Sunday, April 19, 2020

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية . شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية . شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية . شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
وفي بعض نسخ الشيخ : ( فص حكمة كلية ) . إنما كانت حكمته ( فردية ) لانفراده بمقام الجمعية الإلهية الذي ما فوقه إلا مرتبة الذات الأحدية ، لأنه مظهر الاسم ( الله ) ، وهو الاسم الأعظم الجامع للأسماء والنعوت كلها .
ويؤيده تسمية الشيخ لهذه الحكمة بالحكمة ( الكلية ) ، لأنه جامع لجميع الكليات والجزئيات .
لا كمال للأسماء إلا وذلك تحت كماله ولا مظهر إلا وهو ظاهر بكلمته .
وأيضا ، أول ما حصل به الفردية إنما هو بعينه الثابتة ، لأن أول ما فاض بالفيض الأقدس من الأعيان هو عينه الثابتة ، وأول ما وجد بالفيض المقدس في الخارج من الأكوان روحه المقدس .
كما قال : ( أول ما خلق الله نوري ) .

فحصل بالذات الأحدية والمرتبة الإلهية وعينه الثابتة الفردية الأولى ولذلك قال رضي الله عنه :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ، ولهذا بدئ به الأمر وختم : فكان نبيا وآدم بين الماء والطين . ثم ، كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين . ) وإنما كان أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ، لأن الأنبياء ، صلوات الله عليهم أجمعين ، أكمل هذا النوع ، وكل منهم مظهر لاسم كلي ، وجميع الكليات داخل تحت الاسم الإلهي الذي هو مظهره ، فهو أكمل أفراد هذا النوع .

ولكونه أكمل الأفراد ، بدئ به أمر الوجود بإيجاد روحه أولا ، وختم به أمر الرسالة آخرا بل هو الذي ظهر بالصورة الآدمية في المبدئية ، وهو الذي يظهر بالصورة الخاتمية للنوع . ويفهم هذا السر من يفهم سر الختمية فلنكتف بالتعريض عن التصريح . والله هو الولي الحميد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأول الأفراد الثلاثة ، وما زاد على هذه الأولية ) أي ، على هذه الفردية الأولية التي هي الثلاثة ( من الأفراد فإنه عنها . ) وهذه الثلاثة المشار إليها في الوجود هي الذات الأحدية ، والمرتبة الإلهية ، والحقيقة الروحانية المحمدية المسماة ب‍ ( العقل الأول ) .
وما زاد عليها هو صادر منها . كما هو مقرر أيضا عند أصحاب النظر أن أول ما وجد هو العقل الأول .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فكان ، عليه السلام ، أدل دليل على ربه ، فإنه أوتى جوامع الكلم التي هي مسميات أسماء "آدم " ) أي ، وإذا كان الروح المحمدي ، صلى الله عليه وسلم ، أكمل هذا النوع ، كان أدل دليل على ربه ، لأن الرب لا يظهر إلا بمربوبه ومظهره ، وكمالات الذات بأجمعها إنما يظهر بوجوده ، لأنه أوتى جوامع الكلم التي هي أمهات الحقائق الإلهية والكونية الجامعة لجزئياتها . وهي المراد بمسميات أسماء آدم ، فهو أدل دليل على الاسم الأعظم الإلهي ( فأشبه الدليل في تثليثه . )
أي ، صار مشابها للدليل في كونه مشتملا على التثليث . وهو الأصغر ، والأكبر ، والحد الأوسط . (والدليل دليل لنفسه ) اللام  للعهد .
أي ، هذا الدليل الذي هو الروح المحمدي هو دليل على نفسه في الحقيقة ، ليس بينه وبين ربه امتياز إلا بالاعتبار والتعين ، فلا غير ليكون الدليل دليلا له .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كانت حقيقته تعطى الفردية الأولى بما هو مثلث النشأة ، لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الوجود : "حبب إلى من دنياكم ثلاث " بما فيه من التثليث . )
أي ، لما كانت حقيقته حاصلة من التثليث المنبه عليه ، قال : ( حبب إلى من دنياكم ثلاث ) . وجعل المحبة التي هي أصل الوجود ظاهرا فيه ( ثم ذكر النساء ، والطيب ، و " جعلت قرة عينه في الصلاة " ) أي ، قدم ذكر النساء والطيب ، ثم قال آخرا : " قرة عيني في الصلاة " .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فابتدأ بذكر النساء وأخر الصلاة ، وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها . ) فيحن إليها حنين الكل إليه جزئه .

ولما ذكر أنه ، عليه السلام ، أدل دليل على ربه ، وقال : ( والدليل دليل لنفسه ) وأوقع على سبيل الاعتراض قوله : ( ولما كانت حقيقته تعطى الفردية ) ،
رجع إلى الكلام فقال : ( ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه ، فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه ). لذلك قال عليه السلام : ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) وهو ظاهر .
فلا يتوهم أنه من تتميم دليل تقديم النساء وتأخير الصلاة ، إذ لا رابطة بينهما . ولو قال ومحبة الإنسان لنفسه مقدمة على محبته لغيره ، لكان كذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول ، فإنه سائغ فيه . وإن شئت قلت بثبوت المعرفة . ) أي ، فإن شئت قلت إن حقيقة النفس لا يمكن معرفتها ، للعجز عن الوصول إلى معرفة كنهها .
فإنه صحيح ، لأن حقيقة النفس عائدة إلى حقيقة الذات الإلهية ، ولا إمكان أن يعرفها أحد سواها . وإن شئت قلت بأن معرفة النفس بحسب كمالاتها وصفاتها ممكنة ، بل حاصلة للعارفين ، فمن يعرفها من حيث كمالاتها ، يعرف ربها من حيث الأسماء والصفات . فإنه أيضا صحيح .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالأول أن تعرف أن نفسك لا تعرفها ، فلا تعرف ربك . والثاني أن تعرفها ، فتعرف ربك . ) أي ، فعلى الأول أن تعرف أن نفسك لا تعرف حقيقة نفسها ، فلا تعرف حقيقة ربك . وعلى الثاني أن تعرف نفسك بصفاتها وكمالاتها ، فتعرف ربك .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أوضح دليل على ربه ، فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه . فافهم . ) أي ، لما كان كل جزء من العالم دليلا على أصله والاسم الذي هو ربه ، كان محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أيضا دليلا واضحا على ربه الذي هو رب الأرباب كلها . وهو الله سبحانه وتعالى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما حبب إليه النساء فحن إليهن ، لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه ، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله - في هذه النشأة الإنسانية العنصرية - : "ونفخت فيه من روحي".)
واعلم ، أن المرأة باعتبار الحقيقة عين الرجل ، وباعتبار التعين يتميز كل منهما عن الآخر . ولما كانت المرأة ظاهرة من الرجل في الأصل كانت كالجزء منه انفصل وظهر بصورة الأنوثة ، فحنينه ، صلى الله عليه وسلم ، إليهن من باب حنين الكل إلى جزئه فأبان النبي صلى الله عليه
وسلم ، وأظهر بذلك القول عن الأمر في نفسه ، وكذلك الأمر في الجانب الإلهي .

فإن قوله تعالى : "ونفخت فيه من روحي" . يدل على أن نسبة آدم عليه السلام إلى ربه بعينها نسبة الجزء إلى كله والفرع إلى أصله ، وكل كل يحن إلى جزئه ، وكل أصل يحن إلى فرعه ، فحصل الارتباط بين الطرفين ، فصار كل منهما محبا من وجه ، ومحبوبا من آخر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، وصف ) الحق ( نفسه بشدة الشوق إلى لقائه ) أي ، إلى لقاء من هو مشتاق إليه .
ولما كان المحب المشتاق عين المحبوب في الحقيقة ، وإن كان غيره بالتعين، قال : (إلى لقائه)

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال للمشتاقين : ) أي ، خاطب لأجل المشتاقين ( "يا داود ، إني أشد شوقا إليهم " . يعنى للمشتاقين إليه . وهو لقاء خاص . ) أي ، لقاء الحق لنفسه في صورة المحب المشتاق لقاء خاص غير لقائه لنفسه في صورة الإطلاق الكلى والغيب الأصلي بالشهود الأزلي . ولهذا اللقاء خصوصية لا تحصل بدون هذا المجلى المعين . كما مر في أول الكتاب .
لذلك كان أشد شوقا إليهم ، لأن ما لا يحصل إلا بالمرآة المحدثة لا يكون أزليا ، فيشتاق إلى المرآة ليرى صورة نفسه ويبتهج بنفسه ابتهاجا كليا .
وشوق كل مشتاق لا يكون إلا بحسب علمه وإدراكه للمعاني الظاهرة في محبوبه .
والحق تعالى منبع العلم الذاتي والصفاتي ، ومن حضرة علمه نصيب كل عالم من العلم ، فعلمه بحقيقة المحبوب وكمالاته أتم ، فشوقه ومحبته إياهم أعظم وأقوى من محبة كل مشتاق إليه .
قوله رضي الله عنه  : (فإنه قال في حديث الدجال: "إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت ".)
تعليل لقوله : ( وهو لقاء خاص . ) فإن قوله ، عليه السلام : ( إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت ) . يدل على أن الملاقاة بين العبد وبين ربه مترتبة على موت العبد وما يكون مترتبا على الأمر الخاص يكون خاصا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا بد من الشوق لمن هذه صفته . ) أي ، إذا كان اللقاء الخاص موقوفا على الموت ، فلا بد من أن يشتاق الحق لمن لا يرى ربه ، حتى يموت فيراه .
أي ، إذا كان اللقاء الخاص موقوفا إلى الموت ، فلا بد أن يكون الشوق حاصلا لمن يكون هذه الحال صفته .

ف‍ ( من ) عبارة عن الحق سبحانه . أي ، لا بد من أن يكون الحق مشتاقا إلى مالا يمكن أن يراه العبد إلا به وهو الموت .
وتحقيقه : أن الهوية الإلهية الظاهرة في صورة العبد هي التي تشتاق إلى الموت لتصل إلى مقام جمعه وتخلص عن مضائق الإمكان وعوارض الحدثان ، وذلك لا يحصل إلا بالموت ، لأن الملاقاة بين العبد وبين ربه موقوف على الموت ، والحق سبحانه يريد هذا النوع من الملاقاة ، فيشتاق إليه .

