Sunday, December 15, 2019

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفصّ العيسوي
أي : ما يتزين به ويكمل العلم اليقيني الباحث عن رتبة خاصة في النبوة ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى عيسى بن مريم - عليهما السلام ، إذ ظهر بها في بطن أمه "أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" [ مريم : 24 ] ، وفي المهد قال :" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " [ مريم : 30 ] ، وفي حال الكهولة :" أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ"[ آل عمران : 49 ] إلى قوله :" وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ " [ آل عمران : 49 ] .
"" أضاف المحقق : لفظة النبي التي وردت بالهمز وبدونه ، فبالهمز مشتق من النبأ بمعنى الإخبار فنسب الشيخ حكمته إليه ؛ لأنه أنبأ عن نبوته في المهد بقوله :آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا[ مريم : 30 ] .
وفي بطن أمه بقوله :أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا[ مريم : 24 ] أي : سيدا على القوم بالنبوة ، فله زيادة خصوصية بها ، وبدون الهمز من نبا ينبو بمعنى ارتفع لارتفاعه إلى السماء ، قال تعالى :بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ[ النساء : 158 ] ( شرح الجامي ص  325 ) .""
قال الشيخ رضي الله عنه : 
عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين   ....   في صورة البشر الموجود من طين
تكوّن الرّوح في ذات مطهّرة    ....    من الطّبيعة تدعوها بسجّين
لأجل ذلك قد طالت إقامته    ....    فيها فزاد على ألف بتعيين
روح من اللّه لا من غيره فلذا    ....    أحيا الموات وأنشأ الطّير من طين
حتّى يصحّ له من ربّه نسب    ....    به يؤثّر في العالي ، وفي الدّون
اللّه طهّره جسما ونزّهه    ....    روحا وصيّره مثلا بتكوين
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ من خصائص الأرواح أنّها لا تطأ شيئا إلّا حيي ذلك الشّيء وسرت الحياة فيه ، ولهذا قبض السّامري قبضة من أثر الرسول الّذي هو جبرائيل عليه السّلام ، وهو الرّوح ، وكان السّامريّ عالما بهذا الأمر ، فلما عرف أنّه جبرائيل ، عرف أنّ الحياة قد مرت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرّسول بالضّاد أو بالصّاد أي بملء يده أو بأطراف أصابعه ، فنبذها في العجل فخار العجل ، إذ صوت البقر إنّما هو خوار ، ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصّوت الّذي لتلك الصّورة كالرّغاء للإبل والثّؤاج للكباش واليعار للشياه والصّوت للإنسان أو النّطق أو الكلام ) .
ولما كانت له هذه الرتبة لطهارة فطرته ، واتصاله بالأرواح العلوية ؛ ولذلك رفع إلى السماء أخذ يبحث عنها ؛ فقال ( عن ) متعلق يتكون ، وهمزة الاستفهام محذوفة والمنفصلة حقيقية أي : بل عنهما جميعا يكون ( ماء مريم ) عن سريان الشهوة فيها ، إذ قال لها جبريل عليه السّلام : " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا "[ مريم : 19 ] ، وقد تمثل لَها" بَشَراً سَوِيًّا" [ مريم : 17 ] ، إذ لا بدّ منه لفيضان الروح على الجسم الإنساني ، فإنه من ماء المرأة ، ومن ماء الرجل بحسب السنة الإلهية التي لم تجد لها تبديلا وتحويلا .
 فلذا قال : ( وعن نفخ جبرين ) أي : جبريل ، فإنه من حيث تضمنه النفس المشبه بالنفس الحيواني حامل رطوبة متوهمة ، وذلك لظهوره ( في صورة البشر ) ( الموجود من طين ) ، وهو تراب مبلول بالماء ، فلا يخلو نفسه عن رطوبة محققة ، فما تمثل به يوجب نفخة رطوبة متوهمة يفيد اجتماعهما تركيب جسم إنساني معتدل ( تكون ) أي : فاض ( الروح ) العيسوي ( في ذات ) .
أي : جسم إنساني هو ذاته المعروضة لحيوانه من الروح ( مطهرة ) ( من الطبيعة ) الحيوانية من حيث تركيبها من المختلفات المحققة المستدعية انحلالها عند بطلان اعتدالها المبطل تدبير الروح عنها ، وإن كان ذلك التركيب بعينه عند اعتدال أجزائه يستدعي تدبيره في جسمه ؛ لذلك ( يدعوها ) أي : تلك الطبيعة ( بسجين ) بحبس الروح العلوي .

ثم تخليه عند بطلان اعتداله ( لأجل ذلك ) أي : لتطهر ذاته عن تلك الطبيعة المستدعية تدبير الروح تارة وإخلاؤه تارة ( قد طالت إقامته ) أي : إقامة روحه ( فيها ) أي : في ذاته ، ( فزاد ) قدر إقامته فيها ( على ألف ) من السنين ( بتعيين ) في هذا الألف المزيد عليه ، إذ لا تتصور زيادة على شيء بدون تعيين ذلك الشيء ؛ وذلك لأنه عليه السّلام ولد قبل نبيّنا عليه السّلام بخمسمائة وخمس وخمسين سنة ، وقد بقي بعد ، وقد مضى بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أكثر من خمسمائة سنة .
وإذا كانت الذات العيسوية منزهة عن الطبيعة ، فالروح المتكون فيها (روح من اللّه لا من غيره) من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر ؛ لأن فيضانه يختلف باختلاف المحل نزاهة وتعلقا.
( فلذا ) أي : فلكونه من اللّه الحي القادر العليم في الأرواح ( قبض السامري ) من بني إسرائيل ( قبضة من أثر الرسول ) ، وهو التراب الذي أثر فيه قدم قرينته الأنثى ، وهو من عالم الأرواح ؛ لأنه فرس الرسول ( الذي هو جبريل ) في قول المفسرين لقوله تعالى حكاية عن ( فقبضت قبضة من أثر الرسول ) ، وجبريل ( هو الروح ) .
كما فسّر به قوله تعالى :( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ( 193 ) عَلى قَلْبِكَ [ الشعراء : 194 ، 193 ] ) ، ففرسه لا بدّ وأن يكون من عالم الأرواح أيضا ، وإذا كان لفرسه هذا الأثر ، فأن يكون لنفسه أولى كيف ، وفرسه أثر في التراب الذي هو أبعد من قبول الحياة مما هو معتدل المزاج ، فلما أثر فيه الضعيف التأثير فقوى التأثير في الكامل القبول أولى .

( وكان السامري ) مع جهله باللّه الموجب لتجريه عليه ( عالما بهذا الأمر ) لما سمع من موسى أو من علماء بني إسرائيل ، وقد عرف أن الراكب على الفرس الأنثى قدام فرس فرعون هو إنما هو جبريل يريد أن يدخل البحر بفرسه الأنثى لتتبعها فرس فرعون ، ( فلما عرف أنه جبريل عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ فيه ) ولو بواسطة الفرس ، وفيما ضعف قبول أثر الحياة فيه ( فقبض قبضة من أثر الرسول ) كما ورد به القرآن ، لكن شكّ في مقدار المأخوذ إذ قرئ ( بالضاد ) المعجمة ( أو بالصاد ) المهملة ( أي : بملء يده ) .
يعني :  ملء كفه على الأولى ، ( أو بأطراف أصابعه ) على الثانية ، ( فنبذها ) أي : القبضة أو القبضة ( في ) صورة ( العجل ) المعمولة من حلي قوم فرعون ، فصار عجلا ذا حياة ، (فخار العجل).

والحياة البقرية لم تتعين له من وطئ جبريل بل من الصورة التي أقامها له السامري ، ( إذ صوت البقر إنما هو خوار ) ، والفائض على كل صورة من الحياة ما يناسبها ، والصوت إنما يكون مما يناسب تلك الحياة ، وإن كانت الصورة معمولة للبشر غير فائضة من الأرواح العلوية ، ( ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصوت الذي الصّورة كالرّغاء للإبل والثّؤاج للكباش واليعار للشياه والصّوت للإنسان أو النّطق أو الكلام ) فصل هذا التفصيل ؛ ليشير إلى أن تلك الصور ، وإن اتحدت في الجنس القريب أو البعيد ، فلابدّ وأن يختلف اسم الصوت باختلاف في النوع صدقا ، ولا يختلف اسم الصوت عند اتحاد النوع صدقا ، وإن تعددت أسماؤه المترادفة أو المتواصلة ، وهذا مبالغة في مبالغة مناسبة الصوت للحياة الدالة على مبالغة مناسبة الحياة للصورة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فذلك القدر من الحياة السّارية في الأشياء يسمّى لاهوتا ، والنّاسوت هو المحلّ القائم به ذلك الرّوح فسمّي النّاسوت روحا بما قام به ، فلمّا تمثّل الرّوحالْأَمِينُ [ الشعراء : 193 ] الّذي هو جبرائيل لمريم - عليها السّلام -بَشَراً سَوِيًّا [ مريم : 17 ] تخيّلت أنّه بشر يريد مواقعتها ، فاستعاذت باللّه منه استعاذة بجمعيّة منها ليخلّصها اللّه منه لما تعلم أنّ ذلك ممّا لا يجوز ، فحصل لها حضور تامّ مع اللّه ، وهو الرّوح المعنويّ ، فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة لخرج عيسى عليه السّلام لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه لحال أمّه ) .
وإذا كانت هذه الحياة للأشياء قابضة من الأرواح الفائضة عن اللّه تعالى ، (فذلك القدر من الحياة) قل أو كثر ( السارية في الأشياء ) من إشراق الأرواح عليها ، وقد أشرق عليها الذات الإلهية باسمها الحي ( يسمى : لاهوتا ) من غير اختصاص ذلك بالكمّل كعيسى وغيره لمناسبتها الصفة الإلهية التي هي الحياة نوع مناسبة ، لكن الكامل فيها أولى ( والناسوت هو المحل ) أي : البدن لا من حيث هو بدن فقط ، بل من حيث هو .

( القائم به ذلك الروح )  المشرق بنور الاسم الحي الإلهي ، ولو بواسطة إشراق الأرواح العلوية عليها ، وهي الحاملة لنور ذلك الاسم بالذات ، فلا تبطل هذه الناسوتية بهذه اللاهوتية ، كما يتوهم ذلك من القول نفي الناسوت وبقاء اللاهوت ، بل غايته أن يسمي هذا البدن من حيث كونه محل ذلك الروح هو روحا كما قال رحمه اللّه .

""أضاف المحقق :  بل صفاته السارية منه فيه ، فإن الروح ليس قائما بالمحل بل القائم بها هو الصفات السارية من الروح إليه ، والناسوت وإن كان مأخوذا من الناس ليس مخصوصا به بل يطلق عليه وعلى غيره باعتبار محليته لصفات الروح وقيامها به .شرح القاشاني ص210)""

( فسمى الناسوت روحا بما قام به ) ، فأطلقوا على أنه فنا بمعنى أنه صار مغلوبا بذلك الروح ، فنال أنوار الكواكب عند غلبة نور الشمس عليها ، وهذه إشارة إلى تأويل ما ورد في الإنجيل من لفظ اللاهوت والناسوت ، فتوهم منه الحلول والاتحاد فوقع من وقع بذلك في الضلال والإلحاد ، ولما كان للروح مع الواسطة بهذا الأثر فيما ضعف قابليته للحياة مما لم يقض منه ، فكيف إذا أثر بلا واسطة فيما قويت قابليته وفاض منه.
وما كان في ذلك المحل مما لم يقض منه حاملا معنى فيه كالحضور مع اللّه تعالى الذي كان من مريم حين استعاذتها باللّه بجمعية منها ، وكان الروح المنفوخ من اللّه تعالى جاء به هذا الروح الذي له هذا التأثير ، فكيف لا يقوى أثر فيه حتى يصير محييا للموتى ، متصرفا في أبدان الناس ، باقيا إلى الدهور .
( فلما تمثل الروح الأمين ) احترز به عن الشيطان ، فإنه وإن لم يكن من المجردات يسمى روحا للطافته ، لكن ليس بأمين إذ يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ( الذي هو جبريل ) المخبر عنه بالروح في القرآن ؛ ليشير إلى أن الروح العيسوي إنما وصل إلى مريم بواسطة الروح الأمين ؛ لتتم له قوة التصرف في العوالم وقوة تحمل أعباء الرسالة ، وفسّره المفسرون بجبريل بدليل أن النازل بالقرآن على النبي عليه السّلام هو جبريل بالإجماع .

وقد قال تعالى : " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ " [ الشعراء : 193 ، 194 ].
( لمريم - عليها السّلام ) ؛ لتستعيذ باللّه منه أولا ، فيحصل لها حضور تام مع اللّه ، وهو الروح المعنوي ، ثم يحصل لها نشاط وانشراح يوجب سريان الشهوة فيها لحصول ما يحقق ( بشرا ) ؛ ليتوهم من نفخه رطوبة يفيد طينها اعتدالا ، ويفيض عليه الصورة البشرية ( سويّا ) ، إذ لا نشاط يوجب سريان الشهوة بدون ذلك ( تخيلت أنه بشر يريد مواقعتها ) ؛ لظهوره في مكان خلوتها التي كانت تغتسل فيه غير الحيض ، ( فاستعاذت باللّه منه استعاذة بجمعية منها ) أي : جمعت في التوجه بهذه الاستعاذة إلى اللّه تعالى نفسها وقلبها وروحها وسرها وخفيها ، وجميع حواسها وقواها .
( ليخلصها اللّه منه ) أي : من مراده الذي توهمته منه ، ولا يحصل غالبا بالاستعاذة بأي وجه كان ، بل لا بدّ لحصوله على القطع من الاستعاذة بالجمعية ، ( لما تعلم أن ذلك ) المراد ( مما لا يجوز ) للمرأة بغير زوجها وسيدها ، وإن أكرهت وجب عليها الدفع بما أمكنها ، ولم يمكنها حينئذ سوى الاستعاذة المذكورة .
ولما استعاذت بجمعية فيها ، ( فحصل لها حضور تام مع اللّه ، وهو الروح المعنوي ) صار معينا في دفع الطبيعة الرديئة عن بابها للروح الأمين المفيد رطوبة متوهمة بدفع الطبيعة من حيث كونها من الملائكة ، والنفخ في هذه الحالة ، وإن كان أتم في استفاضة الروح الأكمل إلا أنه يفيد المشكاسة في الصورة الظاهرة لعيسى عليه السّلام ، ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت ) .
أي : وقت الجمعية ( على هذه الحالة ) أي : حالة الاستعاذة ( يخرج عيسى ) في الصورة الظاهرة ( لا يطيقه ) أي : لا يطيق رؤيته ( أحد لشكاسة خلقه ) مع تمام روحانيته من حيث الروح المعنوي من الاستعاذة ، ومن حيث نفخ جبريل عليه السّلام إذ الصورة لا تتبع الروح بل ( لحال أمه ) ، فإن صورة الولد تتبع الوالدين في الحال الغالبة عليها وقت المعلوق ، وحالة الاستعاذة حالة قبض وشكاسة ، فلابدّ من إذهاب ذلك بالبشارة المفيدة نشاطها المفيد صاحبتها التي هي ضد الشكاسة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلمّا قال لها :إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [ مريم : 19 ] ، جئت لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا[ مريم : 19 ] ، انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها فنفخ فيها في ذلك الحين فخرج عيسى ، وكان جبرائيل ناقلا كلمة اللّه لمريم كما ينقل الرّسول كلام اللّه لأمّته ، وهو قوله :وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [ النساء : 171 ] ، فسرت الشّهوة في مريم ، فخلق جسم عيسى من ماء محقّق من مريم ، ومن ماء متوهّم من جبرئيل ، سرى في رطوبة ذلك النّفخ ؛ لأنّ النّفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه من ركن الماء ، فتكوّن جسم عيسى من ماء متوهّم ، ومن ماء محقّق ، وخرج على صورة البشر من أجل أمّه ، ومن أجل تمثّل جبرائيل على صورة البشر حتّى لا يقع التّكوين في هذا النّوع الإنساني إلّا على الحكم المعتاد ، فخرج عيسى يحيي الموتى لأنّه روح إلهيّ ، وكان الإحياء للّه ، والنّفخ لعيسى كما كان النّفخ لجبرائيل والكلمة للّه .)
قال رضي الله عنه :  ( فلما قال لها :إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [ مريم : 19 ] ، وعرفت وصدقت بالانشراح ، وذهاب القبض منه مع بقائه هناك ، ولم يدفعه عنها كمال حضورها الكامل للتأثير ؛ لكونه من كامل الحال ؛ ولعلمه كشف عن باطنها حجاب المثال الذي كان فيه التخيل حيث حذف ؛ لأنه دلّ على لفظ الرسول "لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا" [ مريم : 19 ] تنمو فضائله بكمال روحانيته ، وتتطهر عن الرذائل الطبيعية لما ذكرنا ( انبسطت عن ذلك القبض ) الذي كان لها عن خوف المواقعة المحرمة ، (وانشرح صدرها) بالبشارة الإلهية على لسان الرسول ،(فنفخ فيها في ذلك الحين).

أي : حين انبساطها وانشراحها عيسى روحه والأمر المتوهم من مادته ، بل من البشارة والنفخ حصلت مادته الحقيقية ، إذ سرى فيها الشهوة عنهما مع رؤية صورة بشر سوي مأمون عن الفعل المحرم في وقت انقطاع الحيض لم يكن اللّه تعالى ، ولا جبريل أبا له .

