا من غيره صح له نسب بظهور صفاته تعالى منه وصدور أفعاله الخاصة به عنه من إحياء الموتى وخلق الطير ، وبتأثيره في الجنس العالي من الصور الإنسانية بإحيائها ، وفي الجنس الدون كخلق الخلق الخفاش من الطين وهما من خصائص الله.
"" أضاف بالي زادة : ( حتى يصح ) أي كي يصح ( له من ربه نسب ) بفتح النون مصدر ، أو بالكسر جمع نسبة وكلاهما صحيح ( به ) أي بسبب هذا النسب ( يؤثر في العالي ) وهو إحياء الموتى من الإنسان ( وفي الدون ) خلق الطير المعروف من الطين اه ( الله طهره جسما ) من أرجاس الطبيعة ( ونزهه روحا ) عما يوجب النقائص وزينه بالصفات الإلهية ( وصيره ) جعله ( مثلا ) أي مماثلا له تعالى ( بتكوين ) أي بسبب تكوين الطير اهـ بالى . ""

 كما قال تعالى : " قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ " - :
( الله طهره جسما ونزهه   .....  روحا وصيره مثلا بتكوين )

وفي نسخة : لتكوين ، أي الله خاصة طهر جسمه عن الأقذار الطبيعية ، فإنه روح متجسد في بدن مثالي روحاني ولذلك بقي مدة مديدة زائدة على ألف في زماننا هذا ، ومن الهجرة سبعمائة وثلاثون بثلاثمائة وستة وثلاثين ، فإن من ميلاد النبي إلى زماننا هذا سبعمائة وإحدى وثمانين سنة ، وذلك إما من صفاء جوهر طينته ولطافتها وصفاء طينة أمه وطهارتها ، ونزه روحه وقدسه من التأثر بالهيئات الطبيعية والصفات البدنية لتأيده بروح القدس الذي هو على صورته ، ولهذا ما قتل وما صلب كما أخبر الله عنه لتجرده عن الملابس الهيولانية ، وصيره مثلا له بتكوين الطير من الطين وتكوين الأعراض من الحياة والصحة في الموتى والمرضى في نشأته الأولى ، وبكونه خليفة الله وخاتم الولاية في نشأته الثانية أي مثله في الصفات ، أو صيره مثل الخلق في الصورة بتكوينه تعالى إياه من الطبيعة الجسمانية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيى ذلك الشيء وسرت الحياة فيه ولهذا قبض السامري قبضة من أثر الرسول الذي هو جبريل وهو الروح وكان السامري عالما بهذا الأمر فلما عرف أنه جبريل عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه فقبض قبضة من أثر الرسول بالضاد أو بالصاد أي بملء يده أو بأطراف أصابعه فنبذها في العجل فخار العجل ، إذ صوت البقر إنما هو خوار ، ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء للإبل ، والثؤاج للكباش ، واليعار للشياه ، والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام )
 لما كانت الحياة للروح ذاتية لأن الروح من نفس الرحمن لم يؤثر في جسم إذ لم يباشره بالصورة المثالية إلا ظهر فيه خاصية الحياة وأثر من آثارها بحسب صورة ذلك الجسم ، فإن كان ذا مزاج معتدل قابل للحياة ظهر فيه الحس والحركة وجميع خواص الحياة بحسب المزاج المخصوص ، وإن لم يكن ظهر فيه أثر من الحياة بحسب صورته كالخوار لصوت البقر ، وكلما كان الروح أقوى كان تأثيره أقوى وأشد وخاصيته أظهر .
"" أضاف بالي زادة : ( وسرت الحياة فيه ) لأن الحياة أول صفة تعرض الروح فيؤثر بها الروح فيما يطأ عليه . ""

وجبريل عند أهل العرفان هو الروح الكلى المسلط على السماوات السبع وما تحتها من العناصر والمواليد ومحل سلطنته السدرة المنتهى وهي صورة نفس الفلك السابع .
وكل ما في المرتبة العالية من الأرواح فهو مؤثر في جميع ما في المراتب السافلة التي تحتها فأرواح سائر الأفلاك التي تحت السابع كأعوانه وقواه .
وأما روح فلك القمر الذي سماه الفلاسفة العقل الفعال ، فالعرفاء يسمونه إسماعيل ، وهو ليس بإسماعيل النبي عليه السلام بل ملك مسلط على عالم الكون والفساد من أعوان جبريل وأتباعه ، وليس له حكم فيما فوق فلك القمر .
كما لا حكم لجبريل فيما فوق السدرة فظهر جبريل في الصورة المثالية على الحيزوم الذي هو أيضا صورة متمثلة من الروح الحيواني سرى في التراب الذي وطئ عليه فسرت فيه قوة الحياة المتعدية وكان السامري عالما بذلك فقبض قبضة من ذلك التراب فنبذها في الصورة المفرغة على صوره العجل فظهر فيه ما ناسب صورته من الحياة وهو الخوار .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى لاهوتا ، والناسوت هو المحل القائم به ذلك الروح فيسمى الناسوت روحا بما قام به )
لما كانت الحياة من خواص الحضرة الإلهية بل هي عين الذات الإلهية سميت الحياة السارية في الأشياء لاهوتا ، والمحل القائم به ذلك الروح الحي الذي يحيا به المحل ناسوتا وقد سمى المحل الذي يقوم به الروح روحا مجازا تسمية المحل باسم الحال كالرؤية .
وإذا كان المحل الذي يقوم به صورة إنسانية سميت ناسوتا بالحقيقة ، وإذا كان غير الصورة الإنسانية سميت ناسوتا مجازا باعتبار كونه محلا للاهوت
"" أضاف عبد الرحمن جامي : (هو المحل القائم به ذلك الروح ) بل صفاته السارية منه فيه ، فإن الروح ليس قائما بالمحل بل القائم بها هو الصفات السارية من الروح إليه ، والناسوت وإن كان مأخوذا من الناس ليس مخصوصا به بل يطلق عليه وعلى غيره باعتبار محليته لصفات الروح وقيامها به . ولما كان اسم الروح يطلق على الصورة وعلى الصورة المثالية الجبريلية أراد أن ينبه على أنه على سبيل التجوز فقال ( فتسمى الناسوت روحا ) اهـ جامى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبريل لمريم عليها السلام  " بَشَراً سَوِيًّا " تخيلت أنه بشر يريد مواقعتها فاستعاذت باللَّه منه استعاذة بجمعية منها أي بكلية وجودها ) وجوامع هممها بحيث صارت منخلعة من جميع الجهات إلى الله
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ليخلصها الله منه لما تعلم أن ذلك مما لا يجوز ، فحصل لها حضور تام مع الله وهو الروح المعنوي )
لأن حضورها مع الله نفس عنها الحرج الذي بها ، فحصل لها روح معنوي لا يكون إلا بتجل نفسي رحماني .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة لخرج عيسى لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه لحال أمه )
لأن الروح في كل محل يظهر بحسب حال المحل ، فلو كان نفخ الروح فيها في حال الاستعاذة ، وهي حال التحرج والضجر من تخيلها وقوع الفاحشة من البشر الذي تمثل لها ، وكان في صورة التقى النجار لجاء عيسى منقبضا شكس الخلق على صور حال أمه لأنها لما رأته وكانت مقبلة إلى الله زاهدة في الدنيا حصورة عن النكاح تضجرت وحرجت نفسها مما رأت ، فعلم الروح الأمين منها ذلك فآنسها بقوله – " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " .

قال الشيخ رضي الله عنه :   ( فلما قال لها"إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " - جئت – " لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا " - انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها فنفخ فيها ذلك الحين عيسى ، فكان جبريل ناقلا كلمة الله لمريم كما ينقل الرسول كلام الله لأمته وهو قوله – " وكَلِمَتُه أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْه " - فسرت الشهوة في مريم ، فخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم ، ومن ماء متوهم من جبريل سرى في رطوبة ذلك النفخ ، لأن النفخ من الجسم الحاوانى رطب لما فيه من ركن الماء ، فتكون جسم عيسى من ماء متوهم ومن ماء محقق ، وخرج على صورة البشر من أجل أمه ومن أجل تمثل جبريل في صورة البشر ، حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنسانى إلا على الحكم المعتاد )
إنما سرت الشهوة في مريم حين قال لها ما قال ، لأنها آنست حين كانت في محرابها بقول الملائكة في قوله تعالى"إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه اسْمُه الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . وَجِيهاً في الدُّنْيا والآخِرَةِ ومن الْمُقَرَّبِينَ " –
فكانت منتظرة من الله إنجاز وعده . فلما سمعت قول جبريل تذكرت وعلمت أنه حان وقت ذلك وانبسطت ودنا منها جبريل في صورة البشر عند النفخ فتحركت شهوتها بحكم البشرية لأن أكثر هيجان الشهوة في النساء وقت النقاء من الحيض ، وكان انتباذها من فوتها للاغتسال وقت انقطاع الدم ، وكان الوقت وقت غلبة الشهوة ودنو جبرائيل منها في صورة الشاب الحسن ، وتصورت أنه وقت إنجاز وعد ربها – " لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا " .
فاجتمعت الموافقة لما قدر الله من غلبة الشهوة وتمنى ما بشر الله بها وفرح بمداناة الشاب المليح ، فتحركت الشهوة كما في الاحتلام بعينه ، فاحتلمت وجرى ماؤها مع النفخ إلى الرحم النقي الطاهر فعلقت وخلق من ماء محقق من مريم ومن ماء متوهم متخيل من نفخ جبريل .

