Sunday, December 15, 2019

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
ولأجل حصول هذه الحكمة في كلمته أخبر عن نبوته في المهد بقوله "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " بخلاف سائر الأنبياء فإنهم لا يدعي أحد منهم مثل ذلك والمراد بها النبوة العامة لا النبوة التشريعية فعيسى عليه السلام ختم النبوة العامة والولاية العامة فالأنبياء والأولياء لا يأخذونها إلا من مشكاته إلا ختم الرسل
( شعر ) :
قال الشيخ رضي الله عنه :
عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين ... في صورة البشر الموجود من طين
قال الشيخ رضي الله عنه :( عن ماء مريم ) استفهام تقرير حذفت همزته ( أو ) بمعنى الواو ( عن نفخ جبرين ) أي جبرئيل قوله ( في صورة البشر الموجود ) ظرف لجبرين أي المخلوق ( من طين ) وقوله عن ماء مريم متعلق بقوله :
(تكون الروح في ذات مطهرة ... من الطبيعة تدعوها بسجين)
 ( تكون الروح ) العيسوي ( في ذات مطهرة ) وهي ذات مريم ( من الطبيعة ) أي من أدناسها وأرجاسها ومقتضياتها من اللذات الشهوانية ( تدعوها ) أي الطبيعة التي تدعو مريم أي شأن هذه الطبيعة أن تدعو مريم ( بسجين ) أي بجحيم
(لأجل ذلك قد طالت إقامته ... فيها فزاد على ألف بتعيين)
( لأجل ذلك ) أي لأجل تكون الروح العيسوي في الذات المطهرة ( قد طالت إقامته فيها ) أي في السماوات فإن طهارة المحل تبعد الحال عن الكون والفساد ( فزاد على ألف بتعيين ) مبين في علم التواريخ .
(روح من الله لا من غيره فلذا ... أحيا الموات وأنشا الطير من طين)
( روح ) خبر مبتدأ محذوف ( من اللّه لا من غيره ) أي هو خلقه اللّه بذاته لا بواسطة روح من الأرواح ( فلذا ) أي فلكون روحه من اللّه بغير واسطة ( أحي الموات وأنشأ الطير من طين ) بسبب تقربه إلى اللّه وتحققه بصفاته الخاصة به وإنما أحي الموتى وأنشأ الطير.
(حتى يصح له من ربه نسب ... به يؤثر في العالي وفي الدون)
( حتى يصح ) أي كي يصح أو معناه لأجل إحياء الأموات وإنشاء الطير صح ( له من ربه نسب ) بفتح النون مصدر والمراد به وصف أو بالكسر جمع نسبة وكلاهما صحيح ( به ) أي بسبب هذا النسب ( يؤثر في العالي ) وهو إحياء الموتى من الإنسان ( وفي الدون ) وهو خلق الطير المعروف من الطين .
(الله طهره جسما ونزهه  ....  روحا وصيره مثلا بتكوين )
( اللّه طهره جسما ) من أرجاس الطبيعة ( ونزهه روحا ) عما يوجب
النقائض وزينه بالصفات الإلهية والأخلاق الكريمة ( وصيره ) أي جعله ( مثلا ) أي مماثلا له تعالى ( بتكوين ) أي بسبب تكوين الطير .

قال الشيخ رضي الله عنه :( واعلم أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيى ذلك الشيء وسرت الحياة فيه ) لأن الحياة أول صفة تعرض للروح فيؤثر بها الروح فيما يطأ عليه ( ولهذا ) أي ولأجل سريان الحياة فيما يطأ عليه الروح ( قبض السامري قبضة من أثر الرسول ) أي أخذ السامري ترابا من مكان الذي وطئ عليه الرسول عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :( الذي هو جبرائيل وهو الروح وكان السامري عالما بهذا الأمر فلما عرف أنه جبرائيل عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه فقبض قبضة من أثر الرسول عليه السلام بالضاد ) المعجمة ( أو بالصاد ) المهملة ( أي بملء يده ) تفسير بالضاد المعجمة ( أو بأطراف أصابعه ) تفسير بالصاد المهملة .
( فنبذها ) أي القبضة والمراد به المقبوضة ( في العجل فخار العجل ) لسريان الحياة فيه وإنما لم يصوت غير الخوار ( إذ صوت البقر إنما هو خوار ) لا غير ( ولو إقامة ) أي لو نبذ السامري ما قبضه من أثر الرسول عليه السلام ( صورة أخرى ) أي غير صورة العجل .
قال الشيخ رضي الله عنه :( لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء للإبل والثواج للكباش والعياء للشياه والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام ) .
(فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى ) الروح ( لاهوتا ) لكون الحياة صفة إلهية فيسمى الروح بسبب اتصافه بالحياة السارية في الأشياء لاهوتا ( والناسوت هو المحل القائم به ذلك الروح ) فالناسوت هو البدن ( فسمي الناسوت روحا بما ) أي بسبب الذي ( قام ) هو ( به ) أي الناسوت وقد يسمى المجموع روحا لقوله عليه السلام : « وهو روح منه » .

فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبرائيل لمريم عليها السلام بشرا سويا تخيلت مريم ( أنه ) أي جبرائيل ( بشر يريد مواقعتها فاستعاذت باللّه منه استعاذة بجمعية منها ) أي استعاذة بجميع قواها الروحانية من نفسها ( ليخلصها اللّه منه لما تعلم ) مريم ( أن ذلك ) الفعل ( مما لا يجوز ) للإنسان أن يفعله ( فحصل لها ) بسبب هذه الاستعاذة ( حضور تام مع اللّه ) على وجه لا يبقى مناسبته خليقية لها .
( وهو ) أي الحضور التام ( الروح المعنوي ) فلما حصلت هذه الحالة لمريم لم ينفخ جبرئيل فيها في ذلك الوقت ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت ) حال كون مريم ( على هذه الحالة ) أي على الحضور التام مع اللّه ( لخرج عيسى عليه السلام لا يطيقه أحد لشكاسة ) أي لصعوبة ( خلقه بحال أمه ) لأن الولد يتبع الأم في الصفات والأخلاق .
( فلما قال ) جبرائيل ( لها :إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّاانبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى عليه السلام فكان جبرائيل ناقلا كلمة اللّه لمريم كما ينقل الرسول كلام اللّه لأمته وهو ) أي تلك الكلمة المنقولة عن جبرائيل إلى مريم .
قال الشيخ رضي الله عنه :( قوله تعالى وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وتذكير الضمير باعتبار عيسى عليه السلام أو باعتبار ما بعده فإذا نفخ فيها .
( فسرت الشهوة في مريم فخلق جسم عيسى عليه السلام من ماء محقق من مريم ومن ماء متوهم من جبرائيل سرى في رطوبة ذلك النفخ لأن النفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه ) أي في الجسم الحيواني .
( من ركن الماء فيكون جسم عيسى عليه السلام من ماء متوهم ) ماء جبرائيل ( و ) من ( ماء محقق ) ماء مريم فكان لكل واحد منهما خواص تظهر من عيسى عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وخرج على صورة البشر من أجل أمّه ومن أجل تمثل جبرائيل في صورة البشر حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني الأعلى الحكم المعتاد ) فإن حفظ هذه الصورة الشريفة واجب على أنه لو لم يكن على هذه الصورة لما كان نبيا مبعوثا إليهم لعدم بقاء المناسبة بينه وبينهم .
( فخرج عيسى عليه السلام ) بسبب تكونه من هذين الأمرين ( يحيي الموتى لأنه روح إلهي وكان الأحياء للَّه والنفخ لعيسى عليه السلام كما كان ) النفخ ( لجبرائيل والكلمة للَّه)
قال الشيخ رضي الله عنه :(فكان إحياء عيسى عليه السلام للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر عن نفخته كما ظهر هو عن صورة أمّه فكان إحياؤه أيضا متوهما أنه ) أي الإحياء ( منه).
( وإنما كان ) أي الإحياء ( للَّه ) حقيقة ولعيسى عليه السلام مجازا ( فجمع ) عيسى عليه السلام هذين الوجهين ( بحقيقته التي خلق عليها كما قلناه إنه لمخلوق من ماء متوهم ومن ماء محقق لينسب إليه الأحياء بطريق التحقيق من وجه ) أي من حيث أن الإحياء في الحقيقة للَّه .
( فقيل فيه ) أي في حق عيسى عليه السلام ( من طريق التحقيق وتحيي الموتى ) أي أسند الإحياء إليه حقيقة ( وقيل فيه من طريق التوهم فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه فالعامل في المجرور يكون لا قوله : تنفخ ) فيكون الطير صادرا عن اللّه في الحقيقة فما كان لعيسى عليه السلام إلا النفخ .