إذ ( كان جبريل ناقلا كلمة اللّه لمريم ) من غير إفادة رطوبة ، ولا نقلها عن اللّه تعالى ، بل ( نقل الرّسول كلام اللّه لأمّته ) من غير نقل مادة حرف وصوت منه ، وإن حصلت عند النقل للأمة ، فهذه الرطوبة في نفخة لم تكن من اللّه ، ولا من جبريل .
إذ لم يتحقق ذلك لكونه ملكا في الحقيقة ، وإنما توهمت ذلك منه مريم كما يتوهم بعض الأمم الحرف والصوت لكلام اللّه تعالى ، وهو أي : الدليل على أن جبريل إنما هو ناقل كلمة اللّه لمريم لا مفيد لروحانية عيسى وإلا لمادته ، ولا أنه ناقل لها عن اللّه ( قوله تعالى :وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ[ النساء : 171 ] ) ، وليس ذلك إلقاء لكلامه الذي هو صفته بل الملقي ( روح منه ) أي : حاصل من كل أمه الذي هو صفته .
ولما انبسطت وانشرحت ، وقد رأت "بَشَراً سَوِيًّا" [ مريم : 17 ] مبشرا وقت انقطاع الحيض.
قال رضي الله عنه :  ( فسرت الشهوة في مريم ، فحصل ) فيها مادة ( جسم عيسى ) ماء محققا مع رطوبة متوهمة من نفخ جبريل ، فخلق جسم عيسى الذي هو محل روحه ( من ماء محقق من مريم ) عن سريان الشهوة فيها ( وماء متوهم من نفخ جبريل ) ، وهو بهذا التوهم أفاد ماءها البارد غير القابل للروح اعتدالا أوجب قبوله إياه ( سرى ) أي : حصل ذلك الماء ضمنا ( في رطوبة ذلك النفخ ) ، فإنها وإن كانت متوهمة فهي من حيث هي عرض لا تتصور بدون المحل ، والأصل في محلها الماء ، وإنما كانت لهذا النفخ رطوبة مع كونه من الملك ؛ لأنه لا تمثل لصورة البشر الذي هو حيوان فلا نفخة عن رطوبة ؛ ( لأن النفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه ) أي : في الجسم الحيواني ( من ركن الماء ) .
فنفخه ، وإن كان إخراجا للهواء من باطنه ، فهواؤه لا يخلو من اختلاط الماء ، وهو وإن كان متوهما ؛ فهو في حكم المحقق ، ( فيكون جسم عيسى من ماء متوهم ) من نفخ جبريل ، ( وماء محقق ) من سريان الشهوة في مريم ، وكان مقتضى هذا خروج عيسى في صورة مركبة من البشرية والملكية ، ولكنه ( خرج على صورة البشر ) متمحضة ( من أجل أمه ، ومن أجل ) عيسى عليه السّلام ( تمثل جبريل ) في صورة البشر ، فإنه كما أثر توهم الماء اعتدالا في مادته أثر توهم الصورة البشرية تمحض الصورة البشرية في صورته اقتضت الحكمة الإلهية ذلك ؛ ( لئلا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني ) ، وإن كان على خرق العادة في إيجاد الولد بلا أب ( إلا على الحكم المعتاد ) من الجمع بين مائين ، ولو على وجه التوهم رعاية للحكمة بقدر الإمكان ، فكأنه جامع للعادة ولخرقها فهو أعظم من خرق العادة وحده ، وإذا كان روح عيسى من اللّه ، وإن نقله جبريل .
( فخرج عيسى عليه السّلام يحيي الموتى ؛ لأنه روح ) من خواصه الإحياء سيما أنه ( إلهي ) ، ويختص به الإحياء الحقيقي ، والحاصل من الأرواح ظهور الحياة البشرية عليها من اللّه ، فكان ( الإحياء ) العيسوي في الواقع ( للّه والنفخ ) الموجب لإشراقها في الموتى هو الواقع ( لعيسى ) ، فاجتمع في الإحياء العيسوي الذي أسند إليه حقيقة باعتبار الظهور منه ، وإن كان مسندا إلى اللّه باعتبار الإيجاد منه حقيقة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان إحياء عيسى عليه السّلام للأموات إحياء محقّقا من حيث ما ظهر عن نفخه كما ظهر هو عن صورة أمّه ، وكان إحياؤه أيضا متوهّما أنّه منه ، وإنّما كان للّه ، فجمع لحقيقته الّتي خلق عليها كما قلناه : إنّه مخلوق من ماء متوهّم وماء محقّق ينسب إليه الإحياء بطريق التّحقيق من وجه ، وبطريق التّوهّم من وجه ، فقيل فيه من طريق التّحقيق وَأُحْيِ الْمَوْتى [ آل عمران : 49 ] ، وقيل فيه من طريق التّوهّم فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ [ آل عمران : 49 ] ؛ فالعامل في المجرور فيكون ، لا أنفخ ، ويحتمل أن يكون العامل فيه أنفخ فيكون طيرا ، من حيث صورته الحسّيّة الجسميّة .
وكذلك :وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ [ المائدة 110 ] وجميع ما ينسب إليه ، وإلى إذن اللّه ، وإذن الكناية في مثل قوله :بِإِذْنِي ،وبإذن اللّه فإذا تعلّق المجرور ب « تنفخ » ، فيكون النّافخ مأذونا له في النّفخ ، ويكون الطّائر عن النّافخ بإذن اللّه ، وإذا كان النّافخ نافخا لا عن الإذن ، فيكون التّكوّن للطّائر ، فيكون العامل عند ذلك فيكون فلو لا أنّ في الأمر توهّما وتحقّقا ما قبلت هذه الصّورة هذين الوجهين ، بل لها هذان الوجهان ؛ لأنّ النّشأة العيسويّة تعطي ذلك ) .

(فكان إحياء عيسى عليه السّلام الأموات إحياء محققا ) أي : مسند إليه حقيقة ( من حيث ما ظهر عن نفخه ) المسند إليه حقيقة ، إذ حقيقة النفخ ، وهو إخراج الهواء عن جوف النافخ لا يتصور في حق اللّه تعالى ، ولا منع في إسناد الظهور الحقيقي إلى غير اللّه تعالى .
( كما ظهر هو عن صورة أمه ) ، وإن كان عن صورة جبريل أيضا ؛ فهو أيضا باعتبار توهم أمه أنها صورته لتمثله لها بتلك الصورة ، ( وكان إحياؤه أيضا ) مستندا إليه حقيقة باعتبار أنه كان ( متوهما أنه منه ) فيسنده الجاهل إليه حقيقة ، فإن الإسناد الحقيقي هو إسناد أمر إلى ما له عند المتكلم في الظاهر .
( وإنما كان ) في الواقع باعتبار الإيجاد ( للّه ، فجمع ) في إسناد الإحياء إليه حقيقة بين الأمر المحقق الذي هو الظهور والمتوهم الذي هو توهم أنه منه ( بحقيقته التي خلق عليها ) ، باعتبار أن روحه في الواقع للّه ، ويتوهم أنه من جبريل ( كما قلنا ) في بدئه ( أنه مخلوق من ماء متوهم ) من نفخ جبريل ، ( وماء محقق ) من مريم .
"" أضاف المحقق : فيه إشارة إلى أن النفخ لا يفيد إلا حياة الجسم المنفوخ فيه ، وأما خصوصية كونه طائرا لا من حيث الحقيقة ، وفيه نظر ؛ فإنه إذا تعلقت الحياة بالصورية الطيرية يكون طيرا بالحقيقة لا محالة ، وقيل : هو بيان المناسبة بين المكوّن الذي هو عيسى وبين المكوّن الذي هو الطير لا بدّ منها في التكوين كما في التوليد فيه بعد ( شرح الجامي ص 331 ) . ""

فلو لا أن حقيقته جامعة لم تحصل هذه الجمعية في روحه وبدنه ، فالفعل الصادر من الحقيقة الجامعة ينبغي أن يكون جامعا ؛ فلذلك ( ننسب إليه الإحياء ) بالإسناد الحقيقي ( بطريق التحقيق من وجه ) ، وهو أنه ظهر من نفخة ( وبطريق التوهم من وجه ) ، وهو أنه بتوهم أنه منه ، وليس له في الواقع ؛ ( فقيل فيه ) في الكتاب الإلهي الجامع بين الطرق كلها ( من طريق التحقيق) ، وأحي الْمَوْتى[ آل عمران : 49 ] .
بإسناد الإحياء إليه باعتبار ظهوره منه ، والأصل فيه الحقيقة ، ولم يشعر بكونه من اللّه ، ( وقيل فيه من طريق التّوهم ،فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ [ آل عمران : 49 ] ) ، فنفى فيه تارة إسناد تكوين الإحياء إلى عيسى ، وأسنده إلى إذن اللّه ، وأسند التكوين إليه تارة باعتبار تعلقه بالصورة الحسية الجسمية للطير ، وهما باعتبار الواقع ، وأسند فيه تكوين الإحياء إلى عيسى تارة باعتبار التوهم .
 فالعامل في المجرور ) أي : قوله : « بإذن اللّه » هو قوله : يكون من ( فيكون ) فأسند تكوين الطير إلى إذن اللّه ( لا ) قوله : " ينفخ " حتى يستند تكوينه إلى نفخه ، ( ويحتمل أن يكون العامل فيه ) أي : في المجرور ، أعني بإذن اللّه « ينفخ » ، فلا يستند تكوين الطير إلى إذن اللّه ، وليس له في الطائر مستند إليه مع أنه لا بدّ منه ، ولا يستند الإحياء إلى عيسى في الواقع ؛ فهو محمول على تكوين صورته الحسية .

( فيكون طائرا ) عن تكوين عيسى عليه السّلام في الواقع ( من حيث صورته الحسية الجسمية ) لا من حيث اتحاد الحياة فيه لا باعتبار الظهور ، وقد ذكر مرة ؛ فلا يعاد أو باعتبار التوهم ، وسيذكره مع الإشارة إلى عموم طريق التحقيق ، وطريق التوهم كل ما نسب إلى نفخ عيسى ، وإلى إذن اللّه .
فقال : ( وكذلك ) أي : مثل قوله : فينفخ فيه ، فيكون طيرا بإذن اللّه ، ( أبرئ الأكمه والأبرص ) مسند حقيقة إلى اللّه تعالى بطريق التحقيق ، وإلى عيسى بطريق التوهم ، ولا يختص هذا بآية دون أخرى ، بل ( وجميع ما ينسب إليه ) أي :
إلى فعل عيسى كنفخه ، ( وإلى إذن اللّه ) أي : المضاف إلى اسم اللّه الجامع للظاهر والباطن .
( وإذن الكناية ) أي : المضاف إلى ياء المتكلم المختص بالباطن ، فالمضاف إلى الكناية ( في مثل قوله : بإذني ) وإلى اسم اللّه في مثل قوله : ( بإذن اللّه ) ، فإن الإسناد التكويني إلى الإذن المضاف إلى أحدهما بطريق التحقيق ، وإلى عيسى عليه السّلام بطريق التوهم .
وإن قلنا : إن إسناده باعتبار الظهور إلى عيسى عليه السّلام بطريق الحقيقة ، فذاك في نفس ظهور الحياة لا ظهور تكوينها ؛ إذ لا فعل في تكوينها لغير اللّه تعالى ؛ فغاية ما يتصور في حقّ عيسى عليه السّلام أنه فعل الظاهر فيه دون المظهر ، فإسناده باعتبار الظهور إلى المظهر نوع من التوهم .

( فإذا تعلق المجرور ) أي : بإذن اللّه أو بإذني ، ( فينفخ ) أي : بما هو فعل عيسى عليه السّلام حقيقة ، ( فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ) فيتوهم ما ترتب على نفخه من فعل اللّه أنه فعل النافخ ، ( فيكون الطائر عن النافخ ) فيما يتوهم كما قالت المعتزلة في الأفعال المتولدة ، فيسند تكوينه إلى عيسى بطريق الحقيقة جهلا ، ( وإذا كان النافخ نافخا ، لا عن الإذن ) بألا ( يكون ينفخ عاملا ) في المجرور .
( فيكون التكون للطائر ) طيرا ( بإذن اللّه ) أي : مسند إلى اللّه حقيقة ، وهو طريق التحقيق ، إما باعتبار نفس التكوين ؛ فلا يشك فيه ، وإما باعتبار ظهوره ؛ فلأن الفعل إنما للظاهر لا للمظهر ، ( فيكون العامل ) في المجرور أي : بإذن اللّه أو بإذني ( عند ذلك ) .
أي : عند جعل التكوين للّه كما هو الواقع لفظة يكون ، فاجتمع في عيسى عليه السّلام باعتبار ظهور الفعل منه تحقيقا وتوهما باعتبارين ، فالتحقيق باعتبار الفعل المترتب عليه وهو النفخ والتوهم باعتبار المترتب وهو التكوين .
( فلو لا أن في الأمر ) أي : في حقيقة عيسى عليه السّلام ( توهما وتحققا ) في روحه وبدنه وظهوره وأفعاله ( ما قبلت هذه الصورة ) أي : صورة إسناد الفعل إلى عيسى عليه السّلام باعتبار الظهور منه ( هذين الوجهين ) من التحقيق باعتبار الفعل الأول ، وهو النفخ والتوهم باعتبار الفعل الثاني .
وهو التكوين ( بل لها ) أي : لهذه الصورة ( هذان الوجهان ) في الواقع ، وإن لم يصرّح بإسناد فعله إليه ، وإلى إذن اللّه ، وإذن الكناية ؛ ( لأن النشأة العيسوية تقتضي ذلك ) ، ومقتضى النشأة لا يتغير بالتصريح وتركه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وخرج عيسى من التّواضع إلى أن شرّع لأمّته أنيُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [ التوبة : 29 ] ، وأنّ أحدهم إذا لطم في خدّه وضع الخدّ الآخر لمن لطمه ، ولا يرتفع عليه ، ولا يطلب القصاص منه ، هذا له من جهة أمّه إذ المرأة لها السّفل ، فلها التّواضع لأنّها تحت الرّجل حكما وحسّا ، وما كان فيه من قوّة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبرائيل في صورة البشر ، فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر .
ولو لم يأت جبرائيل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصريّة من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى إلّا حين يتلبّس بتلك الصّورة ويظهر فيها ، ولو أتى جبرائيل بصورته النّوريّة الخارجة عن العناصر والأركان إذ لا يخرج عن طبيعته لكان عيسى لا يحيي الموتى إلّا حين يظهر في تلك الصّورة الطّبيعيّة النّوريّة لا العنصريّة مع الصّورة البشريّة من جهة أمّه .
فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى هو لا هو ، وتقع الحيرة في النّظر إليه كما وقعت في العاقل عند النّظر الفكريّ إذا رأى شخصا بشريّا من البشر يحيي الموتى ، وهو من الخصائص الإلهيّة ، إحياء النّطق لا إحياء الحيوان بقي النّاظر حائرا ، إذ يرى الصّورة بشرا بالأثر الإلهي ) .

ثم أشار إلى أن ظهور التكوين كيف يكون في الواقع من مظهره ، وقد ذكرنا أن ظهوره من أمه ، ومقتضى ذلك العجز ، ومقتضى هذه الأفعال كمال القدرة ، بل عام منشأ هذا الإظهار ظهوره عن صورة جبريل ؛ فقال : ( وخرج عيسى عليه السّلام من التواضع ) جدّا ( إلى أن أشرع لأمته ) إذا عجزوا عن إقامة دينهم قبل نسخه إلا بالقتال أو إعطاء الجزية ( أنيُعْطُوا الْجِزْيَةَ[ التوبة : 29 ] ) .
وإن قدروا على القتال بلا ذلة وصغار"عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ" [ التوبة : 29 ] ، وإلى أن شرع لهم ( أن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر لمن يلطمه ، ولا يرتفع عليه ) بابا فضلا عن طلب الجزاء ، وشرع لهم ( ألا يطلب أحدهم القصاص منه ) أي : من قاتل مورثه ( هذا ) الذي شرع لأمته ثابت ( له ) أولا ( من جهة أمه ) ، وإنما شرع لأتباعه لاكتسابهم استعداد ذلك بمتابعته ، فأنى يكون له من هذه الجهة قوة الإحياء والإبراء .
( إذ المرأة لها ) بالطبع ( السّفل ) الموجب للعجز والتذلل ؛ ( لأنها تحت الرجل حكما ) أي : في الحكم الشرعي ، إذ له الولاية عليها شرعا ( وحسّا ) ؛ لافتقادها إليه في تحصيل المصالح ودفع المضار ، وعلى هذا ( ما كان فيه من قوة ) إظهار ( الإحياء ) أي :
إحياء الطير والموتى ، ( والإبراء ) أي : قوة إظهار وإبراء الأكمه والأبرص الكائنين عن نفخه
ونفسه ، ( فمن جهة نفخ جبريل ) روحه ، وإن كان من اللّه ، فإنما يناسب تكوين ذلك لا ظهوره ، لكن نسبة التكوين إليه أمر متوهم نعم حصول قوة الإحياء له من غير نظر إلى تكوينه أو ظهوره يناسب كونه من اللّه ، وهو المراد بما سبق ، وكان مقتضى هذا أن يكون عند إظهار الإحياء والإبراء على أي صورة تلبس بها جبريل من غير اختصاص بالصورة البشرية إلا أنه اختص بها .
لأن جبريل كان عند النفخ ( في صورة البشر ، فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر ) ؛ لأن نفخه ونفسه صريح نفخ جبريل ، وهذه الصورة ، وإن كانت له باعتبار التخيل والتوهم ؛ فهذا القدر كاف في التأثير المذكور ، وإن كانت لم تتم باعتبار التحقيق ، فليس لها باعتبار كونها امرأة بل لها من حيث كونها إنسانا دلائل منها العجز والذلة من هذه الجهة .
( ولو لم يأت جبريل في صورة البشر وأتى في صورة ) غيرها ، فلو أتى في صورة ( الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد ) أشار باستيفاء هذه الصور إلى أن نفخه لم يكن باعتبار الصورة ، إذ لا يأتي من الجماد والنبات ، بل من الجهة الملكية إلا أنه خص بالصورة البشرية لهذه النكتة التي هو بضدها أعني قوله : ( لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى ) ، ولا يبرئ الأكمه والأبرص ( إلا حين يتلبس بتلك الصورة في نفسه ويظهر فيها ) لعين غيره اعتبرهما جميعا ؛ ليخالف ظهور العبد بصورة غير في نظر العين من غير تلبس بها ، لكنه يلزم بهذا التلبس اجتماع صورتين مختلفتين فيه .
إذ ظهوره بصورة البشر من جهة أمه ، وهو أمر محقق لا يمكن زواله بالأمر المتوهم الذي هو تصور جبريل بصورة البشر ( ولو أتى جبريل بصورته النورية ) ، وتسمى صورة وإن لم تكن شكلا ولا صورة جسمية ولا نوعية لما في ذلك من تقيد مطلق الطبيعة النورية بقيد خاص ؛ ليقيد الجسم بشكل خاص أو جسمية أو نوعية ، فغاية ذلك أنه يقيد بالصورة ( الخارجة عن ) صور ( العناصر والأركان ) ، لكنها صورة طبيعية نورية .