"" أضاف بالي زادة : ( من ماء متوهم ومن ماء محقق ) فكان لكل واحد منهما خواص تظهر من عيسى اهـ . بالى
فإن حفظ هذه الصورة الشريفة واجب على أنه لو لم يكن على هذه الصورة لما كان نبيا مبعوثا إليهم لعدم بقاء المناسبة بينه وبينهم هذه الصورة صورة الآيات أو صورة عيسى .اهـ بالى . ""

 لأن النفخ من الحيوان رطب فيه أجزاء لطيفة مائية بالفعل مع أجزاء هوائية سريعة المصير إلى الماء ، واجتمع الماءان المحقق والمتكون لتوهمها من مادة النفخ فتكون جسم عيسى روح الله منهما في وقت غلب على أمه البسط والروح بتحقق ما بشرت به في تصورها .
فخرج منشرح الصدر طليق الوجه متبشرا بساطا حسن الصورة غالبا عليه البسط والماء المتوهم ، جاز أن يكون من توهمها أن الولد لا يكون إلا من ماء الرجل فخلق الماء من النفخ بقوة وهمها.
وأن يكون من جهة جبريل لأنه سلطان العناصر يقدر أن يجرى من نفسه الرحماني روح الماء في النفخ فيجعله ماء ، وأما كون عيسى على صورة البشر فلانتسابه إلى أمه ولتمثل جبريل في صورة البشر السوي فكان تكونه على السنة المعتادة والحكمة المتعارفة .
ولأن أشرف الصور هي الصورة الإنسانية المخلوقة على صورة الله تعالى المكرمة عند الله ، ولأن الله لا يتجلى في الحضرات الإيجادية إلا في صورة النوع الذي يوجده أي نوع كان .
ولهذا لما خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا كان متجليا في صورة إنسانية .
ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه : حتى لا يقع التكوين الإنسانى إلا على الحكم المعتاد في هذا النوع ، فإن تكوين عيسى كان في هذا النوع .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فخرج عيسى يحيى الموتى لأنه روح إلهي ، وكان الإحياء لله والنفخ لعيسى كما كان النفخ لجبريل والكلمة لله )
كل موجود كلمة من الله : إما كونية كالأجساد وإما إبداعية كالأرواح ، وإما أحدية جمعية من الظاهر والباطن ، واللاهوت والناسوت كالإنسان الكامل .
والغلبة في كل كامل إنما تكون لمرتبة من المراتب ، وكان الغالب على عيسى حكم اللاهوت فلذلك كان يحيى الموتى وكان الغالب على جسمانيته حكم الروح ، فلذلك رفع إلى الله وبقي عنده في الصورة الروحانية المثالية ، وقد مر أن الفعل والتأثير لا يكون إلا لله ، فلهذا كان الإحياء لله عند نفخ عيسى والكلمة لله عند نفخ جبريل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان إحياء عيسى للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر من نفخه ) .
أي من حيث حصول الإحياء عند نفخه ظاهرا رأى عين فتصح إضافة الإحياء إليه بشاهد الحق عرفا وعادة وتحقيقا أيضا ، لأن هويته هو الله وهو أحدية جمع اللاهوت والناسوت والروحية والصورية ، فيضاف حقيقة من حيث حقيقته اللاهويته .
( كما ظهر هو عن صورة أمه ) أي في المعتادة من ولادة الأولاد ، بهذا الوجه أضيف إلى أمه ونسب إليها فقيل فيه إنه عيسى بن مريم ، وهكذا إضافة الإحياء إلى الصورة العيسوية النافخة للأحياء ( وكان إحياؤه أيضا متوهما أنه منه وإنما كان لله )
وفي نسخة : وإنما كان من الله وهو أصح ( فجمع ) أي الإحياء المحقق والمتوهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بحقيقته التي خلق عليها كما قلناه إنه مخلوق من ماء متوهم وماء محقق ، ينسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه ، وبطريق التوهم من وجه فقيل فيه من طريق التحقيق – فـ " تُحْيِ الْمَوْتى " - وقيل فيه من طريق التوهم – " فَأَنْفُخُ فِيه فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله " - فالعامل في المجرور يكون لا تنفخ ، ويحتمل أن يكون العامل فيه تنفخ فيكون طائرا من حيث صورته الجسمية )
أي لما كان أصل خلقته من ماء محقق وماء متوهم ظهر ذلك في فعله فنسب إليه الإحياء من الوجهين بطريق التحقيق وطريق التوهم .
لأن الفعل فرع على أصل تكوينه فقيل في حقه في الكلام المعجز ما يدل على الوجهين : أما من طريق التحقيق فقوله - فتحى الموتى - وأما من طريق التوهم – " فَأَنْفُخُ فِيه فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله " - على أن العامل في بإذن الله يكون لا تنفخ فيه فيكون الموجب لكونه طيرا إذن الله .
وأمره لا نفخ عيسى ، وإن جعلنا العامل تنفخ كان الموجب لكونه طيرا هو نفخ عسى بإذن الله ، وكان طيرا من حيث أن صورته الجسمية الحسية صورة طير لا طير بالحقيقة .

واعلم أن الإذن هو تمكين الله للعبد من ذلك وأمره به ، فيكون عين العبد المأذون له في إيجاد المأمور والخارق العادة التي لا تنسب إلا إلى الله في العادة .
فحشا معينا بها في الأزل مختصة بذلك الاستعداد علم الله تعالى أن يفعل ذلك عند وجوده وحكم به فيكون حكمه بذلك هو الإذن ، وتمكين عينه الثابتة في الأزل باستعدادها الذاتي هو عناية الله في حقه ، والله أعلم.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك تبرئ الأكمه والأبرص وجميع ما ينسب إليه وإلى إذن الله وإذن الكناية في مثل قوله بإذني وإذن الله ، فإذا تعلق المجرور بتنفخ فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ويكون الطائر عن النفخ بإذن الله ، وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن فيكون التكوين للطائر طائرا بإذن الله فيكون العامل عند ذلك يكون ، فلو لا أن في الأمر توهما وتحققا ما قبلت هذه الصور هذين الوجهين ، بل لها هذان الوجهان ، لأن النشأة العيسوية تعطى ذلك ) .
هذا غنى عن الشرح ومعلوم مما مر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وخرج عيسى من التواضع إلى أن شرع لأمته أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وأن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر لمن يلطمه ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه ، هذا له من جهة أمه إذ المرأة لها السفل فلها التواضع لأنها تحت الرجل حكما وحسا ) لما كان ماء المرأة محققا كان الغالب على أحواله الجسمانية الخصال الانفعالية واللين لما في الإناث من السفل حكما لقوله" الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ " - وقوله – " لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " - و – " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ " - وشهادة امرأتين بشهادة رجل واحد وحسا ظاهر.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما كان فيه من قوة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبريل في صورة البشر فكان عيسى يحيى الموتى بصورة البشر ، ولو لم يأت جبريل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد كان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها ، ولو أتى جبريل بالصور النورية الخارجة عن العناصر والأركان إذ لا يخرج عن طبيعته لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمه فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى هو لا هو ، وتقع الحيرة في النظر إليه ) .
لما كان الإحياء والإبراء من خصائص الأرواح ، لأن الحياة لها ذاتية كانت له خاصية الإحياء من جهة جبريل ، فكان عيسى ينتسب إليه في تلك الخاصية على الصورة التي تمثل بها عند النفخ وإلقاء الكلمة إلى مريم ، لأنه عليه السلام نتيجة تلك الصورة ولهذا يغلب على الولد ما يغلب على الوالد من الأخلاق والهيئات النفسانية حين ينفصل عنه مادة الولد ، ولو أتى بصورة غير الصورة البشرية لما قدر عيسى على الإحياء إلا في تلك الصورة سواء كانت عنصرية عارضية مما له عليها حكم وسلطنة أو نورية طبيعية له .
"" أضاف بالي زادة : ( فكان يقال فيه ) حين تلبسه بالصورتين عند إحيائه الموتى ( هو ) من حيث تلبسه بالصورة البشرية ( لا هو ) من حيث تلبسه بالصورة النورية اهـ بالى . ""

ومعنى قوله : إذ لا يخرج عن طبيعته أنه لا يتجاوز عن صورته النورية الطبيعية إلى ما فوقه ، لأن التمثل بصورة ما تحت قهره وسلطنته في قوته ومنعته كما في صورة العنصريات ، وفيه إشارة إلى أن جبريل سلطان العناصر .
وعلى الأصل الذي قررناه فله أن يتمثل بصورة ما في حيز الفلك السابع وجميع ما تحته ، وليس في قوته أن يتمثل في صورة ما فوق السدرة .
هذا على ما ذكره الشيخ قدس سره : وعندي أن جبريل لو لم يتمثل بصورة البشر لم يتولد عيسى من ماء مريم ونفخه لعدم الجنسية بينه وبين مريم ، ولم تسر الشهوة فيها فضلا عن عدم قدرته على الإحياء في تلك الصورة ويعضد ما قلناه قوله : على تقدير تمثل جبريل عن إلقاء الكلمة إليها في الصورة النورية لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية مع الصورة البشرية من جهة أمه .
وذلك لأن النسبتين يجب كونهما محفوظين فيه عند فعله فكذا يجب حفظ النسبة بين أصليهما في تكونه ، ولو كان عيسى عند الإحياء متمثلا في الصورة النورية الجبريلية مع الصورة البشرية لما في سنخه لكان متحولا عن الطينة البشرية إلى الجوهر النوري ، ولكان يقال فيه إنه عيسى بحسب الهيئة البشرية ليس بعيسى بحسب الجوهر النوري ، فتقع فيه الحيرة من الناظرين ولم تتحقق فائدة الإعجاز

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا يحيى الموتى ، وهو من الخصائص الإلهية إحياء النطق لا إحياء الحيوان ، بقي الناظر حائرا إذ يرى الصورة بشرا للأثر الإلهي ).
أي لكانت الحيرة واقعة في أنه عيسى أوليس عيسى كما وقعت ، مع كونه غير متحرك لا في صورته ولا في طينته من العقلاء بحسب النظر الفكري ، حين رأوا شخصا بشريا لا شك فيه صدر عنه خاصية إلهية هي إحياء الموتى إحياء النطق والدعاء ، يعنى إحياء بالنطق والدعاء ، فكان يقول : قم حيا بإذن الله أو باسم الله أو باللَّه ، فيحيا ويجيبه فيما كلمه به ويقول لبيك إذا دعاه ، لا إحياء الحيوان الذي يمشى ويأكل ويبقى حيا مدة على ما روى في قصته أنه أحيا بنطقه سام بن نوح فشهد بنبوته ثم رجع إلى حالته ، فبقوا حائرين فيه كيف تصدر الآثار الإلهية من البشر

"" أضاف بالي زادةقوله ( وهو ) أي إحياء الموتى ( من الخصائص الإلهية إحياء النطق ) أي يحيى الإنسان الميت ناطقا كعيسى مجيبا لدعوته فكان الإحياء إحياء مع النطق ( لا إحياء الحيوان ) أي لا الإحياء الذي يتحرك ويقوم بدون النطق ، إذ لو كان كذلك لم يكن معجزة ، فلما أحيا سام فقام وشهد بنبوته عليه السلام ثم رجع إلى أول حاله تحيروا فيه فاختلفوا على حسب نظرهم بقي الناظر حائرا اهـ بالى""  .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول وأنه هو الله بما أحيا به من الموتى ، ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو الستر ، لأنهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى ،
فقال تعالى : ( " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " - فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كله لا بقولهم هو الله ولا بقولهم ابن مريم ) .