قال الشيخ رضي الله عنه :( ويحتمل أن يكون العامل فيه تنفخ فيكون طيرا ) صادرا عن نفخ عيسى عليه السلام ( من حيث صورته الجسمية المحققة ) في الإحياء لعيسى عليه السلام حقيقة وما كان للَّه إلا الإذن بالنفخ ( وكذلك ) أي وكذا القول في قوله تعالى في حق عيسى عليه السلام (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وجميع ما ينسب إليه ( أي إلى عيسى عليه السلام ( وإلى إذن اللّه أو إذن الكناية.
(يقبل الجهتين جهة التحقيق وجهة التوهم ( في مثل قوله تعالى بِإِذْنِي وهو إذن الكناية .
( وبِإِذْنِ اللَّهِ فإذا تعلق المجرور بتنفخ فيكون النافخ مأذونا له في النفخ فيكون الطائر عن النافخ بإذن اللّه ) وهذا هو جهة الحقيقة .
( وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن فيكون التكوين للطائر طائرا ) نفسه ( بإذن اللّه فيكون العامل عند ذلك يكون ) هذا هو جهة التوهم فثبت أن حقيقة عيسى عليه السلام من ماء متوهم.
قال الشيخ رضي الله عنه :( فلو لا أن في الأمر ) أي في حقيقة عيسى عليه السلام ( توهما تحققا ما قبلت هذه الصورة ) صورة الآيات وصورة عيسى عليه السلام ( في هذين الوجهين بل ) ثابت أو مختص ( لها ) أي لهذه الصورة ( هذان الوجهان لأن النشأة ) أي الحقيقة ( العيسوية يعطي ذلك ) الوجهين للصورة العيسوية .
( وخرج عيسى عليه السلام من التواضع إلى أن شرّع ) بتشديد الراء ( لامته ) فسرى ذلك التواضع الحاصل لعيسى عليه السلام من جهة أمّه إلى ( أن يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ

صاغِرُونَ)  أي متذللون متواضعون جاعلون لأنفسهم حقيرا ذليلا منقادا .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وأن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر لمن يلطمه ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه هذا له ) أي هذا التواضع حاصل لعيسى عليه السلام ( من جهة أمّه إذ المرأة لها السفل ) في الحقيقة ( فلها التواضع في الصورة لأنها تحت الرجل حكما ) كما في قوله تعالىالرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ.\

قال الشيخ رضي الله عنه :( وحسا ) كما في التصرف فما كان فيه وأمته من الضعف فهو من جهة أمّه ( وما كان فيه من قوة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبرائيل عليه السلام في صورة البشر فكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى بصورة البشر ) من أجل ذلك ( ولو لم يأت جبرائيل عليه السلام في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى عليه السلام لا يحيي الموتى إلا حين يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها )
(ولو أتى جبرائيل عليه السلام بصورته النورية الخارجية عن العناصر ) والسماوات فإن كلها عنصرية .

قال الشيخ رضي الله عنه :( والأركان إذ ) أي حيث ( لا يخرج عن ) صورة ( طبيعية ) النورية ( لكان عيسى عليه السلام لا يحيي الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمّه فكان يقال فيه ) أي في حق عيسى عليه السلام حين تلبسه بالصورتين ( عند إحيائه الموتى هو ) من حيث تلبسه بالصورة البشرية ( لا هو )  من حيث تلبسه بالصورة النورية .
( وتقع الحيرة في النظر إليه كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا سويا من البشر يحيي الموتى وهو ) أي إحياء الموتى ( من الخصائص الإلهية إحياء النطق ) أي يحيي الإنسان الميت ناطقا لعيسى عليه السلام مجيبا لدعوته فكان الأحياء مع النطق .
قال الشيخ رضي الله عنه :( لا احياء الحيوان ) أي لا الإحياء الذي يتحرك الميت ويقوم من قبره بدون النطق إذ لو كان كذلك لم يكن معجزة فلما أحيى سام فقام وشهد نبوته ثم رجع إلى أول حاله تحيروا فيه فاختلفوا على حسب مظهر نظرهم ( بقي الناظر حائرا إذ يرى الصورة بشرا بالأثر الإلهي فأدّى ) نظر ( بعضهم فيه ) أي في حق عيسى عليه السلام ( إلى القول بالحلول ) .

يعني قال بعضهم من النصارى أن اللّه تعالى حل عيسى عليه السلام فأحيا الموتى ( وأنه ) أي وبعد قولهم بالحلول قال ذلك البعض أن عيسى ( هو اللّه بما ) أي بسبب الذي ( أحيا به الموتى ) وهو قوله : قمبِإِذْنِ اللَّهِ ( ولذلك ) أي ولأجل أن بعضهم قالوا إن اللّه حل في صورة عيسى عليه السلام وأن عيسى عليه السلام هو اللّه ( نسبوا إلى الكفر وهو الستر لأنهم ستروا اللّه الذي أحيا الموتى ) قوله ( بصورة بشرية ) تنازع فيه ستروا وأحيا فأيهما عمل حذف مفعول الآخر ( عيسى ) عليه السلام بيان لصورة بشرية .
( فقال تعالى :لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ *فجمعوا بين الخطأ ) وهو حصر الحق في الصورة العيسوية ( والكفر ) وهو ستر الحق فيهما ( في تمام الكلام كله ) فكفروا بقولهم هذا بالكفر الشرعي ( لا بقولهم هو اللّه ) لأنه هو اللّه من حيث تعينه بالصورة

العيسوية وإحياء الموتى وخلق الطير فاللّه ليس هو من حيث تعينه بصورة أخرى فكان عيسى عليه السلام هو لا هو ( ولا بقولهم ابن مريم ) أي لتصديق هذا القول ( فعدلوا بالتضمين ) أي بأن جعلوا الحق في الصورة العيسوية وهو قولهم إن اللّه يحلّ في صورة عيسى عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :( من اللّه ) متعلق بعدلوا ( من حيث أنه ) أي من حيث أن اللّه ( أحيا الموتى ) قوله ( إلى الصورة الناسوتية البشرية ) متعلق بعدلوا ( بقولهم ابن مريم وهو ابن مريم بلا شك ) وهو دليل عدولهم من اللّه إلى الصورة الناسوتية ( فتخيل السامع ) أي سامع قولهمإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .
( أنهم ) أي القائلون بهذا القول ( نسبوا الألوهية ) ابتداء للصورة العيسوية ( وجعلوها ) أي الألوهية ( عين الصورة وما فعلوا ) ذلك ( بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء ) حالة ( في صورة بشرية ) صورة عيسى عليه السلام ( وهي ابن مريم ) وهو صورة سترهم ( ففصلوا بين الصورة ) العيسوية ( والحكم ).
أي الهوية الإلهية فكفروا بالكفر اللغوي وهو الستر إذ كل صورة وهي إستار طلعته لأن الكفر الشرعي في تمام الكلام كله وهو معنى قولهم بالحلول أي اللّه حالّ في صورة عيسى عليه السلام فأحيا الموتى فلما قالوا بالحلول حكموا أن اللّه هو عيسى وهو معنى قوله لا بقولهم هو اللّه وحصروا اللّه في المسيح فما جمع الكفر والخطأ إلا في قولهم هذا .

( لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) ابتداء وإنما نسبهم الحق إلى الكفر لا إلى الخطأ فإن خطأهم وهو الحصر في قولهم " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ " ظاهر بين .
وأما كفرهم فلا يدل ظاهر الآية عليه لأن ظاهر قولهم "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ " لا يدل على العينية والكفر هو الستر والستر يقتضي المغايرة فلما نسبهم الحق في قولهم هذا إلى الكفر ارتفع تخيل السامع فظهر الحق بما قلناه من أنهم فصلوا بين الصورة والحكم ابتداء.

ولو أنهم لم يفعلوا ما قلناه لم ينسبوا إلى الكفر ولم يقل الحق في حقهملَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ *[ المائدة : 17 ] الآية فكانت الهوية ولا عيسى عليه السلام ثم وجد لتحققها بدونه ( كما كان جبرائيل ) متمثلا ( في صورة البشر ولا نفخ ثم نفخ ففصل ) أي فرق ( بين الصورة والنفخ ) سواء كان النفخ من صورة جبرائيل في عيسى عليهما السلام أو من صورة عيسى عليه السلام في الطير ( وكان النفخ ) أي وجد ( من الصورة فقد كانت ) أي وجدت الصورة ( ولا نفخ ) فإذا فصل بين الصورة والنفخ .
( فما هو النفخ من حدها الذاتي ) أي ليس النفخ من الحد الذاتي للصورة سواء كانت الصورة لجبرائيل أو لعيسى عليهما السلام لوجود الصورة بدون النفخ ولا الصورة العيسوية حدا ذاتيا للهوية الإلهية لتحقق الهوية بدون الصورة العيسوية ولا الأحياء حدا ذاتيا للصورة العيسوية لوجودها قبل الأحياء.
قال الشيخ رضي الله عنه :( فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى عليه السلام ما هو فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية فيقول : هو ابن مريم ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية فينسبه لجبرائيل ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من احياء الموتى فينسبه  إلى اللّه بالروحية فيقول : روح اللّه أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه فتارة يكون الحق فيه متوهما اسم مفعول ) من حيث إحيائه الموتى.