( إذ لا يخرج عن طبيعته ) النورية ، وإن تقيدت هذه الطبيعة ، فليست ظلمانية مخرجة له عما كان عليه بخلاف الصورة الجسمانية والنوعية والشكل ، فإنها ظلمانية مخرجة للأصل عن طبيعته التي تكون عليها لو فرض مجردا عنها ، فيبقى جبريل في هذه الصورة على تجرده بخلاف الأجسام ، ( لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية ) لم يذكر التلبس هاهنا ؛ لامتناع أن يتلبس العنصري بصورة نورية من حيث هو عنصري ، وإن جاز أن يظهر بذلك بغلبة الروحانية على جسمانيته ، ولا يتأتى ذلك لأهل الشعبذة "الشعوذة"؛ فلا حاجة إلى الفرق باعتبار هذه الصورة ، ولكن لا بدّ له
الظهور بهذه الصورة أن يكون مقرونا ( مع الصورة البشرية من جهة أمه ) ؛ لأنه لزمه من أمر محقق ، فإن أمكن الظهور بهما مع امتناع التلبس بهما معا .

( فكان يقال عند إحيائه الموتى : ) ظاهرا بالصورة النورية مع الصورة البشرية ( هو ) عيسى مع أنه يقال أيضا : ( لا هو ) ، ( وتقع الحيرة في النظر إليه ) حيرة يصعب رفعها ؛ لأنها من الأمر المحسوس ( كما وقعت ) الحيرة في إحيائه من غير ظهوره بالصورة النورية ( في العاقل عند النظر الفكري ) حيرة يسهل رفعها ؛ لكثرة المعارضة والمناقضة فيه بخلاف الأمر المحسوس ، فلم نعبأ بوقوع هذه الحيرة .

وذلك أنه يتحير العاقل ( إذا رأى شخصا بشريّا ) أي : في صورة البشر مع أنه في الواقع أيضا ( من البشر يحيي الموتى ) من الناطقين ، ( وهو ) أي : الأمر والشأن من ( الخصائص الإلهية إحياء الناطق لا إحياء الحيوان ) ، فإنه قد يظهر به المشعبذ مع أنه لا يظهر بإحياء الناطق أصلا ( بقي الناظر حائرا ) في هذه الحيرة السهلة رفعها ، مع أن هذه السهولة تقتضي عدم بقاء هذه الحيرة ، ( إذ يرى الصورة ) أي :
صورة المحيي ( بشرا ) مضروبا ( بالأثر الإلهي ) المخصوص وهو دون الظهور بالصورة النورية في إفادة هذه الحيرة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول ، وأنّه هو اللّه بما أحيا به الموتى ، ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو السّتر لأنّهم ستروا اللّه الّذي أحيا الموتى بصورة بشريّة عيسى ، فقال تعالى :لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [ المائدة : 17 ] ، فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كلّه لا بقولهم هو اللّه ولا بقولهم ابن مريم ، فعدلوا بالتّضمين من اللّه من حيث أحيا الموتى إلى الصّورة النّاسوتيّة البشريّة بقولهم ابن مريم ، وهو ابن مريم بلا شكّ ، فتخيّل السّامع أنّهم نسبوا الألوهيّة للصّورة ، وجعلوها عين الصّورة ، وما فعلوا بل جعلوا الهويّة الإلهيّة ابتداء في صورة بشريّة هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصّورة والحكم ، لا أنّهم جعلوا الصّورة عين الحكم ) .
( فأدى بعضهم فيه ) أي : في حق عيسى أو في هذا التحير السهل رفعه ( إلى القول بالحلول ) أي : حلول ذات اللّه القائم بها هذا الأثر وبالاتحاد ، وهو ( أنه هو اللّه ) مع أنه لا شكّ في استجماعه الكمالات كلها ، ولم يروا ذلك في عيسى عليه السّلام ، وإنما رأوا فيه إحياء بعض الموتى ، فقالوا : هو اللّه ( بما أحيا به ) أي : بإحيائه من ( الموتى ) أي : بعضهم ، وفيه
""شعبذ يشعبذ ، وقال الثعالبي : لا أصل لقولهم مشعبذ ، وإنما هو بالواو ، وقد أثبته الزمخشريّ وغيره ، وتقول العامة : الشّعبثة ، ( انظر : تاج العروس )"" .

إشارة إلى أنه لو كان اللّه حالا فيه أو متحدا لكان إحياء الجميع منسوبا إليه مع أنه لا ينسب إليه إحياء الجميع بالاتفاق .
( ولذلك نسبوا ) فنسبوا أي : القائلون بالحلول والاتحاد ( إلى الكفر ) بهذا القول لا يجعله مظهرا إلهيّا كما يقوله الصوفية ؛ وذلك لأن الكفر ( هو الستر ) الذي هو نقيض الظهور ، فلا يتأتى في القول به ؛ ( لأنهم ستروا اللّه الذي أحيا الموتى ) ظاهرا في المظهر العيسوي ( بصورة بشرية عيسى عليه السّلام ) ، إذ جعلوا هذه الصورة محلا لذاته ، وليس محليتها للذات كمحلية الجوهر للعرض ، إذ يبعد القول بجعل ذات الحق عرضا لذات غيره بحيث لا يوجد بدونها ، ولا هي كمحلية المكان للمتمكن .
ولا شكّ أن المكان سائر للمتمكن غالبا ، وكذا إذا جعلوا ذات الحق متحدة بذات عيسى مع أنهم يرون عيسى في صورة بشريته ، وهذا المعنى في الاتحاد أتم وأعم .
فقال تعالى :" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " [ المائدة : 17 ] ، فكفرهم في جعلهم جهة الربوبية متحدة بجهة البشرية .
وإليه الإشارة بقوله : ( فجمعوا بين الخطأ ) في جعل الجهتين المختلفتين متحدة ، ( والكفر ) اللغوي يجعل الذات الإلهية الظاهرة في صورة بشرية عيسى مستورة فيها ، وهو نقيض مقتضى الظهور ( في تمام الكلام ) ، وهو قوله :إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[ المائدة : 17 ] .

ثم قال : ( كله ) ؛ دفعا لتوهم تمامه عند قوله : هو المسيح ، ولو فرض منقطعا عنده يشعر باتحاد الجهتين الموجب للخطأ والكفر ؛ لأن ذكر المسيح يحتمل أن يكون لبيان المظهر ، فكأنهم قالوا : إن اللّه هو الظاهر في هذا المظهر كأنه عينه ، فإذا قيل : ابن مريم ؛ فهذا الوصف ليس لبيان المظهرية بل بيان لجهة البشرية .
فهو مشعر باتحاد الجهتين لدلالته على أنه من جهة كونه ابن مريم هو اللّه ، إذ لا دخل لكونه ابن مريم في المظهرية ، حتى يفهم منه المبالغة في كونه كأنه هو الظاهر فافهم ؛ لأنه ( لا بقولهم : هو اللّه ) المشعر بانفراد جهة الإلهية وإن فرض ظهورها في المسيح ، ( ولا بقولهم : ابن مريم ) المشعر بانفراد جهة العبودية .

والكناية تعود إلى الموجود والقضية مهملة في قوة الجزئية ، أي : بعض الموجودات اللّه وهو الموجود المطلق ، وبعض الموجودات ابن مريم وهو من الموجودات المقيدة ، ويحتمل أن تعود الكناية إلى المحيي أي : المحيي حقيقة هو اللّه ، والمحيي تسببا هو المسيح ؛ لأنه أتى بالنفخ والدعاء سببين له وهو وإن لم يجر له ذكر لكن الإحياء موجب لهذه الحيرة ، فكأنه مذكورا ، فإذا جمعوا بين الكلامين صار المعنى أن اللّه الموجود المطلق هو المسيح من الموجودات المقيدة ، أو أن اللّه المحيي هو المسيح المحيي من حيث كونه ابن مريم.

 فجعلوا جهة العبودية التي يشعر بها كونه ابن مريم عين جهة الربوبية التي بها الإحياء ، ولا يتصور الاتحاد مع فناء الأمرين ؛ لأن الباقي أمر ثالث حدث بعد فنائهما ، ولا مع فناء أحدهما ؛ لأن الباقي لا يتحد مع الفاني ، ولا مع بقائهما بحالهما ، بل إنما يتصور ذلك بجعل أحدهما متضمنا للآخر ، ( فعدلوا بالتضمين ) أي : تضمين جهة الألوهية جهة البشرية عند القول باتحادهما ( من اللّه ).
أي : من القول بظهوره في مظهر المسيح ( من حيث أحيا الموتى ) في هذا المظهر مع أنه لم يظهر فيه بجميع أسمائه وصفاته التي إلهيته بمجموعها لا بعضها ( إلى الصورة الناسوتية ) التي هي عين ( البشرية ) لا تنقلب إلى الألوهية أصلا ، والمظهرية ليست باعتبار هذه الصورة ، بل باعتبار الروح الذي منه ( بقولهم : ابن مريم ) إذ جعلوه وصفا للمسيح من حيث مظهريته ، وهو يشعر بغلبة هذا الوصف لهذه المظهرية على تقدير أن تفعل المظهرية ، لكن لا دخل لكونه ابن مريم في علية هذه المظهرية ، فذكره يشعر باتحاد الجهتين الموجب ستر الذات الإلهية في هذه الصورة الناسوتية البشرية ، وهو الكفر والغلط ، وكيف لا يكون قولا بتضمين جهة الإلهية في جهة البشرية ، ( وهو ابن مريم بلا شكّ ) .

ولو كان التضمين لجهة البشرية في جهة الألوهية ، لكانت جهة الإلهية ظاهرة باختفاء جهة البشرية ، واختفاؤها يوجب الشك في كونه ابن مريم ، لكن لم يشك في ذلك أصلا ، ولا شكّ أن متأخريهم إنما قالوا ذلك بسماعهم إياه من قدمائهم ، ويبعد من قدمائهم القول بالاتحاد ، بل غايته أنهم قالوا هذا القول على قصد الظهور.

أي : أنه تعالى من حيث إحياؤه ظهر في هذا المظهر الذي نقول فيه : إنه ابن مريم ، ( فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية للصورة ) البشرية لعيسى عليه السّلام ؛ وذلك لأنهم ( جعلوها ) أي : الألوهية ( عين الصورة ) لفظا من غير إشعار بحرف التشبيه المحذوف ، بل جعلوا قولهم : ابن مريم مانعا لتقديره لإشعاره باتحاد الجهتين بلا تشبيه ، ولكنهم ( ما فعلوا ) أي : ما قصدوا نسبة الألوهية إلى المسيح ، وما جعلوها عين صورته البشرية .

( بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء ) أي : في أول الكلام ظاهرة ( في صورة بشرية ) بظهوره في الروح المتعلق بهذه الصورة ، فكأنه ظاهر فيها وجعلوا آخر الكلام دالا على أن هذه الصورة ، وإن ظهرت فيها الهوية الإلهية ( هي ابن مريم ، ففصلوا ) أي : قصدوا الفصل والفرق ( بين الصورة والحكم ) بالإلهية .
وجعلوا لكل واحدة جهة منفصلة عن الأخرى ( لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) بالإلهية ، وإن أتوا بلفظ ستشعر بذلك مانع من تقدير حرف التشبيه ، وكيف يقصدون ذلك ولا شك أن هذه الألوهية بالإحياء ، وقد كانت هذه الصورة البشرية مدة بلا إحياء ، ثم ثبت له الإحياء والمتأخر لا يكون غير المتقدم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (كما كان جبرائيل في صورة البشر ولا نفخ ، ثمّ نفخ ، ففصل بين الصّورة والنّفخ وكان النّفخ من الصّورة ، فقد كانت ولا نفخ ، فما هو النفخ من حدّها الذّاتي ؟

فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟
فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانيّة البشريّة فيقول : هو ابن مريم ،
ومن ناظر فيه من حيث الصّورة الممثّلة البشريّة فينسبه لجبرائيل عليه السّلام ؛
ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى اللّه بالرّوحيّة فيقول : روح اللّه ، أي : به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه ، فتارة يكون الحقّ فيه متوهّما اسم مفعول ، وتارة يكون الملك فيه متوهّما .
وتارة تكون البشريّة الإنسانيّة فيه متوهّمة : فيكون عند كلّ ناظر بحسب ما يغلب عليه ، فهو كلمة اللّه ، وهو روح اللّه ، وهو عبد اللّه ، وليس ذلك في الصّورة الحسّيّة لغيره ، بل كلّ شخص منسوب إلى أبيه الصّوري لا إلى النّافخ روحه في الصّورة البشريّة).
( كما كان جبريل في صورة البشر ولا نفخ ، ثم نفخ ففصل ) تأخر النفخ عن صورة بشريته ( بين الصورة والنفخ ) ، فلم تكن جهة صورة البشرية في جبريل عين النفخ ، وإن تقرر أنه ( كان النفخ من الصورة ) البشرية لا تتصور بدونها ، ومع ذلك لا يكون النفخ عنها لتأخره عنها ، ( فقد كانت ) الصورة البشرية لجبريل لما تمثل لها بشرا سويّا ( ولا نفخ ) .
"قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، فقالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا"[ مريم : 18 ، 19 ] ، فخلف مدة هذه المقالة عن النفخ مع تحقق الصورة البشرية له هذه المدة .

( ثم نفخ ) وهو في هذه الصورة ، فلو كانت الصورة البشرية عين النفخ أو عين بعضها لكان النفخ ذاتيّا لها ، فلا توجد بدونه لكنه وجدت الصورة بدونه ، ( فما هو ) أي : الأمر والشأن ( النفخ من حدها الذاتي ) لامتناع المقارنة فيه في الأحوال والأزمنة كلها ، فكذلك يحكم بالتغاير بين جهة بشرية عيسى عليه السّلام ، والإحياء الذي به تتوهم إلهيته ، وكيف يحكم على هيئته بالإلهية التي هذا الإحياء بعض صفاتها لا كلها ، وأنه ليس له من الإحياء سوى هذا النفخ الذي يشبه نفخ جبريل ، وكما لم يكن هذا النفخ عن جهة البشرية ، فكذا عيسى عليه السّلام للإحياء ليس عين جهة البشرية ؛ فافهم .

