Tuesday, August 6, 2019

14 - فص حكمة قَدَرِيَّة في كلمة عُزَيْرية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

14 - فص حكمة قَدَرِيَّة في كلمة عُزَيْرية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

14 - فص حكمة قَدَرِيَّة في كلمة عُزَيْرية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

اعلم أن القضاء حكم اللَّه‏ في الأشياء، وحكم اللَّه‏ في الأشياء على حد علمه به وفيها.
وعلم اللَّه في الأشياء على ما أعطته المعلومات مما هي عليه في نفسها.
والقدر توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد.
فما حَكَمَ القضاء على الأشياء إلا بها. وهذا هو عين سر القدر 
«لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ‏ وأَلْقَى‏ السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ». 
«فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» . 
فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكُمُ فيها بما تقتضيه ذاتها. 
فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك. 
فكل حاكم محكوم عليه بما حَكَمَ به وفيه: كان الحاكم‏ من كان. 
فتحقق هذه المسألة فإن القدر ما جُهِلَ إلا لشدة ظهوره، فلم يُعرَف وكثر فيه الطلب والإلحاح. واعلم أن الرسل صلوات اللَّه عليهم- من حيث هم رسل لا من حيث هم أولياء وعارفون- على مراتب ما هي عليه أممهم. 
فما عندهم من العلم الذي أُرسِلُوا به إلا قدر ما تحتاج إليه أُمة ذلك الرسول: لا زائد ولا ناقص.
والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض.
فتتفاضل الرسل في علم الإرسال بتفاضل أممها، و هو قوله تعالى‏ 
«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ» كما هم أيضاً فيما يرجع إلى ذواتهم عليهم السلام من العلوم والأحكام متفاضلون بحسب استعداداتهم، وهو قوله‏ «وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ». 
وقال تعالى في حق الخلق‏ 
«وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ». 
والرزق منه ما هو روحاني كالعلوم، وحسيٌّ كالأغذية، وما ينزله الحق إلا بقَدَر معلوم، وهو الاستحقاق الذي يطلبه الخلق: فإن اللَّه‏
 «أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ» فينزِّل بقدر ما يشاء، وما يشاء إلا ما عَلِمَ فحكم به.
 وما علم- كما قلناه‏ - إلا بما أعطاه المعلوم‏ .
 فالتوقيت في الأصل للمعلوم، والقضاء والعلم والإرادة والمشيئة تبع للقدر . فسرُّ القدر من أجلِّ العلوم، وما يفهِّمه اللَّه تعالى إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة.
فالعلم به يعطي الراحة الكلية للعالم‏ به، ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضاً .
 فهو يعطي النقيضين.
وبه وصف الحق نفسه بالغضب والرضا ، وبه تقابلت الأسماء الإلهية . فحقيقته تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيد، لا يمكن أن يكون شي‏ء أتمَّ منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدي وغير المتعدي.
ولما كانت الأنبياء صلوات اللَّه عليهم لا تأخذ علومهأ لا من الوحي الخاص الإلهي، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري، عن إدراك الأمور عَلَى ما هي عليه.
والإخبار أيضاً يقصر عن إدراك مألا ينال إلا بالذوق.
فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي الإلهي وما يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية فتدرك الأمور قديمه وحديثها، وعدمه ووجودها، ومُحَاله وواجبه وجائزها على ما هي عليه في حقائقه وأعيانها.
 فلما كان مطلب العُزَيْر على الطريقة الخاصة، لذلك وقع العَتْب عليه كما ورد في الخبر.
فلو طلب الكشف الذي ذكرناه ربما كان‏ لا يقع عليه عتب‏ في ذلك.
 والدليل عَلَى سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه‏ 
«أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها». 
وأما عندنا فصورته عليه السلام في قوله هذا كصورة إبراهيم عليه السلام في‏ قوله‏ «رَبِ‏ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏». 
ويقتضي ذلك الجوابَ بالفعل الذي أظهره الحق فيه في قوله تعالى‏ «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» فقال له‏ «وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق، فأراه الكيفية.
فسأل عن القَدَر الذي لا يدرك إلا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها، فما أُعْطِيَ ذَلك فإن ذلك من خصائص الاطلاع الإلهي، فمن المحال أن يعلمه إلا هو فإنها المفاتح‏ الأوَل، أعني مفاتح‏ الغيب التي لا يعلمهألا هو.
وقد يطلع اللَّه من شاء من عباده علَى بعض الأمور من ذلك.
واعلم أنها لا تسمى مفاتح‏ إلا في حال الفتح، وحال الفتح هو حال تعلق التكوين بالأشياء، وقل إن شئت حال تعلق القدرة بالمقدور ولا ذوق لغير اللَّه‏ في ذلك.
فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف، إذ لا قدرة ولا فعل إلا للَّه‏ خاصة، إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد.
فلما رأينا عتب الحق له عليه السلام في سؤاله في القدر علمنا أنه طلب هذا الاطلاع، فطلب أن يكون له قدرة تتعلق بالمقدور، و ما يقتضي ذلك إلا مَنْ له الوجود المطلق.
فطلب مألا يمكن وجوده في الخلق ذوقاً، فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق.
وأما ما رويناه مما أوحى اللَّه‏ به إليه لئن لم تنته لأمحون‏ اسمك من ديوان النبوة، أي أرفع عنك طريق الخَبرِ وأعطيك الأمور على التجلي، و التجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي، فتعْلَم أنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك فتنظر في هذا الأمر الذي طلبْتَ، فإذا لم تره تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه وأن ذلك من خصائص الذات الإلهية.