قال الشيخ رضي الله عنه :( وتارة يكون الملك فيه متوهما ) اسم مفعول من حيث كونه عن نفخ جبرائيل ( وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهما ) من حيث أنه ابن مريم ( فيكون ) عيسى عليه السلام  (عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه فهو كلمة اللّه ) لكونه حاصلا عن نفخ جبرائيل ( وهو روح اللّه ) لظهور الحياة فيمن نفخ فيه ( وهو عبد اللّه ) لكونه على الصورة البشرية .
( وليس ذلك ) الاجتماع أوليس ذلك النفخ الحاصل في الصورة الحسية العيسوية حاصلا ( في الصورة الحسية ) البشرية ( لغيره ) حتى وقع فيه الخلاف الواقع بين أهل الملل في عيسى عليه السلام ( بل كل شخص ) لعدم اجتماع حقائق هذه الوجوه فيه ( منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية ).
وإنما لم يكن لغير عيسى عليه السلام من البشر ما كان لعيسى عليه السلام ( فإن اللّه تعالى إذا سوى الجسم الإنساني كما قالفَإِذا سَوَّيْتُهُ *) فنفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( نفخ فيه هو تعالى من روحه ) جواب لقوله إذا سوّى الجسم الإنساني ( فنسب الروح في كونه ) أي في وجود الإنسان ( وعينه ) الحسي ( إليه تعالى ) فكان نسبة الروح إلى اللّه في حقه بعد التسوية ففصل بين تسوية الجسم والنفخ الروحي في غيره فلم يسم روح اللّه ( وعيسى عليه السلام ليس كذلك فإنه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي ) فلم يفصل بين تسوية الجسم العيسوي وبين روحه فلا يتقدم تسوية جسمه على نفخ روحه .
( وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله ) أي لم يكن مثل عيسى عليه السلام في الخلقة فلا يكون غير عيسى عليه السلام محلا للخلاف كما كان عيسى عليه السلام فإذا كان نافخ الروح هو اللّه ( فالموجودات كلها كلمات اللّه التي لا تنفد فإنها ) أي الموجودات صادرة (عن كن وكن كلمة اللّه ) فتنسب كلمة كن إلى اللّه .
إما بحسب مرتبة ألوهية وإما بحسب نزوله إلى صورة من يقول كن لإحياء الموتى ، وإليه أشار بقوله ( فهل تنسب الكلمة إليه تعالى بحسب ما هو عليه ) من مقام ألوهيته بدون النزول وتكلم بلسانه بكلمة كن فأحيا الموتى وخلق الطير من صورة عيسى عليه السلام ( فلا تعلم ماهيتها ) حينئذ إذ كلمته عين ماهيته فلا تعلم ماهيته فلا تعلم كلمته .

قال الشيخ رضي الله عنه :( أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول ) له ("كُنْ فَيَكُونُ " قول كن حقيقة لتلك الصورة التي نزل ) الحق ( إليها وظهر فيها ) وتكلم بكن لإحياء الموتى وخلق الطير ( فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ) وهو أن اللّه متكلم بكلمة كن في مقام ألوهيته وهو المحيي والخالق لا العبد ( وبعضهم إلى الطرف الآخر ) وهو أن اللّه متنزل في صورة من يتكلم بكلمة كن فالخالق والمحيي هو العبد بإذن اللّه .
( وبعضهم يحار في الأمر ) أي في صدور الأمر الخارق من العبد كالإحياء وخلق الطير ( ولا يدري ) من أي شيء هو أمن الحق أم من العبد لأن هذا العارف يعلم أن الإحياء من الخصائص الإلهية فشاهد صدوره من العبد فيحار في نسبته إلى اللّه وإلى العبد لعدم ذوق هذا العارف من تلك المسألة ( وهذه ) أي الإحياء والخلق .
قال الشيخ رضي الله عنه :( مسألة لا يمكن أن تعرف ) بكنه الحقيقة ( إلا ذوقا كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت ) بسبب نفخه ( فعلم عند ذلك ) النفخ ( بمن ينفخ فنفخ فكان ) أبو يزيد ( عيسوي المشهد ) فعلم منه أن كل ما صدر من الأولياء مثل هذا كان بواسطة روحانية عيسى عليه السلام هذا هو الإحياء الصوري .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وأما الإحياء المعنوي بالعلم فتلك الحياة الإلهية الذاتية العلمية النورية التي قال تعالى فيها ) أي في حق هذه الحياة ( أو من كان ميتا ) بالجهل ( فأحييناه ) بالحياة العلمية (وجعلنا له نورا ) وهو العلم ( يمشي به ) أي بالنور ( في الناس ) فيدرك بذلك النور ما في أنفسهم ( فكل من يحيي نفسا ميتة بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقة بالعلم باللّه فقد أحياه بها وكانت ) هذه الحياة العلمية ( له نورا يمشي به في الناس أي بين أشكاله ) قوله ( في الصورة ) .

هو متعلق بأشكاله وضمير أشكاله لمن له النور فظهر أن الإحياء الحسي والمعنوي إما من اللّه بواسطة الإنسان الكامل بإذن اللّه فكان لكل واحد من الحق والعبد مدخل في وجود حادث فيستند الوجود إلى الحق والعبد
( شعر ) :
(فلولاه ولولانا ...     لما كان الذي كانا )
( فلولاه ولولانا ) أي ولو لم يكن الحق وأعياننا ( لما كان الذي كانا ) أي لما ظهر في الكون ما ظهر وهو بيان لاتحاد الإنسان مع الحق في الربوبية
( فأنا أعبد حقا  ....    وأن اللّه مولانا )
وهو بيان للفرق
( وأنا عينه فاعلم   .....  إذا ما قلت إنسانا )
أي إذا سميت عينك بإنسان أي لا ينافي عينيتنا مع الحق إنسانيتنا
(فلا تحجب بإنسان ...  فقد أعطاك برهانا )
( فلا تحجب ) على صيغة المجهول ( بإنسان ) أي لا تحجب بأن تسمى بالإنسانية عن عينيتك مع الحق ( فقد أعطاك ) على عينيتك أو عينيتنا مع الحق ( برهانا ) وهو قوله كنت سمعه وبصره وغير ذلك
(فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا )
( فكن حقا ) بحقيقتك وروحك ( وكن خلقا ) بنشأتك العنصرية (تكن باللّه رحمانا)  أي عام الرحمة بإفاضتك الكمالات الإلهية على عباده
(وغذ خلقه منه ...    تكن روحا وريحانا)
( وغذ خلقه منه ) الضميران عائدان إلى اللّه ( تكن روحا ) وغذاء روحانية الخلق يغتذي بك ويتلذذ بك ( وريحانا ) تشم من نفخات إنسك مع الحق .
(فأعطيناه ما يبدو ...    به فينا وأعطانا )
( فأعطيناه ما يبدو به ) أي أعطيناه الحق ما يظهر به من صورة استعدادنا ( فينا ) من الأسماء والصفات كالحياة والعلم والقدرة فيظهر فينا بهذه الصفات بحسب استعدادنا وفاعل ما يبدو ضمير عائد إلى الحق وبه عائد إلى الموصول ( وأعطانا ) ما ظهرنا به من وجودنا وأحوالنا  ومقتضيات ذواتنا
(فصار الأمر مقسوما   ...    بإياه وإيانا )
( فصار الأمر مقسوما بإياه ) أي بما أعطيناه إياه ( وإيانا ) أي بما أعطاه إيانا
(فأحياه الذي يدري  ...   بقلبي حين أحيانا )
( فأحياه ) الضمير للقلب المذكور حكما أي أحيى قلبي بالحياة العلمية ( الذي يدري بقلبي ) أي يعلم قلبي واستعداده الأزلي ( حين أحيانا ) بالحياة الحسية .
(فكنا فيه أكوانا    ...     وأعيانا وأزمانا )
( وكنا فيه ) أي وكنا في غيب الحق قبل الحياة ( أكوانا وأعيانا وأزمانا ) لا حياة لنا بالحياة الحسية والعلمية
(وليس بدائم فينا   ...  ولكن ذاك أحيانا )
( وليس ) هذا المذكور وهذا التقرب مع اللّه ( بدائم فينا ولكن ذاك أحيانا ) أي وقتا دون وقت كما قال عليه السلام ( لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل )  . ذكره الكلاباذي في بحر الفوائد يعقوب و السيوطي فى شرح سنن ابن ماجه و  لمناوي في فيض القدير
""و قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لي مع الله وقتا لا يسعني فيه غيره» ذكره الكلاباذي في بحر الفوائد ""
قال الشيخ رضي الله عنه :( ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري ) يعني أن جبرائيل نفخ الروح العيسوي مع صورة البشر العنصري العيسوي بلا تقدم الاستواء على النفخ لا كما لغيره من أولاد آدم فإن استواء صورتهم البشرية العنصرية مقدم على نفخ أرواحهم بخلاف عيسى عليه السلام فإن تسوية جسمه مندرجة في نفخ روحه تحصل مع حصول روحه .