ويجوز أن يكون الاشتياق من جهة العبد . أي ، لا بد لمن لا يرى ربه إلا عند الموت أن تشتاق إليه .
لكن قوله آخرا: ( فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت ) يؤيد ما ذكرنا أولا ، لأن الضمير في قوله : "فهو يشتاق " للحق ، إذا العبد يكره الموت ، فلا يشتاق إليه ويكره تحققه. والله أعلم .

واعلم أن هذا الخطاب أي قوله : ( أحدكم ) للمؤمنين الموحدين ، لا للكافرين المحجوبين . لأن المراد بالموت إما الموت الإرادي ، أو الطبيعي .
والأول الحاصل للعارفين ، موجب للقاء الحق بحسب تجلياته الأسمائية أو الصفاتية أو
الذاتية ، على قدر قوة استعدادهم وسيرهم في السلوك .
والعابدون والزاهدون والصلحاء من عباد الله الذين لا قوة لاستعداداتهم على قطع المنازل والمقامات ، فلا يحصل لهم اللقاء حتى يحصل لهم الموت الطبيعي وينكشف لهم النعيم ، كما
دل عليه حديث ( التحول ) .
وأما المحجوبون الذين طبع الله على قلوبهم وران عليها الهيئات المظلمة والأخلاق المغيمة المكتسبة ، فلا ينظر الحق إليهم ولا يكلمهم يوم القيامة ولا يشتاق إليهم .

كما قال رضي الله عنه : " من أحب لقاء الله ، أحب الله لقائه ، ومن كره لقاء الله ، كره الله لقائه ". " ومن كان في هذا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ".

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فشوق الحق لهؤلاء المقربين مع كونه يراهم ، فيحب أن يروه ) أي ، شوق الحق المحب ثابت في نفس الأمر لهؤلاء المقربين ، مع كون الحق يراهم بالشهود الأزلي ، ويجب أن يروه في صور تجلياته ومظاهر أسمائه وصفاته .
ف‍ ( الفاء ) في قوله : ( فيحب ) عاطفة ، والمعطوف عليه هو قوله : " يراهم " .
( ويأبى المقام ) الدنيوي ( ذلك . ) لأن المقام الدنياوي مقام حجاب فمن لا يخرج عنه ، إما بالموت الإرادي وإما بالموت الطبيعي ، لا يرتفع عنه الحجاب ، فلا يرى ربه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأشبه قوله تعالى : "حتى نعلم" مع كونه عالما . ) أي ، فصار هذا القول شبيها بقوله تعالى : ( حتى نعلم ) لأنه كان يرى أعيان هؤلاء المقربين في الغيب قبل ظهورهم بالوجود العيني وتلك الرؤية لا تتغير أبدا ، ومع ذلك وصف نفسه بالشوق ، هو يقتضى فقدان صورة المحبوب ، فهذا الشوق له لا يكون بحسب مقام الجمع ، بل بحسب مقام التفصيل .
كما مر في قوله تعالى : ( حتى نعلم ) من أن العلم بالمعلومات حاصل له أزلا وأبدا ، فقوله : ( حتى نعلم ) من مقام الاختبار وتجليات الاسم ( الخبير ) .
وهو في صور المظاهر لا غيره  

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت ) أي ، فالحق يشتاق في صور مظاهره لحصول هذه الصفة ، وهي الرؤية التي لا تحصل إلا عند الموت بارتفاع الحجاب وشهود الحق في تجلياته . وذلك الذي لا يحصل إلا بالموت .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيبل بها ) أي ، بتلك الصفة . ( شوقهم إليه . ) أي ، يسكن بماء الوصال وارتفاع الحجب نار شوقهم إليه ( كما قال تعالى في حديث " التردد " وهو من هذا الباب ) أي ، من باب الشوق إلى لقائهم (ما ترددت في شئ أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مسائته ) لأن المحب يكره ما يكرهه محبوبه ( ولا بد له من لقائي فبشره ) أي ، بشر المحبوب باللقاء ( وما قال له ولا بد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان لا يلقى ) المؤمن ( الحق إلا بعد الموت) كما قال عليه السلام : ( إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت ) .
لذلك قال الله تعالى : (ولا بد له من لقائي.) جواب (لما) . وقوله (لذلك) متعلق ب‍ (قال) .
(فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة.) أي ، فاشتياق الحق إنما هو لحصول هذه الصفة وهي الاشتياق في المظاهر المنقادة لأوامره ونواهيه .
شعر :
(يحن  الحبيب  إلى  رؤيتي  ....  وإني  إليه  أشد  حنينا )
(وتهفوا النفوس ويأبى القضا  ... فأشكو الأنين ويشكو الأنينا )
هذا عن لسان الحق من مقام الشوق . أي ، تضطرب النفوس وتطلب رؤيتي ، ولكن يأبى القضاء الإلهي والتقدير الرحماني عن تلك الرؤية إلى أن يحل الأجل فإن القضاء والقدر قدر وعين لكل أجل وقتا معينا ، لا يمكن تقديمه ولا تأخيره .
وإذا كان كذلك ، فأشكو من الأنين إلى وقت الأجل ، ويشكو المحب الأنين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلا لنفسه ) أي ، فلما أظهر الحق أنه نفخ في هذا المجلى الإنساني من روحه ، علم أنه ما اشتاق إلا لنفسه وهويته المتعينة بالتعينات الخلقية .
( ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه ؟ ) أي ، ألا ترى الإنسان كيف خلقه الله على صورته ؟ وإنما خلقه عليها ، لكونه نفخ فيه من روحه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده  أخلاطا ) ، حدث (عن نفخه ) أي ، عن نفخ الحق فيه ( اشتعال بما في جسده من الرطوبة ) إنما جعل الأركان العنصرية أخلاطا ، لأنها أولا تصير أخلاطا ، ثم أعضاء .
والمراد ب‍ ( الاشتعال ) نار الحرارة الغريزية الحاصلة من سريان الروح الحيواني في أجزاء البدن المشتعلة بواسطة الرطوبة الغريزية .

وهي له كالدهن للسراج ( فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته . ) أي ، ولما كانت نشأته الجسمانية عنصرية ، كان روحه نارا .
أي ، ظهر روحه الحيوانية ، أو نفسه الناطقة ، بالصورة النارية الموجبة للاشتعال بالحرارة الغريزية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا ما كلم الله موسى إلا في صورة النار ، وجعل حاجته فيها . ) أي ، ولأجل أن الروح تظهر في البدن بالصورة النارية ، تجلى الحق لموسى ، عليه السلام ، فكلمه في صورة النار وجعل مراده فيها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو كانت نشأته طبيعية ، لكان روحه نورا . ) أي ، لو كانت نشأته غير عنصرية ، كنشأة الملائكة التي فوق السماوات وهي النشأة الطبيعية النورية ، لكان روحه ظاهرا بالصورة النورية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكنى عنه ب‍ "النفخ" يشير إلى أنه من نفس الرحمن ) أي ، وكنى عن ذلك الظهور والحدوث ب‍ ( النفخ ) مشيرا إلى أنه حاصل من النفس الرحماني ( فإنه بهذا النفس الذي هو النفخ ظهر عينه ) أي ، بالوجود الخارجي حصل عين الروح في الخارج ، أو عين الإنسان .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وباستعداد المنفوخ فيه ) وهو البدن ( كان الاشتعال نارا لا نورا . ) لأن بدن الإنسان عنصري لا طبيعي نوري .
( فبطن نفس الحق فيما كان به الإنسان إنسانا . ) أي ، استتر نفس الحق ، أي الروح الحاصل من النفس الرحماني ، في جوهر كان الإنسان به إنسانا .
وهو الروح الحيواني الذي به يظهر هذه الصورة الإنسانية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، اشتق له منه شخصا على صورته سماه امرأة ، فظهرت بصورته ، فحن إليها حنين الشئ إلى نفسه ، وحنت إليه حنين الشئ إلى وطنه . ) أي ، إلى أصله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحبب إليه النساء ، فإن الله أحب من خلقه على صورته ، وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلو نشأتهم الطبيعية . فمن هناك وقعت المناسبة ) أي ، ومن هذا الحنين الذي بين الطرفين وقعت المناسبة بين العبد وربه ، فإنه يحن إلى الرب ، والرب يحن إلى عبده .

وقيل أي ، بالصورة بين الرجل والمرأة ، كما بين الحق والرجل . وفيه نظر .
لأنه يذكر الصورة ويجعلها أعظم مناسبة من هذه المناسبة بقوله : ( والصورة أعظم مناسبة ) بالنصب على التمييز . أي ، والحال أن كونه مخلوقا على صورته هو أعظم من جهة المناسبة المذكورة .
أو بالجر على الإضافة . أي ، والحال أن كون الإنسان مخلوقا على صورة الحق أعظم مناسبة من المناسبات الواقعة بين العبد وربه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأجلها وأكملها : فإنها زوج ، أي ، شفعت وجود الحق ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل فصيرته زوجا . ) أي ، فإن الصورة الإنسانية جعلت الصورة الرحمانية زوجا ، كما جعلت صورة المرأة صورة الرجل زوجا .
( فظهرت الثلاثة : حق ، ورجل ، وامرأة . ) أي ، فحصلت الفردية وبإزائها في النسخة الإنسانية : الروح ، والقلب ، والنفس .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه . فحبب إليه ربه النساء كما أحب الله من هو على صورته . ) فلذلك حن إلى القلب والنفس ، وما يتبعها من عرشها ومستقرها وسدنتها ، وهو البدن وقواه البدنية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما وقع الحب ) أي ، حب الرجل ( إلا لمن تكون عنه ) وهو المرأة .
 ( وقد كان حبه . ) أي ، حب الرجل ( لمن تكون منه وهو الحق . فلهذا قال الشيخ رضي الله عنه : " حبب " ولم يقل : أحببت من نفسه . ) أي ، فلأجل أنه كان محبا لربه لا غير ، وربه
جعله محبا للنساء لظهور هويته فيهن ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : حبب إلى .
ولم يقل : أحببت من نفسه ( لتعلق حبه بربه الذي هو على صورته حتى في محبته لامرأته . ) أي ، حتى أن محبته لامرأته كانت بواسطة المحبة الإلهية التي كانت مركوزة في جبلته وذاته ، لأنها مظهر من المظاهر الكلية التي يتفرع منها جميع المظاهر .
ولما كانت هذه المحبة ظاهرة في رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بواسطة حب الله إياه ،

قال رضي الله عنه  : ( فإنه أحبها بحب الله إياه تخلقا إلهيا . ) ولكمال تخلقه بالأخلاق الإلهية ، قال تعالى : ( إنك لعلى خلق عظيم ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما أحب الرجل المرأة ، طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة ، فلم تكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح . ) أي ، الجماع .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمت الطهارة ، كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة . ) أي ، ولأجل أن الرجل أحب المرأة والمرأة الرجل ، وطلب كل منهما الوصلة إلى الآخر غاية الوصلة ، عمت الشهوة جميع أجزاء بدنهما .