أي فأدى النظر الفكري إلى بقاء الناظر حائرا فأدى بعضهم في حق عيسى إلى القول بالحلول ، وأنه هو الله في صورة المسيح من حيث أحيا المسيح به الموتى ، فنسبوا في ذلك إلى الكفر لأنهم ستروا الله بصورة بشرة عيسى ، حيث توهموا أنه فيها فكفرهم الله تعالى بقوله – " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " - لأنهم بين الخطأ والكفر في تمام الكلام لا في أجزائه لأنهم لم يكفروا بحمل هو على الله لأن الله هو .
"" أضاف بالي زادةيعنى قال بعضهم من النصارى : إن الله حل في عيسى فأحيا الموتى ، وبعضهم قال : إنه هو الله بما أحيا اهـ . بالى
قوله ( بصورة بشرية ) تنازع فيه ستروا وأحيا فأيهما عمل حذف المفعول الآخر اه ( فجمعوا بين الخطأ ) وهو حصر الحق في الصورة العيسوية . ( والكفر ) وهو ستر الحق فيها ( في تمام الكلام كله ) فكفروا بقولهم هذا بالكفر الشرعي ( لا بقولهم هو الله ) لأنه هو الله من حيث تعينه بالصورة العيسوية وإحياؤه الموتى ، وليس الله هو من حيث تعينه بصورة أخرى ( ولا بقولهم ابن مريم ) اهـ بالى .""

ولا بحمل الله عليه فيقولوا هو الله لأنه الله ، ولا بقولهم ابن مريم لأنه ابن مريم بل بحصر الحق في هوية المسيح ابن مريم وتوهمهم حلوله فيه ، والله ليس بمحصور في شيء بل هو المسيح وهو العالم كله ، فجمعوا بين الخطأ بالحصر وبين ستر الحق بصورة بشرة عيسى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعدلوا بالتضمين من الله من حيث أنه أحيا الموتى إلى الصورة الناسوتية البشرية بقولهم ابن مريم وهو ابن مريم بلا شك ، فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية للصورة وجعلوها عين الصورة ، وما فعلوا بل جعلوا الهوية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصورة والحكم لأنهم جعلوا الصورة عين الحكم )
أي فعدلوا إلى الصورة الناسوتية البشرية من الله من جهة أنه أحيا الموتى بالتضمين : أي بأن جعلوه تعالى في ضمن الصورة الناسوتية وذلك عين الحلول بقولهم :
أي فعدلوا بقولهم ابن مريم وهو كما قالوا ابن مريم ، لكن السامع تخيل أنهم نسبوا الألوهية إلى الصورة وجعلوها عين الصورة ، وهم لم يفعلوا ذلك بل حصروا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصورة المسيحية والحكم عليها بالإلهية بهو الذي الفصل ، فأفاد كلامهم الحصر لا أنهم جعلوا صورة المسيح عين الحكم عليها بالإلهية ، والظاهر أن الشيخ استعمل الحكم بمعنى المحكوم عليه ليطابق تفسيره الآية .
فإن الله في الآية محكوم عليه والمسيح هو المحكوم به . وقد يستعمل الحكم كثيرا بمعنى المحكوم به فلا حرج أن يستعمل بمعنى المحكوم عليه للملابسة ، وأراد أنهم أرادوا حلول الحق في صورة عيسى فأخطئوا في العبارة المتوهمة للحصر فهم السامع أنهم يقولون إن الله هو صورة عيسى ، وهم يقولون بالفصل أي بالفرق ، وهو أن الله في صورة عيسى ، فمعناه حل الحق في عيسى ابن مريم فالحكم على هذا حلول الله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما كان جبريل في صورة البشر ولا نفخ ، ثم نفخ ففصل بين الصورة والنفخ ، وكان النفخ من الصورة فكانت ولا نفخ فما هو النفخ من حدها الذاتي ).
أي جعلوا الهوية الإلهية في صورة بشرية ففصلوا بينهما كما فصل بين الصورة والنفخ بأن جبريل كان في الصورة البشرية ولا نفخ وكان النفخ ، فليس النفخ من ذاتيات الصورة ، فكذلك كانت الهوية قبل النفخ فليس النفخ من ذاتيات الصورة ، فكذلك كانت الهوية الإلهية متحققة بدون الصورة العيسوية قبلها .
"" أضاف بالي زادة(ففصلوا بين الصورة والحكم ) أي الهوية الإلهية فكفروا بالكفر اللغوي وهو الستر ، إذ كل صورة هي إستار طلعته لا بالكفر الشرعي ، وهو معنى قولهم بالحلول أي الله حال في صورة عيسى فأحيا الموتى ، فلما قالوا بالحلول حكموا أن الله هو عيسى ، وهو معنى قوله لا بقولهم هو الله وحصروا الله في المسيح .
فما جمع الكفر والخطأ إلا في قولهم هذا ( لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) ابتداء ، وإنما نسبهم الحق إلى الكفر لا إلى الخطأ .
فإن خطأهم وهو الحصر في قولهم – "إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " ظاهر بين ، وأما كفرهم فلا يدل ظاهر قولهم عليه لأن ظاهر قولهم إن الله هو المسيح لا يدل إلا على العينية .
والكفر للستر والستر يقتضي المغايرة ، فلما نسبهم الحق في قولهم هذا إلى الكفر ارتفع تخيل السامع ، فظهر أن الحق ما قلناه من أنهم فصلوا بين الصورة والحكم ابتداء ، ولو لم يفعلوا لم ينسبوا إلى الكفر فكانت الهوية ولا عيسى ثم وجد لتحقيقها بدونه اهـ بالى . ""

وكذلك كانت الصورة العيسوية متحققة قبل إحياء الموتى المنسوب إلى الإلهية ، فليست إحداهما ذاتية للأخرى ، لا الصورة العيسوية للهوية الإلهية ولا الإحياء المنسوب إلى الإلهية للصورة العيسوية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فوقع الخلاف لذلك بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟
فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية ، فيقول هو ابن مريم .
ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية فينسبه إلى جبريل .
ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى الله بالروحية فيقول روح الله .  أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه )

أي لما اختلفت فيه الحيثيات الثلاث نسبه كل واحد من الناظرين إلى ما غلب عليه في ظنه بحسب نظره ، فمن نظر فيه من حيث ما رأى منه من إحياء الموتى المختص باللَّه نسبه إلى الله بالروحية فقال إنه روح الله وكلمة الله .
وقد اختلف في هذه الجهة دون الأولين لقصور النظر في الجهة الأولى ، فمنهم من قال هو الله ومنهم من قال هو ابن الله على الخلاف المشهور بين المسيحيين.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فتارة يكون الحق فيه متوهما اسم مفعول ، وتارة يكون الملك فيه متوهما ، وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه ، فهو كلمة الله وهو روح الله وهو عبد الله ، وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره )
أي ليس ذلك الخلاف في الصورة الحسية بسبب التوهمات لغير عيسى ، لأنه تكون بنفخ الروح الأمين من غير أب وصدر منه الفعل الإلهي ، وكان أحد جزأى طينته ماء متوهما ، وغيره لم يكن كذلك .
"" أضاف بالي زادة(فهو كلمة الله ) لكونه حاصلا عن نفخ جبريل ( وهو روح الله ) لظهور الحياة به فيمن نفخ ( وهو عبد الله ) لكونه على الصورة البشرية ( وليس ذلك ) الاجتماع ( لغيره ) اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية ، فإن الله إذا سوى الجسم الإنسانى كما قال" فَإِذا سَوَّيْتُه " - نفخ فيه هو تعالى من روحه فنسب الروح في كونه وعينه إليه تعالى ، وعيسى ليس كذلك فإنه أدرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي وغيره كما ذكرنا لم يكن مثله ) .
هذا تقرير لما ذكر من أن صورة عيسى روحانية غلبت عليها الصورة الممثلة المثالية المنتسبة إلى النفخ بخلاف سائر البشر ، لأن كل شخص إذا سوى الله جسمه الصوري نفخ فيه روحه بعد تسوية جسده فنسب الروح في كونه وعينه إلى الله ، بخلاف عيسى فإنه نفخ في أمه مادة جسده فسوى جسده وصورته البشرية بعد النفخ فصارت الروحانية جزء جسده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد فإنها عن كن ، وكن كلمة الله فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه فلا يعلم ماهيتها ، أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول كن فيكون قول كن حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ، وبعضهم إلى الطرف الآخر ، وبعضهم يحار في الأمر ولا يدرى )