وقد وقعت الحيرة فيه من حيث كونه بشرا يحيي الموتى لا بشريته الإنسانية الحقيقية التي في أمه ، والصورة الممثلة التي كانت في جبريل حين نفخ روحه في أمه إحيائه أنه من كون روحه من اللّه ، وكونه من جبريل ، .
(فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ) صورته الإنسانية البشرية ، ( فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية ) الحقيقية لا باعتبار جمعيتها في ظاهره الجسماني وباطنه الروحاني ، بل من حيث ( البشرية ) فقط ، .
( فيقول : هو ابن مريم ) ويقتصر على وهم اليهود ، ( ومن ناظر فيه من حيث الصورة البشرية ) التي ظهر بها جبريل عند النفخ ، وقيد البشرية ؛ ليشعر بأن نظره أيضا باعتبار الظاهر.
( فينسبه لجبريل ) باعتبار بشريته ، وهم المتكلمون ، فقالوا : إنه بشر بلغ رتبة الملك ، ففعل فعله من الإحياء الذي هو من خصائص الأرواح .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر فيه من إحياء الموتى ، فينسبه إلى اللّه ) باعتبار كون روحه من اللّه ، وكون جسمه في حكم روحه ، كما قال ( بالروحية ، فيقول : ) هو باعتبار جسمه وروحه ( روح اللّه ) يحيى بإحيائه لا بمعنى أنه يوجد الحياة في المنفوخ فيه ، بل بالمعنى الذي قاله ( أي : به ) .
يعني : بعيسى من حيث كونه من اللّه بلا واسطة ( ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه ) ، وهذا يقرب من قول المحققين من الصوفية ، ولكنهم خرجوا عن الحيرة فلم يجعلوا جسمه متحدا بروحه كما لم يفعل هو لا روحه متحدا بالحق ، بل أضافوه إليه ، ولكن وقع في الحيرة من وقع بسبب هذا الإحياء ، فجعله بعضهم بروحه وجسمه متحدا بالحق ، وبعضهم بالملك ، وبعضهم اقتصروا في ذلك على البشرية .
( فتارة يكون الحق فيه متوهما ) ، فيقال : إحياؤه حقيقي تكويني هو عين إحياء الحق ، فهو عين الحق فيكون الحق فيه متوهما ( اسم المفعول ) تتوهمه الطائفة القابلة باتحاده ، وليس في الواقع حتى يكون الحق متوهما اسم الفاعل كونه فيه باتحاده به ، ( وتارة يكون الملك فيه متوهما ) ، فيقال : إن إحياءه بملكيته الممثلة بالصورة البشرية ، فهو الملك عنه .
( وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة ) ، فيقال : إن إحياءه كان تكوينيّا مع كونه بشرا ، وهو غلط لاستوائه مع سائر الأشخاص الإنسانية في هذا المعنى إلا أنهم يقولون : إن النفوس الإنسانية مختلفة الحقائق يتأتى من بعضها من الأفعال ما لا يتأتى من غيره ، ( فيكون ) عيسى باعتبار صورته الحسية ( عند كل ناظر بحسب ما يغلب نظره عليه ) ، ولكنه يتحير في جعل ذلك له باعتبار صورته الحسية ، وله ذلك باعتبار المجموع من روحه وجسمه من غير أن يكون إلها ، ولا ملكا ، ولا مكونا للحياة أصلا ، ولا مظهرا إلهيا باعتبار بشريته .
( فهو ) باعتبار كون روحه من اللّه ( كلمة اللّه ) لوجوده بكلمة « كن » ، ( وهو ) باعتبار كونه مظهرا للحياة ( روح اللّه وهو ) باعتبار كل جزء من أجزائه ، وحال من أحواله ( عبد اللّه ) من البشر لا يتعداه إلى الألوهية ، ولا إلى الملكية .
( وليس ذلك ) التوهم ( في الصورة الحسية لغيره ) ، وإن كان روحه كلمة اللّه حاصلا فيه بنفخة أو نفخ الملك ؛ فإنه لا ينسب باعتبار صورته الحسية إلى اللّه ، ولا إلى الملك فضلا عن أن تتوهم فيه الإلهية أو الملكية بكل شيء ، ( بل كل شخص ) باعتبار صورته الحسية ( منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية ) .
سواء قلنا : هو اللّه أو الملك لسبق صورته الحسية منسوبة إلى مزاج جسمه على نفخ ذلك الروح المنسوب إلى اللّه في حقّ الغير ؛ فلا يكون الروح المتأخر عين الصورة الحسية المتقدمة أو عين الجسم المتقدم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإنّ اللّه إذا سوّى الجسم الإنسانيّ كما قال :فَإِذا سَوَّيْتُهُ [ الحجر: 29  ] نفخ فيه هو تعالى من روحه ، فنسب الرّوح في كونه وعينه إليه تعالى ، وعيسى ليس كذلك ، فإنّه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشريّة بالنّفخ الرّوحيّ ، وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله ، فالموجودات كلّها كلمات اللّه الّتي لا تنفذ .
فإنّها عن « كُنْ »وكن كلمة اللّه ، فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه فلا تعلم ماهيّتها أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول: " كُنْ فَيَكُونُ" [ مريم : 35 ] قول كن لتلك الصّورة الّتي نزل إليها وظهر فيها ؟ فبعض العارفين يذهب إلى الطّرف الواحد ، وبعضهم إلى الطّرف الآخر ، وبعضهم يحار في الأمر ولا يدري ) .
( فإن اللّه إذا سوى الجسم الإنساني ، كما قال : فَإِذا سَوَّيْتُهُ [ الحجر : 29 ] ) ( نفخ فيه هو تعالى من روحه ) كما قال :وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : 29 ] ، وفي عينه أي : في ثبوته في علمه إليه تعالى إذ لا واسطة بينهما بخلاف الجسم المسوى ؛ فإنه تتوقف تسويته على وسائط كثيرة فلا ينسب ( إليه تعالى ) باعتبار كونه ، ( وعيسى ليس كذلك ) أي : لم يتوقف نفخ الروح فيه على التسوية ، ولا على حصول الصورة الحسية ، ( فإنه اندرجت تسوية جسمه ) أي : اعتدال مزاجه ( وصورته الحسية ) التابعة لهذه التسوية ( بالنفخ الروحي ) ، فتوهم أن صورته الحسية وجسميته عين روحانيته ، وإن روحانيته لكونها فاعلة فعل الحق أو الملك عين الحق أو الملك ، فهو بصورته الحسية عين أحدهما ، ( وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله ) في هذه الجسمية والصورة الحسية ، فلم يتوهم فيها ذلك ، وإن صح فيها أنها كلمة اللّه كما صح في الأرواح كلها ذلك .
( فالموجودات كلها كلمات اللّه ) بدليل أن اللّه تعالى وصفها بأنها التي ( لا تنفذ ) ، مع أن كلامه تعالى واحد لا ينفصل إلا بحسب تعلقه بالموجودات ، فلا تكون الكلمات التي لا تنفد سوى الموجودات التي لا تتناهى لا بمعنى أنها عين كلمته تعالى حتى تكون عين ذاته من وجه ، كما نقول في صفاته تعالى : إنها عين الذات من وجه ، بل بمعنى أنها حصلت عن كلماته .

( فإنها عن قول :" كُنْ " وكن كلمة اللّه ) إذ هي الكلمة الموجدة للموجودات كلها سواء صدرت عن اللّه أو عن مظهر من مظاهره ، فإذا صدرت عن بعض المظاهر ( فهل تنسب الكلمة إليه ) أي : إلى اللّه تعالى على أنها المعنى القائم بذاته ، وهو ( بحسب ما هو ) أي : الحق ( عليه ) من التنزيه ؛ لأنه إنما اعتبرت من حيث هي كلمة موجدة ، ولا تعلق للإيجاد باللفظ من حيث هو لفظ ، فتكون الكلمة صفة للحق تعالى .
( فلا تعلم ماهيتها ) كما لا تعلم ماهية صفات اللّه تعالى ، وهو سبب التحير المتوهم كون صفته تعالى قائمة بالمظهر العيسوي ، إذ هو توهم كون ذلك المظهر غير الحق الموصوف بها ؛ لامتناع قيام الصفة الواحدة بموصوفين ، أو أن هذه الكلمة من جملة الألفاظ ، وإن كان كلامه تعالى منزها عنها ، فإن ذلك التنزه إنما هو باعتبار استقراره في مقر غيره ، وهو غير اعتبار ظهوره في هذه المظاهر ، فلا تكون كلمة باعتبار صدورها من بعض المظاهر منزهة ( أو ) بفرض أنه تعالى ( نزل هو تعالى ) عن مستقر غيره ( إلى صورة من يقول كن ) من المظاهر ، ( فيكون ) على هذا الوجه ( قول : كن ) حقيقة ( لتلك الصورة ) ، إذ الألفاظ لا تسند إلى اللّه تعالى حقيقة ، وإنما تسند إلى المحدثات ، ويكون إسنادها إلى اللّه تعالى مجازا .
لأنها نسبت إلى الصورة ( التي نزل ) الحق عن مستقر غيره ( إليها وظهر فيها ) ، فتكلم المظهر بكلمة تناسب المظهر في اللفظ والظاهر باعتبار المعنى ، فتكون نسبة اللفظ إليه مجازا.

( فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ) ، وهو اعتبار المعنى حيث تصير صفة ، فإنه بذات اللّه تعالى ومنسوبا إليه حقيقة ، ( وبعضهم إلى الطرف الآخر ) ، وهو اعتبار اللفظ ، حتى يجعله مستندا إلى المظهر حقيقة ، وإن قام معناه بالحق تعالى ، ( وبعضهم يحار في الأمر ) ؛ لأنه لو اعتبر اللفظ ؛ فلا تعلق الإيجاد به أصلا ، وإن اعتبر المعنى وحده ، فهو قائم بذاته تعالى لا تعلق له بهذا المظهر ، وإنما يتعلق باعتبار اللفظ مع أنه ينسب إليه الإحياء مجازا ، ( ولا يدري ) وجه هذا المجاز .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلّا ذوقا كأبي يزيد حين نفخ في النّملة الّتي قتلها فحييت فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ فكان عيسوي المشهد ، وأمّا الإحياء المعنويّ بالعلم فتلك الحياة الإلهيّة الذّاتيّة العليّة النّوريّة الّتي قال اللّه فيها :أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ [ الأنعام : 122 ] ، فكلّ من يحيي نفسا ميتة بحياة علميّة في مسألة خاصّة متعلّقة بالعلم باللّه ، فقد أحياه بها فكانت له نورا يمشي به في النّاس أي : بين أشكاله في الصّورة ) .
ثم قال : ( وهذه مسألة ) أي : مسألة نسبة الإحياء إلى المظهر بكلمة « كن » باعتبار المعنى مع أنه قائم بذات اللّه تعالى لا بالمظهر ( لا يمكن أن تعرف إلا ذوقا ، كأبي يزيد ) أي : كمعرفة أبي يزيد إياها ( حين نفخ في النملة التي قتلها ) ، وهذا النفخ مظهر للمعنى القائم بذات اللّه تعالى قام بهذا المظهر ، ( فحييت ) تلك النملة بالمعنى القائم بذات اللّه الظاهر في النفخ القائم بهذا المظهر ، ( فعلم ) أبو يزيد ذوقا ( عند ذلك ) أي : وجه نسبة الإحياء إلى المظهر أنه من نفخه ، إذ علم أنه ( بمن ينفخ ) أي : يراه الذي هذا النفخ مظهر المعنى القائم به ، إذ لا يقوم معنى الإحياء إلا به ، (فنفخ ) عن شهود هذا المعنى حتى أثر في أعيانها ، ( فكان عيسوي المشهد ) ، فحصل ذلك في بعض الأتباع المحمديين ، فعلم تنزل درجة هذا الإحياء عن الإحياء المحمدي ، بل إحياء العلماء من أمته ، كيف وهذه الحياة الحاصلة من ذلك حياة فانية موجبة للخلق حيرة مذمومة ؟ !
وأما الإحياء المعنوي الذي اختص كماله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هو المقصود من إرسال الرسل ، وإظهار المعجزات ، وهو الذي يصير عيسى عليه السّلام تابعا له بل يقتدي ببعض أمته ، وهو المهدي من أجله ، وهو الإحياء ( بالعلم ) الذي هو صفة باقية .
( فتلك الحياة الإلهية ) الدائمة دوام الأرواح الحية بها ( العلية ) ؛ لكونها صفة الأرواح التي لها العلو على الأجسام النورية التي تنير لها طريق الحق بخلاف الحياة الحيوانية ؛ فإنها تفنى بفناء أجسامها ، وهي سفلية جاذبة إلى الأمور المحسوسة السافلة بظلمة حاجبة عن اللّه تعالى ( التي قال اللّه فيها :أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً [ الأنعام : 122 ] .
أي : لجهله باللّه ، وبالنبوة ، وبالملائكة ، وبالكتب ، وبالأمور الأخروية ،( " فَأَحْيَيْناهُ " [ الأنعام : 122 ] ) بالعلم بها فنسبت فيه الحياة إلى اللّه تعالى ؛ فهي حياة إلهية دائمة عليه ،( وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً )[ الأنعام : 112 ]
يكشف له عن الأحوال والمقامات ، وعن سائر الأمور الغيبية يمشي ( به في الناس ) يحييهم بهذه الحياة ، ويفيدهم العلوم اللدنية التي يستفيدها من هذه الحياة ، ومن هذه الأمور ( فكل من أحيا ) من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء ( نفسا ميتة ) بجهل الأمور المذكورة ( بحياة علمية ) أي : بنوع منها ، ولو ( في مسألة خاصة ) دون جميع ما اطلع عليه ( متعلقة بالعلم باللّه ) الباقي ببقاء الروح لا الفاني بفناء البدن مما يتعلق بالأمور الدنيوية ؛ ( فقد أحياه ) أي : ذلك الشخص بجميع أجزائه من النفس والروح ، والقلب ، والسر الخفي ، والبدن ، والقوى ( بها ) أي : بتلك الحياة الإلهية الدائمة العلية .
( وكانت له نورا ) إلى اللّه تعالى وإلى مقامات الأنبياء والملائكة والكمّل من الناس ، وإلى الأمور الأخروية ( يمشي به في الناس أي : ) ينشره ( بين أشكاله في الصورة ) ، فيكلمهم بواسطة مناسبتهم الصورية التي هي أعم وجوه المناسبة إلى المراتب العالية هذا في حق من أحيا نفسا واحدة بمسألة واحدة ، فكيف من أحيا الدنيا بنور العلم الإلهي الذي لا تتناهى مسائله ؟

فظهرت فضيلة هذه الحياة والإحياء بها على الحياة التي أتى بها عيسى عليه السّلام ، وأحيا نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم العالمين بهذه العلوم الجليلة الرفيعة التي لم تتيسر لأرباب الرياضة والنظر مدى الدهور مع مخالفة بعضها لما كانوا جازمين بها ، فبيّن لهم غلطهم في ذلك مع أنه عليه السّلام لم يكن له بأكثر ذلك شعور إلى أربعين سنة ، ولم يستفد شيئا منها من إنسان أصلا أشد إعجازا من إحياء عيسى عليه السّلام ، وأكمل فائدة منه ، وكيف لا وهو المقصود بالذات من خلق العالم .
( فلولاه ولولانا   .....    لما كان الّذي كانا )
فإنا أعبد حقا     ...    وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ...    إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ...  فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ...    تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ...    به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما   ...    بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري  ...   بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا    ...     وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا   ...  ولكن ذاك أحيانا
وممّا يدلّ على ما ذكرناه من أمر النّفخ الرّوحاني مع صورة البشر العنصريّ هو أنّ الحقّ وصف نفسه بالنّفس الرّحماني ، ولا بدّ لكلّ موصوف بصفة أن يتبع جميع ما تستلزمه تلك الصّفة ، وقد عرفت أنّ النّفس في المتنفّس ما يستلزمه فلذلك قبل النّفس الإلهيّ صور العالم ؛ فهو لها كالجوهر الهيولانيّ ، وليس إلّا عين الطّبيعة .)
كما قال : ( فلولاه ولولانا ) أي : فلو لا العلم الذي به الحياة الإلهية النورية الدائمة العلية والعلماء به ، ( لما كان الذي كان ) من المخلوقات كما قال : « كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف » .
ولا شكّ أن الحكمة في إيجاد الخلق إظهار نسبة الربوبية بالعبودية ، كما قال :وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[ الذاريات : 56 ] ، ولا يتم إلا ممن كمل في ذلك العلم .
( فأنا أعبد ) عبادة ( حقّا ) ، وذلك ( أن اللّه مولانا ) تدلى بذاته ، وجميع أسمائه المنفصل ظهورها في العالمين فيّ ، وأنا بكمال هذا التجلي في ( كأني عينه ؛ فاعلم إذا ما قلت إنسانا ) كاملا ، فإن كماله بظهور صور الحق والخلق فيه ، ( فلا يحجب بإنسان ) حادث ذليل عن ظهور رب قديم جليل فيه بذاته وأسمائه ، ( فقد أعطاك برهانا ) على ذلك مثل قوله على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها » . رواه البخاري وابن حبان
وإذا لم يحجب ، ( فكن حقّا ) أي : متحققا بما تجلى فيك تؤثر به في غيرك كأنك الحق ، ( وكن ) مع ذلك ( خلقا ) ؛ لأنه أصلك فلا تتوهم انقلابك إلى الحق ، ولا إنصافك بعين صفاته ، فلا تدع الربوبية لنفسك ( تكن باللّه رحمانا ) تفيض على الخلق فيضا عامّا تستفيضه منه بمناسبتك الطرفين ، وإن لم تسم بالرحمن على الإطلاق ؛ لامتناع ذلك في حق عين اللّه تعالى .
ولا يتجوز في ذلك لإيهامه المعنى الحقيقي كمثل ما يترك استعمال اللفظ في معناه الحقيقي فرارا من التوهم ، فكيف في المعنى المجازي ، وإنما استعمله الشيخ - رحمه اللّه - لتصريحه بالقرينة الرافعة للإيهام ، وفي قوله : « باللّه » أي : باللّه الذي هو الرحمن بالذات .

ثم قال : ولا يقتصر على إفاضة الفيض الرحماني ، بل ( غذّ ) أي : أكمل ( خلقه منه ) أي : من تجليه الخفي ، وهو الفيض الرحيمي ( تكن روحا ) أي : مفيد راحة عظيمة بتكليمهم في العلم الحقيقي ، والمقامات العلية ، والأحوال السنية ، ( وريحانا ) أي : مفيدا روائح السير في اللّه ، وباللّه ومن اللّه .
وإذا كان لنا عموم الفيض الرحماني ، وخصوص الفيض الرحيمي ، وهي التغذية باعتبار حقيقتنا وخلقيتنا ، ( فأعطيناه ) أي : الخلق بحقيتنا ( ما يبدو به ) الحق ( فينا ) من صور تجلياته ، وباعتبار خلقيتنا ما ( أعطانا ) من آثارها ، ( فصار الأمر ) أي : أمر فيضنا مقسوما بإياه ، وإيانا بعضه من صور الحق ، وبعضه من صور الخلق .
وإذا كان كذلك ( فأحياه ) أي : الخلق الذي يحييه بالحياة الإلهية بالعلم مثال علمه ونوره ( الذي يدري بقلبي ) لكنه نسب إلينا ؛ لأنه إنما أحياه فترتب إحياؤه على ( إحيائنا فكنا ) سبب ذلك ، وكان المحيي حقيقة هو العلم الإلهي الذي كما ( فيه أكوانا ) محدثة ، ( وأزمانا ) متغيرة ، ( وأعيانا ) ثابتة فلا تغير فيه ، وإنما هو في إفاضته وتعلقه بنا وكذا في تجليه علينا.
ولذلك ( ليس بدائم ) ثم ( فينا ) وإن كان الأصل في تجليه ، ( ولكن ذلك ) المتجلي يكون (أحيانا) حين ارتفاع الحجب ، وهي ترتفع بالموت فيدوم بدوامه في نفسه ، فلا حجاب إلا أن يعود حجاب الكفر أو المعاصي والعياذ باللّه من ذلك .