كما قال :
إذا ما تجلى لي فكلي نواظر ...  وإن هو ناداني فكلي مسامع
ولأجل عموم الشهوة إلى ما هو له وجه الغيرية والامتياز من الحق ، أمر كل منهما باغتسال جميع أجزاء البدن ، فعمت الطهارة ، كما عمت الشهوة والمحبة الموجبة لفناء المحب في المحبوب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الحق غيور على عبده ) فيغار عليه ( أن يعتقد أنه يلتذ بغيره ) أي ، بما وقع عليه اسم الغيرية والسوى واتصفت بالحدوث والإمكان ، وان كان في الحقيقة عين الرحمن .

وإنما قال رضي الله عنه  : ( أن يعتقد أنه يلتذ بغيره ) فإن العارف المعتقد حال التذاذه به أنه يلتذ بالحق الظاهر في تلك الصورة ، هو مشغول بالحق ، لا بغيره ، فلا غيرية حينئذ .
لكن لما كان تلك الصورة متعينة ممتازة عن مقام الجمع الإلهي الكمالي متسمة بسمة الحدوث ، محل النقائص والأنجاس ، أوجب عليه الغسل ليطهره مما اكتسب بالتوجه إليها والاشتغال بها من النقائص .
وإليه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( فطهره بالغسل ليرجع ) العبد ( بالنظر إليه ) أي ، إلى الحق فيشاهد الحق . ( فيمن فنى فيه ) وهو المرأة ( إذ لا يكون إلا ذلك . ) أي ، طهره ليرجع إلى الحق ، إذ لا بد من  الرجوع إليه وشهود ذاته ، فإن كان الرجوع إليه في هذه الحياة الدنياوية ، فيحصل الشهود فيها ، وإلا في الآخرة كما مر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة ، كان شهوده في منفعل . ) لأن المرأة محل الانفعال ( فإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه ، شاهده في فاعل . ) أي ، وإذا شاهد الحق في نفسه وشاهد أن المرأة من نفسه ظهرت وهو موجدها ، يكون الرجل مشاهد للحق في صورة الفاعل.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة ما ، تكون عنه ) أي ، من غير أن يلاحظ ظهور المرأة التي تكونت عن نفس الرجل ( كان شهوده عن منفعل عن الحق بلا واسطة ) لأن نفسه منفعلة عن الحق بلا واسطة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل ، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل ومنفعل ) أما وجه فاعليته ، فإنه يتصرف ويفعل في نفس الرجل ، تصرفا كليا ، ويجعله منقادا له محبا لنفسه .
وأما وجه انفعاليته ، فإنه في هذه الصورة محل تصرف الرجل وتحت يده وأمره ونهيه .
ويجوز أن يكون وجه فاعليته في المرأة كون حقيقة المرأة بعينها حقيقة الرجل ، إذ الذكورة والأنوثة من عوارضها ، فتلك هي الفاعلة فيها ، وهي بعينها هي المنفعلة . وهذا وجه انفعاليته أيضا .
فصح أن شهود الرجل الحق في المرأة شهود للحق في الصورة الفاعلية والمنفعلية ، فيكون أكمل .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة . ) أي ، وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة المرأة ، فيشاهد الحق من حيث إنه منفعل ، فإنه من جمله مفعولات الحق ومخلوقاته . وترك القسم الثاني .
وهو شهود الحق في نفسه من حيث إنه ظهرت المرأة عنه ، وهو شهود الحق في فاعل اكتفاء بذكر الثالث .
فإن شهود الحق من حيث إنه فاعل ومنفعل أتم من شهوده من حيث إنه فاعل وحده ، أو منفعل وحده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا أحب ، صلى الله عليه وسلم ، النساء لكمال شهود الحق فيهن ، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا . فإن الله بالذات غنى عن العالمين . ) ولا نسبة بينه وبين شئ من هذا الوجه أصلا ، فلا يمكن شهوده مجردا عنها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ولم تكن الشهادة إلا في مادة ، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله . ) أي وأكمل الشهود في النساء أيضا في حالة النكاح الموجب لفناء المحب في المحبوب .
وكمال الشهود في غير تلك الحالة بالنسبة إلى من يلاحظ جمال الحق في صور الأكوان دائما ، لا يغفل عنه إلا أوقاتا يسيرة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأعظم الوصلة النكاح . ) أي ، الجماع ( وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليحلفه ، فيرى فيه صورته بل نفسه . فسواه وعدله ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه . ) أي ، النكاح هو نظير التوجه الإلهي لإيجاد الإنسان ليشاهد فيه صورته وعينه ، لذلك سواه وعدله ونفخ فيه من روحه ، وكذلك الناكح يتوجه لإيجاد ولد على صورته بنفخ بعض روحه فيه الذي يشتمل عليه النطفة ، ليشاهد نفسه وعينه في مرآة ولده ، ويخلفه من بعده . فصار النكاح المعهود نظيرا للنكاح الأصلي الأزلي .
( فظاهره خلق ، وباطنه حق . ) أي ، فظاهر ما سواه . وعدله من الصورة الإنسانية ، خلق موصوف بالمعبودية . وباطنه حق ، لأن باطنه من روح الله الذي يدبر الظاهر ويربه ، بل هو عينه وذاته الظاهرة بالصورة الروحانية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل الإنساني . ) أي ، ولكون باطنه الذي هو الروح حقا ، جعله الحق مدبرا لهذا الهيكل الإنساني ، ووصفه بالتدبير حيث قال : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) والخليفة مدبر بالضرورة ، والمدبر لا يكون إلا حقا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه تعالى "يدبر الأمر" أي ، أمر الوجود في صور المظاهر ( "من السماء" وهو العلو ، "إلى الأرض" وهو أسفل سافلين ، لأنها أسفل الأركان كلها . ) وفي العالم الإنساني المرأة بالنسبة إلى الرجل كالأرض بالنسبة إلى السماء ، فالروح المدبر لصورة الرجل والمرأة مدبر للسماء والأرض .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسماهن ب‍ "النساء" وهو جمع لا واحد له من لفظه ، ولذلك ) أي ، ولكونهن متأخرة في الوجود عن الرجل ، سماهن بالنساء حين قال ، صلى الله عليه وسلم : ( "حبب إلى من دنياكم ثلاث : النساء" ولم يقل : المرأة . ) أي ، قال "النساء " الذي هو مأخوذ من "النسأة" هي التأخير ، إشارة إلى تأخر مرتبتهن عن مرتبة الرجال وتأخر وجودهن .
( فراعى تأخرهن في الوجود عنه ) أي ، عن الرجل . ( فإن النسأة هي التأخير . ) ( النسأة ) بالسين الغير المنقوطة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال تعالى : "إنما النسئ زيادة في الكفر " ) أي ، التأخير زيادة في الكفر .
وتفسير الآية : أن الكفار ما كانوا يصبرون عن القتل والنهب والفساد إلى أن يخرج الأشهر الحرم - وهي رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرم - وكانوا يؤخرون الحرمة التي فيها إلى أشهر أخر فيقاتلون فيها ، فنزلت .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والبيع بنسئة تقول بتأخير ، فلذلك ذكر النساء . ) أي ، فلأجل تأخرهن في الوجود عن وجود الرجل ، ذكر لفظ ( النساء ) ولم يقل المرأة .
( فما أحبهن إلا بالمرتبة ) أي ، بمرتبتهن عند الله . وهي مرتبة الطبيعة الكلية .
(وإنهن محل الانفعال .) أي ، وبأنهن قابلات للتأثير والانفعال ، عطفا على قوله : (بالمرتبة) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهن له ) أي للرجل ( كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجه الإرادي والأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية ، وهمة في عالم الأرواح النورية ، وترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج . وكل ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه . )

واعلم ، أن أول النكاحات هو الاجتماع الأسمائي لإيجاد عالم الأرواح وصورها في النفس الرحماني المسماة ب‍ ( الطبيعة الكلية ) .
ثم ، اجتماع الأرواح النورية لإيجاد عالم الأجساد الطبيعية والعنصرية . ثم ، الاجتماعات الأخر المنتجة للمولدات الثلاثة ولواحقها .
ولكون الاجتماعات الأسمائية واجتماعا الأرواح النورية واجتماعات المعاني المنتجة للنتائج المعنوية في البراهين غير داخلة في حكم الزمان ، جعل كل ذلك ( نكاح الفردية الأولى ) ، أي ، النكاح الذي به حصل الفردية الأولى التي هي الذات الأحدية والأسماء الإلهية والطبيعة الكلية في المرتبة الوجودية ، والاجتماعات الأخر التي هي سبب المواليد ، هي من النكاحات الثانية والثالثة
إلى أن ينتهى إلى النكاح الرابع الذي هو آخر النكاحات الكلية . وليس هذا موضع بيانه .