أي الموجودات كلها تعينات الوجود المطلق الحق وصور التجليات الإلهية فهي كلماته الكائنة بقول كن وكن عين كلمة الله فإما أن يكون الوجود الحق من حيث حقيقته المطلقة ظهر في صورة الكلمة فلا يعرف حقيقة الكلمة كما تعرف حقيقة الحق .
وإما أن ينزل الحق عن حقيقته المطلقة إلى صورة من يتعين بذلك التعين أي من يقول كن فيكون المتعين عين الكلمة التي هي صورة ما نزل إليه وظهر فيه وهو نفس التعين وعين كن .
 فبعض العارفين وجد الأول ذوقا فذهب إليه ، وبعضهم إلى الثاني .
 وبعضهم وقع في الحيرة فلم يدر حقيقة الأمر وهي الحيرة الكبرى التي للأكابر ..
وأما الأكامل من المحمديين فلم يحاروا بل قالوا بتحقيق الأمرين معا ، فإن كل عين هي نفس المتعين وكل متعين متقيد هو عين المطلق .
فإن المطلق ليس هو المقيد بالإطلاق الذي يقابل المقيد ، بل الحقيقة المطلقة من حيث هو هو فيكون مع كل تعين وتقيد هو هو على إطلاقه ، وعين المقيد الذي نزل إلى صورته ، وعين التعين الذي ظهر في صورته فلا حيرة أصلا .
"" أضاف بالي زادة( وكن كلمة الله ) فتنسب كلمة كن إلى الله إما بحسب مرتبة الألوهية وإما بحسب نزوله إلى صورة من يقول كن لإحياء الموتى ، وإليه أشار بقوله ( فهل تنسب الكلمة إليه تعالى ) اهـ
( للطرف الواحد ) هو أن الله متكلم بكلمة كن في مقام ألوهيته ( والطرف الآخر ) أن الله متنزل في صورة من يتكلم بكن ، فالخالق للعبد بإذن الله والحيرة في أنه هل هو من الحق أم من العبد ، ومعلوم أنه من الخصائص الإلهية لأن هذا العارف يعلم أن الإحياء من الخصائص الإلهية ، فشاهد صدوره من العبد ، فيحار في نسبته إلى الله وإلى العبد لعدم ذوق هذا العارف من تلك المسألة اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلا ذوقا : كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ ، وكان عيسوى المشهد )
يعنى معرفة الإحياء وكيفية نسبة الحق في صورة عبده إلى النافخ باللَّه ، لا يحصل إلا بالذوق فمن لم يحيى لم يحي كما فعل أبو يزيد لم يشهده سهوا محققا ولم يعرفه إلا ذوقا ، فإن الإحياء من الكيفيات والكيفيات لا تعرف بالتعريفات ، ولا يتجلى بالوجودات كما ذكر قبل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما الإحياء المعنوي بالعلم فتلك الحياة الإلهية الذاتية الدائمة العلية النورية التي قال الله فيها – " أَومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه وجَعَلْنا لَه نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ " - فكل من أحيا نفسا ميتة بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقة بالعلم باللَّه فقد أحياه بها ، وكانت له نورا يمشى به في الناس ، أي بين أشكاله في الصورة ) .
يعنى أن الإحياء الحقيقي هو الإحياء المعنوي بالعلم للنفس الميتة بالجهل ، فإن العلم هو الحياة الحقيقية الدائمة السرمدية العلية النورية لنفوس العارفين العالمين باللَّه .
"" أضاف بالي زادةفعلم منه أن كل ما صدر من الأولياء مثل هذا كان ذلك بواسطة روحانية عيسى عليه السلام ، هذا هو الإحياء الصوري ( وأما الإحياء المعنوي ) اهـ بالى .
( بين أشكاله في الصورة ) فظهر أن الإحياء الحسي والمعنوي ، إما من الله بواسطة الإنسان الكامل ، وإما من الإنسان الكامل بإذن الله فكان لكل واحد من الحق والعبد مدخل في وجود حادث ، فيستند الوجود إلى الحق وإلى العبد اهـ بالى . ""

ولكن لا كل علم بل العلم باللَّه وصفاته وأسمائه وآياته وكلماته وأفعاله وقد أعطاه الله أولياءه الكمل الأصفياء يحيون بنفائس أنفاسهم نفوس المستعدين ، ويفيضون عليهم أنوار الحياة النورية العلية العلمية فيحيون بها عن موت الجهل ويمشون في الناس بنورهم ، كما قال تعالى :  " أَومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه " - والمتحقق بهذا الإحياء هو المتحقق باسم الله المحيي بالحقيقة وبالحي والإحياء بهذا المعنى أعز وأشرف من الإحياء بالصورة ، فإنه إحياء الأرواح والنفوس وهي أشرف من الأجساد والصور ، ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان أفضل من عيسى وليس له الإحياء بالصورة بل بالعلم ، لكن الأول أندر وأقل وجودا ، واستشراف النفوس إليه أكثر ، ولذلك عظم وقعه في النفوس :
( فلولاه ولولانا    ....   لما كان الذي كانا )
أي لا بد في الأكوان والتجليات الفعلية من الحق الذي هو منبع الفيض والتأثير، ومن الأعيان القابلة التي تقبل التأثير وتتأثر فتظهر التجليات الأسمائية والأفعالية ، ووجه الارتباط بما قبله أن الإحياءين وجميع الأفعال والأكوان لا بد لها من الألوهية والعبدانية ليتحقق الفعل والقبول والتجلي والمجلى
"" أضاف بالي زادة(فلولاه ولولانا ) أي فلو لم يكن الحق وأعياننا ( لما كان الذي كانا ) أي لما ظهر في الكون ما ظهر وهو بيان لاتحاد الإنسان مع الحق في الربوبية : ( فأنا أعبد حقا  وإن الله مولانا )
وهو بيان للفرق ( وأنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا ) أي إذا سميت عينك بإنسان لا ينافي عينيتنا مع الحق إنسانيتنا اهـ بالى . ""

يقول الشيخ رضي الله عنه  :
( فأنا أعبد حقا      .....     وإن الله مولانا )
(وأنا عينه فاعلم   ......    إذ ما قلت إنسانا )

أي أنا أعبد الحقيقة لأنا نعبده بالعبادة الذاتية أي الأحدية الجمعية ، وإن الله بجميع الأسماء متولينا وولينا ومدبر أمورنا بخلاف سائر الموجودات ، فإنهم عبيده ببعض الوجوه والله مولاهم ببعض الأسماء . وأما الإنسان الكامل فإنه عين الحق لظهوره في صورته بالأحدية الجمعية ، بخلاف سائر الأشياء ، فإنها وإن كان الحق عين كل واحد منها فليست عينه لأنها مظاهر بعض أسمائه فلا يتجلى الحق فيها على صورته الذاتية ، وأما إذا قلت إنسانا أي إنسانا كاملا في الإنسانية فهو الذي يتجلى الحق على صورته الذاتية فهو عينه
( فلا تحتجب بإنسان ....   فقد أعطاك برهانا )
أي فلا تحتجب بالإنسان عن الحق من حيث أن الإنسان اسم من أسماء الأكوان من حيث شخصه ، فإنه من حيث الحقيقة اسم من أسماء الحق من حيث كونه تعالى عين الأعيان بل هو الاسم الأعظم المحيط بجميع الأسماء .
"" أضاف بالي زادة( فلا تحتجب ) بصيغة المجهول ( بإنسان ) أي بأن تسمى بالإنسانية عينيتك مع الحق ( فقد أعطاك ) على عينيتك أو عينيتنا مع الحق ( برهانا ) وهو قوله « كنت سمعه وبصره » اهـ بالى . ""

إلا أن الله تعالى إله رب دائما ، وما يطلق عليه اسم السوي مألوه مربوب دائما ، والإنسان برزخ بين مجرى الإلهية والمألوهية ، والربوبية والمربوبية عين البحرين ، فلا تكن محجوبا بمألوهيته عن إلهيته فقد أعطاك برهانا على إلهيته وربوبيته :

( فكن حقا وكن خلقا  ....   تكن باللَّه رحمانا )
هذا تمام المدعى : أي كن بنور حبك حقا بحسب الحقيقة ، وكن خلقا بحسب الصورة البشرية ، فتقوم بك من حيث حقيقتك جميع الأسماء الإلهية
وتعم بخليقتك جميع الحقائق والأعيان فتعم الحق بحقيقتك الجامعة للذات الإلهية والأسماء كلها .
وتعم الخلق من رحمة الله وفيضه الواصل إلى العالم كله من حيث أنك خليفته على العالم ورابطة وجوده .
وتقوم بجميع ما يحتاج إليه العالم فوسع الحق والخلق بعين ما وسع الحق بك ذلك فتكون رحمانا لعموم وجودك وسعة رحمتك وجودك .
"" أضاف بالي زادة(فكن حقا ) بحقيقتك وروحك ( وكن خلقا ) بنشأتك العنصرية ( تكن باللَّه رحمانا ) أي عام الرحمة بإفاضتك الكمالات الإلهية على عباده اه ( وغذ خلقه منه ) أي من الله ( تكن روحا ) أي غذاء روحانيا لخلقه يغتذي بك ويتلذذ بك ( وريحانا ) حتى تشم من نفحات أنسك مع الحق .
( فأعطيناه ما يبدو . به ) أي أعطينا الحق ما يظهر به من صور استعدادنا ( فينا ) من الأسماء والصفات كالحياة والعلم والقدرة فيظهر فينا بهذه الصفات بحسب استعدادنا ، وفاعل ما يبدو ضمير عائد إلى الحق ، وبه عائد إلى الموصول ( وأعطانا ) ما ظهرنا به من وجودنا وأحوالنا اهـ بالى زادة ""