والدليل على ذلك هو ( أن الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما تستلزم تلك الصفة ) فإذا وصف الحق نفسه بالنفس فلا بد أن يصف نفسه بما يستلزم النفس ( وقد عرفت أن النفس ) الإنساني ( في المتنفس ما تستلزمه ) أي أيّ شيء الذي يستلزمه من إزالة الكرب وصور الحروف والكلمات النطقية وغير ذلك فاتبع المتنفس بالنفس جميع ما تستلزمه من إزالة الكرب وصور الحروف والكلمات النطقية .

قال الشيخ رضي الله عنه :( فلذلك ) أي فلأجل اتباع الموصوف جميع ما تستلزمه تلك الصفة ( قبل النفس الإلهي صور العالم فهو ) أي النفس الإلهي صور العالم ( لها ) أي لصور العالم ( كالجوهر الهيولاني وليس ) النفس الإلهي ( إلا عين الطبيعة ) التي هي تقبل الصور فقبل نفخ جبرائيل الصورة البشرية لعيسى بحيث لا تنفك عن النفخ الروحي .
( فالعناصر ) الأربع وهي الماء والتراب والهواء والنار والسماوات السبع ( صورة من صور الطبيعة وما فوق العناصر وما تولد عنها ) أي عن فوق العناصر أنث الضمير باعتبار كثرة الفوق ( فهو أيضا من صور الطبيعة وهي الأرواح العلوية التي فوق السماوات السبع ) وهي صورة من صور الطبيعة غير العنصرية .
والمراد بفوق السماوات السبع العرش والكرسي وبالأرواح العلوية ما تولد منهما من ملائكتهما وأرواحهما مع صورها وغيرها من العقول والنفوس المجردة كل ذلك غير عنصرية فالسماوات وما تولد منها داخلة في العناصر يدل على ذلك .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وأما أرواح السماوات السبع ) المدبرة لأجسامها ( وأعيانها ) أي وأجسام السماوات السبع ( فهي عنصرية ) وصورة من الطبيعة ( فإنها ) أي السماوات السبع متولدة ( من دخان العناصر المتولد عنها ) أي الدخان الذي تولد عن العناصر فالأرواح المنطبعة المدبرة بالعناصر أيضا عناصر .
(وما تكون) من التكون (عن كل سماء من الملائكة فهو) أيضا ( منها ) أي من العناصر(فهم ) أي الملائكة الذين تكونوا من السماوات السبع ( عنصريون ) كالسماوات ( و ) ما تكون ( من فوقهم ) أي من فوق هذه الملائكة طبيعيون فالعرش والكرسي مع أرواحهما وملائكتهما ( طبيعيون ) فما من صورة من الصور مما سوى اللّه إلا وهي صورة من صور الطبيعة ما عدا الملائكة المهيمة ومنهم العقل الأول فإنهم نوريون وإن كانوا طبيعيين  لكنهم لا داخلون تحت حكم الطبيعة وما من صورة من صور الطبيعة الإلهية إلا وهي إما عنصري وإما طبيعية

قال الشيخ رضي الله عنه :( ولهذا ) أي ولأجل كون الملائكة التي فوق السماوات السبع طبيعيين ( وصفهم اللّه بالاختصام ) في الحديث القدسي قوله ( أعني الملأ الأعلى ) تفسير للملائكة الموصوفة بالاختصام وإنما وصف الحق الملأ الأعلى بالاختصام ( لأن الطبيعة متقابلة ) وهي مظهر ولاية الأسماء المتقابلة فأجسام الأرواح الملائكة العلوية المسماة بالأعلى لملإ الأعلى والملائكة المهيمية المخلوقة من جلال اللّه أجسام نورية طبيعية وهي أول ما خلق اللّه من الأجسام ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب إنما أعطاه النفس ) الرحماني وهو عين الطبيعة فكان التقابل للطبيعة لذاتها وللأسماء بسبب كون الطبيعة محلا لولايتها فكان التقابل في الأسماء والطبيعة لا في الذات من حيث هي ( ألا ترى الذات ) وهي الذات الأحدية ( الخارجة عن هذا الحكم ) أي عن حكم التقابل ( كيف جاء فيها الغني عن العالمين ) ولم يجئ في حق الذات الداخلة في حكم التقابل الغني عن العالمين .

قال الشيخ رضي الله عنه :( فلهذا ) أي فلأجل كون التقابل حاصلا في الحضرة الاسمائية ( خرج العالم على صورة من أوجدهم ) أي العالم ( وليس ) من أوجدهم إلا ( النفس الإلهي ) فخرج العالم يتقابل بعضها بعضا فالطبيعة والعالم والنفس الإلهي يقتضي كل واحد منها التقابل ( فبما ) أي فبسبب الذي ( فيه ) أي حاصل في النفس الإلهي ( من الحرارة ) بيان لما ( علا ) ما ( علا من العالم كالنار والهوى وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل ) من العالم ما سفل كالتراب والماء فتقابل من العالم بعضا بالعلو والسفل لتقابل طبيعتها بالحرارة والبرودة فخرج العالم على صورة النفس الإلهي من التقابل .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ) أي لم يتحرك ( فالرسوب ) وهو مقابل الثبوت والتزلزل ( للبرودة ) أي لمقتضى البرودة ( والرطوبة ألا ترى الطبيب إذا أراد سقى دواء لأحد ينظر في قارورة مائه فإذا رآه ) أي قارورة مائية ذكر الضمير لاستواء التذكير والتأنيث في قارورة أو باعتبار تعلقه لأحد ( رسبا علم ) الطبيب ( أن النضج ) أي أن قابلية اندفاع المرض عن هذا الشخص ( قد كمل فيسقيه ) أي هذا المريض ( الدواء ليسرع ) الدواء ( في النضج ) أي في النجاح لا ليرسب .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وإنما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعة ) فظهر أن الرسوب للرطوبة والبرودة والإسراع للدواء فاختلف العالم بالكيفيات المختلفة في الطبيعة ( ثم أن هذا الشخص الإنساني ) وهو آدم عليه السلام ( عجن ) أي خمر الحق ( طينته بيديه ) وهو إشارة إلى قوله خمرت طينه آدم بيديّ أربعين صباحا ( وهما متقابلتان ) كنايتان عن صفتيه الجلال والجمال الجامعتين بجميع الصفات القهرية واللطفية ( وإن كانت كلتا يديه يمينا ) أي وإن كانتا متحدين في الأخذ والقوة لكنهما متقابلتان بالآثار ( فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ) بالآثار والأحكام ( ولو لم يكن ) بينهما من الفرقان من كونهما يمينا مباركا موصولا إلى المطلوب متساويا في القدرة والتأثير ( إلا ) لكن ( كونهما اثنتين أعني يدين ) دليل واضح على أن بينهما من الفرقان يعني لو لم يكن بينهما تقابل لما قال تعالى بيديّ بالتثنية بل قال بيدي بالوحدة وإنما تقابل اليدان ( لأنه ) أي الشأن ( لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها وهي ) أي الطبيعة ( متقابلة فجاء ) في حق تخمير طبيعة هذا الشخص ( باليدين ) المتناسبتين للطبيعة في التقابل فعلم منه أنه لا يؤثر العلة في المعلول إلا بشرط وجود المناسبة بينهما فأوجد آدم باليدين بهذه المناسبة .

قال الشيخ رضي الله عنه :( ولما وجده باليدين سماه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب ) لا المباشرة الغير اللائقة به وهي المباشرة الجسمية الحسية فإنه منزه عن هذه المباشرة ( باليدين المضافتين إليه ) لا اليدين الغير المضافتين إليه تعالى وهما العضوان المخصوصان من أعضاء الإنسان فإنها محال أن يضاف إلى اللّه تعالى .
( وجعل ذلك ) الإيجاد وهو إيجاد باليدين ( من عنايته بهذا النوع الإنساني واستدل على جعل الحق ذلك الإيجاد من عنايته بهذا النوع بقوله تعالى فقال تعالى لمن أبى عن السجود له ) أي لآدم عليه السلام (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ على من هو مثلك يعني عنصريا ) أي لا مثلك في الخلقة فإنه خلقته بيديّ وخلقتك بيد واحدة .
فالذي خلق باليدين أعلى وأشرف على من هو بيد واحدة فلم لم تسجد لما فضلت عليك في الخلقة ما سبب منع سجدتك لما خلقت بيديّ أمجرد الاستكبار (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ[ ص : 75 ] عن العنصر ولست كذلك ) أي ولست من العالين عن العنصر فتعين أن المانع من السجود استكبارك القبيح اللازم لشأنك الخبيث .

قال الشيخ رضي الله عنه :( ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا ) وهم الملائكة المهيمون والملائكة المقربون كجبرائيل وغيره من ملائكة العرش والكرسي .
( فما فضل الإنسان ) أي نوع الإنسان ( غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا من طين فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة ) باليدين وغيره من العنصريات الأرضية والسماوية حاصلة بمباشرة يد واحدة أو من غير ورود النص في مباشرته .