ولما كان تأثير الأرواح النورانية بالتوجه والهمة وتأثير المقدمات بالترتيب الخاص ، قال رضي الله عنه  : ( وهمة في عالم الأرواح . . . وترتيب مقدمات في المعاني ) . والكل تفاريع النكاح الأول وداخل فيه على أي وجه كان من هذه الوجوه التي هي النكاح في الصور العنصرية ، والهمة في عالم الأرواح وترتيب المقدمات في عالم المعاني .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أحب النساء على هذا الحد ) من المعرفة ، والعلم بحقيقة المحبوب وأنواره ( فهو حب إلهي . ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة ، نقصه علم هذه الشهوة ، فكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ، ولكنها غير مشهودة ) أي غير معلومة ( لمن جاء لامرأته - أو لأنثى حيث كانت - لمجرد الالتذاذ ، ولكن لا يدرى لمن . ) أي ، لا يعرف لمن يلتذ ، ومن المتجلي بتلك اللذة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ) وهو نفسه وحقيقته الظاهرة في صورة المرأة ( ما لم يسمه ) أي ، ما دام لم يسمه . ( هو بلسانه حتى يعلم ) أنه من هو وما شأنه . فإذا أخبر عن نفسه وشأنه بلسانه فحيث يعلم أنه من هو ، والغرض أنه جهل من نفسه وما عرف أنه مظهر من مظاهر الحق ، فلذلك جهل امرأته التي هي صورة من صور نفسه وليست غيرها في الحقيقة ، فما عرف أن الحق المتجلي بصورته هو الذي يلتذ بالحق المتجلي في صورتها .
كما قال بعضهم شعرا :
( صح عند الناس إني عاشق ... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن )
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك هذا ) الرجل الجاهل ( أحب الالتذاذ ، فأحب المحل الذي يكون فيه ) أي ، يحصل الالتذاذ فيه . ( وهو المرأة ، ولكن غاب عنه روح المسألة . فلو علمها ) علما يقينيا ، أو عيانيا شهوديا ، ( لعلم من التذ وبمن التذ ، وكان كاملا . ) لشهوده الحق في صورة نفسه وصورة امرأته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله : " وللرجال عليهن درجة " نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته . )
أي ، كما أن المرأة نازلة في الدرجة عن الرجل ، كذلك نازل عن درجة الحق مع أنه مخلوق على صورته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتلك الدرجة التي تميز الحق بها عنه ) أي ، عن الرجل . ( بها ) أي ، بتلك الدرجة ( كان ) الحق ( غنيا عن العالمين وفاعلا أولا ، فإن الصورة ) أي ، الصورة النوعية التي هي الحقيقة الإنسانية المخلوقة على صورة الحق ( فاعل ثان . ) أما كونه فاعلا ، فلأنه خليفة في العالم ، متصرف في أعيانها كلها .
وأما وقوع فعله في ثاني المرتبة ، فلأن فعله على سبيل التبعية والخلافة ، لا الأولية والأصالة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما له الأولية التي للحق ) أي ، فليس للإنسان الأولية الحقيقية التي للحق إذا أوليته غير أولية الأعيان ، كما مر في أول الكتاب .

( فتميزت الأعيان بالمراتب ) أي ، تميزت الأعيان الكونية من الحق تعالى بمراتبها التي اتصفت بها في الأزل وتميز بعضها عن بعض بحصة من عين تلك المراتب ، إذ لكل منها مرتبة معينة وحد مخصوص واستعداد مناسب أفاض الحق لها بالفيض الأقدس .
كما قال تعالى : ( أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف . ) أي ، كل من عرف الحقائق والمراتب ، أعطى كل عين حقها وما نقص عنه ولا زاد عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا كان حب النساء لمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، عن تحبب إلهي ، وإن الله "أعطى كل شئ خلقه " ) أي ، ولأجل أن العارف المحقق يعطى حق كل ذي حق ، كان حب النساء في القلب المحمدي عن تحبب إلهي ، أي ، جعل قلبه محبا للنساء لاقتضاء أعيانهن أن تكن محبوبات للرجال واقتضاء أعيانهم حبهن .

( وهو عين حقه ) أي ، ذلك العطاء عين حق ذلك الشئ ، فحب محمد صلى الله عليه وسلم ، للنساء عين حق محمد ، لأن أعيان الرجال يقتضى حب النساء ، وان كان من وجه آخر الرجل محبوبا للمرأة ومعشوقا لها ، والمرأة محبة وعاشقة له .
وباجتماع صفتي العاشقية والمعشوقية في كل منهما حصل الارتباط بينهما وسرت المحبة في جميع المظاهر ، فصار كل منهما عاشقا من وجه ، معشوقا من وجه ، كما أن الحق محب من وجه ، محبوب من وجه ، فصارت المحبة رابطة بين الحق والخلق أيضا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما أعطاه ) أي ، فما أعطى الحب لمحمد ، صلى الله عليه . ( إلا باستحقاق استحقه بمسماه ، أي ، بذات ذلك المستحق . ) أي ، عين المستحق طلب ذلك الحب من الله ، فأعطاه إياه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قدم النساء ، لأنهن محل الانفعال ، كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة . ) أي ، تقديم النساء في الحديث إشارة إلى تقدم مرتبتهن ، لأنهن محل الانفعال ، ولا بد أن يتقدم القابل على المقبول ، كما يتقدم الفاعل على مفعوله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني ، فإنه فيه انفتحت صور العالم ، أعلاه وأسفله ، لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة . ) قد مر في ( الفص العيسوي ) أن الطبيعة نسبتها إلى النفس الرحماني نسبة الصورة النوعية التي للشئ إليه .

فقوله رضي الله عنه  : ( على الحقيقة ) إشارة إلى أن العقل وإن كان يميز بين الشئ وبين صورته النوعية ، لكنها في الحقيقة عين ذلك الشئ .
وقوله : ( فإنه فيه ) أي في النفس انفتحت صور العالم ، أي عالم الأجسام أعلاه وأسفله ، تعليل ذلك . أي ، فإن الصور النوعية التي للعالم الجسماني موجودة في النفس . وهي كأفراد مطلق الطبيعة الكلية .
وقد بان أن الصور النوعية التي للشئ عين ذلك الشئ في الوجود ، فالطبيعة الكلية عن النفس الرحماني .
وقوله رضي الله عنه  : ( السريان النفخة ) تعليل لقوله : ( فإنه فيه انفتحت صور العالم . ) أي ، وذلك لسريان النفخة الإلهية في الجوهر الهيولاني الذي هو القابل لصور الأجسام خاصة .

وإنما قيدنا العالم بعالم الأجسام ، وإن كان عالم الأرواح أيضا صورا منتفخة في النفس الرحماني ، لقوله : ( وأما سريانها لوجود الأرواح النورية والأعراض ، فذلك سريان آخر . ) أي ، وأما سريان الطبيعة في وجود الأرواح النورية التي هي المجردات وفي الأعراض ، فذلك سريان آخر .
وذلك لأن سريان النفس في الجواهر الروحانية كلها بواسطة سريان الطبيعة الجوهرية فيها ، لا بواسطة الهيولى الجسمية ، وفي الأعراض بواسطة الطبيعة العرضية التي هي مظهر التجلي
الإلهي وظهوره

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، إنه ، عليه السلام ، غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ، لأنه قصد التهمم بالنساء ، فقال : " ثلاث " ، ولم يقل : ثلاثة . ب‍ " الهاء " الذي هو لعدد الذكران ) ظاهر .

قوله رضي الله عنه  : ( إذ وفيها ذكر الطيب ) تعليل . أي ، لأن فيها ذكر النساء وذكر الطيب . ف‍ ( الواو ) في ( وفيها ) للعطف . ( وهو مذكر ) أي ، الطيب مذكر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعادة العرب أن يغلب التذكير على التأنيث ، فيقول : الفواطم وزيد خرجوا . ولا يقول خرجن . فغلبوا التذكير ، وإن كان واحدا على التأنيث ، وإن كن جماعة . وهو عربي ) أي ، ورسول الله المتكلم بهذا الكلام عربي وأفصح الفصحاء كلهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فراعى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، المعنى الذي قصد به في التحبب إليه ما لم يكن يؤثر حبه ) قوله : ( قصد ) يجوز أن يكون مبنيا للمفعول .
أي ، راعى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في هذا التغليب المعنى الذي قصده الله بالتحبيب إلى الرسول . وقوله ، صلى الله عليه وسلم : ( حبب إلى . . . ) يؤكده .
ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل . أي ، راعى المعنى الذي قصده الرسول بهذا التغليب في التحبيب إليه ما دام لم يكن مؤثرا حب ذلك المعنى لنفسه ، بل يختاره ويؤثره لله تعالى ، فيحبهن بحب الله.

فضمير ( به ) للتغليب و ( به ) متعلق ب‍ ( راعى ) . وضمير الصلة محذوف . أي ، قصده به . وضمير ( إليه ) للنبي صلى الله عليه وسلم . و ( ما ) للمدة . وضمير ( حبه ) ( المعنى ) والإضافة إلى المفعول .
ويجوز أن يكون ضمير ( حبه ) عائد إلى ( النبي ) صلى الله عليه وسلم ، فيكون الإضافة إلى الفاعل . ومعناه : ما دام لم يكن مؤثرا حبه لهن لنفسه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعلمه الله ما لم يكن يعلم ، وكان فضل الله عليه عظيما . ) أي ، علمه الله المعنى الموجب لمحبة النساء لذلك غلب التأنيث على التذكير . ولولا تعليمه إياه ، لكان كلامه على ما جرت به عادة العرب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فغلب التأنيث على التذكير بقوله عليه السلام : "ثلث" بغير "هاء" . فما أعلمه ، صلى الله عليه ، بالحقائق وما أشد رعايته للحقوق . ثم ، إنه ) أي ، أن النبي .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث ، وأدرج بينهما التذكير ، فبدأ بالنساء وختم بالصلاة . وكلتاهما تأنيث ، والطيب بينهما ك‍ "هو" ) أي ، كالنبي ، عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في وجوده ، فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها ، وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنثين : تأنيث ذات ، وتأنيث حقيقي . كذلك النساء تأنيث حقيقي ، والصلاة تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكر بينهما ، كآدم بين الذات الموجودة هو عنها ، وبين حواه الموجودة عنه . وإن شئت قلت : الصفة فمؤنثة أيضا ، وإن شئت قلت : القدرة فمؤنثة أيضا . فكن على أي مذهب شئت ، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم ، حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم ، والعلة مؤنثة . )
أشار رضي الله عنه ، بلسان الذوق أن الخاتمة نظيرة السابقة الأزلية . وذلك لأن آدم الحقيقي الغيبي وآدم الشهادة كل منهما مذكر ، واقع بين مؤنث غير حقيقي ، وهو لفظة ( الذات ) ، وبين مؤنث حقيقي ، وهي حواء ، عليها سلام الله .