قال الشيخ رضي الله عنه:
( وغذ خلقه منه   ....  تكون روحا وريحانا )
إشارة إلى ما سبق من أن الحق بالوجود غذاء الخلق ، إذ به قوامه وبقاؤه وحياته كالغذاء الذي به قوام المتغذى وبقاؤه وحياته ، فغذ أنت بالوجود الحق لأنك النائب في ذلك عن الله ، وقد تغذى الحق بأحكام الكون وصور الخلق كما تقرر من قبل .
فظهر له بذلك أسماء وصفات ونعوت وأحكام ونسب وإضافات ، فيكون هذا روحا للحقائق الكونية العدمية تريحها بالوجود عن العدم وتروحها عن ظلمتها بنور القدم ، وتكون ريحانا للوجود الحق بالروائح الحقيقية الكائنة والنشأة الصورية الإمكانية :
( فأعطيناه ما يبدو   ....    به فينا وأعطانا)
(فصار الأمر مقسوما  .....   بإياه وإيانا )

أي أعطينا الحق من قابلياتنا ما يظهر به فينا بنا ، وأعطانا الوجود الذي به ظهرنا ، فصار الأمر الوجودي ذا وجهين : نسبة إلينا ، ونسبة إليه تعالى .
"" أضاف بالي زادة( فصار الأمر مقسوما بإياه ) أي بما أعطيناه إياه ( وإيانا ) أي بما أعطاه إيانا .اهـ بالى""

 منقسما باعتبار العقل لا في العين إلى قسمين :
 قسم له منا ، وقسم لنا منه
 وقد وضع الضمير المنصوب المنفصل موضع المجرور المتصل ، لأن المراد اللفظ أي بهذين اللفظين .
كأنه قال : بأن أعطينا الظهور بنا إياه وأعطى الوجود به إيانا .
( فأحياه الذي يدرى   ....   بقلبي حين أحيانا)

أي حين أحيانا وأوجدنا بوجوده أحياه وأظهره الذي يعلمه في قلبي من حياته بحياتنا وظهوره بصورنا وسمعنا وبصرنا كما ذكرنا في قرب الفرائض ، ومنه قوله : سبحان من أودع ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب ، ثم بدا في خلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب .
"" أضاف بالي زادة( فأحياه ) الضمير القلب المؤخر لفظا المقدم معنى : أي أحيا قلبي بالحياة العلمية ( الذي يدرى . بقلبي ) أي يعلم قلبي واستعداده الأزلي ( حين أحيانا )  بالحياة الحسية . اهـ بالى
( وكنا فيه ) أي وكنا في غيب الحق قبل الحياة ( أكواناوأعيانا وأزمانا) لا حياة لنا بالحياة الحسية والعلمية اهـ ( وليس ) هذا المذكور أو هذا التقريب مع الله ( بدائم فيناولكن ذاك أحيانا) أي وقتا دون وقت كما قال « لي مع الله وقت لا يسعني » الحديث اهـ بالى . ""

( فكنا فيه أكوانا   ....   وأعيانا وأزمانا )
وكنا في الأزل قبل أن يوجدنا أكوانا في ذاته : أي كانت حقائقنا أعيان شؤونه الذاتية الإلهية ، والوجود الحق مظهرا لنا ومجلى لتلك الأعيان ، فكنا فيه أكوانه الأزلية التي كان بنا ، ولم نكن معه لكوننا عين كونه الذي كان ، ولم نكن في غيب العالم الأزلي وكذلك في الوجود العيني أحيانا ، وكوننا بأن كان سمعنا وبصرنا وقوانا وجوارحنا ، وفي الجملة أعياننا في قرب النوافل فكنا سمعه وبصره ولسانه وأعيان أسمائه وأكوانه في قرب الفرائض .
وأما كوننا أزمانا فيه فلتقدم الدهر بتقدم بعضنا على بعض وتأخر بعضنا عن بعض في الوجود والمرتبة ، فإن كل متنوع منا وملزوم من أحوالنا يتقدم في الوجود والمرتبة والشرف تابعة ولازمة ، فكنا في الحق أزمانا بالتقدم والتأخر في المظهرية ، وصار امتداد النفس الرحماني بنا أنفاسا وأوقاتا وامتداد الدهر أزمانا .

( وليس بدائم فينا   .....   ولكن ذلك أحيانا )
أي وليس ذلك القرب أي قرب الفرائض والنوافل دائما فينا ولكن أحيانا ، لقوله عليه الصلاة والسلام « لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل »
وقول زين العابدين : لنا وقت يكوننا فيه الحق ولا يكوننا ، وهو زمان على حقيقة الإنسان الكامل على خلقه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري هو أن الحق وصف نفسه بالنفس الروحاني ، ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما تستلزمه تلك الصفة ، وقد عرفت أن النفس في المتنفس ما يستلزمه فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم فهو لها كالجوهر الهيولاني وليس إلا عين الطبيعة )
النفس الرحماني : هو فيضان وجود الممكنات التي إذا بقيت في العدم على حال ثبوت أعيانها بالقوة كانت كرب الرحمن إذا وصف نفسه بالنفس وجب أن ينسب إليه جميع ما يستلزمه النفس من التنفيس وقبول صور الحروف والكلمات ، وهي هاهنا الكلمات الكونية والأسمائية ، فإن الوجود إنما يفيض بمقتضيات الأسماء الإلهية ومقتضيات قوابلها .
فللنفس أحدية جمع الفواعل الأسمائية والقوابل الكونية والتقابل الذي بين الأسماء وبين القوابل وبين الفعل والانفعال ، فكذلك وجود الإنسان الذي هو من النفس يستلزم الفاعل الذي هو النافخ ، والقابل الذي هو صورة البشر العنصري ، والفعل والانفعال الذي هو النفخ وحياة الصورة .
فلذلك قبل النفخ صور العالم أي وجودات الأكوان ، كما يقبل نفس المتنفس صور الحروف والكلمات ، وبظهورها يحصل النفس عن كرب الرحمن .
فالنفس لها أي لصورة العالم كالجوهر الهيولاني للصور المختلفة ، وليس ما يستلزمه النفس الرحماني إلا عين الطبيعة يعنى الطبيعة الكلية ، وهي اسم الله القوى .
وهي التي لا تكون أفعالها إلا على وتيرة واحدة سواء كانت مع الشعور أو لا معه ، فإن التي لا شعور له معه له شعور في الباطن عند أهل الكشف .
فلا حركة عندهم إلا من الشعور ظاهرا وباطنا حتى إن الجماد له شعور في الباطن ، فالطبيعة الكلية بهذا المعنى تشمل الأرواح المجردة الملكوتية والقوى المنطبعة في الأجرام ، ويسميها الإشراقيون النور القاهر .
"" أضاف بالي زادة( ومما يدل ) يعنى أن النفخ في الصورة العيسوية بلا تقدم الاستواء على النفخ لا كغيره من الإنسان ، فإن استواء صورهم مقدم على نفخ الروح .
والدليل على ذلك قوله ( هو أن الحق وصف ) .اهـ بالى
( في المتنفس ما يستلزمه ) ما : استفهام أو موصول ، أي الذي يستلزمه من صور الحروف والكلمات وإزالة الكرب وغير ذلك ، فاتبع المتنفس بالنفس جميع ما يستلزمه من إزالة الكرب وصور الحروف والكلمات النطقية ( فلذلك ) أي فلأجل اتباع الموصوف جميع ما تستلزمه تلك الصفة ( قبل النفس الإلهي صورة العالم ) اهـ بالى
( وليس إلا عين الطبيعة ) التي هي تقبل الصور ، فقبل نفخ جبريل الصورة العيسوية بحيث لا تنفك عن الروح النفخى فالعرش والكرسي مع أرواحهما وملائكتهما طبيعيون ، فما من صورة من الصور مما سوى الله إلا وهي صورة من صور الطبيعة ، وما من صورة من صور الطبيعة إلا وهي إما عنصرية وإما طبيعية . اهـ بالى . ""

ثم قسموا الأنوار القاهرة أي القوية في التأثير إلى قسمين :
المفارقات ، وأصحاب الأصنام . والمفارقات : هم الملأ الأعلى ، لأن كل واحد من أهل الجبروت والملكوت لا يفعل ما يفعله إلا على وتيرة واحدة ، ولا يفعل بعضهم أفعال بعض كما حكى الله عنهم – " وما مِنَّا إِلَّا لَه مَقامٌ مَعْلُومٌ " - وأصحاب الأصنام هم القوى المنطبعة في الجوهر الهيولاني وخصصها أي الأنوار القاهرة باسم الطبائع .
فإن الطبيعة عند الفلاسفة قوة سارية في جميع الأجسام تحركها إلى الكمال وتحفظها ما دامت تحمل الحفظ ، فوافق وجدان الشيخ وذوقه مذهب الإشراقيين ، فمن الطبيعة الكلية القوى المنطبعة في الأجسام الهيولانية القابلة للصور .
ومن لوازم النفس الرحماني الطبيعة الكلية ، وهيولى العالم القابلة على ما ذكرنا أن النفس يستلزم الفواعل والقوابل وله أحديتهما ، فإن الوجود الإضافي صورة أحدية الفواعل والقوابل حتى تصير الجملة به موجودا واحدا وكلمة هي حروفها كالحيوان والنبات وسائر الأكوان.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالعناصر صورة من صور الطبيعة ، وما فوق العناصر وما تولد عنها فهو أيضا من صور الطبيعة ، وهي الأرواح العلوية إلى فوق السماوات السبع . وأما أرواح السماوات السبع وأعيانها فهي عنصرية ، فإنها من دخان العناصر المتولدة عنها ) .
هكذا ذهب بعض الصوفية وأهل الشرع وكثير من الحكماء الإسلاميين والقدماء الإشراقيين في كون السماوات السبع وعلى هذا المذهب الأرواح العلوية ، إشارة إلى ما فوق العناصر وأرواح السماوات وأعيانها إلى ما تولد عنها :
أي العناصر ( وما تكون عن كل سماء من الملائكة ) أي نفوسها المنطبعة ( فهو منها ) أي من العناصر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهم عنصريون وما من فوقهم طبيعيون ، ولهذا وصفهم الله بالاختصام أعنى الملأ الأعلى لأن الطبيعة متقابلة )
هذا معلوم مما ذكرناه آنفا ، والاختصام بين الملإ الأعلى إنما هو لاختلاف نشأتهم ، لأن الغالب على بعضهم صفة القهر وعلى بعضهم قوة المحبة وصفتها فتختلف مقتضيات نشأتهم فيختصمون.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب إنما أعطاه النفس الرحماني ، ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ، فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم )
إنما التقابل الذي في الأسماء أعطاه النفس أي الوجود لأن التقابل لا يكون بين الأشياء العدمية والمعاني العلمية ، فإن عين الحرارة والبرودة والسواد والبياض في العقل والعلم معا أي منها يجتمع في ذهن الناس ولا تقابل ، والأسماء لا تتقابل إلا في صورها التي يتحقق بها حقائق تلك النسب الأسمائية ، ولولا وجوداتها بظهورها في الصور لم تتقابل وذلك الظهور هو النفس الرحماني ، فلهذا ما كانت الإلهية بالأسماء غنية عن العالمين .
إنما الغنى هو الذات الخارجة عن حكم النفس ، فلهذا خرج العالم على صورة من أوجده من الإله أي الحضرة الواحدية الأسمائية .
"" أضاف بالي زادةقوله ( لأن الطبيعة متقابلة ) وهي مظهر ولاية الأسماء المتقابلة فأجسام الأرواح والملائكة العلوية المسماة بالملإ الأعلى والملائكة المهيمة المخلوقة من جلال الله أجسام نورية طبيعية ، وهي أول ما خلق الله تعالى من الأجسام اهـ بالى
قوله ( والتقابل الذي في الأسماء إنما أعطاه النفس الرحماني ) وهو عين الطبيعة فكان التقابل الطبيعة للذات أو للأسماء بسبب كون الطبيعة محلا لولايتها ؟؟؟ ، فكان التقابل في الأسماء والطبيعة لا في الذات من حيث هي .
قوله ( فلهذا ) أي فلأجل كون التقابل حاصلا في الحضرة الأسمائية ( خرج العالم على صورة من أوجدهم وليس إلا النفس الإلهي ) فخرج العالم يتقابل بعضهم بعضا ، فالطبيعة والعالم والنفس الإلهي يقتضي كل واحد منها التقابل اهـ بالى""