فلذلك تسمى هذه الحياة الإلهية عليه نورية بخلاف الحياة الحيوانية ، فإنها ليست من صور أسمائه ؛ فلذلك لا يلزمها العلم الكامل ، بل هي من الآثار الحاصلة من نفسه الرحماني الذي النفخ العيسوي من مظاهره .
( ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني ) أي : المفيد حصول الروح في المنفوخ فيه من كونه مظهر الآحاد الذي هو من آثار الاسم الحي ، ومظهر معنى قول : كن القائم بذات الحق من حيث ما فيه من قول : كن ، لكن هذا النفخ ( مع صورة البشر العنصري ) الذي يجوز كون نفخه متكيف بالحروف اللفظية بخلاف النفخ الصادر من سائر الحيوانات ، وإنما ذكر الصورة ليشير إلى أن النفخ الجبريلي كان في حكمه إلا أنه لم يكن عنصريّا بل كان مثاليّا ، فيكون الروح المنفوخ من جهته وإن كان من جملة الآثار مشابها للصور الإلهية ، بخلاف الروح المنفوخ من جهة عيسى عليه السّلام .
ولذلك أسرع إليه الفساد بمقارنة البدن ؛ لكون العناصر قابله له ومعنى الأثر فيها أظهر بخلاف روح عيسى عليه السّلام ، فإنه كان قابلا للفساد إلا أنه لا يسرع إليه أن الحق ( وصف نفسه ) أي : ذاته على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالنفس الرحماني ، إذ قال عليه السّلام : « إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن » . رواه أحمد وابن حبان  .

فيخرج هذا النفس ما استعدت له الأعيان الثابتة من القوة إلى الفعل ، وهذا النفس المشابهته النفس الإنساني حامل لصورة الحياة التي هي من جملة الحروف الكونية حمل النفس الإنساني صور الحروف اللفظية ، إذ ( لا بدّ لكل موصوف بصفة أن يتبع ) الصفة ، أي : يوجد بتبعيتها ( جميع ما تستلزمه تلك الصفة ) ، فإن كانت حقيقية يلزم أن يوجد معها جميع لوازمها الحقيقية ، وإن كانت مجازية لزم جميع اللوازم المشابهة بالمشابهة لتلك اللوازم لامتناع وجود اللزوم بدون اللازم .

( وقد عرفت أن النفس في المتنفس ) الإنساني ( ما يستلزمه ) من صور الحروف اللفظية فيجب أن يستلزم هذا النفس الإلهي صور الحروف الكونية ؛ ( فلذلك قبل النفس الإلهي ) عند ظهوره من باطن الحق ( صور العالم ) التي من جملتها صورة الحياة ، فحملها النفخ الجبريلي والعيسوي عند نزول الحق إلى صورتهما للمتكلم بكلمة « كن » في ضمن النفخ ، فسرت بسريانه إلى المنفوخ فيه .

وإنما قلنا : إنه من جملة الآثار لا من صور الأسماء ؛ لأنها بمثابة صور المرايا ، وهذه من الصورة الجسمانية والنوعية القائمة بالهيولى ؛ وذلك لأنه قبل النفس الإلهي صور العالم ، وهي لا تقوم إلا بالهيولى .

( فهو ) أي : النفس الرحماني ( لها ) أي : لصور العالم ( كالجوهر الهيولاني ) ، لكن الصفة لا تكون جوهر ؛ ولذلك لا بدّ من جواهر أخرى تقوم به هذه الصورة الكونية ، ( وليس ) في الظاهر ما يقبلها ( إلا عين الطبيعة ) ، إذ هي عبارة عن مبدأ الفعل والانفعال الذاتيين ، وقبول كل شيء صورته من جملة الانفعالات ؛ فهي القابلة للصور بالفعل بعد ما حملها النفس بالقوة ، ولا شكّ أن الفعل والانفعال من جملة الآثار ، فصور الطبيعة من جملة الآثار ، والكل داخل فيها ، وإن كان أكثرها مرايا صور لأسماء الإلهية أيضا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالعناصر صورة من صور الطّبيعة ، وما فوق العناصر ، وما تولّد عنها ؛ فهو أيضا من صور الطّبيعة ، وهي الأرواح العلويّة الّتي فوق السّماوات السّبع ، وأمّا أرواح السّموات السبع وأعيانها ؛ فهي عنصريّة ، فإنّها من دخان العناصر المتولّد عنها ، وما تكوّن من كلّ سماء من الملائكة فهو منها ، فهم عنصريّون ومن فوقهم طبيعيّون ، ولهذا وصفهم اللّه بالاختصام أعني الملأ الأعلى ؛ لأنّ الطّبيعة متقابلة ، والتّقابل الّذي في الأسماء الإلهيّة الّتي هي النّسب إنّما أعطاه النّفس).

( فالعناصر ) أي : النار والهواء والماء والتراب ( صورة من صور الطبيعة ) ؛ لأنها من عالم الكون والفساد ، فالفعل والانفعال فيها أظهر وما فوق العناصر ، وفوق ما تولد عنها من المركبات منها ، ومن أرواحها وقواها ، إذ هي في حكم العناصر ، وإن تجردت في ذواتها ، فهو أيضا من صور الطبيعة إذ اختلاف أفعالها من صورها ، فهي صور الطبيعة ، وإن كان المشهور انحصار الطبيعة في أعراض العناصر والمركبات منها ، ( وهي ) أي : ما فوق العناصر ( الأرواح العلوية ) ، وليس المراد منها أرواح السماوات السبع كما تقوله العامة ، بل هي ( التي فوق السماوات السبع ) البعيدة عن العنصرية ؛ فلذلك لا تفارق أجرامها ، ولا تحترق تلك الأجرام ، وتلك الأجرام ، وإن لم تكن عنصرية ؛ فهي مناسبة لها بخلاف أرواحها ؛ فلذلك لم يذكرها ، ( وأما أرواح السماوات السبع وأعيانها ) أي : أفلاكها ، ( فهي عنصرية ) ، وإن أجمع أكثر الفلاسفة على أن هذه الأفلاك ليست عنصرية فضلا عن أرواحها .

واستدل على كون السماوات السبع عنصرية بقوله : ( فإنها من دخان العناصر ) على ما هو مذهب المسلمين ، وقدماء الإشراقيين بموجب قوله تعالى :ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ[ فصلت : 11 ] ، وهي دخان الآية ، والدخان ، وإن لم يكن إحدى العناصر الأربعة ، فلا شكّ في تولده منها كما قال ( المتولد عنها ).
وقد روي أنه تعالى خلق جوهرا ؛ فنظر إليه بعين الهيبة ، فذاب فصار نصفه ماء ونصفه نارا ، فتموج الماء بالنار ، فارتفع منه دخان صار منه السماء ، وتلطفه بعضه ، فصار منه الهواء .
ثم أشار إلى عنصرية أرواحها بقوله : ( وما تكون عن كل سماء من الملائكة ) ، وإن لم تكن أجسامها ، ( فهو منها ) كالقوى الجسمانية والأرواح الحيوانية ، ( فهم عنصريون ) حاملون طبائعها ؛ فلذلك تفارق أجرامها ، وتحترق كما ورد به الشرع ، فالأثر به فيها أظهر ( ومن فوقهم ) من الأرواح العلوية ( طبيعيون ) ، وإن أنكر جمهور الفلاسفة ، ولم يظهر لها معنى الأثر بمفارقة أجرامها ؛ فقد ظهر فيها اختلاف الأفعال .

ثم استدل على طبيعتها لكونها خلاف المشهور بقوله : ( ولهذا وصفهم اللّه بالاختصام ) ، وهو إما فيما بينهم باعتبار التقابل الذي في أفعالهم ، أو في اعتراضهم على اللّه في خلق آدم ، وذلك قوله تعالى :( ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ )[ ص : 69 ] ، وهم الأرواح العلوية ؛ ولذلك بيّن الضمير في قوله : « وصفهم » بقوله : ( أعني :بِالْمَلَإِ الْأَعْلى[ ص : 69 ] )، وهذا الاختصام لا بدّ له من مبدأ فيهم ، فهو إما الطبيعة وإما الأسماء الإلهية لكن الأول أظهر.

( لأن الطبيعة متقابلة ) بالذات إذ بها اختلاف ، فالأفعال والانفعالات الذاتية ، ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية ) ليس من ذواتها ؛ لأنها عبارة من المعاني المتضمنة للأمور ( التي هي النسب ) بين الذات الإلهية وسائر الكائنات التي هي صور الطبيعة التي تضمنها النفس ، فالتقابل فيها ليس من ذواتها إذ النسب لا يقتضي شيئا إلا باعتبار طرفيها .
إما من الذات أو النفس أو الطبيعة ، لكن الأسماء الإلهية من حيث تقدمها لا تقبل شيئا من الطبيعة الحادثة ، فهو إما من الذات أو من النفس الذي هو مبدأ الطبيعة ، لكن الذات ليس فيها اختلاف الجهات ، فهذا التقابل في الأسماء ( إنما أعطاه النفس ) إياها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى الذّات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ؟
فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم ، وليس إلّا النّفس الإلهيّ ، فبما فيه من الحرارة علا ، وبما فيه من البرودة والرّطوبة سفل ، وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ، فالرّسوب للبرودة والرّطوبة ؛ ألا ترى الطّبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه راسبا علم أنّ النّضج قد كمل فيسقيه الدّواء ليسرع في النّجح ، وإنّما يرسب لرطوبته وبرودته الطّبيعيّة ، ثمّ إنّ هذا الشّخص الإنساني عجن طينته بيديه وهما متقابلتان ، وإن كانت كلتا يديه يمينا فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ، ولو لم يكن إلّا كونهما اثنين أعني يدين ، لأنّه لا يؤثّر في الطّبيعة إلّا ما يناسبها وهي متقابلة ، فجاء باليدين .)
واستدل على أنه ليس من إعطاء الذات بقوله : ( ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم ) أي : حكم النفس والإيجاد ( كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ) ، فلو كان التقابل في الأسماء من الذات الإلهية كان فيها الاختلاف أولا ، ويكون فيها مجملا لوحدتها ؛ فلا بدّ لذلك من تفصيل ، وحينئذ فيما فيه هو الموجب بالذات اختلاف الصور الكونية كإيجاب النفس الإنساني اختلاف صور الحروف اللفظية .
( فلهذا ) أي : فلأجل غنى الذات عن العالمين لم يخرج العالم على صورتها ليس فيه شيء من التقابل ، كما أنه ليس في الذات بل ( خرج العالم على صورة من أوجدهم ) أي : أفراده المتقابلة علوّا وسفلا ، وحركة وسكونا ، وهو إما الطبيعة أو الأسماء الإلهية أو النفس ، لكن الطبيعة قابلة فلا تكون فاعلة والأسماء قديمة فلا تكون فاعلة للأمر الحادث بلا واسطة ، فتعين أنه ( ليس ) موجدهم لقريب ( إلا النفس ) ، فهو حامل للمعاني المناسبة لما في العالم من مبدأ الفعل والانفعال .
وكما أن النفس الإنساني حامل للطبائع الأربعة من : الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التي هي مبادئ الفعل والانفعال ، فكذلك النفس ( الإلهي ) حامل لما يوجب أفعالها وانفعالاتها ،
( فبما فيه ) أي : في النفس الإلهي ( من الحرارة ) أي : من المعنى المناسب لها ( علا ) بعض العالم ، كالنار والهواء ، ( وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل ) بعضه كالماء والتراب ، ( وبما فيه من اليبوسة رسب) بعضه كالتراب ، و ( لم يتزلزل ) إذ ليس فيه ما يوجب الحركة من الحرارة والرطوبة ؛ ولهذا كان الماء فوق الأرض ، وإن اجتمع فيه سبب الرسوب لما فيه من موجب الحركة - أعني : الرطوبة - ولا يتأتى مع لزوم السكون فيما تحت الأرض إذ منع من التزلزل للأرض ، فكيف لا يمنع ما تحتها ؟ !

( فالرسوب للبرودة والرطوبة ) لا لليبوسة في الأرض ، وإلا كان للنار رسوب لكن لها العلو المطلق ، ولو لم يكن للرطوبة ذلك لم يكن للهواء رسوب بالنسبة إلى النار ؛ لأن حرارته توجب العلو ، ولو لم يكن للبرودة رسوب لم يكن للأرض أصلا ، ولا للماء بالنسبة إليها لاجتماع سببه فيه ، وإنما تحركت النار مع اليبوسة لمعارضة الحرارة إياها فتبعت فلك القمر في حركته .
ولما كان المذكور في الكتاب من أن العلو من الحرارة ، والسكون من اليبوسة ، والرسوب من البرودة والرطوبة ، وهو خلاف المشهور من أن العلو للخفة ، والرسوب للسفل ، والحركة من الرطوبة ، والسكون من اليبوسة استدل على ما ذكره بأمر تجريبي لا يفيد الدليل العقلي على خلافه .
فقال : ( ألا ترى الطبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه راسبا ) علم أن النضج ، وهو تهيؤ المادة للاندفاع ( قد كمل ، فيسقيه الدواء ؛ ليسرع في النّجح ) بالاندفاع بالسيلان الحاصل على التفرق والرسوب ، ( وإنما يرسب ) عند النضج المفيد للخفة ( لرطوبته وبرودته الطبيعية ) ؛ قيد بذلك للإشارة إلى أن الرطوبة والبرودة العارضة لا توجب الرسوب ، كما في بعض أجزاء الهواء ، فهذا تأثر النفس الإلهي في العناصر .
ثم أشار إلى إثارة في الأسماء الإلهية باعتبار ظهورها الكامل الذي في الإنسان ، فقال :
( ثم ) إن هذا الشخص الإنساني ، يعني : آدم عليه السّلام الجامع لأسرار أولاده ( عجن طينته ) الشاملة على الطبائع المذكورة ( بيديه ) أي : أسماؤه المتقابلة ليظهر منها آثارها التي تقتضيها طبائعها التي أخذتها من النفس الإلهي ، وإنما فسرناهما بالأسماء المتقابلة إذ ( هما ) أي : اليدان بالمعنى المتعارف ( متقابلتان ).

فينبغي أن يعتبر ما يناسب هذا التقابل في يدي اللّه تعالى ، ( وإن كانت كلتا يديه يمينا ) ، كما صحّ في الخبر : « أنه يوضع للمقسطين منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين . رواه ابن بطة والبيهقي .
وذلك للإشارة إلى أنه لا تفاوت في تأثير يديه مثل التفاوت في تأثير يدي الإنسان ؛ فإن يمينه أقوى من شماله غالبا ، ( فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ) في حق اللّه تعالى ، ( وإن لم يكن ) ذلك الفرقان ( إلا كونهما اثنين ) ؛ لأنه موجب للتغاير الذي هو عين الفرقان ، لكن حملنا هذا الفرقان على التقابل المفهوم من اليدين المتعارفتين ؛ فلذلك قال : ( أعني يدين ) سيما إذا فرضنا مباشرين لطينة آدم الشاملة على الطبائع المتقابلة .

 ( لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها ) لما قرر من وجوب التناسب بين الفاعل والقابل ، ( وهي ) أي : الطبيعة ( متقابلة ) ضرورة تقابل الحرارة للبرودة ، وتقابل الرطوبة لليبوسة ، والأولان مبدأ الفعل ، والآخران مبدأ الانفعال ؛ فبيّن مجموعهما تقابل آخر .
( فجاء باليدين ) للتأثير فيهما ؛ ليؤثر كل اسم بحسب طبيعته في عصر يناسب طبيعته ، ويؤثر مجموعهما باعتبار ما فيها من التقابل في مجموع طبائعه المتقابلة لإكمال هذا المعنى فيه ؛ فلذلك كان من عنايته بهذا النوع الإنساني .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولمّا أوجده باليدين سمّاه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه ، وجعل ذلك من عنايته بهذا النّوع الإنسانيّ ؛ فقال لمن أبى عن السّجود له :ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ [ ص : 75 ] ، على من هو مثلك يعني عنصريّاأَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ ص : 75 ] ، عن العنصر ، ولست كذلك ، ويعنى بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النّوريّة عنصريّا ، وإن كان طبيعيّا ، فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصريّة إلّا بكونه بشرا من طين ؛ فهو أفضل نوع من كلّ ما خلق من العناصر من غير مباشرة ، فالإنسان في الرّتبة فوق الملائكة الأرضيّة والسّماويّة والملائكة العالون خير من هذا النّوع الإنساني بالنّص الإلهيّ ؛ فمن أراد أن يعرف النّفس الإلهيّ فليعرف العالم ) .
كما أشار إليه بقوله : ( ولما أوجده باليدين سماه بشرا ) لا لما يتوهم من كونه من ظاهر الأرض وبشرته بل ( للمباشرة اللائقة بذلك الجناب ) من التأثير بلا واسطة الأسباب السماوية التي هي متوسطة بينه تعالى وبين الحوادث الزمانية ( باليدين المضافين إليه ) ؛ فلا يكونان من الجوارح ، ولا مباشرتهما مباشرة الأجسام ؛ ولذلك ( جعل ذلك ) الإيجاد لكونه  بلا واسطة ذلك ( من عنايته ) تعالى ( بهذا النوع الإنساني ) حيث باشر أول أفراده بيديه ، فجعله بذلك مستحقا للسجود ممن ليس له ذلك .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال لمن أبى عن السجود له :ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ [ ص : 75 ] على من هو مثلك ) لم يرد به المثلية في مباشرة اليدين مع كونه عنصريّا ، بل ( يعني ) مثلا ( عنصريّا ) ، وإن اختلف العنصران الغالبان عليهما مكانا علوّا وسفلا ، يعني لو تجردت عنصريته عن مباشرة اليدين ، وكان عنصره أدنى مكانا من عنصرك لم يكن لك أن تتكبر عليه ، فكيف وقد فاق عليك بشرف مباشرة اليدين المضافين لطينته " أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ" [ ص : 75 ] .
"" أضاف المحقق : العالون : هم الملائكة المهيمون والملائكة المقربون ، كجبريل وغيره من ملائكة العرش والكرسي ، قال المحققون : رسل الملائكة أفضل من عامة البشر ، فكل واحد من الإنسان والملائكة العالين فاضل ومفضول ؛ فالإنسان أفضل من الملائكة العالين من ذلك الوجه ، والعالون أفضل من الإنسان من حيث إنه لم تكن نشأتهم النورية عنصرية ( شرح القاشاني ص 223 ) . ""