إن عبرت عنها بالحقيقة الأصلية أو العين الإلهية ، فكذلك . وإن جعلت السبب لوجود آدم
الصفة ، كالقدرة ، وجعلتها مغائرة للذات كما هو مذهب المتكلمين أو جعلتها عينا كما هو مذهب الحكماء الإلهيين أو جعلت الذات من حيث هي بلا اعتبار الصفة علة لوجود العالم، أيضا كذلك.
ولما كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أفصح فصحاء العرب والعجم وأعلم علماء أهل العالم ، أشار فيما تكلم به إلى ما عليه الوجود تنبيها لأهل الذوق والشهود .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما حكمة الطيب وجعله بعد النساء ، فلما في النساء من روائح التكوين )
أي ، روائح تكوين أهل العالم . لأن المرأة لها رتبة الأمومة التي بها وجود الأولاد .
وصاحب الكشف يشم روائح وجودهم فيها ويدرك بذوق الشم ، فلذلك جعله بعد ذكر النساء . وتلك الرائحة ألذ الروائح .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه "أطيب الطيب عناق الحبيب" . كذا قالوا في المثل السائر . ) أي ، الشأن أن أطيب الطيب ما يجده المحب من عناق الحبيب ، وذلك لأنه يجد فيه رائحة عينه وحقيقته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما خلق ) رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . ( عبدا بالأصالة ، لم يرفع رأسه قط إلى السيادة ) مراعاة لما تقتضيه عينه الثابتة من العبودية الذاتية الحاصلة من التعين والتقيد وحفظا للأدب مع الحضرة الإلهية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل لم يزل ساجدا ) لربه متذللا لحضرته ( واقفا مع كونه منفعلا ) أي ، واقفا في مقام عبوديته ومرتبة انفعاليته . ( حتى كون الله عنه ما كون . ) أي ، حتى وجد الله من روحه جميع الأرواح ومظاهرها .
كما جاء في الحديث : ( إن الله لما خلق العقل ، قال له : أقبل ، فأقبل . ثم قال له : أدبر ، فأدبر . فقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إلى منك ، بك آخذ وبك أعطى وبك أثيب وبك
أعاقب ) . - الحديث . و ( العقل ) المذكور هو روحه المشار إليه بقوله : ( أول ما خلق الله نوري ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأعطاه رتبة الفاعلية ) بأن جعله خليفة للعالم ، متصرفا في الوجود العيني ، معطيا لكل من أهل العالم كماله .

ولما كان كلامه صلى الله عليه وسلم  في الطيب ، جعل ذلك التصرف في عالم الأنفاس فقال رضي الله عنه  : ( في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطيبة ، فحبب إليه الطيب ، فلذلك جعله ) رسول الله ، صلى الله عليه . ( بعد النساء . ) المراد ب‍ ( عالم الأنفاس ) هو عالم الأرواح المؤثرة بأنفاسهم في الوجود الظاهري ، وب‍ ( الأعراف الطيبة ) الروائح الطيبة الوجودية .
ولما كانت الأرواح مبادئ للموجودات الشهادية التي تحملها الطبيعة الكلية الروحانية ، صارت موصوفة ب‍ ( الأعراف الطيبة ) .
وهي الروائح الوجودية للأعيان الأزلية العلمية . ولكون هذه الروائح حاصلة بعد وجود الطبيعة التي هي أم بالنسبة إلى الكل ، جعل الطيب بعد ذكر النساء .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فراعى الدرجات التي للحق في قوله : "رفيع الدرجات ذو العرش" لاستوائه عليه باسمه "الرحمن ". ) أي ، فراعى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، هذا الترتيب : الدرجات الإلهية والمراتب الكلية التي للحق المشار إليها في قوله : ( رفيع الدرجات ذو العرش ) .
وذلك لأن أول ما وجد هو العقل الأول ، وهو آدم الحقيقي ، ثم النفس الكلية ، منها وجدت النفوس الناطقة كلها ، وهي حواء ثم الطبيعة التي بواسطتها ظهر الفعل والانفعال في الأشياء ، ثم الهيولى الجسمية ، ثم الجسم الكلى ، ثم الفلك الأطلس الذي هو العرش الكريم ، ثم الكرسي ، ثم العنصريات من السماوات والأرض ، على ما مر من أن السماوات متولدة من ( دخان ) الأرض ، ثم حصلت المواليد الثلاث ، وتم الملك والملكوت .

وهذه الحقائق كلها درجات إلهية ومراتب رحمانية ، تقدمت عليها النفس الكلية ، وبالتنزل إلى المرتبة الجسمية حصل الاستواء الرحماني .
فالروح المحمدي الذي هو المظهر الرحماني هو الذي استوى على العرش ، فتعم رحمته على العالمين . كما قال : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية. وهو قوله تعالى: ) أي ، وهذا المعنى المذكور في قوله تعالى : ("ورحمتي وسعت كل شئ ") .
أي ، فليس في كل ما يحيط به هذا الاسم الرحماني ومظهره الذي هو العرش من الموجودات من لا تصيبه الرحمة الرحمانية . وهي كالوجود والرزق وأمثالهما من النعم العامة الظاهرة والباطنة . لذلك قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شئ ) .
ولما كان العرش محيطا بكل ما فيه من الموجودات - كما قد مر أن العرش الروحاني الذي هو العقل الأول محيط بجميع الحقائق الروحانية والجسمانية والعرش الجسماني محيط بجميع الأجسام - قال : ( والعرش وسع كل شئ ) .
وقوله رضي الله عنه  : ( والمستوى "الرحمن" ) إشارة إلى قوله تعالى : "الرحمن على العرش استوى" أي ، الحاكم والمستولي على العرش من الأسماء هو الاسم "الرحمن " والعرش مظهره الذي منه وبه يفيض على ما تحته من الموجودات ، فإن الأسماء من حيث إنها نسب الذات لا تصير مصدرا للأنوار الفائضة منها إلا بمظاهرها الروحانية ، ثم الجسمانية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم ) أي ، بحقيقة هذا الاسم الرحماني يحصل سريان الرحمة في العالم ، وهي ما يمتاز الاسم به عن غيره .
وإن شئت قلت : وبحقيقة العرش يكون هذا السريان في العالم . وهي العين الثابتة التي ظهر بها الرحمن في العالم ، كما ظهر بالعقل الأول في عالم الأرواح ، وبالفلك الأطلس في عالم الأجسام ، فإن الظاهر والمظهر بحسب الوجود واحد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما بيناه في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكي . ) من أن حقيقة الاسم هو ما يمتاز به عن غيره ، وهي الصفة ، فإن الذات مشتركة في الكل .
وحقيقة الرحمة الرحمانية التي هي الرحمة الذاتية يقتضى الرحمة الصفاتية التي تظهر في المظاهر العينية بسريانها فيها سريان الرحمة في العالم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد جعل الطيب الحق تعالى في هذا الالتحام النكاحي ) الواقع بين الرجل والمرأة ، وجعل الطيب ( في براءة عائشة ، فقال : "الخبيثات للخبيثين والخبيثون
للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات" ) لأن الطيب ماله الطيب ، فشهد الحق فيها بأنها طيبة ونفى الخبث عنها بقوله : ("أولئك مبرؤون مما يقولون") لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أطيب الطيبين ، وعائشة وباقي أزواج النبي ، عليه السلام ، أطيب الطيبات .

وإنما قلنا إنه أطيب الطيبين ونساؤه أطيب الطيبات ، لأن الأفراد الإنسانية من حيث إن كلا منها إنسان ، ليس فيها خبث ، بل كلها طيب بالطيب الذاتي ، لأن كلا منها مخلوق بيديه وحامل لما عنده من الصفات الإلهية .
وكون بعضها طيبا بالطيب الصفاتي ، وبعضها خبيثا ، إنما هو باتصاف البعض بالكمالات ،
والبعض الآخر بالنقائص ، ولا شك أن أكمل الأفراد الإنسانية من الرجال هو النبي ، وأكملها من النساء أزواجه ، وإذا كان كذلك ، فأولئك مبرؤون عما يقول الظالمون فيهن .

( فجعل روائحهم ) أي ، روائح الطيبين ، يعنى ، لوازمهم من الصفات والأفعال طيبة وأقوالهم صادقة ، وروائح الخبيثين خبيثة وأقوالهم كاذبة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأن القول نفس ، وهو عين الرائحة ) المراد ب‍ ( الرائحة ) هنا اللازم ، إذ الرائحة كيفية من الكيفيات الوجودية ، لازمة للجوهر الذي عرضت فيه .
وإنما جعل ( النفس ) عين الرائحة ، لأنه لازم لوجود المتنفس ، كما أن الرائحة لازمة لمحلها .
ولما استعار لفظة ( الرائحة ) على لوازم وجوداتهم والرائحة لا تدرك إلا بواسطة الهواء شبه اتصافها بالطيب والخبيث بمرور الرائحة واتصافها بأحكام ما مر عليه بواسطة الهواء ترشيحا للاستعارة ، فقال : ( فيخرج بالطيب وبالخبيث على حسب ما يظهر به في صورة النطق ) أي ، فيخرج النفس من الطيب بسبب أنه طيب في صورة النطق طيبا ، ومن الخبيث بواسطة أنه خبيث في صورة نطقه خبيثا .

فقوله رضي الله عنه  : ( في صورة النطق ) متعلق بقوله : ( فيخرج ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن حيث هو إلهي ) أي ، فمن حيث إن النفس منسوب إلى الله ، ( بالأصالة ، كله طيب ، فهو طيب ، ) أي ، فالقول : كله طيب ، لأنه صفة من الصفات الكمالية الإلهية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حيث ما يحمد ويذم ، فهو طيب وخبيث . ) أي ، ومن حيث إن القول بعضه محمود وبعضه مذموم ، ينقسم بالطيب والخبيث ويوصف بهما .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال في خبث الثوم : هي شجرة خبيثة أكره ريحها . ولم يقل : أكرهها . فالعين لا تكره ، وإنما يكره ما يظهر منها . والكراهة لذلك ) أي ، لما يظهر منها : ( إما عرفا ، أو بعدم ملائمة طبع ، أو غرض ، أو شرع ، أو نقص ) أي ، بسبب شرع أو بسبب نقص ( عن كمال مطلوب وما ثم غير ما ذكرناه . ) .

للاختلاف بحسب الطبائع والأغراض والشرائع قد يكون الشئ محمودا بالنسبة إلى البعض ومذموما بالنسبة إلى الآخر ، حراما في شرع ، حلالا في آخر ، كمالا بالنسبة إلى شئ ، نقصانا
بالنسبة إلى الآخر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما انقسم الأمر إلى خبيث وطيب كما قررناه حبب إليه الطيب دون الخبيث ووصف النبي ، صلى الله عليه ، الملائكة بأنها تنادي بالروائح الخبيثة لما في هذه النشأة العنصرية من التعفين.)
ولما كان الإنسان مخلوقا من النشأة العنصرية وفيه شئ من التعفين ، قال : ( فإنه ) أي ، فإن الإنسان (مخلوق من"صلصال من حمأ مسنون". أي متغير الريح . فتكرهه الملائكة بالذات ) أي ، فتكره الملائكة الإنسان المتغير الريح الذي هو الخبيث بذواتهم ، لطهارة نشأتهم عن العفونات والفضلات المنتنة .
ولذلك أمرنا بطهارة الثوب والبدن ودوام الوضوء .