( وليس ) من أوجد أعيان العالم ( إلا النفس الإلهي ) والضمير المنصوب في أوجدهم للعالم باعتبار أعيانه على التغليب ( فيما فيه من الحرارة علا ) في الصور الأسمائية الربانية ( وبما فيه من الرطوبة والبرودة سفل ) في الصورة الكائنة من آخر العالم
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل فالرسوب للبرودة والرطوبة ألا ترى الطبيب إذا أراد سقى دواء لأحد ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه رسب علم أن النضج قد كمل فيسقيه الدواء ليسرع في النجح ، وإنما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعية )
النضج عند الأطباء تهيؤ المادة للاندفاع ، ولا يسهل الاندفاع إلا بالسيلان الذي هو بالرطوبة ، والتسفل والنزول الذي هو بالبرودة ، فإذا رسب في القارورة علم أن الخلط سهل الاندفاع .
"" أضاف بالي زادة( فيما فيه ) أي في النفس الإلهي ( من الحرارة على ) ما علا من العالم كالنار والهواء ( وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل ) من العالم ما سفل كالتراب والماء فتقابل بعض العالم بعضا بالعلو والسفل لتقابل الطبيعة ، فخرج العالم على صورة النفس الإلهي من التقابل اهـ بالى .
فظهر أن الرسوب الرطوبة والبرودة ، والإسراع للدواء ، فاختلف العالم بالكيفيات المختلفة في الطبيعة من كل الوجوه فافهم اهـ . بالى زادة ""

ولهذا قالت الأطباء :
إن القوة الدافعة لا يتمكن على فعلها إلا بمعونة البرودة ، والمقصود أن النفس الذي هو الوجود الواحد يقتضي التقابل بما يستلزمه من الجهتين المختلفتين في الأمر الواحد ، وهو الطبيعة المقتضية للأمور المتضادة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم إن هذا الشخص الإنسانى عجن طينته بيده وهما متقابلتان ، وإن كانت كلتا يديه يمينا فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ، ولم يكن إلا كونهما اثنتين أعنى يدين ، لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها وهي متقابلة فجاء باليدين ) .
ولما كانت الطبيعة مقتضية للتقابل كانت الأسماء الإلهية متقابلة لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها ، فأخبر أن الله تعالى عجن طينة آدم أي الشخص الإنسانى بيديه وهما المتقابلان من أسمائه ، وهو وإن كانتا كلتاهما يمينا أي متساويتين في القوة فالفرق بينهما ظاهر ، فإن الجلال والجمال والقهر واللطف لا خفاء في تقابلهما ، وكذا الفعل والانفعال والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة في الطبيعة ، ولو لم يكن في تقابلهما إلا كونهما اثنين اكتفى في تقابلهما ، فعبر عن كل متضادين باليدين .
"" أضاف بالي زادة( باليدين ) المناسبتين للطبيعة في التقابل ، فعلم منه أنه لا تؤثر العلة في المعلول إلا بشرط وجود المناسبة بينهما فأوجد آدم باليدين لهذا اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما أوجده باليدين سماه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه ، وجعل ذلك من عنايته لهذا النوع الإنسانى ، فقال لمن أبى عن السجود له – " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ " - على من هو مثلك يعنى عنصريا – " أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " - عن العنصر ولست كذلك )
المباشرة اللائقة بالجناب الإلهي باليدين هو التوجه نحوه بإيجاده الأسماء المتقابلة وذلك من كمال عنايته ، ولهذا وبخ إبليس بالامتناع عن سجود من خلقه باليدين ، أي بالجمع بين الصفات المتقابلة ، فيه إشارة منه تعالى إلى فضل من توجه إليه في إيجاده باليدين على من ليس كذلك.
"" أضاف بالي زادة( العالين ) هم الملائكة المهيمون والملائكة المقربون ، كجبريل وغيره من ملائكة العرش والكرسي اهـ
قال المحققون : رسل الملائكة أفضل من عامة البشر ، فكل واحد من الإنسان والملائكة العالين فاضل ومفضول .
فالإنسان من حيث حقيقته الجامعة لجميع المراتب أفضل من الموجودات العنصرية والطبيعية فكان الإنسان أفضل من الملائكة العالين عن ذلك الوجه .
والعالون أفضل من الإنسان من حيث أنه لم تكن نشأتهم النورية عنصرية وإليه أشار بقوله
( ويعنى بالعالين ) فالمراد بالخيرية بالنص الإلهي هي هذه الخيرية لا الخيرية  وإنما توقف معرفة النفس الإلهي إلى معرفة العالم ( فإنه ) أي لأنه ( من عرف نفسه ) وهو جزء من العالم ( عرف ربه ) فإن نفسه تفصيل وتعريف لربه ، فمن عرفها عرفه اهـ بالى"" .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويعنى بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا ، فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا من طين ، فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة باليدين )
العالون : هم الملائكة المهيمون في سبحات جمال وجه الحق لفناء خليقتهم ، لغلبة أحكام الوجوب في نشأتهم عن أحكام الإمكان لنشأتهم النورية وفنائهم عن أنفسهم ، فما فضل الإنسان غيره من الكائنات العنصرية بكونه نوريا بل بكونه بشرا من طين باشر الله خلقه باليدين ، فهو أفضل من كل ما خلقه لا بالمباشرة : أي باليد الواحدة بأن لا يجمع فيه بين المتقابلات بل بالصفات المتماثلة فحسب

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنسانى بالنص الإلهي )
أي الإنسان الذي هو الحيوان لاستهلاك الحقيقة في هذا النوع الخلقية والنورية في الظلمة والظهور بأنفسهم بخلاف العالين ، والنص قوله : "أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي فليعرف العالم ، فإنه من عرف نفسه عرف ربه الذي ظهر فيه ، أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفس الله تعالى به عن الأسماء الإلهية ما تجده من عدم ظهور آثارها بظهور آثارها ، فامتن على نفسه بما أوجده في نفسه ، فأول أثر كان للنفس إنما كان في ذلك الجناب ، ثم لم يزل الأمر يتنزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد )
إنما علق معرفة النفس الإلهي بمعرفة العالم ، لأن العالم ليس إلا ظهور صور الأعيان ، وذلك الظهور هو النفس ، وعلل التعليق بالحديث المذكور لأن الإنسان هو العالم الصغير ، والعالم هو الإنسان الكبير .
فلما بان من عرف نفسه عرف أن ربه هو الذي ظهر فيه ، فكذلك عرف أن الذي ظهر في نفس الرحمن من العالم هو الأسماء الإلهية التي نفس الله تعالى بنفسه عنها كربها الذي تجده من عدم ظهور آثارها بظهور آثارها في صور العالم في النفس ، فامتن على نفسه أولا بما أوجده في نفسه من صور أسمائه فإن الأسماء عين ذاته .
فالامتنان عليها بظهور آثارها امتنان منه على نفسه بنفسه ، فأول أثر كان للنفس إنما كان في الجناب الإلهي بإظهار أسمائه وآثارها لم يزل ينزل الأمر من ظهور الأسماء ثم الآثار بل الأسماء بالآثار إلى آخر ما وجد ، ولا آخر لظهور الأسماء بالآثار والآثار بالأسماء إلى ما لا يتناهى و « ما » في ما تجده موصولة منصوبة المحل بنفس :

قال الشيخ رضي الله عنه :  (
( فالكل في عين النفس   ....    كالضوء في ذات الغلس )
الغلس : ظلمة آخر الليل : أي صور الأسماء الإلهية والأكوان والآثار والأعيان الظاهرة في عماد النفس كالضوء الفاشي في ظلمة آخر الليل ، فإن الضوء يظهر دون الغلس فكذلك يظهر الأسماء وآثارها أي صورها دون النفس ، فإن النفس ما هو إلا هو ظهور هذه الأشياء :