قال الشيخ رضي الله عنه :( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والمساوية والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني بالنص الإلهي ) وهو قوله " :أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ " .
وقوله : "ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" فالإنسان من حيث كونه جامعا بجميع ما في الحقائق الكونية والإلهية خير من الملائكة العالين .
فكان بعض أفراد هذا النوع كالأنبياء والمرسلين أفضل من هذه الملائكة وغيرها من الموجودات فيكفي خيرية الملائكة من هذا النوع الإنساني خيريتهم من بعض أفراد النوع كما قال المحققون من علماء الشريعة .
رسل الملائكة أفضل من عامة البشر فكل واحد من الإنسان والملائكة العالين فاضلا ومفضولا فالإنسان من حيث حقيقته الجامعة لجميع المراتب أفضل من الموجودات العنصرية والطبيعية فكان الإنسان أفضل من الملائكة العالين من ذلك الوجه .
والعالون أفضل من الإنسان ، من حيث أنه لم يكن نشأتهم النورية عنصريا وإليه أشار بقوله ويعني بالعالين .
فالمراد بالخيرية بالنص هي هذه الخيرية لا الخيرية من كل الوجوه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي ) بحقيقته ( فليعرف العالم ) الذي هو صورته وإنما توقف معرفة النفس الإلهي إلى معرفة العالم ( فإنه ) أي لأنه ( من عرف نفسه ) وهو جزء من العالم ( فقد عرف ربه ) فإن نفسه تفصيل وتعريف لربه فمن عرفها عرفه.
ولما يوهم قوله ( الذي ظهر فيه ) صفة للرب فسره ليعلم ابتداء أنه صفة للعالم لا للرب فقال : ( أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفس اللّه به ) أي بسبب الرحمن ( عن الأسماء الإلهية ) قوله : ( ما ) مفعول نفس ( تجده ) ضمير الفاعل عائد إلى الأسماء ( من عدم ظهور آثارها ) متعلق بتجد بيان لما والذي تجده من عدم ظهور آثارها هو الكرب ( بظهور آثارها ) متعلق بنفس أي نفس اللّه عن الأسماء الكرب بسبب ظهور آثارها .
أي أزال عنها الكرب بسبب إظهار كمالاتها التي في كونها ولو بقي آثارها في بطونها ولم تظهر في أوقاتها لزم الكرب للأسماء فأظهرها اللّه في أوقاتها لئلا يلزم الكرب لأن الكرب يحصل ثم أزاله اللّه بتنفيسه عن الأسماء فإن هذا محال في حق اللّه وحق الأسماء.

 قال الشيخ رضي الله عنه :( فامتنّ على نفسه ) بقوله الحمد للَّه ( بما أوجده ) أي بالذي أوجده من صور الأعيان ( في نفسه ) بفتح الفاء متعلق بأوجد ( فأول أثر كان ) أي حصل ( للنفس ) أي من النفس الرحماني ( إنما كان في ذلك الجناب الإلهي ) أي عن الحضرة الاسم اللّه الجامع ( ثم لم يزل الأمر يتنزل بتنفيس الغموم إلى آخر ما وجد ) .
شعر :
(فالكل في عين النفس ... كالضوء في ذات الغلس )
( فالكل ) أي ظهور العالم كله ( في عين النفس ) الرحماني ( كالضوء ) أي كظهور الضوء بدون الشمس ( في ذات الغلس ) أي في آخر ظلمة الليل فكما أن الليل والنهار لا يظهر أحدهما بدون الآخر كذلك لا يظهر كل واحد من النفس الرحماني والعالم بدون أحدهما .
(والعلم بالبرهان في ... سلخ النهار لمن نعس  )
( والعلم ) أي العلم الحاصل ( بالبرهان في سلخ النهار ) أي في آخره ( لمن نعس ) أي لمن نام ولم يتحصل علم ما قلته بالكشف العياني قبل سلخ النهار فقوله لمن يتعلق بالعلم وفي سلخ النهار كذلك .
( فيرى الذي قد قلته ... رؤيا تدل على النفس )
( فيرى ) الناعس ( الذي ) مفعول يرى ( قد قلته ) من تحقيق أنفس الرحماني والعالم ( رؤيا ) مفعول ثان ليرى ( تدل على النفس ) صفة للرؤيا .
(فيريحه من كل غم ... في تلاوته «عبس» )
( فيريحه ) أي يريح هذا العلم الناعس ( من كل غم ) أي من كل جهل حاصل ( في تلاوته ) .
أي في فكره ( عبس ) أي كأنه تلا بلسان الحال "عَبَسَ وَتَوَلَّى" حيث كانت نفسه في ضيق الجهل وعبوس الفكر .
لكن هذا العلم لا يجديه نفعا لأنه تعبير واستدلال بنظر العقل فلا يستلزم علم حقيقته ما يراه فهذه الأبيات في حق من طلب العلم بنظر عقلي لا من طلب بالكشف والبرهان وأما الذي طلب بطريق التجلي والكشف فحصل مطلوبه . فهو الذي قال في حقه
 ( ولقد تجلى للذي ....  قد جاء في طلب القبس )
شبه السالكين بحال موسى عليه السلام في حصول مطلوبهم فكما تجلى اللّه لموسى عليه السلام في طلب القبس من النار ، كذلك تجلى اللّه للسالكين الذين جاءوا في طلب القبس من النور فنفع علمهم لحصوله في وقته .
(فرآه نارا وهو نور ... في الملوك و في العسس)
( فرآه ) أي رأى موسى عليه السلام الحق ( نارا ) وهي صورة مطلوبة ( وهو نور في الملوك ) وهم الذين خلصوا عن ظلمة الطبيعة  وملكوا نور الحق فلا دليل عندهم والعالم كله نهار عندهم .
( وفي العسس ) وهم السالكون الذين لم يصلوا درجة التحقيق ولم يخلصوا عن ظلمة طبيعتهم وهم يتصرفون في ظلمة طبيعتهم بالنور الإلهي كما يتصرف العسس في ظلمة الليالي بالنار فكما أن العسس تابع في التصرف بالملوك كذلك السالكون المتوسطون تابعون في تصرف طبيعتهم الظلمانية بالكمل والمرشدين هم ملوك الطريقة وسلاطين الحقيقة.
( فإذا فهمت مقالتي   .....   تعلم بأنك مبتئس )
أي فقير ليس لك شيء من العلم بالحقائق فدعوتك غني بالعلم كدعوة الفقير غني بالمال وهذا دعوة من الشيخ رضي اللّه عنه في تحصيل العلم من طريق العقل إلى طريق الكشف .
(لو كان يطلب غير ذا ... لرآه فيه وما نكس)
( لو كان ) موسى عليه السلام ( يطلب غير ذا ) أي غير النار ( لرآه ) أي لرأى الحق ( فيه ) أي مطلوبة أي مطلوب كان ( وما نكس ) الحق في إعطاء مطلوب كل طالب إذا توجه إليه فتجلى له الحق في صورة مطلوبه وهو منزه عن الصورة والصورة تنشأ عن بصر الرائي.
ولما فرغ عن بيان الحقيقة العيسوية وما يتعلق بها شرع في بيان حكمته وتحقيق الآيات الواردة في حقه عليه السلام .
فقال : ( وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها ) أي الكلمة العيسوية في اليوم الآخر ( الحق في مقام حتى نعلم ) بالمتكلم ( ويعلم ) بالغائب ( استفهمها ) أي استفهم الحق كلمة عيسى عليه السلام ( عما نسب إليها ) أي إلى كلمة عيسى عليه السلام وإلى أمها من الألوهية حتى يعلم الحق.
( هل هو ) أي المنسوب إليها وهو الألوهية ( حق ) واقع في نفس الأمر ( أم لا مع علمه الأول بهل وقع ذلك الأمر أم لا ) لكنه استفهم ليظهر علمه الأول عن صورة عيسى عليه السلام وإنما لم يقل عما نسب إليهما مع أن الألوهية منسوبة إليهما إذ لا يقع دعوى الألوهية عن المرأة لذلك استفهم عيسى عليه السلام عن الألوهية المنسوبة إلى أمه دون أمه فجمعها في الاستفهام .

( فقال له ) أي فقال اللّه لعيسى عليه السلام :أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ[ المائدة : 116 ] يعني أأنت نسبت الألوهية إليك وأمرت بالناس باتخاذكما آلهين من دون اللّه أم الناس نسبوا الألوهية واتخذوكما آلهين من عند أنفسهم.
( فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم ) أي لا بد في الأدب أن يجيب المستفهم الذي استفهمه جوابا موافقا لسؤاله ( لأنه لما تجلى له ) الحق ( في هذا المقام ) وهو مقام التفرقة وهو ضمير الخطاب ( و ) في ( هذه الصورة ) وهي صورة الاستفهام الإنكاري.