واستحب استعمال الروائح الطيبة لتحصل المناسبة بيننا وبين الملائكة ، فتلحق بالطيبن ( كما أن مزاج الجعل يتضرر برائحة الورد ، وهي من الروائح الطيبة ، فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة . ومن كان على مثل هذا المزاج معنى وصورة ، أضر به الحق إذا سمعه ، وسر بالباطل ) ( وهو ) أي ، هذا المعنى المذكور .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قوله : "والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله" . ووصفهم بالخسران فقال : "أولئك هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم" فإنه من لم يدرك الطيب من الخبيث ) أي ، من لم يدرك المعنى الطيب الذي هو مدرج في الخبيث وباطن فيه ولم يميز بينهما ( فلا إدراك له . )
وإنما قال كذلك ، لأن ما هو خبيث الذي هو مشتمل بوجه آخر على المعاني الطيبة في نفسها ، فإنه مظهر من مظاهر الهوية الإلهية ، وهي الطيبة ، وإن كان خبيثا في الظاهر .
وأيضا ، لو لم يكن كذلك ، لما وجد من الطيب الحقيقي ، إذ لا بد من المناسبة بين العلة والمعلول ولو بوجه ما . وفي الحقيقة خبث الخبيث وطيب الطيب أمران نسبيان ، يعودان إلى المدرك ، وليس في نفس الأمر إلا الطيب .

( فما حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا الطيب من كل شئ ، وما ثمة إلا هو.) أي ، وما يكون في حضرته إلا الطيب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهل يتصور أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب من كل شئ ولا يعرف الخبيث ، أم لا ؟ قلنا : هذا لا يكون : فإنا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه ، وهو الحق ، فوجدناه يكره ويحب ، وليس الخبيث إلا ما يكره ، ولا الطيب إلا ما يحب )
على المبنى للمفعول . ( والعالم على صورة الحق . )
ولا يتوهم أن قول الشيخ : ( فإنا ما وجدناه في الأصل ) ينافي ما ذكرناه ، لأن الحق يحب وجود كل شئ ويريده ، فيوجده ، سواء كان طيبا أو خبيثا . ولو كان يكره شيئا ما مطلقا ، لما أوجده وما يتعلق إرادته به .

وقوله رضي الله عنه  : ( فوجدناه يكره ويحب ). محمول على أنه تعالى في المظاهر يحب الشئ ويكرهه ، لا في مقام جمعه ، فإن ( الكراهة ) من الصفات المنسوبة إلى العالم ( الضحك ) و ( الاستهزاء ) وغيرهما ، فما هو منسوب إلى الله في القرآن والحديث كقوله تعالى : (الله يستهزئ بهم) . (وضحك الله البارحة مما فعلتما) .
(والإنسان على الصورتين.) أي ، مخلوق على صورتي الحق والعالم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يكون ثمة مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد من كل شئ . ) إما الطيب ، وإما الخبيث . ( بل ثمة مزاج يدرك الطيب من الخبيث ) إذ لا خبيث إلا وله نصيب من الطيب ، ولو بالنسبة إلى بعض الأمزجة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مع علمه بأنه خبيث بالذوق طيب بغير الذوق فيشغله إدراك الطيب منه عن الإحساس بخبثه. ) كما روى عن بعض المشايخ أنه مر مع جمع من المريدين ، فرأى جيفة ملقاة . فقال : ( ما أشد بياض أسنانه )  .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا قد يكون . وأما رفع الخبث من العالم ، أي من الكون ، فإنه لا يصح . )
لأن الطبائع مختلفة : فما يلائم طبيعة هو عندها طيب ، وما لا يلائمها فهو عندها خبيث . والخبيث عند طبيعة أخرى يلائمها طيب . فإن لعاب فم الإنسان طيب عنده ، سم بالنسبة إلى الحية ، وكذا سم الحية سبب الحياة عندها ، قاتل بالنسبة إلى الإنسان .
والعسل نافع بالنسبة إلى مزاج المبرودين كالمشايخ ، ضار بالنسبة إلى مزاج المحرورين كالشبان ، فلا يمكن رفعه من الكون .
فأما أعيان الأشياء وذواتها لكونها راجعة إلى عين الذات الإلهية فليس شئ منها خبيثا .
( ورحمة الله في الخبيث والطيب . ) أي ، ورحمة الله حاصلة فيهما . ولولا تلك الرحمة ، لما وجد شئ منهما ، إذ الوجود عين الرحمة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والخبيث عند نفسه طيب ، والطيب عنده خبيث . ) لأن الشئ لا يحب إلا نفسه وما يناسبه ، لا ما يضاده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما ثمة شئ طيب إلا وهو من وجه في حق مزاج ما خبيث ، وكذلك بالعكس. ) كما مر .
( وأما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة . ) وفيه إيماء بقوله ،
صلى الله عليه وسلم : ( حبب إلى من دنياكم ثلاث : النساء ، والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ) .
تقديره : النساء والطيب والصلاة ، وجعلت قرة عيني في الصلاة . وحذف الثالث اكتفاء بذكر ما بعده .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" لأنها مشاهدة .) أي ، لأنها سبب المشاهدة ومشاهدة المحبوب قرة عين المحب .
"وذلك لأنها مناجاة بين الله وبين عبده كما قال تعالى : " فاذكروني أذكركم " أي ، لأن الصلاة مناجاة ."

كما قال صلى الله عليه وسلم : ( المصلى يناجى ربه ما دام في الصلاة ، فهو في المناجاة ) . ولما كانت مستلزمة للذكر من الطرفين ، استشهد بقوله تعالى : "فاذكروني أذكركم".
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهي ) أي ، الصلاة ( عبادة مقسومة بين الله وبين عبده بنصفين : فنصفها لله ، ونصفها للعبد ، كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى أنه قال : " قسمت الصلاة  بيني وبين عبدي نصفين : فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل .
يقول العبد : "بسم الله الرحمن الرحيم" يقول الله : ذكرني عبدي .
يقول العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي . يقول العبد الرحمن الرحيم . يقول الله تعالى : أثنى على عبدي .
يقول العبد : "مالك يوم الدين" يقول الله : مجدني عبدي ، فوض إلى عبدي . فهذا النصف كله له تعالى خالص . ثم يقول العبد : "إياك نعبد وإياك نستعين"
يقول الله :  هذه بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . فأوقع الاشتراك في هذه الآية .
يقول العبد : " إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
ولا الضالين" يقول الله تعالى : فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل . فخلص هؤلاء لعبده
كما خلص الأول له تعالى . فعلم من هذا وجوب قراءة "الحمد لله رب العالمين" . فمن لم
يقرأها ، فما صلى الصلاة المقسومة بين الله وبين عبده .  ) كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) . ولزم من هذا الحديث أيضا ( الفردية ) .

فإن القسم الأول خالص لله ، والثاني مشترك بين العبد وبين الله ، والثالث خالص للعبد . ولزم أيضا إن البسملة من ( الفاتحة ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كانت ) الصلاة ( مناجاة ، فهي ذكر ، ومن ذكر الحق فقد جالس الحق وجالسه الحق . فإنه صح في الخبر الإلهي أنه تعالى قال : "أنا جليس من ذكرني" . ومن جالس من ذكره وهو ذو بصر )

كقوله رضي الله عنه  : ( فبصرك اليوم حديد ) ( رأى جليسه . فهذه ) أي ، الصلاة ( مشاهدة ورؤية ) أي ، يحصل للمصلى الشهود الروحي والرؤية العينية في مواد الأعيان الموجودة الروحانية والجسمانية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن لم يكن ذا بصر ) وعرفان أنه هو المتجلي لكل شئ وهو المتجلي عن كل شئ . ( لم يره . فمن هناك يعلم المصلى رتبته : هل يرى الحق هذه الرؤية ) العيانية

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في هذه الصلاة، أم لا. فإن لم يره، فليعبده بالإيمان كأنه يراه ) كالمؤمنين المحجوبين . ( فيخيله في قبلته عند مناجاته ، ويلقى السمع لما يرد به عليه من الحق ) من الواردات الروحانية والمعاني الغيبية ( فإن كان إماما لعالمه الخاص به ) أي ، للأناسي .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وللملائكة المصلين معه - فإن كل مصل فهو إمام بلا شك ، فإن الملائكة تصلى خلف العبد إذا صلى وحده كما ورد في الخبر - فقد حصل له رتبة الرسل في الصلاة . ) لأن إمامة الناس من مراتب الرسول .
وقوله : ( فقد حصل ) جواب الشرط . أي ، فإن كان إماما للناس ، فقد حصل له رتبة الرسول .
ولما كانت الإمامة قياما بحقوق العباد وهي من جملة شؤون الحق ، قال : ( وهي النيابة عن الله . وإذا قال : "سمع الله لمن حمده" فيخبر نفسه ومن خلفه بأن الله قد سمعه ) أي ، يخبر الإمام نفسه لمن اقتداه بأن الله سمع حمد من حمده ومناجاة من ناجاه . وذلك لأنه مشاهد ربه وعالم بأنه سمع حمد الحامدين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتقول الملائكة والحاضرون : ربنا ولك الحمد . فإن الله تعالى قال على لسان عبده : "سمع الله لمن حمده ". فانظر علو رتبة الصلاة وإلى أين تنتهي بصاحبها . فمن لم يحصل درجة الرؤية في الصلاة ، فما بلغ غايتها ، ولا كان له فيها قرة عين ، لأنه لم ير من يناجيه . فإن لم يسمع ما يرد من الحق عليه فيها ) أي ، في الصلاة من الواردات الغيبية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما هو ممن ألقى سمعه . ومن لم يحضر فيها مع ربه مع كونه ، لم يسمع ولم ير ، فليس بمصل أصلا ولا هو ممن ألقى السمع وهو شهيد . ) أي ، أدنى مرتبة الصلاة الحضور مع الرب .

فمن لا يرى ربه فيها ولا يشهد شهودا روحانيا أو رؤية عيانية قلبية أو مثالية خيالية أو قريبا منه المعبر عنه بقوله ، عليه السلام : " أعبد الله كأنك تراه " .
ولا يسمع كلامه المطلق بغير واسطة الروحانيات وبواسطة منهم ولا يحصل له الحضور القلبي المعبر عنه : "فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك" . أي فاعلم أنه يراك ، فليس بمصلي . وصلاته أفادت له الخلاص من القتل ، لا غير .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ثمة عبادة تمنع من التصرف في غيرها ما دامت ) أي ، ما بقيت وثبتت .
ف‍ ( ما دامت ) تامة لا ناقصة ، كقوله تعالى : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) .
( سوى الصلاة ، وذكر الله فيها أكبر ما فيها لما تشتمل ) الصلاة ( عليه من أقوال وأفعال ) ( اللام ) في ( لما تشتمل ) ، مستعمل بمعنى ( من ) للبيان . أي ، مما يشتمل عليه الصلاة من الأقوال والأفعال .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوح المكية كيف يكون . )
هذا اعتراض وقع بين المدلول ودليله وهو قوله : ( لأن الله يقول : "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء" أي ، عن المناهي "والمنكر" . ) أي ، عن الاشتغال بغيره . سواء كان مباحا في غير الصلاة ، أو لم يكن . فالمنكر أعم من الفحشاء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنه ) الضمير للشأن ( شرع للمصلى ألا يتصرف في غير هذه العبادة ما دام فيها و ) ما دام ( يقال له مصل . ) هذا تعليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .
وبيان أن الإنسان إذا اشتغل في الصلاة بالقراءة والذكر والأفعال المخصوصة ، لا يمكن أن يشتغل بغير هذه الأشياء ، فبالضرورة ينتهى عما سواها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "ولذكر الله أكبر" . يعنى فيها . ) من تتمة الدليل الأول على أن ذكر الله أكبر ما فيها .
ولما كان هذا القول أعلى ولذكر الله أكبر إشارة إلى معنيين ، أحدهما ذكر الحق العبد وثانيهما عكسه ، والأول من تتمة الدليل ، أراد أن يشير إلى المعنى الثاني ، لأن ذكر العبد ربه نتيجة ذكر الرب عبده ،
فقال رضي الله عنه  : ( أي ، الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله . والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربه فيها ، لأن الكبرياء لله تعالى . )
لما قال إن الذكر في الصلاة أكبر شئ فيها ، وكان الذكر من الطرفين ، قال الذكر الذي من طرف الحق هو أكبر من الذي من طرف العبد ، لأن الكبرياء حقيقة الحق سبحانه وتعالى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك قال : "والله يعلم ما تصنعون" ) أي ، ولأجل أن الصلاة مشتملة على الأقوال والأفعال ، قال الله تعالى : ( والله يعلم ما تصنعون )

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال :"أو ألقى السمع وهو شهيد" فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إياه فيها.) أي إلقاء السمع أن يسمع ذكر الله إياه في صلاته ، ويفهم المراد منه بسمع قلبه وفهم روحه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن ذلك ) أي ، ومما يشتمل عليه الصلاة من الأسرار ( أن الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم ) الإضافي ( إلى الوجود ) الخارجي ( عمت الصلاة جميع الحركات . وهي ثلاث :
حركة مستقيمة ، وهي حال قيام المصلى ،
وحركة أفقية ، وهي حال ركوع المصلى ،
وحركة منكوسة ، وهي حال سجوده .
فحركة الإنسان مستقيمة ، وحركة الحيوان أفقية ، وحركة النبات منكوسة وليس للجماد حركة محسوسة من ذاته : فإذا تحرك حجر ، فإنما يتحرك بغيره).
لما كان الإنسان متحركا بحركة طبيعية عند نموه إلى جهة العلو ، وحركة الحيوان إلى الأفق ، أي جهة رأسه ، وحركة النبات إلى السفل ، فإن رأسه هو الأصل الذي في الأرض ، جعل حركة الإنسان مستقيمة ، وحركة الحيوان أفقية ، وحركة النبات منكوسة ، وإن كانت حركة النبات من وجه آخر إلى السماء مستقيمة ، وحركة الانسان والحيوان عند الإرادة قد تكون دورية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قوله : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" . ولم ينسب الجعل إلى نفسه فإن تجلى الحق للمصلى إنما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلى ) لأنه من عنايته الأزلية في حق بعض عباده ، وما يرجع إلى العبد فيه هو الاستعداد .
وذلك أيضا راجع إلى الله تعالى وفيضه الأقدس . كما مر في الفص الأول .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه لو لم يذكر هذه الصفة عن نفسه ، لأمره بالصلاة على غير تجلى منه له . )
أي ، فإن الحق سبحانه لو لم يخبر عن نفسه بلسان نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، بأنه يقر عينه في الصلاة بالمشاهدة ولم يكن له ذلك ، لكان أمر الله بالصلاة واقعا مع عدم التجلي من الله لنبيه ، عليه السلام ، لأن الصلاة مما فرضه الله على عباده ، فهي واجبة على العبد ، والتجلي منه ليس بواجب ، بل موقوف على عنايته تعالى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما كان منه ذلك بطريق الامتنان ، كانت المشاهدة بطريق الامتنان . فقال :"وجعلت قرة عيني في الصلاة ".) أي ، فلما حصل ذلك التجلي من الله لنبيه على طريق الامتنان عليه ، كانت المشاهدة من جانب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أيضا بطريق الامتنان من الله ، إذ لولا توفيقه لتلك المشاهدة ، ما كانت حاصلة .

فلذلك قال رضي الله عنه  : ( جعلت ) على المبنى للمفعول ، ولم يقل : جعلت . على المبنى للفاعل .
( ليس ) قرة عينه ( إلا مشاهدة المحبوب التي تقربها عين المحب من الاستقرار ، فيستقر العين عند رؤيته ، فلا ينظر معه إلى شئ غيره ) قوله : ( تقر ) بفتح ( القاف ) وبكسرها  والأول للسرور ، والثاني للقرار .

وقوله  رضي الله عنه  : ( من الاستقرار ) أي ، مأخوذة من الاستقرار ، لأن عين المحب الطالب إذا رأت محبوبه ومطلوبه ، تستقر ولا تلتفت إلى غيره ، ويكون صاحبه مسرورا قرير العين .
ولو كانت ( القرة ) من ( القر ) بمعنى ( البرد ) ، كانت أيضا دليلة على المسرة ، فإن عين المسرور تبرد لقرار باطنه فيما وجده ، وعين المغموم تسخن لاضطراب باطنه وحصول الحركة فيه إلى رفع ما يجده .

وقوله رضي الله عنه  : ( في شئ وغير شئ . ) متعلق ب‍ ( الرؤية ) . أي تستقر عين المحب عند رؤية محبوبه في صورة من صور المجالي ، كما تجلى لموسى ، عليه السلام ، في صورة النار ، ولنبينا صلى الله عليه وسلم ، في صورة أمرد - كما جاء في الخبر الصحيح .
وفي غير صورة ، كالتجلي الذاتي الذي لا يرى المتجلى له فيه شيئا إلا صورته لا غير . كما مر في الفص الثاني . فلا يتوهم أنه متعلق بقوله : ( فلا ينظر ) .
ويجوز أن يكون متعلقا بقوله : ( فلا ينظر ) . أي ، فلا ينظر معه في شئ موجود تعلقت المشية بوجوده ، وغير شئ أي ، فيما لم يتعلق بوجوده المشية من الأعيان والنسب إلى شئ غيره ، أي ، إلى جهة الغيرية . وفيه نظر

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولذلك نهى عن الالتفات في الصلاة ، وأن الالتفات شئ يختلسه الشيطان من صلاة العبد فيحرمه) الشيطان ، أو الالتفات ( مشاهدة محبوبه . ) سواء كان الالتفات قلبيا ، أو حسيا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل لو كان محبوب هذا الملتفت ، ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه . )
بل لو كان الحق محبوب هذا الملتفت إلى الغير وكان هو محبا له ، ما التفت في صلاته إلى غيره ، لأن وجه المحبوب مشاهده في قبلته ، فالإعراض عنه حرام .
واعلم ، أن الالتفات قد يكون بالوجه ، وقد يكون بالعين والوجه إلى القبلة . ولما كان الإعراض بالوجه أشد كراهة ، قال : ( بوجهه ) ، ولم يقل : بعينه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصة ، أم لا . فإن "الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره" فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأن الشئ لا يجهل حاله ، فإن حال له ذوقي . ) أي ، وجداني .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ، فإنه تعالى أمرنا أن نصلي له ، وأخبرنا أنه يصلى علينا . ) بقوله : ( هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) .

قوله رضي الله عنه  : ( إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ) ليس أنه معنى واحد ينقسم إلى معنيين ، كما أن معنى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف ، وهو في كل منها موجود . بل معناه : أن الصلاة لها مسمى ، وهو الأفعال المخصوصة ، ولها مسمى آخر ، وهو التجلي والإيجاد والرحمة . كما قيل : ( إن الصلاة من الله الرحمة . . . ) .

فصدق أن مسمى الصلاة منقسم ، أي متعدد . ( فالصلاة منا ومنه . )
ولما كان ( المصلى ) لغة يطلق على الفرس التابع للمجلى ، وهو الفرس السابق في حلبة السباق قال : ( فإذا كان هو المصلى ، فإنما يصلى باسمه " الآخر" ) أي ، فإذا كان الحق هو المصلى ، أي المتجلي لنا بصور استعداداتنا ، فإنما يصلى ويتجلى لنا باسمه ( الآخر ) ، لأن الآخرية مستفادة منه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيتأخر ) الحق ( عن وجود العبد ، وهو عين الحق الذي يتخيله العبد في قلبه بنظره الفكري أو بتقليده وهو إله المعتقد . ) وفي بعض النسخ : ( وهو الإله المعتقد ) . الأول بكسر ( القاف ) ، والثاني بفتحها . ولا شك أن الاعتقاد تابع لوجود المعتقد ، فيتأخر عن وجوده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويتنوع بحسب ما قام بذلك المحل من الاستعداد ، كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة بالله والعارف ، فقال : "لون الماء لون إنائه" . وهو جواب ساد أخبر عن الأمر بما هو عليه . ) أي وتتنوع صور إله الاعتقادات بحسب الاستعدادات القائمة بمحالها وأعيانها ، لأن الحق المطلق لا تعين له ولا تقيد أصلا ، بلا اسم له ولا نعت ولا صفة من هذه الحيثية ، وكل ما ينسب ويضاف إليه فهو عينه .

كما قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه : ( كمال الإخلاص نفى الصفات عنه ) .
وعند التجلي يتجلى بحسب استعداد المتجلى له على صورة عقيدته - كما يدل عليه حديث ( التحول ) - يوم القيامة .
لذلك أجاب الجنيد حين سئل عن المعرفة بالله والعارف بقوله : ( لون الماء لون إنائه ) . أي ، تجلى الحق بصورة المعرفة ، إنما هو بحسب استعداد المتجلى له . وهو جواب محكم مطابق لما في نفس الأمر : فإن الماء لا لون له ويتلون بألوان ظروفه ، فكذلك الحق لا تعين له يحصره ويتعين على حسب من يتجلى له .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا هو الله الذي يصلى علينا . ) أي ، هذا المتجلي بصور الاستعدادات في العقائد هو الذي يصلى علينا ويتأخر عنا . كما جاء في الآية المذكورة على لسان المتجلي بصور الاعتقادات .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا صلينا نحن ، كان لنا الاسم "الآخر" ) أي ، كنا نحن المتحقق بالآخرية حينئذ فلنا الاسم ( الآخر ) .
( فكنا فيه ) أي ، في هذا المقام والتجلي ( آخرا ) . ( كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ) من أنه يتأخر عن وجود العبد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتكون عنده ) أي ، عند الحق ( بحسب حالنا . ) وصفاتنا التي فينا ( فلا ينظر إلينا ) ولا يتجلى لنا ( إلا بصورة ما جئناه بها ) كمالا ونقصا . ( فإن المصلى هو المتأخر عن السابق في الحلبة . ) أي ، وإذا صلينا نحن ، كان لنا الاسم "الآخر" ، فإن المصلى متأخر عن المجلى في ميدان السباق .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقوله تعالى : "كل قد علم صلاته وتسبيحه " . أي ، رتبته في التأخر في عبادة ربه ، وتسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده . ) لما فسر المصلى بالمتأخر ، جعل صلاته رتبته في التأخر في العبادة .
أي ، كل منا ومن الحق الظاهر بصور عقائدنا ( قد علم صلاته ) أي ، مرتبته في التأخر وتسبيحه لربه :
أما صلاتنا له وتسبيحنا إياه وتحميدنا وثنائنا عليه بالوجه المشروع لنا وتنزيهنا إياه عما لا يليق بحضرته .
وأما صلاته لنا وتسبيحه إيانا فتكميله إيانا وجعله لنا موصوفا بالصفات الجمالية والجلالية وتطهرنا عن دنس النقائص ورين الحجب الإمكانية .
هذا لسان إشارته ، وهو لسان الباطن المعرب عن مطلع الآية .

وأما لسان عبارته الذي هو لسان الظاهر ، معناه : كل من الأعيان الموجودة وقد علم رتبته في عبادة ربه وتسبيحه الذي يعطيه استعداده ، وهو تنزيه كل من الأعيان ربه على حسب استعداده من النقائص اللازمة لعينه ، وعلم أن رتبة عبادته متأخرة عن صلاة ربه ، فإنه لولا صلاته ورحمته الوجودية وإخراجه للأعيان من ظلمات العدم إلى نور الوجود وظلمات الضلالة إلى نور الهداية ، ما كان أحد منهم يصلى .

فقوله رضي الله عنه   : ( في عبادة ) متعلق ب‍ ( رتبته ) لا ب‍ ( التأخر ) . أي ، علم رتبته في عبادة ربه . وضمير ( يعطيه ) عائد إلى ( كل ) وفاعله ( استعداده ) .
وفي بعض النسخ : ( عن عبادته ربه ) . فحينئذ يكون متعلقا ب‍ ( التأخر ) .
وفي بعض النسخ أيضا : ( عن عبادة ربه ) . فمعناه : كل قد علم صلاته ، أي رتبته
في عبادته ، أنها متأخرة عن صلاة ربه له ، وعبادة ربه إياه بالإيجاد والإيصال إلى
الكمال والرحمة والمغفرة . كما قال في مواضع أخر : (فيعبدني وأعبده) .
لكن الأولين أنسب إلى الأدب بين يدي الله تعالى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما من شئ إلا وهو يسبح بحمد ربه الحليم الغفور.) أي ، الذي لا يعاجل بالعقوبة ويعفو عن كثير من السيئات ، الغفور الذي يستر ذنوب الذوات وقد يجعلها للمحبوبين من الحسنات .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولذلك لا نفقه تسبيح العالم على التفصيل واحدا واحدا.) أي ، ولأجل أن لكل شئ تسبيحا خاصا ونحن لا نقدر على الاطلاع على تفاصيل الوجود وأسراره كلها ، لا نفقه تسبيح العالم كله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وثم مرتبة يعود الضمير) أي ، ضمير (بحمده) . (على العبد المسبح فيها) أي ، في تلك المرتبة .
ويجوز أن يعود ضمير ( فيها ) إلى ( الصلاة ) . وهي : ( في قوله : "وإن من شئ إلا يسبح بحمده ".) أي ، بحمد ذلك الشئ .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالضمير الذي في قوله : "بحمده" يعود على "الشئ" أي ، بالثناء الذي يكون عليه) أي ، كما أن كل شئ يسبح ربه المطلق ويحمده ، كذلك في مرتبة أخرى يسبح نفسه ويحمده ، فتنزيهه لربه تنزيه لنفسه وحمده له حمد لنفسه .
فيعود ضمير ( بحمده ) إلى نفس الشئ المسبح . وذلك لأن الهوية الأحدية كما هي ظاهرة بالمرتبة الإلهية وصارت معبودة للكل ، كذلك ظاهرة في المراتب الكونية ، فحينئذ إذا سبح شئ من الأكوان نفسه ، يسبح الهوية الظاهرة على صورته ، وهي عينه ، فهو المسبح المسبح ، وهو الحامد والمحمود .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما قلناه في المعتقد إنه إنما يثنى على الإله الذي في معتقده ويربط به نفسه ).
ولكن ( ما كان من عمله فهو راجع إليه ، فما أثنى إلا على نفسه . فإنه من مدح الصنعة ، فإنما مدح الصانع بلا شك ، فإن حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها . وإلى المعتقد مصنوع للناظر فيه ، فهو صنعه ، فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه . )
شبه ثناء الأشياء على أنفسها بالثناء على ما هو مجعول لها . أي ، الإنسان يثنى على الإله الذي هو في اعتقاده إله ، وهو في الحقيقة مجعول له مصنوع ، وهو جاعله وصانعه . لأن الإله المطلق لا ينحصر بتعين خاص ولا بعقد معين .
فكل ثناء يثنى عليه فهو ثناء على نفسه ، وهو لا يشعر بذلك . لأن كل من أثنى على الصنعة ، أثنى على صانعها . لأن حسنها وعدم حسنها راجع إليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا يذم معتقد غيره . ولو أنصف ، لم يكن له ذلك ) أي ، ولأجل أنه يعينه فيما أدركه ، يذم ما عين غيره ، وجعل معتقد نفسه محمودا . ولو أنصف ، لم يكن له أن يذم معتقد غيره ، فإنه أيضا مثله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك ، لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في الله . ) أي ، فثناؤه على ما اعتقده ثناء على نفسه ، إلا أنه جاهل لا يشعر بذلك . ولو كان له شعور به ، لما اعترض على غيره فيما اعتقده ، وأثنى عليه .

لأنه لو علم أن معبوده مجعول لنفسه ، وهو يثنى على نفسه ، لعلم أن ما جعله غيره أيضا مجعول له وثناؤه عائد إليه . والذوات مجبولة على الثناء على أنفسها .
ولو علم أن معبوده المعين هو الإله المطلق الذي تجلى في قلبه وتعين بحسب استعداده ، لعلم هذا المعنى في إله غيره أيضا ، فلم ينكر عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ لو عرف ما قال الجنيد : "لون الماء لون إنائه" . لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف الله في كل صورة وكل معتقد . ) أي ، إذ لو عرف أن الحق هو الذي يتجلى بصور الأعيان وصور الأذهان بحسب الاستعدادات وقابلياتها ، يسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف الله في كل صورة يظهر بها ، وآمن بالحق فيها ، وكان من أصحاب السعادة العظمى .

وقوله : ( وكل معتقد ) بالاعتقاد الخاص ( فهو ظان ، ليس بعالم . ) إذ لو كان عالما عارفا ، لعرف الله في كل الصور والعقائد . ف‍ ( كل ) مبتدأ ، ( فهو ظان ) خبره .

ويجوز أن يكون معطوفا على قوله : ( في كل صورة ) . أي عرف الله في كل صورة وكل عقيدة . فيفتح ( القاف ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك قال تعالى : "أنا عند ظن عبدي بي" . أي ، لا أظهر له إلا في صورة معتقده : فإن شاء أطلق . ) وعبد الإله المطلق الظاهر في كل المظاهر والمجالي .
(وإن شاء قيد ) بصورة معينة يعطيها استعدادها . ( فإله المعتقدات تأخذه الحدود . )
لأنه مقيد معين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو الإله الذي وسعه قلب عبده ، فإن الإله المطلق لا يسعه شئ ، لأنه عين الأشياء وعين نفسه ، والشئ لا يقال فيه يسع نفسه ، ولا لا يسعها . فافهم ذلك . والله يقول الحق وهو يهدى السبيل . )
أي ، القلب لما كان معينا مقيدا مكتنفا بعوارض تعينه وحدود تشخصه ، لا يدرك إلا مثله ، ولا يسعه إلا ما هو معين محدود مثله . والإله المطلق جل عن الحدود وعز عن الإحاطة ، فلا يسعه شئ .
فكيف يسعه وهو عين الأشياء ، ولا شئ غيره ؟ ولا يوصف الشئ بأنه يسع لنفسه ، ولا بأنه لا يسعها . فافهم ترشد .
لا يقال قوله : ( فإن الإله المطلق لا يسعه شئ ) . يناقض ما ذكره من قبل من أن قلب العارف يسع الحق . لأن ذلك بحسب التجلي ، والتجلي أبدا لا يكون إلا على قدر استعداد المتجلى له ، والمتجلى له عين مقيد ، فلا يمكن أن يتجلى له الحق المطلق من حيث إطلاقه ، إذ هذا النوع من التجلي لا يبقى للمتجلى له وجودا وتعينا ، للمنافاة بينهما .
ولا يمكن أن يتجلى لشئ بجميع أسمائه وصفاته دفعة وهذا هو المراد وإن كان قلب الكامل العارف قابلا لجميع التجليات الأسمائية ، لكن لا يتجلى له الحق دفعة بالجميع ، ولا له قابلية ذلك .
والله يقول الحق بلسان الكاملين، ويهدى سبيله للمتوجهين إليه والطالبين، وهو الموفق للرشاد، ومنه المبدأ وإليه المعاد. وهذا آخر ما أردنا بيانه.
والحمد لله على التوفيق والشكر لولى الحقائق.
 .
واتساب

No comments:

Post a Comment