( والعلم بالبرهان في   ....  سلخ النهار لمن نعس )
(فيرى الذي قد قلته      .....  رؤيا تدل على النفس )
يعنى أن العلم بالنفس وما ذكر من لوازمه لا ينال إلا بالكشف ، وأما العلم به من طريق البرهان بتركيب المقدمات واستنتاج النتائج فهو من نعس في وقت سلخ ضوء نهار الكشف عن ظلمة ليل الغفلة ، فيرى رؤيا يعبرها ما قبله من النفس ، ولوازمه عند أهل الكشف يشبه العلم الفكري من وراء حجاب بالرؤيا التي تدل على التعبير على المعنى المكشوف بالتجلي :
( فيريحه عن كل كرب  ....   في تلاوته عبس )
أي فيريحه العلم الحاصل بالبرهان عن كل كرب وضيق وعبوس يجده في حال حجابه وتفكره فيه أرواحه ، يظهر بها على وجهه سر قوله – " وُجُوه يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ - ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ " - بعد عبوسه في تلاوته – " عَبَسَ وتَوَلَّى " - عند احتجابه :
( ولقد تجلى للذي     .....  قد جاء في طلب القبس )
يعنى أن العلم البرهاني قد يفيد سرور الوجدان من وراء حجاب ، وأما طالب الكشف فقد يتجلى له جلية الحق دائما ، كمن جاء في طلب القبس مجدا في طلبه فتجلى له حقيقة هذا السر الخفي عيانا يعنى موسى بن عمران :
( فرآه نارا وهو نور  .....   في الملوك وفي العسس )
أي تجلى له نور وجهه في مثل النار على شجرة نفسه ، وكان نور الأنوار نور الحق المتجلى في إكمال الواصلين السابقين الذين هم ملوك أهل الجنة .
والعمال في الأعمال الحجابية من السعداء والأبرار ، فإن ظهور نوره وتجليه في الشريف الرفيع العلوي .
كظهوره في الدنىء الوضيع السفلى ، والتفاوت في المراتب بالكمال والنقصان إنما يكون بحسب القوابل وإلا فهو في الأوائل والأواخر والحقيقة واحدة :
( فإذا فهمت مقالتي   ....    فاعلم بأنك مبتئس )
وفي بعض النسخ : يعلم بحمل إذا على إن كان فإن فهمت ،
وفي نسخة : عرفت ، أي إن فهمت ما قلت لك فاعلم بأنك في وقوفك خلف الحجاب أو طالب أمر سواه فقير مفلس .

( لو كان يطلب غير ذا  ....   لرآه فيه وما نكس )
أي لو طلب موسى غير النار لرأى الله في صورته ، يعنى لما بلغ غاية جهده وطاقته في الطلب تجلى له الحق في صورة مطلوبه الجسماني الضروري .
وأنت أيضا لو لم تتعلق همتك بغير الحق وغلبت محبتك إياه على محبة الكل عليك لرأيته في صورة ما أهمك .
ولو طلبت غيره وأجلته فأنت محجوب عن الحق بمطلوبك ، فطوبى لمن لم يتعلق بقلبه غير حب مولاه ، ولا يطلب في قصد طول عمره إلا إياه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها الحق في مقام حتى نعلم ويعلم ، استفهمها عما نسب إليها هل هو حق أم لا ، مع علمه الأول بهل وقع ذلك الأمر أم لا ، فقال له : "أأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله " - فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم ، لأنه لما تجلى له في هذا المقام وفي هذه الصورة اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع ، فقال وقدم التنزيه  " سُبْحانَكَ " فحدد بالكاف التي تقتضي المواجهة والخطاب ) .
أي لما تجلى للكلمة العيسوية بتحقق العلم المطلق في المتعين المقيد مع أن الحقيقة تقتضي وحدة المطلق والمقيد والمستفهم ، قام لعيسى في مقام الاثنينية المتكلم والخاطب ، وأفرد كل منهما بتعينه ابتلاء له بظهور علمه المطلق في المظهر العيسوى مقيدا بالإضافة وهو مقام حتى نعلم ويعلم ، أي حتى يظهر علمنا فيه ويعلم هو من حيث هو هو ، لا من حيث هو نحن مستفهما إياه عما هو أعلم به منه مما نسب إليه هل هو حق أم لا ؟

"" أضاف بالي زادة(لما قام لها ) أي للكلمة العيسوية في اليوم الآخر ( الحق في مقام حتى نعلم ) بالتكلم ( ويعلم ) بالغائب ( استفهمها ) أي استفهم الحق كلمة عيسى  (عما نسب إليها ) أي كلمة عيسى اهـ. بالى زادة
( فقال له ) أي لعيسى ، وإنما لم يستفهم عن أمه مريم إذ لا تقع دعوى الألوهية عن المرأة ( أأنت قلت ) يعنى أأنت نسبت الألوهية إليكما أم الناس نسبوا ( في هذا المقام ) وهو مقام التفرقة وهو ضمير الخطاب ( وفي هذه الصورة ) أي صورة الاستفهام الإنكارى ( فقال ) أي فميز بين العبودية والربوبية وهو التفرقة ، فخاطب في الجواب كما خاطبه في السؤال. اهـ بالى زادة ""

ليظهر علمه تعالى في الصورة العيسوية عند إجابته إياه بعين الجمع صورة التفرقة ، فيكون تعين عيسى عينه بعينه تعالى في الصورة العيسوية وعلمها المضاف إليه علمه ، وهذه حكمة الاستفهام مع علمه بأن المستفهم عنه وقع أم لا ؟ لأنه إذا قال له : " أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله " - لم يكن لعيسى أن يقدم التنزيه المطلق الدال على نفى التعدد عن الإلهية .
ودعوى الإلهية والغيرية مع رعاية الأدب في التجلي مع الخطاب ، والغيرية بإضافة سبحان إلى الكاف فأفرده بالتنزيه وحدده بالإضافة بحكم تجلى الخطاب في أنت قلت في مقام التجلي في جوابه ، وحدد الحق مجيبا في التفرقة بعين أحدية الجمع .
(" ما يَكُونُ لِي " - من حيث أنا لنفسي دونك – " أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي ")  من حيث أنا متعين  .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ("بِحَقٍّ " أي ما يقتضيه هويتى ولا ذاتي " إِنْ كُنْتُ قُلْتُه فَقَدْ عَلِمْتَه " لأنك أنت القائل ومن قال أمرا فقد علم ما قال ، وأنت اللسان الذي أتكلم به كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الإلهي فقال: « كنت لسانه الذي يتكلم به » فجعل هويته عين لسان المتكلم ونسب الكلام إلى عبده ، ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله " تَعْلَمُ ما في نَفْسِي "  والمتكلم الحق - " ولا أَعْلَمُ ما " – فيها) من كونها أنت
( ففي العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث أنه قائل وذو أثر ) أي القائل والمتكلم هو الحق
( إنك أنت ، فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه إذ لا يعلم الغيب إلا الله )
يعنى أدى الخطاب بالتفرقة في عين الجمع بالفصل والعماد تحقيقا لإفراد الحق من حيث تعينه في إطلاقه وفصله عن تعينه الشخصي ، ليكون العلم كله منسوبا إليه في الإطلاق والتقييد والجمع والفرق ، فإنه هو  "عَلَّامُ الْغُيُوبِ " .
( ففرق وجمع ووحد وكثر ووسع وضيق ) أي فرق بإفراد المخالطب وتمييزه عن المخاطب ، وجمع بجعل الحق متعينة في الصورة العيسوية وفي كل شيء من العالم وفي ذاته مطلقا ، ووحد بهذا الجمع من حيث أحديته المطلقة وكثر من حيث هذا الفرقان في المتعينات وضيق بجعله كل واحد من التعين ، ووسع من حيث شموله للكل من حيث هو كل .

"" أضاف بالي زادة( ما يكون لي من حيث أنا لنفسي ) أي من حيث عبوديتى وإنيتى ( دونك ) من دون ربوبيتك وهويتك ( أن أقول ما ليس لي بحق أي ما تقتضيه هويتى ولا ذاتي ) فإن مقتضى ذاتي العبودية لا الألوهية .اهـ بالى زادة
( وأنت اللسان الذي أتكلم به ) والوجود واللسان والقول كله لك ومالي إلا العدم ، وهذا هو جهة الجمع إلى قوله ( ونسب الكلام إلى عبده ) بقوله الذي يتكلم به ، فالمتكلم هو العبد لكنه بالحق يتكلم ، وهو نتيجة قرب النوافل ، فجمع التنزيه والتشبيه في كلام واحد ( ثم تمم العبد الصالح الجواب "تَعْلَمُ ما في نَفْسِي " - ) من الكمالات والنقائص المستترة بهويتي لأن نفسي بحسب الحقيقة عين نفسك وهو إشارة إلى قرب الفرائض اهـ بالى زادة. ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قال متمما للجواب " ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به " - فنفى أولا مشيرا إلى أنه ما هو ثمة ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم ، ولو لم يفعل كذلك لا تصف بعدم العلم بالحقائق وحاشاه من ذلك ، فقال – " إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به " وأنت المتكلم على لساني وأنت لساني ، فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها )
في قوله « ما أَمَرْتَنِي به » مع أنه عينه فأفرد الحق بتاء الكناية عن المخاطب ، وحدد نفسه وميزه من حيث مأموريته بتاء كناية المتكلم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (" أَنِ اعْبُدُوا الله " - فجاء باسم الله لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع ولم يعين اسما خاصا دون اسم بل بالاسم الجامع للكل ، ثم قال – " رَبِّي ورَبَّكُمْ " - ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر فلذلك فصل بقوله – " رَبِّي ورَبَّكُمْ " - بالكنايتين كناية المتكلم وكناية المخاطب – " إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به "- فأثبت نفسه مأمورا وليست) أي المأمورية
"" أضاف بالي زادة(ما هو ثمة ) إشارة إلى أن عيسى ليس هو موجودا في هذا المقام حتى يقول قولا بل الوجود كلمة الله ( وحاشاه من ذلك ) فلو لم يثبت الهوية الإلهية بعد ففي الهوية العيسوية لكان نفيا مطلقا وليس الأمر كذلك ، بل الأمر الإثبات بعد النفي أو النفي بعد الإثبات اهـ بالى .
فإن عبد الرحيم ليس بعبد القهار ( فلذلك ) أي فلكون نسبة الربوبية باختلاف المظاهر ( فصل بقوله  "رَبِّي ورَبَّكُمْ " ) اهـ بالى . ""