(عن العنصر ) الموجب للدنو المعارض لعلو مباشرة اليدين ، ( وليست ) ، فليعرف العالم الذي هو له النفس الإنسانية الذي للرب تعالى من حيث إن معرفة ظهورها فيه توجب معرفته تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّه « من عرف نفسه ؛ فقد عرف ربّه » الّذي ظهر فيه أي العالم ظهر في نفس الرّحمن الّذي نفّس اللّه تعالى به عن الأسماء الإلهيّة ما تجده من عدم ظهور آثارها ، فامتنّ على نفسه بما أوجده في نفسه ، فأوّل أثر للنّفس الرحماني إنّما كان في ذلك الجناب ثمّ لم يزل الأمر ينزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد .
فالكل في عين النفس ... كالضوء في ذات الغلس
والعلم بالبرهان في ... سلخ النهار لمن نعس
فيرى الذي قد قلته ... رؤيا تدل على النفس
فيريحه من كل غم ... في تلاوته «عبس»
ولقد تجلى للذي ... قد جاء في طلب القبس
فرآه نارا وهو نور ... في الملوك و في العسس
فإذا فهمت مقالتي ... تعلم بأنك مبتئس
لو كان يطلب غير ذا ... لرآه فيه وما نكس
وأمّا هذه الكلمة العيسويّة لمّا قام لها الحقّ في مقام « حتّى نعلم ويعلم » استفهم عمّا نسب إليها هل هو حقّ أم لا مع علمه الأوّل بهل وقع ذلك الأمر أم لا ، فقال له :أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ المائدة : 116 ] .
فلا بدّ في الأدب من الجواب للمستفهم ؛ لأنّه لمّا تجلّى له في هذا المقام ، وهذه الصّورة اقتضت الحكمة الجواب في التّفرقة بعين الجمع ، فقال وقدّم التّنزيه :سُبْحانَكَ ،فحدّد بالكاف الّتي تقتضي المواجهة والخطاب ،ما يَكُونُ لِي أَنْمن حيث أنا لنفسي دونكأَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّأي : ما تقتضيه هويّتي ولا ذاتي ،إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [ المائدة : 116 ] ؛ لأنك أنت القائل في صورتي ، ومن قال أمرا فقد علم ما قال ، وأنت اللّسان الّذي أتكلّم به كما أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ربّه في الخبر الإلهي ؛ فقال : « كنت لسانه الّذي يتكلّم به » ، فجعل هويّته عين لسان المتكلّم ، ونسب الكلام إلى عبده ، ثمّ تمّم العبد الصّالح الجواب بقوله :تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ،والمتكلّم الحقّ ، ولا أعلم ما فيها فنفى العلم عن هويّة عيسى عليه السّلام من حيث هويّته لا من حيث إنّه قائل وذو أثر ،وَلا أَعْلَمُ[ المائدة : 116 ] ، فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه ، إذ لا يعلم الغيب إلّا اللّه ، ففرّق وجمّع ووحّد وكثّر ، ووسّع وضيّق ).
فانظر إلى هذه التّنبئة الرّوحيّة الإلهيّة ما ألطفها وأدقّها أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [ المائدة : 117 ] ، فجاء بالاسم « اللّه » لاختلاف العبّاد في العبادات واختلاف الشّرائع ؛ ولم يخصّ اسما خاصا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكلّ  .

قال رضي الله عنه :  ( فإنه « من عرف نفسه ؛ فقد عرف ربه » الذي ظهر نفسه فيه ) ؛ لأنه إنما يعرف الحق من حيث ما فيه مما يناسب صفاته من الحياة ، والعلم ، والإرداة ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ، فيظهر له أن هذه الصفات موجودة في ربه ، فيعرف بذلك ربه والعالم مع النفس الرحماني ( كذلك ) ، أي : العالم ظهر في ( النفس الرحماني ) بعد كمونة في أسماء الحق كونا موجبا فيها ما يشبه الكرب ، فأزاله الحق عنها بهذا النفس ( الذي نفس اللّه به عن الأسماء الإلهية ) ( ما ) كانت ( تجده ) مما يشبه الكرب الحاصل لها ( عن عدم ظهور آثارها ) ، فنفس عنها ( بظهور آثارها ) التي هي الصورة الروحانية والجسمانية
 .
ثم أشار إلى فائدة هذه المعرفة بأنها مزيلة لأنواع الكرب كلها ، فقال : ( فامتن على نفسه ) أي : ذاته باعتبار أسمائه التي كانت هذه الذات غالبة عليها قبل ظهور هذه الآثار بما ( أوجده في نفسه ) من آثار أسمائه بأن جعل النفس محل ظهور هذه الآثار الموجب كونها ما يشبه الكرب في الأسماء بل في الذات باعتبار عينيتها .

قال رضي الله عنه :  ( فأول أثر كان للنفس الرحماني ) بإزالة الغموم ، ( إنما كان في ذلك الجناب ) ، وإن جل عن قبول الآثار ؛ لتنزهه عن أن يكون محلا للحوادث ، لكن هذا يشبه الأثر بإزالة ما يشبه الكرب الذي في الأسماء ، باعتبار نسبتها إلى هذه الآثار ، فكأنه كان هذا الكرب في الأسماء ، وهي كأنها عين الذات حينئذ ، فكأنه كان الكرب هناك فأزيل عنها .

قال رضي الله عنه :  ( ثم لم يزل الأمر ) أي : أمر النفس الإلهي ( ينزل ) إلى سائر المراتب بتنفيس ( الغموم إلى آخر ما وجد ) ؛ فمنه تأثير نفخ عيسى عليه السّلام من حيث مظهريته لذلك النفس في إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ومنه بقيات أهل الدعوات والرقى ، ومنه نفس الإنسان المنفس له عما يجد من الحرارة الروحانية في باطنه بإخراجه ، وإدخال الهواء البارد من الخارج ، وإذا كان ظهور ( الكل في النفس كضوء ) الكواكب ، وغيرها الظاهر ( في ) الهواء ( ذات الغلس ) ، وهو ظلمة آخر الليل تظهر فيه عدم قيامها به ، وهذا الأمر واضح لأهل الكشف ، ( والعلم ) بهذا الظهور ، مع عدم قيام الظاهر بالمظهر ( بالبرهان ) ، مع كون هذا المعلوم في الموضوح ( في سلخ النهار ) لدى أهل الكشف إنما يحتاج إليه ( لمن نعس ) أي :
نام ، فإنه لا يرى شيئا في سلخ النهار ؛ فإذا برهن لتمثله ( فيرى الذي قد قلته رؤيا تدل على النفس ) دلالة صور المنام على ما تعبر هي به .
لكن هذه الرؤيا البرهانية إذا رآها ( فيريحه عن كل كرب ) كان يجده في الشدائد ، فيراها من حيث كونها من صور النفس المنفس لها بنفسه من وجه آخر ، فتزول عنه عبوسته التي يقال فيها لأجله : إنه ( في تلاوته عبس ) .
ثم أشار إلى ذلك البرهان ، وهو القياس على ظهور النار لموسى عليه السّلام في جناب الحق مع أنه ليس محلا لصور الحوادث ، بل إنها رؤيت فيه ؛ فهي محررة كصورة الشخص في المرآة ، فقال : ( ولقد تجلى ) أي : الحق بلا خلاف ( الذي ) ( قد جاء في طلب القبس ) ، وهو موسى عليه السّلام ، فرآه أي : الحق نارا بظهور صورة النار فيه ، وهو نور ليس بمحل الصورة شيء ، وهذا المعنى معروف في الملوك أهل الكشف ، وفي العسس علماء الظاهر .
( فإذا فهمت مقالتي ) ، وعرفت أن الصورة الظاهرة في الحق غير حالة فيه ، بل هي كصور الشخص في المرآة ( تعلم بأنك مبتئس ) فقير ، وإن ظهرت في الحق أو ظهر فيك الحق ، بل غايته أنه قائم بخيال الرأي بتبدل هذه الصور بحسب ذلك حتى أنه ( لو كان ) موسى عليه السّلام ( يطلب غيرنا ) لقبس ( لرآه ) أي : ذلك غير الحق ( فيه ) ، أي : فالحق صورته ، ( وما نكس ) عن الحق عن عدم رؤية المطلوب ، فهو إنما رأى النار لكونها صورة مطلوبة ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
ولما فرغ عن بيان ما يتعلق بالنفس الإلهي من حيث ظهور الآثار رؤية ، وإن كان بعضها صورا للأسماء الإلهية ، لكن من حيث هي آثاره ؛ شرع في بيانه من حيث هو صورته .

فقال رضي الله عنه  : ( وأما هذه الكلمة العيسوية ) التي هي صورة النفس الإلهي القائمة بفعله كالأحياء والأموات ( لما قام لها الحق في مقام حتى نعلم ) ، وهو يعلم مقام يشبه الفرق مع الحمى ، وهو أنه ( يعلم ) الحوادث الزمانية بالعلم الأول مع تغير نسبته بأن علم بأنها حصلت في أوقاتها لا قبل ذلك ، فكأنه يتجدد له ذلك العلم مع ثبوت علمه الأول ؛ وذلك لأن للنفس هذا المقام ؛ فإن له التفرقة مثل الآثار مع اجتماعها بالقوة في أسمائها .
( استفهم عما نسب إليها ) من القول بالتفرقة المحضة مع إبهام تصويرها بصورة الجمع ( هل هو حق ) واقع صدوره منه ( أم لا ) ، وهو الاستفهام ناظر إلى الفرق في المستفهم ( مع علمه الأول ) باعتبار جمعيته ( هل وقع ذلك الأمر أم لا ) ، ( فقال له :أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ المائدة : 116 ] ، فاستفهم بطريق التفرقة مع كونه في مقام الجمع ، ( فلا بدّ في ) مقتضى ( الأدب ) الواجب رعايته في هذا المقام ( من الجواب المستفهم ) من غير أن يقتصر المجيب على قوله : أنت السائل والمجيب ، ولا أن يسكت عنه بالكلية بخلاف مقام الجمع ، فإنه لا أدب فيه ، ولا جواب لعدم تميز العبد هناك ، وأما هنا فلابدّ منهما .
( لأنه لما تجلى في هذا المقام ) المثبت للعبد وجودا ، وهو الحق ، وفي ( هذه الصورة ) التي هي صورة السائل الطالب للجواب ( اقتضت الحكمة ) الموجبة رعاية مقتضى المقام ( الجواب ) الكامل ( في التفرقة ) قائمة ( بعين الجمع ) ؛ ليناسب الجواب المقام الذي أقام فيه السائل الذي هو الحق ، ( فقال : ) في الجواب المشعر بالتفرقة المحضة في الظاهر مع مقارنتها للجمع في الباطن ، ( وقدّم التّفرقة ) المشعرة بالجمع ؛ ليقارنها به ( سبحانك ) ، ( فحدد ) المنزه في مقام الجمع ( بالكاف ) المشعرة بالتفرقة ؛ لأنها ( التي تقتضي ) التفرقة ؛ لاقتضائها ( المواجهة والخطاب ) ، ولا يتصور أنه من الأمر الواحد من حيث هو واحد ، بل لا بدّ من مغايرة « ما » ، ولو اعتبارية كاعتبار القائلية والسامعية ، فيكون الجمع مقرونا بالتفرقة ؛ ليدل بطريق الانعكاس على أن الفرق المذكور بعده مقرون بالجمع .

وهو قوله :ما يَكُونُ لِيإذ ظاهره التفرقة ، ولكنه متضمن للجمع ؛ فلذلك حسن في تفسيره أن يقال : ( من حيث أنا لنفسي دونك ) أي : باعتبار التفرقة المحضة ، وإن تضمنت في الواقع الجمعأَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [ المائدة : 116 ] أي : ثابت .

ولما عم الثابت بالذات وبغير وهو ثابت له بغير ، لكنه إنما يتأتى باعتبار الجمع ، وهو نفاه هاهنا فسره بقوله : ( أي : ما تقتضيه هويتي ) أي : شخصيتي ( ولا ذاتي ) التي هي الإنسانية ، فإنهما من حيث هما من التفرقة الصرفة المانعة ثبوت ذلك لهما ، فهو إنما يتصور باعتبار الجمع ، فقال : ( إن كنت قلته ) أي : باعتبار الجمع ، ( فقد علمته ) حتى أنه لو فرض عدم علمك بالحوادث الزمانية ، لوجب أن تعلم هذا ؛ ( لأنك أنت القائل : في صورتي ) بهذا الاعتبار .
( ومن قال أمرا ؛ فقد علم ما قال ) ، وإن جاز أن يكون من خلق شيئا لا يعلمه لو خلقه بالواسطة على زعم الفلاسفة في الحوادث الزمانية أنها مستندة إلى الحركات السماوية ؛ وذلك لأنه ليس هذا القول الإيجاد الكلام في غير كما تقوله المعتزلة أنه تعالى متكلم بكلام يوجده في جسم آخر .

بل ( أنت اللسان الذي أتكلم به ) بالنظر إلى هذا الجمع ، وإن قورن بالفرق من حيث نسبة اللسان والكلام إليّ ( كما أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ربه ) لا بلسان الحال بل ( في الخبر الإلهي ) الذي سمعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحضرة الجامعة .
( فقال : " كنت لسانه الذي يتكلم به "  ، فجعل هويته باعتبار الجمع عين لسان المتكلم ) ، ويلزمه كون كلامه عينية صورة المرآة لصور الشخص المحاذي لها ، وإن قارن هذا الجمع بالتفرقة إذ ( نسب الكلام إلى عبده ) ، ولكن باعتبار الجمعية لا يكون من قبيل خلق الكلام في محل مغاير أو بواسطة ؛ فيلزمه العلم لا محالة ، فلا وجه لاستفهامه بالنظر إليها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم تمم العبد الصالح يعني : عيسى عليه السّلام الجواب )
 بإلحاق ما يفيد فوائد زائدة من إثبات العلم للّه ، باعتبار استقراره في مقر غيره ، وباعتبار ظهوره في الظهر الجامع ، ونفيه عن عيسى باعتبار هويته المشيرة إلى الفرق ، وإن أخذ مع الجمع ، بل إنه يعلمه باعتبار الجمع فقط ، ولكنه لا يكون علما محيطا بالغيوب ، بقوله :تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي[ المائدة : 116 ] ، فبتعلم ما فيها من صورة كلامك كيف ( والمتكلم ) باعتبار الجمع سيما في الكلام النفسي ( الحق ولا أعلم ما فيها ) أي : ما في نفسي باعتبار الفرق ، وإن قورن بالجمع حتى صح فيها أنها نفس الحق فأصغت إليه تعالى ، وإنما هي لعيسى نسبت إليه نسبة يد العبد ولسانه إليه .

( فنفى العلم عن هوية عيسى عليه السّلام ) المشيرة إلى الفرق لا من حيث إنه قائل بذلك القول باعتبار الجمع ، ولا ( من حيث إنه ذو أثر ) بهذا القول في الإحياء والإبراء ، فإنه ليس باعتبار الهوية بل باعتبار الجمع ، إذ لا بدّ للتأثير من كونه صورة الحق ، فلا يمكن نفي العلم من تلك الجهة .
ثم قال :إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ[ المائدة : 116 ] ، ( فجاء بالفصل والعماد ) أي : بالضمير المسمى ضمير الفصل عند نحاة البصرة ، وبالعماد عند نحاة الكوفة تأكيدا للبيان ؛ ليدل على أن الإحاطة بالمغيبات في اللّه على سبيل الجزم ، فلا يكون للعبد ، وإن بلغ مقام الجمع أصلا ، وإنما يكون له شيء منه بعد انقشاع التجلي الجمعي ، واعتمادا عليه لا على ما يتوهم من صيرورة العبد حينئذ في حكم الرب في العلم كما صار في التأثير ، وليس كذلك .

( إذ لا يعلم الغيب ) المطلق ( إلا اللّه ) إذ لو علمه العبد ، فإما في حال الجمع ولا بقاء له حينئذ أو بعد ذهابه ، فلا يبقى عنده إلا قدر استعداده ، وإذا فهمت هذا ( ففرق ) عيسى عليه السّلام قوله :ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ[ المائدة : 116 ].
( وجمع ) بقوله :إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ[ المائدة : 116 ] ، ( ووحد ) بقوله :تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي[ المائدة : 116 ] .
( وكثر ) بقوله :وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ[ المائدة : 116 ] ، (ووسع) بجعله علام الغيوب ، (وضيق) بحصر علم الغيب فيه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ قال متمّما للجواب :ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ[ المائدة : 117 ] ، فنفى أوّلا مشيرا إلى أنّه ما هو ثمّة ، ثمّ أوجب القول أدبا مع المستفهم ، ولو لم يفعل كذلك لاتّصف بعدم علم الحقائق وحاشاه من ذلك ، فقال :إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ[ المائدة : 117 ] ، وأنت المتكلّم على لساني وأنت لساني ) .

قال رضي الله عنه :  ( ثم قال ) عيسى عليه السّلام ( متمما للجواب ) بإلحاق زيادة تفيد أنه كما لا علم له باعتبار هويته المشعرة بالتفرقة ، فلا قول له أيضا ، وإنما هو للحق وهو به أمر ، والعبد وإن ظهر بصورته يكون به مأمورا( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [ المائدة : 117 ] ، فنفى أولا ) القول باعتبار نسبته إلى هويته ، ( مشيرا ) بذلك النفي ( إلى أنه ) أي : القول ( ما هو ثمة ) أي :
في هويته من حيث هو هويته ، ( ثم أوجب القول ) أي : المستفهم ( أدبا مع المستفهم ) بأن المستفهم منه ، وإن اعتبر منسوبا في نظر التفرقة المتضمنة للجمع ( لا تصف بعدم علم الحقائق ) ؛ لإشعاره بتصور نظره على التفرقة مع تضمنها للجمعية ، ( وحاشاه من ذلك ) .
ولما كان عالما بالحقائق غلب عليه نظر الجمع الذي كان في ضمن التفرقة ، ( فقال :
إلّاما أَمَرْتَنِي بِهِ [ المائدة : 117 ] ) ، فإنه وإن كان على لساني في نظر التفرقة إلا أنه لا أمر سواك ، ( وأنت المتكلم على لساني ) ، وإن ظهرت التفرقة ، ولكن نظري الجمعية ، فكيف أكون متكلما بلسانك ، وهو أبعد من أن أكلمك بلساني .