قال الشيخ رضي الله عنه :( اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع ) أي اقتضت الحكمة الجواب الجامع لمقام الفرق والجمع .
( فقال وقدم التنزيه سبحانك فحدّد بالكاف التي تقتضي المواجهة والخطاب ) فميز أوّلا بين العبودية والألوهية وهو التفرقة فخاطبه في الجواب كما خاطبه في السؤال ( ما يكون لي من حيث أنا لنفسي ) أي من حيث عبوديتي وآنيتي (دونك ) من دون ربوبيتك وهويتك ( أن أقول ما ليس لي بحق أي ما تقتضيه هويتي ولا ذاتي ) فإن مقتضى ذاتي العبودية لا الألوهية فلا أكون أقول ما لا تقتضيه ذاتي .

قال الشيخ رضي الله عنه :( أن كنت قلته ) أي ما ليس لي بحق وهو الألوهية  (فقد علمته لأنك أنت القائل ) في صورتي ( ومن قال أمرا فقد علم ما قال وأنت اللسان الذي أتكلم به ) والوجود واللسان والقول كله لك وما لي إلا العدم وهذا هو جهة الجمع ( كما أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعالى عليه وسلم عن ربه في الخبر الإلهي فقال : « كنت لسانه الذي يتكلم به » ) في أنه أخبر عن الأشياء على ما هي عليه فإن العبد إذا تقرب إليه علم الأشياء على ما هي عليه فأخبر عنها فعلمه علم الحق ولسانه لسان الحق .
( فجعل ) الحق ( هويته ) أي هوية نفسه بقوله كنت لسانه ( عين لسان المتكلم ) لكونه عين المتكلم بحسب الحقيقة ( ونسب الكلام إلى عبده ) بقوله الذي يتكلم به لكونه غير المتكلم بحسب التعين فالمتكلم هو العبد لكنه بالحق يتكلم وهو نتيجة قرب النوافل فجمع التنزيه والتشبيه في كلام واحد .

قال الشيخ رضي الله عنه :( ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله تعلم ما في نفسي ) من الكمالات والنقائص المستترة بهويتي لأن نفسي بحسب الحقيقة عين نفسك ( والمتكلم ) أي والحال أن المتكلم بهذا القول (الحق ) لكنه بلسان عيسى عليه السلام وهو إشارة إلى نتيجة قرب الفرائض ( ولا أعلم ما فيها فنفى ) الحق بلسان عيسى عليه السلام ( العلم عن هوية عيسى عليه السلام من حيث هويته ) فإنه حينئذ عدم .
( لا من حيث أنه ) أي لا من حيث أن عيسى عليه السلام ( قائل وذو أثر ) فإنه من هذه الحيثية عين الحق ( أنك أنت علام الغيوب فجاء بالفصل والعماد ) وهو أنت ( تأكيدا للبيان واعتمادا عليه إذ لا يعلم الغيب إلا اللّه ففرق ) عيسى عليه السلام الحق بجعله مخاطبا بقوله سبحانك ( وجمع ) بقوله إن كنت قلته فقد علمته ( ووحد ) وهو لازم للجمع ( وكثر ) وهو لازم للتفرقة ( ووسع ) من حيث سريان هويته جميع الموجودات وهو قوله " تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي" ( وضيق ) باعتبار الظاهر وهو قوله "وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ" وأتى كله بالتشديد للمبالغة .

قال الشيخ رضي الله عنه :( ثم قال ) العبد الصالح ( متمما للجواب ) إذ الجواب يحصل بقوله إن كنت قلته فقد علمته فعدّ ذلك من متمماته ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني فنفى أوّلا ) عن نفسه قولا ( مشيرا إلى أنه ما هو ثمة ) أي إلى أن عيسى عليه السلام ليس هو موجودا في هذا المقام حتى يقول قولا بل الوجود كله اللّه ( ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم ولو لم يفعل كذلك لا تصف ) عيسى عليه السلام ( بعدم العلم بالحقائق وحاشاه من ذلك ) فلو لم يثبت الهوية الإلهية بعد نفيه الهوية العيسوية لكان نفيا مطلقا وليس كذلك بل الأمر الإثبات بعد النفي أو نفي بعد الإثبات فأثبت الهوية الإلهية ( فقال : إلا ما أمرتني به وأنت المتكلم على لساني وأنت لساني ) فأثبت الهوية الإلهية في ضمن الهوية العيسوية فالقول قول الحق واللسان لسان الحق لكن ظهر في الصورة العيسوية .

قال الشيخ رضي الله عنه :( فانظر إلى هذه التنبئة ) من الأنباء على وزن تفعله ( الروحية الإلهية ) أي فانظر إلى هذا الإخبار الروحي الإلهي ومن التنبي باعتبار السؤال من طرف الحق والجواب من عيسى عليه السلام يعني فانظر إلى هذا السؤال والجواب ( ما ألطفها ) بعبارتها ( وما أدقها ) بإشارتها ( أن اعبدوا اللّه فجاء ) عيسى عليه السلام ما أمر اللّه به  
( بالاسم اللّه لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع ولم يخص اسما خاصا دون اسم ) ولم يقل أن اعبدوا الرحمن أو غيره من الأسماء الخاصة .
( بل جاء بالاسم الجامع للكل ) أي لجميع الأسماء ( ثم قال ) عيسى عليه السلام ( له ) : أي اللّه ( ربي وربكم ومعلوم أن نسبته ) أي نسبة الحق ( إلى موجود ما بالربوبية غير نسبة إلى موجود آخر ) فإن عبد الرحيم ليس عبد القهار.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلذلك ) أي فلكون نسبة الربوبية باختلاف المظاهر ( فصل ) عيسى عليه السلام الرب ( بقوله رَبِّي وَرَبَّكُمْ بالكنايتين كناية المتكلم به وكناية المخاطب إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ فأثبت نفسه مأمورا وليست نفسه سوى عبوديته إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال ) إلى الأمر .
( وإن لم يفعل ) فكان نفسه عين عبوديته وإلا لما قال إلا ما أمرتني.
( ولما كان الأمر ) أي أمر الحق عباده بالتكليف ( ينزل ) من الحضرة الجامعة لجميع الأسماء وهو الاسم اللّه ( بحكم المراتب ) أي بحكم المظاهر الكونية فيتصف بصفاتها من الحدوث والإمكان وغير ذلك من الصفات الامكانية .
( لذلك ) أي لأجل نزول الأمر التكليفي بحكم المراتب ( ينصبغ كل من ظهر في مرتبة ما ) من المراتب ( بما ) أي بالذي ( تعطيه حقيقة تلك المرتبة ) فإن القرآن الكريم بالنسبة إلى الحق القديم قديم وباعتبار نزوله وظهوره في مراتبنا حادث وجواب لما محذوف تقديره لما كان الأمر ينزل نزل بحكم المراتب أو قوله ينصبغ لأن قوله لذلك مؤخر عنه معنى ( فمرتبة المأمور ) وهي مرتبة كلية مشتملة على مراتب مخصوصة جزئية .

قال الشيخ رضي الله عنه :( لها حكم ) وهو التسليم والطاعة والقبول بأمر أمره ( يبدو ) أي يظهر ذلك الحكم ( في كل مأمور ) أي في كل مرتبة من جزئيات تلك المرتبة الكلية ( ومرتبة الأمر ) وهي مرتبة جامعة لجميع مراتب مخصوصة وهي مرتبة الاسم اللّه .
( لها حكم ) يحكم به على المأمور وهو التكليف الشرعي للمأمور ( يبدو في كل آمر ) من خصوصيات تلك المرتبة الكلية الآمرية ( فيقول الحق أقيموا الصلاة فهو الأمر والمكلف ) بكسر اللام ( المأمور ) العبد فكان الحق في مرتبة الآمر يظهر منه الحكم والعبد في مرتبة المأمور يظهر منه الطاعة لأمره ( ويقول العبد رب اغفر لي فهو الآمر ) بحسب مفهوم الصيغة واللغة لا بحسب الاصطلاح وكذا قوله : ( والحق المأمور ) ولا يسمى بحسب الشرع بأنه مأمور بأمر شيء لكن أهل اللّه قد يطلقون لكشف المعاني المستورة على أعين أهل الحجاب لحكمة تقتضي كشفها فكان كل واحد من الحق والعبد آمرا ومأمورا .
لكن المأمور في حق الحق بمعنى المطلوب والآمر في حق العبد في رب اغفر لي بمعنى الطالب وإليه أشار بقوله : ( فما يطلب الحق من العبد بأمره هو بعينه يطلب العبد من الحق بأمره ) وليس ما طلبه كل واحد من الآخر بأمره إلا الإجابة .
وكانت الإجابة مطلوبة فمطلوب العبد من الحق بقول رب اغفر لي وجود الغفران ومطلوب الحق من العبد بقوله :"وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ *[ البقرة : 43 ] .
إقامة الصلاة إذ لا يتصور إقامة الصلاة إلا من فعل العبد فحصول الصلاة من الحق محال لذلك طلب حصولها من العبد كما أن حصول الغفران لا يكون إلا من الحق لذلك طلب العبد من اللّه .