و قد علمت أن اللَّه أعطى كل شي‏ء خلقه: ولم يعطك هذا الاستعداد الخاص، فما هو خلْقَك، ولو كان خلَقَك لأعطاكه الحق الذي أخبر أنه‏ «أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ». 
فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك، لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي. وهذه عناية من اللَّه بالعزيْر عليه السلام عَلِمَ ذلك من علمه وجهله من جهله.
واعلم أن الولاية هي الفلك‏ المحيط العام ، ولهذا لم تنقطع، ولها الإنباء العام.
وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة .
 وفي محمد صلى اللَّه عليه وسلم قد انقطعت، فلا نبي بعده: يعني مشرِّع ومشرَّعاً له، ولا رسول وهو المشرع.
وهذا الحديث قَصَمَ ظهور أولياء اللَّه لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة.
فلا ينطلق عليه اسمها الخاص بها فإن العبد يريد ألَّا يشارك سيده- وهو اللَّه‏ - في اسم، واللَّه‏ لم يتسمَ‏ بنبي ولا رسول، وتسمى بالولي واتصف بهذا الاسم فقال‏ «اللَّهُ‏ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا»: وقال‏ «هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ».
وهذا الاسم باقٍ جار على عباد اللَّه دني وآخرة.
فلم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة: إلا أن اللَّه لَطَفَ‏ بعباده، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام، وأبقى لهم الوراثة في التشريع فقال «العلماء ورثة الأنبياء». وما ثَمَّ ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرَّعوه.
 فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع ف من حيث هو ولي‏ وعارف ، ولهذا، مقامه من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول وذو تشريع و شرع.
فإذا سمعت أحداً من أهل اللَّه يقول وينْقَل إليك عنه أنه قال الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه. ويقول إن الولي فوق النبي و الرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد: وهو أن الرسول عليه السلام- من حيث هو ولي- أتم من حيث هو نبي رسول‏ ، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه‏ ، إذ لو أدركه لم يكن تابعاً له فافهم.
فمرجع الرسول والنبي المشرع إلى الولاية والعلم.
ألا ترى اللَّه تعالى قد أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره فقال له آمِراً 
«وَ قُلْ‏ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً».
وذلك أنك تعلم أن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة ونهي عن أفعال مخصوصة ومحلها هذه الدار فهي منقطعة، والولاية ليست كذلك إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرسالة من حيث هي.
وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم.
 والولي اسم باق للَّه تعالى، فهو لعبيده تخلق وتحقق وتعلقاً .
فقوله للعزير لئن لم تنته عن السؤال عن ماهية القَدَر لأمحون‏ اسمك من ديوان النبوة فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ويزول عنك اسم النبي و الرسول، وتبقى له ولايته.
إلا أنه لما دلت قرينة الحال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار، إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في‏ الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب.
فيعلم أنه أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع عنده ولا رسالة.
 ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضاً مرتبة النبوة، يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد.
فإن سؤاله عليه السلام مقبول إذ النبي هو الولي الخاص.
ويَعْرِف بقرينة الحال أن النبي من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يُقْدِمَ على ما يَعْلَم أن اللَّه يكرهه منه، ويقدم على ما يعلم أن‏ حصوله محال.
فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده‏ وتقررت عنده، أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله 
«لأمحون‏ اسمك من ديوان النبوة» مخرج الوعْد، وصار خبراً يدل على‏ علو رتبةٍ باقية، وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست بمحلٍ لِشَرْع‏ يكون عليه أحد من خلق اللَّه في جنة ولا نار بعد دخول الناس فيهما.
 وإنما قيدناه بالدخول في الدارين- الجنة والنار- لما شرع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين ، فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة و الثواب العملي في أصحاب الجنة.
فإذا حُشِروُا في صعيد واحد بمعزل عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم وتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث في ذلك اليوم فيقول لهم أنا رسول الحق إليكم، فيقع عندهم التصديق به ويقع التكذيب عند بعضهم.
ويقول لهم اقتحموا هذه النار بأنفسكم، فمن أطاعني نج ودخل الجنة، ومن عصاني و خالف أمري هلك وكان‏ من أهل النار. فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثواب العملي ووجد تلك النار برد وسلاماً.
ومن عصاه استحق العقوبة فدخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من اللَّه في عباده.
 وكذلك قوله تعالى‏ 
«يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» أي أمر عظيم من أمور الآخرة، «وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ» وهذا تكليف وتشريع.
فمنهم من يستطيع ومنهم من لا يستطيع، وهم الذين قال اللَّه‏ فيهم‏ 
«وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» كما لم يستطع في الدنيا امتثالَ أمر اللَّه‏ بعضُ العباد كأبي جهل وغيره.
 فهذا قدر ما يبقى‏ من الشرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار، فلهذا قيدناه. والحمد للَّه‏ .
.

التسميات:
واتساب

No comments:

Post a Comment