قال رضي الله عنه :  ( فانظر إلى هذه التثنية الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها ) في قوله :إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ[ المائدة : 117 ] ، في جعله القول لربه في نظر التفرقة ، باعتبار تضمنها الجمعية مع نفيها عن التفرقة من حيث هي تفرقة ، ومع اعتبار الجمعية جعل الحق المتكلم على لسانه أمرا ، وجعله مع ذلك مأمورا مع ظهوره بصورة الأمر في حق من دونه ، بقوله :" أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ " [ المائدة : 117 ] ، وإنما ذكر التثنية للإشارة إلى أن هذه اللطيفة الدقيقة لا تكاد تنكشف على الأولياء إلا بواسطة الأنبياء وتبينهم ، بل لا تنكشف لكل نبي إلا لمن غلبت عليه الروحية الإلهية .

قال رضي الله عنه :  ( فجاء ) في بيان المعبود ( بالاسم ) الجامع ( اللّه ) ؛ ليشير إلى أنه يأمر كل عابد أن يعبد من الأسماء الإلهية ما تتأتى له عبادته في استعداده مع أنه لا يمكن التنصيص على تلك الأسماء بأعيانها ، فاقتصر على ذكر الاسم الجامع لها ؛ وذلك ( لاختلاف العبادة ) من العباد من حيث استنادهم إلى الأسماء الخاصة الطالبة للعبادة المخصوصة ، ( واختلاف الشرائع ) الموجبة لاختلاف العبادات ، وهو عليه السّلام ، وإن خص شريعته ؛ لكنه علم أنها تنسخ بشريعة نبينا عليه السّلام ، وأنه سينزل في أمته ، فلابدّ من أمرهم بإقامة هذه الشريعة حينئذ ، وقد بشر عليه السّلام قومه بمجيء نبينا عليه السّلام بعده ، فكأنه أمرهم أيضا بمتابعته عند مجيئه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولم يعين لبيان المعبود ( اسما خاصّا ) ، وإن وقعت عبادة كل عابد للاسم الخاص ، بل جاء ( بالاسم الجامع للكل ) من الأسماء .
"" أضاف المحقق : الاسم الجامع : هو اسمه تعالى ؛ لأنه اسم الذات المسماة بجميع الأسماء الموصوفة بجميع الصفات ( لطائف الإعلام ص 21 ) .""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ قال :رَبِّي وَرَبَّكُمْ[ المائدة : 117 ] ، ومعلوم أنّ نسبته إلى موجود ما بالرّبوبيّة ليست عين نسبته إلى موجود آخر ، فلذلك فصّل بقوله :رَبِّي وَرَبَّكُمْ [ المائدة : 117 ] ، بالكنايتين كناية المتكلّم وكناية المخاطب ،إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ،[ المائدة : 117 ] ، فأثبت نفسه مأمورا وليست سوى عبوديّته ، إذ لا يؤمر إلّا من يتصوّر منه الامتثال وإن لم يفعل ، ولمّا كان الأمر يتنزّل بحكم المراتب ؛ لذلك ينصبغ كلّ من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة . فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كلّ مأمور . ومرتبة الآمر لها حكم يبدو في كلّ آمر ) .
وإن لم تتأت عبادته إلا من الإنسان الكامل مع أنه أمر للعامة ؛ لأنه علم بالقرينة أنه ليس المراد عبادة هذا الاسم من حيث جمعه ، بل من حيث الأسماء الداخلة تحته .
وإليه الإشارة بقوله : ( ثم قال :رَبِّي وَرَبَّكُمْ [ المائدة : 117 ] ) ؛ وذلك لأنه ( معلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى آخر ) ، وكل نسبة تقتضي اسما خاصّا ، فلا يعبد أحدا عند الأمر بعبادة هذا الاسم الجامع سوى الاسم الخاص الداخل فيه .
قال رضي الله عنه :  ( فلذلك فصل ) تلك الأسماء نوع تفصيل ، ( بقوله :رَبِّي وَرَبَّكُمْ [ المائدة : 117 ]

(بالكنايتين )  المضاف إليهما اسم الرب ( كناية المتكلم ) ، وإن لم تتأت عبادة ذلك الرب إلا من الكمّل لا من كل كامل ، بل ممن كان عيسوي القلب من الأولياء ، فأمرهم أولا لسبقهم نسبه إليهم ، وامتثالا لأوامره ، ( وكناية المخاطب ) وهو يشمل الأسماء الجزئية التي لا تنحصر ؛ لكونها بعدد عابديها ، فلا يمكن التنصيص على كل منها لمخصوصها ، كما لا يمكن التنصيص على كل واحد منهم ، وإنما كان للاسم الجامع هذا التفصيل ؛ لأن ظهوره في المظاهر إنما يكون بحسبه ؛ فلذلك لما قال الحق في مظهره :اعْبُدُوا اللَّهَ[ المائدة : 117 ] ، أمرا .

قال عيسى عليه السّلام :( إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [ المائدة : 117 ] ، فأثبت نفسه مأمورا ) ، إذ ليس لنفسه في أمر التكليف سوى المأمورية . ثم فسّر مأموريته بعبوديته ، وإن لم تكن مطلق المأمورية عبودية ؛ وذلك لأن مأموريته ( ليست سوى عبوديته ) ؛ لأنها امتثال أمر التكليف ، ومطلق الأمر يقتضي مطلق الامتثال ( إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال ) فيقصد منه ذلك ، ( وإن لم يفعل ) فإن كان الأمر للتكليف كان الامتثال عبوديته وإلا كانت إجابة دعاء .

وذلك لأن الأمر يكون بحسب الأمر والمأمور كالتجلي الإلهي بحسب المحل ، كما أشار إليه بقوله : ( ولما كان الأمر ينزل بحكم المراتب ) ؛ لكونه من صفات الحق ، فيكون في الظهور مثل سائر صفاته ؛ ( لذلك يتصف كل من ظهر ) من صفات الحق ( من مرتبة ما ) من المراتب الحقيّة أو الخلقية ( بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة ) من الكمال والنقص والحدوث والقدم ، فكذلك الأمر يظهر في مرتبة الأمر والمأمور بحسبهما بعد أن يكون لكلّ واحدة من هاتين المرتبتين حكم عام يعم الحق والخلق .
( فمرتبة المأمور ) حقّا أو عبدا لها حكم عام هو كونه مطلوب الامتثال منه ( يظهر في كل مأمور ) بحسبه ، فإن كان عبدا ظهر بالعبودية ، وإن كان ربّا بإجابة الدعاء ، ( ومرتبة الآمر ) حقّا أو عبدا ( لها حكم ) عام هو كونه طالبا للامتثال ( يبدو في كل آمر ) بحسبه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فيقول الحقّ "وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ "[ البقرة : 43 ] فهو الآمر ، والمكلّف المأمور ، ويقول العبدرَبِّ اغْفِرْ لِي [ الأعراف : 151 ] ؛ فهو الآمر والحقّ المأمور ، فما يطلب الحقّ من العبد بأمره هو بعينه يطلبه العبد من الحقّ بأمره ، ولهذا كان كلّ دعاء مجابا ، ولا بدّ وإن تأخّر كما يتأخّر بعض المكلّفين ممّن أقيم مخاطبا بإقامة الصّلاة فلا يصلّي في وقت فيؤخّر الامتثال ويصلّي في وقت آخر إن كان متمكّنا من ذلك ؛ فلابدّ من الإجابة ولو بالقصد .
ثمّ قال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ [ المائدة : 117 ] ، ولم يقل على نفسي معهم كما قال ربّي وربّكم شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] ؛ لأنّ الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم ،فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [ المائدة : 117 ] ، أي : رفعتني إليك وحجبتهم عنّي وحجبتني عنهم كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [ المائدة : 117 ] ، في غير مادتي ، بل في موادّهم ، إذ كنت بصرهم الّذي يقتضي المراقبة ؛ فشهود الإنسان نفسه شهود الحقّ إيّاه ، وجعله بالاسم الرّقيب لأنّه جعل الشّهود له ، فأراد أن يفصّل بينه وبين ربّه حتّى يعلم أنّه هو لكونه عبدا في الواقع وأنّ الحقّ هو الحقّ لكونه ربّا له ، فجاء لنفسه بأنّه شهيد ، وفي الحقّ بأنّه رقيب ).

(فيقول الحق) :وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [ البقرة : 110 ] ، ( فهو الآمر المكلف ) اسم الفاعل سواء قاله في مستقر غيره أو في مظهر العبد ، ( والمكلف المأمور ) هو العبد ، وإن كان مظهرا لهذا القول ، ويقول العبد :رَبِّ اغْفِرْ لِي[ الأعراف : 151 ] ، ( فهو الآمر ) الداعي ( والحق المأمور ) بالإجابة ، فهذا التفصيل باعتبار المحل لا باعتبار الأمرية والمأمورية ، ولا باعتبار الأمر نفسه ( فما يطلب الحق من العبد بأمره ) من الامتثال ( هو بعينه ) ما ( يطلبه العبد من الحق بأمره ) ، وإن صار أحد الامتثالين بحسب المحل عبودية والآخر إجابة ، كما كان أحد الأمرين تكليفا والآخر دعاء .
( ولهذا ) أي : ولكون مطلوب كل أمر امتثال المأمور ( كان كل دعاء مجابا ) أي : مقصود إجابته ، ويحتمل أن يقال ؛ ولهذا أي : ولكون مطلوب العبد بالدعاء من الحق مثل مطلوب الحق بالتكليف من العبد ، كان كل دعاء من العبد الممتثل مجابا ، كما يجيب ذلك العبد أمر ربه .
( ولا بدّ ) من إجابة الحق للعبد الممتثل أوامره ، ( وإن تأخر ) زمان وقوعها ، ( كما يتأخر بعض المكلفين ممن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة ) أي : زمان امتثاله ، ( فلا يصلي في وقت ) هو من أوائل أوقات توجه الأمر ، ولكن يقصد فعله آخرا ، ( فيؤخر الامتثال ) قصدا ، ( فيصلي في وقت آخر ) ، فيصير ممتثلا بالفعل ( إن كان متمكنا من ذلك ) الامتثال في ذلك الوقت بعد ما تركه للمطلوب منه مطلقا ، ( فلابدّ من الإجابة ) في حق هذا العبد ( ولو بالقصد ) أي : بقصد فعلها في زمان آخر ، فيأتي بالمطلوب حينئذ ، وأما من لا يمتثل لأمر الحق ولا يقصد ذلك أصلا ، فليس ممن لا بدّ من إجابته ؛ فافهم .
(ثم قال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً )[ المائدة : 117 ] أخذ مقام الجمع لنفسه ومقام الفرق لهم ؛ لأنه لما أقام له الحق في مقام الفرق المقرون بالجمع غلب على كل منهم ما تقتضيه حقيقته من الجمع والتفرقة ، ( ولم يقل : كنت على نفسي معهم ) شهيدا باعتبار التفرقة في الكل مقرونة بالجمعية ، ( كما قال :رَبِّي وَرَبِّكُمْ )[ هود : 56 ] .
فأخذ التفرقة في الاسم الجامع الإلهي على مقتضى ما أقام له الحق في مقام التفرقة مقرونة بالجمع ؛ لأن هذا الاقتران كان في الكل أولا ، ثم غلب على كل ما تقتضيه حقيقته ، ثم قيد شهادته عليهم بدوامه فيهم ، فقال : شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] .

وإن كان مقتضى الجمع الغالب عليه ألا تنقطع شهادته أبدا ؛ لأن شهادته عليهم ليس باعتبار هذه الجمعية بل باعتبار كونه بينهم ، فتقيد شهادته عليهم بمدة نبوته لهم ؛ ( لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم ) ؛ لأن نبوتهم مقيدة بتلك المدة ، ولا تمكن الشهادة بعد ذلك منهم كما أشار إليه بقوله :فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي[ المائدة : 117 ] .
ولما كان المشهور في معناه الإماتة ، وهو عليه السّلام حي فسره ، بقوله : ( أي : رفعتني إليك ) ، كما قال عزّ وجل إذ قال اللّه :يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ[ آل عمران : 55 ] ، وهذا الرفع وإن قربه من علام الغيوب لا يبقي له شهادة عليهم ، أي : يحجبون عنه عند مزيد استغراقه في الحق ، كما يحجبون عنه مع غاية إشراق نور الحق عليه .

وإليه الإشارة بقوله : ( وحجبتهم عني ) ، فلم يمكنهم مراجعتي في موضع الشبهات ، (وحجبتني عنهم ) ، فلم يمكنني الاطلاع على أفعالهم القبيحة لأمنعهم عنها ، (كنت أنت الرقيب عليهم ) .
ولما كان ظاهره الحصر مع أن كل واحد مراقب لنفسه قيده بقوله : ( في غير مادتي ) ، فلم أكن رقيبا عليهم ، ولا شهيدا لا بنفسي ولا بك .
ثم قال : ( بل في موادهم ) مع أن شهود الحق للأشياء لا يتوقف على كونه ظاهرا في مادة شخص ؛ لأن المراقبة تقتضي ذلك إذ لا يكون إلا بالبصر الظاهر ، فكأنه قال : كنت أنت الرقيب عليهم في موادهم ، ( إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة ) ، وإن لم يصر بصرهم عين الحق لاختصاص ذلك بالكمّل وهم أهل القصور.
( فشهود الإنسان نفسه ) كاملا أو قاصرا ( شهود الحق إياه ) ، فإنه لما لم يكن وجوده من ذاته كان من ظهور الحق فيه فهو من جملة مظاهره ، ولكن لقصوره لا القصور يتجوز فيه بأنه هو لإشعاره بتناسي التشبيه ، ولا يتأتى في المظاهر القاصرة ، وهذا الشهود وإن كان أعم من المراقبة ؛ لتوقفها على البصر الظاهر دونه لم يستعمله في حق اللّه تعالى مع عموم شهوده باعتبار كونه في مقر غيره ، واعتبار ظهوره في الماديات ، بل ( جعله ) أي :
شهود الحق ( بالاسم الرقيب ) المقيد بظهوره في الماديات ، أي : عيسى عليه السّلام ( جعل الشهود ) له أولا ؛ ليشعر بأن كونه شهيدا عليهم لا يتقيد بكونه في مادته أو مادتهم ، بل يشاهدهم في شهود الحق إياهم ، باعتبار التفرقة التي أقام الحق فيها لعيسى عليه السّلام مع الجمعية ، فلو أتى بهذا اللفظ في حق اللّه لالتبس بالحق .

( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه ) بتميز اللفظين المستعملين فيهما ؛ لأنه يدل على أنه إنما يميز بينهما لتمييزهما في الواقع ، ( حتى يعلم أنه هو ) وإن بلغ ما بلغ عند تجلي الحق في مادته ، فإنه يتميز عنه ( بكونه عبدا ) ، وإن الحق وإن ظهر في مظهره ( هو الحق ) تميز عنه ( بكونه ربّا ) ، فلابد مما يشعر بهذا التميز وأقله تميز الألفاظ ، ( فجاء لنفسه بأنه شهيد ، وفي الحق بأنه رقيب ) ؛ ليشعر بأنه باعتبار ظهور الحق فيه ، صار شهوده عامّا بالنظر إلى سابق حاله ، والحق باعتبار ظهوره في مادته ، صار شهوده خاصّا بقدر ما تقتضيه حقيقة عيسى عليه السّلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقدّمهم في حقّ نفسه فقال :عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] ، إيثارا لهم في التّقدّم وأدبا ، وأخّرهم في جانب الحقّ عن الحقّ في قوله :الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ )[ المائدة : 117 ] ، لما يستحقّه الرّبّ من التّقدّم بالرّتبة ، ثمّ أعلم أنّ للحقّ الرّقيب الاسم الّذي جعله عيسى لنفسه وهو الشّهيد في قوله عَلَيْهِمْ شَهِيداً [ المائدة : 117 ] ، فقال :وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[ المائدة : 117 ] ، فجاء بكُلِّ [ المائدة : 117 ] للعموم ، وبشَيْءٍ [ المائدة : 117 ] لكونه أنكر النكرات وجاء بالاسم الشّهيد ، فهو الشّهيد على كلّ مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود ، فنبّه على أنّه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى عليه السّلام حين قال :عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] ، فهي شهادة الحقّ في مادّة عيسويّة كما ثبت أنّه لسانه وسمعه وبصره ) .
ثم أشار إلى مبالغة عيسى عليه السّلام في هذه العبودية بغاية التذلل ؛ فقال : ( وقدمهم ) أي :
اللفظ الدال عليهم على اللفظ الدال عليه ( في حق نفسه ، فقال :عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ )[ المائدة : 117 ] ، وإنما ذكره ؛ ليشير بأن تقدمه في كنت ودمت ؛ لضرورة اتصال الضمير ( إيثارا لهم في التقدم ) الذي أعطيه ، فتعاظم به ، وهو خلاف التواضع اللازم للعبودية ، ( وأدبا ) ؛ لئلا يتكبر على عباد اللّه ، ولو فيهم كافر ، ( وآخرهم في جانب الحق عن الحق ) وإن اعتبر ظهوره فيهم في المراقبة وهو متأخر عنهم في ( قوله :كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ )[ المائدة : 117 ] ، كما ( في قوله :وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [ المائدة : 117]
( لما يستحقه الرب من التقديم بالرتبة ) ، فلابدّ من اعتباره مع اعتبار ظهوره فيهم .
( ثم أعلم ) عيسى عليه السّلام ( أن للحق الرقيب ) أي : الذي خصه عيسى عليه السّلام بهذا الاسم المقيد بكونه عند ظهوره في المادة ، ( الاسم الذي جعله عيسى عليه السّلام لنفسه ) العام ، فهو أولى بالحق من عيسى عليه السّلام ، ( وهو ) أي : في ذلك الاسم ( الشهيد ) ، فقال :وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ المائدة : 117 ] .
فجاء للدلالة على معنى العموم الذي فيه بكل للعموم ، وبشيء لكونه أنكر النكرات ؛ لنفي توهم الاختصاص من لفظ الرقيب ؛ ولذلك لم يذكر هذا الاسم هاهنا ، بل جاء بالاسم الشهيد الدال بالتصريح على العموم مع عموم متعلقه دفعا لما توهم من الاختصاص بالكلية ، ( فهو الشهيد على كل مشهود ) من الماديات وغيرها ، ( بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود ) ، فإن كانت حقيقته مادته احتاج شهودها بوجه إلى البصر ، فيشاهد ذلك باعتبار ظهوره في الماديات ، وإلا شهده في مستقر غيره مع أنه يشاهد الكل في مستقر غيره بوجه آخر غير هذا البصر الظاهر المختص بنوع إدراك ولا يلزم حدوثه فيه ؛ لأنه أيضا بواسطة بصره الذي قوة إدراك ذلك ، لكن بواسطة هذا البصر الظاهر ، كما توقف إدراك بصره بالفعل على وجود البصر .