( ولهذا ) أي ولأجل كون المطلوب من الطرفين الإجابة ( كان كل دعاء ) أي طلب سواء كان من الحق أو من العبد ( مجابا ) ليحصل المجازاة بينهما .
كما قال من أطاعني فقد أطعته ومن عصاني فقد عصيته ( ولا بد وإن تأخر ) حصول الدعاء عن وقت الطلب ( كما يتأخر ) حصوله ( عن بعض المكلفين فمن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة فلا يصلي في وقت ) أي في وقت كونه مخاطبا ( فيؤخر الامتثال ويصلي في وقت آخر إن كان متمكنا ) أي قادرا بالإقامة ( من ذلك ) أي في ذلك الوقت ( فلا بد من الإجابة ) من العبد ( ولو )  تأخر الأمر التكليفي ( بالقصد ) أي بقصد العبد .
( ثم قال ) عيسى عليه السلام ( وكنت عليهم ) أي على الأمم ( ولم يقل على نفسي معهم ) أي لم يفصل من نفسه وأنفسهم ( كما قال ربي وربكم ) أي كما فصل بين ربه وربهم بقوله " رَبِّي وَرَبَّكُمْ " ( شهيدا ما دمت فيهم ) .
وإنما قال هذا القول ( لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم فلما توفيتني أي رفعتني إليك ) وإنما فسر توفيتني برفعتي ليثبت حياة عيسى عليه السلام ( وحجبتهم عني وحجبتني عنهم كنت أنت الرقيب عليهم في غير مادتي بل في موادهم ) بمعنى المعية بحكم واللّه معكم لا بمعنى الحلول في موادهم الروحانية والجسمانية فإنه محال في حق اللّه كما ثبت عند أهل اللّه .
( إذا كنت ) تعليل لقوله بل في موادهم ( بصرهم الذي يقتضي المراقبة ) وهو البصر المجرد عن المواد وهو النور الإلهي ( فشهود الإنسان ) أي الإنسان الكامل ( نفسه شهود الحق إياه ) لكون الحق بصر الإنسان الكامل دون غيره .
( وجعله ) أي جعل عيسى عليه السلام ذلك الشهود في الحق ( بالاسم الرقيب لأنه ) أي لأن عيسى عليه السلام ( جعل الشهود له ) أي للحق في قوله " وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً" لأن شهود عيسى عليه السلام شهود الحق في مادة عيسى عليه السلام فلم يفصل بينه وبين ربه ( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه ) كما هو عادة العالمين بالحقائق .
( حتى يعلم أنه هو ) أي أن عيسى عليه السلام هو عيسى عليه السلام ( لكونه عبدا ) في الواقع ( و ) يعلم ( أن الحق هو الحق ) في الواقع ( لكونه ربا له فجاء لنفسه بأنه شهيد ) لأن الشهيد قد يؤخذ بمعنى الشاهد على الشخص الحاضر عنده .
( و ) جاء ( في الحق بأنه رقيب ) لأن الرقيب هو الشاهد على الشيء أزلا وأبدا وفرق بين نفسه وبين ربه في الشهود عليهم لذلك قيد شهوده بقولهما دُمْتُ فِيهِمْوأطلق في الحق بقوله "أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ".
قال الشيخ رضي الله عنه :( وقدمهم في حق نفسه فقال " عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " إيثارا لهم في التقدم وأدبا وآخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله "الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " لما يستحق الرب من التقدم بالرتبة) عيسى عليه السلام على صيغة الماضي أي أخبر.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم اعلم أن للحق الرقيب الاسم الذي جعله عيسى عليه السلام لنفسه وهو الشهيد في قوله " عَلَيْهِمْ شَهِيداً " فقالَ " وأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" ) يعني أنا شهيد على قوم مخصوص ما دمت فيهم وأنت شهيد عليهم وعلى كل شيء أزلا وأبدا هي شهادة الحق في مقام الجمع والإطلاق .
( فجاء بكل للعموم وشيء لكونه أنكر النكرات وجاء بالاسم الشهيد ) فإذا كان الأمر كذلك ( فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود فنبه ) عيسى عليه السلام بقوله " وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ".
( على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى عليه السلام حين قال "عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ" فهي ) أي شهادة عيسى عليه السلام ( شهادة الحق ) عليهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :( في مادة عيسوية كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره ) فأثبت الشهادة أوّلا لنفسه بقولهوَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداًونفي ثانيا بإثباتها وحصرها للحق بقوله " وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " لا غير .
( ثم قال ) الحق ( كلمة عيسوية ومحمدية ) مقول قال ( أما كونها عيسوية فإنها قول عيسى عليه السلام بإخبار اللّه عنه في كتابه وإما كونها محمدية فلوقوعها عن محمد عليه السلام بالمكان الذي وقعت منه فقام ) محمد عليه السلام ( بها ).
 أي بهذه الكلمة ( ليلة كاملة ) وقرأها ( يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى طلع الفجر ) فهذه الكلمة المنسوبة إلى عيسى وإلى محمد عليهما السلام قوله تعالى :" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " بجرمهم وهو جعلهم شركاء للَّه ( فإنهم عبادك ) لا اعتراض على المولى المطلق فيما يفعل بعبيده بما استحقوا به .
( وإن تغفر لهم )  أي تسترهم عن الذنوب " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " أي أنت القادر القوي على عفو المجرمين .
فإن عذبت فعدل فإن غفرت ففضل هذا تفسيرها .
وأما إشاراتها ولطائفها فسنبينك ( وهم ) في قوله " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ"، "وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ " ( ضمير الغائب كما أن هو ) في قوله تعالى :" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وفي غير ذلك ( ضمير الغائب كما قال هم الذين كفروا بضمير الغائب فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر ) .
والمراد بالمشهود الحاضر عالم الشهادة وبما يراد به هو الحق تعالى .
أي يشاهد الحق بالمشهود والحاضر ويستدل به فكان الحق نفسه مشهودا بالعالم الشهادة وهم لا يشاهدون الحق بالمشهود يستدلون به لكون الغيب سترا وحجابا لهم فكانوا محجوبين عن الحق فإذا كان الغيب سترا لهم .
( فقال إن تعذبهم بضمير الغائب وهو ) أي الغيب ( عين الحجاب الذي هم ) كانوا ( فيه ) أي في ذلك الحجاب الذي ( عن الحق ) أي حصل عن الحق ، فغيب الحق تسترهم فالحق معهم في حجابهم بل الحق عين حجابهم وهم لا يشعرون بذلك .
( فذكرهم اللّه ) النبي بتشديد الكاف فتذكر النبي فدعا لهم بضمير الغائب في قوله :" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ على كونهم في حجاب في الحياة الدنيا ( قبل حضورهم ) بين يديّ اللّه في يوم القيامة .
قال الشيخ رضي الله عنه :( حتى إذا حضروا ) بين يديّ اللّه وشاهدوا ما كانوا عليه قبل ذلك من الحجاب ( تكون الخميرة ) هي خميرة ما أودع في طينه أبدانهم من استعداد الوصول إلى حضرة الحق ( قد تحكمت في العجين ) أي في عجينهم العجين طينة أبدانهم ( فصيرته ) أي صيرت الخميرة العجين في وقت حضورهم ( مثلها ) أي مثل الخميرة في إيصالهم إلى الحق .
فمقتضى العجين الستر والحجاب عن الحق والخميرة الكشف عن الحق والوصول إلى الحق فقد يحكم عجينهم على خميرتهم في الحياة الدنيا فصيرها مثله في عدم الإيصال إلى الحق .
فإذا قامت قيامتهم انتهى بحكم العجين فتحكمت فيه كما تحكم فيها فصيرته كما صيرها مثله .
فقيام النبي عليه السلام بهذه الآية ليلة كاملة وانتهاؤه عند ظهور نور الشمس يدل على أنهم في ستر من الحق في الحياة الدنيا .
فهي كلها ليلة كاملة في حقهم لذلك لم يفعل العكس .
ولا نهار لهم في الدنيا لعدم ظهور الحق لهم فيها ولعدم شهودهم أنفسهم فيها وهم عند شهودهم أنفسهم وشهودهم الحق في اليوم الآخر .
فالحق مذكرهم ما داموا في غيبة موادهم الغيبية فإذا حضروا بين يديّ اللّه في يوم القيامة فالحق مشاهدهم في موادهم الصورية الأخروية مع كونه مشاهدهم في مقامه الجمعي الإلهي أزلا وأبدا فتذكيرهم الحق النبي على هذا الوجه يدل على استحقاقهم المغفرة بدعاء النبي عليه السلام .
( فإنهم عبادك فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ) في التولد وفي جواب ألست يعني وإن خالفوا أمرك في الظاهر ويعبدون غيرك ويجعلون لك شريكا لكنهم في المعنى يعبدونك لكون فطرتهم الأصلية على التوحيد .
قال الشيخ رضي الله عنه :( ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد ) وإنما كانوا عبادك ( لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم فهم بحكم ما يريد بهم سيدهم ولا شريك له ) أي لسيدهم ( فيهم ) وإنما كان لا شريك للَّه فيهم .
( فإنه قال ) بلسان نبيه ( عبادك فأفرد ) فلما توجه أن يقال إذا كانوا يحكم ما يريد به سيدهم فلا استحقاق لهم العذاب الموجع من هذا الوجه .
قال ( والمراد بالعذاب إذلالهم و ) الحال ( لا أذل منهم لكونهم عبادا فذواتهم تقتضي أنهم أذلاء فلا تذلهم )  فمعنى قوله " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " أي أن تريد إذلالهم ( فإنك لا تذلهم بأدون مما هم فيه ) من الإذلال ( من كونهم عبيدا ) .
فلا سبيل إلى إذلالهم لامتناع إذلال الأذلاء وامتناع تعلق قدرتك بالممتنع ولا سبيل إلى العذاب الموجع على الشق الأول من الترديد لعدم استحقاقهم من هذا الوجه .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وإن تغفر لهم أي تسترهم عن إيقاع العذاب ) الموجع ( الذي يستحقونه بمخالفتهم ) بأمرك التكليفي ( أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ) العذاب ( ويمنعهم منه فإنك أنت العزيز أي المنيع الحمى ) .
يعني إن ذاتك بحسب الاسم العزيز والغفور يقتضي مظهرا يظهر بهما بكمال الظهور ولا أكمل مظهرا ممن جعل لك شريكا .
فإن لم تسترهم من العذاب لفائت هذه الحكمة التي يراد وقوعها وهو ظهور الحق بكمال الغفارية فلا بد من ظهور الحق بكمال الغفارية ولا بد من إجابة دعاء الرسول عليه السلام في حقهم بإذن اللّه .
فلا بد من ستر الحق عنهم إيقاع العذاب الذي يستحقونه بجرمهم هذا في حق المشركين الذين استحقوا العفو والمغفرة في العلم الأزلي بشرط دعاء الرسول عليه السلام ليلته الكاملة فخاتمتهم في آخر نفسهم على الإيمان وأما الذين قبضوا على الشرك فلن يغفر اللّه لهم .
فلا يؤذن للرسول عليه السلام إن يدعو لهم بل يدعو عليهم لوجوب التعذيب في حقهم بالنص.
ولا يجوز إلحاحا من النبي على ربه في المسألة ليلة كاملة طلبا للمغفرة لمن وجب في حقه التعذيب بالنص .
فلا ينفع الدعاء لهم فالأنبياء معصومون عن فعل العبث قال القاضي البيضاوي في تفسير الآية وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد تم كلامه .
فحينئذ ليس المراد من الترديد طلب المغفرة لهم بل ثناء للَّه من النبي عليه السلام بكمال التوحيد وكمال القدرة .
لكن الأنبياء ممنوعون بالنص الإلهي عن طلب المغفرة للمشركين فكان التريد عبادة خاصة للرسول نافعة له لا لهم هذا وإن كان له وجه لكن ظاهر الآية وقرنية الحال وهي تلاوة النبي عليه السلام ليلة كاملة يدلان ما قاله الشيخ رضي اللّه عنه من أنه دعاء لهم من النبي عليه السلام بإذن اللّه فما كان الدعاء إلا لطلب الإجابة فأجاب اللّه دعاءه .
ولو لم يجب لردّه في كرة أو كرتين أو ثلاث كرات كما قال تعالى :" اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ " [ التوبة : 80 ] .
فمنع نبيه عليه السلام عن طلب الاستغفار للمشركين وكما قال تعالى :" لَنْ تَرانِي " يا موسى.
 فمن سنة اللّه منع نبيه عليه السلام عن فعل ما لا يفيد ولو لم يفد هذا الترديد في حقهم لما ترك نبيه عليه السلام في ليلة كاملة .
فما ترك الترديد إلا بطلوع الفجر ولو طال لطال .
فظاهر الآية يدل على كمال شفقة النبي عليه السلام وترحمه عليهم فما هذا إلا دعاء وشفاعة لهم لا مجرد ترديد خال عن طلب المغفرة.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا الاسم ) العزيز ( إذا أعطاه ) أي هذا الاسم ( الحق لمن أعطاه من عباده يسمى الحق ) في ذلك الوقت ( بالمعز و ) العبد ( المعطى له هذا الاسم ) يسمى ( بالعزيز ) لكونه مظهرا لتجلي الحق بالعزة .