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( سوى عبوديته ، إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل .
ولما كان الأمر ينزل بحكم المراتب لذلك ينصبغ كل من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كل مأمور ، ومرتبة الآمر لها حكم يبدو في كل أمر فيقول الحق " أَقِيمُوا الصَّلاةَ " فهو الآمر والمكلف المأمور ، ويقول العبد  " رَبِّ اغْفِرْ لِي "  فهو الآمر والحق المأمور ، فما يطلب الحق من العبد بأمره ، هو بعينه يطلب العبد من الحق بأمره ) يعنى بالإجابة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا كان كل دعاء مجابا ، ولا بد إن تأخر كما يتأخر عن بعض المكلفين فمن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة فلا يصلى في وقت فيؤخر الامتثال ويصلى في وقت آخر ،إن كان متمكنا من ذلك فلا بد من الإجابة ولو بالقصد.
ثم قال : " وكُنْتُ عَلَيْهِمْ "  ولم يقل على نفسي معهم ، كما قال – " رَبِّي ورَبَّكُمْ " ، "شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم  " فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي " .
أي رفعتني إليك وحجبتهم عنى وحجبتني عنهم " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " في غير مادتي بل في موادهم إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه ، وجعله باسم الرقيب لأنه جعل الشهود له )
أي لنفسه فعظم الله ونزهه عن أن يشاركه في الاسم أدبا بعين شهودهم أنفسهم بالحق
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه حتى يعلم أنه هو لكونه عبدا ، وأن الحق هو الحق لكونه ربا له ، فجاء لنفسه بأنه شهيد وفي الحق بأنه رقيب ، وقدمهم في حق نفسه فقال : "عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ" ( إيثارا لهم في التقدم وأدبا )
لأن الحق في أنفسهم شهيدا عليهم أيضا ومع الحق فإن التقدم يفيد الاختصاص : أي كنت عليهم خاصة شهيدا دون غيرهم ، لأنه ليس في وسعي الشهادة على جميع الأمم ، فما كنت شهيدا إلا على ما أشهدتنى عليه ، وأما أنت فكنت أنت الرقيب عليهم ، وعلىّ وعلى كل شيء .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله : " أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " لما يستحقه الرب من التقدم بالرتبة ) ومن الرقبة على كل أحد كما ذكر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم اعلم أن للحق الرقيب الذي جعله عيسى لنفسه وهو الشهيد في قوله : " عَلَيْهِمْ شَهِيداً " . فقال : " وأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " فجاء بكل العموم وبشيء لكونه أنكر النكرات ، وجاء بالاسم الشهيد فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود )
ففرق بين الشهادة وأيضا بينه وبين ربه بأن خصص شهادته بأنها عليهم خاصة دون غيرهم ، وعمم شهادة الحق كل شيء.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال – " وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ "  فهي شهادة الحق في مادة عيسوية ، كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره ، ثم قال : كلمة عيسوية ومحمدية أما كونها عيسوية فإنه قول عيسى بإخبار الله عنه في كتابه ، وأما كونها محمدية فلوقوعها من محمد صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وقعت منه ) أي لعلو شأنها ورفعة مكانها عنده .
"" أضاف بالي زادة" وأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " يعنى أنا شهيد على قوم مخصوصين ما دمت فيهم وأنت عليهم وعلى كل شيء شهيد أزلا وأبدا ، وهي شهادة الحق في مقام الجمع والإطلاق ، فأثبت الشهادة أولا بنفسه بقوله : "وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ".
 ونفى ثانيا بإثباتها وحصرها للحق بقوله " وأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " - اهـ بالى .
( ثم قال كلمة عيسوية ومحمدية ) وهي " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ " - الآية أي ألحقه بالكلام السابق المحرر اه والمراد ( بالمشهود الحاضر ) عالم الشهادة وبما يراد به هو الحق تعالى ، أي يشاهد الحق بالمشهود الحاضر ويستدل به فكان الحق نفسه مشهودا بالعالم الشهادة ، وهم لا يشاهدون الحق بالمشهود ، ولا يستدلون به لكون الغيب سترا وحجابا لهم فكانوا محجوبين عن الحق اهـ بالى .  ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى طلع الفجر – " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " - وهم ضمير الغائب ، كما أن هو : ضمير الغائب .
كما قال :  " هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " بضمير الغائب فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر فقال : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " – بضميرالغائب وهو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق ) .

أي حجاب بعين عيسى وحجابيتهم ، فإنهم إنما حجبوا بالصورة الشخصية المتعينة ، وحصروا الحق فيه بقولهم " إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " فكفروا - أي ستروا وغابوا عن الحق المتعين فيهم وفي الكل من غير حصر ، وذلك الحجاب والستر كان غيبا.
( فذكرهم الله النبي قبل حضورهم ) الحق المتجلى في الفرقان يوم الجمع والفصل ( حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكمت في العجين ) أي من حيث أحدية جمع العين .
"" أضاف بالي زادة( حتى إذا حضروا ) بين يدي الله ، وشاهدوا ما كانوا عليه قبل ذلك من الحجاب ( تكون الخميرة ) هي ما أودع في طينة أبدانهم من استعداد الوصول إلى حضرة الحق ، والعجين طينة أبدانهم فمقتضى العجين الستر والحجاب والخميرة الكشف عن الحق ، فقد تحكم خميرتهم على عجينتهم في الدنيا فتصيرها مثله في الستر ، فإذا قامت قيامتهم انتهى حكم العجين فتحكمت فيه كما تحكم فيها اهـ بالى .
( أي المنيع الحمى ) يعنى أن ذاتك بحسب الاسم العزيز والغفور ويقتضي مظهرا يظهر بهما كمال الظهور ولا أكمل مظهرا ممن جعل لك شريكا ، فإن لم تسترهم من العذاب فائت هذه الحكمة التي يراد وقوعها ، وهو ظهور الحق بكمال الغفارية أي منيع الحمى ، وما حماه إلا عين عبده ( يريد به المنتقم ، والمعذب من الانتقام والعذاب )
فمقتضى هذا الاسم منع العذاب عن العبد المذنب لذلك التجأ في دعائه إليه فأجاب الله دعاءه حفظا
عن إضاعة مجاهدته في ليلة كاملة ( تقديم الحق وإيثار جنابه ) من أن الحق يريد القهر والانتقام منهم ( فدعا عليهم لما لهم ) لأن الأنبياء لا يريدون إلا ما يريده الحق ، فلو لم يلاحظ العفو ما بالغ في دعائه ليلة كاملة ، فما نزلت الآية عليه إلا أن يشفع لهم ، ولا يشفع إلا لمن يقبل الشفاعة اهـ  بالى زادة. ""

( فصيرته مثلها فإنهم عبادك فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ) في الحقيقة وإن كانوا لا يعلمون ذلك ، فإنهم كانوا مشركين في زعمهم ومعتقدهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم فهم بحكم ما يريد بهم سيدهم ولا شريك له فيهم .
فإنه قال : " عِبادُكَ "  فأفرد والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذل منهم لكونهم عبادا ، فذواتهم تقتضي أنهم أذلاء فلا تذلهم فإنك لا تذلهم بأدون مما هم فيه من كونهم عبيدا "وإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ "
أي تسترهم عن إيقاع العذاب الذي يستحقونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا تسترهم عن ذلك وتمنعهم منه " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ " أي المنيع الحمى ، وهذا الاسم إذا أعطاه الحق لمن أعطاه من عباده يسمى الحق بالمعز ، والمعطى له هذا الاسم بالعزيز ، فيكون منبع الحمى عما يريد به المنتقم ، والمعذب من الانتقام والعذاب ، وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ، ولتكون الآية على مساق واحد في قوله " إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " وقوله " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " فجاء أيضا " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ، فكان سؤالا من النبي صلى الله عليه وسلم وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة ، فلو سمع الإجابة في أول السؤال ما كرر ، فكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصلا فيقول له في كل عرض عرض وعين عين " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " - فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم، فما عرض عليه إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله والتعريض لعفوه)
« ما » في ما تعطيه بدل ما استحقوا به العفو مما تعطيه هذه الآية من التسليم لله وتفويض أمرهم إليه ، وحذف مفعول استحقوا لدلالة قوله والتعريض لعفوه عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه أخر الإجابة عنه حتى يتكرر ذلك منه حبا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء باسم الحكيم ، والحكيم : هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ، ولا يعدل بها عما يقتضيه ويطلبه حقائقها بصفاتها فالحكيم هو العليم بالترتيب )  أي فالحكيم هو العليم بترتيب الأشياء
( فكان صلى الله عليه وسلم بترداد هذه الآية على علم عظيم من الله فمن تلا فهكذا يتلو )
أي بالعلم البكاء والتعريض ومحافظة الأدب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإلا فالسكوت أولى به ، وإذا وفق الله العبد إلى نطق بأمر ما فما وفقه إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته ، فلا يستبطئ أحد ما يتضمنه ما وفق له وليثابر مثابرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الآية في جميع أحواله حتى يسمع بأذنه أو سمعه كيف شئت أو كيف أسمعك الله الإجابة ، فإن جازاك بسؤال اللسان أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ) المعنى واضح.

 .
واتساب

No comments:

Post a Comment