ولما دل هذا على أن شهود الماديات بالبصر الظاهر شهود الحق فيه ( على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى ) بشهوده ، ( حين قال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً )[ المائدة : 117]

وإن قيده بقوله :ما دُمْتُ فِيهِمْ[ المائدة : 117 ] ، مع أن شهادة الحق أبدية غير منقطعة ، ( فهي شهادة الحق إياهم في مادة عيسوية ) تنقطع بانقطاعها ، والتي لا تنقطع مع شهادته عليهم هي شهادته باعتبار استقراره في مقر غيره ، ولا تتعدى كون شهادة الحق في مادة عيسوية مع تنزه الحق عن المادة ، ( كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره ) ، وإن تنزه عن الجسمية والقوى الجسمانية ، ولكنه يجوز أن يظهر فيها ظهور الشمس التي في السماء الرابعة في المرآة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ قال كلمة عيسويّة ومحمّديّة : أمّا كونها عيسويّة فإنّها قول عيسى بإخبار اللّه تعالى عنه في كتابه ؛ وأمّا كونها محمّديّة فلموقعها من محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم بالمكان الّذي وقعت منه ، فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى مطلع الفجرإِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة : 118 ] ، « وهم » ضمير الغائب كما أنّ « هو » ضمير الغائب .
كما قال : "هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا" [ الفتح : 25 ] بضمير الغائب ، فكان الغيب سترا لهم عمّا يراد بالمشهود الحاضر .
فقال : "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " [ المائدة : 118 ] ، بضمير الغائب ، وهو عين الحجاب الّذي هم فيه عن الحقّ ، فذكّرهم اللّه قبل حضورهم حتّى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكّمت في العجين فصيّرته مثلها ،فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [ المائدة : 118 ] فأفرد الخطاب للتّوحيد الّذي كانوا عليه .
ولا ذلّة أعظم من ذلّة العبيد ، لأنّهم لا تصرّف لهم في أنفسهم فهم بحكم ما يريده بهم سيّدهم ولا شريك له فيهم فإنّه قال : عِبادُكَ [ المائدة : 118 ] ، فأفرد .
والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذلّ منهم لكونهم عبادا ؛ فذواتهم تقتضي أنّهم أذلّاء فلا تذلّهم فإنّك لا تذلّهم بأدون ممّا هم فيه من كونهم عبيدا .وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أي :  تسترهم عن إيقاع العذاب الّذي يستحقّونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم منه ،فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة : 118 ] ، أي : المنيع الحمى ، وهذا الاسم إذا أعطاه الحقّ لمن أعطاه من عباده يسمّى الحقّ بالمعزّ ، والمعطى له هذا الاسم بالعزيز ، فيكون منيع الحمى عمّا يريد به المنتقم والمعذّب من الانتقام والعذاب ).

( ثم قال ) عيسى عليه السّلام في منتهى أمره ( كلمة عيسوية ومحمدية ) ، وهو قوله :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة : 118 ] ، ( أما كونها عيسوية ، فإنها قول عيسى عليه السّلام ) ابتداء بإخبار اللّه ( عنه في كتابه ) ، وما أخبر عنه إلا لكونه مبتديا لها ، وإن كان غاية كمالها لغيره ، كما أشار إليه بقوله ، ( وأما كونها محمدية ؛ فلوقوعها من محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ) ( بالمكان ) العظيم ( الذي وقعت فيه ، فقام بها ) أي : بتلاوتها وتدبرها ( ليلة كاملة يرددها ) .
لما انكشف له من فوائدها في مراتب ترديدها ( لم يعدل إلى غيرها ) لاستيفاء تلك الفوائد ( حتى طلع الفجر ) ، فحصل له الكشف التام من فوائدها ، وهو يقول :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ المائدة : 118 ] .
ولما كان المقصود منها التعريض للعفو عنهم مع تفويض الأمر إليه تعالى ، أخذ في بيان عذرهم مع بيان الحكمة في تعذيبهم ، فقال : وهم ، أي : لفظة هم في قوله :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ ،وقوله :فَإِنَّهُمْ [ المائدة : 118 ] ، وقوله :وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [ المائدة : 118 ] ، ( لهم ضمير الغائب ) يدل على غيبتهم عن الحق .
( كما أن هو ضمير الغائب ) يدل على غيبة الحق عنهم ، فإنهم إنما غابوا عنه ؛ لغيبته عنهم ، فاقتصر نظرهم على الأمور الظاهرة ، فلما ظهر لبعضهم إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص من عيسى ، نسبوا الألوهية إليه ، ( كما قال ) في حق غيرهم :هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا[ الفتح : 25 ] ، أي : لغفلتهم عن الحق الظاهر فيهم وفي غيرهم ستروه ، ( فكان الغيب ) أي : غيب الحق عنهم عند ظهوره فيهم لغفلتهم عنه ، ( سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر ) من جعله سببا لمعرفته بما ظهر من إرادتك بتغليب بعض تجليات الأسماء على بعض ؛ ولذلك فسره بقوله ، ( أي : منيع الحمى ) "" يعني أن ذاتك بحسب الاسم العزيز والغفور ويقتضي مظهرا يظهر بها كمال الظهور ولا أكمل مظهرا ممن جعل لك شريكا .""
بحيث لا يكون لبعض أسمائك غلبة على البعض بدون إرادتك ، حتى أنه إذا تجليت بهذا الاسم على بعض عبيدك ، صار عزيزا منيع الحمى من تصرف بعض أسمائك فيه ، وإليه الإشارة بقوله ، ( وهذا الاسم ) العزيز ( إذا أعطاه الحق ) فيه إشارة إلى أنه لا مدخل للكشف في حصوله للعبد ، ولا يكون له سبب من العالم إذ أصلهم الذلة والعجز ، فلا يحصل منهم ضد ذلك ( لمن أعطاه ) فيه إشارة إلى أنه ليس يعطي الآحاد والأفراد منهم إلا على خلاف مقتضى طبعهم من الذلة ، ( يسمى الحق بالمعز ) أي : معطي الاسم العزيز ؛ ليتميز عن العبد المسمى بالعزيز ؛ وذلك لأنه يسمى العبد ( المعطى له هذا الاسم بالعزيز ) ، وإن لم يقع مثل هذا التميز في سائر الأسماء التي تشارك فيها الحق والعبد ؛ وذلك لمزيد اختصاص هذا الاسم بالحق ، فيكون هذا العبد من أخص العباد ، ( فيكون ) ذلك العبد ( منيع الحمى مما يريد به المنتقم والمعذب ) من أسماء اللّه تعالى ( من الانتقام والعذاب ) فضلا عن تصرف العالم فيه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله : إنّكأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ[ المائدة : 116 ] ، وقوله :كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ[ المائدة : 117 ] فجاء أيضا :فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ المائدة : 118 ] ، فكان سؤالا من النّبيّ وإلحاحا منه على ربّه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة فلو سمع الإجابة في أوّل سؤال ما كرّر ، فكان الحقّ يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصّلا فيقول له في كلّ عرض عرض وعين عينإِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ المائدة : 118 ] ، فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحقّ وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم ، فما عرض عليه إلّا ما استحقّوا به ما تعطيه هذه الآية من التّسليم للّه والتّعريض لعفوه ).
وعلى هذا ( جاء بالفصل والعماد أيضا ) مع أن المقصود ليس بيان الحصر ( تأكيدا للبيان ) أي : لسان كونه عزيزا بالذات وغيره ، إنما صار عزيزا بجعله إياه عزيزا على خلاف طبعه ، ( ولتكون الآية على مساق واحد ) ، ففيه التناسب المقصود لهم ، فإنه لما جاء به ( في قوله :إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[ المائدة : 109 ] .
وقوله : كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ[ المائدة : 117 ] ، ( فجاء أيضا :فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[ المائدة : 118 ] ؛ إلحاقا للأقل بالأكثر ، وإن اختلفا في إفادة الحصر وعدمها رعاية للتناسب ، ولما كانت هذه الآية تتضمن هذه الأسرار في سؤال العفو على نهج التعريض مع التفويض ، ( فكان ) مفهومها بجميع تلك الوجوه ( سؤالا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، والذي كان من عيسى وجه من وجوهها ؛ ولذلك كان إلحاحا منه على ربه الجامع للتصرفات بخلاف رب عيسى ، فإنه ليس له جمعية رب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم

( في المسألة ) أي : الدعاء ( ليلته الكاملة ) ؛ لتفصيل السؤال بما فيه ( إلى طلوع الفجر ) ، وهو إشارة إلى إشراق نور التفصيل ( يرددها طلبا للإجابة ) المفصلة التي كانت لم تشرع له في السؤال الإجمالي .
( فلو سمع الإجابة ) الإجمالية الشاملة التفاصيل في ( أول سؤال ) إجمالي ( ما كرر ) لتضمنه التفصيل ، ولكنه عزّ وجل أخر في شأنه الإجابة ؛ لتفصيل السؤال ، ( فكان الحق يعرض عليه فصول ) أي : وجوه ( ما استوجبوا به ) ( العذاب عرضا مفصلا ، فيقول له ) النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :
( في كل عرض عرض ) من أنواع المعاصي ( وعين عين ) من أفراد العصاة : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة : 118 ] من غير أن يزيد عليه باعتبار تلك التفاصيل ، إذ إجمالها كاف في سؤال العفو عن أهل الإسلام في معاصيهم ، إذ ليس فيها ما يوجب الخلود في العذاب ، بخلاف الكفر فهو عليه السّلام ما سأل في حقهم ، وإنما كان ذلك في سؤال عيسى عليه السّلام ولم تتوقع الإجابة .
فلم تكرر ( فلو رأى ) صلّى اللّه عليه وسلّم ( في ذلك العرض ) الإلهي جنابة في رعاية الحكمة في إهلاك أعدائه بالكلية ؛ لدعا عليهم لا لهم ، ولكنه ما دعا عليهم بل لهم .
( فما عرض ) الحق ( عليه ) إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية ( من التسليم للّه ) من العذاب ، وتركه لشمول الحكمة إياها ، ( والتعريض لعفوه ) الراجح في موضع المعارضة ، فسبب تأخير الإجابة إلى الفجر ؛ ليكون سؤاله عليه السّلام مفصلا في حق عصاة أمته ؛ ليزيل بكل سؤال ظلمة خاصة من ظلمات معاصيهم ، ويفيد كل واحد منهم نورا خاصّا يليق به ؛ ولتأخير الإجابة في حق الكمّل سبب آخر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد ورد أنّ الحقّ إذا أحبّ صوت عبده في دعائه إيّاه أخّر الإجابة عنه حتى يتكرّر ذلك حبّا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء بالاسم الحكيم ؛ والحكيم هو الّذي يضع الأشياء في مواضعها ، ولا يعدل بها عمّا تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها ، فالحكيم هو العليم بالتّرتيب ؛ فكان صلّى اللّه عليه وسلّم بترداده هذه الآية على علم عظيم من اللّه تعالى ، فمن تلا هذه الآية فهكذا يتلو ، وإلّا فالسّكوت أولى به ، وإذا وفّق اللّه عبدا إلى النّطق بأمر ما فما وفّقه إليه إلّا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته فلا يستبطئ أحد ما يتضمّنه ما وفّق له ، وليثابر مثابرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على هذه الآية في جميع أحواله ، حتّى يسمع بأذنه أو بسمعه ، كيف شئت أو كيف أسمعك اللّه الإجابة ، فإن جازاك بسؤال اللّسان أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ) .
وهو أنه ( قد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده ) وإن لم يكن له حسن ؛ بل لكونه ( في دعائه إياه ) ، وهو مخ العبادة ( أخر الإجابة عنه حتى يتكرر ذلك ) الدعاء منه ( حبّا فيه ) أي : في دعائه ؛ ليزداد به عبده عبادة وتوبة إليه ، ( لا إعراضا عنه ) أي : عن دعائه ؛ لكونه من كامل ؛ فلا ينبغي أن يتوهم فيه ذلك ، فإن الحكيم لا يفعل بدعاء الكامل الإعراض .

( ولذلك جاء بالاسم الحكيم ) في آخر هذه الآية ، وكيف يفعل الحكيم الإعراض عن دعاء الكامل ، ( والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ) ، وليس دعاء الكامل موضعا للإعراض ، وهو إما يعذب أو يعفو بمقتضى الحكمة ، ( إذ لا يعدل بها ) أي : بالأشياء ( عما تقتضيه ) بلا واسطة ، ( وتطلبه ) بالواسطة ( حقائقها ) لا باعتبار كليتها فقط ، بل باعتبار اتصافها (بصفاتها ) المفيدة لها الشخصية أيضا ، فتفعل ما ترتب على كل صفة منها .
( فالحكيم العليم بالترتيب ) أي : بما ترتب على كل صفة من الأفعال العامل بمقتضى ذلك ، فلما كان في السؤال بهذه الآية ، وتأخير الإجابة لهذه الأسرار ، ( فكان صلّى اللّه عليه وسلّم يردد هذه الآية على علم عظيم من اللّه ) لا من عيسى عليه السّلام ، وإن كان قد بدأ بها ، ( فمن تلا فهكذا يتلو ) متأملا في أسرارها ملحّا بها على ربه ، ( وإلا فالسكوت أولى به ) ؛ لئلا يدخل تحت قوله تعالى :وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ[ يوسف : 15 ] ، سيما من يتأتى منه التأمل والعمل فترك تكاسلا .

ثم أشار إلى أنه لا ينبغي ترك الدعاء عند استبطاء الإجابة ؛ فقال : ( وإذا وفق اللّه عبدا إلى نطق ) أي : دعاء صادر عن قلبه الذي هو النفس الناطقة ( بأمر ما ) من الأمور العظام أو الصغار ، ( فما وفقه إليه إلا وقد أراد إجابته ) بنحو لبيك عبدي ، ( وقضاء حاجته ) التي طلبها بالدعاء في وقت ما ؛ لأن الدعاء مخ العبادة ، وكل عبادة لها جزاء ، وجزاء الدعاء الإجابة وقضاء الحاجة ، ( فلا يستبطئ أحد ما يتضمنه ما وفق له ) ، إذ أمر بتضمنه دعاء وفق له من عباد اللّه بتكميل نفسه الناطقة ، فإنه لا بدّ من وقوعه ، وإن تأخر ولا يتوهم في ذلك نقصا ، بل ( ليثابر ) أي : ليواظب ( مثابرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) مع جلالة شأنه ، فإنه ثابر ليلة كاملة على هذه الآية ؛ ( ليثابر ) أحدنا على الدعاء ( في جميع أحواله ) سواء كان قلبه صافيا أو غير صاف ، فإنه ربما يحصل له الصفاء بالمثابرة على الدعاء ( حتى يسمع ) الإجابة ( بأذنه ) الظاهرة إن حصل له كشف صوري ( أو بسمعه ) القلبي إن حصل له كشف معنوي ( كيف شئت ) أي : بقي لك اختيار في هذه التصفية الحاصلة عن المثابرة في الدعاء .
( أو كيف أسمعك اللّه الإجابة ) إن لم يبق لك اختيار ؛ لاستغراقك في الدعاء أو المدعو ، وهذا التفصيل فيما بقي فيه الاختيار ظاهر ؛ لأنه إجابة لمراد هذا العبد في دعائه ، وأما فيما لم يبق فيه الاختيار ( فإن جازاك بسؤال اللسان ) " أي اللسان الذي هو من مقولة الحرف والصوت الصادر من اللسان الجسماني . [ جامي ص 359 ]"

لجريان الألفاظ عليه مع  استغراق القلب بالمدعو أسمعك بأذنك الظاهرة لمناسبتها اللسان في أنها ظاهرة مثله ، وإن جازاك بالمعنى القائم بالقلب عند سلب الألفاظ عن اللسان ( أسمعك بسمعك ) القلبي ، ولما كانت الحكمة النبوية متضمنة للرحمة العامة ؛لانتظام أمر معاش الكل ومعادهم بها على أتم الوجوه أردفها بالحكمة الرحمانية ؛ فقال:
عن فص الحكمة الرحمانية في الكلمة السليمانية
  .
واتساب

No comments:

Post a Comment