قال الشيخ رضي الله عنه :( فيكون ) الحق ( منيع الحمى ) أي مانعا حماه وما حماه إلا عين عبده ( عما يريد به المنتقم والمعذب من الانتقام والعذاب ) فمقتضى هذا الاسم منع العذاب عن العبد المذنب لذلك التجأ في دعائه إليه فأجاب اللّه دعاءه عن إضاعة مجاهدته في ليلة كاملة .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله "إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " وقوله " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم " ْفجاء أيضا "فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ") أعاده ليتفرع عليه بعض الأحكام .
( فكان ) ترديد النبي عليه السلام ليلته ( سؤالا من النبي عليه السلام وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلة الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها ) أي يردد النبي عليه السلام تلك المسألة ( طلبا للإجابة فلو سمع الإجابة في أول سؤاله ما كرر ) سؤاله .

( فكان الحق يعرض عليه ) أي على النبي عليه السلام ( فصول ما استوجبوا به ) أي استحقوا به ( العذاب ) وهو الذنب الذي يطلب المغفرة وهو عدا الشرك إذ الشرك لا يقبل المغفرة فالشيء لا يطلب ما لا يقبله ( عرضا مفصلا ) أي كل واحد من الذنوب والمذنبين .
( فيقول ) النبي عليه السلام ( له ) أي للحق ( في كل عرض عرض وعين عين ) أي في كل عرض وعين فردا فردا ("إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "
(فلو رأى ) النبي عليه السلام ( في ذلك العرض ) أي عرض الحق على النبي عليه السلام ( ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه ) من أن الحق يريد القهر والانتقام منهم لا يريد المغفرة لهم ( لدعا عليهم لا لهم ) لأن الأنبياء لا يريدون ما لا يريده الحق .
فعلم النبي عليه السلام في ذلك العرض أن الحق يريد العفو والمغفرة لهم بدعائه فبالغ في دعائه ليلة كاملة ( فما عرض ) الحق ( عليه ) أي على النبي عليه السلام ( إلا ما استحقوا به ) أي بسبب ذلك الشيء وهو الذنب .
( ما ) مفعول استحقوا أي الذي ( تعطيه ) أي تعطي ذلك الشيء ( هذه الآية ) قوله ( من التسليم للَّه والتعريض لعفوه ) بيان لما يعني أن هذه الآية تعطي الرسول عليه السلام ما استحقوا به من أن الرسول عليه السلام يسلم للَّه في دعائه لهم إذ لا يدعو لهم إلا بأمر الحق ويعرض على الحق مغفرتهم فما نزل الآية عليه إلا أن يشفع لهم ولا يشفع إلا لمن يقبل الشفاعة .

قال الشيخ رضي الله عنه :( وقد ورد ) في الخبر ( أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه ) أي إلى الحق ( أخر الإجابة عنه ) أي عن العبد ( حتى يتكرر ذلك ) الدعاء ( منه ) أي من العبد ( حبا فيه ) أي في دعائه ( لا إعراضا عنه ولذلك ) أي ولأجل تأخير الإجابة عن العبد حبا من اللّه ليتكرر من العبد.
( جاء بالاسم الحكيم والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يعدل بها ) أي الأشياء ( عما ) أي عن الذي ( تقتضيه وتطلبه حقائقها ) أي حقائق الأشياء ( بصفاتها ) أي بصفات الحقائق .

قال الشيخ رضي الله عنه :( فالحكيم هو العليم بالترتيب فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بترداده هذه الآية على علم عظيم من اللّه فمن تلا هذه الآية فهكذا يتلو ) أي كتلاوة الرسول عليه السلام في كونه على علم عظيم ( وإلا فالسكوت أولى به فإذا وفق اللّه عبدا إلى نطق بأمر ما فما وفقه ) أي العبد ( إليه ) إلى نطق ( إلا وقد أراد إجابته ) أي إجابة عبده ( فيه ).

أي في ذلك النطق ( وقضاء حاجته ) فإذا كان الأمر كذلك ( فلا يستبطئ ) أي فلا يغتم ( أحد ) بتأخير ( ما يتضمنه ما وفق له ) من الدعاء ( وليثابر ) أي وليواظب على دعائه مثل ( مثابرة رسول اللّه على هذه الآية في جميع أحواله ) أي أحوال الرسول ( حتى يسمع ) الداعي ( بإذنه )  الجسماني ( أو بسمعه ) القلبي ( كيف شئت أو كيف أسمعك اللّه الإجابة فإن جازاك ) الحق ( بسؤال اللسان أسمعك بإذنك وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ).

.
التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment